الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ
في الأجوبة النجدية
تأليف:
علماء نجد الأعلام من عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عصرنا هذا
دراسة وتحقيق:
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الناشر:
-
السادسة، 1417هـ/1996م
[الترقيم الصحيح للصفحات هو ما يظهر بشكل (ص رقم الصفحة) مثل (ص -6-) داخل الكتاب]
مركز الكتب الالكترونية
www.ebooks-center.net
الجزء الأول
كتاب العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم
ص -5- ... تقريظات الكتاب
1- تقريظ الشيخ: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، لإبراز الحق وإبدائه، والكشف عن مكنون عقود اللآلي بعد خفائه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وأصحابه، السالكين على طريق الحق، المخالفين لأعدائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني نظرت في هذا المجموع، الفائق، الرائق، الذي جمعه ورتبه الابن: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل هذه الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم، الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها، لمن أراد الله هدايته.
فإنهم رحمهم الله، حرروا هذه المسائل والرسائل، تحريرا بالغا، مشتملا على مستنداته، من البرهان والحجة، وعلى طريق الهداية، إلى واضح السبيل والمحجة، لا سيما ما تضمنه من العقائد، والردود، والنصائح، التي لا تظفر
ص -6- ... بأكثرها في مجموع سواه.
وقد رتبها الترتيب الموافق، وتابع بينها التتابع المطابق، لا سيما المسائل الفقهية، التي رتبها على حسب أبواب الفقه، وفرقها فيها من غير إخلال بشيء من المقصود، فكان هذا المجموع هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة.
فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه على هذا الصنيع، الذي هو للعين قرة، وللمستبصر مسرة، والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه وعظيم سلطانه.
حرره الفقير إلى عفو ربه وإحسانه، محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم -
21 ذي القعدة - سنة 1351هـ.(1/1)
ص -7- ... 2- تقريظ العلامة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بإحسانه سدد من شاء من عباده، وبامتنانه وفق من أسعفه بإسعاده، وبعنايته أعلى همة من خصه بجعل جمع العلوم الدينية غاية مراده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله في قوله وعمله واعتقاده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه و سلم وآله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده.
وبعد: فقد سمعت هذا المجموع الفائق مرتين، وبعضه أكثر من ذلك، بقراءة جامعه ومرتبه: الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فوجدته وفقه الله تعالى، لم يأل جهدا في جمع رسائل أئمتنا، أئمة هذه الدعوة، وأجوبتهم، وتتبعها من مظانها، ولم يترك - وفقه الله تعالى - شيئا مما ظفر به إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه، مع بذله الطاقة في التصحيح، ومقابلة ما ظفر به منها، على ما يمكنه الوقوف عليه من نسخها، مع أنها لم تخل من تغيير.
وقد أجاد ترتيبها بما يسهل على المستفيد طريق ما(1/2)
ص -8- ... تمهيد
بقلم جامعه: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خص بالهداية في زمن الفترات، من شاء من عباده، نعمة منه وفضلا، وألهمهم الحكمة مع ما جبلهم عليه من الفطرة، فتفجرت ينابيعها على ألسنتهم، فنطقوا بالصواب عقلا ونقلا. وفتح بصائرهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، علما، وعملا، وهجرة، وجهادا؛ فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول. ويسر لهم من معالم الدين، ومواهب اليقين، ما فضلهم واصطفاهم به على المعاصرين، فحاكوا السلف المفضل، وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق، ما امتازوا به على غيرهم، عند من سبر وتأمل. ساروا على المنهج السوي، وشمروا إلى علم الهدى، حتى لحقوا بالرعيل الأول.
فسبحان من وفق من شاء من الخلائق لتأصيل الأصول، وتحقيق الحقائق، وجمع له مواهب الخيرات الجلائل والدقائق. أحمده سبحانه على ما من به علينا،(1/3)
ص -9- ... وهدانا إليه من بين سائر الخلائق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل الله به الدين، وجعل شريعته أكمل الطرائق. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الهداية للسابق واللاحق، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله - وله الحمد والمنة - بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأكمل به الدين وأتم به النعمة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرقت الأرض بنور النبوة، واهتزت طربا وابتهاجا، حتى تركهم صلى الله عليه و سلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. ودرج على هذا المنهج القويم خلفاؤه الراشدون، وصحبه المهديون، والأفاضل بعدهم المرضيون.
ثم إنه خلفت بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه و سلم. ولكن الله سبحانه من فضله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها وحفظه عليها، وهذا إنما يحصل بإقامة من يقيمه الله تبارك وتعالى من أفاضل خليقته، وخواص بريته، وهم حملة الشريعة المطهرة، وأنصار الملة المؤيدة، الذابون عن دينه، المصادمون لأهل البدع والأهواء، المجاهدون من رام انحلال عرى كلمة التقوى، الذين هم في الأمة المحمدية كالأنبياء في الأمم(1/4)
ص -10- ... الخالية؛ فأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها، وينتهى إلى رأيها، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم; فحفظ الله لهم دينهم حفظا لم يحفظ به دينا سواه.
وذلك أن نبي هذه الأمة، هو خاتم النبيين، لا نبي بعده، يجدد ما دثر من دينها، كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده، فتكفل الله بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتمويه الزائغين، ميزوا ما دخل فيه من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط، وحفظوه أشد الحفظ.
ولما كان النبي صلى الله عليه و سلم بعث بجوامع الكلم، حتى إنه ليتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، والنصوص بهذا الوجه محيطة بأحكام أفعال العباد، اقتضت حكمة الله تعالى أن نصب للناس أئمة هدى من أهل الدين والإيمان، والتحقيق والعرفان، يخلفون النبي صلى الله عليه و سلم يبلغون أمته ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم; وأعلمهم وأفضلهم: أشدهم تمسكا بما جاء عنه صلى الله عليه و سلم وأفهمهم لمراده، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم،(1/5)
ص -11- ... يقصد من الفائدة ويريد، لا سيما المسائل الفرعية، التي هي من كتاب الطهارة، إلى كتاب الإقرار، حيث رتبها على حسب ترتيب فقهائنا الحنابلة، رحمهم الله تعالى; فإنه جاء في ذلك بالمقصود، فصارت متيسرة التناول، قريبة الوجود، مع عدم الإخلال بشيء من المراد، ولا تقصير فيما ينبغي أن يطلب منه ويراد. فجزاه الله خيرا، ونظمه في سلك الدعاة إلى دينه، الذابين عما بعث به رسوله، وجزى بالخير من سعى في نشره، وتعميم المنفعة به.
أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ،
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 20 ذي القعدة سنة 1351هـ
ص -12- ... 3- تقريظ الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، قاضي المجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غرس لهذا الدين من كل خلف عدوله، ووفق من شاء لتأصيل قواعده وتحرير أصوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الخلاص من كرب يوم القيامة، وشدائده المهولة; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين شمروا في نصرة دين ربهم واتباع رسوله.
أما بعد: فإني قد أشرفت على ما جمعه الابن الفاضل: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من رسائل وجوابات أئمتنا، أئمة هذه الدعوة الإسلامية، الذين تأخر عصرهم، وتقدم فخرهم، حتى ألحقوا بالسلف الصالح، وامتازوا على غيرهم بإقامة القسطاس الراجح، فإذا هو مشتمل على عقائد سلفية، وردود على أهل مذاهب غوية، وفتاوى مقرونة بأدلتها الشرعية.
وقد أجاد وفقه الله في ترتيبها، وجمع متشتتها وتبويبها، لا سيما المسائل الفقهية، والفتاوى الفروعية; فإنه رتبها على(1/6)
ص -13- ... تبويب متأخري الفقهاء من أصحابنا - رحمهم الله - فأبرز مخبآت خرائدها، واقتنص ما تشتت من شواردها، حتى تيسر للطلاب اجتناء دررها، والتلذذ بالنظر إلى محيا غررها.
فإنها كانت قبل متفرقة في رسائل شتى، لا تكاد تحصل القليل منها، فضلا عن الكثير، فجاءت - ولله الحمد - عديمة النظير. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، خاتم المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين.
قال ذلك ممليه، الفقير إلى الله عز شأنه: عبد الله بن عبد العزيز العنقري.
وصلى الله على محمد وسلم. 13 ذي الحجة سنة 1351هـ.
ص -14- ... ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم.
وقد اختص الله منهم نفرا أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام.
وكان أبو عبد الله: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه أوفاهم فضيلة، وأقربهم إلى الله وسيلة، وأوسعهم معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأعلمهم به، وأتبعهم له، وأكثرهم تتبعا لمذاهب الصحابة والتابعين، وأزهدهم في الدنيا، وأطوعهم لربه، ومذهبه مؤيد بالأدلة.
قال أبو الفرج: نظرنا في أدلة الشرع، وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا أحمد - رحمه الله - أوفرهم حظا من تلك العلوم، كان إذا سئل عن مسألة كأن علم الدنيا بين يديه.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف. وصدق فإنه رحمه الله كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وعلمه بالسنة اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وهو حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بحديث النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه والتابعين.
واختص عن أقرانه بسعة الحفظ، وكثرته، حتى قيل(1/7)
ص -15- ... إنه يحفظ ثلاثمائة ألف حديث; وبمعرفة صحيحه من سقيمه، وكان إليه المنتهى في علم الجرح والتعديل، وبمعرفة فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه. ورؤي من فهمه ما يقضى منه العجب، بل لم تكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها، كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وكذا كلام عامة فقهاء الأمصار والبلدان.
ومعلوم أن من فهم هذه العلوم وبرع فيها فأسهل شيء عنده معرفة الحوادث، والجواب عنها، على وفق تلك الأصول. ومن نظر بالتتبع والاستقراء، علم أن علم الإمام أحمد، ومن سلك سبيله من الأئمة، أعلى علوم الأمة وأجلها وأعلاها، وإن فيه كفاية لمن هداه الله.
حفه الله بجهابذة فحول، تلقوه عنه بالقبول، حرروه وهذبوه، وبنوا منه الفروع على الأصول، من أولاده ومعاصريه، ينيفون على خمسمائة فقيه، وطبقات بعده أئمة جهابذة، كانوا للسنة الغراء ناصرين، وعن حمى السمحاء محامين، كما كان عليه سائر إخوانهم الموفقين، من أتباع بقية الأربعة المهديين، مع كثرة خصومهم في تلك الأعصار، وتوافر أضدادهم في سائر الأمصار، واعتكار ليل الشرك والفساد، وتلاطم أمواج بحر البدع والعناد.
إلى أن أقام الله تعالى العالم الرباني، مفتي الأمة، بحر العلوم، شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، المجتهد(1/8)
ص -16- ... المطلق، المجمع على فضله، وإمامته، الذي جمع الله العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد. جدد الله به الدين بعد دروسه، وأحيا به هدي سيد المرسلين بعد أفول شموسه، وأدحض به جميع بدع المبتدعين، وانبلج الحق واليقين. وقام بعده تلامذته المحققون، وأتباعهم ممن لا يحصون.
وبعدهم انتقضت عرى الإسلام، وعبدت الكواكب والنجوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، واعتمد عليها في المهمات، دون الصمد الواحد، ولكن في الحديث: " إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمر الدين " 1، ويبين المحجة بواضحات البراهين.
فبعث في القرن الثاني عشر، عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، الآية الباهرة، والحجة الظاهرة، شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب.
فشمر عن ساعد جده واجتهاده; وأعلن بالنصح لله
__________
1 أبو داود : الملاحم (4291).(1/9)
ص -17- ... ولكتابه ورسوله، وسائر عباده، دعا إلى ما دعت إليه الرسل، من توحيد الله وعبادته، ونهاهم عن الشرك، ووسائله وذرائعه; فالحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين.
والحمد لله الذي صدق وعده، وأورثه الرضى وحده، وأنجز وعده، واستجاب دعاءه، فصارت ذريته، وذرياتهم، وتلامذتهم نجوم هداية، وبحور دراية، ثبتوا على سبيل الكتاب والسنة، وناضلوا عنه أشد النضال، ولم يعدوا ما كان عليه الصحابة والسابقون، والأئمة الموثوق بهم، كأبي حنيفة والسفيانينى،; ومالك والشافعي وأحمد وأمثالهم.ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع، ولا سفسطة متأول، ولا بهرجة ملحد، ولا زخرفة متفلسف، وكلما انقضت طبقة منهم، أنشأ الله طبقة بعدها على سبيل من قبلها، فهم الأبدال والأخيار والأنجاب.
وقد أخبر الصادق الأمين: " لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته " 1 وقال: " لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله، لا يضرها من خالفها " 2. وقد أقام الله بهم السنة والفرض; فصاروا حجة على جميع أهل الأرض، وأشرقت بهم نجد على جزيرة العرب، ولله در القائل حيث قال:
__________
1 ابن ماجه : المقدمة (8) , وأحمد (4/200).
2 البخاري : المناقب (3641) والتوحيد (7460) , ومسلم : الإمارة (1037) , وأحمد (4/99).
ص -18- ... ففيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيها من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر(1/10)
ولا يعرف شعب دخل في جميع الأطوار، التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى، غربة وجهادا وهجرة وقوة، غير هذا الشعب. فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد المجتهد، في وقت كان أهله شرا من حال المشركين، وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع وضلالات، وجهالة غالبة؛ فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام، فأعاد نشأة الإسلام كما كانت. وسارت ذريته وتلامذتهم سير السلف الصالح، وجرى عليهم ما جرى على تلك السادة.
وقد شهد لهم أهل العلم والفضل والتحقيق، من أهل القرى والأمصار، أنهم جددوا التوحيد، ودعوا إليه حتى استنار، حتى شهد لهم أعداؤهم بذلك، كما ستقف عليه:
مناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن سبر حقيقة القوم، وعرف مآخذهم، انقاد لهم، وجعلهم أئمة هداة; ولقد صدق القائل:
أئمة حق والنصوص طريقهم ... وأحمد خريت الطريق وهاديا
ص -19- ... على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عليهم من المولى سلام يوافيا
عقائدهم سنية أجمع الملا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا
وأسلمها عقدا وأعلمها هدى ... وأحكمها فاشدد عليها الأياديا
صرائح قرآن نصوص صريحة ... ومن ردها دارت عليه الدواهيا(1/11)
كانوا على مذهب الحبر الرباني، والصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، لقوة علمه وفضله، تتبعوا دليله، واقتدوا به من غير تقليد له، يأخذون من الروايتين عنه فأكثر بما كان أقرب إلى الدليل، وربما اختاروا ما ليس منصوصا في المذهب، إذا ظهر وجه صوابه، وكان قد قال به أحد الأئمة المعتبرين. وليس ذلك خروجا عن المذهب، إذ قد تقرر عنه، وعن سائر الأئمة، رحمهم الله أنه إذا خالف قول أحدهم السنة، ترك قوله، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وبالجملة، فمن تأمل حالهم، واستقرأ مقالهم، عرف أنهم على صراط مستقيم، ومنهح واضح قويم; شمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وصرفوا عنايتهم في نصرة هذا الدين، الذي كان الأكثر في غاية من الجهالة بمبانيه العظام، ونهاية من الإعراض عن الاعتناء به والقيام، فشرعوا فيه للناس موارد، بعد أن كان في سالف الزمن طامسا خامدا، وعمروا لهم فيه معاهد، حتى صار طاهرا مستنيرا مشاهدا.
فنشروا شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم لجميع الخلائق،(1/12)
ص -20- ... وكشفوا قناعها، وحققوا الحقائق، وأنشأوا المدارس وعمروها بالتعليم، وجاهدوا في الله كل طاغ أثيم، وصنفوا الكتب فأجادوا، وكشفوا الشبهات فأبادوا، وأجابوا السائل فأفادوا، فكشفوا عن الدين ما عراه، وأبدوا وأعادوا. فحق لقوم هذا شأنهم، أن يعتنى برسائلهم، وفتاويهم، وردودهم، وتجمع وتدون لكيلا تذهب، وترتب وتعنون لكيلا تصعب.
وقد اجتهد علماؤنا في جمعها، وحفظها; وحرصوا وحضوا على نشرها، وجمع شواردها. وكان أكثر من جمع، ما وجده شيخنا الفاضل: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ: سليمان بن سحمان، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وغيرهم; إلا أنها غير مرتبة، فصار الطالب للمسألة لا يجدها إلا بعد تعب وعناء، ولا خفاء بما في ذلك من المشقة والنصب، وربما لا يجدها.
فأمرني من تجب طاعته علي أن أجمعها، وأرتبها حسب الطاقة، مع أني لست من أهل تلك البضاعة; فتمادت بي الأيام، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكثرة الأشغال، ومعالجة المعاش والضيعة، وعدم الأهلية، إلى أن قويت العزيمة، وخلصت النية، وظهرت، ويسر الله الأمر وسهله، ووفق إليه، فحينئذ أمعنت النظر، وأنعمت الفكر، وجمعت ما أدركته. وأعانني عليه شيخنا الفاضل، الحبر الثقة، الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم، وحرره وهذبه، أعدته وأبديته عليه(1/13)
ص -21- ... فزها، فظهر آثار القبول عليه وأبهى; كررت الفقه عليه مرارا، والأصول وغيرها إمرارا.
وقرأت أكثره على شيخنا النبيل، الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وعلى الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فجاء - بحمد الله - جامعا جل رسائلهم وفتاويهم، بل كلها إلا قليلا.
وقد صنف العلماء في كل عصر ومصر، في الأصول، والفروع، وغيرها ما لا يحصى، حفظا للدين والشريعة، وأقوال أهل العلم، وليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة، ولولا ذلك، لجرى على ديننا ما جرى على الأديان قبله، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم.
فوضح هؤلاء الأحبار الطريق إلى الله بالعلم، وأبرزوا مشكلات الحوادث بينابيع الفهم، بما يثلج الصدور، ويطرد الوهم، وصارت فتاويهم وأجوبتهم هي المعتبرة عند القضاة والمفتين، لرجحانها بالدليل، وموافقتها القواعد والتأصيل.
وها هو ذا يفصح عن نفسه، ويدل على عظيم نفعه، جامعا شاملا نافعا، فيه من الفوائد ما هو حقيق أن يعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، ويكب عليه أولو البصائر(1/14)
ص -22- ... النوافذ. اشتمل على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تجدها في كثير من الكتب المصنفة، ولا الدواوين المؤلفة.
فإن أردت مقام الدعوة إلى الدين، وتوحيد رب العالمين، وجدته بأحسن أسلوب وأتم تبيين. وإن أردت حل مشكلات الفروع عن يقين، فخذها عليها النور المستبين، أو أردت حكم جهاد المفسدين، ألفيته على وفق سيرة سيد المرسلين، أو أردت حل أوهام الزائغين، وجدتها مجلوة بأوضح البراهين، أو استنباط آيات من كلام رب العالمين، أفادك ما لا يوجد في كلام أكثر المفسرين، أو نصائح شاملة في أمور الدين، لقيتها آية باهرة للمتأملين. ألفها فحول من هداة مهتدين، تهدى إليك ساطعة بالنور المستبين، تشتاق إليها نفوس الموحدين، وتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتنشرح لها صدور الطالبين.
ص -23- ... وقد وقع هذا المجموع المبارك، في أحد عشر جزءا:
الأول: كتاب العقائد.
والثاني: كتاب التوحيد.
والثالث: كتاب الأسماء والصفات.
والرابع: كتاب العبادات من كتاب الطهارة إلى الأضاحي; وفي أوله فصلان:
الفصل الأول: في أصول مآخذهم.
والفصل الثاني: في أصول الفقه.
والخامس: كتاب المعاملات وما يتبعه إلى العتق.
والسادس: من كتاب النكاح إلى الإقرار.
والسابع: كتاب الجهاد.
والثامن: كتاب حكم المرتد.
والتاسع: مختصرات الردود، على ذوي الشبه، والزيغ، والجحود.
والعاشر: الاستنباط، وتفسير آيات من القرآن.
والحادي عشر: كتاب النصائح; وفي آخره تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، تطلعك على كبر شأنهم، وعلو مرتبتهم، وعمق مآخذهم، وتشرح صدرك لقبول أجوبتهم.(1/15)
ص -24- ... تنبيهات
التنبيه الأول: في كيفية ترتيب كل جزء من أجزاء هذا المجموع; فليعلم أن الجزء الأول، والثاني، والثالث، والثامن، والتاسع، والحادي عشر، قد أبقيت الرسائل والأجوبة فيها على ما هي عليه، ولم ترتب إلا على حسب وفيات مؤلفيها، فيذكر في كل واحد من هذه الأجزاء، أولا: رسائل الشيخ محمد رحمه الله، ثم من بعده، وهكذا، على حسب الوفيات، وقد يقدم الأشهر.
وأما الجزء الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، فهي على حسب ترتيب فقهائنا - رحمهم الله - في التبويب والمسائل، وإذا كان في المسألة جوابان فأكثر، ذكر السؤال أو بعضه أو ملخصه، إن لم يحتج إليه كله; ويبدأ بجواب الأقدم، ثم جواب من يليه من غير إعادة للسؤال، بل يكتفى بقول: وأجاب فلان، وهكذا مرتبا إلى أن تفرغ الأجوبة، التي في تلك المسألة.
وقد ينتقل من مسألة إلى مسألة أخرى من غير ذكر سؤال، فيقال: وأجاب فلان، اكتفاء بما في جواب التي قبلها، لما بينهما من الارتباط.(1/16)
ص -25- ... التنبيه الثاني: إن بعض المسائل قد لا نقف لها على سؤال، فنصور لها سؤالا على حسب ما يظهر من الجواب; وهذا إذا لم يكتف بالسؤال السابق.
وأما الجزء العاشر الذي في الاستنباط، فترتيبه على حسب السور.
التنبيه الثالث: لم آل جهدا في مقابلة ما نقلناه على الأصول، وتصحيحه، وفي بعض تلك الأجوبة كلمات يسيرة عامية، فأصلحتها، بإبدالها بكلمات عربية، هي بمعنى تلك الكلمات، وذلك عن إذن بعض من قرأتها عليه، وعرضها عليه، واستجازته إياها; إذ فهم المراد كما ينبغي متوقف على ذلك.
التنبيه الرابع: إني لم أتعرض إلا لفتاوى، ورسائل، وردود أهل هذه الدعوة، ولم أثبت من الردود، في هذا المجموع، إلا ما كان مختصرا، نحو الكراستين فأقل; وأما الردود الكبار: فهي متداولة، مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع، كما أني لم أثبت ما كان مشهورا متداولا، ككتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، وفضائل الإسلام، وغيرها مما شهرته كافية.
ص -26- ... التنبيه الخامس: بعض الفتاوى، لم أقف على اسم صاحبها، لكنه من أهل هذه الدعوة قطعا، فأورده بقولي: سئل بعضهم، ونحوه.
والله أسأل: أن يجعل السعي فيه خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم; فهو العالم بمودعات السرائر، وخفيات الضمائر، وأن يتغمدنا وإياهم بفضله ورحمته، ويتجاوز عنا وعنهم بسعة مغفرته، ويحشرنا في زمرتهم، إنه سميع قريب، عليه نتوكل وإليه ننيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.(1/17)
(ص29)(1) قال شيخ الإسلام : العالم الرباني ؛ والصديق الثاني ؛ مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفة ؛ أوحد العلماء، وأورع الزهاد ؛ الشيخ : محمد بن عبد الوهاب ؛ أجزل الله له الأجر والثواب ؛ وأسكنه الجنة بغير حساب، لما سأله أهل القصيم عن عقيدته :
بسم الله الرحمن الرحيم
أُُشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم : أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره ؛ ومن الإيمان بالله : الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا أٌلحد في أسمائه وآياته، ولا أكيّف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه ؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.
__________
(1) مطابق لصفحات الكتاب.(1/18)
(ص30) فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً، فنزّه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل ؛ وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال : (سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين) (الصافات 180-182)
والفرقة الناجية : وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية ؛ وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية ؛ وهم وسط، في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة ؛ وبين المرجئة والجهمي ؛ وهم وسط : في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج.
وأعتقد : أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود ؛ وأنه تكلم به حقيقةً، وأنزله علي عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأومن : بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور .
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد(1/19)
(ص31) الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلاً، تدنو منهم الشمس، وتُنصب الموازين، وتُوزن بها أعمال العباد ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ) (المؤمنون 102-103) وتنشروا الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله .
وأومن : بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ؛ وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس علي قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع، وأول مشفّع ؛ ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال ؛ ولكنها لا تكون إلا من بعد الأذن والرضى، كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) (الأنبياء 28) ، وقال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) (البقرة 255) وقال تعالى : ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم 26 وهو : لا يرضى إلا التوحيد ؛ ولا يأذن إلا لأهله وأما المشركون : فليس لهم من الشفاعة نصيب ؛ كما قال تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) (المدثر 48) .(1/20)
(ص32) وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان ؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته .
وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته ؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ؛ ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة ؛ ثم أهل بدر ؛ ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ؛ ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم ؛ وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم ؛ وأعتقد فضلهم، عملاً بقوله تعالى : ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) (الحشر 10) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني أرجو للمحسن، وأخاف علي المسيء، ولا أُكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام ؛ وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام : براً كان، أو(1/21)
(ص33) فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل .
وأرى وجوب السمع والطاعة : لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته ؛ وحرم الخروج عليه ؛ وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأَكِلُ سرائرهم إلى الله ؛ وأعتقد : أن كل محدثه في الدين بدعة.
وأعتقد أن الإيمان : قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو : بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وارى وجوب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة .
فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لِتطلَّعوا على ما عندي، والله علي ما نقول وكيل .
ثم لا يخفى عليكم : وأنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم، قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي .(1/22)
(ص34) فمنها، قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة ؛ وإني أقول : أن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ؛ وإني أدعي الاجتهاد وإني خارج عن التقليد، وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة ؛ وإني أكفر من توسل بالصالحين ؛ وإني أكفر البوصيري، لقوله : يا أكرم الخلق ؛ وإني أقول : لو أقدر علي هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها؛ ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزاباً من خشب ؛ وإني أُحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ؛ وإني أكفر من خلف بغير الله ؛ وإني أكفر ابن الفارض، وابن عربي ؛ وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين .
جوابي عن هذه المسائل، أن أقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور ؛ قال تعالى : ( إنما بفتري الكذب الذين لا يؤمنون ) [النحل 105] بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول : إن الملائكة، وعيسى، وعزيراً في النار ؛ فأنزل الله في ذلك : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) (الأنبياء 101) .
وأما المسائل الأخر ، وهى : أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إلَه إلا ّ الله، وأني أعرف من(1/23)
(ص35) يأتني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام ؛ فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها، ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقول العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى : بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى .
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى : (يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة) (الحجرات 6)
وله ايضا، قدّس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظة الله تعالى .
سلام عليكم ورحمة وبركاته، أما بعد : فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغلظ عليّ، ولما قيل : إنك كنت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤتيه كثيرا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء .
وأيضا : لما اعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن(1/24)
(ص36) الفهم، واتباع الحق، ولو خالفك فيه كبار أئمتكم لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، وتذاكرت أنا في شيءٍ من التفسير الحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري، كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان، التي ذكر البخاري في أول الصحيح : هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين .
وذاكرتني أيضا في بعض المسائل، فكنتُ أحكي لمن يتعلم منى ما من الله به عليك، من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة ؛ فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر، لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق : إن كان مع خصمهم فواضح ؛ وإن كان معهم : فينبغي للداعي إلى الله، أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه، موسى وهارون : أن يقولا لفرعون قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى .
وينبغي للقاضي – أعزه الله بطاعته – لما ابتلاه الله بهذا المنصب : أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يوقنون ؛ ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين، ولا يعجل، وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب، ويجتنب أهلها أيضاً ؛ فوصفهم بالفصاحة، والبيان، وحسن اللسان، بل(1/25)
(ص37) وحسن الصورة في قوله : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ) (المنافقون 4) ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) (المائدة 41) ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضا بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة، وبراءة، وسورة القتال، وغير ذلك نصيحةً لعباده ليتجنبوا الأوصاف ومن تلبس بها .
ونهي الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع، فكيف يجوز من مثلك أن يقبل من مثل هؤلاء ؟! وأعظم من ذلك : أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم، وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة، وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا، لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره .
وأما : ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول – ولله الحمد والمنة وبه القوة – إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست – ولله الحمد – أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أنّى لا أرد الحق إذا(1/26)
(ص38) أتاني، بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه : إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها علي الرأس والعين ؛ ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق .
وصفةُ الأمر : غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأبتاعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم ؛ وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم .
وغيرُ خاف عليكم : ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا في طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غيرّ وبدّل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل : ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، وقد أشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خيرٌ من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع، فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم والإطباق على طريقتهم، قالوا : هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن أمته تسلك مسالك اليهود، والنصارى حذوا القذة بالقذة ( حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ).
وقد ذكر الله في كتابه : إنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً(1/27)
(ص39) وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب، وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحين ) (المؤمنون 35) [والزبر : الكتب ]
فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق " لتتبعن سنن من كان قبلكم " وجعله قِبْلة قلبه، تَبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون : أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات : مضى القوم وما يعنى به غيركم .
وقد فرض الله على عباده في كل صلاة : أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين، أنعم عليهم الذين هم غير الغضوب عليهم، ولا الضالين، فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه .
والحاصل : أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يُعذر أحد في تركه، البتة ؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة مثلا ؟ فاعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم : قد أنكروا هذا غاية(1/28)
(ص40) الإنكار ؛ وأنه تغيير لدين الله ؛ واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين، لمن نَور الله قلبه، والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يُدلون بشبهٍ واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق : إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد ؛ وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون .
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلداً، ومن أوضحه قول الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) (التوبة 31) وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يُبين مصداق قوله : " حذو القذوة بالقذوة " الخ، وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافاً، ومن أحسنه : ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا : لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا.
وهذه رسالة : لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جواباً عما يُدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد على بعلم وعدل، فعندكم كتاب أعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة .(1/29)
(ص41) فقد بَسط الكلام فيه على هذا لأصل بسطاً كثيراً وسرد من شُبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلايل الواضحة القاطعة، منها : أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريباً كما بدأ .
وقد علمتم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام : من معك على هذا ؟ قال : " حر وعبد " يعنى أبا بكر، وبلالاً، فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى : ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) [المؤمنون:81] فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه : أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل أطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك .
فمن منَّ الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها، فإن زعمتم : أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال(1/30)
(ص42) ذلك صعب مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم ؛ وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه، وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام فإذا قرأته : فإن أنكره قلبك فلا عجب فإن العجب ممن تجنى كيف تجنى فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصاً أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان .
وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصاً الذي ورد في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل : يا معلم إبراهيم علمني .(1/31)
(ص43) وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ) [الجاثية :18-19] (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [الأنعام :116]وتأمل قوله في الصحيح : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبض العلم " إلى آخره وقوله :" عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " وقوله:"وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة " والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف .
فإني أحبك، وقد دعوتك لك في صلاتى، واتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لاتقبل، وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئأ أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضى الله عنة في أوله، فانك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا .
وأما هذا الخيال الشيطاني : الذي اصطاد به الناس، أن من سلك هذا المسلك، فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الإقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " [الأنعام:112] فإن الذي
( ص44 ) أنا عليه، وأدعوكم إليه، هو في الحقيقة الإقتداء بأهل العلم، فإنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاما في ذلك، إمامكم الشافعي قال : لابد أن تجدوا عنى ما يخالف الحديث، فكل ما خالفه، فأشهدكم أنى قد رجعت عنه .(1/32)
وايضا :أن في مخالفتى هذا العالم لم أخالفه وحدي فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلاً في أبوال مأكول الحم وقلت القول بنجاسته يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي ؟ قلت : أنا لم أخالف الشافع من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي، أو أعلم منه قد خالفه، واستدل بالأحاديث .
فإذا قال أنت أعلم من الشافعي قلت : أنت أعلم من مالك ؟ وأحمد، فقد عارضته بمثل ما عارضنى به، وسلم الدليل من المعارض واتبعت قول الله تعالى : " فان تنازعتم في شيء فردوه الله والرسول " [النساء:59] "واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم لم استدل بالقرآن، أو الحديث وحدي، حتى يتوجه على ما قيل، وهذا على التنزل، وإلا فمعلوم، إن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول، أو صاحب، أو تابع، حتى الشافعي نفسه ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص(1/33)
(ص45) ابن حجر، وكذلك غيركم : إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة .
فهؤلاء الحنابلة : من أقل الناس بدعة ؛ وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه ؛ يعرف ذلك من عرفه ؛ ولا خلاف بيني وبينكم : أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم ؛ وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب على أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتدياً بأهل العلم ؟ أو انتحل بعضهم من غير حجة ؟ وأزعم أن الصواب في قوله ؟ فأنتم علي هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله، وسماه شركاً، وهو اتخاذ العلماء أرباباً؟ وأنا علي الأول، أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه، وقبلناه منكم .
وإن أردت النظر في أعلام الموقعين، فعليك بالمناظرة في أثنائه، عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك : أن ابن القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها ؛ فاضرع إلى الله واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظراً، ومناظراً، واطلب كلام أهل العلم في زمانه، مثل الحافظ الذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمه الله :
العلم قال الله قال رسوله
.
قال الصحابة ليس خلف فيه
.
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
.
بين الرسول وبين رأي فقيه
.(1/34)
(ص46) فإن لم تتبع لهؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر، والخطابي، وأمثالهم ؛ ومن قبلهم، كالشافعي، وابن جرير، وابن قتيبة، وأبى عبيد ؛ فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السلف ؛ وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه، وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله، وعن دينه .
وتأمل : ما في كتاب الاعتصام للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه ؛ وهل يتصور شيء بما صرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق علي أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم، وتقولون ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم : أنه لا ينتفع بكلام الله، وكلام رسوله إلا المجتهد ؛ وتقولون : يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله وكلام رسوله وكلام أصحابه ؛ فجزمتم وشهدتم : أنكم على غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك .
وإذا كنتم مقرين : أن الواجب علي الأولين اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب، والتي خير منها، لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها، وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد، لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري : متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم ؟!(1/35)
(ص47) ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك ؛ ولما بلغه عن بعض أصحابه : أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قال : أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه : أنكر عليه ؛ وقال : تكتب رأياً لعلي أرجع عنه غداً، اطلب العلم مثل ما طلبنا . ولما سئل عن كتاب أبى ثور؟ قال : كل كتاب ابتدع، فهو بدعة ؛ ومعلوم : أن أبا ثور من كبار أهل العلم ؛ وكان أحمد يثني عليه وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثني عليهم ويعظمهم.
ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبى حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه : إن تركت كتب أبى حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك، ولما ذكر له بعض أصحابه : إن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة ؛ قال : إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها .
وقال : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأى سفيان، والله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) [النور:63] قال : أتدرى ما الفتنة : الفتنة الشرك، ومعلوم : أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه أمير المؤمنين ؛ فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى إلا ن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم ؟! وشهد عليهم بذلك ،(1/36)
(ص48) ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف ما دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!
وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم : أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله، ورسوله، والسلف الصالح، وقد قدمنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " إلى آخره ؛ فتأمل هذه الشبهة، أعنى قولكم : لا نقدر على ذلك ؛ وتأمل ما حكى الله عن اليهود، في قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ) [البقرة:88] وقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) [البقرة:99] (إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون ) [الزخرف:3]وقوله : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [القمر:17] .
واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم ؛ واعرف من نزلت فيه ؛ وأعرف الأقوال والأفعال، التي كانت سبباً لنزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم : لا نقدر على فهم القرآن، والسنة، تجد مصداق قوله : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال .
ففيها : أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته : لا أعلم وجه الأرض أحداً على ما نحن عليه، ولكن قد أظل زمان نبي ،(1/37)
(ص49) واذكر مع هذا قول الله تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) [هود:116].
فحقيق لمن نصح نفسه، وخاف عذاب الآخرة : أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصاً ما وصف به علماءهم، ورهبانهم من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله، أي : علماءهم، من الشرك، والإيمان بالجبت، والطاغوت ؛ وقولهم للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، لأنه عرف أن كل ما فعلوا لابد أن تفعله هذه الأمة ، وقد فعلت .
وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أولم يقبل ذهنك هذا الكلام، فأحضر بقلبك : أن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بياناً وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقاً بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده، واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة ) [النحل:64]وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك، فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال .
فتأمل قوله : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) [لقمان :21] وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله : ( أتجادلونني في أسماء(1/38)
(ص50) سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ) [الأعراف:71] فكل حجة تحتجون بها، تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة .
فأحضر بقلبك : أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل، فارقاً بين الحق والباطل، لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج، ويكررها، مع عدم حاجة المسلمين إليها، ويترك الحجج التي يحتاجون إليها، ويعلم أن عباده يفترقون ؛ حاشا أحكم الحاكمين من ذلك .
ومما يهون عليك مخالفة من مخالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاهاً، ولو اتبعه أكثر الناس : ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى؛ وغالب من يدعى المعرفة ؛ وما عليه المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشواً، وتشبيهاً، وتجسيماً، مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام – مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين – تجد الكتاب من أوله إلى آخره، لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه .
وهم معترفون : أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم ؛ ومعترفون : أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول(1/39)
(ص51) البخاري : وهو قول وعمل، ويزيد وينقص ؛ فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي : أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده .
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح : فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول ؛ وأن من جحد شيئاً منها، أو تأول شيئاً من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم ؛ ونقلهم الإجماع : أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع، وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء ؛ والكلام في هذا يطول .
والحاصل : أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاماً من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضاً، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم، التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى ؛ وهم : كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ،(1/40)
(ص52) يبغضونهم الناس، ويرمونهم بالتجسيم .
هذا : وأهل الكلام واتباعهم، من أحذق الناس، وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم، ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم : مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين، لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم، المراد بالصيام : كتمان أسرارنا ؛ والمراد بالحج : زيارة مشائخنا ؛ والمراد بجبريل : العقل الفعال ؛ وغير ذلك من إفكهم ؛ ردوا عليهم الجواب : بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام ؛ فقال لهم الفلاسفة : أنتم جحدتم علوا الله على خلقه، واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب، على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم، وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفاً ؟! وتأويلكم صحيحاً ؟! فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد .
والمراد : أن مذهبهم مع كونه فاسداً في نفسه، مخالفاً للعقول، وهو أيضاً مخالف لدين الإسلام، والكتاب والرسول، وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا : راجت بدعتهم على العالم والجاهل، حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها .
وأنا أدعوك إلى التفكير في هذه المسألة، وذلك : أن السلف قد كثر كلامهم، وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال(1/41)
(ص53) كلام المتكلمين، وتفكيرهم، وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية : البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم، كالحافظ الذهبي ؛ وأما متقدموهم : كابن سريج، والدار قطني، وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر، ففتش في كتب هؤلاء ؛ فإن أتيتني بكلمة واحدة : أن منهم رجلاً واحداً لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفرهم، فلا تقبل منى شيئاً أبداً ؛ ومع هذا كله، وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون ؛ والله المستعان .
ومن العجب : أنه يوجد في بلدكم من يفتى الرجل بقول إمام ؛ والثاني بقول آخر ؛ والثالث بخلاف القولين ؛ ويُعد فضيلة، وعلماً وذكاء، ويقال : هذا يفتي في مذهبين، أو أكثر ؛ ومعلوم عند الناس : أن مراده في هذا، العلو والرياء، وأكل أموال الناس بالباطل ؛ فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه، أو مثله إذا كان معه الدليل، ولم آت بشيء من عند نفسي، تكلمتم بهذا الكلام الشديد، فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم، توجه علي القول .
وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم تزعمون أن هذا إنكار للمنكر، فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلي الإسلام : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله .
منها – وهو أعظمها – عبادة الأصنام عندكم، من بشر،(1/42)
(ص54) وحجر ؛ هذا يذبح له، وهذا ينذر له ؛ وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفان ؛ وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر ؛ وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة – ولو عصى الله !
فإن كنتم تزعمون : أن هذا ليس هو عبادة الأصنام، والأوثان، المذكورة في القرآن، فهذا من العجب ؛ فإني لا أعلم أحداً من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلاّ أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت ؛ وإن ادعيتم : أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض ؛ كيف وبعد الذين أنكروا على هذا الأمر، وادعوا انهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنساناً يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق ؛ ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله .
ومنها : ما يفعله كثير من أتباع إبليس، أتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل ؛ والصد عن سبيل الله، حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعى العلم : أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " .(1/43)
(ص55) ومنها : هذه الحيلة الربوية، التي مثل حلية أصحاب السبت، أو أشد ؛ وأنا ادعوا من خالفني إلى أحد أربع ؛ إما إلى كتاب الله، وأما إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما إلى إجماع أهل العلم ؛فإن عاند : دعوته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم ؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم .
وفى سنة 1184 هـ، أرسل : الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، والإمام : عبد العزيز ابن محمد ابن سعود إلى والي مكة، الشيخ : عبد العزيز الحصين، وكتابا إلى الوالي المذكور، رسالة، هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمه عليك، حضرة الشريف أحمد ابن الشريف سعيد، أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده، سيد الثقلين .
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله لتأييد الشريف، لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية، ومن تبعها وعداوة من خرج عنها، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثالنا الأمر، وهو واصل إليكم،(1/44)
(ص56) ويجلس في مجلس الشريف ، أعزه الله، هو وعلماء مكة، فإن اجتمعوا : فالحمد لله على ذلك، وان اختلفوا : أحضر الشيخ كتبهم وكتب الحنابلة .
والواجب على الكل منا، ومنكم : أنه يقصد بعلمه وجه الله، ونصر رسوله كما قال تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه " [آل عمران:81] فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان به، ونصرته، فكيف بنا يا أمته ؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفى أحدهما عن الأخر ، وأحق الناس بذلك وأولاهم به أهل البيت، الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم والسلام .
وفى سنة 1204 هـ، أرسل : غالب إلى الإمام عبد العزيز رحمه الله، يطلب منه أن يرسل إليه رجلاً من أهل العلم، يبحث مع علماء مكة المشرفة، فأرسلا إليه، وكتب الشيخ رحمه الله هذه الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب : إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام ؛ عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الإعلام .(1/45)
(ص57) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه : هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين ؛ ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعى العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر .
فأشاعوا عنا : أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب، ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة .
فنحن – ولله الحمد – متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون – أعزكم الله – أن المطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون – أعزكم الله – أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب – أعزه الله ونصره – امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام، حتى(1/46)
(ص58) يتبين له – أعزه الله – ما عندنا، وما نحن عليه .
ثم اعلموا وفقكم الله : إن كانت المسألة إجماعاً، فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد، فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته، لا ينكر عليه ؛ وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وإني متبع لأهل العلم، غير مخالف لهم ؛والسلام.
وله أيضاً – رحمه الله تعالى – مجاوبة لعالم من أهل المدينة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ؛ إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم، ثم ينتهي إلى جناب .. لا زال محروس الجناب، بعين الملك الوهاب ؛ وبعد : الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .
وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس ؟ فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك ؛ ولا في شيء من المحرمات، الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين ؛(1/47)
(ص59) والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه .
والذي قلب الناس علينا : الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وقلبهم على الرسل من قلبه : ( كلما جاء أمة رسولها كذبوه) [المؤمنون :44] ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ؛ فرأس الأمر عندنا، وأساسه : إخلاص الدين لله، نقول : ما يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا الله، ولا يذبح القربان إلا لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله، فمن جعل من هذا شيئاً لغير الله، فنقول : هذا الشرك بالله، الذي قال الله فيه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) الآية [النساء:48] والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم : يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ) الآية [يونس:31] ( قل من ببده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله ) الآية [المؤمنون:88-89] وأخبر الله عن الكفار : أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد، واذكر قوله سبحانه : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) الآية [العنكبوت:65] والآية الأخرى : (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) الآية [لقمان :32]وبين الله غاية الكفار،(1/48)
(ص60) ومطلبهم، أنهم يطلبون الشفع واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بين دين الإسلام، وبين دين الكفار ومطلبهم، الآيات في هذا من القرآن : ما تحصى ولا تعد .
وأما الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلما قال بعض الصحابة : ما شاء الله، وشئت، قال : " أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده " وفي الحديث الثاني، قال بعض الصحابة : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق قال : " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله وحده " وفي الحديث الثالث : أن أم سلمة رضي الله عنها، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح – أو العبد الصالح – بنوا على قبره مسجداً، وصورا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " .
والحديث الرابع، لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له : "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، فإن أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم "
والحديث الخامس، عن معاذ، قال : كنت رديف(1/49)
(ص61) النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله "؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً " الحديث ؛ والأحاديث في هذا ما تحصى .
وأما تنويهه صلى الله عليه وسلم بأن دينه يتغير بعده، فقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ؛ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي الحديث قال : " افترقت الأمم قبلكم، افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ؛ والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا من الواحدة يا رسول الله ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن "؟.
ويكون عندك معلوماً : أن أساس الأمر، ورأسه، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء:25]وقال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا(1/50)
(ص62) أن اعبدوا الله ) [النحل:36] وقال تعالى : ( يا أيها المدثر ) الآيتين .
ويكون عندك معلوماً : أن لله تعالى أفعالاً، وللعبيد أفعالاً، فأفعال الله : الخلق والرزق، والنفع، والضر، والتدبير، وهذا أمر ما ينازع فيه، لا كافر، ولا مسلم ؛ وأفعال العبد، العبادة : كونه ما يدعو إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه ولا يتوكل إلا عليه فالمسلم من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه ؛ والمشرك : الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه، ويشرك بأفعاله بنفسه .
وفي الحديث لما أنزل الله عليه : ( قم فأنذر ) صعد الصفا صلى الله عليه وسلم فنادى : " واصباحاه " فلما اجتمع إليه قريش، قال لهم : ما قال، فقال عمه : تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا ؛ وأنزل الله فيه : ( تبت يدا أبي لهب وتب ) وقال صلى الله عليه وسلم :" يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد : سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً" أين هذا من قول صاحب البردة :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... ... ... سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... ... ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم .(1/51)
(ص63) وذكر صاحب السيرة : أنه صلوات الله وسلامه عليه، قام يقنت على قريش، ويخصص أناساً منهم، في مقتل حمزة، وأصحابه، فأنزل الله عليه : ( ليس لك من الأمر شيء) الآية [آل عمران :128] ولكن مثل ما قال صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ "
فإن قال قائلهم : إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ الذي نكفر، الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج ؛ ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد ؛ ولكن نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) الآية [آل عمران :31] .
ويكون عندك معلوماً أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه، التي قال الله : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ) الآية [فصلت:33] وفي الحديث : " والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم ".
ثم بعد هذا يذكر لنا : أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه ؛ يزعمون : أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود ؛ نسأل.
( ص64) الله الكريم رب العرش العظيم : أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه .
هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، وتابع التابعين، والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجه، والقائل : إنه يطلب الشفاعة بعد موته ؛ يورد علينا الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة ، والحق أحق أن يتبع .(1/52)
وله أيضا : قدس الله روحه، ونور ضريحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : أخبركم أني – ولله الحمد – عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين ؛ مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة ؛ لكني بينت للناس : إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم في ما يعبد الله به من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل ؛ وهو
( ص65 ) الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم ؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة .
وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة فأنكر هذا بعد الرؤساء لكونه خالف عادة نشؤوا عليها ؛ وأيضاً : ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله ؛ ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات ؛ فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسناً عند العوام، فجعلوا قدحهم، وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام : أن هذا خلاف ما عليه الناس وكبرت الفتنه جداً وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله. فنقول: التوحيد نوعان ؛ توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة ؛ والأنبياء، وغيرهم ؛ وهذا حق لابد منه ؛ لكن لا يدخل لرجل في الإسلام ؛ بل : أكفر الناس مقرون به، قال الله تعالى :( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) الآية [يونس:31].(1/53)
وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام، هو : توحيد الألهية وهو إلا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً، ولا نبيا مرسلاً، وذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث، والجاهلية يعبدون أشياء(1/54)
(ص66) مع الله فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة ؛ فنهاهم عن هذا، وأخبرهم : أن الله أرسله ليوحد، ولا يدعى أحد، لا الملائكة، ولا الأنبياء، فمن تبعه، ووحد الله فهو الذي يشهد أن لا إلَه إلا ّ الله ؛ ومن عصاه، ودعا عيسى، والملائكة، واستنصرهم ،والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إلَه إلا ّ الله، مع إقراره : أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله ؛ وهذه جملة : لها بسط طويل ؛ ولكن الحاصل : أن هذا مجمع عليه بين العلماء .
فلما جرى في هذه الأمة ، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال : "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) الآية [التوبة:31] وصار ناس من الضالين : يدعون أناساً من الصالحين، في الشدة والرخاء ؛ مثل : عبد القادر الجيلاني ؛ وأحمد البدوي وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم : أهل العلم، من جميع الطوائف، أعني : على الداعي ؛ وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم .
وبين أهل العلم : أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام ؛ فإن الله سبحانه : إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر ؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر والصالحين(1/55)
(ص67) والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والصالحين، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لادعاء عبادة، ولا دعاء الاستغاثة .
وأعلم أن المشركين في زماننا : قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة، والأولياء، والصالحين ؛ ويريدون شفاعتهم، والتقرب إليهم وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونها إلا في الرخاء فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البر أعرضتم ) الآية [الإسراء:67] .
واعلم أن التوحيد هو : إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين : ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق ونسر وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسّر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين .
( ص68) فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد : محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون : يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يخلق، ولا يرزق إلا هو، ولا يحيى، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو ؛ وان جميع السموات السبع، ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره .(1/56)
فإذا أردت الدليل : على أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى ( قُل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) الآية [يونس:31] وقوله تعالى :( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنىَ تسحرون ) الآية [المؤمنون:84-89] وغير ذلك : من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعرفت : أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة ،(1/57)
(ص69) الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى، ليلاً ونهاراً، خوفاً وطمعاً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم، وقربهم من الله عز وجل، ليشفعوا لهم، ويدعو رجلاً صالحاً، مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى .
وعرفت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم، على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18] وقال تعالى : ( له دعوة الحقّ الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) الآية [الرعد:14] .
وعرفت : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم، ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله ؛ وعرفت : أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء : يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحلّ دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد: الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون .
وهذا التوحيد هو : معنى قولك : لا إلَه إلا ّ الله، فإن الإله عندهم، هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو قبراً، أو جنياً ؛ لم يريدوا أن(1/58)
(ص70) الإله هو الخالق، الرازق، المدبر ؛ فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك .
وإنما يعنون بالإله : ما يعنى المشركون في زماننا، بلفظ : السيد ؛ فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي : لا إلَه إلا ّ الله ؛ والمراد من هذه الكلمة : معناها، لا مجرد لفظها ؛ والكفار الجهال : يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، هو إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه، فإنه لما قال لهم : قولوا لا إله إلا الله ؛ قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب .
فإذا عرفت : أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة، ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب، بشيء من المعاني ؛ والحاذق منهم، يظن : أن معناها لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل : جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إلَه إلا ّ الله .
فإذا عرفت : ما قلت لك، معرفة قلب ؛ وعرفت : الشرك بالله الذي، قال الله فيه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية [النساء:48] وعرفت : دين الله الذي بعث به الرسل، من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه ؛ وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه، من الجهل بهذا، أفادك فائدتين، الأولى : الفرح بفضل(1/59)
(ص71 ) الله وبرحمته، قال الله تعالى : ( قُل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) [يونس:58] وأفادك أيضاً : الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت : أن الإنسان يكفر، بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها، وهو جاهل فلا يعذر بالجهل وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله ؛ خصوصاً : إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى، مع صلاحهم، وعلمهم، أنهم أتوه قائلين ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) الآية [الأعراف:138] فحينئذ : يعظم خوفك، وحرصك على ما يخلصك، من هذا، وأمثاله .
واعلم : أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) [الأنعام:112] وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى : ( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ) الآية [غافر:83] .
فإذا عرفت ذلك، وعرفت :أن الطريق إلى الله، لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة، وعلم، وحجج، كما قال تعالى : ( ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون وتصدون عن سبيل الله ) الآية [الأعراف:86] .
فالواجب عليك : أن تعلم من دين الله، ما يصير لك(1/60)
(ص72 ) سلاحاً، تقابل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم، ومقدمهم، لربك عز وجل : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) الآية [الأعراف:16-17] .
ولكن : إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف، ولا تحزن، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ؛ والعامي من الموحدين : يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى : (وإن جندنا لهم الغالبون ) الآية [الصافات:173] فجند الله : هم الغالبون بالحجة، واللسان ؛ كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان ؛ وإنما الخوف على الموحد، الذي يسلك الطريق، وليس معه سلاح .
وقد منّ الله علينا بكتابه، الذي جعله : ( تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) الآية [النحل:89] فلا يأتي صاحب باطل بحجة، إلا وفي القرآن ما ينقصها، ويبين بطلانها، كما قال تعالي : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) [الفرقان:33] قال بعض المفسرين : هذه الآية عامة في كل حجة، يأتي بها أهل الباطل، إلى يوم القيامة .
والحاصل : أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان .
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين : أنى لما(1/61)
(ص73) بيّنت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) الآية[الإسراء:57]وقولة ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) الآية [يونس: 18] وقولة ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية [الزمر:3] وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله ( قُل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ) الآية [يونس:31] وغير ذلك .
قالوا : القرآن لا يجوز العمل به لنا . ولا مثالنا، ولا بكلام الرسول ؛ ولا بكلام المتقدمين ؛ ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرين.
قلت لهم : أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكى، والشافعي، والحنبلي، كل : أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه فلم يزدهم إلا نفوراً .
وأما التكفير : فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا : هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك ؛ وأما القتال : فلم نقاتل أحداً إلى اليوم، إلا دون النفس والحرمة، وهم : الذين أتونا في ديارنا ؛ ولا أبقوا ممكنا، ولكن : قد
(74ص) نقاتل بعضهم، على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها ؛ وكذلك . من جاهر بسب دين الرسول، بعدما عرف، فإنا نبين لكم : أن هذا هو الحق، الذي لا ريب فيه، وأن الواجب : إشاعته في الناس، وتعليمه النساء، والرجال فرحم الله : من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، واقر على نفسه ؛ فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، ونسأل الله : أن يهدينا، وإياكم، لما يحبه ويرضاه .
وله أيضاً : قدس الله روحه، ونور ضريحه :
بسم الله الرحمن الرحيم(1/62)
الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمداً صلى الله عليه وسلم أن ابن صياح : سألني عما ينسب إلى ؟ فطلب منى : أن أكتب الجواب ؛ فكتبته :
الحمد لله ربّ العالمين ؛ أما بعد : فما ذكره المشركون : على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول : لو أن لي أمراً، هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه على الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان : الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله، وهو منهم بريء، كبراءة على بن أبي طالب من الرافضة .(1/63)
(ص75) فلما رأوني : آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر ؛ وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء، أو ندبهم، أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة، التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله : لا ينكر هذا الأمر، بل يقر به، ويعرفه .
وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال : إن دعوة الصالحين، واستغاثتهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيراً لهم، أمر حسن ؛ ولو ذكر الله ورسوله : إنه كفر ؛ فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام .
وإنما كلامنا : مع رجل، يؤمن بالله واليوم الأخر ، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه ؛ ويظن : أن الاعتقاد في الصالحين، حق ؛ ولو يدرى أنه كفر، يدخل صاحبه في النار، ما فعله ؛ ونحن : نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول : الذي يجب على المسلم، أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه، والله سبحانه : أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه، وببغضه، وبين لنا فيه ديننا، وأكمل ؛ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه ؛ وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم،(1/64)
(ص76 ) ويعرفون قدره، ويعرفون أيضاً : الشرك، والإيمان .
فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه، أو نذر له، أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف : أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري.
وإن كان إذا سألت وجدت أنه : صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء، والصالحين، وقتلهم، وسباهم، وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم ؛ فاعرف : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق ؛ والواجب على كل مؤمن : اتباعه فيما جاء به .
وبالجملة : فالذي أنكره : الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره ؛ فإن كنت قلته من عندي، فارم به ؛ أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به، كذلك ؛ أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به، وإن كنت قلته، عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الأخر : أن يعرض عنه، لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأنّ أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه .
واعلم : أن الأدلة على هذا، من كلام الله، وكلام رسوله، كثيرة، لكن : أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون(1/65)
(ص77 ) يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ) الآية [الإسراء:56-57]، ذكر المفسرون في تفسيرها : أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى، عليه السلام، وعزير ؛ فقال تعالى : هؤلاء عبيدي، كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي ؛ ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي .
فيا عباد الله : تفكروا في كلام ربكم، تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن دينهم الذي كفرهم به، هو : الاعتقاد في الصالحين ؛ وإلا فالكفار : يخافون الله، ويرجونه، ويحجون ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين ؛ وهم يقولون : إنما اعتقدنا فيهم، ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا، كما قال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية [الزمر:3]وقال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) الآية [يونس:18] .
فيا عباد الله : إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو : الاعتقاد في الصالحين ؛ وذكر أنهم اعتقدوا فيهم، ودعوهم، وندبوهم، لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان ؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى ابن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه فقد .(1/66)
(ص78 ) كفر ؛ فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب : أبي حديدة، وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله ؟!
وأنت يا من هداه الله : لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين، بل هؤلاء أعداء الصالحين وأنت والله الذي تحب الصالحين لأن : من أحب قوماً أطاعهم، فمن أحب الصالحين ؛ وأطاعهم، لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم، فهو مثل النصارى، الذين يدعون عيسى، ويزعمون محبته، وهو بريء منهم، ومثل الرافضة : الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم .
ونختم هذا الكتاب، كلمة واحدة، وهي أن أقول : يا عباد الله، لاتطيعوني، ولا تفكروا ؛ واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله ؛ وأنا أنصحكم : لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنا، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عباد الله : تفكروا، وتذكروا ؛ والسلام .(1/67)
(ص79 ) وله أيضاً : رحمه الله تعالى، رسالة أرسلها إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق، سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله : عبد الرحمن، بن عبد الله .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد : فقد وصل إلى كتابك، وسر الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين ؛ وأخبرك أنى – ولله الحمد – متبع، لست بمبتدع ؛ عقيدتي، وديني الذي أدين الله به هو : مذهب أهل السنة والجماعه، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة .
ولكنني بينت للناس : إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات، من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل ؛ وهو : الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم ؛ وهو : الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم ؛ وهو : الذي عليه أهل السنة والجماعة .(1/68)
(ص80 ) وبيّنت لهم : أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة ، هم الرافضة، الذين يدعون علياً وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات ؛ وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خالف عادات نشؤوا عليها .
وأيضاً : ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه، لكونه مستحسناً عند العوام ؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم، فيما آمر به من التوحيد، وأنهي عنه من الشرك، ولبسوا على العوام : أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات، فكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله .
فمنها : إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه ومنها : ما ذكرتم : أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟! وهل يقول هذا مسلم إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك ؛ فقاتل الله أهل الإغراض الباطلة وكذلك قولهم، إني أقول : لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها .
وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني : أني حرقتها، فله(1/69)
(ص81 ) سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني : أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ؛ ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن، وأما : إحراقها، والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إلىَّ من الزور والبهتان .
والحاصل : أن ما ذكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان ؛ وهذا لو حفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلاً من أهل بلدكم، ولو كان أحب الخلق إلى الناس، قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحساد، أشد منه رياسة، وأكثر اتباعاً، وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس : أن هذا تنقص بالصالحين، وأن دعوتهم من إجلالهم، واحترامهم، لعلمتم كيف يجري عليه .
ومع هذا، وأضعافه : فلابد من الإيمان بما جاء به الرسول، عليه الصلاة والسلام، ونصرته، كما أخذ الله على الأنبياء قبله، وأممهم، في قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) [آل عمران:81] فلما فرض الله الإيمان، لم يجز تركه
وأنا : أرجو أن الله يكرمك، بنصر دينه، ونبيه، وذلك(1/70)
(ص82 ) على حسب الاستطاعة، ولو بالقلب، والدعاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فإن رأيت عرض كلامي هذا على من ظننت أنه يقبله من إخواننا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
ومن أعجب ما جرى، من بعض الرؤساء المخالفين : أني لما بينت لهم معنى كلام الله تعالى، وما ذكره أهل التفسير، في قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ) [الإسراء:57] وقوله تعالى : ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [يونس:81]وقوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربوا إلى الله زلفى ) الآية [الزمر:3] وما ذكره الله، من إقرار الكفار في قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) الآية [يونس:31] وغير ذلك ،قالوا : القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثلنا ؛ ولا بكلام الرسول،ولا بكلام المتقدمين، ولا نقبل إلا ما ذكره المتأخرون
فقلت : أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنيفة، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كلا أخاصمه بكتب المتأخرين، من علماء مذهبه، الذين يعتمد عليهم ؛ فلما أبوا ذلك، نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرت ما قالوا، بعدما حدثت الدعوة عند القبور، والنذر لها فعرفوا ذلك، وتحققوه، ولم يزدهم إلا نفوراً .
وأما التكفير : فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما(1/71)
(ص83 ) عرف، سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة – ولله الحمد – ليسوا كذلك .
وأما القتال : فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس، والحرمة ؛ فإنا نقاتل على سبيل المقابلة ( وجزاء سيئّة سيئّة مثلها )[الشورى:40] وكذلك . من جاهر بسبب دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام .
وله أيضاً : قدس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى أهل المغرب، هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له ؛ وأشهد : أن لا إلَه إلا ّ الله وحده لا شريك له ؛ وأشهد : أن محمداً عبده ورسوله ؛ من يطع الله ورسوله، فقد رشد ؛ ومن يعص الله ورسوله، فقد غوى ؛ ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فقد قال الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [يوسف:180] وقال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) [آل عمران:31](1/72)
(ص84 ) وقال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر:7] وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة:3]فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأمرنا : بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع، والتفرق، والاختلاف، فقال تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ؛ قليلاً ما تذكرون) [الأعراف:3] وقال تعالى : ( أولياء ؛ قليلاً ما تذكرون ) وقال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) [الأنعام:153]والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر : بأن " أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع" وثبت في الصحيحين ،وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "
قالوا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ وأخبر في الحديث الأخر : أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال ؟ " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
إذا عرف هذا، فمعلوم : ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى(1/73)
(ص85 ) الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات ، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات ؛ وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي تصلح إلا لله
وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله : كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى : ( فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار )[الزمر:2-3]
فأخبر سبحانه : أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه ؛ وأخبر : أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار ؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفرهم، فقال : ( إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) وقال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) [يونس:18]
فاخبر : أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك بهم، وذلك : أن(1/74)
(ص86 ) الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى : ( قل لله الشفاعة جميعاً ) [الزمر:44]
فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [البقرة:255] وقال تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) [طه:109] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [الأنبياء:28] وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [سبأ:22-23] فالشفاعة : حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى، كما قال تعالى ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18] وقال : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) [يونس:106] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل :" يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال : ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حداً فيدخلهم الجنة " فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء ؟!
وهذا الذي ذكرناه : لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة(1/75)
(ص87 ) والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم .
وأما : ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء، الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم، ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة، والنذور لها، فكل ذلك : من حوادث الأمور، التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " .
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى : أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً : أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره : أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه ؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء : يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم
فهذا : هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا، وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم، وهو الذي ندعوا الناس إليه، ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله ،وإجماع السلف(1/76)
(ص88) الصالح ، من الأئمة ، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [الأنفال:39] فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) [الحديد:25].
وندعوا الناس : إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى : ( الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) [الحج:41]
فهذا : هو الذي نعتقد، وندين الله به، فمن عمل بذلك، فهو أخونا المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا .
ونعتقد أيضاً : أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة، وأنه : لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، وصلى الله على محمد .(1/77)
(ص89) وله أيضاً : رحمه الله تعالى، رسالة إلى : فاضل رئيس بادية الشام .
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ : فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزعات الشيطان .
أما بعد : فالسبب في المكاتبة : أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلاماً حسناً، سر الخاطر، وذكر عنك : أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان من الكذب، والبهتان ؛ وهذا، هو : الواجب من مثلك، أنه لا يقبل كلاماً إلا إذا تحققه .
وأنا أذكر لك : أمرين، قبل أن أذكر لك صفة الدين ؛ الأول : أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم : الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذوا من كلامي شيئاً ؛ لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس .(1/78)
(ص90) والأمر الثاني : أن هذا الأمر، الذي أنكروا علي، وأبغضوني، وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام، واليمن، أو غيرهم، يقول : هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله ؛ ولكن ما أقدر أظهره في مكاني، لأجل : أن الدولة ما يرضون ؛ وابن عبد الوهاب أظهره، لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء، وأظنه وصلك كلامهم .
فأنت : تفكر في الأمر الأول، وهو قولي : لا تطيعوني، ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في كتبكم ؛ وتفكر في الأمر الثاني : أن كل عاقل مقر به، لكن ما يقدر يظهره، فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم : أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والدنيا زائلة، والجنة،والنار، ما ينبغي للعاقل أن ينساهما .
وصورة الأمر الصحيح، أني أقول : ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى في كتابه : ( فلا تدعوا مع الله أحداً )[الجن:18] وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل إنيّ لا أملك لكم ضّراً ولا رشداً )[الجن:21] فهذا كلام الله، والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به، ونهي الناس لا يدعونه، فلماذا ذكرت لهم : إن هذه المقامات، التي في الشام، والحرمين، وغيرها ؛ أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين، والتعليق عليهم هو : الشرك(1/79)
(ص91 ) بالله الذي قال الله فيه : ( إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الحنة ومأواه النار )[المائدة:72] فلما أظهرت هذا : أنكروه وكبر عليهم ؛ وقالوا : أجعلتنا مشركين؟ وهذا : ليس إشراكاً؛ هذا : كلامهم، وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله ؛ وهذا : هو الذي بيني، وبينكم ؛ فإن ذكر شيء غير هذا، فهو كذب، وبهتان، والذي يصدق كلامي هذا : إن العالم ما يقدر يظهره، حتى من علماء الشام من يقول : هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة وأنت – ولله الحمد – ما تخاف إلا الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم .(1/80)
(ص92) وله الله أيضاً : قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب : إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد : فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيراً ونذيراً، مبشراً لمن اتبعه بالجنة، ومنذراً لمن لا يتبعه عن النار وقد علمتم : إقرار كل من له معرفة، إن التوحيد الذي بينا للناس، هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوع معاند، يشهد بذلك، وإن الذي عليه غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين، وفى غيرهم، هو : الشرك الذي قال الله فيه : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [المائدة:72] فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون : لو يتركون أهل العارض، التكفير والقتال، كانوا على دين الله ورسوله ؛ ونحن ما جئناكم في التكفير، والقتال، لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم، إنه دين الله ورسوله أن تعلنوه وتعملوا به، إن كنتم من أتباع محمد باطناً وظاهراً .(1/81)
(ص93) وأنا أبين لكم هذا بمسألة القبلة : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون، والنصارى يصلون، لكن قبلته صلى الله عليه وسلم وأمته : بيت الله ؛ وقبله النصارى : مطلع الشمس فالكل منا يصلي، ولكن اختلفنا في القبلة ؛ فلو أن رجلاً من أمه محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا، ولكن يكره من يستقبل القبلة، ويحب من يستقبل مطلع الشمس أتظنون : أن هذا مسلم ؟ وهذا ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد، وأن لا يدعى مع الله أحد لا نبي، ولا غيره ؛ والنصارى : يدعون، عيسى رسول الله، وأمه ؛ والمشركون : يدعون الصالحين، يقولون : ليشفعوا لنا عند الله
فإذا كان كل مطوع : مقراً بالتوحيد والشرك ؛ فاجعلوا التوحيد مثل القبلة، واجعلوا الشرك مثل استقبال المشرق ؛ ومع أن هذا أعظم من القبلة ؛ وأنا أنصحكم لله وأنخاكم لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبوا دين النصارى على دين نبيكم فما ظنكم بمن واجه الله، وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه، ودين رسوله وهو يبغضه ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره وهو الشرك، ويحبه، وبحب من اتبعه ؛ أتظنون أن الله يغفر لهذا ؟! والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب الخالي من ذلك، فلا حيلة فيه، والسلام .(1/82)
(ص94) وله رسالة إلى البكبلي صاحب اليمن :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الحق في الكتاب، وجعله تذكرة لأولي الألباب، ووفق من منّ عليه من عباده للصواب، لعنوان الجواب، وصلى الله، وسلم، وبارك على نبيه، ورسوله، وخيرته من خلقه، محمد، وعلى آله، وشيعته، وجميع الأصحاب، ما طلع نجم، وغاب، وانهلّ وابل من سحاب .
من عبد العزيز بن محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب :
إلى الأخ في الله : أحمد بن محمد العديلي البكبلي سلمه الله من جميع الأوقات، واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أما بعد : لفانا كتابكم، وسر الخاطر بما ذكرتم فيه،
( ص95) من سؤالكم، وما بلغنا على البعد، من أخباركم، وسؤالكم عما نحن عليه، وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله سبحانه وتعالى : أن يسلك بنا وبكم، أحسن منهج وسبيل .
أما : ما نحن عليه من الدين ؟ فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [آل عمران:85].
وأما : ما دعونا الناس إليه ؟ فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [يوسف:108] وقوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) ؟[الجن:18].(1/83)
وأما : ما نهينا الناس عنه ؟ فنهيناهم عن الشرك، الذي قال الله فيه : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [المائدة:72]وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منزه، هو وإخوانه عن الشرك ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) [الزمر:65-66] وغير ذلك من الآيات .
ونقاتلهم عليه، كما قال تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا
(96ص) تكون فتنة ) أي شرك ( ويكون الدين كله لله ) [الأنفال:39]وقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [التوبة:5] وقوله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل " .
وقوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إلَه إلا ّ الله ) [محمد:19] وسماها سبحانه بالعروة الوثقى، وكلمة التقوى ؛ وسموها الطواغيت : كلمة الفجور ؛ من قال لا إلَه إلا ّ الله عصم دمه وماله ولو هدم أركان الإسلام الخمسة، وكفر بأصول الإيمان الستة .
وحقيقة اعتقادنا : أنها تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح ؛ وإلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار مع أنهم يقولون : لا إله إلا الله ؛ بل : ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، بل ويصومون، ويحجون، ويجاهدون، وهم مع ذلك تحت آل فرعون، في الدرك الأسفل من النار ؛ وكذلك ما قصّ الله سبحانه عن بلعام، وضرب له مثلاً بالكلب، مع ما معه من العلم، فضلاً عن الاسم الأعظم(1/84)
(ص97) وعالم بعلمه لم يعملن ... ... ... معذب من قبل عباد الوثن
وأما ما ذكرتم : من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة : أبى حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى .
وأما ما سألتم عنه : من حقيقة الإيمان ؟ فهو التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بضدها، قال الله تعالى ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) {المدثر :31}وقوله : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) [التوبة:124] وقوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) [الأنفال:2]وغير ذلك من الآيات، قال الشيباني، رحمه الله :
وإيماننا قول وفعل ونية ويزداد بالتقوى وينقص بالردا
وقوله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها : قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وقوله صلى الله عليه وسلم " فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " وقوله تعالى ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم، وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً .(1/85)
(ص98) وطهرّ بيتي الطائفين والقائمين والركع السجود ) [الحج:25-26] .
فقال الطواغيت : الذي قال الله فيهم : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) [التوبة:31]إن فساق مكة حشو الجنة ! مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات، فانقلبت القضية بالعكس، حتى آل الأمر إلى الهتيميات، المعروفات بالزنا، والمصريات، يأتون وفوداً يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف : معروفة بغيته منهن جهاراً، وأن اللواط وأهل الشرك والرافضة، وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحّد الله وعظمه، ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات : يجيرون من استجار بهم ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [النور:16] ( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [الأنفال:34] .
وما جئنا بشيء يخالف النقل، ولا ينكره العقل ؛ ولكنهم : يقولون ما لا يفعلون، ونحن نقول ونفعل ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ) [الصف:31] نقاتل : عباد الأوثان، كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة، وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها، صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن .
( ص99) نوفل : ما أتى أحد بمثل ما أتيت به، إلا عودي، وأوذي، وأخرج، وما قلّ، وكفى، خير مما كثر وألهى، والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته .
وأرسل إليه صاحب اليمن :
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسماعيل الجراعي، إلى من وفقه الله : محمد بن عبد الوهاب :(1/86)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد : بلغني على ألسن الناس عنك، ممن أصدق علمه، وما لا أصدق، والناس اقتسموا فيكم، بين قادح، ومادح، فالذي سرني عنك : الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان، وفي غربة الإسلام، أنك تدعو به، وتقوم أركانه، فوالله الذي لا إله غيره، مع ما نحن فيه عند قومنا، ما نقدر على ما تقدر عليه، من بيان الحق،والإعلان بالدعوة .
وأما قول من لا أصدق : أنك تكفر بالعموم، ولا تبغي الصالحين، ولا تعمل بكتب المتأخرين، فأنت : أخبرني، واصدقني بما أنت عليه، وما تدعو الناس إليه، ليستقر عندنا خبرك ومحبتك ؟ .(1/87)
(ص100) بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى : إسماعيل الجراعي : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد : فما تسأل عنه، فنحمد الله الذي لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، فلنا أسوة، وهم : الرسل، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جري لهم مع قومهم، وما جرى لقومهم معهم، فهم قدوة وأسوة لمن اتبعهم .
فما تسأل عنه، من الاستقامة على الإسلام ؟ فالفضل لله ؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ".
وأما القول : أنا نكفر بالعموم ؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين ؛ ونقول : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [النور:16] .
وأما الصالحون ؟ فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول : ليس لهم شيء من الدعوة، قال الله : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18]
وأما المتأخرون رحمهم الله، فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص، لا نعمل به .(1/88)
(ص101) فاعلم رحمك الله : أن الذي ندين به، وندعوا الناس إليه : إفراد الله بالدعوة، وهي دين الرسل، قال الله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) [البقرة:83] فانظر رحمك الله، ما أحدث الناس من عبادة غير الله، فتجده في الكتب، جعلني الله وإياك ممن يدعو إلى الله على بصيرة، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [يوسف:108] وصلى الله على محمد .(1/89)
(ص102) وسئل الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمة الله تعالى، عما يقاتل عليه ؟ وعما يكفر الرجل به ؟ فأجاب :
أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة ؛ فالأربعة : إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها ؛ والعلماء : اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود ؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان .
وأيضاً : نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول : أعداؤنا معنا على أنواع .
النوع الأول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس ؛ وأقر أيضاً : أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس : أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهي عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك : لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول، فلم يتبعه، وعرف الشرك، فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس .(1/90)
(ص103) النوع الثاني : من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح، من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر، من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) [البقرة:89] وهو ممن قال الله فيه : ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) [التوبة:12] .
النوع الثالث : من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن : يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضاً : كافر، فيه قوله تعالى : ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) [محمد:9].
النوع الرابع : من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده : يصرحون بعداوة أهل التوحيد واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر : أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضاً : كافر ؛ فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم، فعل ؛ ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم، فعل ؛ وموافقتهم على الجهاد معهم
(104ص) بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك، قطع دين الله ورسوله : أكبر من ذلك بكثير، كثير ؛ فهذا أيضاً : كافر، وهو ممن قال الله فيهم : ( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم – إلى قوله – سلطاناً مبيناً ) [النساء:91] فهذا الذي نقول .
وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم : إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه ؛ فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله .(1/91)
وإذا كنا : لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر ؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [النور:16]
بل نكفر تلك الأنواع الأربعة، لأجل محادتهم لله ورسوله، فرحم الله امرءاً نظر نفسه، وعرف أنه ملاق الله، الذي عنده الجنة، والنار ؛ وصلى الله على محمد وآله، وصحبه، وسلم .(1/92)
(ص105) وله أيضاً رحمه الله تعالى، وصب عليه من شآبيب بره، ووالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ : محمد بن عباد، وفقه الله لما يحبه ويرضاه .
سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته، وبعد : وصلنا أوراق في التوحيد، فيها كلام حسن، من أحسن الكلام، وفقك الله للصواب، وتذكر فيه : أن ودك نبين لك، إن كان فيها شيء غاترك ؟
فاعلم أرشدك الله : أن فيها مسائل غلط، الأولى : قولك : أول واجب على كل ذكر وأنثى : النظر في الوجود، ثم معرفة العقيدة، ثم علم التوحيد، وهذا خطأ، وهو من علم الكلام : الذي أجمع السلف على ذمه ؛ وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب، هو : التوحيد، ليس النظر في الوجود، ولا معرفة العقيدة، كما ذكرته أنت في الأوراق : أن كل نبي يقول لقومه : " اعبدوا الله ما لكم من إلهّ غيره " .
والثانية : قولك في الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه،(1/93)
(ص106) الخ، والإيمان هو . التصديق الجازم بما أتى به الرسول، فليس كذلك، وأبو طالب : عمه جازم بصدقه، والذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ والذين يقولون : الإيمان، هو : التصديق الجازم، هم الجهمية، وقد اشتد نكير السلف عليهم، في هذه المسألة .
الثالثة قولك : إذا قيل للعامي ونحوه : ما الدليل عل أن الله تبارك وتعالى ربك ؟ ثم ذكرت ما الدليل على اختصاص العبادة بالله، وذكرت الدليل على توحيد الألوهية، فاعلم أن الربوبية، والألوهية : يجتمعان، ويفترقان، كما في قوله : ( أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس ) وكما يقال رب العالمين، وإلهّ المرسلين ؛ وعند الأفراد : يجتمعان، كما في قول القائل : من ربك ؟
مثاله : الفقير والمسكين، نوعان في قوله : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) [التوبة:60] ونوع واحد في قوله : " افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم " إذا ثبت هذا، فقول الملكين للرجل في القبر : من ربك ؟ معناه من إلّهك ؛ لأن الربوبية التي أقر بها المشركون، ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا يقولوا ربنا الله ) {الحج 40} وقوله : ( قل أغير الله أبغي رباً ) [الأنعام:164]وقوله : ( إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [فصلت:30- الأحقاف:13] .(1/94)
(ص107) فالربوبية في هذا، هي : الألوهية، ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران ؛ فينبغي : التقطن لهذه المسألة.
الرابعة : قولك في الدليل، على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليله : الكتاب، والسنة ؛ ثم ذكرت الآيات، كلام من لم يفهم المسألة، لأن المنكر للنبوة أو الشاك فيها، إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة، يقول : كيف تستدل بشيء علىّ ما أتى به إلا هو ؟!
والصواب في المسألة : أن تستدل عليه بالتحدي، بأقصر سورة من القرآن، أو شهادة علماء أهل الكتاب، كما في قوله : ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) [الشعراء:197]ولكونهم يعرفونه قبل أن يخرج، كما في قول : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الآية [البقرة :89] إلى غير ذلك من الآيات، التي تفيد الحصر، وتقطع الخصم .
الخامسة : قولك، اعلم يا أخي لا علمت مكروهاً، فاعلم : أن هذه كلمة تضاد التوحيد ؛ وذلك : أن التوحيد، لا يعرفه إلا من عرف الجاهلية، والجاهلية، هي : المكروه، فمن لم يعلم المكروه، لم يعلم الحق، فمعنى هذه الكلمة : اعلم لا علمت خيراً، ومن لم يعلم المكروه ليجتنبه، لم يعلم المحبوب ؛ وبالجملة، فهي : كلمة عامية، جاهلية، ولا(1/95)
(ص108) ينبغي لأهل العلم، أن يقتدوا بالجهال .
السادسة : جزمك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اطلبوا العلم، ولو من الصين ؛ فلا ينبغي أن يجزم الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعلم صحته، وهو القول بلا علم، فلو أنك قلت، وروى، أو ذكر فلان، أو ذكر في الكتاب الفلاني، لكان هذا مناسباً ؛ وأما الجزم بالأحاديث التي لم تصح، فلا يجوز، فتفطن لهذه المسألة، فما أكثر من يقع فيها .
السابعة : قولك في سؤال الملكين، والكعبة قبلتي، وكذا، وكذا فالذي علمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما يسألان عن ثلاث : عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كان في هذا عندك رابعة، فأفيدونا ؛ ولا يجوز الزيادة على ما قال الله، ورسوله.
الثامنة : قولك في الإيمان بالقدر، إنه : الإيمان بأن لا يكون صغير، ولا كبير، إلا بمشيئة الله وإرداته، وأن يفعل المأمورات، وترك المنهيات، وهذا غلط، لأن الله سبحانه، له الخلق، والأمر، والمشيئة، والإرادة ؛ وله الشرع، والدين ؛ إذا ثبت هذا، ففعل المأمورات، وترك المنهيات،
هو : الإيمان بالأمر، وهو الإيمان بالشرع، والدين ؛ ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر .
التاسعة : قولك، الآيات التي في الاحتجاج بالقدر،(1/96)
(ص109) كقوله تعالى: ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) [ الآية النحل :35]ثم قلت : فإياك والافتداء بالمشركين، في الاحتجاج على الله، وحسبك من القدر : الإيمان به ؛ فالذي ذكرناه، في تفسير هذه الآيات، غير معنى الذي أردت، فراجعه، وتأمله بقلبك، فإن اتضح لك، وإلا فراجعني فيه، لأنه كلام طويل.(1/97)
(ص110) وسئل أيضاً : الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن معنى هذه الأبيات :
أول واجب على الإنسان معرفة الإله باستيقان
فأجاب : تمام الكلام، يعين على فهم معناه .
أول واجب على الإنسان ... ... معرفة الإله باستيقان
والنطق بالشهادتين اعتبرا ... ... لصحة الإيمان ممن قدرا ...
إن صدق القلب وبالأعمال ... ... يكون ذا نقص وذا إكمال
فذكر في هذا الكلام : خمس مسائل، من مسائل، من مسائل العقائد، التي يسمونها أصول الدين .
الأولى : اختلف في أول واجب، فقيل : النظر ؛ وقيل : القصد إلى النظر ؛ وقيل : المعرفة .
الثانية : هل يكتفي في مسائل الأصول بالتقليد ؟ أو غلبة الظن ؟ أو لا بد من اليقين ؟ فذكر : أن الواجب في معرفة الله، هو : اليقين .
الثالثة : هل يشترط في الواجب، النطق بالشهادتين ؟ أو يصير مسلماً بالمعرفة ؟ فذكر : أنه لا يصير مسلماً إلا ّ بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم، ومن تبعه ؛ وقد أفتى(1/98)
(ص111) الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال : إنه يصير مسلماً بالمعرفة، وتفرع على هذه مسائل ؛ منها : من دعي إلى الصلاة فأبي، مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفراً ؟ أو حداً ؟ ومن قال : يقتل حداً، من رأى : أن هذا أصل المسألة
الرابعة : أن ابن كرام، وأتباعه، يقولون : إن الإيمان، قول باللسان، من غير عقيدة القلب، مع أنهم يوافقون أهل السنة، أنه مخلد في النار، فذكر أنه : لا بد مع النطق بتصديق القلب .
الخامسة : المسألة المشهورة، هل الأعمال من الإيمان ؟ ويزيد وينقص بها ؟ أم ليست من الإيمان ؟ والمخالف في ذلك : أبو حنيفة، ومن تبعه، الذين يسمون مرجئة الفقهاء، فرجح الناظم، مذهب السلف : أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية .
إذا ثبت هذا، فكل هذه المسائل واضحة، إلا المسألة الأولى، المسؤول عنها، وهي : معرفة الإلّه، ما هي ؟ فينبغي التفظن لهذه، فإنها أصل الدين ؛ وهي : الفارقة بين المسلم، والكافر ؛ وأصل هذا قوله تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين ) [الزخرف:36] وذكر الرحمن، هو : القرآن ؛ فلما طلبوا الهداية من غيره، أضلهم الله، وقيض لهم الشيطان، فصدهم عن أصل(1/99)
(ص112) الأصول، ومع هذا : يحسبون أنهم مهتدون .وبيان ذلك : أنه ليس المراد معرفة الإلّه، الإجمالية، يعنى : معرفة الإنسان، أن له خالقاً، فإنها ضرورية فطرية ؛ بل معرفة الإله : هل هذا الوصف، مختص بالله ؟ لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل ؟ أم جعل لغيره قسط منه ؟! فأما المسلمون، أتباع الأنبياء، فإجماعهم على أنه مختص، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلٌه إلاّ أنا فاعبدون ) [الأنبياء:25] .
والكافرون يزعمون : أنه هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده ؛ والمتكلمون ممن يدعى الإسلام، لكن أضلهم الله عن معرفة الإله ،فذكر عن الأشعرى، ومن تبعه : أنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقررنا بذلك، فهي معني قوله : لا إلٌه إلا الله ؟ ثم استحوذ عليهم الشيطان، فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات، فنفوها، وسموا من أثبتها مجسماً .
ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة، منها : أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات ؛ وأن معنى الإله : هو المعبود ؛ فإذا كان هو سبحانه متفرداً به، عن جميع المخلوقات، وكان هذا وصفاً صحيحاً، لم يكذب الواصف به، فهذا يدل على الصفات، فيدل على العلم العظيم، والقدرة العظيمة ؛ وهاتان الصفتان : أصل جميع الصفات، كما قال تعالى : ( الله الذي(1/100)
(ص113) خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء عليماً ) [الطلاق:12].
فإذا كان الله قد أنكر عبادة، من لا يملك لعباده نفعاً ولا ضراً، فمعلوم : أن هذا يستلزم بحاجة العباد ناطقها، وبهيمها ؛ ويستلزم : القدرة على قضاء حوائجهم ؛ ويستلزم الرحمة الكاملة، واللطف الكامل، وغير ذلك من الصفات ؛ فمن أنكر الصفات، فهو معطل ؛ والمعطل : شر من المشرك ؛ ولهذا كان السلف، يسمون التصانيف، في إثبات الصفات : كتب التوحيد، وختم البخاري صحيحه بذلك، قال : كتاب التوحيد ؛ ثم ذكر الصفات باباً .
فنكتة المسألة : أن المتكلمين يقولون : التوحيد لا يتم إلاّ إنكار الصفات ؛ فقال أهل السنة : لا يتم التوحيد إلاّ بإثبات الصفات وتوحيدكم،(1/101)
(ص114) هو : التعطيل ؛ ولهذا آل هذا القول لبعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى، كما هو مذهب ابن عربي، وابن الفارض، وفئام من الناس، لا يحصيهم إلا ّ الله فهذا بيان لقولك هل مراده الصفات ؟ أو الأفعال ؟ فبين السلف : أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات فلا تكون إلاّ بإثبات الصفات والأفعال فتبين إن منكر الصفات، منكر بحقيقة الألوهية، لكن لا يدري، وبين لك : أن من شهد أن لا إلّه إلا ّ الله، صدقاً من قلبه، لا بد أن يثبت الصفات، والأفعال، ولكن العجب العجاب : ظن إمامهم الكبير، أن الألوهية، هي القدرة وأن معنى قولك : لا إلٌه إلا ّ الله ؛ أي: لا يقدر على الخلق إلا ّ الله !
إذا فهمت هذا : تبين لك عظم قدرة الله، على إضلال من شاء مع الذكاء، والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس، ولا قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وهلم جرا، كما قال شيخ الإسلام، في آخر الحموية : أتوا الزكاة، وما أتوا زكاء، وأتوا علوماً، وما أتوا فهوماً، وأتوا سمعاً، وأبصاراً، وأفئدة ( فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذا كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) [الأحقاف:26] والله أعلم .(1/102)
(ص115) وله رحمه الله، ما نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام، ورحمة، الله ،وبركاته ؛ وبعد :قال الله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) [آل عمران:19] وقال تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الآية: [ آل عمران:85 ] وقال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [المائدة:3] قيل : إنها آخر آيه نزلت ؛ وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، لجبريل عليه السلام، وبناه أيضاً : على خمسة أركان وتضمن كل ركن علماً، وعملاً، فرضاً، على كل ذكر وأنثى، لقوله : لا ينبغي لأحد يقدم على شيء، حتى يعلم حكم الله فيه، فاعلم : أن أهمها، وأولها، الشهادتان، وما تضمنتا، من النفي، والإثبات، من حق الله على عبيده ومن حق الرسالة على الأمة ، فإن بان لك شيء من ذلك، ما ارتعت، وعرفت : ما الناس فيه من الجهل، والغفلة والإعراض، عما خلقوا له ؛ وعرفت : ما هم عليه، من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوى، وعرفت : أنهم بنوا دينهم، على ألفاظ، وأفعال أدركوا عليها أسلافهم نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير(1/103)
(ص116) ويؤيد ذلك : أن الولد إذا بلغ عشر سنين، غسلوا له أهله وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك، ومات عليه، أتظن من كانت هذه حاله، هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول، رائحة ؟ فما ظنك به إذا وضع في قبره ؟! وأتاه الملكان، وسألاه عما عاش عليه من الدين ؟ بما يجيب ؟ هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ؛ وما ظنك : إذا وقف بين يدي الله تعالى، وسأله : ماذا كنتم تعبدون ؟ وبماذا أجبتم المرسلين ؟ بماذا يجيب ؟ رزقنا وإياك علماً نبوياً، وعملاً خالصاً في الدنيا، ويوم نلقاه آمين .
فانظر : يا رجل، حالك، وحال أهل هذا الزمان، أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف، والعادة، وما جاز عند أهل الزمان، والمكان، دانوا به، وما لا، فلا ؛ فأنت، وذاك ؛ وإن كانت نفسك عليك عزيزة، ولا ترضى لها بالهلاك، فالتفت لما تضمنت أركان الإسلام، من العلم، والعمل، خصوصاً : الشهادتان، من النفي، والإثبات، وذلك : ثابت من كلام الله، وكلام رسوله .
قيل : إن أول آية نزلت، قوله تعالى، بعد ( اقرأ ) : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر ) قف عندها، ثم قف، ثم قف، ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس، من أصل الأصول ؛ وكذلك قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ) [ الآية : النحل:36].(1/104)
(ص117) وكذلك قوله تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهَه هواه ) [الآية: الجاثية:23] وكذلك قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) الآية [التوبة:31]وغير ذلك من النصوص، الدالة على حقيقة التوحيد، الذي هو مضمون ما ذكرت، في رسالتك، أن الشيخ محمد : قرر لكم ثلاثة أصول، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام .
ولكن قف عند هذه الألفاظ، واطلب ما تضمنت : من العلم، والعمل ؛ ولا يمكن في العلم : إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل الطاغوت، تجد سليمان، والمويس، وعريعر، وأبا ذراع، والشيطان رئيسهم ؛ كذلك قف عند الأرباب منهم، تجدهم العلماء، والعباد، كائناً من كان، إن أفتوك بمخالفة الدين، ولو جهلا منهم فأطعتهم .
كذلك قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) [البقرة:165] يفسرها قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ) [الآية : التوبة:24] كذلك قوله تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلههَ هواه ) [الجاثية:23] وهذه : أعم مما قبلها، وأضرها، وأكثرها وقوعاً ؛ ولكن أظنك، وكثير من أهل الزمان : ما يعرف من الآلهة المعبودة، إلا هبل، ويغوث، ويعوق، ونسراً، واللات، والعزى، ومناة ؛ فإن جاد فهمه، عرف : أن(1/105)
(ص118) المقامات المعبودة اليوم، من البشر والشجر، والحجر، ونحوها ؛ مثل شمسان، وإدريس، وأبو حديدة، ونحوهم منها
هذا : ما أثمر به الجهل، والغفلة، والإعراض عن تعلم دين الله ورسوله ؛ ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس : إن بنيا تحرمه، وعيالهم، يعرفون التوحيد، فضلاً عن رجالهم .
وأيضاً : تعلم معنى لا إلَه إلاّ الله بدعة، فإن استغربت ذلك مني، فأحضر عندك جماعة، واسألهم : عما يسألون عنه في القبر، هل تراهم يعبرون عنه لفظاً وتعبيراً ؟! فكيف إذا طولبوا بالعلم والعمل ؟ هذا ما أقول لك ؛ فإن بان لك شيء : ارتعت روعة صدق، على ما فاتك من العلم والعمل في دين الإسلام، أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك، من تجهيلنا جماعتك ؛ ولكن هذا حق حاشية قوله حق : أي جزاء من أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله ورسوله ويبغضه ويصدّ عنه مهما أمكن ؟!
فلما عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له : أحب عن دينك، وجادل دونه، وانقطعت حجته، أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب، هو دين الله ورسوله ؛ قيل له : فالذي(1/106)
(ص119) عليه أهل حرمة ؟ قال : هو دين الله ورسوله ؛ كيف يجتمع هذا : وهذا، في قلب رجل واحد ؟! فكيف بجماعات عديدة، بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة، ما هو معروف ؟! حتى إن كلاً منهم : شهر السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكل منهم يدعى صحة دينه، ويطعن في دين الأخر ! نعوذ بالله من سوء الفهم، وموت القلوب، أهل دينين مختلفين، وطائفتان يقتتلون، كل منهم على صحة دينه، ومع هذا : يتصوران الكل دين صحيح، يدخل من دان به الجنة، سبحانك هذا بهتان عظيم، فكيف والناقد بصير ؟!
فيا رجل : ألق سمعك لما فرض الله عليك، خصوصاً الشهادتان، وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغتر باللفظ والفطرة، وما كان عليه أهل الزمان والمكان، فتهلك ؛ فاعلم : أن أهم ما فرض الله على العباد : معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه ؛ ومدبره، بإرادته ؛ فإذا عرفت هذا فانظر : ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية، بالمحبة والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتأله، المتضمن : للذل والخضوع، لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة، ولذلك : يعرف عباده، بتقرير ربوبيته، ليرتقوا بها إلى معرفة آلَهيته، التي هي مجموع عبادته على مراده، نفياً وإثباتاً، علماً وعملاً جملة وتفصيلاً .(1/107)
(ص120) وقال أيضاً : الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله :
الواجب عليك : أن تعرف خمس مسائل، الأولى : أن الله لما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق : أن أول كلمة أرسله الله بها، قوله تعالى : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر ) ومعنى قوله : ( فأنذر ) الإنذار عن الشرك بالله، وكانوا يجعلونه ديناً، يتقربون به إلى الله تعالى، مع أنهم يفعلون من الظلم، والفواحش، ما لا يحصى، ويعلمون أنه معصية .
فمن فهم فهماً جيداً : أن الله أمره بالإنذار عن دينهم الذي يتقربون به إلى لله قبل الإنذار عن الزنا، أو نكاح الأمهات والأخوات، وعرف الشرك الذي يفعلونه، رأى العجب العجاب، خصوصاً : إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم، لقوله تعالى : (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) [الزمر:8] .
الثانية : أنه لما أنذرهم عن الشرك، أمرهم بالتوحيد، الذي هو : إخلاص الدين لله ؛ وهو معنى قوله تعالى : ( وربك فكبر ) يعني : عظمه بالإخلاص، وليس المراد تكبير الأذان وغيره، فإنه لم يشرع إلا ّفي المدينة، فإذا عرف الإنسان : أن ترك الشرك لا ينفع إلا إذا لبس ثوب الإخلاص ،(1/108)
(ص121) وفهم الإخلاص فهماً جيداً، وعرف ما عليه كثير من الناس، من ظنهم أن الإخلاص، وترك دعوة الصالحين : نقص لهم كما قال النصارى : إن محمداً يشتم عيسى، لما ذكر أنه عبد الله ورسوله، ليس يعبد مع الله تعالى .
فمن فهم هذا : عرف غربة الإسلام، خصوصاً : إن أحضر بقلبه، ما فعل الذين يدعون أنهم من العلماء، من معاداة أهل هذه المسألة، وتكفيرهم من دان بها، وجاهدهم، مع عباد قبة أبي طالب، وأمثالها ؛ وقبة الكواز، وأمثالها ؛ وفتواهم لهم : بحل دمائنا، وأموالنا، لتركنا ما هم عليه ؛ ويقولون : إنهم ينكرون دينكم، فلا تعرف هذه، والتي قبلها، إلا بإحضارك في ذهنك، ما علمت أنهم فعلوا مع أهل هذه المسألة، وما فعلوا مع المشركين ؛ فحينئذ : تعرف أن دين الإسلام، ليس بمجرد المعرفة، فإن إبليس، وفرعون، يعرفونه، وكذلك اليهود، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإنما الإسلام، هو : العمل بذلك . والحب والبغض، وترك مولاة الآباء، والأبناء في هذا .
الثالثة : أن تحضر بقلبك : أن الله سبحانه، لم يرسل الرسول، إلا ليصدق ويتبع، ولم يرسله ليكذب، ويعصى ؛ فإذا تأملت : إقرار من يدعي أنه من العلماء بالتوحيد، وأنه دين الله ورسوله، لكن من دخل فيه، فهو من الخوارج، الذين تحل دماؤهم، ومن أبغضه، وسبه، وصد الناس عنه(1/109)
(ص122) فهو الذي على الحق، وكذلك إقراهم بالشرك، وقولهم : ليس عندنا قبة نعبدها، بل جهادهم : الجهاد المعروف، مع أهل القباب، وأن من فارقهم، حل ماله ودمه .
فإذا عرف الإنسان هذه المسألة الثالثة كما ينبغي، وعرف : أنه اجتمع في قلبه ولو يوماً واحداً، أن قلبه قبل كلامهم : أن التوحيد دين الله ورسوله، ولكن لابد من بغضه، وعداوته، وأن ما عليه أهل القباب، هو الشرك، ولكنهم هم السواد الأعظم، وهم على الحق، ولا يقول : إنهم يفعلون، فاجتماع هذه الأضداد في القلب، مع أنها أبلغ من الجنون، فهي : من أعظم قدرة الله تعالى، وهي : من أعظم ما يعرفك بالله، وبنفسك ؛ فمن عرف نفسه، وعرف ربه، تم أمره، فكيف إذا علمت أن هذين الضدين اجتمعا في قلب صالح ؟ وحيوان ؟ وأمثالهما أكثر من عشرين سنة .
الرابعة : أنك تعلم أن الله أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) [الزمر:65] مع أنهم راوده، على قول كلمة، أو فعل مرة واحدة، ووعدوه : أن ذلك يقودهم إلى الإسلام، فقد ترى، بل إذا عرفت : أن أعظم أهل الإخلاص، وأكثرهم حسنات، لو يقول كلمة الشرك، مع كراهيته لها، ليقود غيره بها إلى الإسلام : حبط عمله، وصار من الخاسرين .(1/110)
(ص123) فكيف بمن أظهر أنه منهم، وتكلم بمائه كلمة، لأجل تجارة، أو لأجل أنه يحج، لما منع الموحدون من الحج، كما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى فتح الله مكة، فمن فهم هذا فهماً جيداً، انفتح له معرفة : قدر التوحيد عند الله عزجل، وقدر الشرك ؛ ولكن إن عرفت هذه بعد أربع سنين فنعماً لك، أعني المعرفة التامة، كما تعرف : أن الفطرة من البول تنقض الوضوء الكامل، إذا خرجت، ولو بغير اختياره
الخامسة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الإيمان بما جاء به كله، لا تفريق فيه، فمن آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو كافر حقاً، بل لابد من الإيمان بالكتاب كله، فإذا عرفت : أن من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيراً من المحرمات، لكن لا يورثون المرأة، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو يورثها أحد عندهم، ويخلف عادتهم، أنكرت قلوبهم ذلك، أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها، مع علمه بقول الله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) [الطلاق:1] ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها عنه، هو : الذي ينبغي فعله ؛ وأنكر : التحية بالسلام، مع معرفة أن الله شرعه، حباً لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر، لأنه آمن ببعض وكفر ببعض، بخلاف من عمل المعصية، أو ترك الفرض، مثل فعل الزنا، وترك بر الوالدين، مع اعترافه أنه مخطيء، وأن أمر الله، هو / الصواب .(1/111)
(ص124) واعلم . أني مثلت لك بهذه الثلاث، لتحذو عليها، فإن عند الناس من هذا كثير، يخالف ما حد الله في القرآن، وصار المعروف عندهم : ما ألفوه عند أهليهم، ولو يفعل أحد ما ذكر الله، ويترك العادة، لأنكروا عليه، واستسفهوه، بخلاف من يفعل أو يترك، مع اعترافه بالخطأ، وإيمانه بما ذكر الله .
واعلم : أن هذه المسألة الخامسة، من أشد ما على الناس خطراً في وقتنا، بسبب غربة الإسلام، والله أعلم .(1/112)
(ص125) وقال أيضاً : الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدّس الله روحه، ويجب علينا أربع مسائل، الأولى : العلم ؛ وهو : معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ؛ الثانية : العمل به ؛ الثالثة : الدعوة إليه ؛ الرابعة : الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
( والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) قال الشافعي، رحمه الله تعالى، لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ؛ وقال البخاري، رحمه الله تعالى : باب : العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إلَه إلاّ الله واستغفر لذنبك ) [محمد:19] فبدأ بالعلم، قبل القول والعمل .
اعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة، تعلم هذه المسائل، والعمل بهن .
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً(1/113)
(ص126) وبيلاً ) [المزمل:15-16].
الثانية : أن الله لا يرضي أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ؛ والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18].
الثالثة : أن من أطاع الرسول، ووحّد الله، لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) [المجادلة:22] .
اعلم أرشدك الله لطاعته :أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) [الذاربات :56]ومعنى يعبدون : يوحدون وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو : دعوة غيره معه ؛ والدليل قوله تعالى : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [ النساء : 26 ](1/114)
(ص127) فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم
فإذا قيل لك : من ربك : فقل ربي الله الذي رباني، ورب جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) وكل ما سوى الله عالم . وأن واحد من ذلك العالم .
وإذا قيل لك : بم عرفت ربك ؟ فقل : أعرفه بآياته ومخلوقاته ؛ ومن آياته : الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومن مخلوقاته : السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ؛ والدليل قوله تعالى : (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) وقوله تعالى : (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . [ الأعراف : 54]
والرب، هو : المعبود، والدليل قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) إلى قوله تعالى : ( فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون ) (البقرة 21-22) قال ابن كثير رحمه الله(1/115)
(ص128) تعالى : الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة .
وأنواع العبادة التي أمر الله بها، مثل : الإسلام، والإيمان الإحسان ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة،، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها، والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن 18]
فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله، فهو مشرك كافر ؛ والدليل قوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ). [ المؤمنون : 117]
وفي الحديث : " الدعاء مخ العبادة " والدليل قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [ غافر : 60 ] ودليل الخوف قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافون وخافون إن كنتم مؤمنين ) [ آل عمران : 175 ] ودليل الرجاء قوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف 110 ] ودليل التوكل قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )[ المائدة : 23] وقوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق : 3 ] ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً(1/116)
(ص129) ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) [ الأنبياء : 90]
ودليل الخشية قوله تعالى : ( فلا تخشوهم واخشوني )[ البقرة 150] ودليل الإنابة قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )[ الزمر 54] ودليل الاستعانة قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وفي الحديث :" إذا استعنت فاستعن بالله " ودليل الاستعاذة قوله تعالى ( قل أعوذ برب الفلق )، ( قل أعوذ برب الناس )، ( ودليل الاستغاثة قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) .[ الأنفال 9 ]
ودليل الذبح قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له )[ الأنعام 162-163] ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من ذبح لغير الله " ودليل النذر قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) .[ الإنسان 7 ]
الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب : الإسلام، والإيمان، والإحسان ؛ وكل مرتبة لها أركان، فأركان الإسلام : خمسة والدليل من السنة : حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، من استطاع(1/117)
(ص130) إليه سبيلاً، والدليل قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران 85 ]
ودليل الشهادة قوله تعالي : ( شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلَه إلا ّهو العزيز الحكيم ) [ آل عمران 18] ومعناها : لا معبود بحق إلا ّ الله ؛ وحد النفي من الإثبات : لا إلَه نافياً جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني ) [ الزخرف 26-27] وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ).[ آل عمران 64 ]
ودليل شهادة : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )[ التوبة 128 ] ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد، قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا(1/118)
(ص131) الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) [ البينة : 5 ]، ودليل الصيام قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )[ البقرة 183] ودليل الحج قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ). [ آل عمران 97]
المرتبة الثانية : الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه : ستة، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره كله من الله .
والدليل قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر والملائكة والكتاب والنبيين ) [ البقرة 177]ودليل القدر قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر )، [القمر 49]
المرتبة الثالثة : الإحسان، ركن واحد، وهو : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )[ النحل 128] وقوله تعالى : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [ لقمان 22](1/119)
(ص132) وقوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين )[ الشعراء 218- 219 ] وقوله تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ) .[ يونس 61]
والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه، قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال يا محمد : أخبرني عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلاً ؛ قال صدقت " فعجبنا له : يسأله، ويصدقه .
قال : " أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره ؛ قال : صدقت ؛ قال أخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ؛ قال : صدقت قال أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ؛ قال : أخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة، العالة، رعاء الشاء،(1/120)
(ص133) يتطاولون في البنيان " فمضى فلبثنا ملياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عمر : أتدرون من السائل ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ؟ قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " .
الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبيء بإقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة .
بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى : (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) [المدثر 1-7 ] ومعنى : ( قم فأنذر ) ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد ( وربك فكبر ) أي : عظمه بالتوحيد ( وثيابك فطهر ) أي طهر أعمالك عن الشرك ( والرجز فاهجر ) الرجز الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين، يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى(1/121)
(ص134) المدينة، والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي : باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا) [ النساء 97 - 99]
وقوله تعالى : ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون )[ العنكبوت 56] قال البغوي رحمة الله تعالى : سبب نزول هذه الآية في المسلمين، الذين بمكة، لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان ؛ والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم " لنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .
فلما استقر بالمدينة : أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام ؛ أخذ على هذا عشر سنين ؛ وتوفي صلى الله عليه وسلم ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا ّحذرها منه، والخير الذي دل عليه : التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه ؛ والشر الذي حذر عنه : الشرك بالله، وجيمع ما يكرهه الله ويأباه .
بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع(1/122)
(ص135) الثقلين، الجن والإنس، والدليل قوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) [ الأعراف 158 ] وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )[ المائدة 3 ] والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) .[ الزمر 30]
والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )[ طه 55 ] وقوله : ( والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً )[ نوح 17-18 ]ٍ وبعد البعث محاسبون، ومجزيون بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والدليل قوله تعالى : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى )[ النجم 31 ] ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنببؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ) [ التغابن 7 ]
وأرسل الله جميع الرسل : مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )[ النساء 165 ] وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده، والدليل قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [ الأحزاب 40 ] .(1/123)
(ص136) والدليل : على أن أولهم نوح عليه السلام، قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) [ النساء 163 ] وكل أمة : بعث الله إليها رسولاً، من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله، ويناهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل 36 ] .
وافترض الله على جميع العباد : الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، قال ابن القيم : رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت : ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع .
والطواغيت كثيرة، ورؤسهم، خمسة، إبليس لعنه الله، ومن عبده وهو راض، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله ؛ والدليل قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [ البقرة 256 ] وهذا : معنى لا إلَه إلا ّ الله، وفي الحديث : " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه(1/124)
(ص137) وقال أيضاً الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى : اعلم رحمك الله : أن أول ما أوجب الله تعالى على عبده الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله ؛ والدليل قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )[ البقرة 256 ]، والطواغيت كثيرة والمتبين لنا منهم خمسة : أولهم الشيطان، وحاكم الجور، وآكل الرشوة، ومن عبد فرضي، والعامل بغير علم .
واعلم : أن التوحيد في العبادة، هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وأنزل الكتاب لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وهو أصل الدين، الذي لا يستقيم لأحد إسلام إلا به، ولا يغفر لمن تركه، وأشرك بالله غيره كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء 48 ] .
والتوحيد نوعان : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية، فهو الذي أقرت الكفار به، ولم يكونوا به مسلمين، وهو الإقرار بأن الله الخالق الرزاق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) ] يونس 31 ] .
وأما توحيد الألوهية : فهو إخلاص العبادة كلها بأنواعها(1/125)
(ص138) لله، فلا يدعى إلاّ الله، ولا يرجى إلاّ هو، ولا يستغاث إلا ّ به، ولا يتوكل إلا عليه، والدليل عليه : الآيات الكريمات ولا ينذر إلاّ له ولا يذبح ذبح القربات إلاّ له وحده لا شريك له والدليل على ذلك الآيات الكريمات ؛ وهذا : هو معنى لا إلَه إلا ّ الله، فإن إلا له، هو المألوه، والمعبود ؛ فمن جعل الله إلهه وحده، وعبده دون من سواه من المخلوقين، فهو المهتدى .
ومن قاسيه بغيره، وعبده وجعل له شيئاً مما تقدم، من أنواع العبادة، كالدعاء، والذبح، والنذر، والتوكل، والاستغاثة، والإنابة، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وأشرك مع الله إلَها غيره، فصار من المشركين، الذين قال الله فيهم : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء )[ النساء 48 ] وفى الآية الأخرى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ المائدة 72 ]
وان قيل لك : أي شيء أنت مخلوق له ؟ فقل للعبادة والدليل قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) أي : يوحدون ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )[ الذاريات 56-58 ] وقوله تعالى : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا ّ إياه وبالوالدين إحسانا )[ الإسراء 23] .
وإن قيل لك من ربك ؟ فقل : ربي الله، والدليل قوله .(1/126)
(ص139) تعالى : ( وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) [ مريم 26]ودليل آخر قوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب )[ الشورى 10] .
فإذا قيل لك : بم تعرفه أنه ربك، ومعبودك، من دون من سواه ؟ فقل : بمخلوقاته، وآياته، كالسماوات والأرض، والليل والنهار والشمس والقمر، وخلقه لي، وتصويره جسدي، والدليل عليه قوله تعالى : ( إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف 54].
وإن قيل لك : ما دينك ؟ فقل : ديني الإسلام، والإسلام هو : الاستسلام والانقياد لله وحده، والدليل عليه، قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام )[آل عمران 19 ] ودليل آخر قوله تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )[ آل عمران 85] ودليل آخر قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [ المائدة 31 ].
وهو : مبنى عل خمسة أركان أولها شهادة أن لا إلَه(1/127)
(ص140) إلا ّ الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ً.
والدليل : على الشهادة، قوله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )[ آل عمران 8 ] والدليل : على أن محمدا عبده ورسوله، قوله وتعالى : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً )[ الفرقان 1] ودليل آخر قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) . الآية [ الإسراء 1 ]
ودليل، الصلاة، والزكاة، قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) [ البينة: 5]
وإذ قيل لك : إن الصلاة فرض عين على كل مسلم ؟ فقل : نعم؟ والدليل قوله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ) [النساء 103]، ودليل أن الزكاة فرض عين : على من ملك ما تجب فيه، قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم )[ التوبة 103] . ودليل : الصوم، قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [ البقرة 183](1/128)
(ص141) والدليل : على أن الصوم في شهر رمضان، قوله تعالى ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى أو الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) [ البقرة185 ]، والدليل على أن الصوم في النهار، قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) [ البقرة187].
ودليل الحج : قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ًومن كفر فإن الله غني عن العالمين )[آل عمران 97 ] والاستطاعة تحصل، بثلاثة شروط : صحة البدن، وأمن الطريق، ووجود الزاد، والراحلة .
وإذا قيل لك : وما الإيمان ؟ فقل : هو أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل قوله تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) إلى آخر الآية ( البقرة 285) .
وإذا قيل لك : وما الإحسان ؟ فقل : هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل عليه قوله : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [ النحل 128].
وإذا قيل لك : من نبيك ؟ فقل : نبي محمد صلى الله عليه وسلم بن .(1/129)
(ص142) عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانة، وكنانة من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وإسماعيل من نسل إبراهيم، وإبراهيم : من ذرية نوح، عليهم الصلاة السلام .
عمره : ثلاث وستون سنة، بلده مكة، أقام فيها قبل النبوة وأربعين سنة، وبعدها : نبى، وأقام في مكة بعد النبوة، ثلاث عشرة سنه، وهاجر إلى المدينة، وأقام فيها بعد الهجرة عشر سنين، وبعدها : توفي في المدينة، ودفن فيها، صلوات الله وسلامه عليه ؛ نبىء باقرأ، وأرسل بالمدثر : ( يا أيّها المدّثر، قم فأنذر، وربّك فكبر )[ المدثر 1-3 ] .
وإذا قيل لك : ما الدليل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قيل : هذا القرآن، الذي عجزت جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يستطيعوا ذلك، مع فصاحتهم، وشدة حذاقتهم، وعداوتهم له، ولمن اتبعه، والدليل عليه قوله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين )[ البقرة 23 ] وفى الآية الأخرى، قوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )[الإسراء: 88] .
والدليل : على أنه رسول الله، قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم(1/130)
(ص143) على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين )[آل عمران 144] ودليل آخر قوله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً ) [ الفتح 29 ] .
والدليل : على النبوة، قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين )[ الأحزاب :40] : وهذه الآيات : تدل على أنه نبي وأنه خاتم الأنبياء، والدليل : على أنه من البشر، قوله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )[ الكهف 110] .
وأول الرسل : نوح، وآخرهم، وأفضلهم : محمد صلى الله عليه وسلم، وما من أمة من الأمم : إلا وبعث الله فيها رسولاً يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )[ النحل 36 ] وقال تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [فاطر:24]وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )[ الإسراء 15]، وأعظم ما أمروا به : توحيد الله بعبادته، وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له ؛ وأعظم ما نهوا عنه : الشرك في العبادة .(1/131)
(ص144) وقال أيضاً : الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ما الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين ؟ وما الذي عابه على قومه، وبني عمه، وأنكروه ؟ وهل ينكرون الله ؟ أم يعرفونه ؟ فأما الذي أمرهم به، فهو : عبادة الله وحده لا شريك له، وأن لا يتخذوا مع الله إلهاً آخر ؛ ونهاهم عن عبادة المخلوقين، من الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والحجر، والشجر، كما قال الله تعالي : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا ّ أنا فاعبدون ) [ الأنبياء 25 ] وقوله تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمه رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل 36 ] وقوله تعالى : ( واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )[الزخرف 45] وقوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )[ الذريات 56] .
فليعلم بذلك : أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، ويوحدوه ؛ وأرسل الرسل إلى عباده، يأمرونهم بذلك .
وأما الذي أنكرناه عليهم، وكفرناهم به، فإنما هو : الشرك بالله، مثل أن تدعو نبياً من الأنبياء، أو ملكاً من الملائكة، أو تنحر له أو تنذر له، أو تعتكف عند قبره، أو تركع بالخضوع والسجود له، أو تطلب منه قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات، فهذا شرك قريش، الذي كفرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم عند هذا ؛ وإلا لم يقل أحد من(1/132)
(ص145) الكفار : أن أحداً يخلق، أو يرزق، أو يدبر أمراً، بل كلهم يقرون : أن الفاعل لذلك هو الله، وهم يعرفون الله بذلك، قال الله تعالى حاكياً عنهم : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض )[ يونس 31] وقال : ( قل لمن الأرض ومن فيها )الآيات[ 84-89] وقال : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر) [العنكبوت 61 ] .
وهذا الإقرار : لم يدخلهم الإسلام، ولا أوجب الكف عن قتالهم، وتكفيرهم ؛ إنما كفرهم بما اعتقدوا فيما ذكرنا، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والأنبياء، والجن، والكواكب، والتماثيل المصورة على قبورهم، ويقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )[ الزمر 3 ] ( ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [يونس 18 ] .
فبعث الله الرسل تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) كما أنتم عبيدي إلى قوله : ( إن عذاب ربك كان محذوراً ) [الإسراء:56-57]قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون المسيح، وعزيراً، والملائكة، فقال الله لهم : هؤلاء عبيدي ،كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي، كما ترجونها، ويخافون عذابي، كما تخافونه .(1/133)
(ص146) إذا عرف المؤمن : أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم، يعرفون الله، ويخافونه، ويرجونه، وإنما دعوا هؤلاء للقرب والشفاعة، وصار هذا كفراً بالله، مع معرفتهم بما ذكرنا، فيعلم إن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، أن الواجب عليه : التبري من هذا، وإخلاص الدين لله، والكفر به وبمن عمله، والإنكار على من فعله، والبغض والعداوة له، ومجاهدته حتى يصير الدين كله لله، كما قال : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله ) الآية [الممتحنة:4].
وفي الحديث : " أوثق عرى الإيمان : الحب في الله، والبغض في الله " وفي الحديث :" المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " ولا تصدق في أحد إلا ّبما سمعت، أو نقله من لا يكذب، وانصحه إذا بلغك عنه شيء، قبل أن تنكر عليه، خصوصاً ممن تعرف منه، حباً للدين، موافقاً عليه، مجاهداً فيه، والله الهادي، والحمد لله رب العالمين .
وطلب الأمير : عبد العزيز بن محمد بن مسعود، من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين، فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها .(1/134)
(ص147) بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . أما بعد : فاعلموا وفقكم الله لمراضيه، وجنبكم طريق معاصيه، أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة : معرفة ثلاثة أصول، والعمل بهن .
الأصل الأول : في معرفة العبد ربه، فإذا قيل لك : أيها المسلم من ربك ؟ فقل. ربي الله الذي رباني بنعمته، وخلقني من عدم إلى وجود، والدليل قوله تعالى : ( وإن الله ربي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) [مريم:36] أو إذا قيل لك : بأي شيء عرفت ربك ؟ فقل : بآياته ومخلوقاته ؛ فأما الدليل على آياته، فهو قوله تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) [فصلت:37] وأما الدليل على مخلوقاته فهو قوله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) الآية [الأعراف:54] .
وإذا قيل لك : لأي شيء خلقك الله ؟ فقل : خلقني لعبادته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، فدليل العبادة، قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات:56]ودليل الطاعة، قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم(1/135)
(ص148) في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [النساء:59] يعني كتاب الله، وسنة نبيه .
وإذا قيل لك : أي شيء أمرك الله به ؟ وأي شيء نهاك عنه ؟ فقل : أمرني بالتوحيد، ونهاني عن الشرك، ودليل الأمر قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) [الآية: النحل:90] ودليل النهي، قوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء:48] ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [المائدة:72] .
الأصل الثاني : في معرفة دين الإسلام .
فإذا قيل لك : ما دينك ؟ فقل : ديني الإسلام ؛ وهو : الاستسلام، والإذعان، والانقياد إلى طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) [آل عمران:19] ( ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [آل عمران:85] .
وهو : مبني على خمسة أركان ؛ الأول : شهادة أن لا إلَه الا ّالله، وأن محمداً رسول الله . الثاني : إقام الصلاة . الثالث : إيتاء الزكاة . الرابع : صوم رمضان . الخامس : حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً ؛ والسبيل : الزاد والراحلة ,(1/136)
(ص149) فدليل، الشهادة، قوله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله هو العزيز الحكيم ) [آل عمران:18]ودليل : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [الأحزاب:40] ودليل الصلاة، قوله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ) [النساء:103] ودليل : الزكاة، قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) [التوبة:103] .
ودليل : الصوم، قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) [البقرة:183] وإذا قيل لك : الصيام شهر ؟ فقل : نعم ؛ والدليل، قوله تعالى ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [البقرة:185] وإذا قيل لك الصيام في الليل، أو في النهار ؟ فقل : في النهار والدليل قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [البقرة:187] .
ودليل الحج، قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) .
وإذا قيل لك : ما الإيمان ؟ فقل : هو أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره(1/137)
(ص150) وشره كله من الله، والدليل قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [البقرة:285]ودليل القدر، قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر:49] .
وإذا قيل لك ما الإحسان ؟ فقل : هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه، يراك، والدليل قوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [النحل:128].
وإذا قيل لك : منكر البعث كافر ؟ فقل : نعم ؛ والدليل، قوله تعالى : (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) [التغابن:7] .
الأصل الثالث : في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : فإذا قيل لك من نبيك ؟ فقل محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانة، وكنانة من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل، بن إبراهيم، على نبينا، وعليه أفضل الصلاة والسلام .
وإذا قيل لك : من أول الرسل ؟ فقل : أولهم نوح، وآخرهم وأفضلهم : محمد صلى الله عليه وسلم والدليل قوله تعالى : (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) [النساء:163].(1/138)
(ص151) وإذا قيل لك : هل بينهم رسل ؟ فقل : نعم ؛ والدليل قوله تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وإذا قيل لك نبينا محمد بشر ؟ فقل : نعم ؛ والدليل قوله تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) الآية [الكهف:110] .
وإذا قيل لك : كم عمره ؟ فقل ثلاث وستون سنة، منها : أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبىء بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وخرج على الناس، فقال : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ؛ فكذبوه، وآذوه، وطردوه وقالوا : ساحر، كذاب، فأنزل الله عليه : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) [البقرة:23].
وبلده مكة، وولد فيها، وهاجر إلى المدينة، وبها توفي، ودفن جسمه، وبقي علمه، وهو نبي لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع، ويتبع، صلوات الله وسلامه عليه والحمد لله رب العالمين .
وله أيضاً : رحمه الله تعالى :
إذا قيل لك : من ربك ؟ فقل : ربي الله فإذا قيل لك : ايش معنى الرب ؟ فقل : المعبود، المالك، المتصرف(1/139)
(ص152) فإذا قيل لك : ايش أكبر ما ترى من مخلوقاته ؟ فقل : السماوات والأرض، فإذا قيل : لك ايش تعرفه به : فقل : أعرفه بآياته، ومخلوقاته
وإذا قيل لك : ايش أعظم ما ترى من آياته ؟ فقل : الليل، والنهار والدليل على ذلك، قوله تعالى : ( إنّ ربّكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [الأعراف:54] .
فإذا قيل لك : ايش معنى الله ؟ فقل معناها : ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين . فإذا قيل لك : لأي شيء الله خلقك ؟ فقل : لعبادته . فإذا قيل لك : ايش عبادته ؟ فقل : توحيده، وطاعته . فإذا قيل لك ايش الدليل على ذلك ؟ فقل، قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات:56] .
فإذا قيل لك : ايش اول ما فرض الله عليك ؟ فقل كفر بالطاغوت، وإيمان بالله ؛ والدليل على ذلك قوله : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) [البقرة:256].
فإذا قيل لك : ايش العروة الوثقى ؟ فقل : لا إله إلا الله(1/140)
(ص153) ومعنى لا إله : نفي وإلا الله : إثبات . فإذا قيل لك ايش أنت ناف ؟ وايش أنت مثبت ؟ فقل : ناف جميع ما يعبد من دون الله، ومثبت العبادة لله وحده لا شريك له . فإذا قيل لك : ايش الدليل على ذلك ؟ فقل، قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ) هذا دليل النفي ودليل الإثبات إلا الذي فطرني )[الزخرف :26-27].
فإذا قيل لك : ايش الفرق : بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية ؟ فقل : توحيد الربوبية، فعل الرب مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة ،وإنزال المطر، وإنبات النباتات، وتدبير الأمور ؛ وتوحيد الإلهية : فعل العبد، مثل الدعاء، الخوف ،والرجاء، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، والنذر، والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة .
فإذا قيل لك : ايش دينك ؟ فقل : ديني الإسلام، وأصله، وقاعدته : أمران ؛ الأول : الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه وتكفير من فعله وهو بنيّ على خمسة أركان : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت مع الاستطاعة .
ودليل الشهادة، قوله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو(1/141)
(ص154) والملائكة وألوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [آل عمران:18]ودليل : أن محمداً رسول الله قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [الأحزاب:40] .
والدليل : على إخلاص العبادة، والصلاة، والزكاة، قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة ) [البينة:5].
ودليل الصوم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [البقرة:183].
ودليل الحج، قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [آل عمران:97].
وأصول الإيمان : ستة أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وباليوم الأخر ، وبالقدر خيره وشره .
والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك .
فإذا قيل لك : من نبيك ؟ فقل : محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل،
( ص155) على نبينا، وعليه أفضل الصلاة والسلام، بلده مكة، وهاجر إلى المدينة ؛ وعمره : ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبيء بإقرأ، وأرسل بالمدثر .
فإذا قيل لك : والناس إذا ماتوا يبعثون ؟ فقل نعم : والدليل، قوله تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) [طه:55] والذي ينكر البعث : كافر ؛ والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ) [التغابن:7] .(1/142)
وقال فان قيل، فما الجامع لعبادة الله وحده ؟ قلت : طاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ؛ فإن قيل : فما أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله ؟ قلت : من أنواعها، الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، وذبح القربان، والنذر والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والمحبة والخشية، والرغبة والرهبة، والتأله، والركوع، والسجود، والخشوع، والتذلل، والتعظيم الذي هو من خصائص الألوهية .
ودليل الدعاء، قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا الله أحداً ) [الجن :18] .(1/143)
(ص156) وقوله تعالى : (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ) إلى قوله ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد:14] ودليل الاستعانة ودليل الاستغاثة، قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم ) [الأنفال:9] .
ودليل الذبح، قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) [الأنعام :162-163]ودليل النذر، قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا) [الإنسان:7] ودليل الخوف، قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) [آل عمران:175]ودليل الرجاء، قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )[الكهف:110] ودليل التوكل، قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) [المائدة:23] ودليل الإنابة، قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا له ) [الزمر:54] ودليل المحبة، قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ) [البقرة:165] . ودليل الخشية، قوله تعالى : ( فلا تخشوا الناس واخشون )[المائدة:44].(1/144)
(ص157) ودليل الرغبة، والرهبة، قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) [الأنبياء:90] ودليل التأله، قوله تعالى : (وإلهكم إله واحد لا إله هو الرحمن الرحيم )[البقرة:163] ودليل الركوع، والسجود، قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )[الحج:77] ودليل الخشوع، قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ) الآية [آل عمران:199]ونحوها ؛ فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله، فقد أشرك بالله غيره .
فإن قيل : فما أجلُّ أمرٍ أمر الله به ؟ قيل : توحيده بالعبادة، وقد تقدم بيانه ؛ وأعظم نهي نهى الله عنه، الشرك به، وهو : أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك، من أنواع العبادة ؛ فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله : فقد اتخذه ربّاً، وإلهاً، وأشرك مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك، من أنواع العبادة . وقد تقدم، من الآيات : ما يدل على أن هذا هو الشرك، الذي نهى الله عنه، وأنكره على المشركين، وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن(1/145)
(ص158) يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ) [النساء:116] وقال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [المائدة:72] وصلي الله على محمد .
قلت : ولا تستطل ما قرره هذا الإمام الجليل، في هذا الأصل الأصيل، الذي بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وجردت السيوف من أجله، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ؛ فلقد أجاد، وأفاد، ووضح معتقد السلف الصالح، بعد أن باد، وأرخى عنان يراعه، فأبدى، وأعاد، حتى قلع الشرك من نجد، بعد أن شاد، وأطد الإسلام، فاستضاء به الحاضر والباد، وسيمر بك إن شاء الله، ما يثلج الصدر، من محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يمازجه دين الجاهلية .
وقال رحمه الله تعالى :
اعلم رحمك الله : أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النخل:36] وله : خلق الجن والإنس، قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )[الذاريات:56] أي : يوحّدون ؛ دليله قوله تعالى : ( قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ماتعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد) [الكافرون 1-3](1/146)
(ص159) فإذا لم يفعله الإنسان، ويجتنب الشرك، فهو كافر ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار، قال الله تعالى في الأنبياء : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )[ الأنعام 88 ]وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة أو كمن يصوم في شدة : الحر، وهو يزني في أيام الصوم .
إذا عرفت هذا : فأهم ما عليك معرفة التوحيد، قبل معرفة العبادات كلها، حتى الصلاة، ومعرفة الشرك، قبل معرفة الزنا وغيره من المحرمات ؛ إذا علمت أن الله لم يخلقك إلا لذلك ؛ ومن الفرائض اللازمة : تعليمك إياه أهل بيتك، ومن تحت يدك، من امرأة، وبنت، وخادم .
فاعلم، أرشدك الله : أن الشرك، هو الذي ملأ الأرض، ويسمونه الناس الاعتقاد في الصالحين، ويتبين لك هذا بأربع كلمات،الأولى : أنهم يظنون التوحيد : توحيد الله بالنفع، والضر، والخلق، والرزق ؛ فإذا علمت قول الله عز وجل في الكفار : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) [يونس 31] تبين لك جهالة أعداء الله بدين المشركين، وجهالتهم بتوحيد رب العالمين .
الثانية : أنهم يقولون ما ندعوهم إلا لأجل شفاعتهم، فاعلم قول الله تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) فإذا عرفت هذا : تبين لك جهالة أعداء الله .(1/147)
(ص160) الثالثة : أنهم يقولون هذا، فيمن يستشفع بالأصنام، ونحن نستشفع بالصالحين ! فاعرف قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيهم أقرب) الآية [الإسراء 57] لعلك نفهم جهالة أعداء الله، بدين رسول الله .
الرابعة : قول الله تعالى : ( وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) [الإسراء 67 ] وقوله : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون )[العنكبوت 65] إذا علمت هذا، وعلمت ما عليه أكثر الناس : علمت أنهم أعظم كفراً وشركاً من المشركين، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذا تدبرت هذا : تبين لك حرصهم على تكذيب هذا الأمر، وسؤالهم من جاء لأهل البلدان البعيدة، مع كثرة السنين، وطول المدة، ثم رجعوا مقرين : أن قولنا في التوحيد، هو الحق، وقولنا في الشرك، هو الباطل .
فإذا أقروا : أن التوحيد الذي خرجنا به على الناس، هو الذي خرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي نهيناهم عنه، هو الشرك الذي حذر عنه، ولم يبق الإنكار إلا أن من أقر بدين الرسول، ثم عاداه، وصد الناس عنه، وعرف دين المشركين،(1/148)
(ص161) ثم مدحه، ورغب فيه، وأن أهله لا يتيهون، لأنهم السواد الأعظم، فهو واضح، لمن لم يعم الله قلبه، والله أعلم .
وقال أيضاً : اعلم رحمك الله، أن أول ما فرض الله على ابن آدم : الكفر الطاغوت، والإيمان بالله ؛ والدليل قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )[ النحل 36] .
فأما صفة الكفر بالطاغوت : فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم، وأما معنى الإيمان بالله : فأن تعتقد، أن الله هو الإلَه المعبود وحده، دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص، وتواليهم، وتبغض أهل الشرك، وتعاديهم ؛ وهذه : ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها ؛ وهذه : هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده )[ الممتحنة: 4] .
والطاغوت : عام في كل ما عبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت ؛ والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة .(1/149)
(ص162) الأول : الشيطان، الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين )[ يس 60] .
الثاني : الحاكم الجائر، المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً )[ النساء 60] .
الثالث : الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة 44].
الرابع : الذي يدعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) [الجن 26-27 ]، وقال تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا ّهو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقه إلا يعلمها ولا حية في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا ّ في كتاب مبين )[ الأنعام 50] .(1/150)
(ص163) الخامس : الذي يعبد من دون الله، وهو راض بالعبادة والدليل قوله تعالى : ( ومن يقل منهم إني إلهّ من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين )[ الأنبياء 29 ] .
واعلم : أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله، إلاّ بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )[ البقرة 256] الرشد : دين محمد ؛ والغي : دين أبي جهل ؛ والعروة الوثقى : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات . تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له .
وقال رحمه الله تعالى : الواجب عليك أن تعرف إرسال الرسل، ومراد الله في ذلك، وهو مذكور في قوله عز وجل : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) إلى قوله : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )[ النساء 163-165] .
إذا عرفت ذلك، فاعرف : أن حقنا منهم خاتمهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك مذكور في قوله : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً )[ المزمل 15] فإذا عرفت هذا، فالعلم الذي أرسله الله به(1/151)
(ص164) إليك، وأهم ذلك، وأوجبه : أن تعرف أول ما فرضه الله عليك، وذلك في أول ما أنزل الله على رسوله ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر )[المدثر 1-3] فأول ما فرض الله عليك وأول ما فرض على نبيه، أن ينذر عنه : الإشراك بالله .
وأول ما فرض عليك توحيده، فأما الإشراك ففي قوله : ( والرجز فاهجر )، وأما التوحيد ففي قوله : ( وربك فكبر ) إذا عرفت أن هذا رأس أول الفرائض : فاحرص على معرفة التوحيد، لعلك تؤدى أعظم ما فرض الله عليك واحرص على معرفة الإشراك بالله لعلك أن تعرف أعظم ما حرم الله عليك، الذي قال الله فيه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )[ النساء 48] و ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار )[ المائدة 72 ] فتجتنبه، والله أعلم .(1/152)
(ص165) وله أيضاً : رحمه الله تعالى :
المسألة الأولى : أعني هذا الرسول، الذي جعله الله خاتم النبيين، ورحمة للعاملين، هل أمر بإخلاص الدعوة لله، مع جميع العبادات : عن أهل الأرض وأهل السماء ؟ وأوصى أمته يدعون الصالحين، وينذرون لهم، ويتعلقون عليهم ؟! ومعلوم : أنه أمر بإخلاص الدعوة لله، وأمر بتكفير الداعي بغيره، وقتاله ؛ وأدلتها كثيرة، منها : إقرار جميع العلماء، الموافق، والمخالف .
الثانية : إذا صح هذا، وعرف طريق النبي، من طريق المشركين، هل يكفي الإقرار به، ومحبته ؟! أم لا بد من اتباعه، ولو كره المشركون ؛ فإن كان لابد، فمن الإتباع : أنك لا تواد من حاد الله ورسوله، ولو أقرب قريب .
الثالثة : أن من اتباعه، طاعته في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )[ النساء 59] .
الرابعة : من اتباعه طاعته في قوله : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم(1/153)
(ص166) يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون، إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون )[ النور 48-51] والله أعلم
وله أيضاً :
المسألة الأولى : أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاءنا من عند ربنا بالبينات والهدى، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بشيراً ونذيراً، فأول ما أنزل الله عليه : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر ) أراد الإنذار عن الشرك، قبل الإنذار عن الزنا والسرقة، ونكاح الأمهات، فمن أقر بهذا، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، من المشرق إلى المغرب، رأى العجب وفهم المسألة غير فهمه الأول .
المسألة الثانية : أنه لما هدم هذا، وأنذر عنه أخرج الناس من الظلمات إلى النور،وهو التوحيد الذي قال الله فيه : ( وربك فكبر ) أي عظمه بالإخلاص، وليس المراد : تكبير الأذان، والصلاة، فإنه لم يشرع عند نزول الآية .
فمن عرف : أن هذه المسألة أعظم ما أتى بها، وبشر بها، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، عرف قدر : المسألة الثالثة، المعروفة بالضرورة، وهي : أن الله بعثه ليصدق، ويتبع، لا يكذب، ويعصى .
فأما من أقر بالمسألتين، ثم صرح أن من اتبعه في(1/154)
(ص167) التوحيد، خرج من دينه، وحل دمه وماله ؛ ومن صدقه في إنذاره، وأطاعه، وانتذر، خرج من دينه، وحل ماله ودمه، فهذا : مع كونه أبلغ من الجنون، فهو من أعظم آيات الله، وعجائب قدرته، على تقليبه للقلوب، كيف يجتمع في قلب رجل، يشهد أن التوحيد هو دين الله، ويعاديه، ويشهد أن الشرك : هو الكفر، ويواليه، ويذب عن أهله باللسان، والسنان، والمال .
فإن عرف العبد : أن هذا اجتمع في قلبه يوماً واحداً فكيف عشر سنين ؟! فهذا : من أعظم ما يعرفه بالله، وبنفسه، فإن عرف ربه، وعرف نفسه تم أمره .
المسألة الرابعة : معرفة أن محمداً صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الله، أن أفضل الخلق من الملائكة والأنبياء، لو يجري منه الشرك من غير اعتقاد : أنه ممن حبط عمله، وحرمت عليه الجنة ؛ فكيف بغير الأنبياء والملائكة ؟! فهذه المسألة الرابعة، إن عرفتها في أربع سنين فنعماً لك ؛ لكن تعرف : أن المتوضىء ينتقض وضوءه بقطرة بول، مثل رأس الذباب من غير قصد ولكن قل من يعرفها .
المسألة الخامسة : وهي : أن محمداً صلى الله عليه وسلم أخبر خبراً محققاً قطعاً، أنه لا بد من الإيمان بالكتاب كله، فمن آمن ببعضه، وكفر ببعضه، فهو كافر، والله أعلم .(1/155)
(ص168) وله أيضاً :
المسألة الأولى : يعرف الإنسان أن الله لما خلقنا ما تركنا هملاً، بل أرسل إلينا الرسل، أولهم نوح، وآخرهم محمد عليهم السلام، وحقنا منهم خاتمهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن آخر الأمم، وجاءنا بكتاب من عند الله .
المسألة الثانية : أن الذي في الكتاب يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأكبر المعروف، وأوجبه، أول ما فرض الله، وهو : التوحيد : اسم لفعلك إن كانت أعمالك كلها لله فأنت موحد، فإن كان فيها شرك للمخلوق، فأنت مشرك .
المسألة الثالثة : أنك تعرف أن عقب هذا الموت بعث، وجنة ونار، فالذي اتبع ما عليه الرسول في هذا الدين له الجنة، والذي ما أطاعه أو ما رفع رأساً لما جاء به فهو في النار، وهذه المسائل : هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره، فإن كان ما عرفها ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو يجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فالواجب على الإنسان : أن يخاف النار، ويرجو الجنة ؛ والله المستعان .
وقال رحمه الله تعالى : اعلم رحمك الله أن أهم ما عليك معرفة الرسالة، التي أرسل الله إليك، فإنها أصل العلم وقاعدته ؛ فتأمل قوله تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ البقرة 381](1/156)
(ص169) وقوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب الأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً، ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً، رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً )[ النساء 163-165] .
وأما معرفة حقنا من الرسل، ففي قوله : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )[ المزمل 15-16] فإن فهمت هذا فهماً جيداً : هان عليك معرفة دينك، ولكن لا يعرفه معرفة دينك، ولكن لا يعرفه معرفة جيدة إلا من عرف حال أكثر الناس، أنهم تبع لأهل زمانهم ولم يسألوا عن هذا الأمر العظيم، الذي قال الله فيه : ( قل هو نبأ عظيم، أنتم عنه معرضون )[ ص 67-68 ] وقوله : ( عم يتساءلون، عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون ) [ النبأ 1-2 ].
وذكر رحمه الله مسائل :
الأولى : أن تعرف أن طلب العلم فريضة، على كل ذكر وأنثى، كما قال تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي )[ طه 123-127] الثانية : أنك إذا أردت البحث عن هدى الله جاء من عنده، أنك تبتدي بالأسهل(1/157)
(ص170) فالأسهل ؛ وأسهل ما يكون، وأهمه : القصص التي قص الله علينا عن الأنبياء وأممهم . الثالثة : أن أول ما تبتدي به من القصص التي قص الله، قصة أبيك آدم، وإبليس، وما ذكر الله عنهم، وكون آدم لما اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه .
وأكثر الناس يطنون : أن الاعتراف بالذنب مذلة، ويستهزؤن بمن أقر بذنبه واعترف وتاب منه، وكون إبليس لعنه الله لما احتج بالقدر، ولم يعترف بذنبه : أن الله طرده، وآيسه من رحمته ؛ وكون أكثر الناس يظن : أن فعل إبليس، هو الذي يرضاه الله، ويزدري على من فعل آدم، نعوذ بالله من سوء الفهم .
اللهم إنا سألك أن ترينا الحق حقاً، وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً، وأن ترزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا، فنضل يا أرحم الراحمين، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، ويا من يقول : ( ادعوني استجب لكم )[ غافر 60 ] أن تقبل منا وأن تهدينا لما تحب وترضى، والله أعلم .
وقال أيضا : الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى :
ينبغي للمعلم : أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، فإن كان ممن يقرأ القرآن، أو عرف أنه ذكي، فيعلم أصل الدين، وأدلته، والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد(1/158)
(ص171) أنه يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلاً متوسطاً ،ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ويصف له حقوق الخلق مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم وأفرضه شهادتك له أنه رسوله الله، وأنه خاتم النبوة، النبيين وتعلم أنك لو ترفع واحداً من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافراً، فإذا فهم هذا فقل : حق الله عليك أعظم وأعظم، فإذا سأل عن حق الله : فاذكر له أنك تعبده، ولا تصير مثل البدوي .
وأيضاً : تُخلص له العبادة، لا تكون مثل من يدعوه، ويدعو غيره، أو يذبح له ولغيره، أو يتوكل عليه وعلى غيره . وكل العبادات كذلك ؛ وتعرفه : أن من أحل بهذا حرمت عليه الجنة، ومأواه النار ؛ ولو قدرنا : أنه ما يشرك، فإذا عرف التوحيد، ولا عمل به، ولا أحب وأبغض فيه، ما دخل الجنة، ولو ما أشرك، لأن فائدة ترك الشرك، تصحيح التوحيد، ومن أعظم ما تنبهه عليه التضرع عند الله، والنصيحة، وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى، والله أعلم .(1/159)
(ص172) وقال أيضاً الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى :
من أعجب العجائب، وأكبر الآيات الدالات على قدرة الملك الغلاب : ستة أصول، بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام، فوق ما يظنه الظانون ؛ ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل .
الأصل الأول : إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى، بكلام يفهمه أبلد العامة ؛ ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار، أظهر لهم الشيطان : الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم .
الأصل الثاني : أمر الله بالإجماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بيانا شافياً كافياً، تفهمه العوام ؛ ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا قبلنا فهلكوا ؛ واذكر أنه أمر المرسلين بالاجتماع في الدين، ونهاهم عن التفرق فيه ؛ ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك ؛ ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه، هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون !(1/160)
(ص173) الأصل الثالث : أن من تمام الاجتماع، السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشياً ؛ فبين الله هذا بياناً شافياً كافياً، بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به ؟!
الأصل الرابع : بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء ؛ وبيان من تشبه بهم، وليس منهم ؛ وقد بيّن الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله : (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم )[ البقرة 40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم : ( يا بني إسرائيل اذكروا )[ البقرة 122] كالآية الأولى ؛ ويزيده وضوحاً : ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد ؟ ثم صار هذا أغرب الأشياء ! وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم : لبس الحق الباطل! وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق، ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون ! وصار من أنكره وعاداه وجدّ في التحذير عنه، والنهي عنه، هو الفقيه العالم !!
الأصل الخامس : بيان الله سبحانه للأولياء، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعدائه المنافقين والفجار ؛ ويكفي في هذا آية [آل عمران : 31]وهى قوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) والآية التي في [المائدة: 54]وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) الآية ،(1/161)
(ص174) وآية في سورة يونس 62 وهي قوله تعالى : ( إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون ) .
ثم صار الأمر عند أكثر من يدّعي العلم، وأنه من هداة الخلق، وحفاظ الشرع، إلى أن الأولياء : لابد فيهم من ترك اتباع الرسول، ومن اتبعه فليس منهم ! ولابد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم !ولابد من ترك الإيمان، والتقوى ! فمن تقيد بالإيمان والتقوى، فليس منهم ! يا ربنا نسألك العفو والعافية، انك سميع الدعاء .
الأصل السادس : رد الشبه التي وضعها الشيطان، في ترك القرآن، والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة ؛ وهى أن القرآن والسنة لا يعرفها إلا المجتهد المطلق ؛ والمجتهد هو : الموصوف بكذا وكذا، أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبى بكر وعمر ! فان لم يكن الإنسان كذلك، فليعرض عنهما فرضاً حتماً لاشك ولا إشكال فيه ؛ ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق، وإما مجنون، لأجل صعوبة فهمهما !!فسبحان الله وبحمده : كم بين الله سبحانه شرعا وقدرا، خلقا وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى، بلغت إلى حد الضروريات العامة ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )[ الأعراف 187 ] ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) إلى قوله تعالى ( فبشره بمغفرة وأجر كريم ) [ يس 7-11] .(1/162)
(ص175) ومما يشبه هذا : أن الله ذكر أنه أنزل القرآن، ليحرج به الناس من الظلمات إلى النور ؛ فظن الأكثر ضد ذلك .
الثانية : ذِكْره أن الإيمان سبب للعلو في الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك . الثالثة : أن الإيمان به واتباعه سبب للعز فظن الأكثر ضد ذلك . الرابعة : إنزاله عربيّا بيناً لعلهم يفهمونه، فظن الأكثر ضد ذلك، وأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وأنه لا يوصل إليه من صعوبته .
الخامسة : ذكر أنهم لو عملوا به لصلحت الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك، لقوله : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ) الآية [ الأعراف 96] .
السادسة : أنه أنزله تفصيلا لكل شيء فاشتهر أنه لا يفي هو، ولا السنة بعشر المعشار . السابعة : ذكره سبحانه أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، ليدل على نفي الشرك، فاستدلوا به على حسنه . الثامنة : أمره سبحانه أن يطهره من المشركين فلا يقربونه، فصار الواقع كما ترى , التاسعة : كونه ذكره أن من يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فصار ظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك .
العاشرة : ذكره أن من يتوكل على الله فهو حسبه، فصار ظن الأكثر بخلاف ذلك، بل ذكر بعض الأجلاء : أنه لا يجلب خيراً، ولا يدفع شراً . الحادية عشر : أن تزوج الفقير سبب لغناه، فصار ظن الأكثر بضده . الثانية عشر : أن صلة الرحم سبب لكثرة المال، فظن الأكثر ضد ذلك، فتركت خوفا .(1/163)
(ص176) من نقصه . الثالثة عشر . أن الاقتصار على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لكثرة العلم وطلب العلم من غيره سبب للجهل فصار الأمر كما جرى .
الرابع عشر : صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأسماء الله ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعى عليك، فذكر سبب الغناء الذي هو عند الأكثر سبب الفقر، وذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب الغناء، وكذا قوله : ما نقص مال صدقة . الخامسة عشر : قوله ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، فذكر سبب زيادة العز الذي يظن الأكثر أنه سبب الذل وزوال العز .السادسة عشر : قوله ما فتح أحد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر فذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب لزوال الفقر السابعة عشر : قوله: ما تواضع أحد لله إلا رفعه فظنوا ضده. الثامنة عشر : قوله فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما إلى آخره، التاسعة عشر : أن الجهل بكثير هو العلم والخوض بالعكس العشرون : أن الجهاد سبب لبقاء الأنفس والأموال . الحادية والعشرون : كون تركه سببا لعذاب الأنفس وذهاب الأموال .
الثانية والعشرون : كون الهجرة عن الأهل والمال سبب لحياة الدنيا، والأصل في هذا قوله : ( ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة )[ البقرة 195] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا).
( ص177) استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) [ الأنفال24 ] فسرت الحياة بالقتال، والتهلكة بالمقام عنه في الأهل، وفسرت بجمع المال، وترك النفقة . الثالثة والعشرون : قوله : ( إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ؛ فظنوا ضد . الرابعة والعشرون، قوله في ضد : أخر عقوبته حتى يوافى بذنبه يوم القيامة .(1/164)
الخامسة والعشرون : لا إلَه إلا ّ الله كلمة التقوى، فجعلوها كلمة الفجور . السادسة والعشرون : خلقهم للعبادة، فجعلوها لغيره . السابعة والعشرون : إنزاله الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فجعل لغير ذلك . الثامنة والعشرون :إرسال الرسل، ليعلم أن الإله الواحد، فجعل لغير ذلك . التاسع والعشرون : إنزال الحديد ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، فجعل لضد ذلك . الثلاثون : شرعت الأمارة لقيام الدين والعدل وإزالة الباطل، فجعلت لضد ذلك .
الحادية والثلاثون، قوله : ( ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ) إلى آخره، ضد ما يخافه ويرجوه الوالد لذريته . الثانية والثلاثون، قوله : " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " الثالثة والثلاثون، قوله : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها )[ الإسراء 16 ] الرابعة والثلاثون، قوله : ( ويمحق الكافرين )[ آل عمران 141] الخامسة والثلاثون، قوله : ( وإن تولوا فإنما هم في(1/165)
(ص178) شقاق فسيكفيكهم الله )[ البقرة 137] وقوله : ( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) [ المائدة 49].
السادسة والثلاثون، قوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً )[ القصص 8] السابعة والثلاثون، قوله : ( ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض )[ الآيتين الحج 53-54 ].(1/166)
(ص179) وقال أيضاً رحمه الله :
الأولى : يجوزون على الله أن يأمر بكل شيء، ويفعل كل شيء، وينزهونه عن حقائق أسمائه وصفاته، ولا يتم التوحيد إلا به . الثانية : وينهون عن تصديق الرسل فيما أخبروا به، ويقلدون طواغيتهم فيما يخالف العقل والنقل، ويقولون : هم أعلم . الثالثة : يفتون بحمل كلام العامي في العقود على شواذ اللغة، التي لم تخطر بباله، ويحرفون كلام الله المحكم، وكلام رسوله الواضح على غير مراده . الرابعة : ويحيلون الجواب، على من مات أو غاب، وهو أوغل منهم في الارتياب .
الخامسة : ويدعون كمال العلم والإحاطة، ويصرحون أنهم لا يفهمون منه كلمة واحدة . السادسة : ويجزمون بصحة الإجماع، ويكفرون من خالفه، ويقولون : مذهبنا بخلافة وهو أحكم . السابعة : والعلم المفروض عليهم يحرمون طلبه، وعلومهم التي يدأبون فيها، خيرها ما حرم عليهم السؤال عنه
الثامنة : ويتكلمون بما يقتضي الإحاطة بعلم الله وحكمته في خلقه وأمره، وما ظنوا أنه خلاف الحكمة، قالوا : لا يفعل لحكمه، بل لمشيئة، فإذا رأوا من طواغيتهم خلاف ما أصلوا(1/167)
(ص180) لهم من القواعد سلموا لهم، وقالوا : هم أعلم . التاسعة : ثم يتناقضون، فيتكلمون في شرعه بالتعليل الباطل، ويولدون عليه ما شاؤوا .
العاشرة : ويتكلمون في عصمة الأنبياء بما يضحك العاقل، ويوسعون الكلام فيه، ويفردونه بالتصنيف، والنوع الذي انعقد الإجماع على العصمة فيه – وهو حظهم ونصيبهم – لا يلتفتون إليه، بل يحرمون الالتفات إليه، ولو صح كلامهم في الأول فلا تعلق له بهم .
الحادية عشر، ويقولون : الأصول التي يكفر مخالفها، هي : التي تعلم بالعقل، وما لا فهي الشرعيات ؛ وهذا تناقض ؛ فإن الكفر : إنكار السمعيات، ولا يعرف إلا بها ؛ ومن تدبر هذا عرف أنهم شر من الخوارج، الذين علقوا الكفر بمخالفة الكتاب، ولكن غلطوا .
وهؤلاء الذين علقوه بغيره : اتفق السلف على أن قولهم شر من قول الخوارج، وارتكبوا معه أربع عظائم :
الأولى : رد نصوص الأنبياء . الثانية : رد ما وافقها من العقل . الثالثة : جعل ما خالفها أصولاً للدين . الرابعة : تكفيرهم، أو تفسيقهم، أو تخطئتهم من خالفها واتبع الأنبياء ؛ وقد أمرنا أن نتدبر القرآن، ولا يكون إلا إذا كان بيناً .(1/168)
(ص181) فأما إن احتمل معاني، ولم يبين المراد، لم يمكن أن يتدبر، ولهذا تجد من زعمه قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله، بل فيه من الكذب في السمعيات، نظير ما فيه من الكذب في العقليات، بل منتهى أمرهم إلى القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئاً من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية، والقضايا الفقهية .
الثانية عشر، والتوحيد عندهم : إنكار صفات الكمال، ونعوت الجلال، والشرك اثباتها، ودينهم اتخاذ أكابرهم أرباباً من دون الله .
الثالثة عشر : ويزعمون أنهم ما عظموهم إلا لأجل الله، ثم يستخفون به، ويسبونه مسبة ما سبها إياه أحد من البشر . الرابعة عشر : ويزعمون أن فعلهم تعظيم وإجلال للأنبياء والصالحين، وهم بذلك يكذبونهم، ويكفرونهم، ويستجهلون من صدقهم وأمن بهم ؛ وهذا، والذي قبله : من أعجب العجاب !!
وقال في بعض تقاريره : اعلم رحمك الله أن الإيمان الشرعي، هو الإيمان بالأصول الستة ؛ فمن الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزل الله، والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله، ومن الإيمان بهم : معرفة مراد الله في إرسالهم، كما قال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين(1/169)
(ص182) ومنذرين) الآية [ البقرة 213] . وأما الحكمة الأخرى، فذكرها أيضاً في غير موضع ؛ منها قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) إلى قوله ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )[ النساء 162-165]فقوله ( مبشرين ومنذرين ) وقوله ( لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل ) هما حكمة الله في إيجاد الخليقة، وإليهما ترجع كل حقيقة، فالواجب على من نصح نفسه : أن يجعل معرفة هذا نصب عينيه .
ومن تفاصيل هذه الجملة : أن الناس اختلفوا في التوحيد، فجاءت الكتب والرسل، ففصلوا الخصومة بقوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل 36 ] وقوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )[ الجن 18 ] فشملت : أصل الأمر، وأصل النهي، الذي هو معنى شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله .
الثانية : أن الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، اختلفوا : هل توجب هذه العداوة والمقاطعة ؟ أو أنها كالسرقة والزنا ؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )[ المجادلة 22] وقال صلى الله عليه وسلم : " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن وليي الله والمؤمنون ".(1/170)
(ص183) الثالثة : أن الذين أقروا بأن الشرك أكبر الكبائر، اختلفوا : هل يقاتل من فعله إذا قال لا إلَه إلا ّ الله ؟ فحكم الكتاب بقوله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )[ الأنفال 39] وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم )[ التوبة: 5] .
الرابعة : اختلفوا في الجماعة والفرقة ؛ فذهب الصحابة ومن تبعهم : إلى وجوب الجماعة وتحريم الفرقة، ما دام التوحيد والإسلام ؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة ؛ وذهب الخوارج، والمعتزلة : إلى الفرقة، وإنكار الجماعة ؛ فحكم الكتاب بقوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )[ آل عمران 103 ] .
الخامسة : اختلفوا في البدع، هل يستحسن منها ما كان من جنس العبادة ؟ أم كل بدعة ضلالة ؟ فحكم الكتاب بينهم، بقوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام 135] وقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة " فذكر صلى الله عليه وسلم أن ما حدث بعده فليس من الدين، وأنه ضلالة .
السادسة : أنهم اختلفوا في الكتاب، هل يجب تعلمه، واتباعه على الآخرين ؟ لإمكانه، أم لا يجب ؟ ولا يجوز العمل به لهم ؟ فحكم الكتاب بينهم بالآيات التي لا تحصى ؛(1/171)
(ص184) منها قوله : ( وقد آتيناك من لدنا ذكراً، من اعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً )[ طه 99] وقوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين) وقوله : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) [ طه 124].
السابعة : اختلفوا في العالم رفيع المقام في العلم والعبادة، إذا عمل تابع النص بخلافة، هل يجوز أم لا، فقيل : نعم، من قلد عالماً لقي الله سالماً ؛ فحكم الكتاب بقوله : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون )[ الأعراف 3] وقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) [ التوبة 31 ] وقوله : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين )[ البقرة 146-147] وقوله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به )[ البقرة : 89] وقوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً )[ النمل 14] وقوله : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [ الأنعام : 116]
فإذا عرفت هذه الآيات المحكمات، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، من أن طاعة الأحبار والرهبان من دون الله، عبادة لهم ؛
وعرفت حال كثير من الناس، وما يأمرون به، وما يدعون إليه، وتأملت كلام الله، تبين لك الهدى من الضلال .(1/172)
(ص185) وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب : عن أحاديث الوعد، والوعيد، وقول وهب بن منبه " مفتاح الجنة لا إلَه إلا ّ الله " " الخ، وحديث أنس " من صلى صلاتنا " الخ ؟
فأجاب : ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه ؛ وفى القرآن آيات في الوعد والوعيد كذلك ؛ وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم ؛ ومن أحسن ما قيل في ذلك : أمروها كما جاءت ؛ معناه : لا تتعرضوا لها بتفسير، وبعض الناس تكلم فيها رداً لكلام الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يخلّدون أصحابها في النار، أنه ينفى الإيمان عن بعض الناس، لكونه لا يتمه ؛ كقوله للأعرابي " صل فانك لم تصل " والجواب الأول أصوب، واهون، واسمع، وهو الموافق لقوله تعالى : ( والراسخين في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران 7 ]
إذا فهمت ذلك فالمسألة الأولى واضحة، مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده، بدون الأعمال، وأما إذا أتى به وبالأعمال، وأتى بسيئات ترجح على حسناته، أو تحبط عمله، فلم يتعرض وهب لذلك بنفي ولا إثبات، لأن السائل لم يرده .(1/173)
(ص186) وقوله : ( من صلى صلاتنا ) إلخ فهو على ظاهره ؛ ومعناه : كما لو عرف منه النفاق، فما أظهر يحمى دمه وماله، وإلا فمعلوم أن من صدق مسيلمة أو أنكر البعث أو أنكر شيئاً من القرآن، وغير ذلك من أنواع الردة، لم يدخل في الحديث .
وسئل عن معنى : قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) إلى قوله : " أفلا أبشر الناس ؟ قال لا تبشرهم فيتكلوا " ومعنى : " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " كيف الصواب ؟
فأجاب : أما مسألة معاذ : فالمعنى عند السلف على ظاهره، وهو من الأمور التي يقولون : أمروها كما جاءت ؛ أعنى نصوص الوعد، والوعيد، لا يتعرضون للمشكل منه وأما قوله : " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " فتلك مسألة أخرى على ظاهرها، أن الله لو يستوفي حقه من عبده، لم يدخل أحد الجنة، ولكن كما قال تعالى : ( ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا )[ الزمر 35] .(1/174)
(ص187) سئل الشيخ : محمد عبد الوهاب، رحمه الله.
قال السائل : تفكرت في الإيمان وقوته وضعفه، وأن محله القلب، وأن التقوى ثمرته ومركبة عليه، فبقوته تقوى، وبضعفه تضعف .
فأجاب : قولك إن الإيمان محله القلب ؛ فالإيمان بإجماع السلف محله القلب، والجوارح جميعا، كما ذكر الله في سورة الأنفال، وغيرها، وأما كون الذي في القلب، والذي في الجوارح، يزيد وينقص، فذلك شيء معلوم، والسلف : يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان من النفاق، أو سلب الإيمان كله .
وسئل أيضاً : عن الإيمان، والإسلام، هل هما نوع واحد ؟ أو نوعان ؟
فأجاب : ذكر العلماء أن الإسلام إذا ذكر وحده، دخل فيه الإيمان، كقوله : ( فإن أسلموا فقد اهتدوا )[ آل عمران 20] وكذلك الإيمان إذا أفرد، كقوله في الجنة : ( أعدت للذين آمنوا بالله ورسله )[ الحديد 21] فيدخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا معاً كقوله : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات )[ الأحزاب 35] فالإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، كما في الحديث : " الإسلام علانية، والإيمان في القلب " .(1/175)
(ص188) وقوله في الحديث : " أخرجوا من النار من في قلبه " الخ، يوافق ما ذكرناه، فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه، وإن كان ناقصاً، كما في آية الحجرات ؛ وفيها : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً ) [ الحجرات 14 ] .
وحقيقة الأمر : أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعاً، وأما الإسلام فقد يستلزمه، وقد لا يستلزمه ؛ أما قوله : " لا يؤمن أحدكم حتى " إلى آخره، ففسر بأن المراد اعتقاد ذلك بالقلب، والعمل بذلك الاعتقاد ؛ فإذا كان في القلب ضده، وكرهه، وصار الكلام والعمل بمقتضى الأمر الممدوح، فهو ذاك وذكر أيضاً، في الإيمان بالله، والإيمان بالرسل: أن ههنا غاية، ووسيلة ؛ فأما الغاية : فهو الإيمان بالله، وأما الوسيلة فهو الإيمان بالرسل ؛ الإيمان بالله مثل الماء، والإيمان بالرسل : مثل الدلو والرشا .(1/176)
(ص189) وسئل رحمه الله : عمن خالف شيئاً من واجبات الشريعة، ماذا يقع ؟ وما معنى كل ذنب عصى الله به شرك ؟ وهل يقع في جزء من الكفر ؟ وما ذلك الكفر ؟ أهو كفر بالله ؟ أو باَلائه، مع صغره ؟ وما معنى قول من قال : كفر دون كفر ؟ وقول من قال : كفر نعمة ؟ أي نعمة أيضاً ؟ وماذا ترى في الرؤيا التي ذكرت لك ؟
فأجاب : الشرك والكفر نوع، والكبائر نوع آخر والصغائر نوع آخر ؛ ومن أصرح ما فيه، حديث أبي ذر، فيمن لقي الله بالتوحيد، قوله : " وإن فعل كذا وكذا، فقد أشرك أو كفر ؟ فهو فوق الكبائر ؛ وما رأيت جاء مخالفاً ما ذكرت لك، فهو بمعنى الذي أخفى من دبيب النمل، وقول القائل : كفر نعمة، خطأ رده الإمام أحمد وغيره، ومعنى كفر دون كفر : أنه ليس يخرج من الملة مع كبره، والرؤيا : أرجوا أنها من البشرى المذكورة، لكن الرؤيا تسر المؤمن، ولا تضره .(1/177)
(ص190) وله أيضاً : رحمه الله تعالى :
اعلم رحمك الله : أن الله منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة، والنصر ؛ صار الناس ثلاثة أقسام ؛ قسم : مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهراً وباطناً ؛ وقسم : كفار ؛ وهم الذين : أظهروا الكفر به ؛ وقسم : منافقون، وهم الذين آمنوا به ظاهراً لا باطناً، ولهذا افتتح الله سورة البقرة، بأربع آيات في صفة المؤمنين ؛ وآيتين في صفة الكافرين ؛ وثلاث عشرة في صفة المنافقين .
وكل واحد من الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم، وشعب، كما دل عليه الكتاب، والسنة ؛ وكما فسره علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، في الحديث المأثور عنه .
فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله ابن أبي، وغيره ؛ مثل أن يظهر تكذيب الرسول ؛ أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله ؛ وهذا القدر موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما زال بعده أكثر منه على عهده لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها والنفاق موجود، فوجوده فيما(1/178)
(ص191) دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله .
وأما النفاق الأصغر، فهو : نفاق الأعمال، ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، أو يخون إذا ائتمن، للحديث المشهور في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق : ثلاث ؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ؛ وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم " ومن هذا الباب : الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم .
وقد أنزل الله سورة براءة، التي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، قال : هي الفاضحة، ما زالت تنزل، ومنهم، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها ؛ وعن المقداد ابن الأسود، قال : هي سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين ؛ وقال قتادة : هي المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين .
وهذه السورة : نزلت في آخر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره، فكشف فيها عن أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، والبخل ؛ فأما الجبن : فهو ترك الجهاد ؛ والبخل : عن النفقة في سبيل الله، وقال تعالى : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم ) [ آل عمران 180](1/179)
(ص192) وقال : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) [ الأنفال16].
فأما : وصفهم فيها بالجبن والفزع، فقد قال تعالى : ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ ) يلجؤون إليه، مثل المعاقل، والحصون ( أو مغارات ) يغورون فيها كما يغور الماء ( أو مدخلاً ) هو الذي يتكلف الدخول إليه، ولو بكلفة ومشقة ( لولوا إليه ) عن الجهاد ( وهم يجمحون ) [التوبة 56-57] أي : يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء، كالفرس الجموح، الذي إذا حمل لم يرده اللجام .
وقد قال تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون )[ الحجرات 15 ] فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد، وقال تعالى : ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر ) [ الآيتين التوبة 44-45 ]ٍفهذا إخبار من الله : أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان ؟! فقال، في وصفهم بالشح : ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم ) إلى قوله ( ولا ينفقون إلا وهم كارهون )[ التوبة 54] فإذا كان هذا مذمة الله تبارك وتعالى لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأساً ؟! .(1/180)
(ص193) وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة، تارة يقولون للمؤمنين : هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتهم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتهم عليه، وخالفتموهم ؛ وتارة يقولون : أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا لما أصابنا هذا ؛ وتارة يقولون : أنتم مع قلتكم وضعفكم، تريدون أن تكسروا العدو، وقد غربكم دينكم ؛ وتارة يقولون : أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم، وتهلكوا الناس معكم ؛ وتارة يقولون : أنواعاً من الكلام المؤذي ؛ فأخبر الله عنهم بقوله عز وجل : ( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً ) [ الأحزاب 20]
فوصفهم تبارك وتعالى بثلاثة أوصاف، الأول : أنهم لفزعهم منهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان، الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن .
الوصف الثاني : أن الأحزاب إذا جاؤوا، تمنوا أن لا يكونوا بينكم، بل في البادية بين الأعراب ( يسئلون عن أنبائكم ) أي شيء خبر المدينة ؟ وأي شيء حبر الناس ؟ الوصف الثالث : أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلاً وهذه الأوصاف الثلاثة منطبقة على كثير من الناس .(1/181)
(ص194) سئل : أبناء الشيخ، محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى، هل عندكم : أنه ما يلبث موحد في النار، أم لا ؟
فأجابوا : الذي نعتقده ديناً، ونرضاه لإخواننا المسلمين، مذهباً، أن الله تبارك وتعالى : لا يخلد أحداً فيها من أهل التوحيد، كما تظاهرت عليه الأدلة، من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة ، قال الشيخ : تقي الدين، أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله : تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " بأنه يخرج من النار قال لا إلَه إلا ّ الله، وفي قلبه من الإيمان ما يزن شعيرة " وفي لفظ " ذرة" ولكنها جاءت مقيدة بالقيود الثقال، كقوله : ط من قال :لا إلَه إلا ّ الله خالصاً من قلبه " وفي رواية " صادقاً من قلبه " انتهى .
وهذا : هو مذهب أهل السنة والجماعة، من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، من سلف الأمة وأئمتها، ولا يخالف في ذلك إلا الخوارج، والمعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار . والجواب : عن الآيات التي احتجوا بها : تحتاج إلى بسط طويل .(1/182)
(ص195) وسئل أيضاً أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى، عن الشرك بالله، ما هو الأكبر الذي ذم فاعله، وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه ؟ وما هو الأصغر ؟
فأجابوا : قد ذكرت العلماء، رحمهم الله : أن الشرك نوعان، أكبر ؛ وأصغر ؛ فالأكبر : أن يجعل لله نداً من خلقه، يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور، كما يتوكل على الله .
والحاصل : أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته، ومعاملته، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، الذي لا يغفره، كما دل على ذلك قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) إلى قوله : ( وما هم بخارجين من النار )[ البقرة 1656-167] وقال تعالى، عن أهل النار : ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين )[ الشعراء 97-98 ] قال بعض المفسرين : والله ما ساووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، ولكن ساووهم في المحبة والإجلال والتعظيم، وقال تعالى : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )[ الأنعام 1 ] أي : يعدلون به في العبادة .(1/183)
(ص196) ولهذا : اتفق العلماء كلهم، على أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، فقد كفر، لأن هذا كفر عابدي الأصنام، قائلين : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ) ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، فقال : ( إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار )[ الزمر3] فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله، وقال : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله )[ يونس 18 ] وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله، وعمله، وهم : أهل التوحيد، الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه يأذن في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوا من دون الله شفيعاً، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء : صاحب التوحيد، الذي حقق قول لا إلَه إلا ّ الله .
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله : هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له، لمن وحده ؛ والشفاعة التي نفاها الله : الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون ؛ فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : " من قال لا إلَه إلا ّ الله خالصاً من قلبه " فجعل أعظم الأسباب التي ينال بها الشفاعة : تجريد التوحيد، عكس ما اعتقد المشركون، أن الشفاعة تنال(1/184)
(ص197) باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة : تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه .
ومن جهل المشرك : اعتقاده إن اتخذ من دون الله شفيعاً أن يشفع له وينفعه، كما يكون عند خواص الملوك والولاة ؛ ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )[ الأنبياء 28 ] وبقي فصل ثالث، وهو : أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون : كما قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ فهذه ثلاثة أصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها ؛ فالأول : أنه لا شفاعة إلا بإذنه، والثاني : أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ؛ والثالث : أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله .
وقد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعاً يعلم من تأمله وعرفه : أن من اتخذ من دون الله ولياً، أو شفيعاً، فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، فقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم(1/185)
(ص198) من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )[سبأ 22-23 ] فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع .
والنفع لا يكون إلا لمن فيه خصلة من هذه الأربع : إما مالك لما يريد عابده منه ؛ فإن لم يكن مالكاً، كان شريكاً للمالك ؛ فإن لم يكن شريكاً، كان معيناً وظهيراً ؛ فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً، كان شفيعاً عنده ؛ فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع، نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه ؛ فنفى الملك، والشرك، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي : الشفاعة بإذنه ؛ فكفى بهذه الآية برهاناً، ونوراً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها .
والقرآن : مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثاً ؛ وهذا : هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن ؛ ولعمر الله : إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك .
ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، ووقع فيه(1/186)
(ص199) وأقره، ودعا إليه، وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف : أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة ؛ ويبدع الرجل بتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، ومفارقة أهل الهوى والبدع .
ومن له بصيرة، وقلب حي : يري عياناً، والله المستعان ؛ والكلام في هذه المسألة : يحتاج إلى بسط طويل، ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيهاً، يعرف به كل من نور الله قلبه حقيقة الشرك، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله .
ولكن من أعظم أنواعه، وأكثره وقوعاً في هذه الأزمان : طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم ؛ وهذا أصل شرك العالم، كما ذكره المفسرون، عند قوله تعالى، حكاية عن قوم نوح : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)[ نوح 23 ] إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا، عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه، في تفسير سورة نوح، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما الشرك الأصغر : فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، كما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حلف بغير الله فقد(1/187)
(ص200) أشرك " ومن ذلك قول الرجل : ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا ؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل : ما شاء الله وشئت، فقال : " أجعلتني لله نداً، قل ما شاء الله وحده " وهذه اللفظة : أخف من غيرها من الألفاظ ؛ وقد يكون هذا شركاً أكبر، بحسب حال قائله ومقصده ؛ وهذا الذي ذكرنا : متفق عليه بين العلماء – رحمهم الله تعالى – أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه : أنه من الشرك الأكبر .
واعلم : أن التوبة مقبولة منها، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة، واستكملت شروطها ؟ لكن ابن عباس رضى الله عنهما، ومن تبعه، قال : لا تقبل توبة القاتل ؛ وقد ناظر ابن عباس أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك ؛ وقالوا : التوبة تأتى على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه، وتقبل ؛ واحتجوا بقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [ الزمر : 53] وبقوله تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) [ طه :82] فإذا تاب هذا القاتل، وآمن، وعمل صالحاً، فإن الله عز وجل غفار له .(1/188)
(ص201) فصل :
وأما قول السائل : هل للتوحيد والإيمان مرتبتان، وحقيقتان، ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران ؟ يتعلق بأحدهما دون الأخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد، عن دائرة الإسلام، لا دائرة الإسلام، لا دائرة الإيمان، أو بالعكس ؟
فاعلم رحمك الله : أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب ؛ المرتبة الأولى : مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى، التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام، ويذعن، وينقاد له .
المرتبة الثانية : مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى، لأن الله تعالى نفى عمن أدعى الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم، إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات : 14-15] .
فأنكر سبحانه عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك ؛ وفى الحديث الصحيح، حديث(1/189)
(ص202) سعد، لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم مالك عن فلان ؟ فوالله لأراه مؤمناً، فقال : أو مسلماً .
المرتبة الثالثة : الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل، هذه المراتب كلها، لما سأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال : " هذا جبريل يعلمكم أمر دينكم " فقد ينفى عن الرجل الإحسان، ويثبت في الإيمان ؛ وينفي عنه الإيمان، ويثبت في الإسلام ؛ كما في قوله عليه السلام : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة .
وأما المعاصي، والكبائر، كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وأشباه ذلك، فلا يخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليده في النار .
واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة، من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين ؛ فمن ذلك : ما رواه محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فقال أبو جعفر : هذا الإسلام، ودور دائرة واسعة، وهذا(1/190)
(ص203) الإيمان، ودوّر دائرة صغيرة، في وسط الكبيرة ؛ فإذا زنى أو سرق : خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا الكفر بالله، انتهى .
قال : وإن الله جعل اسم الإيمان، اسم ثناء، وتزكية، ومدحة ؛ وأوجب عليه الجنة، فقال : ( وكان بالمؤمنين رحيماً، تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 43-44] وقال : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) [ يونس :2] وقال : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) [ الحديد :12]، وقال : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) الآية [ التوبة : 72] قالوا : وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك : على أن اسم الإيمان زال عمن ألم بكبيرة ؛ قالوا : ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت : أن اسم الإسلام ثابت له على حاله ؛ واسم الإيمان زائل عنه .
فإن قيل : أليس ضد الإيمان الكفر ؟ فالجواب : إن الكفر ضد أصل الإيمان، لأن للإيمان أصلاً، وفروعاً، فلا يثبت الكفر، حتى يزول أصل الإيمان، الذي هو ضد الكفر ؛ فإن قيل : الذي زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنه اسم الإيمان، هل بقى معه من الإيمان شيء ؟ قيل نعم، أصله ثابت، ولولا ذلك لكفر .(1/191)
(ص204) فإن قيل : كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق، بالله ورسوله ؟ قلنا : لأن الله ورسوله، وجماهير المسلمين، يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء ؛ فيسمون الزاني : فاسقاً ؛ والقاذف : فاسقاً ؛ وشارب الخمر : فاسقاً ؛ ولم يسموا واحداً من هؤلاء تقياً، ولا ورعاً ؛ وقد أجمع المسلمون : أن فيه أصل التقوى والورع ؛ وذلك أنه يتقي أن يكفر، أو يشرك بالله ؛ وكذلك يتقي : أن يترك الغسل من الجنابة، والصلاة ؛ ويتقي : أن يأتي أمه ؛ فهو في جميع ذلك متق .
وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين : أنه لا يسمى تقياً، ولا ورعاً إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع، باق، انتهى ؛ يريد باق من ادعائه الأصل، كتورعه عن إتيان المحارم ؛ ثم لا يسمونه متقياً ولا ورعاً مع إتيانه ببعض الكبائر بل يسمونه فاسقاً، وفاجراً، مع علمهم : أنه قد اتقى بعض التقوى والورع ؛ فمنعهم من ذلك : أن اسم التقى، اسم التقى، اسم ثناء وتزكيه، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة ؛ قالوا : فلذلك لا نسميه مؤمناً ونسميه فاسقاً، وزانياً، وإن كان في قلبه أصل اسم الإيمان ؛ لأن الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة .(1/192)
(ص205) ثم قال : مسلم، ولم يقل مؤمن ؛ قالوا : ولو كان أحد من المسلمين الموحدين، يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام، كان أحق الناس به أهل النار، الذين يخرجون منها، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول : " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " فثبت :أن شر المسلمين في قلبه إيمان .
ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة : ثبت أنهم مسلمون، تجري عليهم أحكام المسلمين ؛ وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين، إذا كان الإسلام مثبت للملة، التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلمين .
والمقصود : معرفة ما قدمناه، من أن للدين ثلاث مراتب، أولها الإسلام ؛ وأوسطها الإيمان ؛ وأعلاها الإحسان ؛ ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي قبلها، فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم : فلا يجب أن يكون مؤمناً، وهذا التفصيل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل : جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأوصاف الثلاثة ؛ فقال تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) الآية [ فاطر :32] فالمسلم الذي لم يقم بواجب(1/193)
(ص206) الإيمان : هو الظالم لنفسه، والمقتصد : هو المؤمن المطلق، الذي أدى الواجب، وترك المحرم ؛ والسابق بالخيرات : هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه .
وقد ذكر سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة الأقسام في سورة : الواقعة، والمطففين، وهل أتى ؛ وقال أبو سليمان الخطابي – رحمه الله – فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة ؛ فأما الزهري فقال : الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية ؛ وذهب غيره : إلى أن الإسلام، والإيمان، شيء واحد ؛ واحتج بقوله : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) [ الذاريات:35-36] .
قال : والصحيح من ذلك : أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق ؛ وذلك : أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعض الأحوال ؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً ؛ وإذا حملت الأمر على هذا، استقام لك تأويل الآيات، واتحد القول فيها، ولم يختلف شييء منها .
قال الشيخ تقي الدين : والذي اختاره الخطابي، هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو : قول أحمد بن حنبل، وغيره ؛ وما علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس(1/194)
(ص207) الإسلام نفس الإيمان ؛ ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء، كما ذكره أبو قاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد، شارح مسلم، وغيرهما : أن المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق، والزانى، اسم مؤمن، كما دل عليه النص .
فصل :
إذا تمهدت هذه القاعدة، تبين لك : أن الناس يتفاضلون في التوحيد، تفاضلاً عظيماً، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض ،فمنهم : من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة ؛ ومنهم : من يدخل النار، وهم العصاة ويمكثون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون منها لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان وهم في ذلك متفاوتون ؛ كما في الحديث الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن برة " وفى لفظ : " شعيرة " وفى لفظ: " ذرة" وفى لفظ : " حبة خردل من إيمان " ومن تأمل النصوص : تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان، تفاضلاً عظيماً، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله اعلم .(1/195)
(ص208) فصل : وأما السؤال عما ورد في فصائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة ؛ وأما كثير من الأحاديث، التي يروها من صنف في فضائل أهل البيت، فأكثرها لا يصححه الحفاظ ؛ وفيما صح في ذلك كفاية .
وأما قوله وتعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) } الأحزاب : 33{ وقول من قال : إن الإدارة أزليه، لا تبدل، وأن : " إنما " للحصر، وغير ذلك ؛ فتقول، قد ذكر أهل العلم : أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك : أن أكابر أهل البيت، كالحسن، والحسين، وابن عباس لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم .
وقد ذكر العلماء : أن الإرادة في كتاب الله على نوعين، إرادة قدرية، وإرادة شرعية، فالإرادة القدرية : لا تبدل، ولا تغير، والإرادة الشرعية : قد تغير وتبدل ؛ فمن الأول قوله وتعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول ) [ الإسراء : 16] وقوله تعالى ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ) [الرعد : 11] وقوله تعالى ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) الآيتين [القصص : 5-6 ] .(1/196)
( ص209) ومن الثاني، قوله تعالى :( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ) [ النساء : 26-27 ] فقوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) [الأحزاب : 33] كقوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) [المائدة :6] وكقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185] وكقوله : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ) [ النساء:26] فإن إرادة الله في هذه الآية : متضمنة لمحبة الله، فذكر المراد، ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين، وأمرهم به، ليس في ذلك خلف هذا المراد، لا أنه قضاؤه وقدره .
والدليل على ذلك : أن النبي بعد نزول هذه الآية قال : " اللهم أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً " فطلب من الله : إذهاب الرجس والتطهير ؛ فلو كانت الآية تقتضي أخبار الله، بأنه أذهب عنهم الرجس، وطهرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء ؛ وهذا على قول القدرية : أظهر ؛ فإن إرادة الله عندهم، لا تتضمن وجوب المراد ؛ بل قد يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى : ( يريد ) إنه قدر ما يدل على وقوعه .
ومن العجب : أن الشيعة يحتجون بهذه الآية على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب(1/197)
(ص210) القدرية، الذين يقولون إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض، فلم يقع مراده . وأما على قول أهل السنة، والتحقيق ؛ فهو : ما تقدم ؛ وهو أن يقال : الإرادة في كتاب الله نوعان، إرادة شرعية دينية، تتضمن محبته ورضاه ؛ وإرادة كونية قدرية، تتضمن خلقه وتقديره ؛ فالأولى كقوله : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ) [ النساء :26] والثانية كقوله : (فمن يريد الله أن يهديه ويشرح صدره للإسلام ) الآية [ الأنعام :125] وقوله : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) [ هود:34] ومثل ذلك كثير في القرآن .
فالله تعالى قد أخبر : أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم، وفيه من تاب، وفيه من لم يتوب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر ؛ فإذا كانت الآية : ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير، وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء .
ومما يبيّن : أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية ، قوله تعالى : ( يا نساء النبي من يأتي منكن بفاحشة مبينة نضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ) إلى قوله : ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعنا الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ويذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان .(1/198)
(ص211) لطيفاً خبيراً ) [ الأحزاب 30-31] .
فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيهن الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لما كان ما ذكره سبحانه : أنه يعمهن ويعم غيرهن، من أهل البيت، جاء لفظ التزكية، فقال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) والذي يريد الله : من حصول إذهاب الرجس، وحصول التطهير ؛ فهذا الخطاب وغيره، ليس مختصاً بأزواجه ؛ بل هو يتناول لأهل البيت كلهم ؛ وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين : أخص ما غيرهم بذلك ؛ وكذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم؛ ولهذا كما أن قوله : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) [ التوبة :108] نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة .
وفى الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ؟ وقال :" هو مسجدي هذا " وفى الصحيح : أنه كان يأتي قباء كل سبت، راكباً وماشياً، وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي قباء يوم السبت ؛ وكلاهما مؤسس على التقوى ؛ وهكذا أزواجه، وعلى، وفاطمة، والحسن، والحسين ،كلامهم من أهل البيت لكن وعلى، وفاطمة، والحسن، والحسين، أخص بذلك من أزواجه فلهذا خصهم بالدعاء
( ص212) فصل :(1/199)
وأما قولكم : ومن يطلق عليه اسم الآل ؟ فنقول : قد تنازع العلماء في آل محمد ؛ من هم ؟ فقيل : هم أمته، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك، وأحمد وغيرهم ؛ وقيل : المتقون من أمته ؛ ورووا حديثاً : " آل محمد كل تقي " رواه الخلال، وتمامه في فوائد ؛ وهو حديث لا أصل له والصحيح : أن آل محمد، هم أهل بيته وهذا هو المنقول، عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله، على قولين، هما روايتان عن أحمد ؛ والصحيح : أن أزواحه من آله ؛ فإن قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه " اللهم صلى على محمد، وأزواجه، وذريته " ولإن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من أله وأهل بيته ؛ والآية المذكورة، تدل على أنهن من أهل بيته .
وأما الأتقياء من أمته، فهم أولياءه ؛ كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله، صالح المؤمنين ؛ فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى ؛ والقرب بين القلوب والأرواح : أعظم من القرب بين الأبدان .
وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومن كان فاضلاً منهم، كعلي وجعفر، والحسن والحسين، وابن عباس، فتفضيلهم لما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه .(1/200)
(ص213) بهذا الاعتبار، لا مجرد النسب ؛ فأولياؤه : قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه إذا صلى على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يكون أفضل من الفاضل ؛ وأزواجه ممن يصلى عليهن، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم : أن الأنبياء أفضل منهم، والله اعلم .
وسئلوا عن الحروب التي وقعت بين الصحابة، رضى الله عنهم ؟ فأجابوا :
فصل : وأما الحروب التي وقعت بين الصحابة، فالصواب فيها : قول أهل السنة والجماعة ؛ وهو الذي نعتقده ديناً ونرضاه مذهباً ؛ وهو : السكوت عما شجر بينهم، والترضي عنهم، وموالاتهم ومحبتهم كلهم، رضوان الله عليهم أجمعين ؛ وذلك : أن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه قد رضى عنهم، ومدحهم في غير آية من القرآن ؛ وإنما فعلوا ما فعلوه من الحروب والقتال بتأويل، ولهم من الحسنات العظيمة الماحية للذنوب ما ليس لغيرهم .
ونعتقد : أن علياً رضي الله عنه، أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، يقتلهم أقرب(1/201)
(ص214) الطائفتين إلى الحق " فخرج الخوارج، أهل النهروان، الحرورية، في وقت حرب علي ومعاوية، فقتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأصحابه، بحرورا، قرب الكوفة، بعدما أغاروا على الناس، وسفكوا الدم الحرام، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم، فأرسل إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس ووعظهم وذكرهم وكشف شبهتهم فرجع كثير منهم وخرج بقيتهم على علي رضي الله عنه حتى قتلهم عن آخرهم .
وأمر بالمخدج أن يلتمس، فالتمس، فوجدوه على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فسجد على رضي الله عنه شكراً لله، فبذلك : ثبت أن علياً أقرب إلى الحق من معاوية ،وما أحسن ما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لما سئل عن الحروب التي وقعت بين الصحابة ؟ فقال : تلك دماء طهر الله يدي منها ،أفلا أطهر لساني من الكلام، أو نحو ذلك .(1/202)
(ص215) وسئل أيضا : أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر – رحمهم الله – عن مذهبهم في الصحابة رضى الله عنهم ؟
فأجابوا: مذهبنا في الصحابة، هو مذهب أهل السنة والجماعة ؛ وهو : أن أفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ؛ وأفضلهم بعد أبى بكر : عمر وأفضلهم بعد عمر : عثمان ؛ وأفضلهم بعد عثمان : على رضى الله عنهم، ومنزلتهم في الخلافة، كمنزلتهم في الفضل ؛ وقد نازع بعض أهل السنة، في أفضلية عثمان على علي ؛ فجزم قوم بتفضيل علي على عثمان ؛ ولكن الذي عليه الأئمة الأربعة، وأتباعهم، هو : الأول . قال الذهبي رحمه الله : تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ؛ وخيرهم بعد أبى بكر عمر، انتهى ؛ ثم بعد هؤلاء الأربعة في الفضلية، عند أهل السنة : الستة، بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة، رضي الله عنهم .(1/203)
(ص216) فصل :
وأما قولكم : هل سبق كتاب من الله في المعاصي أنها ستقع ؟
فنقول : قد سبق بذلك الكتاب، وجرى به القلم، وعلم سبحانه ما خلقه عاملوه قبل أن يعلموه ؛ وتوترات بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصحيحين، والسنن، والمسانيد وغيرها، ودل عليه كتاب الله، قال الله تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [ القمر : 49] ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) [ الفرقان : 2 ] وهذا يعم الذوات، والهيئات، والجواهر، والأعراض .
وثبت في الصحيحين، من حديث عمران بن حصين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، فخلق السموات والأرض، وأثبت في الذكر كل شيء" وثبت في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " جف القلم بما أنت لاق " وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه " .
وهذا الأصل هو أحد الأصول الستة، التي في حديث جبريل، لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ؟ فقال : " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، وبالقدر خيره(1/204)
(ص217) وشره " وهذا : أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك، إلا مجوس هذه الأمة، القدرية ؛ فأنكروا أن يكون الله قدر أفعال العباد، أو شاء وقوعها منهم ؛ وزعموا : أن الأمر أنف ؛ أي مسأنف ؛ وزعموا : أن الله لا يقدر يهدى من يشاء ويضل من يشاء، وإنما ذلك إلى العباد ؛ وقد خرجوا في أواخر عهد الصحابة؛ وتبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب لما خرجوا في زمانه، وأنكر مذهبهم، وعقيدتهم ؛ كذلك غيره من الصحابة والقصة في ذلك محرره في صحيح مسلم، وأول من قال هذا القول : معبد الجهني بالبصرة .
والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه وهو الحكم العدل، الذي تنزه عن الظلم والفحش، كما قال تعالى : ( ولا يظلم ربك أحداً ) [ الكهف : 49 ] وقال : ( وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] وقال تعالى في أهل النار : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظلمين) [الزخرف : 76 ] وقال تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً ) [ طه : 112 ] وفى حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه، الإلهى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يرويه عن ربه قال : " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه .
وقد سئل : رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها، فأجاب بما شفى وكفى ؛ فروى مسلم في صحيحه عن عمران بن(1/205)
(ص218) حصين رضي الله عنه أن رجلاً من جهينة، أو مزينة، قال يا رسول الله : أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه ؟ أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم، من قدر سبق ؟ أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم ؟ قال : " بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : ( ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس : 7 –8 ] وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، والله أعلم .
فصل :
وأما قولكم : هل القدر في الخير والشر على العموم جميعاً من الله، أم لا ؟
فتقول : القدر في الخير والشر على العموم، كما تقدم ذكره عن علي رضي الله عنه، قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، فقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال : " ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقيقة أو سعيدة " قال : فقال رجل، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ فقال : ( من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة " ثم قرأ ( فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل .(1/206)
(ص219) واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى ) [ الليل : 5- 10 ] وفى الحديث : " اعملوا فكل ميسر، أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة " ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) الآيتين، والله أعلم .
وسئل أيضاً : ابنا الشيخ محمد، حسين، وعبد الله، عن عقيدة الشيخ في العمل في العبادة ؟
فأجابا : عقيدة الشيخ – رحمه الله تعالى – التي يدين الله بها، هي : عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به ؛ وهو : عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان ؛ وهو : اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض أقوال العلماء على ذلك ؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله .
وهذا : هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه، حيث قال : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر) الآية [ النساء : 59 ] أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة ليس هذا موضوع بسطها .(1/207)
(ص220) وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحبا، بل واجباً عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون مخالفاً لإمامه الذي اتبعه، فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين .
قال الإمام مالك رحمه الله : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الشافعي – رحمه الله – لأصحابه : إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط ؛ وفي لفظ : إذا صح الحديث فهو مذهبي . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )[النور:63] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك ؛ لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك . وقال لبعض أصحابه : لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا . وكلام الأئمة في هذا كثير جداً مبسوط في غير هذا الموضع .
وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء، أصحاب المذاهب، فنرجوا أنه يجوز العمل به ؛ لأنهم رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم ؛(1/208)
(ص221) ولكن : لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة ؛ وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها، قديماً وحديثاً ؛ والذي ننكر، هو التعصب للمذهب، وترك اتباع الدليل ؛ إذا تبين هذا، فهذا الذي أنكرناه و أنكره العلماء في القديم، والحديث، والله أعلم .
(222) وقال أيضاً : الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد : فإنا معاشر غزو الموحدين، لما منَّ الله علينا – وله الحمد – بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت، في ثامن شهر محرم الحرام، سنة 1218 هـ، بعد أن طلب أشراف مكة، وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو " سعود " الأمان ؛ وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج، وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرام، ليصدوه عن البيت ؛ فلما زحفت أجناد الموحدين ؛ ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف ؛ ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين ؛ ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون، متأدبون، لم يعضدوا به شجراً، ولم ينفروا صيدا، ولم يريقوا دماً إلا دم الهدى، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع .(1/209)
(223ص) ولما تمت عمرتنا : جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير – رحمه الله – على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه ؛ وهو : إخلاص التوحيد لله تعالى وحده ؛ وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين، أحدهما : إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد، وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة . والثاني : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه .
فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلاً، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفى عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء ؛ ونقرر لهم حال اجتماعهم وقال انفرادهم لدنيا : أدلة ما نحن عليه ونطلب منهم المناصحة، والمذاكرة، وبيان الحق .
وعرفناهم : بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون ما وضحوا برهانه، من كتاب، أو سنة، أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " أو عن الأئمة الأربعة المجتهدون، ومن تلقى العلم عنهم، إلى آخر القرن الثالث ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم " خيركم قرني، ثم الذين(1/210)
(ص224) يلونهم، ثم الذين يلونهم ".
وعرفناهم : أنا دايرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح ؛ ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً، فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات،إن بقيلديهم شبهة؟فذكر بعضهم شبهة، أو شبهتين، فرددناها بالدلايل القاطعة، من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا، ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي، الذي لا غبار عليه .
وحلفوا لنا الإيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم : أنه لم يبق لديهم شك، في أن من قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالباً بذلك دفع شر، أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض، والنصر على العدو، والحفظ من المكروه، ونحو ذلك : أنه مشرك شركاً أكبر، يهدر دمه، ويبيح ماله ؛وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعاً بهم، ومتقرباً بهم، لتقضى حاجته من الله، بسرهم، وشفاعتهم له فيها، أيام البرزخ .
وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين : صارت في هذه الأزمان، أصناماً تقصد لطلب الحاجات، ويتضرع(1/211)
(ص225) عندها، ويهتف بأهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى ؛ وكان من جملتهم : مفتي الحنيفة، الشيخ : عبد الملك القلعي ؛ وحسين المغربي مفتي المالكية ؛ وعقيل بن يحيي العلوي ؛ فبعد ذلك : أزلنا جميع ما كان يعبد، بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والنصر بسببه، من جميع البناء على القبور، وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك .
ثم رفعت : المكوس، والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور ؛ ونودي بالمواضبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم ؛ واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين .
ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة، مما يثلج الصدر ؛ واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام، تنشر في مجالسهم(1/212)
(ص226) وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها، ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه، وهم على بصيرة آمنين .
وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار : حسين بن محمد بن الحسين، الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته، من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة، التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له .
فأخبرناه : بأن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافاً لمن قال طريق الخلف أعلم .
وهي : أنا نقر آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى ؛ فإن مالكاً – وهو من أجل علماء السلف – لما سئل عن الإستواء، في قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه :5] قال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
ونعتقد : أن الخير والشر، كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد ؛ فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلاً، والعقاب(1/213)
(ص227) عدلاً، ولا يجب على الله لعبده شيء ؛ وأنه يراه المؤمنون في الآخرة، بلا كيف ولا إحاطة .
ونحن أيضاً : في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير ؛ الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم ؛ ولا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة .
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة : أخذنا به، وتركنا المذهب، كارث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة .
ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالفاً لمذهب أحد الأئمة ، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلاً، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك ؛ بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالأسرار، وشتان ما بين المسألتين ؛ فإذا قوي الدليل : أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادراً جداً، ولا(1/214)
(ص228) مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الإجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه .
ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا : تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم . وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين : كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير .
ونحرص على كتب الحديث، خصوصاً : الأمهات الست، وشروحها ؛ ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولاً، وفروعاً، وقواعد، وسيراً، ونحواً، وصرفاً، وجميع علوم الأمة .
ولا نأمر باتلاف شيء من المؤلفات أصلاً، إلاّ ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل، إلاّ إن تظاهر به صاحبه معانداً، أتلف عليه ؛ وما اتفق لبعض البدو، في اتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو، وغيره عن مثل ذلك .(1/215)
(ص229) ومما نحن عليه : أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان .
وأما ما يكذب علينا : ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا، النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إلَه إلا ّ الله، حتى أنزل عليه فاعلم أنه لا إلَه إلا ّ الله، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه .
ومن فروع ذلك : أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وإنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه، سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت – رضوان الله عليهم – وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة، لتنكح شاباً، إذا ترافعوا إلينا، فلا وجه لذلك ؛ فجميع هذه الخرافات، وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً، كان(1/216)
(ص230) جوابنا في كل مسألة من ذلك، سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ فمن روى عنا شيئاً من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى .
ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا، علم قطعاً : أن جميع ذلك وضعه، وافتراه علينا، أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان، بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك، الذي نص الله عليه، بأن الله لا يغفره ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء :48] فإنا نعتقد : أن من فعل أنواعاً من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك : أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد في دار الانتقام، إذا مات موحداً بجميع أنواع العبادة .
والذي نعتقده : أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته، بالاشتغال بالصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه .(1/217)
(ص231) ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم ؛ فقد جاء في الحديث، "دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه " الحديث وأمر صلى الله عليه وسلم عمر، وعلياً، بسؤال الاستغفار من " أويس " ففعلا .
ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً ؛ ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين، الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد، بأن يقول أحدنا – متضرعاً إلى الله تعالى - : اللهم شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو : اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك، مما يطلب من الله، لا منهم ؛ فلا يقال : يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ، كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك ؛ بل ورد الكتاب، والسنة، وإجماع السلف : أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه
(232ص) رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/218)
فإن قلت : ما نقول في الحلف بغير الله والتوسل به ؟ قلت : ننظر إلى حال المقسم، إن قصد به التعظيم، كتعظيم الله أو أشد، كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، إذا استحلف بشيخه، أي : معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضي أن يحلف إذا كان كاذباً أو شاكاً، وإذا استحلف بالله فقط رضي، فهو كافر من أقبح المشركين، وأجهلهم إجماعاً، وإن لم يقصد التعظيم، بل سبق لسانه إليه، فهذا ليس بشرك أكبر، فينهى عنه ويزجر، ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن ذلك الهفوة .
وأما التوسل، وهو أن يقول القائل : اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة، ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان .
وأما أهل البيت : فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه : أهل البيت – رضوان الله عليهم – لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم(1/219)
(ص233) والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم .
وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم، وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه، وصارمة، أو ضاربة، أو خاصمةه، فهذا مما لم يرد به نص، ولا دل عليه دليل ؛ بل منكر تجب إزالته ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر، أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات، أو لطول غيبة، فلا بأس به ؛ إلا أنه لما ألف في الجاهلية الأخرى : أن التقبيل صار علماً لمن يعتقد فيه، أو في أسلافه، أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقاً، لا سيما لمن ذكر، حسماً لذرائع الشرك ما أمكن .
وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسماً لتلك المادة، وتنفيراً عن الإشراك بالله ما أمكن، لعظم شأنه، فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى : ( ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ) الآية [ الروم:28] .
وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي : فجائز إجماعاً، بل(1/220)
(ص234) ولا كراهة في ذلك ؛ وقد زوج علي عمر بن الخطاب، وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي ؛ ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار، إلا أنا لا نجبر أحداً على تزويج موليته، ما لم تطلب هي، وتمتنع من غير الكفء ؛ والعرب : أكفاء بعضهم لبعض ؛ فما اعتيد في بعض البلاد من المنع، دليل التكبر، وطلب التعظيم ؛ وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير، كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء ؛ وقد تزوج زيد – وهو من الموالي – زينب أم المؤمنين، وهي قرشية ؛ والمسألة معروفة عند أهل المذاهب، انتهى .
فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له : يلزم من تقريركم، وقطعكم في أن من قال يا رسول الله، أسألك الشفاعة : أنه مشرك مهدر الدم ؛ أن يقال بكفر غالب الأمة ، ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين : أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك ! قلت : لا يلزم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، كما هو مقرر، ومثل ذلك : لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو، كما ورد الحديث بذلك .
ونحن نقول فيمن مات : تلك أمة قد خلت ؛ ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبراً معانداً، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل(1/221)
(ص235) الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر، المحرمات ؛ وغير الغالب : إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى : بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعاً ؛ ومن شن الغارة فقط غلط ؛ ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر، وفي غير ذلك يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره، فقالوا اجعل لنا ذات أنواط كمالهم ذات أنواط.
فإن قلت : هذا فيمن ذهل، فلما نبه انبته، فما القول فيمن حرر الأدلة ؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة ؟ واستمر مصراً على ذلك حتى مات ؟ قلت : ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول : إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطىء، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسان وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه المحبة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين : التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً ؛ ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه ؛ ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من
( ص236 ) شاء الله منهم .
هذا : وقد رأى معاوية وأصحابه – رضى الله عنهم- منابذة أمير المؤمنين علي أبي طالب رضي الله عنه، وقتال، ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعاً، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وان كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة .(1/222)
ونحن كذلك : لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننك سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها ؛ ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين .
هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال، وأما من شأنه : لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقاً، أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )(1/223)
(ص237) [ الزخرف:23] عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف، حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه ؛ وجنود التوحيد – بحمد الله – منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) [ الشعراء:227] و(إن حزب الله هم الغالبون) [ المائدة:56] وقال تعالى : (وإن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات:173] ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) [ الروم:47] (والعاقبة للمتقين ) [ الأعراف:128] .
هذا ومما نحن عليه : أن البدعة، وهي : ما حدثت بعد القرون الثلاثة، مذمومة مطلقاً، خلافاً لمن قال حسنة، وقبيحة ؛ ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا إن أمكن الجمع، بأن يقال : الحسنة ما عليه السلف الصالح، شاملة : للواجبة، والمندوبة، والمباحة ؛ ويكون تسميتها بدعة مجازاً ؛ والقبيحة ما عدى ذلك، شاملة : للمحرمة، والمكروهة ؛ فلا بأس بهذا الجمع .
فمن البدع المذمومة التي ننهي عنها : رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر غير ذلك بعد أذان، أو في ليلة الجمعة، أو رمضان، أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة .
وقد أبطلنا ما كان مألوفاً بمكة، من التذكير، والترحيم، ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة ؛ ومنها : قراءة(1/224)
(ص238) الحديث عن أبى هريرة بين يدي خطبة، فقد صرح شارح الجامع الصغير :بأنه بدعة ؛ ومنها : الاجتماع في وقت مخصوص، على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقاداً أنه قربة مخصوصة مطلوبة، دون علم السير، فإن ذلك لم يرد . ومنها : اتخاذ المسابح، فإنا ننهى عن التظاهر باتخاذها ؛ ومنها : الاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح، والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان ؛ وراتب الحداد ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فإن سلموا من ارشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة، بل بدعة، فذاك ؛ فإن أبوا، عزرهم الحاكم بما يراه رادعاً .
وأما أحزاب العلماء، المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها، فإن الأذكار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، مطلوب شرعاً ؛ والمعتنى به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثواباً، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع، ولا تغبير، ولا تحريف، وقد قال تعالى : (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ) [ الأعراف:55] وقال تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف :180] ولله در النووي في جمعه : كتاب الأذكار ؛ فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق .
ومنها : ما اعتيد في بعض البلاد، من قراءة مولد(1/225)
(ص239) النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، والأذكار والقراءة، ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك ؛ وأما صلاة التراويح فسنة، لا بأس بالجماعة فيها، والمواظبة عليها .
ومنها : ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض، بعد آخر جمعة من رمضان ؛ وهذه : من البدع المنكرة إجماعاً، فيزجرون عن ذلك أشد الزجر ؛ ومنها رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت أو عند رش القبر بالماء وغير ذلك مما لم يرد عن السلف، وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتاباً نفسياً سماه : " الحوادث والبدع " واختصره أبو شامة المقدسي فعلى المعتني بدينه بتحصيله .
وإنما ننهى عن البدع، المتخذة ديناً وقربة ؛ وأما مالا يتخذ ديناً وقربة، كالقهوة، وإنشاء قصائد الغزل، ومدح الملوك، فلا ننهى عنه، ما لم يخلط بغيره إما ذكر أو اعتكاف في مسجد، ويعتقد أنه قربة، لأن حسان رد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال : قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر .
ويحل كل لعب مباح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث(1/226)
(ص240) الحماسة فيه، كطبل الحرب، دون آلات الملاهي، فإنها محرمة ؛ والفرق ظاهر ؛ ولا بأس دف العرس، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة " وقال : " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " .
هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه : إماما حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها : طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول، به تبعاً للأئمة، ونرى الوقف صحيحاً، والنذر جايزاً، ويجب الوفاء به في غير المعصية .
ومن البدع المنهي عنها : قراءة الفواتح للمشائخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم، والتوسل بهم على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات، معتقدين أن ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلى الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فإن الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به، لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي منه بقوله : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، واستغفرك لما لا أعلم، إنك أنت علام الغيوب ".
وينبغي المحافظة على هذه الكلمات، والتحرز عن الشرك ما أمكن ؛ فإن عمر بن الخطاب قال : إنما تنقض عرى(1/227)
(ص241) الإسلام عروة عروة : إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أو كما قال . وذلك لأنه يفعل الشرك، ويعتقد أنه قربة، نعوذ بالله من الخذلان، وزوال الإيمان .
هذا ما حضرني حال المراجعة مع المذكور، مدة تردده، وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح علي : نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من أمر الغزو ؛ فمن أراد تحقيق ما نحن عليه، فليقدم علينا الدرعية، فسيرى ما يسر خاطره، ويقر ناظره، من الدروس في فنون العلم، خصوصاً التفسير، والحديث ؛ ويري ما يبهره بحمد الله وعونه، من إقامة شعائر الدين، والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين .
ولا ننكر : الطريقة الصوفية، وتنزيه الباطن من رذايل المعاصي، المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلات في كلامه، ولا في أفعاله، ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .(1/228)
(ص242) وسئل أيضاً : عما يدينون به، ويعتقدونه، فقال رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام التام، على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ؛ إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني، وفقه الله وهداه، وجنبه الإشراك، والبدعة، وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
أما بعد : فوصل الخط، وتضمن السؤال فيه عما نحن عليه من الدين ؟ فنقول : وبالله التوفيق، الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي، حبيب الله، وصفيه من خلقه، محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فأما عبادة الله، فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات :56] وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل :36] .
فمن أنواع العبادة : الدعاء، وهو الطلب بياء النداء، لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة : اسم جنس، فأمر تعالى عباده : أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، فقال(1/229)
(ص243) تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر:60] وقال في النهي : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن:18] وأحداً : كلمة تصدق على كل ما دعي مع الله تعالى ؛ وقد روى الترمذي عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء مخ العبادة " وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي .
قال العلقمي : في شرح الجامع الصغير حديث الدعاء مخ العبادة، قال شيخنا : قال في النهاية : مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين، أحدهما : أنه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال : ( ادعوني أستجب لكم ) فهو مخ العبادة، وهو خالصها ؛ الثاني : أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده، ولأن الغرض : من العبادة هو : الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء ؛ وقوله : الدعاء هو العبادة، قال شيخنا، قال الطيببي : أتى بالخير المعرف باللام، ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، انتهى كلام العلقمي .
إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم ؛ بل نعلم : أنه نهى عن هذه الأمور
( ص244) كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله، قال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 5-6 ] وقال تعالى : ( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ) [ الشعراء : 213] وقال : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) الآيات [ يونس : 106-108 ] .(1/230)
وهذا من معنى لا إلَه إلا ّ الله، فإن " لا " هذه النافية للجنس، فنفى جميع الآلهة، " وإلا " حرف استثناء، يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، و" الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى، وهو الذي يخلق ويرزق، ويدبر الأمور، وهو الذي يستحق الإلهية وحده ؛ والتأله : التعبد، قال الله تعالى : ( وإلهكم إله واحد إلا هو الرحمن الرحيم ) ثم ذكر الدليل، فقال : ( إن في خلق السموات والأرض ) إلى قوله : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ) الآية [ البقرة : 163 :164، 165 ] .
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته : متابعته في الاعتقادات، والأقوال، والأفعال ؛ قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31] .
( ص245 ) وقال صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان، فإن شهادة أن محمداً رسول الله : تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته، ومتابعته في كل ما أمر به .
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وما عليه الأئمة المقتدى بهم، من أهل الحديث، والفقهاء، كأبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين، لكي تتبع آثارهم .(1/231)
وأما مذهبنا : فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة، ولا إجماع الأمة ، ولا قول جمهورها ؛ والمقصود : بيان ما نحن عليه من الدين، وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها، بخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول فيها، نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع، كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة .
( ص246) على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك، فهذا حسن، والله أعلم
وسئل أيضاً : الشيخ عبد الله بن محمد، رحمه الله، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاوية، ويزيد وبني أمية، وبنى العباس : أن يحاربوا علي بن أبي طالب، والحسن والحسين عليهم السلام، ويقتلوهم، ويحبسوهم، ويلوا عليهم الخلافة وينقلوهم ؟! وهل ذلك منهم طاعة لله ورسوله ؟! أو معصية، وهل ذلك يرضي الله أم يغضبه ؟ ورسوله قال يوم غدير خم : " اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه " الحديث، وقال : " أنا مدينة العلم، وعلي بابها " و" علي مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " وقال : أهل بيتي كسفينة نوح " ؟ !
فأجاب : هذا سؤال متعنت، لا مسترشد، وجوابنا في ذلك أن نقول : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعلمون ) [ البقرة : 134] وفصل القضاء في ذلك إلى الله تبارك وتعالى، ليس إلى أحد من خلقه، ونحن نعتقد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أولى بالخلافة من معاوية فضلاً عن بنى أمية، وبني العباس، والحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة صح عن جدهما صلوات الله وسلامه عليه : " أنهما سيدا شباب أهل الجنة " وهم أولى من يزيد بالخلافة، وبني أمية، وبني العباس الذين تولوا الخلافة .(1/232)
(ص247 ) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي رضى الله عنهما، وهو إذ ذاك صغير : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فمدحه على فعله بالإصلاح بين المسلمين وترك الخلافة لمعاوية .
ومن العجب : أن الرافضة، والزيدية، يزعمون عصمته من الخطأ والزلل، وهو الذي تركها بنفسه، بلا إكراه، ومعه وجوه الناس، وشجعانٍهم، أكثر من ثلاثين ألفاً،قد بايعوه على الموت، فترك الخلافة لمعاوية مع ذلك، حقناً لدماء المسلمين، ورغبة فيما أعد الله للمؤمنين، وزهداً في الدنيا الفانية، فأخبرونا : هل هو رضي الله عنه مصيب في ذلك ؟ أم مخطىء ؟ فإن قلت هو مخطىء، بطل قولكم بالعصمة واستدلالكم بالآية الشريفة :" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت "الآية [الأحزاب:33] على العصمة، لأن : الحسن، من أهل الكساء، بالإجماع .
وإن قلتم : هو مصيب، فقد أصبتم ؛ وكذلك نحن نقول :هو مصيب فيما فعله، وفعله أحب إلى الله ورسوله، من القتال على الملك، كما قال رضي الله عنه لبعض الشيعة، لما قالوا له : السلام عليك، يا مذل المؤمنين ؛(1/233)
(ص248) قال : لست بمذل المؤمنين، ولكن كرهت أن أفتنكم على الملك، وفى رواية أنه قال : اخترت العار على النار، كما ذكر ذلك أهل التواريخ ؛ وهو أيضاً : مبطل قولكم في كفر معاوية، وسبه، ولعنه ؛ فثبت بما ذكرنا : بطلان قول الشيعة ولله الحمد والمنة .
وأما حديث : " غدير خم " فهو حديث صحيح، وليس فيه تصريح بأن علياً خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فهم ذلك على، ولا أهل بيته من الحديث، لأنه ثبت عنه رضي الله عنه بالأسانيد الصحيحة، عن جماعة من أصحابه وأهل بيته، أنه قال للناس في خلافته وهو على المنبر ألا أخبركم بخير الناس، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبى بكر : عمر ؛ وثبت عنه أيضاً : لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخا بني تيم، وأخا بني عدي ؛ ولقاتلتهما بسيفين، أو كما قال رضي الله عنه . وأما قوله : " أنا مدينة العلم، وعلى بابها " فلا نعرف ذلك في دواوين العلم المعتمدة، بل هو عند أهل العلم بالحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأما قوله : " علي مني بمنزلة هارون من موسى " فهو حديث صحيح، أخرجه مسلم وغيره، وليس فيه تصريح بأنه خليفة بعد موته، ولا فهمه أمير المؤمنين من الحديث، كما فهمه جهال الرافضة والزيدية ؛ وأما قوله : أهل بيتي مثل سفينة نوح، فهذا أيضاً حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له أهل الحديث إسناداً(1/234)
(ص249) صحيحاً فيما بلغنا عنهم، والله أعلم .
وسئل أيضاً : عن قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ) الآية [ النساء : 115 ] من هم المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم؟: فإن قلتم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار سيرتهم، فنسألكم : هل كان علي بن أبي طالب، والحسن والحسين، والصادق، والباقر، والنفس الزكية، وحسن بن الحسن، وأمثالها من ذرية علي وفاطمة رضي الله عنهم هم من المؤمنين الذين أنكر الله على من خالف سبيلهم ؟ أم لا ؟
فأجاب : علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، من ساداتهم، وكذلك طلحة، والزبير رضي الله عنهما، ومن معهما من أهل بدر، وكذلك معاوية بن أبي سفيان، ومن معه من أهل الشام، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين ؛ فنتولى الجميع، ونكف عما شجر بينهم، وندعوا لهم بالمغفرة، كما أمرنا الله بذلك بقوله : ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) [ الحشر:10] ونقول كما قال بعض العلماء :
إن كان نصباً حب صحب محمد ... ... ... فليشهد الثقلان أني ناصبي
ونقول لمن أمر بمعاداة أهل البيت، وبغضهم، والتبري منهم، ما قاله بعض العلماء :(1/235)
(ص250) إن كان رفضاً حب آل محمد ... ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وأما قولكم : إنا ننكر علم أهل البيت، وأقوالهم، ومذاهبهم، ومذهب الزيدي، زيد بن علي بن الحسين، بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، على علم جده رضي الله عنه، فهذا كذب وبهتان علينا، بل زيد بن علي عندنا، من علماء هذه الأمة ، فما وافق من أقوال الكتاب والسنة قبلناه، وما خالف ذلك رددناه، كما نفعل ذلك مع أقوال غيره من الأئمة ، هذا إذا صح النقل عنه بذلك، وأكثر ما ينسب إليه، ويروى عنه، كذب وباطل عليه، كما يكذب أعداء الله الرافضة على علي رضي الله عنه، وأهل بيته، ويروون عنهم أقوالاً وأحاديث، مخالفة الشريعة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما ثبت عن العلماء من أقوالهم الصحيحة، الثابتة عنهم بنقل الثقات .
وسئل أيضاً : عن مذهب الزيدي، فأجاب : مذهب الزيدي الصحيح منه، ما وافق الكتاب والسنة ؛ وما خالفه فهو باطل، لا مذهب الزيدي، ولا غيره من المذاهب .
وسئل أيضاً : الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يؤتى بالموت على صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، فيقال : يا أهل الجنة خلود في النعيم بلا انقضاء، ويا أهل النار : خلود في الجحيم بلا انتهاء " ومعلوم أن الموت عدم الروح التي بها حركة الجسد، وهذا شيء منوى، فإن
( ص251) الذبح لا يحصل إلا في الأعيان الجسمانية ذات الأرواح، فإذا كان يؤتى به على صورة كبش، كما ذكره الشارع، كيف كان صورته من قبل ؟ وهل تحدث له روح عند ذلك(1/236)
فأجاب : الذي ينبغي للمؤمن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الأمور الغائبة، وإن لم يعلم كيفية ذلك، كما مدح سبحانه المؤمنين بذلك، بقوله تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة:3-5] .
وقد مدح الله سبحانه أهل العلم : بأنهم يقولون في المتشابه ( آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران:7] وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما علمتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه " إذا علمت ذلك : فاعلم أن شراح الحديث، ذكروا فيه أقوالاً، الله أعلم بصحتها ؛ قال : في فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، قوله : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت " وفي رواية :" يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح ".
وذكر مقاتل، والكلبي : في تفسيرهما، في قوله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ) [الملك:2] قال : خلق الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات ؛ وخلق الحياة في صورة فرس، لا تمر على أحد إلا حيي ؛(1/237)
(ص252) قال القرطبي : الحكمة في الإتيان بالموت هكذا ؛ الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء به، كما فدى ولد إبراهيم بالكبش ؛ وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة، والنار، لأن الأملح ما فيه بياض وسواد .
ثم قال ابن حجر : قال القاضي أبو بكر ابن العربي : استشكل هذا الحديث، فأنكرت صحته طائفة، ودفعته ؛ وتأولته طائفة، قفالوا : هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة وقالت طائفة بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه، لأنه الذي تولى قبض أرواحهم .
قلت : وارتضى هذا بعض المتأخرين، وحمل قوله : هو الموت الذي وكِّل بنا، على أن المراد به ملك الموت، لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا، واستشهد له من حيث المعني : بأن ملك الموت لو استمر حياً لنغص عيش أهل الجنة، وأيده بقوله في حديث الباب : " فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم " انتهى، قلت : ويكفي المؤمن اللبيب الإيمان بالله ورسوله، فيما لا يتبين له حقيقة معناه، وظاهر الحديث بين لا إشكال فيه، عند من نور الله قلبه بالإيمان، وشرح صدره بالإسلام .(1/238)
(ص253) وسئل أيضاً : رحمه الله تعالى عن قوله صلى الله عليه وسلم :" ما منا إلا من عصى أوهم بمعصية إلا يحيي بن زكريا " والإجماع منعقد على : أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر وإذا قيل إنهم معصومون، فما بال أولاد يعقوب، ومعلوم بالضرورة أنهم أنبياء، وحال آدم حين قال الله تعالى : ( وعصى آدم ربه فغوى ) [طه:121] وكذلك داود مع قوله عليه السلام : " كلنا خطاؤون " فذكر الجواب من وجوه .
الوجه الأول : أن لفظ الحديث المروي في ذلك " ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا وقد أذنب إلا يحيى بن زكريا" أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، أنبأنا معمر عن قتاده في قوله : " ولم يكن جباراً عصياً ) [ مريم:14] قال : كان ابن المسيب يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكره، وهذا مرسل، لكن أصح المراسيل عند أهل الحديث : مرسل سعيد بن المسيب ؛لكن أخرج أحمد في مسنده، عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أوهم بخطيئة، ليس يحيي بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى ".
الوجه الثاني : أن الذي عليه المحققون من العلماء، من الحنابلة، والشافعية، والمالكية، والحنيفة :(1/239)
(ص254) أن الأنبياء معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فقد تقع منهم، لكنهم لا يقرون عليها، بل يتوبون منها، ويحصل لهم بالتوبة منها أعظم مما كان قبل ذلك ؛ وجميع أهل السنة، والجماعة : متفقون على أنهم معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين .
قال : شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، رحمه الله تعالى، في كتاب منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية : واتفق المسلمون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فكل ما يبلغون عن الله من الأمر والنهي، فهم مطاعون فيه باتفاق المسلمين، وما أمروا به ونهوا عنه، فهم مطاعون فيه، عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج : أن النبي معصوم فيما يبلغه عن الله ؛ لا فيما يأمر به وينهي عنه ؛ وهؤلاء : ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة، وأكثر الناس، أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر ؛ والجمهور : يجوزون الصغاير، يقولون : إنهم لا يقرون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة، أعظم مما كان قبل ذلك، انتهى كلامه .
فتبين : بما ذكرنا، وهْمُ السائل، وخطؤه في نقل الإجماع ، على أنهم معصومون من الكبائر والصغائر، ولعله قد غره : كلام بعض المتأخرين، الذين يقولون بذلك، أو يقلدون من يقوله من أئمة الكلام، الذين لا يحققون مذهب(1/240)
(ص255) أهل السنة والجماعة، ولا يميزون بين الأقوال الصحيحة، والضعيفية، والباطلة ؛ كيف والقرآن محشو من الدلائل، على وقوع الذنوب منهم؟! كقوله تعالى : (وعصى آدم ربه فغوى ) [طه:121] وقوله عن موسى عليه السلام : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) [القصص:16] .
وقول يونس عليه السلام : ( لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [الأنبياء:87] وقول نوح عليه السلام : ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) [ هود :47] وقوله عن آدم عليه السلام : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) الآية [ الأعراف:23] وقول إبراهيم عليه السلام : (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [الشعراء:82] وقوله عن داود عليه السلام ( فاستغفر ربه ) الآية [ص :24] وقل موسى عليه السلام : ( رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) [ الأعراف : 151 ] وقوله عن نبيه صلى الله عليه وسلم ( فاستغفر لذنبك وللمؤمنين ) الآية [ محمد : 19 ] وقوله : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) الآية [ الفتح : 2 ] . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو، يقول : " رب اغفر لي ذنبي كله ، دقه، وجله وأوله، وآخره، وسره وعلانيته " وقوله : " اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي " وأشباه ذلك كثير، والله أعلم .(1/241)
(ص256) وسئل أيضاً : عبد الله بن الشيخ، محمد، عن حديث جبريل، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، والإحسان .
فأجاب : فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام : بالأعمال الظاهرة ؛ وهي : أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً .
وفسر الإيمان : بالأعمال الباطنة، وهي أعمال القلب، فقال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، وتؤمن بالقدر، خيره وشره ؛ فهذه : ستة أصول الإيمان ؛ نسأل الله أن يرزقنا فهمها، والعمل بمقتضاها .
وفسر الإحسان، بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ففسره بأن تعبد الله، كأنك تشاهده، فإن لم تكن تشاهده، فهو يراك، لا يخفي عليه منك شيء حتى ما توسوس به نفسك ؛ والإحسان : أعلى المراتب العالية، وبعده في المرتبة والفضيلة : الإيمان بالله، وبعده في المرتبة والفضيلة : الإسلام، وكل واحد منهما يتضمن الأخر ، مع الإطلاق، وإذا قرن بينهما في آية، أو حديث، فسره أهل العلم بما ذكرنا .(1/242)
(ص257) سئل الشيخ : حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى، عن فعل الفقراء .
فأجاب : هو بدعة، لأنه عمل لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله الصحابة، ولا التابعون ؛ بل قد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة ؛ فمن ذلك : ما في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، قالت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفى لفظ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
وفي حديث العرباض، بن سارية : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " فعمل الفقراء محدث، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه أمره، فهو بدعة ضلالة .
وأيضاً : فهو قول أهل العلم ؛ أعني النهي عن جميع المحدثات في الدين .(1/243)
(ص258) وقال الإمام : عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهما الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود : إلى من يراه من أهل بلدان العجم والروم ؛ أما بعد : فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، ونسأله : أن يصلي، ويسلم على حبيبه من خلقه، وخليله من عبيده، وخيرته من بريته، محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التحيات، وعلى إخوانه من المرسلين، وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاماً دائمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين .
ثم نخبركم : أن محمداً خلفا النواب، ألفى علينا مع الحاج، وأقام عندنا مدة طويلة، وأشرف على ما نحن عليه من الدين، وما ندعوا إليه الناس، وما نقاتلهم عليه، وما نأمرهم به، وما ننهاهم عنه، وحقائق ما عندنا : يخبركم به أخونا محمد من الرأس ؛ ونحن : نذكر لكم ذلك، على سبيل الإجمال .
أما الذي نحن عليه، وهو الذي ندعوا إليه من خالفنا : أنا نعتقد أن العبادة حق لله على عبيده، وليس لأحد من عبيده(1/244)
(ص259) في ذلك شيء، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل ؛ فلا يجوز لأحد : أن يدعو غير الله، لجلب نفع، أو دفع ضر، وإن كان نبياً أو رسولاً، أو ملكاً، أو ولياً ؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى، يقول في كتابه العزيز : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18] وقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً، قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ) [الجن:21-22] .
وقال عز من قائل : ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [الأحقاف :5-6] وقال عز من قائل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء:25] وقال جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه : ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )[الرعد:14] وقال : ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) [المؤمنون:117] .
ولا يجوز لأحد يتوكل على غير الله، ولا يستعيذ بغير الله، ولا ينذر لغير الله، تقرباً إليه بذلك، ولا يذبح لغير الله، كما قال تعالى : ( فصل لربك وانحر ) [ الكوثر:2](1/245)
(ص260) وقال : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) [ الأنعام :162-163] وقال عز وجل : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ التوبة:51] .
فإن قال قائل / أتوسل بالصالحين، وأدعوهم، أريد شفاعتهم عند الله ؛ وقد يحتج على ذلك بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) [ المائدة : 35 ] قيل له : الوسيلة المأمور بها، هي : الأعمال الصالحة ؛ وبذلك فسرها جميع المفسرين، من الصحابة فمن بعدهم ؛ أو يتوسل إلى الله بعمله الصالح، كما قال عز وجل إخبار عن المؤمنين : ( ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) [ آل عمران : 16 ] وقال عنهم في آخر الصورة : ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) [ آل عمران : 193 ] وكما حديث الثلاث، الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم .
وأما دعوة غير الله، والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، لكشف الشدائد، أو جلب الفوائد، فهو الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهى عنه ؛ وإن كان الداعي غير الله : إنما يريد شفاعتهم عند الله ؛ وذلك لأن الكفار، مشركي العرب،
( ص261) وغيرهم، إنما أرادوا ذلك، كما قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18 ] .(1/246)
وقال في الآية الأخرى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) [ الزمر : 3 ] ولم يقولوا : إنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يعبدون آلهتهم، ويعبدون تماثيلهم، ليقربوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده ؛ فبعث الله رسله، وأنزل كتبه ينهى أن يدعي أحد غيره، ولا من دونه، لادعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة.
وهذا هو دين جميع الرسل، لم يختلفوا فيه كما اختلفت شرائعهم في غيره ؛ قال الله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) [الشورى : 13] وهو معنى لا إله إلا الله، فان الإله هو المعبود بحق، أو باطل ؛ فمن عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص الدعوة كلها لله، وأخلص التوكل على الله، وأخلص الذبح، وأخلص النذر لله، فقد وحّد الله بالعبادة، وجعل الله إلهه دون ما سواه .
ومن أشرك مع الله إلهاً غيره في الدعوة، أو في الاستغاثة، أو في التوكل، أو في النذر ،فقد اتخذ مع الله إلهاً آخر، وعبد معه غيره، وهو أعظم الذنوب، إثما عند الله، كما ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قلت يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " الحديث . وقال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وقال ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [المائدة:72].
وهذا :هو سبب عداوة الناس لنا، وبغضهم إيانا، لما أخلصنا العبادة لله وحده، ونهينا عن دعوة غير الله، ولوازمها من البدع المضلة ،والمنكرات المغوية(1/247)
(ص262) فلأجل ذلك رمونا بالعظائم، وحاربونا، ونقلونا عند السلاطين والحكام، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنصرنا الله عليهم ،وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وذلك سنة الله وعادته مع المرسلين، وأتباعهم إلى يوم القيامة
قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر :51] وقال تعالى : ( وإن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات : 173] وقال عن موسى صلاة الله وسلامه عليه أنه قال لقومه : ( استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) [ الأعراف:128] وقال تعالى : ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين ) [ يونس :103] وقال(1/248)
(ص263) تعالى : ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) [ الروم:47] .
ونأمر جميع رعايانا : باتباع كتاب الله، وسنة رسوله، وإقام الصلاة في أوقاتها، والمحافظة عليها، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، من استطاع إليه سبيلاً ؛ ونأمر بجميع ما أمر الله به ورسوله من العدل، وإنصاف الضعيف من القوي، ووفاء المكاييل والموازين، وإقامة حدود الله على الشريف، والوضيع .
وننهى : عن جميع ما نهى عنه الله ورسوله، من البدع والمنكرات ؛ مثل الزنا، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وظلم الناس بعضهم بعضاً ؛ ونقاتل : لقبول فرائض الله التي أجمعت عليها الأمة ؛ فمن فعل ما فرض الله عليه فهو أخونا المسلم، وإن لم يعرفنا ونعرفه
ونحن نعلم : أنه يأتيكم أعداء لنا، يكذبون علينا عندكم، ويرموننا عندكم بالعظائم، حتى يقولوا : إنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويكفرون الناس بالعموم ؛ وإنا نقول : إن الناس من نحو ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأنهم كفار، وإن من لم يهاجر إلينا فهو كافر ؛ وأضعاف أضعاف ذلك من الزور، الذي يعلم العاقل أنه من الظلم، والعدوان، والبهتان .
ولكن : لنا في رسول الله أسوة، فإن أعداءه قالوا :إنه يشتم عيسى وأمه، وسموه بالصابئي، والساحر، والمجنون ؛(1/249)
(ص264) ونحن : لا نكفر إلا من عرف التوحيد وسبه، وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه، وأحب أهله، ودعى إليه، وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة، وإن لم يفعل الشرك، أو فعل الشرك، وسماه التوسل بالصالحين، بعدما عرف : أن الله حرمه، أو كره بعض ما أنزل الله، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) [محمد:9] أو استهزأ بالدين، أو القرآن، كما قال تعالى : ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) [التوبة:65-66] قال العلماء في هذه الآية : الاستهزاء بالله كفر مستقل بالإجماع، والاستهزاء بالرسول كفر مستقل بالإجماع .
وهذه الأنواع، التي ذكرنا أننا نكفر من فعلها : قد أجمع العلماء كلهم، من جميع أهل المذاهب، على كفر من فعلها ؛ وهذه كتب أهل العلم، من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، موجودة ولله الحمد والمنة ؛ وصلى الله على نبينا محمد، وصحبه وسلم .(1/250)
(ص265) وله أيضاً : رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود : إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني ؛ وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية .
أما بعد : فالموجب لهذه الرسالة، أن الشريف أحمد، قدم علينا، فرأى ما نحن عليه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك : التمس منا أن نكتب ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه .
فاعلموا رحمكم الله تعالى : أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك، وأكبره، وزبدته : إخلاص العبادة لله لا شريك له، والنهي عن الشرك، وذلك: هو الذي خلق الله الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله، كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات 56] وقال تعالى : (وما أمروا إلا إلهاً واحداً ) [التوبة 31 ] وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة(1/251)
(ص266) رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل : 36] .
وإخلاص الدين، هو : صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له ؛ وذلك : بأن لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يخشى، ولا يرجى سواه، ولا يرهب، ولا يرغب إلا فيما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه، وأن كل ما هنالك لله تعالى، لا يصلح منه شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما ؛ وهذا : هو بعينه توحيد الألوهية، الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم عن الكافر ؛ وهو معنى : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله .
فلما من الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل : اتبعناه ودعونا الناس إليه ؛ وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب والناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحيى أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام .
وهو الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد، الذي : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(1/252)
(ص267) تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت :42] .
فبين لنا : أن الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين، وغيرهم، ودعوتهم، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب الحاجات منهم : أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه .
قال الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء:48] وقال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [المائدة:72] وقال تعالى : ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) [فاطر :14] والآيات في أن دعوة غير الله تعالى الشرك الأكبر : كثيرة، واضحة، شهيرة .
فحين : كشف لنا الأمر ؛ وعرفنا ما نحن عليه من الشرك، والكفر بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة الإعلام ، الذين أجمعت الأمة على درايتهم ؛ عرفنا : أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولاً : أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وحذر ؛ وأن الله إنما أمرنا أن ندعوه وحده لا شريك له، وذلك كما قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [الجن:18] وقال تعالى : ( له دعوة الحق ) [الرعد : 14](1/253)
(ص268) وقال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [الأحقاف:5-6) .
إذا عرفتم هذا، فاعلموا رحمكم الله تعالى : أن الذي ندين الله به، هو : إخلاص العبادة لله وحده، ونفي الشرك، وإقام الصلاة في الجماعة، وغير ذلك من أركان الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ؛ ولا يخفى على ذوي البصائر، والأفهام، والمتدبرين من الأنام : أن هذا هو الدين، الذي جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قال جل جلاله : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) [آل عمران:85] وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [المائدة:3] .
فمن قبل ولزم العمل به، فهو حظه في الدنيا، والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى واستكبر، فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك، وقاتلناه، قال الله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [الأنفال:39] وقصدنا بإرسال هذه النصيحة إليكم : القيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [يوسف:108] وصلى الله على محمد .(1/254)
(ص269) وله أيضاً :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود : إلى جناب أحمد بن علي القاسمي، هداه الله، لما يحبه ويرضاه .
أما بعد : فقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما تضمنه من خطابك، وما ذكرت من أنه قد بلغكم : أن جماعة من أصحابنا، صاروا ينقمون على من هو متمسك بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن مذهبه مذهب أهل البيت الشريف ؛ فليكن لديك معلوماً أن المتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل البيت الشريف فهو لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة . ولكن الشأن : في تحقيق الدعوى بالعمل ؛ وهذه الأمة : افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وجميع أهل البدع والضلال من هذه الأمة : يدعون هذه الدعوى، كل طائفة تزعم أنها هي الناجية .
فالخوارج، والرافضة، الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وكذلك الجهمية، والقدرية، وأضرابهم، كل فرقة من(1/255)
(ص270) هذه الفرق : تدعي أنها هي الناحية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصار في هذا تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم : "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ".
وأما ما ذكرت : من أن مذهب أهل البيت أقوى المذاهب، وأولاها بالاتباع، فليس لأهل البيت مذهب، إلا اتباع الكتاب، والسنة، كما صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قيل له : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا ؛ والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة .. الحديث ؛ وهو مخرج في الصحيحين .
وأهل البيت، رضي الله عنهم : كذبت عليهم الرافضة، ونسبت إليهم ما لم يقولوه، فصارت الروافض ينتسبون إليهم، أهل البيت براء منهم، فإياك أن تكون أنت وأصحابك منهم، فإن أصل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل بيته، عليهم السلام، هو : توحيد الله بجميع أنواع العبادة، لا يدعى إلا هو ولا ينذر إلا له ولا يذبح إلا له ولا يخاف خوف السراء إلا منه منه، ولا يتوكل إلا عليه ؛ كما دل على ذلك الكتاب العزيز .
فقال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن:18] وقال تعالى : ( له دعوة الحق والذين يدعون(1/256)
(ص271) من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ) [ الرعد:14] وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )[النحل:36] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [الأنبياء:25] .
فهذا التوحيد، هو : أصل دين أهل البيت – عليهم السلام – من لم يأت به، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته : براء منه، قال الله تعالى: ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ) [التوبة :3] .
ومن مذهب أهل البيت : إقامة الفرائض، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج ؛ ومن مذهب أهل البيت : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة المحرمات ؛ ومن مذهب أهل البيت : محبة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ؛ وأفضل السابقين الأولين : الخلفاء الراشدون، كما ثبت ذلك عن علي من رواية ابنه محمد بن الحنيفة، وغيره من الصحابة، أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر، ثم عمر ؛ والأدلة : الدالة على فضيلة الخلفاء الراشدين، أكثر من أن تحصر .
فإذا كان مذهب أهل البيت : ما أشرنا إليه، وأنتم تدعون أنكم متمسكون بما عليه أهل البيت، مع كونكم على خلاف ما هم عليه ؛ بل أنتم مخالفون لأهل البيت، وأهل(1/257)
(ص272) البيت براء مما أنتم عليه ؛ فكيف يدعي اتِّباع أهل البيت : من يدعو الموتى ؟! ويستغيث بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته ؟! والشرك ظاهر في بلدهم، فيبنون القباب على الأموات، ويدعونهم مع الله، والشرك بالله هو أصل دينهم، مع ما يتبع ذلك من ترك الفرائض، وفعل المحرمات، التي نهى الله عنها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسب أفاضل الصحابة : أبو بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة .
وأما قولك : إن أناساً من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم !
فنقول : بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، والناس أجمعين ؛ لكن لم يأمرنا بالغلو فيه، وإطرائه ؛ بل هو : صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فيما ثبت عنه في الصحيح، أنه قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله ".
وفي الحديث الأخر : أنه قال، وهو في السياق : " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا " قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لا برز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً ؛ وفي الحديث الأخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " وثبت عن علي بن الحسين : أنه(1/258)
(ص273) رأى رجلا يأتي إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو، فنهاه عن ذلك، واحتج عليه بالحديث .
وأما قولك : إن المراد بقوله : " لا تتخذوا قبري عيداً " تكرار الزيارة، المرة بعد المرة، والفينة بعد الفينة، وأن الزيارة لا تكون مثل العيد، مرتين فقط، بل تكون متتابعة، ومكررة، فلا يكون الاعتقاد منكم غير هذا .
فهذا : دليل على جهلك بمذهب أهل البيت، وبما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أهل البيت، فسّروا الحديث، بأن المراد : اعتياد إتيانه، والدعاء عنده، كما تقدم ذلك عن زين العابدين، على بن الحسين رضي الله عنه، وهذا : هو الذي استمر عليه عمل السلف، وأهل البيت، فإنهم كانوا إذا دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّموا عليه، وعلى صاحبيه ؛ ولم يقفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الدعاء هناك، ولم يتمسحوا به، بل إذا أراد أحدهم الدعاء هناك : انصرف عن القبر، واستقل القبلة، ودعا .
وأما قولك : وأوجب الصلاة عليه، وعلى آله في الصلاة .
فالذي عليه أكثر العلماء : أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الصلاة لا تجب، وأوجبها بعض العلماء، مستدلا بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) [ الأحزاب : 56 ] وليس في الآية دليل : على أن الصلاة عليه فرض، لا تصح الصلاة بدونها ؛ وأما الصلاة على آله : فلم .
( ص274) نعلم أحد من العلماء أوجبها، وقال . إن من ترك الصلاة على الآل، لا تصلح صلاته، بل هذا خلاف ما عليه أهل العلم، أو أكثرهم .
وأما قولك : ولا يحسن الاعتراض من أحدٍ على أحد في مذهبه، وكل مجتهد مصيب، على الأصح من الأقوال .(1/259)
فهذا : في الفروع، لا في الأصول ؛ فان الخوارج، والجهمية، والقدرية، وغيرهم، من فرق الضلالة : يدّعون أنهم مصيبون ؛ بل المشركون وغيرهم من اليهود والنصارى، يدّعون ذلك، قال الله تعالى : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) [ الأعراف : 30] وقال تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) [ الكهف : 103 –104 ] .
وأما ما ذكرت من كثرة جنودكم وأموالكم : فلسنا نقاتل الناس بكثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين، الذي أكرمنا الله به، ووعد من قام به النصر على من عاداه، فقال تعالى ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) [ الحج 40-41 ] وقال تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) [الصافات:171-173] وصلى الله على محمد وآله وصحبه .(1/260)
(ص275) وله أيضاً : عفى الله عنه .
بسم الله الرحمن الرحيم
( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجلٌ مسمّى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) الآية [ الأنعام:1-3]
من عبد العزيز بن سعود، إلى الأخ ياقوت، سلمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات ؛ وبعد : الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر ما ذكرت من حالك، والله المحمود على ذلك، فأنت اعزم وتوكل على الله ؛ فإن النفوس لها إقبال وإدبار، فأنت خذ بإقبالها واستعن بالله، قال جل جلاله : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ) [ النساء:100] .
ويذكر لنا : أن أحمد بن الشريف عباس، إمام صنعا، متوجه لهذا الدين، وعارفه ومحبه ؛ وكذلك : يذكر ناس من طلبة العلم، عرفوا التوحيد، وشهدوا به، وأنكروا الشرك بالله ؛ فالمأمول فيك تلطف للناس، وتدعوهم إلى الله، وتذكر قوله سبحانه : ( ومن أحسن قولاً ممن دعى إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) الآيات [ فصلت :33 – 36 ](1/261)
(ص276) وقوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) [ يوسف:108] .
وفي الحديث، عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين أعطى علياً رضي الله عنه الراية، يوم فتح خبير، قال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله : لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم " .
وأساس الإسلام ورأسه : توحيد الله بالعبادة ؛ والعبادة : فعل العبد، وإلا : أفعاله تعالى، كلٌ معترف له بها، الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير ؛ حتى : إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله الدين في حال الشدائد، مثل، ما قال سبحانه وتعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [ العنكبوت : 65] .
والشرك اليوم : تغلّب على غالب الناس، وصار الدعوة، والذبح، والنذر لغير الله، وغير ذلك من العبادات، والتوكل، والخوف، والرجاء : صُرف لغير الله ؛ فلما أنكر عليهم الشيخ – عفا الله عنه – الشرك بدّعوه، وخرجوه، ورموه بالعظائم ؛ وهو كما قال : محمد بن إسماعيل الصنعاني : وليس له ذنب سوى أنه أتى بتحكيم قول الله في الحل والعقد ].
( ص277) وفى البيت الأخر : وما كل قول بالقبول مقابل ... ... وما كل قول واجد الطرد والرد
... ... ... سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل يا ذا عن الرد
... ... ... وأما أقاويل الرجال فإنها ... ... تدور على حسب الأدلة في النقد
فيكون عندكم معلوماً : أن جميع الفرائض، وجميع المحرمات، ما اختلفنا نحن والناس في شيء من ذلك ؛ الاختلاف وقع بيننا وبين الناس : عند حق لله تعالى، كون العبادة له وحده لا شريك له ؛ وحق الرسول صلى الله عليه وسلم التصديق والطاعة، في جميع ما يأمر به، وجميع ما ينهى عنه .(1/262)
ويكفيك : ما ذكر الله في آخر سورة الكهف : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف : 110] وكذلك الآية التي كتب صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم : هرقل ؛حيث قال :" أما بعد : أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين و ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ) إلى قوله : ( فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [ آل عمران :64] ولكن : مثل ما قال الجني (هو جنى سمع ينشد أبياتا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وقصته مشهورة في السير):(1/263)
(ص278) وإن قال في يوم مقالة غائب ... ... ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
قال صلى الله عليه وسلم :" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا ضب لدخلتموه، قالوا اليهود والنصارى، يا رسول الله ؟ قال : " فمن ؟" وفي الحديث الثاني : أخبر صلى الله عليه وسلم " أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ؛ والنصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " قيل يا رسول الله، من الواحدة ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه إلا ن وأصحابي " وفي الحديث الأخر ، قال صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وحتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ".
والعادة : ملاكة، تقلب الشين زيناً، ولم تعادى الرسل بشيء قط : أعظم من العادة، قال الله تعالى عن المشركين : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) [ الزخرف:22] والآية الأخرى : ( وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف :23] وقوله تعالى : ( فهم على آثارهم يهرعون ) [ الصافات:70] .
وأنا أعزم عليك، وألزم عليك، أن تتلطف لعلماء أهل صنعاء، وتقرأ عليهم هذا الكتاب .(1/264)
(ص279) وله أيضاً : رحمة الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
التحية والإكرام، يُهدى إلى سيد الأنام، محمد عليه من الله : أفضل الصلاة والسلام، ثم ينتهي إلى جناب أكرمه الله بما أكرم به عباده الصالحين .
أما بعد : فألفا علينا سعيد بن ثنيان، وحكى لنا عنك من حسن السمت، والسيرة، ما سر الخاطر ؛ ونسأل الله العظيم : أن يجعلنا وإياك من أئمة المتقين ؛ ويذكر : أنك حريص على معرفة حالنا، وما نحن عليه ؟ فنخبرك بصورة الحال : أنا والناس فيما مضى، على دين واحد، ندعوا الله وندعوا غيره، وننذر له وننذر لغيره، ونذبح له ونذبح لغيره، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف من غيره، ونقر بالشرائع، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، والذي يعمل بهذا عندنا القليل، مع الإقرار، ونقر بالمحرمات، من أنواع الربا، والزنا وشرب الخمر، وما يشبه هذا من أنواع المحرمات، ولا ينكرها خاص على عام !!
وبيّن الله لنا التوحيد في آخر هذا الزمان، على يدي ابن عبد الوهاب، وقمنا معه، وقام علينا الناس بالعدوان(1/265)
(ص280) والإنكار، لما خالف دين الآباء والأجداد، وقال الناس، مثل ما قال الذين من قبلهم : ( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) [ الشعراء : 74] وقالوا : ( إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف :23] .
وقام على الناس : بالأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع صالح سلف الأمة ، الذين قال فيهم صلاة الله وسلامه عليه :" عليكم بسنتى، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وفى الحديث الثاني : قال صلى الله عليه وسلم : ( تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك " وفى الحديث الثالث : " كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد " والأحاديث في هذا النوع ما يمكن حصرها، ولكن نذكر هذا على سبيل التنبيه .
فنقول الحلال ما حلل صلى الله عليه وسلم الحرام ما حرم ؛ وقال الله جل جلاله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [المائدة:3] فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، ومعنى لا إلَه إلا ّ الله : نفى الألهية عما سوى الحق جل جلاله، وإثباتها له وحده لا شريك له، والإلهية فعل العبد .
وأما أفعاله جل جلاله، فلا وقع فيها نزاع عند الكافر، ولا عند المسلم، قال الله لنبيه : ( قل من يرزقكم من السماء(1/266)
(ص281) والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس:31] وبالإجماع : أن السؤال للكفار ؛ وفي الآية الأخرى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [يونس:18] .
ويكفيك أول : الزمر – تنزيل – بيّن فيها دين الإسلام من دين الكفار في آيتين، قال : ( بسم الله الرحمن الرحيم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص ) [ الزمر:1-3] هذا دين الإسلام، الذي دعت إليه الرسل جميعاً، من أولهم نوح، إلى آخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليه .
وقال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) [ الزمر:3] فصرّحت الآية : أن غاية الكفار، ومطلبهم القربة، والشفاعة بهذا الدعاء.
فالمأمول فيك : ما تغتر بأكثر الناس، فإن نبيك صلى الله عليه وسلم أخبر في الأحاديث الصحاح : أن دينه سيتغير، وتفعل أمته كما فعل بنو إسرائيل، وأنها ستفترق كما افترق من قبلها من الأمم،(1/267)
(ص282) قال صلاة الله وسلامه عليه : " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع "، " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : " فمن " ؟ وقال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذ أمتي بما أخذت الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو أن منهم من أتى أمه علانية، لكان من أمتي من يأتي أمه علانية " وقال : " افترقت اليهود عن واحدة وسبعين فرقة، والنصارى عن ثنتين وسبعين فرقة، وستفرق أمتي عن ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " والأحاديث في هذا ما تحصى، ولكن الغرض : التنبيه .
وأما الآيات، فقال جل جلاله : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [ الأنعام:116] وقال : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) [ الأعراف :102] وقال : ( وقليل ما هم ) [ ص:24] ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ: 13] وفي الحديث : أن بعث الجنة من الألف واحد .
فالمأمول فيك : تجمع علماء صنعا، وتؤمنهم، وتعرض عليهم الكتاب، وتسألهم بالذي أنزل الفرقان على محمد، عن جميع ما ذكرنا في الورقة، وأرجو أن الحق بيّن لك من الباطل . والوجه الثاني : إن جاز عندك : توجه إلينا اثنين أو ثلاثة من طلبة العلم، الذين عليهم الاعتماد عندكم، فلا(1/268)
(ص283) نعافها منك، فلك عندي وقارهم، وإكرامهم، وتوصيلهم إليك إن شاء الله .
ويا علي : يا ولدي، أذكرك الله، والذي بعد الموت من الخير والشر، فإن الدنيا زائلة، وزائل ما فيها من الخير والشر والآخرة باقية، وباق ما فيها من الخير والشر ؛ ودين جدك – صلاة الله وسلامه عليه – فيه خير الدنيا والآخرة ؛ قال جل جلاله، في أهل طاعته : ( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) [ آل عمران :148] .
وأنا أصف لك شيئاً من الحال، فإن مبتدأ الأمر : رجل حادقينه الناس، ومعادينه ؛ واليوم دولته ما تقصر عن ألف مبندق وعشرة آلاف فارس، وكل من تبين على هذا الحق بعداوة، كسره الله، وأزال دولته، وأُرى فيه العجائب .
ويكون عندك معلوماً : أن الشرائع والمحرمات، ما وقع بيننا وبين الناس فيها اختلاف، الذي عندنا زين عندهم زين، والذي عندنا شين عندهم شين، إلا أنّا فضلناهم بفعل الزين، وغصب الرعايا عليه، وترك الشين وتقويم الحدود، والتأديب على من فعله، وغالب عدواننا : ما يفعلون الزين الذي ما ينكر، ولا ينكرون الشين الذي ينكر .
فالأصل الذي اختلفنا فيه : التوحيد، والشرك، فنقول(1/269)
(ص284) مثل ما قال جل جلاله : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن:18] وقال تعالى : ( له دعوة الحق ) الآية [ الرعد:14] وفي الآية الأخرى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [سبأ:22-23] .
فصرحت الآية ، مثل ما صرحت آية الكرسي : أن الشفاعة ما تكون إلا من بعد الإذن، وفي الحديث، قيل يا رسول الله : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : " من قال لا إلَه إلا ّ الله خالصاً من قبله، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص ".
وقال جل حلاله : ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) [ الحج:73] فلا تغتر بالناس ؛ قال جل جلاله : ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) [ التوبة :34] فهذه حال العلماء والعباد، فما ظنك في غيرهم ؟
والمأمول فيك : الجواب، والله ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ يونس :25] وصلى الله على محمد آله وصحبه وسلم .(1/270)
(ص285) وكتب الإمام : سعود بن الإمام : عبد العزيز، رحمها الله تعالى إلى أهل نجران :
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود إلى جناب الأشراف : حسن بن ناصر، وحسن دهشا، وحمزة، ومحمد بن حسن، وحسين أحمد، ومقبل بن محمد ؛ وصالح بن عبد الله، وأحمد معوض، و أحمد على بن شما، وصالح حسين مسلي، سلمهم الله من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات، وبعد : ألفى علينا مقبل بن عبد الله، وأشرف على ما نحن عليه، وما ندعوا إليه، وما نأمر به، وما ننهى عنه ؛ ويصف لكم من الرأس أكثر مما في القرطاس، إن شاء الله .
ونخبركم : أننا متبعون لا مبتدعون، نعبد الله وحده لا شريك له، ونتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، وينهى عنه، ونقيم الفرائض، ونجبر من تحت يدنا على العمل بها، وننهى عن الشرك بالله، وننهى عن البدع، والمحرمات، ونقيم الحدود، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونأمر بالعدل، والوفاء بالعهود، والمكاييل، والموازين، وبر الوالدين، وصلة الأرحام هذا صفة ما نحن عليه، وما ندعوا الناس إليه ؛ فمن(1/271)
(ص286) أجاب، وعمل بما ذكرناه، فهو : أخونا المسلم، حرام المال والدم ؛ ومن أبى : قاتلناه، حتى يدين بما ذكرناه .
وأنتم أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؛ والحق عليكم أكبر منه على غيركم، والإسلام ، هو : عزكم، وشرفكم، كما قال الله تعالى : ( لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون ) [ الأنبياء :10] وقال تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ) [ الزخرف:44] .
فالمأمول فيكم : القيام، والدعوة إلى الله ؛ لأن الدعوة سبيل من اتبعه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف:108] وقال تعالى : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت:33] ونسأل الله : أن يجعلنا وإياكم من الداعين إليه، المجاهدين في سبيله، لتكون كلمته العليا، ودينه الظاهر، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم .(1/272)
(ص287) هذه رسالة أيضاً، للإمام : سعود بن العزيز بن محمد بن سعود رحمهم الله تعالى، وهذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين .
من سعود بن عبد العزيز، إلى سليمان باشا ؛ أما بعد : فقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه من خطابكم، وما ذكرتم من : أن كتابنا المرسل إلى يوسف باشا،على غير ما أمر الله به،ورسوله من الخطاب للمسلمين، بمخاطبة الكفار، والمشركين ؛ وأن هذا حال الضالين، وأسوة الجاهلين، كما قال تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ) [ آل عمران:7] .
فنقول في الجواب عن ذلك : بأننا متبعون ما أمر الله به رسوله، وعبادة المؤمنين، بقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك(1/273)
(ص288) بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [النحل:125] وقوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) [ يوسف :108] وذلك : أن الله أوجب علينا النصح لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن النصح لهم : بيان الحق لهم، بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم، وجهاد مبطلهم، اولاً بالحجة والبيان، وثانياً بالسيف والسنان، حتى يلتزموا دين الله القويم، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الجحيم، وذلك : أن " من تشبه بقوم فهو منهم " كما ورد ذلك عن الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ وقد قال تعالى، في كتابه المبين : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) [ آل عمران:105] وقال تعالى، لهذه الأمة : ( منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم:31-32] .
ومن تلبيس إبليس، ومكيدته لكل جاهل حسيس : أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين، لا يتناول من شابههم من هذه الأمة ، ويقول : إذا استدل عليه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، هذه الآيات : نزلت في المشركين، نزلت في اليهود، نزلت في النصارى ؛ ولسنا منهم ؛ وهذا من أعظم مكائده، وتلبيسه ؛ فأنه فتن بهذه(1/274)
(ص289) الشبهة كثيراً من الأغبياء والجاهلين ؛ وقد قال بعض السلف – لمن قال له ذلك – مضى القوم وما يعنى به غيركم ؛ وقال بعض العلماء : إن مما يحول بين المرء، وفهم القرآن أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول غيرهم وإنما هو في قوم كانوا فبانوا .
وقد قال الإمام ، الحافظ : سفيان بن عيينة – وهو من أتباع التابعين – من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود ؛ ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى ؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري، أنه قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب، لسلكتموه " قلنا يا رسول الله، اليهود، والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ وهذا لفظ البخاري ؛ والأحاديث، والآثار في هذا المعنى، كثيرة .
وقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى : ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم ) الآية [ التوبة:69] قال : ما أشبه الليلة بالبارحة : ( كالذين من قبلكم ) هؤلاء بنو إسرائيل، شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيده، لتتبعنهم، حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه " فكيف يظن ممن له أدنى تمسك بالعلم، بعد هذه الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، أن هذه الأمة لا تشابه اليهود(1/275)
(ص290) والنصارى، ولا تفعل فعلهم، ولا يتناولهم ما توعد الله به اليهود والنصارى، إذا فعلوا مثل فعلهم ؛ ومن أنكر وقوع الشرك، والكفر في هذه الأمة ، فقد خرق الإجماع ، وسلك طريق الغي، والابتداع .
ولسنا بحمد الله : نتبع المتشابه من التنزيل، ولا نخالف ما عليه أئمة السنة من التأويل ؛ فإن الآيات، التي استدللنا بها، على كفر المشرك، وقتاله هي من الآيات المحكمات، في بابها، لا من المتشابهات، واختلف أئمة المسلمين في تأويلها، والحكم بظاهرها، وتفسيرها، بل هي : من الآيات التي لا يعذر أحد من معرفة معناها، وذلك مثل قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء :48] وقوله : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ المائدة:72] وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) الآية [ التوبة:5] وقوله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال :39] .
وأما قولكم : فإنا لله الحمد، على الفطرة الإسلام به، والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها نحيا، وعليها نموت، كما قال تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) الآية [ إبراهيم:27] فظاهرنا، وباطننا، بتوحيده تعالى، في ذاته، وصفاته، كما بين في محكم كتابه، قال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً )(1/276)
(ص291) [ النساء:36] وقال صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله " وقال صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " الخ ؛ فتقول :
غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن : ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال ؛ فإذا قال الرجل : أنا مؤمن، أنا مسلم، أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الإسلام، وأهله، منابذ لهم بقوله، وفعله، لم يصر بذلك مؤمناً، ولا مسلماً، ولا من أهل السنة والجماعة ؛ ويكون كفره، مثل اليهود، فإنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم .
فإن أصل الإسلام : شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومضمون شهادة ألا إله إلا الله : إلا يعبد إلا الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجى إلا هو ؛ كما قال تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف:110] وقال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن:18] وقال تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) [ المائدة :23] وقال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) [ التوبة :18] .(1/277)
(ص292) فكل من دعا مخلوقاً، أو استغاث به، أو جعل فيه نوعاً من الألهية، مثل أن يقول : يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اقض ديني، أو اشفع لي عند الله، في قضاء حاجتي، أو أنا متوكل على الله وعليك، فهو مشرك في عبادة الله غيره، وإن قال بلسانه : لا إلَه إلا ّ الله، وأنا مسلم ؛ وقد كفّر الصحابة رضي الله عنهم : مانعي الزكاة، وقاتلوهم، وغنموا أموالهم، وسبوا نساءهم، مع إقرارهم بسائر شرائع الإسلام ؛ وذلك : لأن أركان الإسلام، من حقوق لا إلَه إلا ّ الله ؛ كما استدل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، على عمر، حين أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، حين قال له : كيف تقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا ّ الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " .
فقال أبو بكر : الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله، قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق ؛ أخرجاه في الصحيحين، وغيرهما من كتب الإسلام ؛ فكيف بمن كفر بمعنى لا إلَه إلا ّ الله ؟ وصار الشرك وعبادة غير الله هو دينه، وهو المشهور في بلده ؛ ومن أنكر ذلك عليهم، كفروه، وبدعوه، وقاتلوه ؛ فكيف يكون من هذا فعله، مسلماً من أهل السنة والجماعة ؟! مع منابذته لدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من توحيد الله ،(1/278)
(ص293) وعبادته وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ؛ إلى غير ذلك : من المجاهرة بالكفر، والمعاصي، واستحلال محارم الله ظاهراً .
فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل : بناء القباب على القبور، وايقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيدا، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات واغاثة اللهفات، هذا مع : تضييع فرائض الله، التي أمر الله باقامتها، من الصلوات الخمس وغيرها، فمن أراد الصلاة، صلى وحده، ومن تركها، لم ينكر عليه ؛ وكذلك الزكاة ؛ وهذا أمر، قد شاع، وذاع وملأ الأسماع، في كثير من بلاد الشام، والعراق، ومصر، وغير ذلك من البلدان .
وقد حدث ذلك، في هذا البلدان ،كما ذكر ذلك العلماء في مصنفاتهم، من الحنفية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، فمن ذلك، ما ذكر أبو الوفاء، بن عقيل الحنبلي، قال : لما صعبت التكاليف، على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذا لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم ؛ قال وهم عندي كفار، بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوايج وكتب الرقاع، فيها : يا مولاي أفعل بي كذا، وكذا ،وأخذ .(1/279)
(ص294) تربتها، تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات، والعزى .
والويل عندهم : لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآحرة مسجد الملموسة، يوم الأربعاء، ولم يقل الحاملون على جنازتة : أبو بكر الصديق، أو محمد، أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً، بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى .
فانظر : إلى هذا الإمام ، كيف ذكر حدوث الشرك في وقته ؟ واشتهاره عند العامة الجهال، وتكفيره لهم بذلك ؛ وهو من أهل القرن الخامس، من تلامذة : القاضي أبي يعلى، الحنبلي ؛ ونقل كلامه هذا، غير واحد من أئمة الحنابلة، كأبي الفرج ابن الجوزي، في كتاب : تلبيس إبليس .
وقال الإمام : أبو بكر الطرطوشي، المالكي، لما ذكر حديث أبي واقد الليثي، ولفظه : قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل(1/280)
(ص295) لموسى . اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ".
قال الطرطوشي : فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير، والخرق، فهي : ذات أنواط، فاقطعوها، انتهى .
فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة، لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ : آلهة مع الله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما ظنك بالعكوف حول القبر ؟ والدعاء به ودعائه الدعاء عنده، فأي نسبة بالفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك، والبدع يعلمون ؟!
وقال الحافظ : أبو محمد، عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف، بأبي شامة، الشافعي، في كتابه : الباعث في إنكار البدع والحوادث .
ومن هذا القسم : أيضاً، ما قد عم به الإبتلاء، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكي لهم حاك : أنه رأي في منامه بها أحداً، ممن شهر بالصلاح، والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه ؛ ويظنون : أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون(1/281)
(ص296) الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها .
وهي ما بين : عيون، وشجر، وحائط، وحجر، وفي مدينة : دمشق، من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق، داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها، واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث، ثم ساق حديث : أبي واقد الليثي، المتقدم ؛ ثم ذكر : أنه بلغه بعض أهل العلم، ببلاد افريقية، أنه كان إلى جانبه عين تسمى : عين العافية ؛ كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق ؛ فمن تعذر عليه، نكاح أو ولد قال امضوا بي إلى العافية فتعرف فيها الفتنة، فخرج في السحر، فهدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال : اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأساً ؛ قال : فما رفع رأس، إلى الآن .
قال : وأدهى من ذلك، وأمر، إقدامهم على الطريق السابلة، يجيزون، في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء : الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود، عليهما السلام، أو من بناء : ذي القرنين، أو من بناء غيره، مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه، في كتاب : تاريخ دمشق، وهو الباب الشمالي ؛ ذكر لهم بعض : من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناماً، يقتضي : أن(1/282)
(ص297) ذلك المكان، دفن فيه بعض أهل البيت ؛ وقد أخبرني عنه ثقة : أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله مسجداً مغصوباً، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج ؛ على من دخل، ومن خرج، ضاعف الله نكال من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه اتباعاً لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم الضرار مسجد الضرار، انتهى كلامه .
فانظر : إلى كلام هؤلاء الأئمة ، وما حدث في زمانهم من الشرك، وأنه قد عم الابتلاء به في وقتهم ؛ ومعلوم أنه لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه ؛ وتأمل كلامه، في تخصيصه : دمشق، بما حدث فيها من الشرك، والأوثان، وتمنيه إزالة ذلك، وهي بلده، ومستوطنه .
وقال : ابن القيم رحمه الله، في كتابه : إغاثة اللهفان ؛ ومن أعظم مكائده – التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته – ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه، من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً، لها ظل ؛ ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله ؛ وكان أول هذا الداء العظيم، في قوم نوح، وأطال الكلام في ذلك – إلى أن قال :
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها، على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين ؛(1/283)
(ص298) كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج، عند المصلى، يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحته الطاحون، الذي عنده مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك، وكان صورة صنم في نهر : القلُّوط ينذرون له، ويتبركون به، وقطع الله سبحانه المسجد، الذي عند الرحبة، يسرج عنده، ويتبرك به المشركون، وكان عموداً طويلاً، على رأسه حجر، كالكرة، وعند مسجد درب الحجر : نصب قد بني عليه، مسجد صغير يعبده المشركون، يسر الله كسره .
فما أسرع أهل الشرك، إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت ؛ ويقولون : إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة، وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب، ويستلمونه .
ولهذا : أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ مصلى، كما ذكره الأزرقي في كتاب مكة، عن قتادة، في قوله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة:125] قال : إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم، ذكر لنا : من رأى أثره، وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه المشهور : بزاد(1/284)
(ص299) المعاد، في هدي خير العباد ؛ لما ذكر غزوة الطائف، وقدوم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سألوه أشياء، وكان فيما سألوه : أن يدع لهم اللات ثلاث سنين، لا يهدمها ؛ واعتذروا : أن مرادهم بذلك، أن لا يروعوا نساءهم، وسفاءهم ؛ فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى .
قال : لما ذكر فوائد القصة، ومنها : أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، والطواغيت، بعد القدرة على هدمها، وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز : الإقرار عليها مع القدرة البتة ؛ وهكذا حكم المشاهد، التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً، وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته ؛ وكثير منها بمنزلة : اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركاً عندها، وبها، والله المستعان .
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد : أنها تخلق، أو ترزق، أو تحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها، وبها : ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبراً بشبر،(1/285)
(ص300) وذراعاً بذراع ؛ وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور لجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الإعلام ، واشتدت غربة الإسلام، وقلت العلماء، وغلبت السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن : لا تزال طائفة، من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك، والبدع، مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين .
ومنها : جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير إلى هذه المشاهد، والطواغيت، في الجهاد، ومصالح المسلمين ؛ فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت، التي تساق إليها، ويصرفها على الجند، و المقاتلة، ومصالح المسلمين ؛ كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة، والأسود ؛ وكذا : يجب عليه هدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً ؛ وله : أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين .
وكذا : الحكم في أوقافها ؛ فإن وقفها، والوقف عليها : باطل ؛ وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين ؛ فإن الوقف : لا يصح إلا في قربة، وطاعة لله ورسوله ؛ فلا يصح الوقف : على مشهد، ولا قبر يسرج عليه، ويعظم، وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ إلهاً من دونه وهذا لا يخالف فيه أحد .(1/286)
(ص301) من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم .
وقال الشيخ القاسم، في شرح درر البحار وهو من أئمة الحنفية، النذر : الذي يقع من أكثر العوام يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاًيا سيدي فلان إن رد غائب أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا باطل إجماع لوجه منها أن النذر للمخلوق لا يجوز ومنها أن ذلك كفر إلى أن قال – وقد ابتلى الناس بذلك لاسيما في مولد أحمد البدوي انتهى كلامه
وقال الأذعري في : قوت المحتاج، شرح المنهاج وهو من أئمة الشافعية وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك – وهو الغالب أو الواقع من مقصود العامة تعظيم البقعة والمشهد والزاوية أو التعظيم من دفن بها ممن ذكرنا أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد
فإن معتقدهم : أن لهذه الأماكن خصوصيتها بأنفسها ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب به النعماء .(1/287)
(ص302) ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار، لما قيل : إنه جلس إليها، أو استند إليها عبد صالح ؛ وينذرون : لبعض القبور السرج، والشموع، والزيت، ويقولون : القبر الفلاني، والمكان الفلاني، يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول، من شفاء مريض، وقدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع : نذر المجازاة .
فهذا النذر، على هذا الوجه، باطل، لاشك فيه، بل نذر الزيت، والشمع، ونحوهما ،للقبور، باطل مطلقاً، من ذلك : نذر الشموع، الكثيرة العظيمة، لقبر الخليل صلى الله عليه وسلم، ولقبر غيره من الأنبياء، والأولياء ؛ فإن الناذر : لا يقصد بذلك، إلا الإيقاد على القبر، تبركاً وتعظيماً، ظاناً : أن ذلك قربه، وأكثر من ينذر ذلك، يصرح بمقصوده، فيقول لله علي كذا من الشمع مثلاً، يوقد عند رأس الخليل، أو على القبر الفلاني، أو قبر الشيخ فلان ؛ فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور، محرم، سواء انتفع به منتفع هناك، أم لا ؛ لان الناذر، لم يقصد ذلك، ولا مرّ بباله، بل قصده، وغرضه ما أشرنا إليه ؛ فهذا الفعل : من البدع الفاحشة التي عمّت بها البلوى ؛ وفيها مضاهاة لليهود والنصارى، الذين لعنوا في الحديث الصحيح، على تعاطيهم ذلك، على قبور أنبيائهم، عليهم السلام، انتهى .
فانظر : إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال .(1/288)
( ص303) الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام، وغيرها، وأن الإسلام : قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً ؛ وأن هذه المشاهد والأبنية، التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها، وبها، حتى صار كثير منها، بمنزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندها وبها وهذا مما يبطل قولكم إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة ؛ ويبين : ؟أن أكثركم، قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات .
وأما قولكم : فنحن مسلمون حقاً، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدوا الدين، والملة المحمدية .
فنقول : قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس : كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله ؛ فما استغنى فقير، بقوله : ألف دينار، وما احترق لسان، بقوله : نار ؛ فإن اليهود أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول الله، لما دعاهم إلى الإسلام، قالوا : نحن مسلمون إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت النصارى المسيح وقالت : النصارى مثل ذلك ؛ وكذلك : فرعون، قال لقومه :(1/289)
(ص304) ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) [ غافر : 29 ] وقد : كذب، وافترى في قوله ذلك، وحالكم، حال أئمتكم، وسلاطينكم : تشهد بكذبكم، وافترائكم في ذلك ؛ وقد رأينا : لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام : اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم : سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى، وغيرهم ؛ وفيها : من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم .
وأولها : من عبيدك السلطان سليم، وبعد : يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه، مالا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان، على عباد الرحمن، نسألك : النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر : كلاماً كثيراً، هذا معناه، وحاصله .
فانظر : إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى، واللات، فإنهم : إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات .
فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتباً كثيرة، في الحجرة، للعامة، والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه، وقد ورد في الحديث، الذي(1/290)
(ص305) رواه أبو داود، وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال :" من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
فأهل السنة والجماعة : هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل زمان، ومكان ؛ وهم : الفرقة الناحية، كالصحابة، والتابعين، والأئمة، والأربعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة ؛ وقد بعث الله جميع رسله بتوحيده، ورفع مناره، وطمس الشرك، ومحو آثاره ؛ ومن أعظم الشرك والضلال : ما وقع في هذه الأمة ، من البناء على القبور، ومخاطبة أصحابها بقضاء الأمور، وصرف : كثير لها من العبادات، والنذور ؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم هل تجد في عصره، بناء على قبر صالح ؟ أو ولي ؟ أو شهيد ؟ أو نبي ؟ بل : نهى عن البناء على القبور، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره .
وكذلك : أصحابه من بعده، فتحوا الشام، والعراق، وغالب أقطار الأرض، فهل : تجدون أحداً منهم بنى على قبر أو دعاه ؟ أو استغاث به ؟ أو نذر له ؟ أو ذبح له ؟ أو وقف عليه وقفاً ؟ أو أسرج عليه ؟ بل : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك، والتغليظ فيه، ولعن من فعله، كما ثبت عنه أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن لا يدع ثمثالاً إلا طمسه، ولا قبراً مشرفاً إلا سواه، رواه مسلم، وكذلك لم(1/291)
(ص306) يكن أحد من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، يقول – إذا نزلت بهم ترة، أو عرضت له حاجة – لميت، يا سيدي : فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم، من المونى، والغائبين ؛ ولا أحد من الصحابة : استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها .
بل : لما قحط الناس، في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك، إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون ؛ فهذا : توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته ولهذا توسلوا بعد وفاته بدعاء العباس، وهذا كله : تحقيق لما بعث الله به ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة، بجميع أنواعها لله وحده، ، الذي هو حقيقة معنى : لا إلَه إلا ّ الله ؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، وقد قال تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) [ النساء :171] وقال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة :31] فاتخاذ الأحبار، والرهبان : أرباباً، هو من فعل اليهود، والنصارى .(1/292)
(ص307) وقال غير واحد من العلماء : إن من أسباب الكفر، والشرك : الغلو في الصالحين، كعبد القادر، وأمثاله ؛ بل : الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في الأنبياء، كالمسيح، وغيره ؛ فمن غلا في نبي، أو ولي، أو جعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول : يا سيدي فلان، أغثني، أو انصرني، أو أنا في حسبك، فكل هذا : شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإنه تاب وإلا قتل .
قال : ابن القيم رحمه الله، في شرح : المنازل، ومن أنواع الشرك : طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا : أصل شرك العالم – إلى أن قال – وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعاد المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله / قال : وما أعز من تخلص من هذا ؛ بل : ما أعز من لا يعادى من أنكره .
وأما : قولكم، وأما ما اعترينا، وما ابتلينا به من الذنوب، فليست : أول قارورة كسرت في الإسلام / ولا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج، من الفرق الضالة، الذين عقيدتهم، على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة .
فتقول : نحن بحمد الله، لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفر لهم، بما نص الله، ورسوله، وأجمع .(1/293)
(ص308) عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة : أنه كفر ؛ كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء ونذر وذبح، وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به، وأما :الذنوب، كالزنى، والسرقة، وقتل النفس، وشرب الخمر، والظلم ونحو ذلك، فلا نكفر من فعله، إذا كان مؤمنا بالله ورسوله ؛ إلا إن فعله مستحلاً له، فما كان من ذلك فيه حد شرعي، أقمناه على من فعله، وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه وأمثاله عن ارتكاب المحرمات .
وقد : جرت المعاصى، والكبائر، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا : مما رد به أهل السنة والجماعة، على الخوارج، الذين يكفّرون بالذنوب، وعلى المعتزله، الذين يحكمون بتخليده في النار، وإن لم يسموه كافراً، ويقولون : ننزله منزلة، بين المنتزلين، فلا نسميه كافراً، ولا مؤمناً، بل فاسقاً ؛ وينكرون : شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويقولون : لا يخرج من النار أحد دخلها، بشفاعة، ولا غيرها .
ونحن : نحمد الله ،برءاء من هذين المذهبين، مذهب الخوارج، والمعتزلة ؛ ونثبت شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، والصالحين، ولكنها لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28 ] وقال : ( من ذا الذي يشفع .(1/294)
(ص309) عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] فذكر في الشفاعة شرطين، أحدهما : أنها لا تكون إلا بعد الإذن من الله للشافع، لا كما يظنه المشركون، الذين يسألونها من غير الله، في الدنيا .
وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتهم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا ينفع الشفاعة عند إلا لمن أذن له ) [ سبأ : 22-23 ] قال ابن القيم، رحمه الله تعلى، في الكلام على هذه الآية : وقد قطع الله سبحانه الأسباب، التي يتعلق بها المشركون جميعها، قطعا، يعلم من تأمله، وعرفه : أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعاً، فمثله : ( كمثل العنكبوت اتخذ بيتا وأن أوهن البيت لبيت العنكبوت ) [ العنكبوت :41 ]
فالمشرك : إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة، من هذه الأربع : إما : مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكاً، كان شريكاً للمالك، فان لم يكن شريكاً، كان معيناً أو ظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً ،كان شفيعاً عنده، فنفى سبحانه : المراتب الأربع، نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يطلبها المشرك ؛ وأثبت : شفاعة، لا نصيب فيها لمشرك، وهى : الشفاعة بإذنه .
( ص310) فكفى بهذه الآية : نوراً، وبرهاناً، ونجاة، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً : لأصول الشرك، ومواده، لمن علقها ؛ والقرآن : مملوء من أمثالها، ونظائرها، ولكن أكثر الناس، لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثاً ؛ وهذا : هو الذي يحول بين القلب، وبين فهم القرآن ؛ ولعمر الله : إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم، ودونهم ؛ وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك .(1/295)
ولكن : الأمر، كما قال : عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إنما تنقض عرى الإسلام، عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أي : لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن، وذمه، وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف : أنه هو الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنقص بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع : بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفارقة الأهواء، والبدع ؛ ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عياناً ؛ وبالله التوفيق، انتهى .
وهذا : الذي ذكره غير واحد، عن أئمة العلم، من تغير الإسلام، وغربته، قد : أخبر به الصادق المصدق، صلوات(1/296)
(ص311) الله وسلامه عليه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم، أنه قال : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " وفي حديث ثوبان، الذي في صحيح مسلم وغيره " ولا تقوم الساعة، حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان " وفي حديث العرباض، بن سارية، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إنه من يعش منكم، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه ضلالة " أخرجه :أبو داود، وغيره، وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس، حول ذي الخلصة ".
وهذا : الذي تقدم ذكره، من كلام أهل العلم، من حدوث الشرك، وغيره، من البدع في هذه الأمة وكثرته، هو : مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث ، وغيرها .
وأما قولكم : فكيف التجري بالغفلة، على إيقاظ الفتنة، بتكفير المسلمين، وأهل القبلة، ومقاتلة قوم، يؤمنون بالله، واليوم الأخر ، واستباحة أموالهم، وأعراضهم، وعقر مواشيهم، وحرق أقواتهم، من نواحي الشام .. الخ ؟
فنقول : قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل، ونكفر من أشرك بالله، وجعل لله نداً، يدعوه كما يدعو الله، ويذبح له، كما يذبح لله، وينذر له، كما ينذر لله، ويخافه،(1/297)
(ص312) كما يخاف الله، ويستغيث به عند الشدائد، وجلب الفوائد، ويقاتل دون الأوثان، والقباب المبنية على القبور، التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله ؛ فإن كنتم صادقين في دعواكم : أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله، من جميع الشرك والبدع ، وحققوا قول : لا إلَه إلا ّ الله، محمد رسول الله .
ومن صرف : من أنواع العبادة، شيئاً لغير الله، من الأحياء، والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه : أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام، فإن لم ينته عن ذلك، إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله ؛ وقوموا على رعاياكم : بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد، فإن تخلف أحد، فأدبوه ؛ وكذلك : الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها، الذين أمر الله بصرفها إليهم .
فإذا فعلتم ذلك : فأنتم إخواننا، لكم مالنا، وعليكم ما علينا، يحرم دماؤكم، وأموالكم، وأما : إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله، الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك، والبدع، والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك،(1/298)
(ص313) حيث يقول : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال :39] وقال تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتووا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [ التوبة :5] .
ونسأل الله العظيم : أن يهدينا، وسائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينه القويم، ويجنبنا طريق : المغضوب عليهم، والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حرر في : اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة سنة خمس وعشرين [ ومائتين وألف من الهجرة ] .(1/299)
(ص314) الحمد لله رب العالمين :
نشهد – ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم – أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ودعا إليه إمام المسلمين : سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله، ونفى الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق، الذي لا شك فيه، ولا ريب ؛ وأن : ما وقع في مكة، والمدينة، سابقاً ومصر، والشام، وغيرهما، من البلاد، إلى إلا ن، من أنواع الشرك، المذكورة في هذا الكتاب، أنه : الكفر، المبيح للدم، والمال، والموجب للخلود في النار ؛ ومن لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله، واليوم الأخر ، وواجب على إمام المسلمين، والمسلمين، جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين .
أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى : عبد الملك بن عبد المنعم، القلعي، والحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفى عنه، وغفر له.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله سبحانه : محمد(1/300)
(ص315) صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، تاب الله عليه .
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى : محمد بن محمد عربي، البناتي، مفتي المالكية، بمكة المشرفة، عفا الله عنه وأصلح شأنه .
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله : محمد بن أحمد، المالكي، عفا الله عنه .
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى : محمد بن يحيي، مفتي الحنابلة، بمكة المكرمة، عفى الله عنه آمين .
أشهد بذلك : وأنا الفقير إليه تعالى : عبد الحفيظ، بن درويش، العجيمي، عفا الله عنه .
أشهد بذلك : زين العابدين جمل الليل ؛ شهد بذلك علي بن محمد البيتي .
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى : عبد الرحمن جمال، عفا الله عنه .
أشهد بذلك، الفقير إلى الله تعالى : بشر بن هاشم الشافعي عفا الله عنه .
الحمد لله رب العالمين، أشهد : أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين : سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشريك له، هو الدين الحق، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم،(1/301)
(ص316) وأن ما وقع في مكة، والمدينة، سابقاً، والشام ،ومصر، وغيرها من البلدان، من أنواع الشرك، المذكورة في هذا الكتاب، أنه : الكفر، المبيح للدم، والمال ؛ وكل من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل بمقتضاه، كما ذكر في هذا الكتاب، فهو كافر بالله، واليوم الأخر ؛ وكتبه : الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين ؛ الشريف : غالب .
بسم الله الرحمن الرحيم
ما حرر في هذا الجواب، من بديع النطق، وفصل الخطاب، وما فيه من الأدلة الصحيحة الصريحة، المستنبطة من الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين ؛ نشهد : بذلك، ونعتقده، ونحن : علماء المدينة المنورة، وندين الله به ونسأله تعالى الموت عليه .
ونقول : الحمد لله رب العالمين، نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ودعانا إليه إمام المسلمين : سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك، هو الدين الحق، الذي لا شك فيه، ولا ريب ؛ وأن ما وقع في : مكة والمدينة سابقاً، والشام، ومصر، وغيرها، من البلدان، إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة، في هذا الكتاب، أنها : الكفر المبيح للدم، والمال، وكل : من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويعتقده، كما ذكر الإمام في هذا الكتاب، فهو(1/302)
(ص317) كافر بالله، واليوم الأخر ؛ والواجب على : إمام المسلمين، وكافة المسلمين، القيام بفرض الجهاد، وقتال : أهل الشرك والعناد .
وكل : من خالف ما في هذا الكتاب، من أهل مصر، والشام، والعراق، وكل من كان دينهم، الذي هم عليه إلا ن، فهو كافر مشرك من موقعه، ويمكنه في ذلك، وإزالة ما عليه من الشرك والبدع، وأن ويجعل رايته بالنصر خافقة، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه .
أشهد بذلك، وأنا الفقير بن حسين بالروضة الشريفة .
وكتبه الفقير إليه عز شأنه : محمد صالح رضوان، شهد بذلك، وكتبه : محمد بن إسماعيل، كتبه الفقير إلى الله عز شأنه : حسن وعليه ختمهم .(1/303)
(ص318) قال الشيخ : سليمان بن الشيخ عبد الله، بن محمد رحمهم الله تعالى، منبهاً على قول الشيخ : حسين بن غنام، رحمه الله تعالى، على شرح حديث عمر، في قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " وكتبه " قال : الشارح المذكور، أي : أنها منزلة من عنده، وأنها كلامه القائم بذاته، المنزه عن الحروف والصوت ؛ قال : الشيخ رحمه الله تعالى، قوله وأنها : كلامه، القائم بذاته، المنزه عن الحروف والصوت، هذا الكلام : جرى على مذهب الكلابية، ومن تبعهم من الأشعرية، أن الكلام، هو : المعنى القائم بالذات، المنزه عن الحرف والصوت ؛ فعلى هذا يكون عندهم ليس هو عين كلام الله لأنه حروف وأصوات، وإنما هو عبارة عن كلام الله كما قد صرحوا بذلك في كتبهم .
والحق في ذلك، هو : ما دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع : أن الله تعالى لم يزل متكلماً كيف شاء إذا شاء بحرف وصوت، كما دل على ذلك القرآن، والأحاديث ؛ فأما : القرآن، فواضح ؛ وأما : الأحاديث ، ففي صحيح البخاري وغيره : " أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بصوت " وهذا نص، وفيه نحو أربعة عشر حديثاً ؛ وأما : الإجماع ، فيكفي في ذلك أنه : لا يعرف عن صحابي، ولا تابعي، حرف واحد يخالف ذلك ؛ وقد : أفرد العلماء هذه المسألة، بالتصنيف، والله أعلم .(1/304)
(ص319) وكتب الشيخ : عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله تعالى – رسالة أرسلها، لما بلغه، أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحساء،من يتهم بمذهب الأشاعرة، سمن غير إذن الإمام .، وهذا ونصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخوين المكرمين : محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما ذكرتما : عن نصب الشيخ عبد اللطيف، لهؤلاء الثلاثة ؛ فالعباد : أن مثل هذا يراجع فيه الإمام /لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس، وأما النظر فيما يصلح للإمامة، والتدريس، فيرد إلى الإمام ، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى، لأن كثيراً من الناس ما يخفانا حالهم ،وعقائدهم، ونصب الإمام القضاة بنجد كذلك .
والشيخ : أحمد بن مشرف، يسامى الأكابر، ومثلهم، ما ينسب له ؛ والذي نعلم عنه : صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين، الذي جهله أكثر الطوائف، كذلك : هو رجل سلفي، يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته .
وأما أهل بلدكم في السابق، وغيرهم، فهم : أشاعرة ؛(1/305)
(ص320) والأشاعرة : أخطأوا في ثلاث من أصول الدين، منها : تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها، التي تليق بالله وحاصل تأويلهم : سلب صفات الكمال عن ذي الجلال .
أيضاً : أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب، في كلام الرب تعالى وتقدس، ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل : الإمام أحمد، والشافعي، وأصحابه، والخلال في كتاب السنة وإمام الأئمة : محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من أتباع السلف،كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري .
وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين، كالشهرستانى ،شيخ أبي المعالي، وكذلك أبو المعالي، والغزالي،وكذلك الأشعري قبلهم في كتاب الإبانة ،والمقالات ،ومع هذا ،وغيره،فبقي هذا في المتأخرين ،المقلدين لأناس من المتأخرين ،ليس لهم اطلاع على كلام العلماء،وكانوا يعدون من العلماء.
وأخطأوا أيضاً: في التوحيد ،ولم يعرفوا من تفسير لا إله إلا الله، إلا أن معناها القادر على الاختراع ودلالة لا إلَه إلا ّ الله على هذا، دلاله التزام، لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقر به الأمم، ومشركوا العرب ،كما قال تعالى: ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون ) الآيات [ المؤمنون: 84-89] وهي(1/306)
(ص321) كثيرة في القرآن، يحتج تعالى عليهم بذلك، على ما أنكروه من توحيد الإلهية ،الذي هو معنى لا إلَه إلا ّ الله، مطابقة، وتضمنا .
وهو: الذي دعا إليه الناس، في أول سورة البقرة، وفى سورة آل عمران، والنساء، وغيرها ،ودعت إليه الرسل ( ألا تعبدوا إلا الله )[هود: 2 ] وهو :الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ،ودعا إليه العرب قبلهم ،كما قال أبو سفيان ،لهرقل ،لما سأله عما يقول ،قال، يقول : ( اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) [النساء :26 ] وكل السور المكية :في تقرير معنى لا إلَه إلا ّ الله، وبيانه .
فإذا كان العلماء في وقتنا هذا، وقبله ،في كثير من الأمصار ،ما يعرفون من معنى لا إله إلا الله، إلا توحيد الربوبية ،كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية ،وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء، من المتكلمين : إن معنى لا إلَه إلا ّ الله، القادر على الاختراع ،وبعضهم يقول، معناها :الغنى عمن سواه، المفتقر إليه ما عداه، وعلماء الأحساء : ما عادوا شيخنا، رحمه الله، في مبدأ دعوته ،إلا من أجل أنهم ظنوا : أن عبادة يوسف، والعيدروس، وأمثالهما، لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص .
والله سبحانه :بين لنا معنى هذه الكلمة، في مواضع كثيرة من القرآن ،قال تعالى ،عن خليله عليه السلام : ( وإذ
( ص322) قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) [الزخرف : 26 –28 ]فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو : نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده .(1/307)
وقال عن أهل الكهف : (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ) [ الكهف : 16 ] فإذا كان هذا التوحيد، الذي هو حق الله على العباد، قد خفي على أكابر العلماء، في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور ؟ خصوصاً إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام، ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد ،وقبوله ،ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهناً، وقولاً، وطلباً، ورغبة . فهذه : نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين، وقلة المعرفة، فينبغي : أن تشاع، وتذاع، في محاضر أهل العلم ،يقبلها من وفقه الله للخير، فإنها خير مما كتبتم فيه، بأضعاف أضعاف، وصلى الله على محمد وآله وسلم ..(1/308)
(ص323) وله أيضا : قدس الله روحه، ونور ضريحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخوان والأعيان، من أهل الأحساء : الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وابنيه، وأولاد عبد الله الوهيبى، وعبد الله بن عبد القادر، وعبد الله بن عمير، واخوانهم : من أهل المدارس، والمساجد، وفقنا الله وإياهم لتوحيده، وأهّلنا وأياهم، لمعرفته، ومحبته، وتأييده، السلام عليكم ورحمه الله وبركاته .
وبعد : فمن المعلوم لديكم، أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وعفى عنه، تبيّن بدعوة الناس، إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن لا يصرف من العبادة شيء لأحد سواه، كما قال تعالى : ( أنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص ) [ الزمر : 2-3 ] ثم ذكر دين المشركين، وأنكره تعالى، في أول هذه السورة وغيرها، فقال تعالى : ( قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه )[ الزمر : 14-15 ] والآيات في إخلاص العبادة، وإفراد الرب تعالى به في القرآن كثير، تفيد الحصر لمن تدبرها،(1/309)
( ص324) ولا يخفاكم : أن شيخنا رحمه الله، لما تبيّن بهذه الدعوة الإسلامية، وجد العلماء في الأحساء وغيرها، لا يعرفون التوحيد من الشرك، بل قد اتخذوا الشرك في العبادة ديناً، فأنكروا دعوته لجهلهم بالتوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، فظنوا : أن الإله، هو : القادر على الاختراع، وهذا وغيره من توحيد الربوبية حق، لكنه لا يدخل في الإسلام بدون توحيد الإلهية وهى العبادة، كما قال تعالى : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) [ الزمر : 64-66 ] والذي يبين لكم : أن العلماء ما عرفوا التوحيد ولا عرفوا هذا الشرك : كون أرباب القبور من الأموات تعبد، وتصرف الرغبات، والرهبات إليها /، ولا عالم من علماء الأحساء، أنكر هذا، بل قد صار إنكارهم : لإخلاص العبادة لله وحدة، ومن دعا إلى الإخلاص : كفّروه، وبدّعوه، ولا نعلم أحداً من علماء الأحساء صدع بهذا الدين، وعرَفه، وعرّفه وهو دعوة الرسل، كما قال بعض السلف، كلمتان يسأل عنهم الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ فالدين في هاتين الكلمتين، والقرآن كله يقرر ذلك، يعرفه من تدبر .
فلما : أنه برق للشيخ حسين بن غنام، رحمه الله، هذا الدين، وأنه هو الحق الذي لا ريب فيه، صنف في تقريره
( ص325) المصنفات، وقال في بعض نظمه :
نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد ... ... فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيد الضلالة سائر ... ... وليس له إلا القبور يدينها
فعرف رحمه الله : أن فعلهم عند القبور، هو دين لأرباب القبور .(1/310)
والمقصود أن الإمام فيصل بن تركي – وفقه الله وهداه وتولاه – ألقى الله في نفسه ما حصل من الفترة، منكم وغيركم عن هذا الدين، والرغبة فيه والترغيب، فعزم على تجديد هذه الدعوة، مخافت أن تدرس، لأن الله فتح على كثير من الناس الدنيا، وكثرتها، والتنافس فيها : هلاك، لأن بها تحصل الغفلة عن الدين، والاعتراض عن دين المرسلين، وتكون المحبة لها، والبغض عليها، حتى إن بعض الناس، يقرب الرافضي وأمثاله، لمصلحة دنياه، ولا يميز بين الخبيث والطيب، لما أشرب من هواه، الذي طبع على قلبه فأعماه وأصماه .
فإن حصل منكم وأمثالكم : قيام في هذا الدين، وسؤال العامة عن أصول الدين، وقراءة منكم، وتدريس في كتب التوحيد، التي وجدوها حجة عليكم، فهذا هو الواجب، كما قال تعالى : ( وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً
( ص326) فبئس ما يشترون ) [ آل عمران : 187 ] والذي هذه حاله : ما يستحق أن يصير في مدرسة ومسجد، يأكل وقفهما، لأنه أوقع نفسه في الوعيد الشديد، وغفل عن أوجب العلوم وأفرضها .
فجعلوا لكم قصداً حسناً مع ربكم، ولا تضيعوا دينكم فتبوءوا بإثم من حولكم من الجهال، إذا تركتم تعلم دينكم، كما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل : فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [ آل عمران : 64] ففي هذه الآية بيان التوحيد في العبادة، ونفي الشرك فيها، وبيان أن هذا هو الإسلام، وهذا الخط لكم فيه بشارة ونذارة، والسلام .
( ص327) وله أيضاً رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم(1/311)
من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ : محمد بن مقرن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجواب الأشياخ الثلاثة، وصل، لكنه لا يطابق السؤال، واعلم : أنى لم أرد بذلك السؤال إلا الإرشاد إلى النظر في الأهم من أصول الدين، لينشروه تقريراً، وتحريراً، فأخرجته مخرج السؤال، ليكون أدعى إلى الالتفات إليه، فلم يحصل جواب يطابق السؤال : والسؤال : إنما هو عن توحيد الاعتقاد والعمل الذي اتفقت عليه دعوة المرسلين، عليهم السلام، وما دعوا إلى شيء قبله، وهو توحيد المراد، والإرادة
فالمطلوب :أن يعرفوا بتعريف جامع، ويذكروا دليله فإنه أبين شيء وأوضحه ،لمن تدبر الآيات المحكمات، وما قاله السلف الأول، والأئمة وأتباعهم من أهل السنة، الذين علت هممهم، عن النظر في أوضاع المتكلمين، والمتصوفة لما فيها من التخليط، والاضطراب، والخطأ كما لا يخفى على من اهتدى، وكل أهل مذهب من الأربعة : ففيهم من أتباع السلف، وأهل التحقيق، كثير، وقبلهم أئمة الحديث فمن علت همته : إلى طلب الهدى، وبالسلف وأتباعهم(1/312)
(ص328 ) اقتدى، نال المنى، إن شاء الله وأصاب الهدى .
والأشياخ الثلاثة، كما ذكرت – أيدهم الله بنور البصيرة – معهم من الذكاء، والفطنة، ما يجب أن يصرفوه إلى أهم الأمور، فلو صرفوا الهمة إلى ما أشرت إليه، نالوا به خير الدنيا والآخرة، بتوفيق الله تعالى .
وما تركت مكاتبتهم في هذا الشأن إلا لكون الغرض أعم، فإن عندهم من هو أسن منهم، وقد سمعوا اليسير من شيوخنا، إذا عرفت ما قلته، فإن حصل تعريف جامع لذلك التوحيد، الذي هو ثالث أنواعه، فلابد من تعريف الإله، المنفي بكلمة الإخلاص، والألوهية المثبتة للمستثنى فيها، وبيان مضمون هذه الكلمة وما دلت عليه، مطابقة، وتضمناً، ولابد أيضاً : من تعريف العبادة كما عرفها المحققون، ثم تعريف الشرك، المنافي لذلك التوحيد ويكون التعريف جامعاً .
وأن الشرك الخفي، فهو : الشرك الأصغر ، كالحلف بغير الله في الجملة، والرياء، وقول : ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك، فإنه : أكبر من الكبائر، ولا يخرج من الملة ونعوذ بالله من قول، وعمل، لا يبتغى به وجه الله .
ومما يرشد : إلى الاهتمام بهذه الأمور : أن من العلماء من غلط في مسمى التوحيد، الذي هو أصل الدين، وأساس الملة، كما قال شيخ الإسلام : أحمد بن تيمية، وقد غلط(1/313)
(ص329 ) في مسمى التوحيد، طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى طلبوا حقيقته، وطائفة ظنت : أن التوحيد نفى الصفات، وطائفة ظنت أنه : الإقرار بتوحيد الربوبية .
ومنهم : من أطال في تقرير هذا، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية : نفي القدرة على الاختراع، ونحو ذلك، ولم يعلم : أن مشركي العرب مقرون بذلك، وساق الأدله، كقوله : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) الآية [ يونس :31 ]
وقال شيخنا شيخ الإسلام :محمد بن عبد الوهاب : رحمه الله من أعجب العجائب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغالب : ستة أصول، بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام ،فوق ما يظن الظانون، ثم بعد ذلك : غلط فيها أذكياء العالم، وعقلاء بنى آدم إلا أقل القليل
الأصل الأول : إخلاص الدين لله وحده لا شريك له وبيان ضده، الذي هو : الشرك بالله وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل، من وجوه شتى ،بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار : أظهر لهم الشيطان الإخلاص، في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم وأظهر لهم الشرك بالله، في صورة : محبة الصالحين، واتباعهم، انتهى كلامه رحمه الله .(1/314)
(ص330) وقال أيضاً : الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد رحمه الله :
الكلام في الإسلام، والإمام، في مقامات، الأول : فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه، في سؤال جبريل عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أخبرني عن الإسلام ؟ فقال : الإسلام أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله )
الحديث " قال : أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ،ورسله، وباليوم الأخر ،وبالقدر خيره وشره "
فأخبر أن الإسلام، هو الأعمال الظاهرة، والإيمان، يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران، فإذا أفرد الإيمان، كما في كثير من آيات القرآن، دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة كما دل عل ذلك كثير من الآيات، والأحاديث، كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) [ النساء : 136 ] فتناولت الآية : جميع الأعمال الباطنة والظاهرة، لدخولها في مسمى الإيمان .
وأما الأركان الخمسة، فهي: جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان(1/315)
(ص331) والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث، وأصول الإيمان المذكورة تتضمن، الأعمال الباطنة والظاهرة فإن الإيمان بالله يقتضي : محبته، وخشيته، وتعظيمه، وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه، وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي، فدخل هذا كله في هذه الأصول الستة 0
ومما يدل على ذلك، قوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) إلى قوله : ( أولئك هم المؤمنون حقاً ) [الأنفال : 2-4 ] فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة، داخلة في مسمى الإيمان، كقوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات : 15 ] فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان ..
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان، قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، قبل تحويل القبلة إلى الكعبة ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأنى رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم " ففسر الإيمان(1/316)
(ص332) بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه، كما تقدم .
إذا عرفت : أن كلاً من الأعمال الظاهرة والباطنة، من مسمى الإيمان شرعاً، فكل ما نقص من الأعمال، التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب ؛ كما في حديث أبي هريرة : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها وهو مؤمن " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " ونفى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه .
فالمنفي في هذه الأحاديث : كمال الإيمان الواجب ؛ فلا يطلق الإيمان على مثل أهل هذه الأعمال إلا مقيداً بالمعصية، أو بالفسوق، فيقال : مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيكون معه من الإيمان، بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان، على سبيل إطلاق أهل الإيمان، كقوله تعالى : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) [ النساء : 92] .
وأما : المؤمن الإيمان المطلق، الذي لا يتقيد بمعصية، ولا بفسوق، ونحو ذلك : فهو : الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات، مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد ؛ فهذا : هو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق، والثاني هو الذي لا يصر صاحبه(1/317)
(ص333) على ذنب والأول هو المصر على بعض الذنوب .
وهذا الذي ذكرته هنا، هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، في الفرق بين الإسلام والإيمان ؛ وهو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو : وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان، الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به ؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصراً على ذنب، أو تاركاً لما وجب عليه، مع القدرة عليه .
والمرتبة الثانية : من مراتب الدين : مرتبة أهل الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم، بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب ؛ فهذه هي المرتبة الثانية، التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار ؛ كقوله تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ) الآية [ الحديد:21] فهؤلاء : اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم ؛ وتركوا ما حرم الله عليهم، وهم السعداء أهل الجنة، والله سبحانه أعلم .(1/318)
(ص334) وسئل أيضاً : رحمه الله تعالى، عن الفرق بين الإسلام، والإيمان .
فأجاب : قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح ؛ فقال : " الإسلام أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً " وقال : " الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الأخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " وقال في حديث ابن عمر : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " وفي رواية : والحج، وصوم رمضان ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات، أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن ؛ وكل مؤمن مسلم ؛ وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمناً ؛ كما دلت عليه الأحاديث ؛ انتهى كلامه .
فإن قيل : قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل، بين(1/319)
(ص335) الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف، وأئمة الحديث : أن الإيمان، قول، وعمل، ونية ؛ وأن الأعمال كلها داخلة في مسمي الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم ؟
فالجواب : أن الأمر كذلك ؛ وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان : الكتاب والسنة ؛ أما الكتاب، فكقوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إ ذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) الآية [ الأنفال :2] وأما الحديث، فكقوله في حديث أبي هريرة، المتفق عليه : " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " وغير ذلك ؛ فمن زعم : أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز ؛ فقد خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة .
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث : بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شاملاً لها ؛ ففسرت بالإسلام ، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان مثالاً لها ولغيرها، من الأعمال الباطنة والظاهرة ؛ فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث، دخل فيه الإسلام ؛ وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، وفسر الإيمان بأعمال القلب،لأنها أصل الإيمان ومعظمه، وقوته وضعفه : ناشىء عنقوة ما في القلب، من هذه الأعمال أو ضعفها .(1/320)
(ص336) وقد يضعف ما في القلب، من الإيمان بالأصول الستة، حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح : " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " فبقدر ما في القلب من الإيمان، تكون الأعمال الظاهرة، التي هي داخلة في مسماه، وتسمى إسلاماً، وإيماناً، كما في حديث : وفد عبد القيس، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال : " شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم : فهذه الأعمال : داخلة في الإيمان، وهي الإسلام، لأن الإيمان اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن ترك شيئاً من الواجبات، أو فعل شيئاً من المحرمات، نقص إيمانه بحسب ذلك ؛ وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب .
قال شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص، أما الإحسان : فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان ؛ والإيمان : أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام ؛ فالإحسان : يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام ؛ والمحسنون : أخص من المؤمنين ؛ والمؤمنون : أخص من المسلمين، انتهى ؛ وهذا يبين ما قررنا .(1/321)
(ص337) فحينئذ : يتبين الإيمان الكامل، الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، هو فعل الواجبات، وترك المحرمات ؛ وهو : الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد ؛ وهو الإيمان : الذي يسميه العلماء : الإيمان المطلق ؛ وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد ؛ فيقال : مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته؛ أو يقال : مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " أي : ليس موصوفاً بالإيمان الواجب، الذي يستحق صاحبه الوعد بالجنة، والمغفرة والنجاة من النار ؛ بل هو تحت المشيئة : إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة .
وقيل : هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمناً إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان ؛ أي : أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطناً وظاهراً، وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان، هو :مذهب الإمام أحمد، وطائفة من السلف والمحققين ؛ وذهب طائفة من أهل السنة أيضاً : إلى أن الإسلام، والإيمان شيء واحد، وهو الدين، فيسمى إسلاماً، وإيماناً، فهما اسمان لمسمى واحد ؛ والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه، فلا تلتفت إلى ما يخالف هذين(1/322)
(ص338) القولين، والله أعلم .
وله أيضاً : رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ القادم من بلاد الأفغان : عبد الله بن محمد، وفقه الله لحقيقة الإسلام، والإيمان، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته ؛ وبعد : فالذي يجب علينا، محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله أن يجعله مؤثراً للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين :
الأول : أن علم المنطق، قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء، لكن الصواب تحريمه، لأمور، منها : أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان ؛ وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم .
الأمر الثاني : أن أئمة التابعين، من الفقهاء والمفسرين، والمحدثين، لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم ؛ والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم ؛ وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين ،(1/323)
(ص339) ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئاً من هذا العلم .
الأمر الثالث : أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية، لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون، على تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه . وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه ؛ والمعول إنما هو الكتاب والسنة وما عليه الالتفات إليه ؛ والمعول إنما هو على الكتاب والسنة وما عليه السلف والأئمة، وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلاً، فهذا الذي ندين الله به .
البحث الثاني : السؤال عن التوحيد وأنواعه ؟ وحقيقة كل نوع منه ؟ فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها، فيجب عليك أيها الرجل القادم : أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله، والذي يقبل علمنا هذا، الذي من الله به علينا، من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، والذي يرى غير ذلك، فلا نحن بإخوان له ؛ والسلام، وصلى الله على محمد وآله وسلم .
وقال أيضاً : الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله : اعلم : أن مذهب أهل السنة والجماعة، أن الله تبارك(1/324)
(ص340) وتعالى يتكلم إذا شاء، وقول السائل : وأنها كلامه القديم، هذا قول الكرامية، وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون : إنها وحيه، أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف والأئمة ؛ وجميع ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم يثبتون ذلك، إثباتاً بلا تأويل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته ولا يثبتون ما نفاه .
وسئل عن حديث : " أنا مدينة العلم، وعلي بابها "؟ فأجاب : الذي وقفنا عليه، من كلام أهل العلم : ذكر شيخ الإسلام في مناهج السنة، أن ابن الجوزي : ذكره في الموضوعات ؛ وما علمت أن أحداً من العلماء خالف ابن الجوزي في ذلك ؛ إلا أن الحاكم ذكره في المستدرك ؛ وذكره لهذا الحديث مما عيب عليه .
وهذا الحديث يلزم عليه : أن تكون السنن التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تصدر منه إلى علي ؛ ومن علي إلى الصحابة ؛ والواقع خلاف ذلك، فقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة علي، فمقل ومستكثر ؛ وليس علي رضي الله عنه من المكثرين عنه، وقد سئل علي رضي الله عنه، فقيل له : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا، إلا هذه الصحيفة، وفيها العقل ؛ وهذا مما يبين(1/325)
(ص341) قوة قول ابن الجوزي، وحكمه على الحديث بالوضع .
وقال في الدرر المنتثرة، في الأحاديث المشتهرة، حديث : " أنا مدينة العلم " إلى آخره، وقال منكر ؛ وأنكره البخاري أيضاً، وذكره الحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس، وقال : صحيح ؛ قال الذهبي : بل موضوع ؛ وقال أبو زرعة : كم خلق افتضحوا فيه؛ وقال يحيى بن معين : لا أصل له ؛ وكذا قال أبو حاتم، ويحيى بن سعيد ؛ قال الدار قطني : غير ثابت، وقال ابن دقيق العيد لم يثبتوه ؛ هذا ما وقفنا عليه من كلام الحفاظ ؛ والله أعلم .(1/326)
(ص342) وله أيضاً، رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
إذ قيل لك : من ربك ؟ فقل : الله ربي، خالقي، ومالكي، ومعبودي ؛ والدليل قوله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره الإله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف :54] .
فإذا قيل لك : ما الذي خلقك الله لأجله ؟ فقل : خلقني لأعبده وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات :56] والعبادة : أن تعمل بطاعة الله تعالى، بما أمرك به، ونهاك عنه، مخلصاً له العبادة والعمل
وإذا قيل لك : ما دينك ؟ فقل، ديني الإسلام، وهو الخضوع لله، والذل له بالإخلاص، والانقياد له بالعمل بما شرعه، في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) [ آل عمران :19] وقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران :85] وقوله تعالى : ( ومن يسلم(1/327)
(ص343) وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [لقمان:22] لا إله إلا الله ؛ وإسلام الوجه، هو : الإخلاص، والإحسان : هو المتابعة .
ومعنى لا إلَه إلا ّ الله : لا معبود بحق إلا الله ؛ والدليل قوله تعالى : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] فقوله : ( أن لا تعبدوا ) فيه معنى لا إله ؛ وقوله : ( إلا إياه ) فيه معنى إلا الله ؛ وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ) [ آل عمران : 64] فقوله : ( أن لا نعبد ) فيه معنى لا إله وقوله : ( إلا الله ) هو المستثنى لفظاً ومعنى، والآيات في معنى هذه الكلمة العظيمة كثيرة في القرآن .
وإذا قيل لك : من نبيك ؟ فقل : نبيي محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من ذرية إسماعيل، بن إبراهيم، الخليل عليهما السلام، بعثه الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، يدعوهم إلى ما خلقوا له من معنى : لا إلَه إلا ّ الله ؛ وختم به رسله صلوات الله وسلامه عليه ؛ وأنزل عليه القرآن، الذي هو أفضل الكتب المنزلة على من قبله من المرسلين، كما قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) [ المائدة : 48 ] وقوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [ الأحزاب : 40](1/328)
(ص344) وإذا قيل لك : هل يبعث الله الخلق بعد الموت ؟ ويحاسبهم على أعمالهم خيرها وشرها ؟ ويدخل من أطاعه الجنة ؟ ومن كفر به وأشرك به غيره فهو في النار ؟ فقل : نعم ؛ والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير )[التغابن :7] وقوله : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) [ طه:55] وفي القرآن من الأدلة على هذا ما لا يحصى .
وإذا قيل لك : ما أفضل الأعمال بعد الشهادتين ؟ فقل : أفضلها الصلوات الخمس ؛ ولها شروط، وأركان وواجبات ؛ فأعظم شروطها الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت، والنية.
وأركانها : أربعة عشر ؛ القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على سبعة الأعضاء، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي صلي الله عليه وسلم، والتسليم .
وواجباتها : ثمانية، جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، سبحان ربي العظيم في الركوع، سمع الله لمن حمده، للإمام(1/329)
(ص345) والمنفرد، ربنا ولك الحمد للكل، سبحان ربي الأعلى في السجود، رب اغفر لي بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له ؛ وما عدى هذا فسنن أقوال وأفعال ؛ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
قال الشيخ : حسن بن الشيخ حسين، بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى :
قال ابن القيم رحمه الله : ونحن نحكي إجماعهم، كما حكاه حرب، صاحب الإمام أحمد، بلفظه، قال في مسائله المشهورة : هذا مذهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز، والشام، وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن مذهب أهل السنة وسبيل الحق .
قال : وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، فكان من قولهم : إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب والسنة ؛ والإيمان : يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون شكاً، إنما هي سنة ماضية عند العلماء ؛ وإذا سئل(1/330)
(ص346) الرجل . أمؤمن أنت ؟ فإنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، ويقول : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ومن زعم : أن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجىء ؛ ومن زعم : أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع، فهو مرجىء ؛ ومن زعم : أن الإيمان يزيد، ولا ينقص، فقد قال بقول المرجئة ؛ ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجىء ؛ ومن زعم : أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة، فهو مرجىء ؛ ومن زعم : أن المعرفة تقع في القلب، وإن لم يتكلم بها فهو مرجىء .
والقدر : خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره من الله عز وجل، قضاء قضاه على عباده، وقدراً قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوزه قضاؤه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم ؛ وهو عدل منه جل ثناؤه وعز شأنه .
والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك، والمعاصي : كلها بقضاء الله وقدر من الله، من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء:23].
وعلم الله ماض في خلقه بمشيئة منه ؛ قد علم - من(1/331)
(ص347) إبليس ومن غيره، من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة - المعصية، وخلقهم لها ؛ وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها، فكل يعمل لما خلق له، وسائر إلى ما قضي عليه، لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته، والله الفعال لما يريد .
ومن زعم : أن الله سبحانه شاء لعباده، الذين عصوه، وتكبروا، الخير والطاعة، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى ؛ وأي افتراء على الله أكبر من هذا ؟
ومن زعم أن الزنا ليس بقدره، قيل له أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنا، وجاءت بولد، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد ؟ وهل مضي في سابق علمه ؟ فإن قال : لا ؛ فقد زعم : أن مع الله خالقاً ؛ وهذا الشرك صراحاً .
ومن زعم : أن السرقة، وشرب الخمر، وأكل المال الحرام، ليس بقضاء، ولا قدر ؛ فقد زعم : أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صريح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله .
ومن زعم : أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل، فقد زعم : أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا ؟! بل ذلك بقضاء الله عز وجل، وذلك عدل منه في(1/332)
(ص348) خلقه وتدبيره فيه، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد، ومن أقر بالعلم، لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقمأة .
ولا نشهد على أحد من أهل القبلة : أنه في النار، لذنب عمله، ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء في حديث، ولا بنص الشهادة ولا نشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة .
والخلافة في قريش، ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة، والجهاد ماض قائم، مع الأئمة ، بروا أو فجروا، ولا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل ؛ والجمعة، والعيدان، والحج من السلاطين، وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقياء، ودفع الصدقات، والخراج، والأعشار، والفيء، والغنائم، إليهم عدلوا فيها، أو جاروا ؛ والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم، لا تنزع يداً من طاعته، ولا تخرج عليه بسيف، حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً ؛ ولا تخرج على السلطان ؛ وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة وإن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقه، والإمساك في الفتنة : سنة ماضية، واجب لزومها ؛ فإن(1/333)
(ص349) ابتليت، فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك، ولسانك وهواك، والله المعين . والكف عن أهل القبلة، فلا تكفر أحداً منهم، ولا تخرجه من الإسلام بعمل، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء ؛ وما روي فنصدقه ونقبله، ونعلم أنه : كما روي نحو كفر من يستحل، نحو ترك الصلاة، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة، ينسب صاحبها إلى الكفر، والخروج من الإسلام ؛ فاتبع ذلك ولا تجاوزه .
والأعور الدجال : خارج لاشك في ذلك، ولا ارتياب ؛ وهو أكذب الكاذبين وعذاب القبر، حق، يسئل العبد عن دينه، وعن ربه، وعن الجنة، وعن النار، ومنكر ونكير، حق ؛ وهما فتانا القبر، نسأل الله الثبات .
وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق، حوض ترده أمته وآنيته عدد نجوم السماء، يشربون بها منه ؛ والصراط، حق، يوضع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك ؛ والميزان، حق، توزن به الحسنات والسيئات، كما شاء الله أن توزن .
والصور، حق، ينفخ فيه إسرافيل، فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين، للحساب وفصل القضاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار .
واللوح المحفوظ : يستنسخ منه أعمال العباد، كما سبق(1/334)
(ص350) فيه من المقادير والقضاء ؛ والقلم، حق، كتب الله به مقادير كل شيء، وأحصاه في الذكر .
والشفاعة يوم القيامة، حق، يشفع قوم في قوم، فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم من النار، وقوم يخلدون فيها أبداً، وهم أهل الشرك، والتكذيب والجحود، والكفر بالله عز وجل .
ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عز وجل، وخلق الخلق لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً .
فإن احتج مبتدع، أو زنديق بقول الله عز وجل : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص:88] ونحو هذا من متشابه القرآن؟
قيل له : كل شيء كتب الله عليه الفناء والهلاك، والجنة والنار، خلقهما الله للبقاء لا للفناء، ولا للهلاك، وهما من الآخرة، لا من الدنيا ؛ والحور العين : لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبداً، لأن الله خلقهن للبقاء لا للفناء، ولا يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف ذلك، فهو مبتدع ضال عن سواء السبيل .
وخلق سبع سماوات، بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا، والسماء الدنيا،(1/335)
(ص351) مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء السابعة العليا، وعرش الرحمن فوق الماء، والله عز وجل على العرش، والكرسي موضع قدميه .
وهو يعلم : ما في السماوات، وما في الأرضين، وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في مقر البحر، ومنبت كل شعرة، وشجرة، وكل زرع، وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرمل، والحصا، والتراب ؛ ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد، وآثارهم، وكلامهم، وأنفاسهم ؛ ويعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء من ذلك ؛ وهو على العرش، فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نار، وحجب من نور، وظلمة، وما هو أعلم به .
فإن احتج مبتدع، أو مخالف بقول الله تعالى : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق:16] وبقوله : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) إلى قوله : ( وهو معهم أينما كانوا ) الآية [ المجادلة : 7] ونحو هذا من متشابه القرآن ؟ .
فقل : إنما يعني بذلك العلم، لأن الله عز وجل على العرش، فوق السماء السابعة العليا، يعلم ذلك، وهو بائن من خلقه، لا يخلوا من علمه مكان، ولله عز وجل عرش، وللعرش حملة يحملونه ؛ والله عز وجل مستو على عرشه، وليس له حد .
( ص352) والله عز وجل : سميع، لا يشك، بصير، لا يرتاب ؛ عليم، لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم، لا يجعل حفيظ، لا ينسى، ولا يسهو ؛ قريب، لا يغفل .(1/336)
يتكلم، وينظر، ويبسط، ويضحك، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى ويغضب، ويسخط، ويرحم، ويعفو، ويغفر، ويعطي، ويمنع، وينزل كل ليلة، إلى السماء الدنيا كيف شاء ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى : 11] وقلوب العباد : بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء، ويوعيها ما أراد ؛ وخلق آدم بيده على صورته ؛ والسماوات، والأرض، يوم القيامة في كفه ؛ ويضع قدمه في النار ؛ فتنزوي ؛ ويخرج قوماً من النار بيده ؛ وينظر إلى وجهه أهل الجنة، يرونه، فيكرمهم، ويتجلى لهم، وتعرض عليه العباد يوم القيامة، ويتولى حسابهم بنفسه، ولا يلي ذلك غيره، عز وجل .
والقرآن : كلام الله الذي تكلم به، ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق، فهو جهمي، كافر ؛ ومن زعم : أن القرآن كلام الله، ووقف، فلم يقل ليس بمخلوق، فهو أخبث من القول الأول ؛ ومن زعم : أن ألفاظنا ؛ وتلاوتنا مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي .
( وكلم الله موسى تكليماً ) [ النساء : 164] منه إليه ،(1/337)
(ص353) وناوله التوراة، من يده، إلى يده، ولم يزل الله عز وجل متكلماً .
والرؤيا من الله، وهى حق إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثاً، فقصها على عالم وصدق فيها، فأولها العالم على أصل تأويلها الصحيح، ولم يحرف، فالرؤيا تأويلها حينئذ حق ؛ وكانت الرؤيا من الأنبياء وحياً، فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا ،ويزعم أنها ليست بشيء ؛ وبلغني : أن من قال هذا القول، لا يرى الاغتسال من الاحتلام، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رؤيا المؤمن كلام، يكلم به الرب عبده، وقال : " أن الرؤيا من الله " .
وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، والكف عن ذكر مساويهم، التي شجرت بينهم فمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم، أو تنقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بغيبتهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع، رافضى، خبيث، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة .
وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ؛ وعمر بعد أبي بكر ؛ وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم على عثمان ؛ وهم خلفاء راشدون، مهتدون .
ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة، خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن(1/338)
(ص354) على أحد منهم بعيب، ولا نقص، فمن فعل ذلك، فقد وجب على السلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب، أو يرجع .
ونعرف للعرب حقها وسابقتها وفضلها ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب العرب من الإيمان،وبغضهم نفاق "
ولا نقول بقول الشعوبية، وأراذل الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون لهم بفضل، فان قولهم بدعة، ومن حرم المكاسب، والتجارات، وطلب المال من وجهه، فقد جهل وأخطأ، بل المكاسب من وجوهها حلال قد أحلها الله عز وجل، ورسوله، فالرجل ينبغي له : أن يسعى على نفسه، وعياله، يبتغي من فضل ربه، فإن ترك ذلك على أنه لا يرى ذلك الكسب حلالاً، فقد خالف الكتاب، والسنة .
والدين : إنما هو كتاب الله عز وجل، وآثار، وسنن، وروايات صحاح عن الثقات؛ والأخبار الصحيحة القوية المعروفة، ويصدق بعضها بعضاً، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين، والتابعين، وتابعي التابعين، ومن بعدهم من الأئمة المعروفين، المقتدى بهم، المتمسكين بالسنة، والمتعلقين بالآثار، ولا يعرفون ببدعة، ولا يطعنون بكذب، ولا يرمون بخلاف - إلى أن قال : فهذه الأقاويل، التي وصفت، مذاهب أهل السنة
( ص355) والجماعة والأثر، وأصحاب الروايات، وحملة العلم الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السنن، وكانوا أئمه معروفين ثقات، أهل صدق وأمانة، يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدع، ولا خلاف ،ولا تخليط ؛ وهذا قول أئمتهم، وعلمائهم، الذين كانوا قبلهم فتمسكوا بذلك، وتعلموه، وعلموه .(1/339)
قلت : حرب هذا، هو صاحب الإمام أحمد، وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميدى، وهذه الطبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم، واتفاقهم عليها، ومن تأمل النقول عن هؤلاء، وأضعاف أضعافهم من أئمة السنة، والحديث، وجده مطابقاً لما نقله حرب، ولو تتبعناه لكان بقدر هذا الكتاب مراراً، وقد جمعنا منه في مسألة علو الرب تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وحدها، سفراً متوسطا ً، فهذا مذهب المستحقين لهذه البشرى قولاً وعملاً واعتقاداً، وبالله التوفيق انتهى كلامه من " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " رحمه الله .
قال الشيخ حسن بن حسين : الذي أعتقده، وأدين الله به، وأشهد الله عليه وملائكته، والواقف عليه، هذا وهو المذهب الصحيح، الذي درج عليه السلف الصالحون، والخلف التابعون، وأبرأ إلى الله مما سواه، ولا إلَه إلا ّ الله، عدة للقاه، وصلى الله على سيدنا محمد، وصحبه، ورضي عنهم أجمعين .
سئل الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى، عن القدرية ؟ ومذهبهم ؟ والمعتزلة ؟ ومذهبهم ؟ والخوارج ؟ ومذهبهم ؟
( ص356) فأجاب رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة، والمشركين، فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبرايئل : بالاعتقاد الباطن، فقال : " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جداً والقدر الذي يجب الإيمان به، على درجتين :
الدرجة الأولى الإيمان بالله تعالى سبق في علمه ما يعلمه العباد، من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب، جزاء لأعمالهم، قبل خلقهم وتكوينهم ؛ وأنه كتب ذلك عنده، وأحصاه ؛ وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه .(1/340)
والدرجة الثانية : الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها، من الكفر، والإيمان ،والطاعة والعصيان ؛ وشاءها منهم، فهذه الدرجة : يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها جميع القدرية : يقولون : إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا
( ص357) شاءها منهم، بل هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم، من خير وشر، وطاعة ومعصية ؛ والدرجة الأولى : نفاها غلاة القدرية ؛ كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد، ونص أحمد، والشافعي : على كفر هؤلاء .
وأما من قال : إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يشأها منهم، مع إقرارهم بالعلم، ففي تكفيرهم نزاع مشهور بين العلماء ؛ فحقيقة القدر، الذي فرض علينا الإيمان به : أن نعتقد أن الله سبحانه عالم ما العباد عاملون، قبل أن يوجدهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد خيرها وشرها، مخلوقة لله، واقعة بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله تعالى : ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء ) [المدثر:31]وقال تعالى : ( ولو شاء الله ما فعلوه ) [ الأنعام : 137] ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) [ البقرة: 253] ( ولو شاء الله ما أشركوا ) [ الأنعام : 107] فهذه الآيات، ونحوها : صريحة في أن أعمال العباد، خيرها وشرها، وضلالهم واهتدائهم، كل ذلك : صادر عن مشيئته .
وقال تعالى : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس :7-8]، وقال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً ) [ المعارج : 19-21] فدل ذلك على أن الله سبحانه : هو الذي جعلها فاجرة، أو تقية، وأنه خلق الإنسان هلوعاً، خلقه متصفاً بالهلع، وقال : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم(1/341)
( ص358) مؤمن ) [ التغابن :2] ففي هذه الآية : بيان أن الله تعالى خلق المؤمن وإيمانه ،والكافر وكفره، وقد صنف البخاري - رحمه الله تعالى - كتاب خلق أفعال العباد، واستدل بهذه الآيات، أو بعضها على ذلك ؛ وفي الحديث : " أن الله خلق كل صانع وصنعته "
وأما الأدلة : على تقدم علم الله سبحانه، بجميع الكائنات قبل إيجادها، وكتابة ذلك ؛ ومنها : السعادة، والشقاوة ؛ وبيان أهل الجنة، وأهل النار قبل أن يوجدهم، فكثيرة جداً، كقوله سبحانه : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ) [ الحديد :22] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض، بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " وفي حديث آخر : " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " والأحاديث في هذا كثيرة جداً فهؤلاء الذين وصفنا قولهم : بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم : هم القدرية، الذين هم مجوس هذه الأمة ؛ وقابلتهم طائفة أخرى، غلوا في إثبات القدر، وهم الذين يسمون : الجبرية ؛ فقالوا : إن العبد مجبور مقهور على ما يصدر منه، لا قدرة له فيه، ولا اختيار ؛ بل هو كغصن الشجرة، الذي تحركه الريح ؛ والذي عليه أهل السنة والجماعة : الإيمان بأن أفعال العباد مخلوقة لله، صادرة عن(1/342)
(ص359) مشيئته : وهي أفعال لهم، وكسب لهم باختيارهم، فلذا ترتب عليها الثواب، والعقاب .
والسلف : يسمون الجبرية قدرية، لخوضهم في القدر، ولهذا ترجم الخلال في كتاب " السنة " فقال : الرد على القدرية، وقولهم إن الله جبر العباد على المعاصي، ثم روى عن بقية، قال : سألت الزبيدي، والأوزاعي عن الجبر ؟ فقال الزبيدي : أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر، أو يعضل ؛ ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أوجب، وقال الأوزاعي : ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن، ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والجبلة والخلق فهذا يعرف من القرآن والحديث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله : فهذان الجوابان، اللذان ذكرهما هذان الإمامان، في عصر تابع التابعين : من أحسن الأجوبة، أما الزبيدي، فقال : ما تقدم ؛ وذلك لأن الجبر في اللغة إلزام الإنسان بغير رضاه، كما يقول الفقهاء، هل تجبر المرأة على النكاح أم لا ؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع ؟ فقال : الله أعظم من أن يحبر أو يعضل، لأن الله قادر على أن يجعل العبد مختاراً، راضياً لما يفعله، مبغضاً تاركاً لما يتركه، فلا جبر على أفعاله الاختيارية، ولا عضل عما يتركه لكراهية، أو عدم إرادته.
وروي عن سفيان الثوري جبل العباد ؛ وقال الراوي عنه، وأظنه : أراد(1/343)
(ص360) قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : " بل جبلت عليهما " فقال : الحمد لله الذي جبلنى على خلقين، يحبهما الله ؛ يعني : الحلم، والأناة، وقال المروذي للإمام أحمد إن رجلاً يقول : إن الله جبر العباد، فقال : لا نقول هكذا، وأنكر هذا وقال : ( يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء ) [ المدثر : 31]
وأما المعتزلة : فهم الذين يقولون بالمنزلتين بين المنزلتين ؛ يعنون : أن مرتكب الكبيرة يصير في منزلة بين الكفر والإسلام ، فليس هو بمسلم، ولا كافر ؛ ويقولون : أنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها .
وأول من أشتهر عنه ذلك : عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه : يجلسون معتزلون الجماعة ؛ فيقول قتادة، وغيره : أولئك المعتزلة وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري، وضم المعتزلة إلى ذلك : التكذيب بالقدر ؛ ثم ضموا إلى ذلك نفي الصفات، فيثبتون الاسم دون الصفة ؛ فيقولون : عليم بلا علم ؛ سميع بلا سمع ؛ بصير بلا بصر، وهكذا سائر الصفات ؛ فهم قدرية، جهمية، وامتازوا : بالمنزلة بين المنزلتين، وخلود عصاة الموحدين في النار .
وأما الخوارج : فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ؛ وقبل ذلك، قتلوا عثمان رضي الله عنه ؛ وكفّروا عثمان، وعلياً، وطلحة، والزبير ،ومعاوية، وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم .(1/344)
(ص361) وأصل مذهبهم : الغلو الذي نهي عنه، وحذر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكفروا من ارتكب كبيرة، وبعضهم يكفر بالصغائر ؛ وكفروا علياً وأصحابه بغير ذنب، فكفروهم بتحكيم الحكمين : عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري ؛ وقالوا لا حكم إلا لله .
واستدلوا على قولهم : بالتكفير بالذنوب بعمومات أخطأوا فيها ؛ وذلك كقوله سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ) [ الجن : 23] ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها ) [ النساء : 14 ] وقوله : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ) الآية [ النساء : 93 ] وغير ذلك من الآيات .
وأجمع أهل السنة والجماعة : أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد ؛ وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وسلم .
وأيضاً : فلو كان الزاني، وشارب الخمر والقاذف، والسارق، ونحوهم : كفاراً مرتدين، لكان حكمهم في الدنيا القتل، الذي هو حكم الله في المرتدين ؛ فلما حكم الله على الزاني البكر الجلد، وعلى السارق بالقطع، وعلى الشارب والقاذف بالجلد، دلنا حكم الله فيهم بذلك : أنهم لم يكفروا بهذه الذنوب، كما تزعمه الخوارج .(1/345)
(ص362) فإذا عرفت مذهبهم، أن أصله التكفير بالذنوب وكفّروا أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، واستحلوا قتلهم، متقربين بذلك إلى الله ! فإذا تبين لك ذلك، تبين لك : ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم : أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأتباعه خوارج، ومذهبهم مخالف لمذهب الخوارج ؛ لأنههم يوالون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون إتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحداً منهم ولا يكفّرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام ،إنما يكفّرون من أشرك بالله، أو حسّن الشرك ؛ والمشرك : كافر بالكتاب، والسنة ،والإجماع، فكيف يجعل هؤلاء مثلا أولئك ؟! .
وإنما يقول ذلك : معاند يقصد التنفير للعامة ؛ أو يقول ذلك : جاهل بمذهب الخوارج، ويقول تقليداً ؛ ولو قدرنا : أن إنساناً يقع منه جراءة، وجسرة على إطلاق الكفر، جهلا منه ؛ فلا يجوز : أن ينسب إلى جميع الطائفة، وإنما ينسب إليهم ما يقوله شيخهم، وعلماؤهم بعده، وهذا أمر ظاهر للمنصف وأما المعاند المتعصب، فلا حيلة فيه .
إذا عرفت مذاهب : الفرق المسؤول عنها، فاعلم : أن أكثر أهل الأمصار اليوم : أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب سبحانه وتعالى : موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية ؛(1/346)
(ص363) فيهم : يثبتون بعض الصفات، دون بعض، فيثبتون الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة والسمع، والبصر، والكلام وينفون ما سوى هذه الصفات، بالتأويل الباطل .
مع أنهم : وإن أثبتوا صفة الكلام، موافقة لأهل السنة، فهم في الحقيقة : نافون لها ؛ لأن الكلام عندهم، هو : المعنى فقط، ويقولون : حروف القرآن مخلوقة، لم يتكلم الله بحرف، ولا صوت ؛ فقالت لهم الجهمية : هذا هو نفس قولنا : إن كلام الله مخلوق ؛ لان المراد : الحروف، لا المعنى ؛ ومذهب السلف قاطبة : أن كلام الله غير مخلوق، وأنه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وأنه سبحانه يتكلم بصوت يسمعه من شاء .
والأشعرية : لا يثبتون علو الرب فوق سماواته، واستوائه على عرشه، ويسمعون : من أثبت صفقة العلو، والاستواء على العرش : مجسماً، مشبهاً ؛ وهذا خلاف ما عليه أهل السنة، والجماعة فانهم يثبون صفة العلو الاستواء كما أخبر سبحانه بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكيف، ولا تعطيل، وصرّح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء، والأشاعرة وافقوا الجهمية في هذه الصفة لكن الجهمية يقولون : إنه سبحانه
في كل مكان ؛ والحلولية، والأشعرية، يقولون : كان ولا مكان، فهو على ما كان، قبل أن يخلق المكان
( ص364) والأشعرية : يوافقون أهل السنة، في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون، معنى الرؤية : إنما هو زيادة علم يخلقه الله، في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر، حقيقة عياناً ؛ فهم بذلك : نافون للرؤية، التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي . صلى الله عليه وسلم .
ومذهب الأشاعرة : أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح ؛ قالوا : وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا فعلى المجاز، لا الحقيقة .(1/347)
ومذهب أهل السنة والجماعة : إن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وقد كفر جماعة من العلماء : من أخرج العمل عن الإيمان .
فإذا تحققت : ما ذكرنا، من مذهب الأشاعرة، من نفي صفات الرب سبحانه، غير السبع التي ذكرنا، ويقولون : إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، وإن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون : أن كلام الرب سبحانه معنى واحد، وأن نفس القرآن، هو نفس التوراة والإنجيل ؛ لكن : إن عبر عنه بالعربية، فهو قرآن وان عبر عنه بالعبرانية، فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية، فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم . إذا عرفت ذلك : عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أن
( ص365) أدخلهم في أهل السنة : مداراة لهم، لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، مع أنه قد دخل بعض المتأخرين من الحنابلة، في بعض ما هم عليه .
وسئل أيضاً : الشيخ عبد الله أبا بطين، هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره ؟
فأجاب : الله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء، وأحق بهذا ؛ وأنهم أحياء في قبورهم ؛ ونحن : نرى الشهداء رميماً، وربما أكلتهم السباع ؛ ومع ذلك هم : ( أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ) [آل عمران :169-170] فحياتهم حياة برزخية، الله أعلم بحقيقتها .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصاً في هذه الأزمنة يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت .(1/348)
وهل جاء أثر صحيح : أنه باعثه لنا في قبره ؟ كما كان قبل موته ؟ وقد قام البرهان القاطع : أنه لا يبقى أحد حي، حين يقول الله سبحانه وتعالى : ( لمن الملك اليوم ) [غافر:16] فيكون صلى الله عليه وسلم قد مات ،ثم بعثه في قبره، ثم مات، فيكون له ثلاث موتات! ولغيره موتتان ؛ وقد قال أبو بكر(1/349)
(ص366) رضي الله عنه . لما جاءه بعد موته، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين ؛ وقال سبحانه عن أهل الجنة : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان :56] يعني : التي كانت في الدنيا، أفيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات موته ثانية، بعد الموتة الأولى ؟
وأيضاً : لو كان في قبره حياً، مثل حياته على ظهر الأرض، لسأله أصحابه عما أشكل عليهم ؛ قال عمر رضي الله عنه : ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، الجد، والكلالة، وأبواب من الربا ؛ فهلا جاء إلى قبره ؟ واستسقى بالعباس، ولم يجيء إلى قبره يستسقي به .
ومعلوم : ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيء أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله عما اختلفوا فيه ؛ وفي الحديث المشهور : " ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " فهذا : يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره ؛ ومعرفة الميت زائره، ليس مختصاً به صلى الله عليه وسلم .
والذين يظنون : أن حياته في قبره، كحياته قبل موته، يقرؤون في كتاب الشفاء، وغيره، الحكاية المشهورة عندهم : أن الإمام مالكاً، قال للمنصور، لما رفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم : لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حرمته ميتاً، كحرمته حياً ؛ وقد عقد ابن القيم - رحمه الله - في النونية فصلاً على من ادعى هذه الدعوى، وأجاد رحمه الله .(1/350)
(ص367) والحديث الذي : " أنا مدينة العلم وعلي بابها " ليس له أصل ؛ وأما قوله لعلي رضي الله عنه : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " فهو : حديث صحيح ؛ وسببه : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، لم يأذن لعلي في الغزو، واستخلفه على أهله، فقال علي يا رسول الله : تخلفني مع النساء، والصبيان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " ؟ قال العلماء : يشير إلى قوله ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ) [ الأعراف:142] فالمراد : استخلافه صلى الله عليه وسلم علياً على أهله في سفر غزوه .
وأما من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمشركين يوم القيامة، فهذا كذب، يرده : قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه : من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : " من قال لا إلَه إلا ّ الله، يبتغي بذلك وجه الله " فشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل التوحيد، لا للمشركين ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " إني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى، من مات لا يشرك بالله شيئاً " .
وسئل أيضاً : رحمه الله تعالى، ما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه الدعوة ؟
فأجاب : وأما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه أعلم به، واسم(1/351)
(ص368) الفترة، لا يختص بأمة دون أمة، كما قال الإمام أحمد في خطبة : الرد على الزنادقة والجهمية ؛ الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم ؛ ويروى هذا اللفظ : عن عمر رضي الله عنه ؛ والكلام في حكم أهل الفترة : لسنا مكلفين به ؛ والخلاف في المسألة : معروف .
ولما تكلم في الفروع، على حكم أطفال المشركين، وكذا من بلغ منهم مجنونا، قال : ويتوجه مثلها : من لم تبلغه الدعوة ؛ وقاله شيخنا ؛ وفى الفنون : عن أصحابنا : لا يعاقب ؛ وذكر عن ابن حامد : يعاقب مطلقاً، إلى أن قال : وقال القاضي أبو يعلى، في قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] في هذا دليل على : أن معرفة الله لا تجب عقلاً، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار، انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله : في طبقات المكلفين ؛ الطبقة الرابعة عشر : قوم لا طاعة لهم، ولا معصية، ولا كفر، ولا إيمان، قال : وهؤلاء أصناف ؛ منهم : من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع لها بخبر ؛ ومنهم : المجنون الذي لا يعقل شيئا؛ ومنهم : الأصم الذي لا يسمع شيئا أبداً ومنهم أطفال المشركين، الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافاً كثيرا، وذكر(1/352)
( ص369) الأقوال، واختار ما اختاره شيخه : أنهم يكلفون يوم القيامة واحتج بما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن الأسود بن سريع، مرفوعا، قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ أما الأصم، فيقول : رب لقد جاء الإسلام، وأنا ما أسمع شيئا، وأما الأحمق، فيقول : رب لقد جاء الإسلام، والصبيان يرمونني بالبعر ؛ وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل ؛ وأما الذي مات في الفترة، فيقول : رب ما أتاني من رسول ؛ فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولاً : أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده، لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً " ثم رواه من حديث أبى هريرة بمثله، وزاد في آخره : " ومن لم يدخلها رد إليها " انتهى
وذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [الإسراء:15] قال : وهذه مسألة اختلف الأئمة فيها، وهي مسألة الولدان، الذين ماتوا وهم صغار، وآباؤهم كفار ؛ وكذلك : المجنون، والأصم، والخرف، والأحمق، ومن مات في الفترة ؛ وقد روى في شأنهم أحاديث : أنا أذكرها بعون الله وتوفيقه ؛ ثم ذكر في المسألة : عشرة أحاديث، افتتحها بالحديث الذي ذكرناه ؛ ثم أشار إلى الخلاف .(1/353)
(ص370) ثم قال : ومن العلماء من ذهب إلى أنهم : يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه ؛ وهذا القول : يجمع بين الأدلة ؛ وقد صرّحت به الأحاديث المتقدمة، المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض ؛ وهذا القول : حكاه الأشعري، عن أهل السنة، ثم ردّ قول من عارض ذلك : بأن الآخرة ليست بدار تكليف، إلى أن قال : ولما كان الكلام في هذه المسألة، يحتاج إلى دلائل صحيحة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده : كره جماعة من العلماء الكلام فيها ؛ روى ذلك عن ابن عباس، وابن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم .
قال : وليعلم : أن الخلاف في الولدان، مخصوص بأولاد المشركين ؛ فأما ولدان المسلمين، والمؤمنين، فلا خلاف بين العلماء، حكاه القاضي أبو يعلى الحنبلي، عن الإمام أحمد، أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، فأما ما ذكره ابن عبد البر : أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه، في أبواب القدر، فهذا غريب جداً ؛ وذكر القرطبي في التذكرة : نحوه .
وقال أيضاً : وأما الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر، على من فعل معصيةً، كقوله صلى الله عليه وسلم :" قتال المؤمن كفر "(1/354)
(ص371) وقوله : " كفر من تبرأ من نسبه " ونحو ذلك، فهذا : محمول عند العلماء على التغليظ ؛ مع إجماع أهل السنة، على : أن نحو هذه الذنوب، لا تخرج من الإسلام ؛ ويقال : كفر دون كفر ؛ وكذلك لفظ الظلم، والفسق، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ؛ والأحاديث التي فيها تحريم الجنة على فاعل بعض الكبائر، فهذا على التشديد والتغليظ، لإجماع أهل السنة والجماعة : أنه لا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، كما دلت على ذلك الأحاديث المتواترة، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وسٌئل أيضاً : الشيخ عبد الله أبا بطين، ما معنى قول مؤلف الحموية : أما الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، أو الذين وافقوه بظواهرهم، وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهراً وباطناً بحسب الإمكان، فلابد للمنحرفين عن سنته، أن يعتقدوا فيهم نقصاً يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة، وإن اعتقدوا صدقها، كقول الرافضي : من لم يبغض أبا بكر وعمر، فقد أبغض علياً .
فأجاب : لما ذكر قبل ذلك : أن السنَّة، هي : ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقاداً، واقتصاداً، وقولاً، وعملاً ؛ ثم ذكر التابعين له على بصيرة، الذين هم : أولى الناس به، في المحيا والممات، باطناً وظاهراً ؛ ثم ذكر الفريق : الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر فهم الذين وافقوه اعتقاداً وعجزوا عن إقامة القول، والعمل، كالدعوة(1/355)
(ص372) إلى الله سبحانه، وطائفة، وافقوه في الظواهر، وعجزوا عن تحقيق البواطن، على ما هي عليه، من الفرق بين الحق والباطل بقلوبهم، ففيهم نقص من هذا الوجه ؛ وفريق وافقوه ظاهراً وباطناً، بحسب الإمكان، لكنهم دون الأولين، التابعين له على بصيرة، اعتقاداً واقتصاداً، قولاً وعملاً ؛ والله أعلم .
وسُئل عن معنى، قوله صلى الله عليه وسلم : " وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي " ؟ وفي لفظ : " على عقبي " ؟
فأجاب : قوله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء، وذكر منها الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي، قوله : " قدمي " روي : بتخفيف الياء، على الإفراد، وتشديدها على التثنية ؛ وفي رواية : " على عقبي" أي : على أثري وزمان نبوتي، ورسالتي، إذ لا نبي بعده ؛ وقيل معناه : يقدمهم وهم خلفه، أو على أثره في المحشر، لأنه أول من تنشق عنه الأرض و" العاقب " هو : الذي يخلف من كان قبله في الخير، ومنه : عقب الرجل لولده، وقيل معناه : لأنه ليس بعده نبي لأن العقب هو الأخر ، فهو عقب الأنبياء، أي : آخرهم .
سئل الشيخ : عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن عقيدة شيخ الإسلام : محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وحقيقة ما يدعو إليه ؟(1/356)
(ص373) فأجاب : بما نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد : أن لا إلَه إلا ّ الله وحده لا شريك له ؛ وأشهد : أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة، بشيراً ونذيراً .
أما بعد : فقد سألتَ أرشدك الله، أن أٌرسل إليك نبذة مفيدةً، كاشفة عن حال الشيخ : الإمام ، العالم، القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، القائم بنصرة شريعة سيد الأنام ؛ الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب .
وذكرتَ أرشدكَ الله : أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك ؛ وأن عندكم من الطلبة : من يتشوق إلى تلك المناهج، والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام ، وما كان عليه من الاعتقاد، والفهم التام، ويستبين للناظر فيها، ما يبهت به الأعداء من(1/357)
(ص374) الأكاذيب، والافتراء ؛ التي يرومون بها تنفير الناس، عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان، والدليل .
وقد كثر أعداؤه، ومنازعوه، وفشى البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسداً، ولكل حق جاحداً، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام، إلا العدول الثقات، الضابطين من الأنام .
ومن استصحب هذا : استراح عن البحث فيما يٌنقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يخٌتلق ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع .
فصل :
فأما نسب هذا الشيخ، فهو : الإمام العالم، والقدوة البارع، محمد بن عبد الوهاب، بن سليمان، بن علي، بن محمد، بن أحمد، بن راشد، بن بريد، بن محمد، بن بريد، بن مشرف .
ولد رحمه الله : سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد العينية ؛ من أرض نجد ونشأ
( ص375) بها وقرأ القرآن بها، حتى حفظه وأتقنه، قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم، سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته، وذكائه .
وبعد حفظ القرآن : اشتغل بالعلم، وجد في الطلب، وأدرك بعض إلا رب، قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة، ربما كتب الكراسة في المجلس .
قال أخوه سليمان : كان والده يتعجب من فهمه ويعترف بالاستفادة منه، مع صغر سنه . ووالده هو : مفتى تلك البلاد، وجده مفتى البلاد النجدية، وآثاره، وتصنيفه، وفتواه، تدل على علمه وفقه، وكان جده : إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصراً : الشيخ، منصور البهوتي، الحنبلي، خادم المذهب، اجتمع به بمكة .(1/358)
وبعد بلوغ الشيخ : سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة، ورآه أهلاً لائتمان، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجاب والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام، ثم قصد المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه، على مذهب : الإمام أحمد رحمه الله، ثم بعد ذلك : رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة، والحجاز
( ص376) مراراً، واجنمع بمن فيها، من العلماء، والمشايخ الأحبار، وإلى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشائخ والعلماء، فسمع، وناظر، وبحث، واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد .
وروى عن جماعة، منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي، ثم المديني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه : الحديث المسلسل بالأولية، في كتب السماع، بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " وسمع منه مسلسل : الحنابلة، بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا كيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل موته " وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله .
وطالت : إقامة الشيخ، ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثير من الحديث، والفقه، والعربية، وكتب من الحديث والفقه، واللغة، ما شا الله في تلك الأوقات، وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه، ويجالسه، ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم، وما لديه .
كان يقول : إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه وربما ذكروا بمجلسه إشارة الطواغيت، أو(1/359)
(ص377) شيئا من كرامات الصالحين، الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم، ويلجأون إليهم في المهمات فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة، ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء، والصالحين، انما هي : متابعتهم في ما كانوا عليه من الهدى والدين وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين ؛ وأما : دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة ولم يزل على ذلك رحمة الله .
ثم رجع إلى وطنه فوجد والده قد انتقل إلى بلدة حريملا فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية، ويبديها ويناصح من خرج عنها ويفشيها حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره ووضع له القبول وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول .
وصنف كتابه المشهور في : التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقُرىء عليه هذا الكتاب المفيد وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد وطار ذكرها في الغور والنجاد وفاز بصحبته واستفاد من جرّد القصد، وسلم من الأشر والبغي والفساد وكثر بحمد الله محبّوه وجنده وصار معه عصابة من فحول الرجال وأهل السمت الحسن والكمال يسلكون معه
( ص378) الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق
فصل :(1/360)
كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية ،وغلب على الأكثربن ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن وشبّ الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد وأعلام الشريعة مطموسة ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة وطريق الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام وأحاديث الكهان والطواغيت، مقبولة غير مرودة ولا مدفوعة، حتى خلعوا ربقة التوحيد والدين وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله، من الأولياء الصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين .
وعلماؤهم ورؤساؤهم، على ذلك مقبول ومن بحره الأجاج شاربون وبه راضون واليه مدى الزمان داعون قد أعشتهم العوائد والمألوفات وحبستهم الشهوات والارادات عن الارتفاع إلى طلب الهدى، من النصوص المحكمات، والآيات البينات يحتجون بما رأوه من الآثار الموضوعات، والحكايات
(379ص) المختلقة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغير الفترات ؛ وكثيرٌ منهم : يعتقد النفع والضر، والأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور، في جميع الأوقات ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) [ الحشر : 19 ]، ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) [ الأنعام : 1 ] ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ الأعراف : 33](1/361)
فأما بلاد نجد : فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد وكانوا ينتابون : قبر زيد بن الخطاب ويدعونه رغباً ورهباً بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج ويرونه من أكبر الوسائل والولائج وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور وذلك كذب ظاهر وبهتان مزور .
وكذلك عندهم : نخل - فحال - ينتابه النساء والرجال ويفعلون عنده أقبح الفعال والمرأة : إذا تأخر عنها الزواج ولم ترغب فيها الأزواج تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال وتقول : يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل الحول وشجرة عندهم تسمى : الطرفية أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعليق عليها وإنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق لعل الولد يسلم من السوء
( ص380) وفى أسفل : بلدة الدرعية : مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير فانفلق لها الغار ولم يكن له عليها اقتدار كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان .
وفى بلدتهم : رجل يدعي الولاية، يسمى : تاج يتبركون به ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه فتخافه الحكام، والظلمة ويزعمون أن له تصرفاً وفتكاً بمن عصاه وملحمة مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنبعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الأغراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد .(1/362)
ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة والعوائد والجائرة والطرائق والخاسرة : قد فشت، وظهرت وعمت وطمت حتى بلاد الحرمين الشريفين فمن ذلك : ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب فيأتون قبره بالشماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب وكانوا له في غاية التعظيم ولا ما يجب عند البيت الكريم فلو دخل سارق، أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما لم يتعرض له أحد لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم .(1/363)
(ص381) ومن ذلك : ما يفعل عند قبر : ميمونة، أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف وكذلك عند قبر : خديجة رضي الله عنها، يفعل عند قبرها، ما لا يسوغ السكوت عليه من مسلم يرجوا الله والدار الآخرة فضلاً عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة وفيه من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش، والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة، في بلد الله الحرام : مكة المشرفة .
وفى الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنهما يفعل عنده من الأمور الشركية، التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية، وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين منها : وقوف السائل عند القبر متضرعاً، مستغيثاً، وإبداء الفاقة إلى معبودهم، مستكيناً مستعيناً وصرف خالص المحبة، التي هي محبة العبودية، والنذر والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبنية .
وأكثر سوقتهم، وعامتهم يلهجون بالأسواق : اليوم على الله وعليك يا ابن عباس فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والبأس ؛ وذكر : محمد بن الحسن النعمي، الزبيدي، رحمه الله : أن رجلاً رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظايف فقال : أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس فقال له
( ص382) بعض من يترشح للعلم : معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله .
فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) الآية [ البقرة : 186 ] وقوله جل ذكره : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) [ الجن : 18 ] وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، يعبد الله فيها فكيف بمن عبد الصالحين ،ودعاهم مع الله والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم .(1/364)
كذلك ما يفعل : بالمدينة المشرفة، على ساكنها افضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل بالبعد عن مناهج الشريعة والسبيل وفى بندر جدة : ما قد بلغ من الضلال حده وهو : القبر الذي يزعمون أنه قبر : حواء وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثرهم في شأن الإفك المبين وجعلوا له السدنة والخدام وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهى عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين، والكرام .
وكذلك مشهد : العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوفيره وخوفه، ورجائه، وقد جرى لبعض التجار : أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند، وغيرهم وذلك في سنة : عشر
( ص383) وماتين، وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيراً، ولائذاً به، مستغيثاً، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام، عل هتك ذاك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين .
وأما بلاد : مصر وصعيدها وفيومها، وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، مالا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب لا سيما عند مشهد : أحمد البدوى، وامثاله، من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم : ما ادعته الجاهلية، لآلهتهم ؛ وجمهورهم : يرى من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة، والنماردة .
وبعضهم يقول : يتصرف في الكون، سبعة ؛ وبعضهم يقول : أربعة ؛ وبعضهم يقول : قطب يرجعون إليه، وكثيراً منهم : يرى الأمر شورى، بين عدد ينتسبون إليه ؛ فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) [ الكهف : 5 ]
وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك، من الحكايات، والخرافات،(1/365)
(ص384 ) والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو خط، من المعقولات، فضلاً عن النصوص الشرعيات .
كذلك ما يفعل في بلدان : اليمن، جار على تلك الطريق، والسنن ؛ ففي : صنعاء، وبرع والمخا، وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره، ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته، وكشفه، ناهيك بقوم : استخفهم الشيطان وعدلوا عن عباده الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان، فسبحان من لا يجعل، بالعقوبة على الجرائم ولا يهمل الحقوق، والمظالم .
وفى : حضرموت، والشحر، وعدن، ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس شيء لله يا محي النفوس !
وفى أرض : نجران، من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن كذلك رئيسهم، المسمى : بالسيد لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، وتقديمه، وتصديره والغلو فيه بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام ، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحد لا إله إلا هو سبحان عما يشركون ) [ التوبة : 31] وكذلك، حلب ودمشق، وسائر بلاد الشام، فيها من
( ص385) تلك المشاهد، والنصب، والأعلام ،ما لا يجامع عليه أهل الإيمان، والإسلام ، من أتباع سيد الأنام، وهي : تقارب ما ذكرنا، من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية .
وكذلك : الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك، والفجور، والفساد ؛ وفي العراق : من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد، الحسيني ؛ قد اتخذه الرافضة وثناً، بل ربا مدبراً، وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات، والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية.(1/366)
وكذلك : مشهد، العباس ؛ ومشهد: علي ومشهد : أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر ؛ فإنهم قد أفتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم، وسنيتهم ؛ وعدلوا عن أسنى المطالب، والمقاصد ؛ ولم يعرفوا ما وجب عليهم، من حق الله الفرد، الصمد، الواحد .
وبالجملة : فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفوراً عن الحق، واستكباراً، والرافضة : يصلون لتلك المشاهد، ويركعون، ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال، والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشارة للملك العلي الغفور .
ويزعمون : أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين(1/367)
(ص386) حجة لله تعالى وتقدس، في مجده وجلاله ؛ ولآلهتهم من التعظيم، والتوقير، والخشية، والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره، وخشيته وخوفه، شيء للإله الحق، والملك العلام.
ولم يبق مما عليه النصارى، سوى دعوى الولد، مع أن بعضهم : يرى الحلول لأشخاص بعض البرية ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) [ الصافات :180] وكذلك جميع قرى الشط ؛ والمجرة، على غاية من الجهل، وفي القطيف، والبحرين، من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم، أصول الملة الحنيفية .
فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام ، وما فيهما من التفريغ، والتأصيل : تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل، فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدته إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه، وشكره، واجتهد في الإنابة إليه، وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه، من طغيان الشيطان، وكفره، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولقد أحسن العلامة : محمد بن إسماعيل، الأمير، فيما أبداه عن أهل وقته، من التبديل والتغيير .(1/368)
(ص387) فصل :
وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم، والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها، بخلع ربقة الإسلام، والإيمان ؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال، والطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه، وانطمست منه الإعلام ، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه، من الرؤساء، والحكام، والمنتسبين من الجهال، إلى معرفة الحلال، والحرام، فاتبعهم العامة، والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم عليه، من المخالفة، والمباينة، لدين الله، الذي اصطفاه لخاصته، وأوليائه، وصفوته، الكرام .
ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله، والفهم، لا مندوحة للعامة، عن تقليد الرؤساء، والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا : كرر سبحانه وتعالى التنبيه، على هذه الحجة، الداحضة، والعادة المطّردة، الفاضحة، قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) [ لقمان:21] وقوله : (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير ) الآية [ الزخرف:23] وقد قرر هذا المعنى في القرآن، لحاجة العباد، وضرورتهم إلى معرفته، والحذر منه، وعدم الاغترار بأهله .
وما أحسن ما قال، عبد الله بن المبارك، رحمه الله :(1/369)
(ص388) وهل : [ أفسد الدين ، إلا الملوك ، وأحبار سوء ، ورهبانها ]
إذا عرفت هذا : فليس إنكار هذه الحوادث، من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح، من أئمة العلم والهدى، قاموا بالتنكير، والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى ؛ وسنسرد لك من كلامهم، ما تقربه العيون، وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال، من البدع، والإشراك، والزور .
قال : أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المشهور، الذي سماه :" الحوادث والبدع ".
روى البخاري، عن أبي واقد الليثي، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) [ الأعراف :138] لتركبن سنن من كان قبلكم " .
فانظروا رحمكم الله : أينما وجدتم سدرة، أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير، والخرق ؛ فهي : ذات أنواط، فاقطعوها ؛ انتهى كلامه رحمه الله .(1/370)
(ص389) فانظر رحمك الله : إلى تصريح هذا الإمام : بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي : ذات أنواط، التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لما طلبوا منه، أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط ؟ فقال : " الله أكبر، هذا كقول بني إسرائيل، اجعل لنا إلهاً " مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم، في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك .
فتبين لك بهذا : أن من جعل قبراً أو شجرة، أو شيئاً حياً أو ميتاً مقصوداً له، ودعاه، واستغاث به، وتبرك له، وعكف على قبره، فقد اتخذه إلهاً مع الله .
فإذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أنكر عليهم مجرد طلبهم منه، مشابهة المشركين، في العكوف، وتعليق الأسلحة، للتبرك، فما ظنك : بما هو أعظم من ذلك، وأطم ؟! الشرك الأكبر، الذي حرمه الله، ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق، لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين ؛ فصلوات الله وسلامه عليه ؛ فقد بلّغ البلاغ المبين، وعرّفنا بالله، وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه وآمن بالله، واليوم الأخر ، أن لا يغتر بما عليه أهل الشرك، من عبادة القبور، من هذه الأمة.
ومن ذلك : ما ذكره الإمام ، محدث الشام : عبد الرحمن بن إسماعيل، بن إبراهيم ؛ المعروف :بأبي(1/371)
(ص390) شامة ؛ من فقهاء الشافعية، وقدمائهم، في كتابه الذي سماه : الباعث على إنكار البدع والحوادث ؛ في فصل : البدع المستقبحة .
قال : البدع المستقبحة، تنقسم إلى قسمين، قسم تعرفه العامة، والخاصة، أنه بدعة محرمة، أو مكروهة ؛ وقسم : يظنه معظمهم إلا من عصمه الله، عبادات، وقربات، وطاعات، وسنناً ؛ فأما القسم الأول : فلا نطوّل بذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام عنه، لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين ؛ لكن نبين من هذا القسم : ما قد وقع فيه جماعة، من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين للاقتداء بأئمة الدين، من الفقهاء، وهو : ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر، الذي حقيقته : الافتقار من الإيمان، من مواخات النساء الأجانب، والخلوة بهن، واعتقادهم في مشائخ لهم، ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان، من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات، غير مكترثين بذلك ؛ فهم داخلون تحت قوله تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) [ الشورى :21] .
وبهذه الطرق، وأمثالها : كان مبادىء ظهور الكفر، من عبادة الأصنام، وغيرها ؛ ومن هذا القسم، أيضاً : ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك : أنه في منامه بها أحداً، ممن شهر بالصلاح،(1/372)
(ص391) والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى، وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وَقْع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لهم، وهي ما بين : عيون، وشجر ؛ وحائط، وحجر .
وفي مدينة : دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج : باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها،واجتثاثها من أصلها ؛ فما أشبهها بذات أنواط، الواردة في الحديث، الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها .
وفي رواية : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان(1/373)
(ص392) قبلكم " أخرجه الترمذي، بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال : هذا حديث حسن صحيح .
قال الإمام : أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المتقدم ذكره فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير، والخرق، فهي : ذات أنواط فاقطعوها .
قلت : ولقد أعجبني ما فعله الشيخ، أبو إسحاق، الجبيناني، رحمه الله تعالى، أحد الصالحين ببلاد أفريقية، حكى عنه صاحبه الصالح، أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس، المؤدب : أنه كان إلى جانبه عين، تسمى : عين العافية ؛ كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت : امضوا بي إلى العافية فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله : فأنا في السَّحرَ ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال : اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأساً ؛ قال : فما رفع لها رأس إلى الآن .
قلت : وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود، عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين، وقيل فيها غير ذلك ،(1/374)
(ص393) مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه في كتاب تاريخ، مدينة : دمشق، حرسها الله تعالى ،وهو : الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة : أنه رأى مناماً يقتضي : أن ذلك المكان، دفن فيه بعض أهل البيت .
وقد أخبرني عنه ثقة : أنه اعترف له، أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريقة المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله : أصل مسجد مغصوب، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق، والحرج، على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالة اعتدائه، اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجداً، وهدمه لما قصد به السوء، والردى ؛ وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( لا تقم فيه أبداً ) [ التوبة:108] نسأل الله الكريم : معافاتنا من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله، فاتخذ إلهه هواه، وهذا الشيخ : أبو شامة، من كبار أئمة الشافعية، في أوائل القرن السابع .
وقال الإمام : أبو الوفاء، ابن عقيل، الحنبلي - رحمه الله - لما صعبت التكاليف، على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم .(1/375)
(ص394) قال : وهم عندي كفار، بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها، وإلزامها لما نهى عنه الشارع، من إيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها، يا مولاي : افعل بي كذا، وكذا، وأخذ بتربتها تبركاً بها، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللات، والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته : الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى .
فتأمل رحمك الله تعالى : ما ذكره هذا الإمام ، الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشف من الأمور، التي يفعلها الخواص، من الأنام، فضلاً عن النساء، والغوغاء، والعوام ؛ مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء، والنقدة لذلك يشهدون، وحظهم من النهي : مرتبة ثانية، فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموّه به المتعصبون، والملحدون .
وقال الشيخ : تقي الدين، وأما سؤال الميت، والغائب، نبياً كان أو غيره، فهو من المحرمات المنكرة،(1/376)
(ص395) باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله تعالى به، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحداً منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، لميت، يا سيدي، يا فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى، والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها .
ولما قحط الناس، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا فتسقينا، فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ؛ وكذلك معاوية رضي الله عنه، لما استسقى بأهل الشام : توسل بيزيد بن الأسود الجرشي، فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه، توسلا منه، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد ابن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء، في كتاب الاستسقاء، فقالوا : يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل .
وقد كره العلماء، كمالك، وغيره، أن يقوم الرجل عند(1/377)
(ص396) قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع، التي لم يفعلها السلف ؛ قال أصحاب مالك : إنه إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره ؛ وقيل لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فأما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإذا كان قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً، أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه، قال مالك في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي .
ولهذا - والله أعلم - حرفت الحجرة، وثلثت، لما بنيت ؛ فلم يجعل حائطها الشمالي، على سمت القبلة، ولا جعل مسطحاً، وذكر الإمام ، وغيره : أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره ؛ وذلك : بعد تحيته، والصلاة والسلام عليه ؛ ثم يدعو لنفسه ؛ وذكروا : أنه إذا حياه، وصلى، يستقبل وجهه - بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدعاء : جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة، ودعا ؛ وهذا، مراعاة منهم، أن يفعل الداعي، أو الزائر، ما نهى عنه، مِن تحرى الدعاء عند القبر.
وقد : كره مالك - رحمه الله تعالى - وغيره، من أهل المدينة، كلما دخل أحدهم المسجد، أن يجيء، فيسلم(1/378)
(ص397) على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ؛ قال : وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفراً، ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه، إذا دخل للصلاة، ونحوها ؛ وأما قصده دائماً للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحداً رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً .
وأيضاً : فإن ذلك بدعة، والمهاجرون، والأنصار، في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى رضي الله عنهم، لم يكونوا يقصدون قبره، كلما دخلوا المسجد، للسلام عليه، لعلمهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه ؛ ولا أنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد، والخروج منه، كما كانوا يسلمون عليه في حياته .
والمأثور عن ابن عمر : يدل على ذلك ؛ قال أبو سعيد، في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثني أبي، عن ابن عمر : أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، وسلم عليه ؛ وقال : السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ؛ وعبد الرحمن بن يزيد، وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح، عن نافع، يدل : على أن ابن عمر، ما كان يفعل ذلك دائماً، ولا غالباً .
وما أحسن ما قال مالك - رحمه الله - لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ؛ ولكن : كلما ضَعُف تَمسُّك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك، بما(1/379)
(ص398) أحدثوه من البدع، والشرك، وغيره ؛ ولهذا : كرهت الأئمة استلام القبر ،وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه .
ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل : سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع : زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم، فيقول : اغفر لي، وارحمني، ونحو ذلك ؛ ويسجد لقبره .
ومنهم : من يستقبل القبر، ويصلي إليه، مستدبر الكعبة ؛ ويقول : القبر قبلة الخاصة ؛ والكعبة : قبلة العامة ؛ وهذا، يقوله : من هو أكثر الناس عبادة، وزهداً ؛ وهو شيخ متبوع ؛ ولعله : أمثل اتباع شيخه، يقوله في شيخه ؛ وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق، والاجتهاد في العبادة، والزهد : يأمر المريد، أول ما يتوب، ،أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه، عكوف أهل التماثيل عليها .
وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور : يجدون عبادة القبور من الرقة والخشوع والذل وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي : ( أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) [ النور : 36] وآخرون يحجون القبور .
وطائفة : صنفوا كتبا وسموها : مناسك حج المشاهد كما صنف أبو عبد الله : محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد .(1/380)
(ص399) أحد شيوخ الإمامية، كتاباً في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبة على من له معرفة بالنقل ؛ وآخرون : يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكاً، وحجا، فالمعنى : واحد .
وكثير من هؤلاء : معظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت وبعض الشيوخ، المشهورين بالدين، والزهد والصلاح صنف كتابا : سماه : الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام ؛ وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ : أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده ؛ ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه، فان كان مستحباً، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت، إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة، ومشقة مع ترك الأفضل وهذا لا يفعله عاقل .
وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاء والعلماء والعامة على طريقة : ابن سبعين قيل عنه : أنه كان يقول : البيوت المحجوجة ثلاث ومكة والبيت المقدس والبيت الذي للمشركين في الهند ؛ وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق ودين النصارى حق وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له أريد أن أسلك على يديك ؟ فقال : على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين فقال : واليهود والنصارى ليسوا كفارا ؟!(1/381)
(ص400) فقال الشيخ : لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل .
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ، بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا المشرق والمغرب ومنهم : من يحكى عن الشيخ الميت، أنه قال : كل خطوة إلى قبري، كحجة ؛ ويوم القيامة لا أبيع بحجة ؛ فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ، وزجره عن إنكار ذلك .
وهؤلاء، أمثالهم : صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين فليسوا على ملة إمام الحنفاء وليسوا من عُمّار مساجد الله الذين قال الله فيهم ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) [ التوبة : 18 ] .
وعُمّار مشاهد المقابر : يخشون غير الله ،ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه، من القبائح وإذا رأى أحدهم قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل الفواحش ويقول أحدهم لصاحبه : ويحك ؟! هذا هلال القبة فيخشون المدفون تحت الهلال ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج !
وهؤلاء : إذا نوظروا، خوفوا مُنَاظِرَهم، كما صنع(1/382)
(ص401) المشركون مع إبراهيم عليه السلام، قال تعالى : ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) [ الأنعام : 80- 82 ] .
وآخرون : قد جعلوا الميت، بمنزلة الإله ؛ والشيخ الحى، المتعلقَّ به كالنبي ؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات وأما الحي : فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه ؛ وكأنهم في أنفسهم، قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها وعزلوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولاً .
وقد يجيء، الحديث العهد بالإسلام ، والتابع لهم المحسن الظن بهم، أو غيره يطلب من الشيخ الميت، أما دفع ظلم ملك، يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول : قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولاً إلى السلطان فلان فهل هذا إلا محض دين المشركين ؟والنصارى ؟! وفيه : من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك أو نصراني ولا يروج عليه .
ويأكلون من النذور والمنذور ما يؤتى به إلى(1/383)
(ص402) قبورهم، ما يدخلون به في معنى قوله تعالى : ( إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل )[ التوبة : 34] يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله، ودينه فيتمنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه .
والله سبحانه : لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خاصة لوجهه، قال تعالى : ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) [ الأعراف : 29 ] وقال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ التوبة 18 ] وقال تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) [ النور : 36 ] وقال تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامعُ وبيعٌ وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله ) [ الحج : 40 ] .
ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت النيران، والأصنام والمشاهد، لأن الصوامع، والبيع لأهل الكتاب فالممدوح من ذلك : ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل : يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات .
فبيوت الأوثان، وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر : لم يمدح شيئا منها ولم يذكر إلا .(1/384)
(ص403) في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) [ الكهف : 21 ] فهؤلاء الذين اتخذوا مساجد على أهل الكهف، كانوا من النصارى الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وفى رواية " وصالحيهم " .
ودعاء المقبورين : من أعظم الوسائل إلى ذلك وقد قَدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا فبينّت له فساد هذا فقال : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أعنيكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ؟ فقلت : هذا مكذوب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث وبسبب هذا وأمثاله : ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة، بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن "
وهؤلاء : الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يُقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث أنها تُقضى ؛ فتارة : يذهب إلى من يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر، أو منافق وتارة يعلم انه كافر أو منافق، فيذهب إليه، كما ذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال أنها تقبل النذور، فهذا يقع فيه عامتهم وأما الأول، فيقع فيه خاصتهم .(1/385)
(ص404) والمقصود : أن كثراً من الناس، يُعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد لاعتقاده : أن الميت يقضى حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده، من جنس من يستغيث به .
وكم من مشهد :يعظمه الناس، ويظنونه قبر رجل صالح، وهو كذب، بل يقال : انه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال : إنه قبر نوح ؛ فان أهل المعرفة، كانوا يقولون : إنه قبر بعض العمالقة ؛ وكذلك مشهد الحسين، الذي بالقاهرة ؛ وقبر : أبيّ، الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال : هما، قبرا نصرانييّن .
وكثير من المشاهد : تنازع الناس فيها، وعندها شياطين، تضل بسببها من تضل، ومنهم : من يرى في المنام شخصا، يظن انه المقبور، ويكون ذلك شيطانا، تصور بصورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام ،والموتى والغائبين
وهذا كثير في زماننا وغيره مثل أقوام : يرصدون بعض التماثيل، التي بالبرابى، بديار : مصر، باخميم، وغيرها يرصدون التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يقرأون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك، فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى
( ص405 ) شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان، حتى يقضي بعض حوائجه ،وقد يمكنه من فعل الفاحشة به، حتى يقضي بعض حوائجه .
ومثل هؤلاء كثير في شيوخ : الترك والكفار، يسمونه البوشت، وهو : المخنث ؛ إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا إليه من ينكحه، ونصبوا له حركات عالية، في ليلة مظلمة، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه من ذكر الله .(1/386)
ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من يديه إلى الخبز ويضرب الشيطان بآلات اللهو، وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني، التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار ؛ ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه قد نقل إلى بيت : البوشت، قد لا يغيب ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار فيقضي بعض حوائجهم ومثل هذا، كثير جدا للمشركين ؛ فالذي يجرى عند المشاهد، من جنس ما يجرى عند الأصنام .
وقد ثبت بطرق متعددة : أن ما يشرك به من دون الله صنم، وقبر، وغير ذلك، يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين : لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم، إذا حصل لهم من الشرك، والمعاصى، ما يحبه الشيطان .
( ص406) فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له ؛ ومنهم : من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمره به، من التوحيد، والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ونحو ذلك .
والشياطين : تغوى الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان : أمرته بالكفر البيّن، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية، وإن كان قليل العلم : أمرته بما لا يعرفه أنه مخالف للكتاب، والسنة، وقد وقع في هذا النوع : كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة ولكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسول صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة .
وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم، بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة، حتى قُضى ذلك المطلوب، وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله ؛ والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل .(1/387)
وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس يتبعونهم فيما أمر الله به ورسوله . وآخر من جنسه يباشر التدريس وينتسب إلى الفتيا كان يقول : النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا
( ص407) السر، انتقل بعده الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ؛ وقالوا : هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع .
وكان شيخ آخر : معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنزلة ؛ ويقول : أنه المهدى الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم وإنه يزوج عيسى ابنته، وإن نواصي الشرك الملوك بيده والأولياء بيده يولى من يشاء ويعزل من يشاء وإن الرب يناجيه دائما وإنه الذي يمد حملة العرش، وحيتان البحر وقد عزرته تعزيزا بليغا، في يوم مشهود في حضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة .
ومن هؤلاء : من يقول قول الله سبحانه تعالى : ( إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) [ الفتح : 8-9 ] إن الرسول هم الذي يسبح بكرة وأصيلا .
ومنهم من يقول : الرسول يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها : " خمس لا يعلمهن إلا الله ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت ) [ لقمان :34] وقال : إنه علمها بعدما أخبر أنه لا يعلمها إلا الله .(1/388)
(ص408) ( ومنهم من يقول : اسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت ومنهم يقول : نحن نعبد الله ورسوله ؛ ومنهم من يأتي إلى قبر الميت، فيقول : اغفر لي، وارحمني ولا توقفني على زلة، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها !.
أقول : هذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة والله غير مهجورة، وضلالة واضحة ومشهورة، وبدعة مشهودة، غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة، غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة ؛ ودلائلها في كثير من المصنفات ،والمناظيم، مذكورة ؛ قال ذلك في البردة، وبيّن في ذلك قصده :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... ... ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فان من جودك الدنيا وضرتها ... ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ولو نطيل بذكر هذه الأخبار، لحررنا من أسفارا فلنكف عنان قلم اليراع، في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان ؛ بل أجلى من ضياء الشمس في البيان فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم، ما يقول هذا ؟! فيقول : فلان عنده ما ثم إلا الله لما استقر في نفوسهم : أن يجعلوا مع الله إلها آخر، وهذا كله، وأمثاله، وقع ونحن بمصر .
وهؤلاء الضالون : مستخفّون بتوحيد الله ويعظمون دعاء(1/389)
( ص409) غير الله : من الأموات فإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك : استخفّوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقوله تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا ) الآية [ الفرقان : 41 ]فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلَه إلا ّ الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدق المرسلين) [ الصافات : 35-37 ] وقال تعالى ( وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب أجعل الآلهة إلها واحد إن هذا لشيء عجاب ) [ ص :4-5 ] وما زال المشركون : يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح، لنوح وعاد وهود، عليهما السلام ( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) [ الأعراف : 70] فأعظم ما سفهوه لأجله وأنكروه، هو : التوحيد .
وهكذا : تجد من فيه شبه من هؤلاء، من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له ، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه : استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد؛ فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس، معطلاً، مخرباً، ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي يبنى على .(1/390)
( ص410) الميت : فعليه الستور، ورؤية الذهب، والفضة، والرخام والنذور : تغدوا إليه وتروح، فهل هذا، إلا من استخفاهم بالله ؟ وآياته، ورسوله ؟! وتعظيمهم للشرك ؟! فإنهم، يعتقدون : أن دعاءهم للميت الذي بُنى له المشهد والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به، في البيت الذي بُنى لله عز وجل ! ففضلوا : البيت الذي بنى لدعاء المخلوق على البيت الذي بنى لدعاء الخالق ! وإذا كامن لهذا وقف، ولهذا وقف، كان : وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب، الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ) الآية [ الأنعام : 36 ]
كانوا : يجعلون له زرعاً وماشية ولآلهتهم : زرعاً وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا : الله غنى، وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله، على ما يجعل لله، وهكذا : حال أهل الوقوف والنذور، التي تبذل عندهم للمشاهد : أعظم مما يبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد، والجهاد في سبيل الله .
وهؤلاء : إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية، وحضور القلب : ما لا يحصل له مثله، في الصلوات الخمس، والجمعة وقيام الليل، وقراءة القرآن فهل هذا الأمر إلا حال المشركين المبتدعين ؟ لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/391)
(ص411) ومثل هذا : انه إذا سمع أحدهم الأبيات يحصل له من الخضوع ،والخشوع، والبكاء ما لا يحصل له مثله ن عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع، المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين ؛ بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها، وكرهوها، واستهزأوا بها، فيحصل لهم أعظم نصيب من قوله : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ) [ التوبة :65] ؟ .
إذا سمعوا القرآن : سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، كأنهم صم عمى ؛ وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم ماء .
ومن هؤلاء : من إذا كانوا في سماعهم، فإذا المؤذن قالوا : نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، ومنهم من يقول كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب، وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال ؟ فقلت : صدق كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فان البدع والضلال فيها من حضور الشيطان ،ما قد فُصّل في غير هذا الموضوع .
والذين جعلوا : دعاء الموتى، من الأنبياء، والأئمة والشيوخ : افضل من دعاء الله، أنواع متعددة، منهم : من تقدم ؛ ومنهم : من يحكى أنواعا من الحكايات، كحكاية :
( ص412) أن رحلا محبوساً في بلاد العدو، دعا الله، فلم يخرجه ودعا بعض المشايخ الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية : أن بعض الشيوخ، قال لمريده : إذا كان لك حاجة، فتعال إلى قبري ؛ وآخر قال : فتوسل بي آخر قال : قبر فلان ،هو الترباق المجرب .
فهؤلاء، وأشباههم : يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة للمشركين ؛ وهؤلاء تتمثل لكثير منهم، صورة شيخه، الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته ؛ وإنما هو : شيطان أغواه .(1/392)
ومن هؤلاء : من إذا نزل به شدة، لا يدعو إلا شيخه ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به، كما يلهج الصبي بذكر أمه فيتعسر أحدهم، فيقول : يا فلان ؛ وقد قال الله للموحدين : (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة : 200] .
ومن هؤلاء :من يحلف بالله ويكذّب، ويخلف بشيخه، وإمامه، فيصدّق، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله، فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء بالله، وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله ورسوله ؟ من كان يأمر بدعاء الموتى، والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله، وآياته ورسوله ؟ أو من كان يأمر بدعاء الله
( ص413) وحده لا شريك له، كما أمرت رسله ؟ ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته، في كل ما جاء به ؟
وأيضا : فان هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بُعث به، والتمييز بين ما رُوى عنه من الصحيح، والضعيف، والصدق، والكذب، واتباع ذلك، دون ما خالفه، عملاً بقوله : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) [ الأعراف : 3] .
وأما هؤلاء : الضلال ؛ أشباه المشركين، والنصارى فعمدتهم : إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقولهم ، إما أن تكون كذباً عليه، وإما أن تكون غلطاً منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول : حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابه، وتركوا محكمه كما فعل النصارى .(1/393)
وهذا : ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ : يحيى الصرصري ؛ ففى شعره قطعةٌ منه ؛ والشيخ محمد بن النعمان، كان له : كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام ؛ وهؤلاء : لهم صلاح، ودين، لكن ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك(1/394)
(ص414) الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام وليس لهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم صلاح وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا وعلموا إنما كانوا عليه ليس من دين الإسلام في شيء بل هو مشابهة لعبادة الأصنام .
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها كما أنه لم يشرع السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه .
ولذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا وقال هذا هو أصل دين الإسلام وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا
( ص415) أعظم ما بينه لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم .
لأنهم إنما يقصدون الميت، وفى ضرورة نزلت بهم يدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم، بدعائه والدعاء به، أو الدعاء عند قبره ؛ بخلاف عبادتهم لله ودعاهم إياه فإنه يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور، التي يرجون عندها كشف ضرهم ؛ قال بعض الشعراء :
يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال :(1/395)
عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر
فقلت لهؤلاء : الذين يستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال، لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ،فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر، لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك .
ولهذا :كان أهل المعرفة بالدين، والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي، الذي أمر الله به(1/396)
(ص416) ورسوله، فلما كان بعد ذلك : جعلنا نأمره بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل .
فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم : نصرهم الله على عدوهم، نصرا ً عزيزاً، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة، أصلاً، لما صح من تحقيق توحيد الله، وطاعة رسوله، ما لم يكن قبل ذلك ؛ فإن الله : ينصر رسله، والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد ؛ كما قال تعالى في يوم بدر : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) [ الأنفال :9] .
وروي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كل يوم : " يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث " وفي لفظ : " أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك " .
وهؤلاء : يدعون الميت، والغائب، فيقول أحدهم : بك أستغيث ؛ بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول : أنت تعلم ذنوبي ؛ ومنهم من يقول للميت : اغفر لي، وارحمني، وتب علي ؛ ونحو ذلك ؛ ومن لم يقل هذا من عقلائهم، فإنه يقول : أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، وغير ذلك، فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين، والدنيا .
ومقصوده في الشكوى : أن يشكيه، فيزيل ذلك
(417ص) الضرر، وقد يقول مع ذلك : أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر ؛ وأنت تعلم ما فعلْتهُ من الذنوب، فيجعل الميت، والحي، والغائب، عالماً بذنوب العباد، وما جرياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر، حي، أو ميت .
وعقلاؤهم يقولون : مقصودنا، أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا ؛ ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته، أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل، ويشفع، كما كان يسأل، ويشفع، لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره ؛ وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة .(1/397)
ولا يعلمون : أن سؤال الميت، والغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله، وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره، وطلب الدعاء منه ؛ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء، والصالحين، وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته، من الأمور ما كان يطلب منه في حياته، انتهى . كلام الشيخ رحمه الله ملخصاً .
فانظر رحمك الله : إلى ما ذكره هذا الإمام ، من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ رحمه الله على ذلك، وبين لهم : أن هذا من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم، وتاب إلى الله وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق .(1/398)
(ص418) وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت، عند كثير من الأنام، وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث ؛ وقوله : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " وبهذا ينكشف لك، ويتضح عندك : بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك، والبدع، والحدثان ؛ فلا تغتر بما هم عليه .
وهذه : هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي : الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك، والكفر والعناد، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في محكم التنزيل من غير شك ولا تأويل، حيث قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسى، وأخيه هارون، الكريمين : ( فما بال القرون الأولى ) فأجابه عليه السلام بقوله : ( علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) [ طه:51 - 52 ] .
فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء، وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه، ونهجه، وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة، والوصول، وكان من ضوء التوحيد، على حصول .(1/399)
(ص419) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : في الإغاثة، قال صلى الله عليه وسلم : " لا تتخذوا قبري عيداً " وقال : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وفي اتخاذها عيداً، من المفاسد، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله، وغيره على التوحيد ؛ ولكن : ما لجرح بميت إيلام .
منها : الصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم ؛ وكل من شم أدنى رائحة من العلم : يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤل إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها، واعتياد قصدها، وعبادتها ؟
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، ونهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر، فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تسريجها، وهؤلاء : يوقوفون عليها الوقوف، على إيقاد القناديل عليها .
ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ؛ ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، عن علي(1/400)
(ص420) رضي الله عنه ؛ وهؤلاء : يرفعونها، ويجعلون عليها القباب ؛ ونهى عن تجصيص القبر، والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر ؛ ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر ؛ وهؤلاء : يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر، ,الأحجار .
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين : إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتاباً، وسماه : مناسك حج المشاهد ؛ ولا شك أن هذا : مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام .
فانظر : إلى التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور، لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر : أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجراً ؛ فهذه الزيارة التي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع ؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه .
وما أحسن ما قال الأمام مالك رحمه الله : لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ؛ ولكن : كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك .(1/401)
(ص421) ولقد جرد السلف الصالح : التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء، جعل ظهره جدار القبر، ثم دعا ؛ وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة للدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة .
وبالجملة : فإن الميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي ؛ ومقصود الصلاة على الميت : الاستغفار، والدعاء له ؛ وكذلك الزيارة، مقصودها : الدعاء للميت، والإحسان إليه، وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع، والشرك قولاً غير الذي قيل لهم .
فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحساناً إلى الميت، وإلى الزائر بسؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو محض العبادة، وحضور القلب، عندها، وخشوعه، أعظم منه في المساجد !
ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال : فإذا كان اتخاذ الشجرة، لتعليق الأسلحة، والعكوف لها : اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ؟ ودعائه ؟ والدعاء عنده ؟ والدعاء به ؟ وأي : نسبة للفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر ؟ لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون ؟(1/402)
(ص422) ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك، والبدع اليوم، في هذا الباب، وغيره، علم : أن ما بين السلف، وبينهم، أبعد مما بين المشرق والمغرب ؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وعمّا الصحابة، قبر : دانيال، بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه : أن الناس ينتابون الشجرة، التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها وقطعها، قال عيسى بن يونس : هو عندنا من حديث ابن عوف، عن نافع ؛ فإذا كان هذا فعله في الشجرة، التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكمه فيما عداها ؟
وأبلغ من ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار ؛ ففيه : دليل على هدم المساجد، التي أعظم فساداً منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها ؛ فتجب : المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره، ويذب عنه ؛ وكان بدمشق : كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها، على يد : شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين ؛ وكان العامة يقولون للشيء منها إنه يقبل النذر أي يقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة، يتقرب بها الناذر، إلى المنذور له .
ولقد أنكر السلف : التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية : إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه ؛ ولقد تكلفت هذه الأمة(1/403)
(ص423) شيئاً، ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه، حتى اخلولق ؛ وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب ؛ فتنة : أصحاب القبور ؛ وهي : أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكر الله في سورة نوح، في قوله تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) الآية [ نوح:23] ذكر السلف في تفسيرها : أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ؛ وتعظيم الصالحين : إنما هو باتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعياداً وأوثاناً، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع .
ومن أصغى إلى كلامه، وتفهمه : أغناه عن البدع، والآراء ؛ ومن بعد عنه، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته، والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته، والتوكل عليه ؛ فالمعرض عن التوحيد : مشرك، شاء أم أبى ؛ والمعرض عن السنة : مبتدع، شاء أم أبى ؛ والمعرض عن محبة الله، عابد الصور، شاء أم أبى .
وهذه الأمور : المبتدعة عند القبور، أنواع، أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر،(1/404)
(ص424) وتقبيله، والتمسح به . النوع الثاني : أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو : بدعة إجماعاً . النوع الثالث : أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضاً : من المنكرات إجماعاً ؛ وما علمت فيه نزاعاً بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله .
وبالجملة : فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منهم إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم ؛ وعبادتها في الأرض، من قبل نوح ؛ وهياكلها، ووقوفها، وسدنتها، وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها : طبق الأرض ؛ قال إمام الحنفاء عليه السلام : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ) [ إبراهيم :35-36] وكفى في معرفة أنهم أكفر أهل الأرض : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار، من كل ألف : تسعمائه، وتسعةٌ وتسعون ؛ وقد قال تعالى : ( فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ) [الفرقان:50] وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [الأنعام:116] .
ولو لم تكن الفتنة، بعبادة الأصنام، عظيمة، لما أقدم عبادها ببذل نفوسهم، وأموالهم، وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حباً وتعظيماً، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها ؛ انتهى . كلام الشيخ، رحمه الله، ملخصاً .(1/405)
(ص425) وقال : الشيخ تقي الدين، في : الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال : فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، من انتسب إلى الإسلام، والسنة، وقد مرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم : أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام ؛ وذلك : بأسباب ؛ منها : الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) الآية [ النساء :171] ؛ وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، حرق الغالين من الرافضة ؛ وأمر بأخاديد خدت لهم، عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة : على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما، مذهبه : أن يقتلوا بالسيف، بلا تحريق ؛ وهو قول أكثر العلماء ؛ وقصصهم معروفة عند العلماء ؛ وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه .
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الألهية، مثل أن يقول : يا سيدي فلان، انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال ؛ يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل ؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليُعبد وحده، لا يجعل معه إلهاً آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل : المسيح، والملائكة، والأصنام، لم(1/406)
(ص426) يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تُنزل المطر، أو تُنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، يقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر :3] ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس:18] فبعث الله رسوله : ينهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة .
وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) الآية [ الإسراء:56-57] .
قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون المسيح، وعزيزاً - إلى أن قال - وعبادة الله هي : أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنوا الطاغوت ) [ النحل :36] وقال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء :25] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلّمه أمته، حتى إنه لما قال له رجل : ما شاء الله وشئت، قال : " أجعلتني لله نداً ؟! قل ما شاء الله وحده " ونهى عن الحلف بغير الله، وقال " من حلف بغير الله فقد أشرك " وقال في مرض موته :(1/407)
(ص427) " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا ؛ وقال : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها ؛ وذلك : لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور ؛ ولهذا اتفق العلماء : على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن التقبيل، والاستلام، إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق، ببيت الخالق .
كل هذا : لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه ؛ كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقال : ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) [ النساء :48] ولهذا : كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام ؛ وأعظم آية في القرآن : آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم) [ البقرة :255] وقال صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلامه من الدنيا لا إلَه إلا ّ الله دخل الجنة " والإله، هو : الذي تألهه القلوب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالاً، انتهى كلامه رحمه الله تعالى . فتأمل : أول كلامه، وآخره ؛ وتأمل كلامه : فيمن دعا نبياً أو ولياً، مثل أن يقول : يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل ؛ تجده صريحاً في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من
( ص428) غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن إلاله، هو : المألوه، الذي يألهه القلب ؛ أي : يقصده بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال والتعظيم ؛ وإن زعم : أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله لأنه بيّن : إن هذا هو مطلوب المشركين الأولين ، فاستدل على ذلك، بالآيات والصريحات القاطعات ؛ والله اعلم .(1/408)
وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهلّ به لغير الله ) [ البقرة : 173 ] ظاهره : أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا : أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له ،أعظم من الاستعانة، في فواتح الأمور والعبادة لغير الله : أعظم كفراً من الاستغاثة بغير الله فلو ذبح لغير الله، متقرباً إليه، لحرم وإن قال فيه : بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في هذه الذبيحة : مانعان ؛ ومن هذا : ما يفعل بمكة، وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
فتأمل - رحمك الله - هذا الكلام، وتصريحه فيه : بأن من ذبح لغير الله، من هذه الأمة ، فهو : كافر مرتد، لا تباح(1/409)
(ص429) ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان، الأول : أنها ذبيحة مرتدّ، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع . الثاني : أنها مما أهل لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله : ( قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطمعه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به ) [ الأنعام:145] وتأمل قوله : ومن هذا ما يفعل بمكة، وغيرها، من الذبح للجن، والله أعلم .
فصل :
وقال ابن القيم - رحمه الله - في شرح المنازل، في : باب التوبة، وأما الشرك، فهو نوعان : أكبر، وأصغر ؛ فالأكبر : لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو: أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله ؛ بل : أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لها، ولا يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ؛ وقد شاهدناهذا، نحن، وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم : قد اتخذ ذكر إلهه، ومعبوده، من دون الله، على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش ؛ وهو : لا يذكر إلا ذاك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده ؛ وهكذا كان عباد الأصنام، سواء .
وهذا القَدْر، هو : الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى : حاكياً عن(1/410)
(ص430) أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية [ الزمر :3] فهذه حال من اتخذ دون الله ولياً، يزعم أنه يقربه إلى الله ؛ وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم : أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ؛ وهذا عين الشرك .
وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [سبأ :22-23] .
والقرآن : مملوء من أمثال هذه الآية ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثاً، وهذا الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وهذا : لأن من لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن، وذمه، وقع فيه، وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفّر(1/411)
(ص431) الرجل بمحض الإيمان، وتجريده التوحيد ؛ ويبدّع بتجريد متابعة الرسول، ومفارقة الأهواء والبدع ؛ ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عياناً ؛ والله المستعان .
ومن أنواعه : طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له إلى الله ؛ وهذا من جهله بالشافع، والمشفوع عنده ؛ فإن الله تعالى : لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لأذنه، وإنما السبب لإذنه : كمال التوحيد ؛ فجاء هذا المشرك، بسبب يمنع الإذن .
والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين : أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، والمغفرة ؛ فعكس هذا المشركون، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعادات أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات ؛ وهم قد تنقصوا الخالق وأولياءه الموحدين، بذمهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به .
وهؤلاء : أعداء الرسل، في كل زمان ومكان ؛ وما أكثر المستجيبين لهم، ولله دُرّ خليله إبراهيم، حيث قال :(1/412)
(ص432) ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ) [ إبراهيم 35-36] وما نجا شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى ؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
فتأمل رحمك الله : كلام هذا الإمام ، وتصريحه : بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له .
وتأمل : قوله أيضاً، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى ؛ ولكن : تأمل أرشدك الله، قوله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين .. إلى آخره يتبين لك : أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك ؛ فإن لم يعادهم، فهو منهم، وإن لم يفعله ؛ والله أعلم .
وقال رحمه الله، في كتاب : زاد المعاد في هدي خير العباد ؛ في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال فيها : إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، والطواغيت، بعد(1/413)
(ص433) القدرة على هدمها، وإبطالها يوماً واحداً، فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها، مع القدرة، البتة، وهكذا حكم المشاهد، التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً، وطواغيت، تعبد من دون الله ؛ والأحجار التي تقصد للتعظيم، وللتبرك والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته ؛ وكثير منها : بمنزلة : اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها، والله المستعان .
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت : يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت ؛ وإنما كانوا يفعلون عندها، وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، عند طواغيتهم ؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس ؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطُمست الإعلام ، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ؛ ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين .(1/414)
(ص434) وقال الشيخ تقي الدين : لما سُئل عن قتال التتار، مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام : كل طائفة ممتنعة، عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة، المتواترة، من هؤلاء القوم، وغيرهم، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائعه ،كما قاتل أبو بكر، والصحابة رضي الله عنهم : مانعي الزكاة ؛ وعلى ذلك : اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة : مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما .
واتفق الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، على القتال على حقوق الإسلام، عملاً بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه : الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله : " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " فعلم : أن مجرد الاعتصام بالإسلام ، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمُسقط للقتال فالقتال : واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة ؛ فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب .
فأيما طائفة امتنعت، عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو(1/415)
(ص435) الأموال، أو الخمر، أو الزنا، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من التزام واجبات الدين، ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة : تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا : مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء .
وإنما اختلف الفقهاء : في الطائفة الممتنعة، إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟ فأما الواجبات، والمحرمات المذكورة، ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها .
وهؤلاء عند المحققين من العلماء : ليسوا بمنزلة البغاة، الخارجين على الإمام ، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته ؛ وأما المذكورون : فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج، الذين قاتلهم على رضي الله عنه ؛ ولهذا : افترقت سيرته رضي الله عنه، في قتاله لأهل : البصيرة ؛ وأهل : الشام ؛ وفي قتاله لأهل : البصرة ؛ وأهل : الشام ؛ وفي قتاله لأهل : النهروان ؛ فكانت سيرته مع البصريين، والشاميين : سيرة الأخ مع أخيه ؛ ومع(1/416)
(ص436) الخوارج، بخلاف ذلك ؛ وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج ؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
فتأمل رحمك الله : تصريح هذا الإمام ، في هذه الفتوى، بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج ؛ أو ترك المحرمات، كالزنا، أو تحريم الدماء، أو الأموال، أو شرب الخمر، أو المنكرات، وغير ذلك، أنه : يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائع الإسلام ؛ وأن ذلك مم اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة .
فتبين لك : أن مجرد الاعتصام بالإسلام ، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال ؛ وأنهم يقاتلون : قتال كفر، وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله : وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنزلة البغاة، الخارجين على الإمام ، أو الخارجين عن طاعته، بل خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة ؛ انتهى، والله أعلم .
وقال في : الإقناع، من كتب الحنابلة، التي تعتمد(1/417)
(ص437) عندهم في الفتوى ؛ وأجمعوا : على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء:48] أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، كفر ؛ لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى، إلى أن قال، قال الشيخ : أو كان مبغضاً لرسوله، أو ما جاء به اتفاقاً، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعاً ؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [الزمر :3] .
فصل :
وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب تبيين المحارم، المذكورة في القرآن ؛ باب : الكفر، وهو الستر، وجحود الحق، وإنكاره، وهو : أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة :6] وهو أكبر الكبائر، فلا كبيرة فوق الكفر - إلى أن قال - واعلم : أنما يلزم به الكفر أنواع، نوع : يتعلق بالله سبحانه ؛ ونوع : يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنزلة ؛ ونوع : يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء ؛ ونوع : يتعلق بالأحكام .
فأما ما يتعلق به سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو(1/418)
(ص438) معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده، أو وعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله، أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولداً، أو صاحبة، أو أنه متولد منه شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئاً من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعائه الإلهية، والرسالة - إلى أن قال - وما أشبه ذلك، مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ؛ يكفر بهذه الوجوه كلها، بالإجماع ؛ لأجل سوء فعله عمداً، أو هزلاً، ويقتل إن أصر على ذلك ؛ فإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل، انتهى كلامه بحروفه .
وقال الشيخ : قاسم، في شرح الدرر : النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلاً : يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعاً، لوجوه، منها: أن النذر لمخلوق لا يجوز ؛ ومنها : أن ذلك كفر - إلى أن قال - وقد ابتلى الناس بذلك، ولا سيما في مولد : أحمد البدوي ؛ انتهى . فصرح :(1/419)
(ص439) بأن هذا النذر كفر ؛ يكفر به المسلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً .
وقال أيضاً الشيخ : عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد : فقد وصلت إلينا الأسئلة، التي صدرت من جهة الساحل الشرقي، على يد الأخ : سعد البواردي .
السؤال الأول : قول الملحد المجادل في دين الله : إن الأمر الذي جاء به الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، مذهب خامس، وغش للأمة ؛ فهل يكون هذا القائل سنياً، أو مبتدعاً ؟
فالجواب وبالله التوفيق : هذا القائل إنما تدل مقالته هذه، على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام، وأبينهم ضلاله ؛ فإن شيخ الإسلام : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئاً ؛ وهذا : لا يرتاب فيه مسلم، أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .(1/420)
(ص440) وقوله : مذهب خامس، يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم، ولا العلماء ؛ فإن الذي قام به شيخ الإسلام : لا يقال له مذهب، وإنما يقال له : دين، وملة، فإن التوحيد هو دين الله، وملة خليله إبراهيم، ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو : الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفاً وخلفاً، ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك، كما قال تعالى : ( فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص ) [ الزمر:2-3] وقال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) [ البينة :5] فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين، وغيرهما، من آي القرآن، ديناً، ولم يسمه مذهباً .
وأما : ما جرى على ألسن العلماء، من قولهم : مذهب فلان، أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام، لاختلافهم بحسب بلوغ الأدلة، وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة رحمهم الله، بل مذاهب العلماء قبلهم، وبعدهم في الأحكام كثيرة، فقد جرى الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، فللصديق رضي الله عنه : مذهب انفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس، وغيرهم من الصحابة ؛ وكذلك : الفقهاء السبعة من التابعين، وخالف بعضهم بعضاً في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك .
وبعدهم أئمة الأمصار، كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة، والثوري،(1/421)
(ص441) إماما أهل العراق، فلكلٍ مذهب معروف، في الكتب المصنفة، في اختلاف العلماء، ومثلهم : الأئمة الأربعة، وجاء بعدهم أئمة مجتهدون، وخالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء، كأهل الظاهر، ولذلك : تجد من صنف في مسائل الخلاف، إذا عنى الأئمة الأربعة، قال : اتفقوا، وفي مسائل الإجماع ، التي أجمع عليها العلماء سلفاً وخلفاً، يقول : أجمعوا .
وذكر المذهب : لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع : صنفوا لهم مذهباً في الأحكام، يذكرونه عن أئمتهم، كالزيدية، لهم كتب معروفة، يفتي بها بعض أهل اليمن ؛ والإمامية الرافضة، لهم مذهب مدون، خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة ؛ والمقصود : أن قول هذا الجاهل : مذهب خامس، قول : فاسد، لا معنى له، كحال أمثاله من أهل الجدل، والزيغ، في زماننا، شعراً : يقولون أقوالا ولا يعرفونها وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
وأما قوله : وغش الأمة ؛ فهذا : الجاهل الضال، بنى هذا القيل الكاذب، على سوء فهمه، وانصرافه عن دين الإسلام ؛ لأنه عدو لمن قام به، ودعا إليه، وعمل به ؛ ومن المعلوم : عند العقلاء، وأهل البصائر : أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، أنه الناصح لهم حقاً ؛ وأما من حسَّن الشرك والبدع، ودعا إليها، وجادل بالباطل، وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم، الغاش، لعباد الله، لأنه(1/422)
(ص442) يدعوهم إلى ضلالة، نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء .
ونذكر ما قام به الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فإنه : قد نشأ في أُناس، قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك، والبدع، ما عم، وطم، في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين، يعلمهم الله تعالى ؛ وأما الأكثرون : فعاد المعروف بينهم منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير .
ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام، بتوحيد الله، الذي بعث الله به رسله، وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم، من أدلة توحيده، الذي خلقهم له، وما حرمه الله عليهم، من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم، ما قال المرسلون لأممهم، أن : ( اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) [ هود :50، 61، 84] .
فحجب كثيراً منهم عن قبول هذه الدعوة، ما اعتادوه، ونشأوا عليه، من الشرك، والبدع ؛ فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته ؛ وهو : شيخنا رحمه الله، ومن استجاب له، وقبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبينّاته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً ) [الفرقان:31] .(1/423)
(ص443) وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ رحمه الله من التوحيد، في الكتاب، والسنة : أظهر شيء، وأبينه .
اقرأ كتاب الله، من أوله إلى آخره : تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك ،والنهى عنه، مقرراً في كل سورة وفى كثير من سور القرآن، يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر، ففي فاتحة الكتاب : ( الحمد لله رب العالمين ) نوعا التوحيد، توحيد الألهية، وتوحيد الربوبية وفى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) النوعان، وقصر العبادة والاستعانة على الله عز وجل أي : لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك .
وأول أمر في القرآن، يقرع سمع السامع، والمستمع، قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) إلى قوله : ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) [ البقرة : 21-22 ] فأمرهم بتوحيد الألهية واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به وأمرهم بخلع الأنداد، التي يعبدها المشركين من دون الله .
وافتتح سبحانه : كثيراً من سور القرآن، بهذا التوحيد : ( آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [ آل عمران :1-2 ] ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) إلى قوله : ( وهو الله في السموات وفى الأرض ) [ الأنعام :1-3 ] أى : المألوه
( ص444) المعبود في السماوات والمألوه، المعبود في الأرض وفى هذه السورة، من أدلة التوحيد، ما لا يحصر ؛ وفيها من بيان الشرك ؛ والنهي عنه، كذلك .
وافتح، سورة : هود، بهذا، التوحيد فقال تعالى : ( آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ) [ هود : 1-2 ] فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصّلها، ببيان توحيد، والنهى عن الإشراك به، وفي أول : سورة طه، قال تعالى : ( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) [ طه : 8 ] وافتتح، سورة: الصافات، بهذا التوحيد(1/424)
وأقسم عليه، فقال : ( والصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً، إن إلهكم لواحد، رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) [الصافات :1-5] وافتتح، سورة : الزمر، بقوله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص ) [ الزمر : 1-3] وفي هذه السورة : من بيان التوحيد، والأمر به، وبيان الشرك، والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن ؛ وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة : ( قل يا أيها الكافرين )نفى الشرك في العبادة، في قوله تعالى : ( لا أعبد ما تعبدون ) إلى آخرها، وفي سورة : ( قل هو الله أحد ) توحيد الألهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه .(1/425)
(ص445) وفي خاتمة المصحف : ( قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس ) بين أن ربهم، وخالقهم، ورازقهم، هو : المتصرف فيهم بمشيئته، وإرادته ؛ وهو ملكهم، الذي نواصي الملوك، وجميع الخلق في قبضته ؛ يعز هذا، ويذل هذا، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء ( لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ) [الرعد:41] وهو : معبودهم، الذي لا يستحق أن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن .
وأما السنة : ففيها من أدلة التوحيد، ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ، الذي في الصحيحين : " فإن حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " وفي حديث ابن مسعود، الصحيح : " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار " والحديث الذي في معجم الطبراني : " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " ولما قال له رجل : ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده " وأمثال هذا لا يحصى، كما تقدم ذكره ؛ وأدلة التوحيد، في الكتاب، والسنة : أبين من الشمس، في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد ؛ وأما الأعمى، فلا بيصر للشمس ضياء، ولا للقمر نوراً
ثم إن شيخنا رحمه الله، كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، حيث ينادي لها، وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين، كما دل على ذلك : الكتاب،(1/426)
(ص446) والسنة، ويأمر بالزكاة، والصيام، والحج، ويأمر بالمعروف، ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه، ويأمروا به ؛ وينهى عن المنكر، ويتركه، ويأمر الناس بتركه، والنهي عنه .
وقد : تتبع العلماء مصنفاته، رحمه الله - من أهل زمانه، وغيرهم - فاعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب ؛ وأقواله : في أصول الدين، مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة ؛ وأما : في الفروع، والأحكام، فهو : حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف، لما ذهب إليه الأئمة الأربعة ؛ بل : ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصوراً في المذاهب الأربعة، كما تقدم ؛ ولو كان الحق محصوراً فيهم، لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة .
والحاصل : أن هذا المعترض، المجادل، مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكراً، ورد ما كان معروفاً، فأعداء الحق، وأهله، من زمن قوم نوح، إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم، وطريقتهم ؛ فمن حكمة الرب تعالى : أنه ابتلي عبادة المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع :
الصنف الأول : من عرف الحق، فعاداه حسداً،(1/427)
(ص447) وبغياً، كاليهود، فإنهم أعداء الرسول، والمؤمنين، كما قال تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ) [ البقرة:90] وقال : ( وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) [ البقرة : 146] .
الصنف الثاني : الرؤساء، أهل الأموال، الذين فتنتهم ديناهم، وشهواتهم، لما يعلمون : أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه، وألفوه، من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه .
الصنف الثالث : الذين نشؤوا في باطل، وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق، وهم على الباطل،
فهؤلاء : لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) [ الكهف :104] .
وكل هذه الأصناف الثلاثة، واتباعهم، هم : أعداء الحق، من زمن نوح، إلى أن تقوم الساعة ؛ فأما الصنف الأول : فقد عرفت ما قال الله فيهم ؛ وأما الصنف الثاني : فقد قال الله فيهم : ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين ) [ القصص : 50] وقال عن الصنف الثالث : ( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) [ الشعراء :74](1/428)
(ص448) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) [ الزخرف:22] وقال : ( إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون ) [ الصافات : 69-70] .
وهؤلاء، هم : الأكثرون، كما قال تعالى : ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) [ الصافات :71] وقال تعالى، في سورة : الشعراء، عقب كل قصة : ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) [الشعراء:103-104] وقال تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف :103] وقال في قصة نوح عليه السلام : ( وما آمن معه إلا قليل ) [ هود:40] وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [ الأنعام :116] .
فيا من نصح نفسه : تدبر ما ذكر الله تعالى في كتابه، من ضلال الأكثرين، لئلا تغتر بالكثرة، من المنحرفين عن الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين ؛ وتدبر : ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقبلهم في البلاد، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ) الآية [ غافر :4-5] وقال تعالى : ( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) [ غافر:83] .(1/429)
(ص449) والآيات في هذا المعنى، تبين : أن أهل الحق، أتباع الرسل، هم : الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً ؛ وأن أعداء الحق، هم : الأكثرون في كل مكان، وزمان، حكمة بالغة ؛ وفي الأحاديث الصحيحة، ما يرشد إلى ذلك، كما في الصحيح : أن ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ليتني كنت فيها جذعاً، ليتني أكون حياً، إذ يخرجك قومك، قال : " أو مخرجي هم ؟! " قال : نعم، لم يأت أحد قط، بمثل ما جئت به، إلا عودي .
فإذا كان هذا حال أكثر الخلق، مع المرسلين، مع قوة عقولهم، وفهومهم، وعلومهم ؛ فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات، ممن هو مثلهم، في عداوة الحق، وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان، من الرعونات، والجهل وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى، عن أسلافهم، وأشباههم : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ) [ النحل:20-22] .
فاحتج سبحانه وتعالى، على : بطلان دعوتهم غيره، بأمور ؛ منها : أنهم ( لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ) فالمخلوق : لا يصلح أن يقصد بشيء، من خصائص الألهية، لا دعاء، ولا غيره، و " الدعاء مخ العبادة " .
الثاني : كون الذين يدعونهم من دون الله ( أموات غير أحياء )(1/430)
(ص450) والميت لا يقدر على شيء، فلا يسمع الداعي، ولا يستجيب ؛ ففيها معنى قوله تعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) [ فاطر:13-14] وفي هذه الآية : أربعة أمور، تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلال من دعا غير الله، فتدبرها .
والأمر : الثالث، في هذه الآية ، قوله : ( وما يشعرون أيان يبعثون ) ومن لا يدري متى يبعث، لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة ؛ ثم بين تعالى ما أوجه على عباده، من إخلاص العبادة له، وأنه هو المألوه المعبود، دون كل من سواه، فقال : ( إلهكم إله واحد ) وهذا، هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء :25] .
ثم بين تعالى : حال أكثر الناس، مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه، من الشرك بالله، وبيان ما افترضه عليهم، من توحيده، فقال : ( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ) فذكر سببين حائلين، بينهم، وبين قبول الحق، الذي دعوا إليه ؛ فالأول : عدم الإيمان باليوم الأخر ، والثاني : التكبر، وهو حال الأكثرين، كما قد عرف من حال الأمم، الذين بعث الله إليهم رسله كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وغيرهم ؛ وكيف جرى
( ص451) منهم، وما حل بهم وكحال كفار قريش، والعرب وغيرهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد ،فقد روى مسلم وغيره، من حديث عمرو بن عبسه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له : " أنا نبي " فقال : وما نبي ؟ قال : " أرسلني الله " قال بأي شيء أرسلك ؟ قال : " بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيئاً " قال : فمن معك على هذا ؟ قال : " حر وعبد " ومعه يومئذ : أبو بكر، وبلال .(1/431)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذي يصلحون إذا فسد الناس " وفسر الغرباء بأنهم : النزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعه، الواحد والاثنان، ولهذا قال بعض السلف : لا تستوحش من الحق، لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل، لكثرة الهالكين، وعن بعضهم أنه قال : ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا .
فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى : ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) [ غافر : 35 ] .
فأعظم منة الله على من رزقه الله معرفة الحق : الاعتصام(1/432)
(ص452) بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ) [ الكهف : 17 ] وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم .
وله أيضاً رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلمهم الله تعالى ؛ سلام عليكم ورحمته الله وبركاته، وبعد : فموجب هذا الباعث عليه، هو : النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [ الذريات : 55] فاذكروا ما منّ الله به عليكم، وخصكم به في هذا الزمان، من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح، التي لا تعد ولا تحصى .
وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى عليه السلام، أنه ذكر قومه هذه النعم، كما قال تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعم الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً ) الآية [ المائدة : 20] فذكرهم أولاً بالنعمة العظمى وهى : أن جعل فيهم أنبياء، يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم، وفلاحهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
وقد : امتن الله سبحانه على عباده في كتابه، بهذه
( ص453) النعمة، وذكرهم بها في مواضع، كما قال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [آل عمران : 164 ] وقال : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عيهم آيات ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ الجمعة : 2] .(1/433)
وأخبر عن مراده فيما شرعه، من : تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به، وأراد إتمام نعمة، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك، كما من عليهم قبل بمبعث الرسول، فقال : ( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عيكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [ البقرة : 151] .
فبعث الأنبياء وإرسال الرسل، وهو الذي حصل به العلم النافع، والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله ونعوت جلالة، والاستدلال بآياته، ومخلوقاته والقيام له بما أوجب على خلقة، من العبادة والتوحيد، والعمل بما يُرضى الرب ويريد، فإن بهذا : تحصل زكاة العبد، ونموه، وصلاحه، وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة .
وفي ضمن تعليم الكتاب والحكمة من تفاصيل العلوم، والأعمال، والمعارف، والأمثال، الدالة على وحدانيته، وقدرته ورحمته، وعدله، وفضله، وإعادته .
( ص454) لخلقة وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه، وأوليائه، وما فعل، ويفعل بأعدائهم، وأعدؤه وأخبراه بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل : ما يوجب للعبد، من العلم بالله ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه وخلقة، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية ما لا يمكن حصره، ولا استقصاؤه .
فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمه، إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل، وبعث النبيين، خصوصاً رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود والحوض المورود، فإنه قد حصل برسالته، من عموم الرحمة لكافة العالمين ومن السعادة، والفلاح، والتزكية، والهدى، والرشاد لمن اتبعه، ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه، ببعث غيره من الأنبياء، فمن كان له، من قبول ما جاء به، والإيمان به حظ، ونصيب، فعليه من شكر الله على هذه النعمة، وطاعته، وإدامة ذكره والثناء بنعمه ن ما ليس على من قل حظه، ونصيبه من ذلك .(1/434)
وقد : منّ الله عليكم، رحمكم الله في هذا الزمان، الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بغير الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين ويدعوا إلى ما جاء به الرسول الأمين من الهدى الواضح المستبين ؛(1/435)
(ص455) وهو : شيخ الإسلام، والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ : محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فبصّر الله به من العماية، وهدى بما دعى إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت المحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها ،
في : باب توحيد الله، بإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه، في أفعاله، فإنه قرر ذلك .
وتصدى رحمة الله :للرد على من نكب عن هذا السبيل واتبع سبيل التحريف، والتعطيل، على اختلاف نحلهم، وبدعهم، وتشعب مقالتهم، وطرقهم، متبعاً رحمه الله، ما مضى عليه السلف الصالح من أهل العلم والإيمان وما درج عليه القرون المفضله، بنص الحديث، ولم يتفت رحمه الله 0إلى ما عدى ذلك من قياس فلسفي أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي، أو أشعري . فوضح معتقد السلف الصالح، بعدما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه، من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة ؛ وتصدى أيضاً للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد، ويستلزمه، وهو : وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد، والآلهة ؛ والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله .(1/436)
(ص456) وقد : عمت في زمنه البلوى، بعبادة الأولياء والصالحين، وغيرهم ؛ وأطبق على ترك الإسلام : جمهور أهل البسيطة، وفى كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الألهة، والأنداد لرب العالمين، ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقادتهم ؛ فمنهم : من يعبد الكواكب، ويخاطبها بالحوائج، ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه، أو على العالم، وتقضى لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات ومنهم : من لا يرى ذلك، ويكفر أهله، ويتبرأ منهم لكنه قد وقع في : عبادة الأنبياء، والصالحين، فاعتقد : أنه يستغاث بهم، في الشدائد والملمات وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات، وتفريج الكربات ؛ فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الجد والتعظيم والتوكل والاعتماد والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادات، وهذا، هو : دين جاهلية العرب، الأميين، كما أن الأول، هو : دين الصابئة الكنعانيين .
وقد بعث الله : محمداً صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، وكانت العرب، في وقته، وزمن مبعثه : معترفين لله بتوحيد الربوبية، والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم، الخليل، عليه السلام ؛ قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من(1/437)
(ص457) الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس:31] وقال تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله أفلا تذكرون ) إلى قوله : ( فأنى تسحرون ) [ المؤمنون : 84-89] .
والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة، والإلهية فاتخذوا الشفعاء والوسائط من الملائكة، والصالحين، وغيرهم، وجعلوهم أنداداً لله رب العالمين، فيما يستحقه عليهم من العبادات، والارادات، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطاعات، لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، لا اعتقاد التدبير، والتأثير، كما ظنه بعض الجاهلين، قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) الآية [ يونس:18] وقال : ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ) [ الزمر :43] وقال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية [ الزمر:3] .
فناههم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكفّر أهله، وجهّلهم، وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وبين : أن مدلولها، الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له الكفر بما يعبد من دون الله، وهذا . هو : أصل الدين، وقاعدته ؛ ولهذا، كانت هذه الكلمة، كلمة الإسلام، ومفتاح دار(1/438)
(ص458) السلام، والفارقة بين الكافر والمؤمن، من الأنام ؛ ولها جردت السيوف، وشرع الجهاد ؛ وامتاز الخبيث، من طيب العباد ؛ وبها حقنت الدماء، وعصمت الأموال .
وقد : بلغ الشيطان مراده، من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعه الأكثرون، وتركوا ما جاءت به الرسل، من دين الله، الذي ارتضاه لنفسه ؛ وتلطف الشيطان، في التحيل، والمكر، والمكيدة حتى أدخل الشرك، وعبادة الصالحين، وغيرهم، على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام، في قالب محبة الصالحين، والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاهاً، ومنزلة ينتفع بها، من دعاهم، ولاذ بحماهم ؛ وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير، والخلق، والرزق، فهو المسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره، ولاذ بحماه ؛ وأن مجرد شهادة : أن لا إلَه إلا ّ الله، تكفي، مثل هذا، وإن لم يقارنها علم، ولا عمل ينتفع به ؛ وأن الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والحب، والتعظيم، ونحو ذلك، ليس بعبادة، وإنما العبادة : السجود، والركوع، ونحو هذه الزخرفة، والمكيدة ؛ وهذا بعينه، هو : الذي تقدمت حكايته، عن جاهلية العرب .
وذكر المفسرون، وأهل التاريخ من أهل العلم، في سبب حدوث الشرك، في قوم نوح، مثل هذه المكيدة، فإن وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، أسماء رجال(1/439)
(ص459) صالحين، في قوم نوح، فلما هلكوا : أوحى الشيطان إلى قومهم، أن بنصبوا تماثيلهم، ويصوروا صورهم ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة ؛ فلما هلك من فعل هذا، أوحى الشيطان إلى من بعدهم : أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك .
فأصل الشرك : هو تعظيم الصالحين، بما لم يشرع، والغلو في ذلك ؛ فأتاح الله بمنة، في البلاد النجدية، والجهات العربية، من أحبار الإسلام، وعلمائه الإعلام : من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة ، ويدعو إلى محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يخالطه، ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنف الكتب، والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومما حل، وعلم من لديه : كيف يطلب العلم، وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب ؛ واجتمع له من عصابة الإسلام، والإيمان : طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله ؛ حتى ظهر ،واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم، وما لديه، وعلت كلمة الله، حتى أعشى إشراقها وضوءها : كل مبطل، ومما حل، وذل لها : كل منافق مجادل .
وحقق الله وعده لأوليائه وجنده، كما قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )(1/440)
(ص460) [ غافر:51] وقوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) الآية [ النور:55] فزال بحمد الله ما كان، بنجد، وما يليها، من القباب، والمشاهد، والمزارات، والمغارات ؛ وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة ؛ وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتار، والتعاليق، والشركيات .
وألزم، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت، وسائر الواجبات ؛ وحث من لديه من القضاة، والمفتين، على تجريد المتابعة، لما صح، وثبت عن سيد المرسلين، مع الإقتداء في ذلك، بأئمة الدين، السلف الصالح المهديين، وينهاهم : عن ابتداع قول، لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به .
وأنكر، ما كان عليه الناس، في تلك البلاد، وغيرها من تعظيم : الموالد، والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية، ولا برهان ؛ لأن ذلك فيه : من مشابهة النصارى، الضالين، في أعيادهم، الزمانية، والمكانية، ما هو باطل، مردود، في شرع سيد المرسلين .
وكذلك : أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة، من التدين، والتعبد، والمكاء، والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان، عن سماع آيات القرآن،(1/441)
(ص461) وصاروا بها من أشباه عبّاد الأوثان، الذين قال الله فيهم : ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) [ الأنفال :35] وكل : من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، تبين له : أن هؤلاء من أضل الفرق، وأخبثهم نحلة، وطريقة ؛ والغالب على كثير منهم : النفاق، وكراهة سماع كلام الله، ورسوله .
وأنكر رحمه الله، ما أحدثته العوام، والطغام، من اعتقاد البركة، والصلاح، في أناس من الفجار، والطواغيت، الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية، والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات، فإن هؤلاء : من أضر الناس على أديان العامة ؛ وأنكر رحمه الله : ما يعتقده العامة، في البله، والمجاذيب، وأشباههم ،الذين أحسن أحوال أحدهم : أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين .
وأرشد رحمة الله : إلى ما دل عليه الكتاب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،من الفرقان، بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان ،وساق الأدلة الشرعية، التي يتميز بها كل فريق ،ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق ؛ فإن الله جل ذكره، وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ،ويعرفون، بحيث لا يخفي حالهم، ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالي : أولياء الشيطان، من الكفار ،والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم علي من له أدني نظر في العلم ،وحفظ من الإيمان .
( ص462) وكذلك :قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القري، والنواحي، فيما يتجاسرون عليه، ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه : كل من كانت عليه الولاية، من البلاد النجدية، وغيرها والحمد لله على ذلك ؛ والتذكير بهذا : يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين ،وذكرهم به من بعث الأنبياء والرسل .(1/442)
ومدار العبادة، والتوحيد ،على ركنين عظيمين، هما: الحب ،والتعظيم ؛ وبمشاهدة النعمة :يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه ؛ وكلما ازداد العبد علماً بذلك ومعرفةً لحقيقة النعمة ،ومقدارها : ازداد طاعة، ومحبةً وإنابةً، وإخباتاً، وتوكلاً، ولذلك يذكر تعالى عباده، بنعمه، الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة، والباطنة ويحث على التفكر في ذلك والتذكر وأن يعقل العبد عن ربه فيقوم بشكره ويؤدى حقه .
ومبنى الشكر على ثلاثة أركان : معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها ؛ واستعمالها في ما يحب موليها ومعطيها ؛ فمن كملت له هذه الثلاثة فقد استكمل الشكر وكلما نقص العبد منها شيئا فهو نقص في إيمانه وشكره وقد لا يبقى من الشكر ما يعتد به، ويثاب عليه .
والمقصود : أن الذكرى فيها من المصالح الدينية ،
( ص463) والشعب الإيمانية، ما هو : أصل كل فلاح وخير، وبدأ في هذه الآية ، بأعظم النعم، وأجلها على الإطلاق، وهو : جعله الأنبياء فيهم، يخبرونهم عن الله، بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى ؛ وكل خير حصل في الأرض من ذلك، فأصله مأخوذ عن الرسل، والأنبياء، إذ هم : الأئمة ، والدعاة، الأمناء وأهل العلم، عليهم البلاغ ونقل ذلك إلى الأمة ، فإنهم واسطة في إبلاغ العلم ونقله .
وأما قوله : ( وجعلكم ملوكاً ) فهذه نعمة جليلة، يجب شكرها، وتتعين رعايتها فإنها من أفضل النعم، وأجلها والشكر : قيد النعمة، إن شكرت : قرّت ؛ وإن كفرت : فرت ؛ ولم تحصل هذه النعمة، إلا باتباع الأنبياء، وطاعة الرسل فإن بنى إسرائيل، إنما صاروا ملوك الأرض، بعد فرعون وقومه، باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله، والصبر على ذلك، قال تعالى : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) [ الأعراف : 137] .(1/443)
وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به، من العرب الأميين وغيرهم من أجناس الآدميين من الملك وميراث الأرض، فوق ما حصل لنبي إسرائيل فإنهم ملكوا الدنيا، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم ؛ وصارت بلادهم، وبلاد المغرب والمشرق ولاية(1/444)
(ص464) لهم، ورعية، تنفذ فيها أحكامهم، ويجبى إليهم خراجها ومكثوا على ذلك ظاهرين قاهرين لما سواهم من الأمم حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل من الخروج عن اتباع الأنبياء وترك سياستهم والانهماك في أهوائهم وشهواتهم فجاء الخلل وسلط العدو، وتشتت الناس وتفرقت الكلمة وصارت الدولة الإسلامية، يسوسها في كثير من البلاد، وأوقات كثي رمن الملوك : أهل النفاق والزندقة والكفر والإلحاد والذين لا يبالون بسياسات الأنبياء وما جاءوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم فذهب الملك بذلك وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم وسلط عليهم العدو و أخذ كثيراً من البلاد ولم يقنع منهم إبليس عدوا لله بهذا حتى أوقع كثيرا ًمنهم في البدعة الشرك وسعى في محو الإسلام بالكلية وكلما : بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم ولكن من رحمة الله ومنته : أن جعل في هذه الأمة بقية وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في جهة أو بلد حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم(1/445)
(ص465) ولذلك : صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ولطائفة من أنصاره من الملك والظهور، والنصر، بحسب نصيبهم وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتمسك بدينه فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان ومن الحيرة إلى اليمن وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكاً كانوا أعز وأظهر وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفوا الله عنه من ذلك أكثر وأعظم .
والمقصود : أن كل خير ونصر وعز وسرور حصل فهو بسب : متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول وقد منّ الله عليكم في هذه الأوقات بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات من النعم الدينية والدنيوية والأمن في الأوطان فاذكروا الله يذكركم واشكروا نعمه يزيدكم ؛ ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم : 6 ] بمعرفة الله ومحبته وطاعته وتعظيمه وتعليم أصول الدين وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي والتزامه والمحافظة على توحيد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام والجهاد في سبيل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة وسد الوسائل التي توقع في المحذور وتفضي إلى ارتكاب .(1/446)
(ص466) الآثام، والشرور
ويجمع ذلك قوله تعالى : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [ النحل : 90 ] والله المسؤول : أن يمنّ علينا، وعليكم بسلوك سبيله وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله وصلى الله على محمد
وله : أيضاً : قدس الله روحه ونور ضريحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من : عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، بن حسن : إلى عبد العزيز الخطيب، السلام على من اتبع الهدى وعلى عباد الله الصالحين ؛ وبعد فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من الاعتذار ولكن أسأت في قولك أن ما أنكره شيخنا، الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم ؛ أنه لم يصدر منكم وتذكر أن إخوانك من أهل : النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور وأنت تعرف : أنهم يذكرون هذا غالباً، على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى / فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ومن الغي عن(1/447)
(ص467) سبيل الرشد، والعمى
وقد رأيت : سنة أربع وستين / رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين وجحتهم من جنس حجتكم يقولون أهل الأحساء يجالسون : ابن فيروز ويخالطونه هو، وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوه الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها .
قالا : ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين، الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام حتى تركوا رد السلام فرفع إلى أمرهم فأحضرتهم وتهددتهم وأغلظت لهم القول فزعموا أولاً : أنهم على عقيدة الشيخ، محمد بن عبد الوهاب وأن رسائله عندهم فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس .
وأخبرتهم ببراءة الشيخ، من هذا المعتقد والمذهب وانه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله، من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على(1/448)
(ص468) خلقه ،من العبادات والإلهية وهذا : مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة، بباب عظيم يذكرون فيه حكمها وما يوجب الردة ويقتضيها وينصون على الشرك وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة بكتاب سماه : الإعلام بقواطع الإسلام .
وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما : أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة وبلغنا عنهم : تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين ؛ بل كفروا : من خالط من كاتبهم من مشائخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور .
وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب كالكلام في الموالاة، والمعادة والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات والحكم بغير ما انزل الله عند البوادى، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب .
والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة، كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفى(1/449)
(ص469) غيره لمن جهلها و أعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال ،والإطلاق ،وعدم العلم،بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال : ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى :
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... ... أذهان والآراء كل زمان
وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم : أنكروا عليه، تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت، بينه وبين معاوية، وأهل الشام ؛ فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة، والبصرة، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمراً، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى : ( إن الحكم إلا لله) [يوسف:40] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت : براءة .
وطال بينهما النزاع، والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ(1/450)
(ص470) شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الأعذار والإنذار، والتمس : " المخدج : المنعوت في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم، وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكراً على توفيقه، وقال : لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، لنكلوا عن العمل، هذا : وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوماً .
فصل : ولفظ : الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ، الواردة في الكتاب، والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ؛ والأول : هو الأصل عند الأصوليين ؛ والثاني : لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية، أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) الآية [ إبراهيم :4] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ النحل :43-44] . وكذلك : اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق، والثناء، غير المعنى المراد، في مقام الأمر، والنهي ؛ ألا ترى : أن الزاني، والسارق، والشارب،(1/451)
(ص471) ونحوهم، يدخلون في عموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) الآية [ المائدة :6] وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) الآية [ الأحزاب :69] وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) [ المائدة :106] ولا يدخلون في مثل قوله : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) [الحجرات:15] وقوله (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) الآية [ الحديد :19] . وهذا : هو الذي أوجب للسلف، ترك تسمية الفاسق، باسم الإيمان، والبر ؛ وفي الحديث : " لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، وهو مؤمن " وقوله : " لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه " لكن نفى الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد، على الخوارج، والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء ؛ فافهم هذا، فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام .
وأما : إلحاق الوعيد المرتب، على بعض الذنوب، والكبائر، فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة، في الدور(1/452)
(ص472) الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد، كما أطلقه القرآن، والسنة، فهم يفرقون، بين العام المطلق، والخاص المقيد ؛ وكان عبد الله حمار، يشرب الخمر، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل، وقال ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ط لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " مع : أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه .
وتأمل : قصة حاطب بن أبي بلتعه، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه : أنه كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم، تحمي أهله، وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب : ظعينة، جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، والزبير، في طلب الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة : خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من صفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له : " ما هذا " ؟ فقال : يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا(1/453)
(ص473) رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم : " صدقكم، خلوا سبيله " واستأذن عمر، في قتله، فقال : دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال : " وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) الآيات .
فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، معه أن في الآية الكريمة، ما يشعر : أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله : " صدقكم، خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، وإذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب ؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال : خلوا سبيله .
ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم :" ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول : لو كفر لما بقي من حسناته، ما يمنع من لحاق الكفر، وأحكامه ؛ فإن الكفر : يهدم ما قبله، لقوله تعالى : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة :5] وقوله : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [الأنعام:(1/454)
(ص474) (474) 88] والكفر، محبط للحسنات والإيمان، بالإجماع ؛ فلا يظن هذا .
وأما قوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) [ المائدة : 51] وقوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [ المجادلة : 22] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [ المائدة : 57 ] فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة .
وأصل : الموالاة، هو : الحب والنصرة، والصداقة ودون ذلك : مراتب متعددة ؛ ولكل ذنب : حظه وقسطه، من الوعيد والذم ؛ وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفى غيره وإنما أشكال الأمر، وخفيت المعانى، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا مممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن
ولهذا : قال الحسن رضى الله من العجمة أتوا وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد، لما ناظرة في مسألة خلود أهل الكبائر في النار واحتج ابن عبيد : أن هذا وعد والله لا يخلف وعده يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود فقال له ابن(1/455)
(ص475) العلا : من العجمة أتيت ؛ هذا وعيد لا وعد وأنشد قول الشاعر :
وإنني وإن أوعدته أو وعدته ... ... ... لمخلف إيعادى ومنجز موعد
وقال : بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غير : إن من سعادة الأعجمي، والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة وأن من شقاوتهما : أن يمتحنا ويسرا لصاحب هوى وبدعة .
ونضرب لك مثلاً ،هو : أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما خارجي والآخر مرجىء قال الخارجي : إن قوله : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) [ المائدة : 2] دليل على حبوط أعمال العصاة، والفجار وبطلانها إذ لا قائل : انهم من عباد الله المتقين ؛ قال المرجىء : هي في الشرك، فكل من اتق الشرك يقبل منه عمله لقوله تعالى (من جاء الحسنه فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160] قال الخارجي : قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ) [ الجن : 23 ] يرد ما ذهبت إليه .
قال المرجىء، المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] قال الخارجي، قوله ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً ) [ السجدة : 18 ] دليل(1/456)
(ص476) عل أن الفساق من أهل النار خالدين فيها : قال له المرجىء، قوله في آخر الآية : ( وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) [ السجدة : 20 ] دليل : على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق، من أهل القبلة، مؤمن كامل الإيمان .
ومن وقف : على هذه المناظرة، من جهال الطلبة والآعاجم، ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب، وأما البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم، وأذواقهم .
وقد بلغني : أنكم تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد : ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ) [ محمد : 26 ] على بعض ما يجرى من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ولم تنظر لأول الآية وهى قوله : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) [ محمد : 25 ] ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة وفي قصة : صلح الحديبية، وما طلب المشركين واشترطوه(1/457)
(ص477) وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفى في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم .
فصل :
وهنا أصول، أحدها : أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص، الواردة في كتاب الله في : باب معرفة حدود ما انزل الله كمعرفة المؤمن والكافر والمشرك والموحد والفاجر والبر والظالم والتقى وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجبها وكذلك الزكاة فإن لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشترط الحول في بعضها ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا بيان السنة وتفسيرها .
وكذلك : الصوم، والحج، جاءت السنة بيانهما وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك : أبواب الربا وجنسه ونوعه، وما يجرى فيه، وما لا يجرى والفرق بينه، وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان : أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم براوية الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى(1/458)
(ص478) رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن : أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه، باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني : التنزيل والقرآن .
الأصل الثاني : أن الإيمان أصل، له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيماناً فأعلاها : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها : ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادتين ومنها : ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبين، شعب متفاوتة، منها : ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب ومنها ما يلحق إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها .
وكذلك الكفر : أيضاً، ذو أصل، وشعب فكما أن شعب الإيمان : إيمان فشعب الكفر : كفر والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف ؛ وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ،أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف(1/459)
(ص479) الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء
الأصل الثالث: أن الإيمان مركب من قول وعمل والقول : قسمان قول القلب، وهو اعتقاده وقوله اللسان وهو المتكلم بكلمة الإسلام ؛ والعمل قسمان : عمل القلب، وهو : قصده، واختاره، ومحبته، ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة، والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا : محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يزول ؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر ؟ وهل : يفرق بين الصلاة، وغيرها أو لا يفرق
فأهل السنة : مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو : محبته، ورضاه وانقياده والمرجئة تقول يكفى التصديق، فقط ويكون به مؤمناً والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة والمعروف عند السلف تكفير وقوله اللسان وهو المتكلم بكلمة الإسلام ؛ والعمل قسمان : عمل القلب، وهو : قصده، واختاره، ومحبته، ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة، والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا : محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يزول ؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر ؟ وهل : يفرق بين الصلاة، وغيرها أو لا يفرق(1/460)
فأهل السنة : مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو : محبته، ورضاه وانقياده والمرجئة تقول يكفى التصديق، فقط ويكون به مؤمنا والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والقول الثاني : أنه لا يكفر إلا من جحدها .(1/461)
(ص480) والثالث : الفرق بين الصلاة وغيرها وهذه الأقوال معروفة ؛ وكذلك المعاصي، والذنوب التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها : بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك وبين ما سماه الشارع كفراً وما لم يسمه هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة : مبسوطة في أماكنها .
الأصل الرابع : أن الكفر نوعان كفر عمل وكفر جحود وعناد، هو : أن يكفر بما علم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وأما : الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدى كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض " وقوله : " من أتى كاهناً فصدقه، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " فهذا : من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وإن كان الكل يطلق عليه : الكفر .
وقد سمى الله سبحانه : من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به(1/462)
(ص481) قال تعالى : (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) إلى قوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) الآية [ البقرة 84-85] فأخبر تعالى أنهم أقروا بميثاقه، الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به ؛ وأخبر : أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ عليهم ثم أخبر : أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب وكانوا مؤمنين، بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه .
فالإيمان العملي : يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي : يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " ففرق بين سبابه، وقتاله وجعل أحدهما فسوق، لا يكفر به، والآخر كفراً ومعلوم : أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادى وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب، من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان .
وهذا : التفصيل، قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم والمتأخرون : لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين ؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابهم بالخلود في النار وفريق : جعلوهم مؤمنين(1/463)
(ص482) كاملي الإيمان، فأولئك غلوا هؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44] قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه رواه عن سفيان وعبد الرازق وفي رواية أخرى : كفر لا ينقل عن الملة وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق .
وهذا : بين في القرآن، لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسول كافراً، وليس الكفران على حد سواء وسمى الكافر ظالما، وفى قوله : ( والكافرون هم الظالمون ) [ البقرة : 254] وسمى من يتعد حدوده في النكاح، والطلاق والرجعة والخلع، ظالماً وقال : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) [ الطلاق :1] وقال يونس عليه السلام : ( إنى كنت من الظالمين ) [ الأنبياء :87] وقال آدم عليه السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] وقال موسى : ( رب إني ظلمت نفسي ) [ القصص : 16 ] وليس هذا الظلم / مثل ذلك الظلم ؛ وسم الكافر فاسق، في قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ البقرة : 26 ] وقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) [ البقرة : 99 ] وسمى(1/464)
(ص483) العاصي فاسقاً، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) [ الحجرات :6] وقال في الذين يرمون المحصنات : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ النور:4] وقال : _ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) [ البقرة :197 ] وليس الفسوق، كالفسوق .
وكذلك : الشرك، شركان ؛ شرك : ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر ؛ وشرك : لا ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر ، كشرك الرياء ؛ وقال تعالى، في الشرك الأكبر : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [ المائدة :72] وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ) الآية [ الحج:31] وقال تعالى، في شرك الرياء : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف :110] وفي الحديث : " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " وفي الحديث : " من حلف بغير الله، فقد أشرك " ومعلوم : أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار ؛ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " فانظر : كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة .
وكذلك : النفاق، نفاقان ؛ نفاق اعتقادي ؛ ونفاق عملي ؛ والنفاق الاعتقادي : مذكور في القرآن، في غير(1/465)
(ص484) موضع، أوجب لهم تعالى به : الدرك الأسفل من النار ؛ والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها ؛ إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان " وكقوله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث " إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " قال بعض الأفاضل : وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، انتهى .
الأصل الخامس : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيها ؛ وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث :" اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت " وحديث : " من حلف بغير الله فقد كفر " ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق .
فمن عرف : هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم،(1/466)
(ص485) وقلة تكلفهم ؛ قال ابن مسعود : من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ؛ قوم : اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ؛ وقد كاد الشيطان بنى آدم، بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأبيهما ظفر أحدهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط والثاني هو الإعراض، والترك والتفريط .
قال ابن القيم : لما ذكر شيئاً من مكائد الشيطان قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير وأما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأبها ظفر وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعد رحمه الله كثيراً من هذا النوع إلى أن قال وقصر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلاً عن أبى بكر وعمر وتجاوز بأخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة .(1/467)
(ص486) وهذه رسالة، كتبها : الشيخ عبد الطيف بن عبد الرحمن، على لسان الإمام : فيصل رحمه الله إلى أهل البحرين، هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى الأخ، الشيخ راشد بن عيسى، سلمه الله وهداه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فالموجب لتحريره، ما بلغنا من ظهور : البدع في البحرين ؛ بدعة الرافضة، وبدعة الجهمية، وذلك بسبب تقديم : حسن دعبوش، الرافضي، الجهمي، ونصبه قاضياً في البحرين، ومثلك : ما يدخر النصح، والتبيين، لعيال : خليفة، وغيرهم ؛ وتعرف الحديث الصحيح " أبغض الناس إلى الله ثلاثة، ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرىء مسلم بغير حق، ليهريق دمه " رواه ابن عباس .
وقد علمت : أن الله أكرم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وخصه بصحبة خير خلقه، وخلاصة بريته وقد : أثنى الله على أصحاب نبيه في كتابه، ومدحهم بما هو حجة ظاهرة، على إبطال مذهب من عابهم، أو نال منهم، وسبهم ؛ كما هو مذهب الرافضة، وقال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس(1/468)
(ص487) تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)الآية [ آل عمران :110] وقال : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) الآية [ التوبة :117] قال : (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [ الفتح :18] وقد كانوا ألفا وأربعمائة، أولهم وأسبقهم إلى هذه البيعة : أبو بكر، وعمر ؛ وعثمان، بايع له النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته، وهذا يدل على فضله، وثبات إيمانه ويقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه ذلك، واستقر عنده، ولذلك بايع له، فضرب بيمينه على شماله، وقال : " هذه عن عثمان " وقال تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم )[ التوبة :100] وهذا نص : أن الله رضي عن السابقين الأولين، من المهاجرين، والأنصار ؛ وأبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وبلال، من أسبق الناس إلى الإيمان بالله ورسوله ؛ وقال تعالى : (والسابقون السابقون، أولئك المقربون ) [ الواقعة :10-11] وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) الآية [ الفتح:29] وقد استدل بهذه الآية : بعض أهل العلم، على كفر من اغتاظ، وحنق، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالرافضة .
وقد : نص الله تعالى، على إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله : ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم ) الآية [آل عمران :124] وقوله تعالى : ( لقد(1/469)
(ص488) منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ) الآية [ آل عمران :164] وقال تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) [التوبة :122] وإنما عنى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه مدحهم، وتزكيتهم، وفضلهم، لأن اسم الإيمان، وإطلاقه في كتاب الله تعالى، يدل على ذلك ؛ وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) في خطابهم، وذلك في مواضع من كتابه .
والأحاديث : الدالة على فضلهم، وسابقتهم، أكثر من أن تحصر، عموماً، وخصوصاً، كقوله : فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم " هل أنتم تاركوا لي أصحابي ؟ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه " وقوله :" افترقت بنو إسرائيل، على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة " قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه، وأصحابي " وقال : " آية الإيمان : حب الأنصار ؛ وآية النفاق : بغض الأنصار " وقوله صلى الله عليه وسلم : " خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " وقوله صلى الله عليه وسلم :" أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم " وقوله :" يأتي على الناس زمان، فيغزوا فئام من الناس، فيقال لهم : أفيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ؛ فيفتح لهم ؛ ثم يأتي على الناس زمان، فيغزوا فئام من الناس، فيقال : هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ؛ فيفتح ؛ زاد بعضهم : حتى يأتي على الناس زمان، فيغزوا فئام من(1/470)
(ص489) الناس، فيقال : هل فيكم من صحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وقال أيضاً :
وأما أهل البدع، فمنهم : الخوارج ؛ الذين خرجوا على أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، رضي عنه، وقاتلوه ؛ واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم، متأولين في ذلك ؛ وأشهر أقوالهم : تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم : يكفرون أهل الكبائر، والمذنبين من هذه الأمة ؛ وقد قاتلهم : علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وصحت فيهم الأحاديث ، روى منها مسلم : عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان ؛ وفي الحديث : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله ".
ومن أهل البدع : الرافضة، الذين يتبرؤون من أبي بكر، وعمر ؛ ويدّعون موالاة أهل البيت، وهم أكذب(1/471)
(ص490) الخلق، وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين ؛ وزادوا في رفضهم، حتى سبّوا أم المؤمنين، رضي الله عنها وأكرمها ؛ واستباحوا : شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً يسيراً، وأضافوا إلى هذا : مذهب الغالية، الذين عبدوا المشائخ، والأئمة، وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه سبحانه، ويختص به، من : التأله، والتعظيم، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات ؛ وغلاتهم : يرون أن علياً ينزل في آخر الزمان ؛ ومنهم من يقول : غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي ؛ وهم جهمية في : باب صفات الله ؛ زنادقة، منافقون في : باب أمره، وشرعه .
ومن أهل البدع : القدرية، الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم ؛ ومنهم : القدرية المجبرة، الذين يقولون : إن العبد مجبور، لا فعل له، ولا اختيار .
ومن أهل البدع : المرجئة، الذين يقولون : إن الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد لا يتفاضل .
ومن أهل البدع، وأكفرهم : الجهمية، الذين ينكرون صفات الله تعالى، التي جاء بها القرآن، والسنة ويؤولون ذلك، كالاستواء، والكلام والمجيء، والنزول، والغضب، والرضى ؛ والحب، والكراهة، وغير ذلك من(1/472)
(ص491) الصفات، الذاتية، والفعلية .
ومن أهل البدع الضالين : أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية، والقادرية، والبومية، وأمثالهم، كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة، لا أصل لها في الكتاب، والسنة .
وله أيضاً، رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، الشيخ : محمد بن سليمان، آل عبد الكريم، البغدادي، وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه ؛ سلام عليكم ورحمه الله وبركاته .
وبعد : فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير ؛ والكتاب الكريم : وصل إلينا، وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته، وأوليائه ؛ وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه، المرة، بعد المرة، وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك، من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب : معرفة دين الإسلام، والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون، من الشرك، من الشرك الصراح، والكفر البوح، من دعاء الموتى، والغائبين، والاستغاثة بهم، في كشف شدائد المكروبين،(1/473)
(ص492) ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، عدلاً منهم بالله رب العالمين .
وصرف : خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد، والشركاء، والوسائل، والشفعاء، بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية، والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم ؛ ولم ينج من شرك هذا الشرك، إلا الخواص، والأفراد، والغرباء في سائر البلاد ؛ وذلك مصداق ما أخبر به الصادق، بقوله : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " قال بعض الأفاضل، من أزمان متطاولة : الإسلام في وقتنا، أشد منه غربة في أول ظهوره .
قلت : وذلك أنه في أول وقت ظهوره، يعرفه الكافرون، والمنكرون له، كما قال تعالى، حاكياً عنهم أنهم قالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ ص:5] وأكثر المنتسبين إلى الإسلام، في هذه الأزمان، يعتقدون، أنه هو الاعتقاد في الصالحين، ودعوتهم، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم، بأنواع العبادات، كالذبح، والنذر، والحلف، وغير ذلك من أنواع الطاعات ؛ وذلك : لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم، فتراهم عند تجريد التوحيد، يقولون : هذا مذهب خامس، لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه، واعتادوه، لا(1/474)
(ص493) سيما إذا ساعد العادة : الاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين ؛ وهو عند الله، معدود في زمرة الجاهلين، والمشركين ؛ فهذا، وأمثاله، هم الحجاب الأكبر، بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب، والسنة، وما فيهما من الدين والهدى .
ثم أكثرهم : قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه الشرك في الإلهية فادعى : أن للأولياء، والصالحين، شركة، في التدبير، والتأثير ؛ وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير ؛ وأوحى إليهم إبليس اللعين، أن هذا من أحسن الاعتقاد في الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين، تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، و (سبحان الله رب العرش عما يصفون ) [ الأنبياء :22] .
وحيث من الله عليك، بمعرفة : الهدى، ودين الحق ؛ وظهر لك ما هم عليه، من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى، وقم بشكرها ؛ وأكثر من حمد ربك، والثناء عليه ؛ واحرص : أن تكون إماماً في الدعوة إليه تعالى، وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا : أرفع منازل أولياء الله، وخواصه من خلقه ؛ فاغتنم يا أخي، مدة حياتك، لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، في جنات عليه .(1/475)
(ص494) وتأمل : ما عند إخوانك، من الطلبة في القصيم، من رسائل مشايخ الإسلام، الداعين إلى الله على بصيرة، والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون، في هذا الزمان، وفقهم الله، وكثّر في قلوبهم الإيمان .
وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء، والاجتماع بنا، فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوى ما بيننا من العبد والفراق .
وله : أيضاً، رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم : منيف بن نشاط، سلمه الله تعالى، وشد حبله بالعروة الوثقى، وأناط، ومن عليه بالتزام التوحيد، والفرح به، والاغتباط، السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته
وبعد : فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، وأساله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به إلا قضية الربانية والمقادير ؛ وأحوالنا على ما تعهد، من الصحة والسلام وترادف النعم لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم(1/476)
(ص495) والتقصير ؛ نشكوا إلى الله قلوبنا القاسية ونفوسنا الظالمة فنعم المشتكى، ونعم المولى، ونعم النصير ،
وكتابك : وصل إلينا، مع النظم اللطيف الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه، وإعلامه بصحبتكم وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم ؛ فالحمد لله على اللطف، والتسديد ومعرفة حقه سبحانه وما يجب له على العبيد .
فاجتهد في طلب العلم وتعليمه والدعوة إلى دين الله، وسبيله فإنك في زمان : قٌبض فيه العلم وفشا الجهل، وبدل الدين وغيرت السنن لا سيما : أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين في : باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق من أعرض، وجحد حتى عطلوا صفات الله تعالى، التي وصف بها نفسه وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه وكلامه وتكليمه، ومحبته، وخلته، ورضاه، وغضبه، ومجيئه ونزوله، فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضوعها، وصرفوها عن دلالتها، وكذلك الحال في : باب عبادته، وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده فأكثر الناس، والمنسبين إلى الإسلام، ضلوا في هذا(1/477)
(ص496) الباب، فصرفوا للأولياء، والصالحين، والقبور، والأنصاب، والشياطين، خالص العبادة، ومحض حق رب العالمين ؛ كالحب، والدعاء، والاستغاثة، والتوكل، والإجلال، والتعظيم، والذل، والخضوع ؛ بل غلاتهم، صرّحوا : بإثبات التدبير، والتصريف لمعبوادتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الألهية، والشرك في الربوبية، وهذا الأمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به، ويفتخرون، ويدعون أنهم من أهل الإسلام، إلا أنهم هم الكاذبون، وهذا الشرك، لم يصل إليه شرك جاهلية العرب ؛ وقد جرى كما ترى، من أناس يقرؤون القرآن، ويدعون أنهم من اتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد .
وكذلك : باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول، والفروع، قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة، والمرجع، إلى أقوال من يعتقدون علمه، من المنتسبين، والمدعين ؛ ولو تكلم أحدٌ بإنكار ذلك، لَعُدَّ عندهم من البله والمجانين، هذه أحوال جمهور المتشرعين، والمتدينين ؛ فهل ترى فوق هذا غاية، في غربة الحق والدين فعليك بالجد، والاجتهاد، في معرفة الإيمان، وقبوله، وإيثاره، والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك، والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق، جيلاً بعد جيل .(1/478)
(ص497) وأما : ما ذكرته، عن الإعراب : من الفرق، بين من استحل الحكم بغير ما انزل الله، ومن لم يستحل ؟ فهذا هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع، عند أهل العلم، والسلام .
وسئل الشيخ : عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، بن حسن عن السمت والهدى، والتؤدة ......الخ .
فأجاب : الأحاديث التي سألت عن معناها، قد تكلم عليها بعض العلماء بما حاصله : إن السمت، والهدى في حالة الرجل، في مذهبه وخلقه ؛ واصل السمت، في اللغة : الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل، وطريقته في المذهب والخلق ؛ والاقتصاد ؛ سلوك القصد في الأمر والدخول فيه برفق ؛ وعلى سبيل يمكن الدوام عليه ؛ وأما : التؤدة، فهي التأنى، والتمهل، وترك العجلة ؛ وسبق الفكر، والروية للتلبس في الأمور .
وأما : كون هذه الخصال، جزءا من أربعة وعشرين جزءا من النبوة، فقد قيل إن هذه الخلال، من شمائل الأنبياء عليهم السلام، ومن الخصال: المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها قالوا : وليس معنى الحديث، أن النبوة ؛ تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزءاً من النبوة فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه، من عباده ( الله اعلم(1/479)
(ص498) حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وقد انقطعت النبوة، بموت محمد صلى الله عليه وسلم .
وفيه وجه آخر ؛ وهو : أن يكون معنى النبوة ههنا، ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعنى : أن هذه الخلال، جزء، من أربعة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم وقد أمرنا باتباعهم، في قوله عز وجل : (فبهداهم اقتده) [ الأنعام : 90] قالوا : وقد يحتمل وجها آخر ؛ وهو : أن من اجتمعت له هذه الخصال، لقيه الناس بالتعظيم، والتوقير وألبسه الله لباس التقوى، الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة ؛ قلت : وما قبل هذا، أليق بمعنى الحديث .
وأما حديث : " الرؤيا حق " فقيل معناه : تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده وهو جزء من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، دون غيرهم لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى : (إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر) [الصافات :102] .
وأما تحديد الأجزاء، بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال بعض أهل العلم : إنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظه، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم ؛ وكانت مدة(1/480)
(ص499) الوحي، ثلاثاً وعشرين سنة، منها نصف سنة في أول الأمر، يوحى إليه في منامه، ونسبة الستة الأشهر، لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ؛ وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث، قال، معناه : أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء من باقي النبوة ؛ وقال بعضهم : إنها جزء من أجزاء علم النبوة، وعلم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات، وهي : الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له .
وعندي : أن النبوة - التي هي الوحي بشرائع الأنبياء - عبارة عن نبأ، أو شأن عظيم في القوة وإفادة اليقين ؛ والرؤيا الصالحة - التي هي من أقسام الوحي - جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم، من ستة وأربعين جزءاً، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل، المستجمع لجميع الأجزاء، فلا محذور، ويمكن أن يقال هذا فيما تقدم، من قوله : " الهدى الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة " هذا ما ظهر لي، والله أعلم .
وسئل : عن الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والمشائين :
فأجاب : أما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والفلاسفة المشائين، فذكر شارح : رسالة ابن زيدون، أن المشائين : أفلاطون، ومن اتبعه ؛ وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم(1/481)
(ص500) فيها، وأمر بالرياضة، والمشي، لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي، والرياضة، عند المذاكرة في مسائل الطبيعة، فسموا مشائين لهذا .
وأما الإلهيون، فهم : قدماؤهم من أهل النظر، والكلام في الأفلاك العلوية، وحركاتها، وما يزعمون، وينتحلونه، من إفاضتها، وتأثيرها ؛ وفي اللغة : إطلاق الإله، على المدبر والمؤثر، كما يطلق على المعبود ؛ وقد عرفتُ : أن جمهورهم، وقدماءهم : ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب، وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل .(1/482)
(ص501) وهذه رسالة، أملاها الشيخ : عبد اللطيف، بن الشيخ عبد الرحمن، على لسان راشد بن عبيد الله الغزي، لما أخبره بالمناظرة، التي وقعت بينه وبين إبراهيم خيار ؛ قال : لعلها تكون سبباً لرجوعه إلى الحق .
بسم الله الرحمن الرحيم
من راشد بن عبيد الله الغزي، إلى الشيخ إبراهيم خيار، وفقنا الله وإياه لاتباع السنة النبوية، والأخيار، وبعد إبلاغ السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، نعرفكم : أنا وصلنا الرياض، بالسلامة، وبحثنا عن نقض كلام، داود بن جرجيس، فوجدنا ثلاث نسخ، كل نسخة لواحد من المنتسبين إلى الدين، من أهل تلك البلاد النجدية، وسمعت كثيراً من ردهم ونقضهم، فوجدتهم : قد أوردوا من الحجج، والأدلة، والبراهين، ما لا يقاومه أحد، ولا يستطيع ذلك مجادل ؛ فإنهم احتجوا على وجوب إخلاص الدين لله، وإفراده بالعبادة، والدعاء، والاستغاثة، والاستجارة، بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الأمة ، وما درج عليه القرون المفضلة، بنص الحديث .
فقام الدليل، واتضح السبيل، في حكم أبيات البردة، وتشطير، داود، لها، وهي قوله : يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك - البيت - وقوله: فإن من جودك الدنيا(1/483)
(ص502) وصرتها - البيت - وبينوا ما في هذه الأبيات، وتشطيرها من البشاعة، والشناعة، والجهالة، وقرروا : أن هذا من الغلو، الذي ذمه الله ورسوله ؛ وتكرر النهي عنه، وهو يشبه غلو النصارى، من بعض الوجوه .
فإن الله هو الذي يستحق أن يُلاذ، ويعاذ، ويستجار به ؛ وهو الذي أوجد الدنيا، والآخرة، وهما من جوده، لا من جود أحد سواه، وهو العالم بجميع الغيب، أحاط علمه بكل شيء، لا يصلح أن يكون المخلوق - وإن علت درجته، كالأنبياء والملائكة - مساوياً، ومماثلاً لله تعالى، في صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، تعالى الله عن ذلك، وبسط الكلام يطول، وأنا أحب لك الخير، وأن لا تهلك مع من هلك، فلذلك كتبت لك، طمعاً في انصافك، وتأملك .
وبالجملة، فعقيدة القوم : تحكيم الكتاب، والسنة والأخذ بأقوال سلف الأمة ، وأئمتها، كالأئمة الأربعة، وأمثالهم، في باب : وجوب إخلاص العبادة لله ومحبته، والإنابة إليه، وتعظيمه، وطاعته ؛ وفي باب معرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله، فيثبتون له ما أثبته الله تعالى لنفسه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل ؛ فهم على طريقه السلف ؛ وما قاله، مالك، رحمه الله، يجري عندهم، في الاستواء، وفي غيره .
وكذلك : ينكرون، ويكفرون، من قال : بأن لأرواح المشائخ تصرفات بعد الممات، وأن ذلك لهم على سبيل(1/484)
(ص503) الكرامات، فإن هذا من أشنع : الأقوال المكفرة، وأضلها ؛ لمصادمة الكتاب المصدق، ولما فيه من الشرك المحقق ؛ وكذلك : ينكرون التعبد بالبدع، التي لم يشرعها الله ولا رسوله من كل فعل أو قول تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه أصحابه، مع قيام المقتضى الموجب له، لو كان مشروعاً .
ويشددون في النهي عن وسائل الشرك وذرائعه، كبناء المساجد على القبور، والصلاة عندها، وإيقاد السرج عليها، والعكوف لديها، واتخاذ السدنة لها، واتخاذها أعياداً تزار، وتقصد في يوم معلوم، ووقت مرسوم ؛ فإن هذا فيه من روائح الشرك، ووسائله، ما لا يخفى .
ومن أصولهم : أنهم يقولون بوجوب رد ما تنازعت فيه الأمة ، إلى كتاب الله، وسنه رسوله، ولا يقبلون قولاً مجرداً عن دليل ينصره وبرهان يعضده، بمجرد نسبته إلى شيخ، أو متبوع غير الرسول، لا سيما : من خالف هدى القرون المفضلة، وما درج عليه أوائل هذه الأمة ، فإنهم يشددون على من خالفهم ؛ وأما : أمرهم بأركان الإسلام، والتأديب على تركها، والحث على فعلها، فأمرُ مشهور، لا ينكره الخصم .
وقد جرى : بيني وبينك، في مسألة الاستواء مذاكرة، وقلت لي : إن معنى استوى، استولى، وأنشدتنا في ذلك قول الشاعر : قد استوى بشر على العراق .. البيت فأخبرت بكلامك بعض مشائخنا، فعجب منه، وقال : هذا(1/485)
(ص504) قول باطل مردود بوجوه كثيرة .
منها : أنه لا يقال استوى، بمعنى الاستيلاء، إلا إذا سبق ذلك مغالبة، وخروج، عن الاستيلاء ،كما في البيت . ومنها : أن هذا البيت مولد، لا يحتج به . ومنها : أن المعروف في اللغة، يبطل هذا، كما قال تعالى : ( واستوت على الجودي ) [ هود :44] وقال : (ثم استوى إلى السماء ) [ البقرة :29] ولا يصلح : أن يراد بالآيتين الاستيلاء، وقال تعالى : ( لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) [ الزخرف :13] ولا يصلح : أن يكون بمعنى الاستيلاء، وخير ما فسر كتاب الله، بما ورد، وبعضه يبين بعضاً .
والبيت : معارض، بقول الشاعر :
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا : لا يجوز أن يتأول فيه أحد، استولى ؛ لأن النجم لا يستولي .
وقد ذكر النضر بن شميل، وكان ثقة مأموناً، جليلاً في علم الديانة واللغة، قال حدثني، الخليل، وحسبك بالخليل، قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال : استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال ؛ فقال لنا أعرابي إلى جانبه : إنه أمركم أن ترتفعوا، فقال الخليل، هو(1/486)
(ص505) من قوله الله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ فصلت :11] فصعدنا إليه، ولا يصلح هنا الإستيلاء .
ومن صرف كلام الله عن حقيقته وظاهره، لمجرد كلام بعض المولدين، وترك تفاسير الصحابة، وأهل العلم، والإيمان، فهو : إما زائغٌ ؛ وأما جاهل، في غاية الجهالة .
ومن زعم : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين للأمة ما يراد من هذه الآيات، وما يعتقدونه في ربهم، فهو من أضل الناس، وأجهلهم ؛ بل هذا : محال شرعاً، وعقلاً ؛ كيف يبين كل شيء، حتى الخراءة ويدع أصل الأصول ملتبساً لا يبينه ولا يعلمه أمته حتى يجيء بعض الخلف، ويبينون للأمة العقيدة الصحيحة في ربهم ؟والرسول وأصحابه : قد أعرضوا عن ذلك، ولم يبينوه ؟ وهذا لازم لقولكم، لزوماً لا محيد عنه .
ومستحيل أيضاً : أن يكون الرسول، وأصحابه، غير عالمين بالحق في هذا الباب، وأن الخلف أعلم من السابقين الأولين، ومن التابعين، وتابعيهم، من أهل القرون المفضلة، كالأئمة الأربعة، ومن ضاهاهم من أئمة الدين، وأعلام الهدى .
قالوا لنا : ومشائخ الأشاعرة، والكرامية، والمعتزلة، يعترفون : أن قولهم لم يقله السلف، ولم ينقل عنهم، ولذلك يقول جهالهم : طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم(1/487)
(ص506) وأحكم ؛ لأنهم يظنون : أن السلف بمنزلة الأميين، الذين لم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، ولم يعرفوا حقيقة ما يعتقدونه في ربهم ومعبودهم، وأن الخلف : حازوا قصب السبق في ذلك
قالوا لنا : والإشارة بالخلف، في قولهم : الخلف أعلم، إلى طائفة من أهل الكلام ،الذين اعترفوا على أنفسهم بالحيرة، وذم ما هم عليه من الخوض في الجواهر والأعراض، قالوا ومن أشهر مشائخهم :أبوا المعالي الجويني ؛ وهو القائل : لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام، وعلومهم، والآن : إن لم يتداركني الله برحمته، فالويل لابن الجويني ؛ قال : وها أنا أموت على عقيدة أمي .
قال بعض السلف : أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام ؛ وأنت خبير : بأن من ترك مذهب السلف، وأخذ بمذهب الخلف، إنما يحمله على ذلك شُبه أهل الكلام وأقيستهم، أو تقليدهم، ولم يترك مذهب السلف لدليل من كتاب أو سنة .
ومن حق الكلام : أن يحٌمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أُنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى، إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله تعالى، على الأشهر، والأظهر من وجوهه ما لم يمنع ذلك ما يجب له التسليم، قال تعالى : ( فسيحوا في الأرض )(1/488)
(ص507) [ التوبة : 2 ] أي : على الأرض، وقيل لمالك : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] كيف استوى ؟ قال مالك – رحمه الله لسائله : استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة ؛ وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء .
قال أبو عبيدة، في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) أي : علا، قال وتقول العرب : استويتُ فوق الدابة، وفوق البيت ؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدّع ما ثبت شيء من العبادات وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب ،من معهود مخاطبتها مما يصح معناه عند السامعين ؛ وكل ما قدمتُ دليل واضح، في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وأن استوى بمعنى : استولى، لإن الاستيلاء في اللغة المغالبة، وهو سبحانه لا يغالبه أحد والاستواء معلوم في اللغة : وهو : العلو والارتفاع، والتمكن .
قال الإمام محي السنة : أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، الشافعي، صاحب : معالم التنزيل عند قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) [ الأعراف : 54 ] قال الكلبي ومقاتل : استقر ؛ وقال ابو عبيدة : صعد ،قلت : لا يعجبني قوله : استقر، بل أقول كما قال الإمام مالك : الاستواء معلوم، والكيف مجهول ؛ ثم قال البغوي : وأولت المعتزلة الاستواء، بالاستيلاء وأما أهل السنة فيقولون الاستواء على العرش، صفة لله بلا كيف يجب الإيمان به واعلم أن القصد بهذا : مناصحتك، ودعوتك إلى الله(1/489)
(ص508) لعل الله أن يمنّ عليك بالرجوع اليه، ومعرفة الحق، والعمل به ؛ وعليك بالتفكير والتدبير والدعاء بدعاء الاستفتاح الذي أخرجه مسلم في صحيحه : " اللهم رب جبريل ومكائيل، وإسرافيل إلى آخره " .
وقال أيضاً : الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن :
حديث عبادة : حديث عظيم، جليل الشأن، من أجمع الأحاديث لأصول الدين وقواعده ؛ لأن شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، فيها، الألهيات ؛ وهي : الأصول الثلاثة، توحيد الألهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ؛ وهذه الأصول تدور عليها أديان الرسل وما أنزل إليهم وهي الأصول العظام الكبار، التي دلت عليها، وشهدت بها : العقول، والفطر ؛ وفي شهادة : " أن محمداً رسول الله " الإيمان به وبجميع الرسل لما بينهما من التلازم وكذلك الإيمان بالكتب، التي جاءت بها الرسل
وفي شهادة :" أن عيسى عبد الله " ردٌّ، على النصارى، وإبطال مذهبهم، وفي قوله :" ورسوله " ردٌّ، على اليهود، وتكذبيهم، بما نسبوه إلى عيسى وأمه ؛ وأما قوله :" وكلمته ألقاها إلى مريم " فسماه كلمة، لأنه كان بالكلمة من غير أب ،(1/490)
(ص509) هذا دين المرسلين، خلافاً للنصارى، القائلين هو نفس الكلمة، وهم من أضل الخلق وأضعفهم عقولاً ؛ لأنهم لم يفرقوا بين الخلق، والأمر ؛ قال تعالى (ألا له الخلق والأمر) [الأعراف:54] ففرق تعالى بين خلقه وأمره ؛ ومنه رد السلف، والأئمة على من قال :" القرآن مخلوق .
وفي قوله : " وروح منه " كشف شبهة النصارى، القائلين بإلهية عيسى، وأنه من ذات الله، لأن في هذا الحديث، أنه روح من جملة الأرواح المخلوقة، المحدثة، فهو منه خلقاً، وإيجاداً، وليس من ذاته، كما قالت النصارى ؛ ومثله، قوله تعالى : (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) [ الجاثية :13] فـ"منه" هنا، وفي الحديث، وفي آية النساء، بمعنى واحد، وهو خلقه وإيجاده .
وفي قوله : " وأن الجنة حق، والنار حق " الإيمان بالوعد، الوعيد، والجزاء بعد البعث ؛ وفيه : الإيمان بالساعة ؛ وفيه : الإيمان بالبعث بعد الموت، وأن ذلك لحكمة، وهي : ظهور مقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، من إثابة أوليائه، وكرامتهم ؛ وعقاب أعدائه، وإهانتهم ؛ وظهور حمده، واعتراف جميع خلقه له، به .(1/491)
(ص510) وله أيضاً : رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ صالح آل عثمان، سلمه الله، وحفظه من طائف الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد : فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من الأنعام ، جعلنا الله وإياك من أوليائه، الذاكرين الشاكرين .
وأما المسألة : التي سألت عنها، في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " فمن أحسن ما قيل في معناه، قول العلامة : ابن القيم، رحمه الله تعالى، في باب المعانية، من شرح المنازل، لما تكلم على ما يزعمه القوم، من إدراك نفس الحقيقة، والأنوار التي يجدونها، وأنها أمثلة وشواهد .
قال : وحقيقتها، هي وقوع القوة العاقلة، على المثال العلمي، المطابق للخارجي، فيكون إدراكه له، بمنزلة إدراك العبد للصورة الخارجية ؛ وقد : يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن، بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضاره القوة العاقلة لمدركها، بحيث يستغرق فيه، ويغلب حكم القلب، على حكم الحس والمشاهدة، ويستولي على السمع، والبصر، بحيث يراه، ويسمع خطابه في الخارج، أو في(1/492)
(ص511) النفس والذهن، لكن، لغلبة الشهود، وقوة الإستحضار، وتمكن حكم القلب، واستيلائه على القوى : صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في ذلك، ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عذلاً .
وحقيقة الأمر : أن ذلك كله شواهد، وأمثلة علمية، تابعة للمعتقد - إلى أن قال - : وليس مع القوم إلا الشواهد، والأمثلة العلمية، والرقائق، التي هي : ثمرة قرب القلب من الرب وانسه، واستغراقه في محبته، وذكره واستيلاء سلطان معرفته عليه ؛ والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله : منزه مقدس، عن اطلاع البشر، على ذاته، وأنوار ذاته أو صفاته ؛ وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد الآخرة والجنة والنار وما أعد الله لأهلها .
وهذا : هو الذي وجده عبد الله بن حرام يوم أحد لما قال: واها لريح الجنة، إني لأجد ريحها دون أحد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مررتم برياض الحنة فارتعوا " وقوله :" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " فهي : روضة لأهل العلم والإيمان لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة، حتى كأنها لههم رأي عين ؛ وإذا قعد المنافق هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة فالعمل إنما هو على الشواهد وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله انتهى ملخصاً .
وبه : يظهر معنى الحديث، وان اختصاص هذا(1/493)
(ص512) المكان بكونه روضة من رياض الجنة، لما يقوم بقلب العبد من المثال والشاهد يقوى سلطانه هناك وتظهر ثمرته، ويجد المؤمن من لذته، وروحه، حتى كأنه رأي عين ؛ وفي هذا القدر كفاية، والله الموفق ؛ ولا تذخر عمارة مجلسك، بذكر الله، والدعوة إليه، ونشر العلم، الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلممن الكتاب، والحكمة، والله أعلم، وصلى الله على محمد .
وسئل رحمه الله : عن الفرق، بين القدر، والقضاء ؟ فأجاب : القدر في الأصل، مصدر قدر ؛ ثم استعمل في التقدير، الذي هو : التفصيل والتبيين ؛ واستعمل أيضاً : بعد الغلبة، في تقدير الله للكائنات، قبل حدوثها ؛ وأما القضاء : فقد استعمل في الحكم الكوني، بجريان الأقدار، وما كتب في الكتب الأولى ؛ وقد يطلق هذا، على القدر الذي هو : التفصيل والتمييز .
ويطلق القدر أيضاً : على القضاء، الذي هو الحكم الكوني، بوقوع المقدرات ؛ ويطلق القضاء، على الحكم الديني الشرعي ؛ قال الله تعالى : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ) [النساء:65] ويطلق القضاء، على الفراغ، والتمام ؛ كقوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة ) [ الجمعة:10] ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى : ( فاقض ما أنت قاض ) [ طه:72] ويطلق على : الإعلام ، والتقدم بالخبر، قال تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل )(1/494)
(ص513) [ الإسراء:4] ويطلق على الموت، ومنه قولهم : قضى فلان، أي : مات، قال تعالى : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ) [الزخرف:77] ويطلق على وجود العذاب، قال تعالى : ( وقضى الأمر ) [هود:44] ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) [طه:114] ويطلق على الفصل والحكم، كقوله وقضى بينهم بالحق ) [الزمر:75] ويطلق على الخلق، كقوله تعالى : ( فقضاهن سبع سموات ) [ فصلت :12] .
ويطلق على الحتم، كقوله تعالى : ( وكان أمراً مقضياً ) [مريم:21] ويطلق على الأمر الديني، كقوله : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء :23] ويطلق على بلوغ الحاجة، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم )
[ البقرة:200] والقضاء في الكل : مصدر ؛ واقتضى الأمر الوجوب، دل عليه، والاقتضاء، هو : العلم بكيفية نظم الصيغة ؛ وقولهم : لا أقضي منه العجب، قال الأصمعي : يبقى ولا ينقضي .
وسئل أيضاً، رحمه الله عن قوله : أسألك بمعقد العز من عرشك، ما معناه ؟
فأجاب : لا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المشروعة ؛ ولذلك، اختلف الناس فيه، فكره ابو حنيفة المسألة بمعقد العز ؛ وأجازها صاحبه أبو سيف، لأنه قد يراد بهذه الكلمة(1/495)
(ص514) المحل، أي محل المعقد، وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب، وزمانه ؛ وربما أريد بها المفعول، كمركوب، ويكون هنا اسم مصدر، من : عقد يعقد عقداً، والاسم : معقد ؛ ويكون صفة ذات ؛ ولهذا قال أبو سيف : معقد العز هو الله ؛ وأما أبو حنيفة، فنظر إلى أن اللفظ، محتمل لمعان متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى .
وسئل : عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : " إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ".
فأجاب : اعلم أن التجهم، الغلظة، والعبوس، والاستقبال بالوجه الكريه ؛ قال بعض علماء اللغة : الجهم الغليظ المجتمع، وجهم ككرم، جهامة وجهومة، استقبله بوجه كريه، كتجهمه ؛ والجهمة آخر الليل، أو بقية سواد من آخره ؛ وأجهم دخل فيه ؛ انتهى . وبه : يظهر أن التجهم يقع على الإستقبال، بوجه مظلم عبوس، والله أعلم .
وقال الشيخ : إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن، رحمهم الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون ( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ) [ الأنبياء : 23] أحمده سبحانه، حمد عبد، نزه ربه عما يقول الظالمون، وأشهد أن لا إلَه إلا ّ الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق(1/496)
(ص515) المأمون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون ؛ وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فإنه ابتلى بعض من استحوذ عليه الشيطان بعداوة شيخ الإسلام من البدع التي امتلأت بها صدور فأردت أن أذكر طرفاً من الشيخ : محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومبسته، وتحذير الناس عنه وعن مصنفاته لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشؤوا عليه من أخبار وأحواله ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره فلا يروج عليه الباطل ولا يغتر بحائد عن الحق مائل مستنده ما ينقله أعداؤه الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته وبالغوا في مسبته والتأليب عليه وتهمته وكثيراً ما يضعون من مقداره، ويفيضون ما رفع الله من مناره ؛ منابذة للحق الأبلج، وزيغاً عن سواء المنهج .
والذى يقضى به العجب : قلة إنصافهم وفرط جورهم واعتسافهم وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه ولا عثرة إلا نسبوها إليه وجعلوا عارها راجعاً عليه وهذا من تمام كرامته وعظم قدره وإمامته وقد عرف من جهالهم واشتهر من أعمالهم : أنه ما دعا إلى الله أحد وأمر بمعروف ونهى عن منكر في أي قطر من الأقطار إلا سموه وهابياً وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان بكل قول هائل، يحتوى على الزور والبهتان .
ومن أراد الإنصاف وخشي مولاه وخاف : نظر في(1/497)
(ص516) مصنفات هذا الشيخ، التي هي الآن موجودة عند أتباعه فإنها أشهر من نار على علم وأبين من نبراس على ظلم وسأذكر لك بعض ما وقف عليه من كلامه خوفاً أن تخوض من مسبته في مهامه، فأقول :
قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره، ودعوته وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه : على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله، واثبات صفات كماله، ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم يثبتوها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
وقد درج على هذا : من بعدهم من التابعين من أهل العلم والإيمان، من سلف الأمة ؛ كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان وسليمان بن يسار ؛ وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح والحسن وابن سيرين، والشعبي، وأمثالهم، كعلي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب كحماد بن سلمة وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك وأبي حنيفة(1/498)
(ص517) النعمان بن ثابت والشافعي، وأحمد وإسحاق، والبخاري، ومسلم ؛ ونظرائهم من أهل الفقه والأثر ؛ لم يخالف هذا الشيخ ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه .
وأما توحيد العبادة، والإلهية، فقد حققه غاية التحقيق، ووضح فيه المنهج والطريق ؛ وقال : إن حقيقة ما عليه أهل الزمان، وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في المهمات، وحج قبورهم، للعكوف عندها، والصلوات ؛ هو : بعينه فعل الجاهلية الأولى، من دعاء اللات، والعزى، ومناة ؛ لأن اللات، كما ورد في الأحاديث : رجل يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره، يرجون شفاعته في مجاوريه، والتقرب به إلى الله في زائريه، لم يقولوا : إنه يدبر الأمر ويرزق، ولا أنه يحيي ويميت ويخلق، كما نطق بذلك الكتاب، فكان مما لا شك فيه ولا ارتياب .
قال الله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [يونس:31] قال العماد ابن كثير، رحمه الله، أي : أفلا تتقون الشرك في العبادة، لأنهم لا يطلبون إلا الشفاعة والقرب، كما قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس:18] وقال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم(1/499)
(ص518) إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر:3] .
قال : الشيخ - رحمه الله - يوضح ذلك، أن أصل الإسلام وقاعدته : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل، لابد فيه من العلم والعمل والإقرار ؛ بإجماع المسلمين ؛ ومدلوله : وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائناً من كان ؛ وهذا : هو الحكمة التي خلفت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل وأنزلت بها الكتب وهي : تضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله ديناً سواه، لا من الأوليين ولا من الآخرين .
قال رحمه الله وقد جمع ذلك في سورتي الإخلاص أي : العلم . والعمل، والإقرار، وقد اكتفى بعض أهل زماننا بالإقرار وحده وجعلوه غاية التوحيد وصرفوا العبادة التي هي مدلول : لا إلَه إلا ّ الله، للمقبورين وجعلوها من باب التعظيم للأموات وأنا تاركها قد هضمهم حقهم وأبغضهم وعقهم ولم يعرفوا أن دين الإسلام هو الاستسلام لله وحده والخضوع له وحده وأن لا يعبد بجميع أنواع العبادة سواه .
وقد دل القرآن على أن من استسلم لله ولغيره كان مشركاً قال تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له ) [ الزمر:54] وقال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن(1/500)
(ص519) اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [الأنبياء :25] وقال تعالى عن الخليل : ( إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون ) [ الزخرف:26-28] وقال : (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة :4] وقال تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) [الزخرف:45] ذكر عن رسله نوح، وهود، وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ هود:50-61-84] .
قال رحمه الله : والشرك المراد في هذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة، والصالحين، فإن هذا، هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله، ورسوله، محمد صلى الله عليه وسلمفإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها لتقربهم إلى الله كما نبه تعالى على ذلك في آيتي يونس، والزمر
قال رحمه الله ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين شاركوا الله في خلق(2/1)
(ص520) السموات والأرض واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في خلق ذرة من الذرات قال تعالى : (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلين) الزمر:38] فهم معترفون بهذا، مقرين به، لا ينازعون فيه ولذلك : حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة ولا يخفى ما في التنكير، من العموم، والشمول المتناول لأقل شئ وأدناه من ضر، أو رحمه، قال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف:106] ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره إن إيمانهم هنا بما اقروا به من ربوبيته وملكه وفسر شركهم المذكور بعبادة غير الله
قال رحمه الله : فإن قلت أنهم لم يطلبوا إلا من الأصنام ونحن ندعوا الأنبياء قلت : قد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين ومنهم من أشرك بالكواكب ومنهم من أشرك بالأصنام وقد رد الله عليهم جميعهم وكفر كل أصنافهم كما قال تعالى : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) [آل عمران:80] وقال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من(2/2)
(ص521) دون الله والمسيح ابن مريم ) الآية [التوبة :31] وقال ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادة ويستكبر ) الآية [ النساء:172] ونحو ذلك في القرآن كثير .
وكما في سورة الأنبياء (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [الأنبياء :98] وقول ابن الزبعري : نحن نعبد الملائكة والأنبياء وغيرهم فكلنا في حصب جهنم ؟! فرد الله عليهم بالاستثناء في آخرها : ( إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون [الأنبياء:101] وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب الأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله .
قال رحمه الله وهذه العبادات التي صرفها المشركون لألهتهم هي أفعال العباد الصادرة منه كالحب والخضوع الإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلّها بل هي لبّ سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها وكل عمل يخلو منها فهو خداج مرود علي صاحبها .
وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأليهه غير الله بذلك قال تعالى : (أفمن يخلق(2/3)
(ص522) كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) [النحل :17] وقال تعالى : ( أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطعيون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون ) [الأنبياء :43] وقال تعالى : ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ) الآية [ الفرقان :3] وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لألهتهم التي عبدوها مع الله (تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) [الشعراء : 97-98] ومعلوم : أنهم ما ساووهم به، في الخلق، والتدبير، والتأثير، وإنما كانت التسوية، في الحب، والخضوع، والتعظيم، والدعاء ونحو ذلك من العبادات .
قال رحمه الله : فجنس هؤلاء المشركين، وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء، والصالحين، نحكم : بأنهم مشركون ونرى كفرهم، إذا قامت عليهم الحجة الرسالية ؛ وما عدا هذا من الذنوب ،التي هي دونه في المرتبة والمفسدة، ولا نكفر بها .
ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا لعباد الأثاون والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه ؛ وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، ونحوهم ممن كفرهم السلف : لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى، من سلف هذه الأمة ؛ ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين .
قال رحمه الله : ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها : لا يكون به المكلف(2/4)
(ص523) مسلماً ؛ بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم : أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية ؛ ومجرد التصديق كالجهمية ؛ وقد أكذب الله المنافقين، فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، واسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة، بأنواع من التأكيدات، قال تعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) [ المنافقون :1] فأكدوا بلفظ الشهادة، وإن المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية ؛ فأكذبهم، وأكد تكذبيهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء ؛ وزاد لتصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع .
وبهذا تعلم : أن مسمى الإيمان، لابد فيه من التصديق والعمل ؛ ومن شهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى، وزكى، وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام ؛ قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) الآية [ البقرة:85] وقال تعالى : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ) الآية [النساء:150] وقال تعالى : ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) [المؤمنون :117] .
والكفر نوعان : مطلق، ومقيد ؛ فالمطلق، هو : الكفر بجميع ما جاء به الرسول ؛ والمقيد : أن يكفر ببعض ما جاء(2/5)
(ص524) به الرسول ؛ حتى إن بعض العلماء : كفر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه، كتوريث الجد، أو الأخت، وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها ؟ وهذا : مذكور في المختصرات، من كتب المذاهب الأربعة ؛ بل : كفروا ببعض الألفاظ، التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام من جرت على لسانه .
قال رحمه الله : والصحابة كفروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم، والحج ؛ قال رحمه الله : وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ويبنون المساجد، في : قاهرة مصر، وغيرها ؛ وذكر : أن ابن الجوزي، صنف كتاباً في وجوب غزوهم، وقتالهم، سماه :النصر على مصر ؛ قال : وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور، بأنهم يصلون، ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام، وتلبيس، لينفق شركهم، ليقال بإسلامهم، وإيمانهم، ويأبى الله ذلك، ورسوله، والمؤمنون .
وأما مسائل : القدر، والجبر، والإرجاء، والإمامة، والتشيع، ونحو ذلك، من المقالات، والنحل، فهو : أيضاً فيها، على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين ؛ ويبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة ؛ وما قالته المرجئة، والرافضة ؛ وما عليه غلاة الشيعة(2/6)
(ص525) والناصبة ؛ ويوالي : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم ؛ ويرى : أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم، وسوابقهم، وجهادهم، وما جرى على أيديهم، من فتح القلوب بالعلم النافع، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان، والنيران، والأصنام، والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام .
ويرى : البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء، لئام ؛ ويرى : أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد : أن القرآن - الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين - كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود . ويبرأ : من رأى الجهمية، القائلين بخلق القرآن، ويحكى تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان .
ويبرأ : من رأي الكلابية، أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، القائلين : بأن كلام الله، هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل عليه السلام، حكاية، أو عبارة عن المعنى النفسي ؛ ويقول : هذا من قول الجهمية ؛ وأول من قسم هذا التقسيم، هو : ابن كلاب، وأخذ عنه : الأشعري، وغيره، كالقلانسي ؛ ويخالف الجهمية في كل ما قالوه، وابتدعوه في دين الله، ولا يرى : ما ابتدعه الصوفية، من البدع، والطرائق، المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،(2/7)
(ص526) وسنته، في العبادات، والخلوات، والأذكار، المخالفة للشرع .
ولا يرى : ترك السنن، والأخبار النبوية، لرأي فقيه، ومذهب عالم، خالف ذلك باجتهاده، بل السنة : أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد، كائناً من كان ؛ قال عمر بن العزيز : لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم عند الضرورة، وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الإستنباط، والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقاً، بل فيما يعسر ويخفى. ولا يرى : إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة، من الكتاب، والسنة ؛ خلافاً لغلاة المقلدين . ويوالي : الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم، وإمامتهم، وأنهم في الفضل، والفضائل، في غاية رتبة، يقصر عنها المتطاول ؛ وميله إلى أقوال الإمام أحمد أكثر .
ويوالي : كافة أهل الإسلام، وعلمائهم، من أهل الحديث، والفقه، والتفسير، أهل الزهد والعبادة ؛ ويرى : المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع ؛ فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر ؛ ويؤمن : بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم ؛ ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن نسب إليه خلاف ذلك، فقد : كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين .(2/8)
(ص527) وأبدى رحمه الله، من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص، والتوحيد، شهادة : أن لا إلَه إلا ّ الله، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة، والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه، على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك، وجزئياته، وأن هذا : هو معناها، وضعاً، ومطابقة ؛ خلافاً لمن زعم غير ذلك، من المتكلمين، كمن يفسر ذلك، بالقدرة على الاختراع، أو أنه سبحانه غني عما سواه، مفتقر إليه من عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق، لا يكون إلا قادراً، غنياً عما سواه ؛ وأما كون هذا، هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك .
والمتكلمون : خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية، والقدرة، هو الغاية المقصودة، والفناء فيه، هو تحقيق التوحيد ؛ وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في أصل الإسلام، إلا إذا أضيف إليه، واقترن به، توحيد الألهية : إفراد الله تعالى بالعبادة، والحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة الله، وطاعة رسوله، هذا أصل الإسلام، وقاعدته ؛ والتوحيد الأول، الذي عبروا به عنها، هو : توحيد الربوبية، والقدرة والخلق، والإيجاد، وهو الذي يبني عليه : توحيد العمل، والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم .
وكثيراً ما يحتج به سبحانه، على من صرف العمل(2/9)
(ص528) لغيره، قال تعالى : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) [ البقرة:163] الآيات، وقال : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ) إلى آخر الآيات، [ النمل :62-64] وقال تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) الآية [ الأعراف :54] ومن نظر في تفاسير السلف، علم هذا .
وقد قرر رحمه الله، على شهادة أن محمداً رسول الله - في بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه، وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية، من الحب، والتوقير، والنصرة، والمتابعة، والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول ؛ والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين، وفروعه، باطنه، وظاهره، خفية، وجليه، كليه، وجزئيه - ما ظهر به فضله، وتأكد علمه، ونبله، وأن من نقل عنه ضد ذلك، من دعاة الضلال، فقد فسد قصده، وعقله .
والواقف على مصنفاته، وتقريراته، يعرف : أنه سباق غايات، وصاحب آيات ؛ لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه، ومنازعيه، وخصومه، في الفضل، وشانئيه، يصدق عليهم : المثل السائر، بين أهل المحابر، والدفاتر، شعر :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... ... ... فالقوم أعداء له وخصوم(2/10)
(ص529) كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... ... حسداً وبغياً إنه لدميم
وقال رحمه الله، على قوله تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [الشورى : 52] فالرسول صلى الله عليه وسلم، جعله الله إماماً للناس، وكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة له، مبينة له، فكل ما وافق ما جاء به، فهو صراط مستقيم، وما خالفه، فهو : بدعة، وضلال وخيم ؛ وقوله :(2/11)
(صراط الله ) [الشورى:23] أي الدال على الله، وفيه تشريفه، وتشريف شرعه، بإضافته إلى الله، فما أجهل من ابتدع قولاً، مخالفاً لقوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [آل عمران:31] .
وله رحمه الله، ترجمة في : كتاب التوحيد، الذي صنف، بينفيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " باب من أطاع العلماء، والأمراء، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله " واستدل بحديث : عدي ؛ وله بحوث في تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، بين بعضها الشيخ : حسن بن غنام، في تاريخه .
وله رحمه الله، من المناقب، والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضائل، والبصائر ؛ ومما اختصه الله به، من الكرامة : تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين، على مسبته، والتعرض لبهته، وغيبته، قال الشافعي رحمه الله : ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا(2/12)
(ص530) ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم ؛ وأفضل الأمة بعد نبيها : أبو بكر، وعمر ؛ وقد : ابتلي، من طعن أهل الجهالة، وسفائهم ؛ بما لا يخفى .
وما حكينا عن الشيخ، حكاه : أهل المقالات، عن هل السنة والجماعة، مجملاً ومفصلاً قال أبو الحسن الأشعري : جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاءوا به من عند الله وما رواه الثقاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً .
وأن الله تعالى : إله واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد وأن محمدا عبده ورسوه وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ؛ وأن الله تعالى على عرشه كما قال : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] وأن له يدين، بلا كيف كما قال : ( لما خلقت بيدي ) [ ص : 75 ] وكما قال ( بل يداه مبسوطتان ) [ المائدة : 64 ] وان له عينين، بلا كيف وأن له وجهاً، جل ذكره، كما قال تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 27] وأن أسماء الله تعالى، لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة، والخوارج .
وأقروا : إن لله علماً، كما قال : ( أنزله بعلمه ) .(2/13)
(ص531) [ النساء : 166] وكما قال تعالى : ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) [ فاطر : 11 ] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة ؛ واثبتوا لله القوة كما قال تعالى : ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة ) [ فصلت : 15] وقالوا : انه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وإن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) [ الإنسان : 30 ] وكما قال المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا : أن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله وأن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله .
وأقروا : أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين بمعصيته ولطف بالمؤمنين وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وان الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وأضلهم، وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره .
ويؤمنون : بقضاء الله وقدره خير وشره حلوه ومره ويؤمنون انهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما ...(2/14)
(ص532) شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله، في كل وقت والفقر الله في كل حال ويقولون : إن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقوف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله تعالى يرى الأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين : 15 ] وإن موسى : سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله تجلى للجبل، فجعله دكا فاعلمه بذلك انه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة .
ولم يكفروا أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وان ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وان ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن يشهد أن لا إلَه إلا ّ الله على ما جاء به الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بان الله مقلب القلوب .
ويقرون : بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والمحاسبة من الله(2/15)
(ص533) للعباد حق والوقوف بين يدي الله ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون : أسماء الله تعالى هي الله ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله هو نزلهم حيث شاء ويقولون : أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وان شاء غفر لهم ويؤمنون : بان الله يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وينكرون : الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار، التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون : كيف ؟ : ولا ولم ؟ لان ذلك، بدعة ويقولون : إن الله تعالى لم يأمر بالشرك بل نهى عنه، وأمر بالخير ولم يرض بالشرك وإن كان مريداً له .
ويعرفون : حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون : أبا بكر ؛ ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضي الله عنهم . ويقرون : انهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد نبيهم ويصدقون : بالأحاديث، التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن(2/16)
(ص534) الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر ......" ؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] ويرون : أتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله ويقرون : أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى : ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) [ الفجر : 22 ] وأن الله يَقْرُب من خلقه كيف شاء كما قال تعالى ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ق: 16] ويرون، العيد، الجمعة، والجماعة، خلف كل إمام، بر، أو فاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنّة، ويرونه في الحضر، والسفر .
ويثبتون : فرض الجهاد للمشركين، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال ؛ وبعد ذلك : يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا يخرج عليهم بالسيف، ولا يقاتلون في الفتنة ؛ ويصدقون : بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله ؛ ويؤمنون : بمنكر، ونكير ؛ والمعراج، والرؤيا في المنام ؛ وأن الدعاء للموتى من المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم ؛ ويصدقون : بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر، كافر، كما قال تعالى : ( وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر ) [البقرة :102] وأن السحر، كائن موجود في الدنيا .(2/17)
(ص535) ويرون : الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم، وفاجرهم، ويقرون : أن الجنة، والنار، مخلوقتان ؛ وأن من مات، مات بأجله، وكذلك من قتل، قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله، يرزقها عباده، حلالاً، كانت، أو حراماً ؛ وأن الشيطان : يوسوس للإنسان، ويشككه، ويخطّيه ؛ وأن الصالحين، قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم ؛ وأن السنة، لا تنسخ الآيات، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله تعالى عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله .
ويرون : الصبر على حكم الله، والأخذ بأمر الله، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين، والنصيحة لأئمة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنا، وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والإزراء على الناس، والعجب، ويرون : مجانبة كل داع إلى بدعةٍ، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع، والاستكانة، وحسن المأكل، والمشرب ؛ وجملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه ؛ وبكل ما ذكرنا من قولهم : نقول، وإليه نذهب، انتهى .
وبعض هذا البحث، ذكره شيخنا : عبد اللطيف، في : التأسيس، وأحببت إبرازه من مظانه، لينكشف للناس حقيقة(2/18)
(ص536) ما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويزول عنهم الوهم، والإشكال ؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلي الله على أشرف المرسلين، محمد وأله وصحبه أجمعين .
وله أيضا، رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من اسحاق بن عبد الرحمن إلى المحب المكرم عبد الله بن أحمد وفقه الله للطريق الأحمد سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وغير ذلك ؛ الموجب هذه المكاتبة : النصيحة وحسن الظن بك وأتيقن أن الحق ضالتك فالذي أوصيك به : أن تطيع الله ورسوله وتقدم ذلك فيما أشكل عليك قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منك فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) [ النساء : 59 ] قال المفسرين الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الرد إلى سنته .
وقد نهى الله عن طاعة غيره، في قول الله تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [ الأنعام : 116 ] فإذا كان الله يحذر نبيه من أتباع أكثر الناس فما الظن بهذا الزمن وأهله ؟ وقد قال الصادق المصدوق : " بدأ الإسلام غريباً(2/19)
(ص537) وسيعود غريبا كما بدأ " وأي اغترابٌ أعظم من هذا الاغتراب .
قال صاحب : التحفة رحمه الله، فالمؤمنون : وسطٌ في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فـ ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة :31 ] ولا جفوا كما جفت اليهود فكانوا : ( يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [ آل عمران : 21 ] بل آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه ) [ الأعراف : 157 ] ولم يتخذوا الأنبياء أربابا، كما قال تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربابين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيامركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) [ أل عمران : 79 -80 ] وقال عيسى عليه السلام : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ما دمت فيهم ) [ المائدة : 117 ] .
قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته حتى أنه قال له رجل : ما شاء الله، وشئت، وقال : " أجعلتني لله ندا ! بل شاء الله وحده " وقال :" لا تقولوا ما شاء الله، وشاء محمد، ولكن قولوا : ما شاء الله، ثم شاء محمد"(2/20)
(ص538) ونهى عن الحلف بغير الله، وقال : " من كان حالفاً، فليحلف بالله، أو ليصمت " وقال : " من حلف بغير الله، فقد أشرك " وقال :" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله، ورسوله " ولهذا : اتفق العلماء، على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة، ونحوها .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته :" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن حشي أن يتخذ مسجداً ؛ وقال قبل أن يموت بخمس : " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك، وقال ( اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد ) وقال ( لا تتخذوا ) قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني " ولهذا : اتفق العلماء، على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عندها ؛ ويقولون : الصلاة عندها باطلة، انتهى .
فقد علمت : كلام الصادق المصدوق، فلا يكون قول الغير في نفسك، أعظم من كلام نبيك، فما حجتك يوم القيامة، إذا قال الله : لأي شيء أطريت رسولي، ورفعته فوق ما أنزلته ؟ أتقول سمعت في الأشعار خلاف قوله فاتبعتها أم تقول : لم يبلغني كلام نبيك ؟ أعدّ للسؤال جواباً، قال عمر رضي الله عنه، في بعض خطبه : لتسألن عن الرسول، ومن(2/21)
(ص539) أرسله، وما جاء به، وما قد قال ؛ وفي بعض الآثار : كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : " ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ".
ويكفيك : الميزان السوي العادل، في كل فعل، وقول، صدر من الناس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا الحديث : أصل من أصول الدين، فمن تأمل ما في مطاويه، وتفهم أصوله ومبانيه، استوحش من كثير من عبادات، لم يشرعها الله، ولا رسوله ؛ فإذا كان كل عمل ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه، لا يقبله الله، تبين لك : أني لم أجازف في إنكار هذه المبتدعات ؛ وقد أخبر أنها تقع، بقوله صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم تخلف من بعدهم خلوف بفعلون ما لا يؤمرون " أفتظن أنه كان فبان وسلمت منه هذه الأزمان ؟ أم تظن أن كلام الصادق المصدوزق، لا يوجد مصادقة ؟ ولا يسلم من المحدثات إلا من وفق للكتاب السنة جعلهما الميزان لما حسن عنده وزان .
والعلماء : يجرى عليهم الخطأ، وليسوا بمعصومين، ومن حسنّ الظن بهم من دون نظر في الكتاب والسنة هلك ؛ انظر إلى ايقاد السرج على القبور اليوم ؛ قد عم وطم، وقد صرفت له الأوقاف، واستحسنه بعض العلماء وكتبوا على أوقافه، وكذلك تجصيص القبور، والرسول صلى الله عليه وسلم قد(2/22)
(ص540) لعن من جصص القبور، ولعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج هذه السنة : تنادي بلعنهم أتظن هذا الإجماع يعتد به ؟ هذا والله كإجماع الناس على عبادة القبور، في زمن الفترة .
ويشهد لما قلنا : قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " وفى بعض طرقه : " حتى لو كان فيهم من يأت أمه علانية لكان فيكم من يفعل ذلك " وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد " إيماء إلى هذا المعنى .
وقد أخبر : أن علماء بني إسرائيل كتموا العلم وسيقع كتمان العلم في هذه الأمة ، ولو كان مساعدة العلماء في بعض الأمور دليلاً، لكان المأمون وأتباعه من علماء وقته الذين لهم من العلم ما ليس لغيرهم مصيبين لأنهم صنفوا فيها المصنفات ودعوا الناس إليها ولم يكن على الحق إلا الإمام أحمد وقلائل من الناس من أهل السنة خائفين مستخفين أتظن أن السواد الأعظم الكثيرة في ذلك ؟ بل : السواد الأعظم، والله، والإمام أحمد ومحمد بن نصر الخزاعي، ومن وافقهما .
ولو استدل مستدل، في وقتهم ،بعموم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالسواد الأعظم " لهلك لان السواد الأعظم أهل الحق، وإن قلوا، قال صلى الله عليه وسلم :"لا تزال طائفة من أمتي على(2/23)
(ص541) الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة " قال : الفضيل بن عياض، رحمه الله : لا تعتز بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين .
إذا تقرر هذا فقد عرفت - سلمك الله كلام الناس في مسألة سؤال الله بالمخلوق ، والإقسام على الله به وقد ذكرتك فيها، بأن الذي نفتقده : إنا لا نكفر بها أحدا بل نقول : هي بدعة شنيعة، نهى عنها السلف وقد قال مالك رضي الله عنه : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقوله صلى الله عليه وسلم : " دع ما لا يريبك إلى ما لا يريبك " وان لم يكن هذا من الشرك فهو وسيله إليه، لابد أن يقوم بقلب صاحبه شيء من الاعتماد .
ولكن بقي مسألة، وهى التي لا حجة للمخالف فيها أصلاً وهى إسناد الخطاب إلى غير الله في شيء من الأمور بياء النداء إذا كان يشتمل على رغبة او رهبة فهذا هو الدعاء الذي صرفه لغير الله شرك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء مخ العبادة " وقال تعالى : ( له دعوة الحق ) [ الرعد : 14 ] وقال تعالى : ( فلا تدعو مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ) [ الشعراء : 213 ] وقال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 )
ومن الدليل : على أن النداء المتضمن لما ذكرنا، عين(2/24)
(ص542) الدعاء، بلا شك، قوله تعالى : ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر ( [ الأنبياء : 83-84 ] وقال : ( هنالك دعا ذكريا ربه ) [ آل عمران : 38 ] وقال : ( ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداءً خفياً ) إلى قوله : ( ولم اكن بدعائك رب شقيا [ مريم : 2-4 ] فسمى النداء المتقدم في هذه الآيات دعاء والدعاء ممنوع لأنه عبادة وهذا لا محيد عنه، قال تعالى : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرين ) [المؤمنون : 117] .
وأما النداء المجرد الخالي من رغبة، ورهبة، فليس هو محل النزاع وان كان أهل الشبه يروجون به وبغالطون به وما كان نداء زكريا به مثل نداء الله لموسى في قوله : ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً ) [ مريم : 52] ومن قال : إن ندائي الرسول صلى الله عليه وسلم وقولي : يا رسول الله خالي مجرد حكمه حكم قولي : يا فلان اقبل ،أو يا فلان : اخرج، فقد كذب فإذا لم يكن كذلك فهو حقيقة الدعاء، لان دعاء : الرهبة، والرغبة، ممنوع، وبالنهي عنه مقطوع، قال الله تعالى
( وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) [ التوبة :59 ] وقال ( ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه ) الآية [ النور : 52] فجعل الطاعة للرسول، دون الخشية والتقوى وجعل(2/25)
(ص543) الحسب والرغبة له تعالى دون الرسول لأنهما من أنواع العبادة وصرفهما لغير سبحانه شرك وجعل الإيتاء إلى الرسول لأنه يقدر عليه وقال : ( والى ربك فارغب ) [ الشرح : 8 ] وقال : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله ) [ يونس :107 ]
فنفى كشف الضر عن كل أحد بلا النافية وأثبته لنفسه بالاستثناء وهذا من أعظم النفي كما في قوله : ( لا إلَه إلا ّ الله ) [ الصافات : 35] فإنه نفى بها جميع الآلهة واثبت الألوهية له دون كل من سواه كما خرجت جميع المخلوقات فاعرف الفرق بين الندائين كما عرفت الفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم " انه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله " وقوله : ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) [ القصص : 15 ] ومن لا بصير لديه يظن أن القرآن يخالف السنة ومن تأمل تفاسير القرآن، التي اتصلت بالسند إلى الصحابة كتفسير : الثعلبي، وتفسير البغوي، وتفسير ابن جرير الطبري، عرف مقاصد القرآن .
ومما يزيد المعنى إيضاحاً : ما رواه ابن أبي الدنيا بسنده أن أبي طلحة خرج من داره يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال أتاه فوجده يخطب وهو يقول " ومن يستغن يغنيه الله ومن يستعف يعفه الله " فقال بأعلى صوته، حتى منك يا رسول الله ؟ قال : " حتى مني " فرجع ولم يسأله شيئاً ؛ قال أبو طلحة : فما لبثت، أن كنت من(2/26)
(ص544) اكثر أهل المدينة مالاً هذا في الأمور المقدورة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتشييد قواعد الدين، وسد الذرائع المفضية إلى سؤال المخلوقين ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين .
والله المرجو : أن يشرح صدورنا للإسلام وأن لا يجعلنا ممن أعرض عن ذكر ربه واتبع هواه وكان أمره فرطاً فاسأل ربك في أوقات الإجابة أن يريك الحق حقاً ويرزقك اتباعه ويريك الباطل باطلاً ويزقك اجتنابه ولا يجعله ملتبساً عليك فتضل والسلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
سئل الشيخ : إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن عن كيفية حياة الرسول في قبره ؟ وهل هي كحياة الشهداء ؟ أم أعلى عند الله ؟فأجاب .
الجواب : وبالله التوفيق، قال الحافظ، الحجة شمس الدين : ابن القيم، رحمه الله تعالى، لم يرد حديث صحح أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره لكن نقطع أن الأنبياء لا سيما خاتمهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مرتبة من الشهداء وقد قال سبحانه وبحمده، عن الشهداء انهم : ( أحياء عند ربهم يرزقون ) فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] ومع ذلك فالشهداء داخلون في قوله تعال : ( كل نفس ذائقة الموت ) [آل عمران : 185](2/27)
(ص545) ( إنك ميت وإنهم ميتون ) [ الزمر : 30] فاثبت سبحانه للشهداء موتاً بدخولهم في العموم كالأنبياء وهو الموت المشاهد ونفى عنهم موتاً فالموت المثبت غير الموت المنفى، فالموت المثبت هو فراق الروح الجسد وهو مشاهد محسوس والمنفى : زوال الحياة بالجملة من الروح والبدن وقال البيضاوي على قوله سبحانه : ( بل أحياء ) فيه تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد، ولا بجنس ما يحس به من الحيوانات وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي، انتهى .
وقال الشيخ : عبد الله، بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله في رده على العراقي ويدل على بطلان دعوى من ادعى : أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، كحياته، لما كان على وجه الأرض، ما رواه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام " فهذا يدل على أن روحه الشريفة، ليست في بدنه، وإنما هي في أعلى عليين، ولها اتصال بالجسد، والله أعلم بحقيقته، لا يدركه الحس، ولا العقل .
وليس ذلك خاصاً به صلى الله عليه وسلم، لحديث تقدم عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام " وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم " إن أرواح الشهداء في حواصل(2/28)
(ص546) طير خضر، تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش " الحديث . وقد أخبر الله سبحانه أنهم في البرزخ ( أحياء عند ربهم يرزقون ) وقال أبو بكر الصديق : أما الموتة التي كتبت عليك، فقدمتها، ولن يجمع الله عليك موتتين؛ وقد قام الدليل القاطع : أنه عند النفخة في الصور، لا يبقى أحد حياً، فلو كان الأمر كما يزعمون، لكان الله قد يجمع عليه موتتين .
ولما قال صلى الله عليه وسلم : " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي " قالوا : كيف تعرض عليك، وقد أرمت - يعني بليت - قال :" إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ولم يقل لهم : أنا حي في قبري، كحياتي الآن، صلوات الله وسلامه عليه، انتهى كلامه رحمه الله .
وقال أيضاً : ومقتضى قول من قال : ليس إلا أن غيبوا عنا، أنه يجوز أن يقال في الملائكة، إنهم أموات، لكونهم مغيبين عنا، انتهى .
وقال ابن القيم، أيضاً : وأما السلام على القبور، وخطابهم، فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة، وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم، الذي روحه في أعلى عليين، مع الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، يسلم عليه عند قبره، ويرد سلام المسلم عليه ؛ وقد وافق ابن عمر رضي الله عنه : أن أرواح(2/29)
(ص547) الشهداء في الجنة، ويسلم عليهم عند قبورهم، كما يسلم على غيرهم، كما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة رضي الله عنهم، يسلمون على شهداء أحد ؛ وقد ثبت : أن أرواحهم في الجنة، تسرح حيث شاءت، كما تقدم ؛ ولا يضيق عطنك، عن كون الأرواح في الملأ الأعلى، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها ؛ وتدنوا حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر، غير شأن البدن .
وهذا جبريل عليه السلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائه جناح، منها جناحان، قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وضع ركبتيه، ويديه، على فخذيه ؛ وما أظنك : يتسع عطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى، فوق السماوات، حيث هو مستقره، وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو، فإن التصديق بهذا، له قلوب خلقت له، وأهلت لمعرفته، ومن لم يتسع عطنه لهذا، فهو أضيق أن يتسع للإيمان : بالنزول الإلهي، إلى سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه ؛ انتهى كلام الشيخ شمس الدين، رحمه الله، وعفا عنه .
وقال الشيخ : حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله : وأما الكلام على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتقادنا في ذلك، اعتقاد سلف الأمة ، وأئمتها، وهم الأسوة ؛ وهي : أنه صلى الله عليه وسلم قبض ودفن، وزالت عنه الحياة الدنيوية، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،(2/30)
(ص548) حين قبله، قال : طبت حياً وميتاً .. الخ، وأما حياة البرزخ، فهو حي الحياة البرزخية، وكذلك الشهداء، فلو كان حيا حياة دنيوية، لرفعوا إليه الأمر، فيما جرى بينهم، رضوان الله عليهم أجمعين، ولما عدلوا إلى التوسل بدعاء العباس انتهى ؛ وبه تم الجواب ؛ وصلى الله على محمد .
وسئل الشيخ : إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن أيضاً - رحمهم الله - عما ورد : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى، وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء .
فأجاب : هذه الأحاديث ، وأشباهها، تمر كما جاءت، ويؤمن بها ؛ إذ لا مجال للعقل في ذلك، ومن فتح على نفسه هذا الباب، هلك في جملة من هلك ؛ وقد غضب مالك بن أنس، لما سأله رجل عن الاستواء، فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، إلى آخر كلامه، ثم قال : وما أراك إلا رجل سوء، فأمر بإخراجه ؛ هذه عادة السلف .
فهذه الأحاديث ، التي مر البحث فيها : خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفاً بناه عليها، وجادل، وما حل في أن من كان حيا هذه الحياة، التي أطلقت في القرآن، فينبغي أن ينادى، إذ لا فرق عند هذا الجاهل، بين الحياة الحسية، والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة، وأمر هذا الرزق، ولم يعلم أنه لا خلاف، في أن أهل البرزخ،(2/31)
(ص549) يجري عليهم من نعيم الآخرة، ما يلتذون به، مما هو ليس من عمل التكليف .
ومعاذ الله : أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه مسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الخ، والحديث عام ؛ لأن المقصود به : جنس بني آدم، لأن المفرد يعم، كما هو مقرر في محاله ؛ ألم يعلم المسكين : أن البرزخ طور ثان، وله حكم ثان ؟ إذ لو كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة، أنه يلاقي الأولياء، والأفاضل، كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة رضوان الله عليهم بعده مسائل، طال فيها نزاعهم إلى زمننا هذا .
إذا تحققت هذه الإشارة، وتأملتها، فلابد أن أنقل لك كلام ابن تيمية، قدس الله روحه، في أحاديث السؤال .
قال ابن تيمية رحمه الله : أما رؤيا موسى في الطواف، فهذا كان رؤيا منام، لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسراً، كما رأى المسيح أيضاً، ورأى الدجال ؛أما : رؤيته، ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا ورأى يحيى، وعيسى ؛فهذا : رأى أرواحهم مصورة، في صورة أبدانهم ؛ وقد قال بعض الناس، لعله : رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور ؛ وهذا : ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده، وكذلك إدريس .(2/32)
(ص550) وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضاً، فهذان : لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح، من جنس امر الملائكة، في اللحظة الواحدة : تصعد، وتهبط، كالملك، ليست كالبدن ؛ وقد : بسطت الكلام في أمر الأرواح بعد مفارقة الأبدان، وذكرت الأحاديث والآثار في ذلك، بما هذا ملخصه .
وهذه الصلاة : مما يتنعم بها الميت، ويستمتع بها، كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح ؛ فإنهم يلهمون التسبيح، كما يلهم الناس النفس في الدنيا، فهذا ليس من عمل التكليف، الذي يطلب به ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل، هو من النعيم الذي تتنعم به النفس، وتلتذ به، انتهى كلامه .
فعلم من كلامه : أن أرواحهم صورت في صور أبدانهم، التي في القبور، فاجتمعت النصوص، وزال الأشكال، والله أعلم .
وسئل : رحمه الله عن الذي أمر بأن يذر في البحر ... الخ .
فأجاب : الذي أمر بان يذر في البحر، خوفاً من الله، لم يكن شاكاً في القدرة، إنما ظن أن جمعه بعد ذلك، من قبيل المحال، الذي ما من شأن القدرة أن تتعلق به ؛ وهذا : باب واسع، والله أعلم .(2/33)
(ص551) سئل الشيخ : حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء : من قال أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال، يكفر، وإن نوى به في المآل، لم يكفر ؟!
فأجاب : هذا سؤال من لا يحسن السؤال ؛ فإن ظاهره : أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم، وقول بلا علم ؛ فإن كان : بعض المتأخرين، من بعض أهل المذاهب، قال ذلك ؛ فهو : قول محدث، من أقوال أهل البدع، وأنا أذكر لك من كلام العلماء، في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ؛ ليتضح الخطأ من الصواب، ويعلم من الأولى بالحق في هذا الباب .
قال شيخ الإسلام، ابن تيمية، رحمه الله تعالى : وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال ؛ منهم : من يوجبه ؛ ومنهم : من يحرمه ؛ ومنهم : من يجوز الأمرين، باعتبارين ؛ وهذا أصح الأقوال .
فالذين يحرمونه، هم : المرجئة، والجهمية، ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه ؛ فيقول أحدهم : أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة ؛(2/34)
(ص552) فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم .
وأما الذين : أوجبوا الإستثناء، فلهم فيه مأخذان ؛ أحدهما : أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عن الله مؤمناً، وكافراً، باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو : مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية، وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنة، والحديث، من قولهم : أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك : أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه ؛ وإنما يشك في المستقبل ؛ وهذا : وإن علل به كثير من المتأخرين، من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحداً من السلف علل به الاستثناء .
قلت : فالمرجئة، والجهمية، يحرمون الاستثناء، في الحال، والمآل، وهؤلاء : يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال .
قال شيخ الإسلام، رحمه الله : والمأخذ الثاني في الاستثناء : أن الإيمان المطلق، يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن بهذا الإعتبار، فقد شهد لنفسه : أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله ؛ وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا : مأخذ عامة(2/35)
(ص553) السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر .
وروى الخلال، عن أبي طالب قال : سمعت أبا عبد الله، يقول : لا نجد بداً من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاءوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل، لا بالقول ؛ وعن إسحاق بن إبراهيم، قال سمعت أبا عبد الله، يقول : أذهب إلى حديث ابن مسعود، في الاستثناء في الإيمان ؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول : أنا مؤمن إن شاء الله ؛ ومثل هذا : كثير، من كلام أحمد، وأمثاله .
وهذا مطابق لما تقدم، من أن المؤمن المطلق، هو : القائم بالواجبات، المستحق للجنة، إذا مات على ذلك ؛ وأن المفرط بترك المأمور، أو فعل المحظور، لا يطلق عليه أنه مؤمن ؛ وأن المؤمن المطلق، هو البر التقي، ولي الله ؛ فإذا قال : أنا مؤمن قطعاً، كان كقوله : أنا بر، تقي، ولي لله قطعاً.
وقد كان أحمد، وغيره من السلف، مع هذا، يكرهون، سؤال الرجل غيره : أمؤمن أنت ؟ ويكرهون الجواب ؛ لأن هذا بدعة، أحدثها المرجئة، ليحتجوا بها لقولهم ؛ فإن الرجل يعلم من نفسه : أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقاً لما جاء به الرسول ؛ فيقول : أنا مؤمن ؛ فلما علم(2/36)
(ص554) السلف مقصودهم، صاروا يكرهون السؤال، ويفصلون الجواب .
وهذا : لأن لفظ الإيمان، فيه إطلاق، وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال ؛ ولهذا كان الصحيح : أنه يجوز أن يقال : أنا مؤمن بلا استثناء، إذا أراد ذلك ؛ لكن ينبغي أن يقرن كلامه، بما يبين أنه : لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء .
قلت : فظهر القول الثالث، الذي هو الصحيح، وهو : أنه إذا قال : أنا مؤمن ؛ فإن أراد بذلك، الإيمان المقيد، الذي لا يستلزم للكمال، جاز له ترك الاستثناء، وإن أراد المطلق، المستلزم للكمال، فعليه : أن يستثنى في ذلك ؛ قال الخلال : أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود ؛ قال أبو داود : سمعت أحمد قال، سمعت سفيان بن عيينة يقول : إذا سئل المؤمن، أمؤمن أنت ؟ لم يجبه ؛ ويقول : سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني ؛ وقال : إن شاء الله ليس يكره، ولا يدخل الشك ؛ وقد أخبرني عن أحمد أنه قال : لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول، وهذا أبلغ ؛ وهو إنما يجزم بأنه مقرّ مصدّقٌ بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجب .
فعلم : أن أحمد وغيره، من السلف، كانوا يجزمون،(2/37)
(ص555) ولا يشكون في وجود، ما في القلب من الإيمان، في هذه الحال ؛ ويجعلون الاستثناء، عائداً إلى الإيمان المطلق، المتضمن فعل المأمور ؛ هذا ملخص كلامه، في : كتاب الإيمان .
وقال في موضع آخر : والناس لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال ؛ منهم : من يحرمه، كطائفة من الحنفية، ويقولون : من يستثنى فهو شاكُّ ؛ ومنهم : من يوجبه، كطائفة من أهل الحديث ؛ ومنهم : من يجوزه، أو يستحبه ؛ وهذا : أعدل الأقوال ؛ فإن الاستثناء له وجه صحيح، وتركه له وجه صحيح، فمن قال : أنا مؤمن إن شاء الله، وهو : يعتقد أن الإيمان، فعل جميع الواجبات، ويخاف أن لا يكون أتى بها، فقد أحسن ؛ ومن اعتقد : أن المؤمن المطلق، هو الذي يستحق الجنة، فاستثنى، خوف سوء الخاتمة، فقد أصاب ؛ ومن استثنى : أيضاً، خوفا من تزكية نفسه، أو مدحها، أو تعليقاً للأمر بمشيئة الله تعالى، فقد أحسن ؛ ومن جزم بما يعلمه، من التصديق في ترك الاستثناء، فهو مصيب .
فتبين بما ذكرناه، من الكلام، الذي قدمناه : أن هذا الإيراد قول غير معروف عند العلماء، المقتدى بهم، فضلاً عن أن يكون الفقهاء، كلهم قد قالوه ؛ وإذا كان الأمر كذلك، وظهر كلام من يعتد به، وما هو الصواب منه ؛ فلا حاجة بنا إلى معرفة الأقوال المبتدعة .(2/38)
(ص556) المسألة الثانية : وهي قول السائل، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال : أنا مؤمن، فهو كافر ؛ ومن قال : أنا في الجنة، فهو في النار ؟
فالذي وقفت عليه : أن هذا من كلام عمر، كما رواه الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال : من قال أنا مؤمن، فهو كافر ؛ ومن قال : هو عالم، فهو جاهل ؛ ومن قال : هو في الجنة، فهو في النار ؛ وأنت : لم تذكر له إسناداً، ولا نسبة إلى أصل، وقد علم أنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بمجرد وجود سواد في بياض ؛ وتفصيل ذلك معروف، في كتب أهل العلم، والحديث .
وأما مراد عمر، فقد قال بعض الناس : إن المراد، إذا قال أنا مؤمن، أمناً من مكر الله، وتألياً على الله، وقال بعضهم : أي من قال : أنا مؤمن بالطاغوت، فهو كافر بالله، وكذلك من قال : هو في الجنة قطعاً، تكذيباً بحديث "الأعمال بالخواتيم " وقيل غير ذلك، من الأقوال البعيدة، الضعيفة .
وأما أنا فأقول : الله أعلم بمراد الخليفة الراشد، ولا أعلم في ذلك شيئاً، تطمئن إليه النفوس، ولا يستحي من سئل عما لا يعلم، أن يقول : لا أعلم، فالله أعلم .(2/39)
(ص557) المسألة الرابعة : قوله، هل يجوز للإنسان أن يحدث نفسه، بقول : أنا منافق ؟ أنا أخشى الكفر ؟ وهل هذا شك في الدين ؟ أم لا ؟
الجواب : قال البخاري، في صحيحه، قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول : إن إيمانه، كإيمان جبرائيل، وميكائيل ؛ وقال ابن القيم : تالله لقد قطع خوف النفاق، قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقة، وجله، وتفاصيله، وجمله ؛ ساءت ظنونهم بنفوسهم، حتى خشوا : أن يكونوا من جملة المنافقين .
قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يا حذيفة : ناشدتك الله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم ؟ فيقول : لا، ولا أزكي بعدك أحداً، يعني : لا أفتح هذا الباب، في تزكية الناس، ليس معناه : أنه لم يبريء من النفاق غيره، وكيف يكون ما هو من صفات السابقين الأولين، شكا في الدين ؟ وعن الحسن البصري - في النفاق - ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن .
وقال ابن القيم، رحمه الله : وبحسب إيمان العبد، ومعرفته، يشتد خوفه أن يكون منهم ؛ ولهذا : اشتد خوف(2/40)
(ص558) سادة الأمة ، وسابقيها على أنفسهم، أن يكونوا منهم، انتهى .
فكلما زاد الإيمان، اشتد الخوف من النفاق، وعلى حسب ضعف الإيمان، يكون الأمن منه ؛ وأما خوف الكفر، فيكفي فيه، قول الله تعالى، إخباراً عن خليله إبراهيم : (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [إبراهيم :35] وهو يدل على شدة خوفه من هذا الأمر ؛ وفي الدعاء المأثور : " اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، وأن أردّ إلى أرذل العمر ".
واعلم : أن كون الإنسان، يشتد خوفه من الكفر، والنفاق، ويكثر البحث عن أسبابهما، ونحو ذلك، هو أمر غير التلفظ به ؛ وكونه يقول : أنا منافق : فذاك لون، وهذا لون .
وقال ابنه : الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، عفا الله عنه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف المرسلين، وعلى آله، وأصحابه والتابعين .
أما بعد : فقد وقع البحث في الحديث، الذي في الصحيحين، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " فصرح بعض الحاضرين، بأن(2/41)
(ص559) القحطاني المذكور في هذا الحديث، هو : محمد بن رشيد، الذي خرج في أواخر المائة الثالثة بعد الألف من الهجرة، وعظمت شوكته، وانتشرت دولته في أوائل المائة الرابعة، واستولى على كثير من البلدان، النجدية، وقهر جماعات من أهل، البادية، حتى استسلم لأمره كثير من أهل نجد، واليمامة، أو أكثرهم ؛ فسألني بعض الخواص، هل يسوغ القول بما قاله هذا القائل ؟ وهل ينبغي الجزم به ؟ أم لا ؟
ثم بلغني عن الإخوان : أنه نسب هذا إلى صديق حسن الهندي، وأنه نقل عن صديق، أن الحديث يفيد : أن القحطاني المذكور في الحديث، مسلم، وليس بمؤمن ؛ فعنَّ لي أن أذكر بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم، على هذا الحديث، مع كلمات يسيرة، يستفيد بها السائل ؛ وإن كنتُ لست أهلاً لذلك، لقلة العلم، وعدم وجود من استفيد منه، من أهل التحقيق .
ولأن الكلام على أحاديث الرسول، مما يحجم عنه الجهابذة الفحول، فكيف بمن هو مزجى البضاعة، قاصر الباع ؟ وإني لمعترف - والصدق منجاة - بأن : طلب الإفادة، ممن هو مثلي، من عجائب الدهر، ولكن الضرورة قد تلجيء إلى أعظم من ذلك، فأقول في الجواب :
اعلم : أن قول القائل، إن القحطاني المذكور في(2/42)
(ص560) الحديث، هو الرجل الذي وصفنا، لاشك أنه تعيين لمراد المعصوم صلى الله عليه وسلم، وتبيين لمقصوده، وهذا مفتقر إلى أحد شيئين ؛ الأول : النقل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، برواية الثقات ؛ ونقل : العدول، المعتبرين عند أهل النقل بالتنصيص، على المقصود بكلامه، إنه هذا الرجل بعينه ؛ وهذا : مما لا سبيل إليه البتة .
الثاني : وجود القرائن، وقيام الشواهد، الدالة على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم هو هذا ؛ ولكن لا يطلع عليها إلا من حصل المعرفة التامة بمدلول لفظ الحديث وضم إلى ذلك النظر في سيرة هذا، الذي يدعى انه المقصود واعتبار حاله وما كان عليه، وأما الجزم بالتعيين مع تخلف العلم بمدلول الفظ أو وجود بعض الاحتمالات التي يتعذر معها الجذم بالمفهوم أو عدم اعتبار حال المدعى انه المراد، والإعراض عن التفتيش في سيرته فلا يخفى بعده عن العلم المفيد عند أهل المعرفة .
وإذا عرف هذا فنقول : قال بعض أهل العلم في معنى الحديث، هو كناية عن استقامة الناس وانقيادهم لهم واتفاقهم عليه، قال إلا أن في ذكرها - يعنى العصا -دليل على عسفه لهم وخشونته عليهم وقال بعضهم هو حقيقة أو مجاز عن القهر، والضرب، ونقل : محمد طاهر الهندى، في شرح غريب الآثار عن شرح الصابيح، أنه عبارة عن التسخير، كسوق الراعي، انتهى 0(2/43)
(ص561) فظهر بهذا : إن المذكور في الحديث يكون له تسلط على الناس حتى يقهرهم ويستولي عليهم كاستلاء الراعي على غنمه بحيث لا يتخلف أحد من رعيته عن طاعته ومن تأمل ما وقع من كثير من الناس من التخلف عن متابعة هذا الأمير والخروج عن طاعته والعصيان لأمره وعرف ما قاله العلماء في معنى الحديث، أوجب له ذلك : التوقف فيما قاله هؤلاء العلماء والإنكفاف عما أقدموا عليه هذا لو لم ينقل في شأن القحطاني إلا هذا 0
فكيف وقد قال القرطبي : يجوز أن يكون القحطانى هو : الجهجاه، المذكور في الحديث الذي رواه مسلم يشير إلى حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تذهب الأيام والليالى، حتى يملك رجل، يقال له الجهجاه " ونقل في بعض الأخبار : أن خروج القحطاني بعد المهدي كما سيأتي بيانه 0
وأما إسلام القحطاني، أو إيمانه، فليس في حديث الصحيحين تعرض لذلك، وقد تقدم الحديث، ولفظه : " لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " وليس في هذا ما يدل على إسلامه، ولا إيمانه، كما أنه لا يدل على كفره، ولا نفاقه، بل هذا : خبر مجرد كإخباره صلى الله عليه وسلم بالجهجاه وهذا من أنباء الغيب التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم كما أخبر بالفتن، والملاحم، والدخان، والدابة، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من(2/44)
(ص562) مغربها، وغير ذلك مما أخبره به صلى الله عليه وسلم مما سيكون نعم : إن ثبت ما رُوى : أن خروج القحطاني يكون بعد المهدى، وأنه يسير على سيرة المهدى، فلا شك أنه من أهل الإسلام والإيمان ومن الدعاة إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وردت أحاديث تدل : على خروج المهدي، وحكمه بالقسط والعدل، وهى: مذكورة في سنن أبي داود، وابن ماجة وغيرهما، منها : حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو لم يبقى من الدنيا إلا يوم، لطوّله الله حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي، يوطء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" وقد ورد حديث، فيه : " لا مهدى إلا عيسى بن مريم " 0
قال شيخ الإسلام :ابن تميمة رحمه الله تعالى هو حديث ضعيف رواه يونس عن الشافعي عن شيخ من أهل اليمن ولا يقوم بإسناده حجه وقال الذهبي في الميزان يونس ابن عبد الأعلى، أبو موسى الصدفي، روى عن ابن عيينة وابن وهب وعنه ابن خزيمة، وأبي عوانه، وخلق، وثقه : أبو حاتم وغيره، ونعتوه بالحفظ، والعقل إلا انه تفرد عن الشافعي بذلك الحديث : " لا مهدي إلا ابن مريم " فهو منكر جداً، انتهى 0
وقال : صديق - في عون الباري بعد ذكر حديث القحطانى يكون بعد المهدي ويسير على سيرته، رواه أبو(2/45)
(ص563) نعيم بن حماد في الفتن، انتهى، فإن ثبت هذا فهو يدل مع أحاديث المهدي على تأخر خروج القحطاني وأنه لا يخرج إلا بعد خروج المهدى وأنه يكون على سيرة حسنة وحالته مرضية، لا كما نقل عن البعض، أن حديث الصحيحين، يدل على أنه : مسلم، وليس بالمؤمن فإن الحديث لا يدل على ذلك لا بمنطوقه، ولا بمفهومه، فإن كان صديق قال ذلك، فلا يخفى ما فيه .
وكذلك النقل عن صديق أنه قال :أقرب ما يكون القحطاني الذكور في الحديث، أنه محمد بن رشيد في ثبوته عنه نظر، فقد قدمنا في هذا جزم صديق في كتابه بأن خروج القحطاني يكون بعد خروج المهدى واستدلاله على ذلك بما رواه أبو نعيم، فكيف يتفق هذا، وذاك ؟! ولا شك في عدم ثبوت هذه المقالة عمن اخذ عن صديق وسمع كلامه 0
فلذلك : أقول ينبغي أن ينظر فيمن نقل هذا عن صاحبنا، الذي نقل عن : صديق، وعلى تقدير ثبوت هذا فهو قولٌ مجردٌ عن الدليل، ومناقض لما قرره، هو واستدل عليه، كما عرفناك قريبا ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) [ النساء :82] والله أعلم(2/46)
(ص564) وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، وفقه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إلَه إلا ّ الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، آل الشيخ، إلى من يراه من أهل القرى ورؤساء القبائل من أهل اليمن، وعسير، وتهامة، وشهران، وبنى شهر، وقحطان، وغامد، وزهران، وكافة أهل الحجاز، وغيرهم، هدانا الله وإياهم لدين الإسلام وجعلنا وإياهم من اتباع سيد الأنام، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
أما بعد : فإنه لما كان في هذه السنة وهى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية بعثنا الإمام المقدم والرئيس(2/47)
(ص565) المفضل المفخم، صاحب السعاده، والسياده، عبد العزيز، بن عبد الرحمن، بن فيصل، أل سعود، أعلا الله سعوده، وأدام للمسلمين وجوده، لأجل تعليمكم ما أوجبه الله عيكم وتعبدكم به ،من دين الإسلام الذي معرفته ،والعمل به، والبصيرة فيه، سبب لدخول الجنة، والجهل به، والإعراض عنه، وعدم قبوله، والانقياد له، سبب لدخول النار .
فلما قدمنا بعض جهادكم : رأينا أهلها، قد جال بهم الشيطان، والهوى، وتمادوا في الغي والطغيان، والإعراض عن النور والهدى، وفرقوا أمرهم، وكانوا شيعا، وغلب عليهم الجهل، وإيثار الشهوات واستجابوا لداعي الشبهات، فوقعوا في وادي جهل خطير، فهم على شفا حفرة من السعير، وغلب على أكثرهم الاعتقاد في أهل القبور، والأحجار، والغيران، وتعظيم أهل الصلاح من المقبورين، وهذا هو دين أهل الجاهلية الأولى، الذي بعث فيهم سيد المرسلين، وإمام المتقين .
فلما رأينا ذلك، وجب علينا : الدعوة إلى الله، بالحجج والبراهين، وهى طريقة النبي الأمين، وسبيل من اتبعه، من الصحابة، والتابعين، ومن سلك منهاجهم إلى يوم الدين، كما قال تعالى : ( قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف :108 ] .(2/48)
(ص566) وكتبنا : من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والعقائد السلفية، إلى القبائل والبلدان، بعدما سفت عليها السوافى، وقل من يعرفها، من أهل القرى، والبوادى، نصحا لله ولرسوله، ولكتابه، ولعبادة المؤمنين .
وصار بعض الناس : يسمع بنا معاشر الوهابية، ولا يعرف حقيقة ما نحن عليه، وينسب الينا، ويضيف إلى ديننا ما لا ندعوا اليه، فبعضهم : يتقول علينا، وينسب إلينا السفاسف، والأباطيل، تنفيراً للناس عن قبول هذا الدين، وصدا لهم عن توحيد رب العالمين، فأوجب لنا : تسويد هذه العجالة، بيانا لما نعتقده، وندين الله به، وندعوا إليه، ونجاهد الناس عليه .
فاعلموا - إن حقيقة ما نحن عليه، وما ندعوا إليه ونجاهد على التزامه، والعمل به - إنا ندعوا إلى دين الإسلام، والتزام أركانه، وأحكامه الذي أصله، وأساسه : شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله والأمر بعبادته وحده لا شريك له، وهذه العبادة، مبنية على اصلين : كمال الحب لله، مع كمال الخضوع، والذل له، والعبادة لها أنواع كثيرة، فمن أنواعها : الدعاء، وهو أجل أنواع العبادة، وسماه الله عباده، في عدة مواضع من كتابه، كما قال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [غافر :60]ونظائر هذا في القرآن كثير، وفى الحديث : " الدعاء مخ العبادة " .(2/49)
(ص567) فنقول : لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث في الشدائد، وجلب الفوائد إلا به، ولا يذبح القربان الإله، ولا ينذر الإله، ولا يخاف خوف السر، إلا منه وحده، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان، ولا يستعاذ إلا به، وليس لأحد من الخلق شيء من ذلك، لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا الأولياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، فلله حق، لا يكون لغيره، وحقه تعالى : إفراده بجميع أنواع العبادة، فلا تأله القلوب محبة وإجلالاً، وتعظيماً، وخوفاً، ورجاء، إلا الله، فهذه . هي : الحكمة الشرعية، الدينية، والأمر المقصود في إيجاد البرية .
قال الله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ومعنى : يعبدون، يوحدون، والعبادة هي : التوحيد، لأن الخصومة بين الرسل وأممهم، فيه، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسولا إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء :25 ] وقال تعالى : ( وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) [ الجن : 18 ] فمن دعا غير الله، من ميت، أو غائب، أو استغاث به، فهو مشرك كافر، وإن لم يقصد إلا مجرد التقرب إلى الله، وطلب الشفاعة عنده .
وقد دخل كثير من هذه الأمة في الشرك بالله، والتعلق على من سواه، ويسمون ذلك توسلا، وتشفعا، وتغيير(2/50)
(ص568) الأسماء، لا اعتبار به، ولا تزول حقيقة الشيء، ولا حكمه بزوال اسمه، وانتقاله في عرف الناس، باسم آخر .
ولما علم الشيطان : أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألهاً، أخرجه في قالب آخر، تقبله النفوس وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ليشربن أناساً من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها " وكذلك من زنى، وسمى ما فعله : نكاحا، فتغيير الأسماء، لا يزيل الحقائق، وكذا من ارتكب شيئا، من الأمور الشركيه، فهو مشرك، وإن سمى ذلك توسلاً، وتشفعاً
يوضح ذلك : ما ذكر الله في كتابه، عن اليهود، والنصارى، بقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) الآية [التوبة : 31 ] . وروى الإمام أحمد، والترمزي وغيرهما :أن عدى بن حاتم، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم
وكان قد تنصر في الجاهليه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) الآية ، قال يا رسول الله : انهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم : " بلا انهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام، فذاك عبادتهم إياهم " .
وقال بن عباس وحذيفة بن اليمان، في تفسير هذه الآية : انههم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، فهؤلاء الذين اخبر الله عنهم في هذه الآية، لم يسموا أحبارهم، ورهبانهم، أربابا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون : أن فعلهم هذا معهم عباده .(2/51)
(ص569) لهم، ولهذا قال عدى : انهم لم يعبدوهم، وحكم الشيء تابع لحقيقتة، لا لاسمه، ولا لاعتقاد فاعله، فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم في ذلك ليس بعباده لهم، فلم يكن ذلك عذرا لهم، ولا مزيلا لاسم فعلهم، ولا لحقيقته وحكمه .
يوضح ذلك : ما روى الترمذي وصححه، عن أبي واقد الليثى، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ،كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله اكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنى إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهه قال إنكم قوم تجهلون ) [ الأعراف : 138] لتتبعن سنن من كان قبلكم " فهؤلاء : ما كانوا يظنون، أن الذي طلبوه مما تنفيه لا إلَه إلا ّ الله، فلم يكن جهلهم مغيرا لحقيقة هذا الأمر، وحكمه .
ومن كان له معرفة بما بعث الله به رسوله، علم : أن ما يُفعل عند القبور من دعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، والعكوف عند ضرائحهم، والسجود لهم، والنذر لهم، اعظم واكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا مندون الله، وأقبح، وأشنع من قول الذين قالوا : اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط .(2/52)
(ص570) قال بعض العلماء المحققين، رحمه الله تعالى : فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة، لتعليق الأسلحه، والعكوف عليها، اتخاذ إله، مع انهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده ؟ فأي نسبة للفتنه بشجرة إلى الفتنه بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع، يعلمون ؟ انتهى .
ولقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسد الذرائع، التي تقضى إلى الشرك والتنديد، فقال فيما صح
عنه صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ونهى عن إيقاد السرج عليها، فقال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليه المساجد، والسرج " ونهى : أن تتخذ عيداً، ونهى عن البناء عليها، وأمر بتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبى الهياج الأسدي، قال : قال لي عليّ، رضي الله عنه : إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، ونهى : عن تجصيص القبور ،وعن الكتابة عليها .
فنحن : ننكر الغلو في أهل القبور والإطراء، التعظيم، ونهدم البنايات، التي على قبور الأموات، لما فيها من الغلو والتعظيم، الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله، وهذه الأمور التي أوجبت عبادتها من دون الله : ابتدعها أناسٌ، أرادوا بها التعظيم، وإظهار تشريفهم، فجاء من(2/53)
(ص571) بعدهم فعبدوهم من دون الله وقصدوا منهم كشف الملمات وسألوهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، واعتقدوا هذا الشرك الوخيم، قربةً وديناً يدينون به واشتد نكيرهم، على من أنكر ذلك وحذروا عنه، ورموه بالزور والبهتان، والله ناصر دينه، في كل زمان ومكان، لكنه : يمتحن حزبه، بحربه، مذ كانت الفئتان .
ومما نعتقده وندين الله به : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر، خيره وشره، ونؤمن بأسماء الله تعالى، وصفاته، ونثبت ذلك على ما يليق بجلاله، وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وننزه الله عما لا يليق بجلاله، تنزيها بلا تعطيل، ونعتقد أن الله سبحانه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، وعرشه فوق السماوات، وهو : بائنٌ على مخلوقاته، ولا يخلو مكان من علمه، قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5] فنؤمن باللفظ، ونثبت حقيقة الاستواء، ولا نكيّف، ولا نمثل لأنه لا يعلم كيف هو، إلا هو .
قال إمام دار الهجرة مالك بن انس، رحمه الله - وبقوله نقول، وقد سأله رجلا عن الاستواء، فقال - الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه، فأثبت مالك رحمه الله : الاستواء ونفى علم الكيفية، وكذلك اعتقادنا في جميع أسماء الرب، وصفاته، من الإيمان باللفظ، وإثبات الحقيقة ونفى علم الكيفية ؟(2/54)
(ص572) والقول الشامل في ذلك أنا نصف الله بما وصف نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن، والحديث، فمن شبه الله بخلقه، فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، قال الله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى : 11] فسبحان من لا سمى له، ولا كفو له، وهو أعلم بنفسه، وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه .
ونؤمن بما ورد، من أن الله تعالى ينزل كل ليله إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : " هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه " .
ونعتقد أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة، وسمعه جبريل من الباري سبحانه ونزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقول بقول الأشاعرة، ولا غيرهم من أهل البدع .
ونؤمن : أن الله فعّال لما يريد، لا يكون شيءٌ، إلا بقضائه وقدره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُطَّ في اللوح المسطور .
ونؤمن : بآيات الوعيد، والأحاديث الثابته، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بتخليد أحد من المسلمين من أهل الكبائر في النار كما تقول الخوارج، والمعتزلة، لما ثبت .(2/55)
(ص573) عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإخراجهم من النار، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن يشفع له، مناهل الكبائر من أمته وشفاعة غيره من الملائكة والأنبياء، ولا نقف في الأحكام المطلقة، بل نعلم : أن الله يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر وآخرون : لا يدخلونها، لأسباب تمنع من دخولها كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحوها .
ونعتقد أن الله يفعل ما يفعله لحكمة وأسباب، وهو تبارك وتعالى : خالق الأسباب ومسبباتها، ولا نشهد لشخص معيّن، بجنةٍ ولا نار، لأن حقيقة باطنة، وما مات عليه، لا نحيط به لكن نرجوا للمحسن، ونخاف على المسيء إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكفّر أحداً من أهل الإسلام بذنب دون الشرك، ولا نخرجه عن دائرة الإسلام، بارتكاب كبيرة .
ونؤمن : بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعد الموت، ونؤمن : بفتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى أجسادها، فيقوم الناس لرب العالمين، في موقف القيامة، حفاة، عراه، غرلا، وتدنو منهم الشمس، فليجمهم العرق، وتُنصب الموازين، وتُنشر الدواوين، فآخذٍ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله .
ونؤمن : بحوضِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونؤمن : بأن الصراط(2/56)
(ص574) يُنصب على مَتنْ جهنم، ويمر الناس على قَدْر أعمالهم ونؤمن : بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع ؛ ولا ينكرها إلا مبتدع ضال، وأنها لا تقع بعد الإذن والرضا كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28] وقال تعالى (وكم من مَلَك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضي ) [ النجم : 26 ] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله قال أبو هريرة رضي الله عنه، للنبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : " من قال لا إلَه إلا ّ الله، خالصا من قلبه " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، بأذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله قال تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) [ المدثر : 48 ]
ونؤمن : أن الله تعالى خلق الجنة وأنها موجودة الآن وأن الله أعدها لمن أطاعه واتقاه وأن الله خلق النار وأنها موجودة الآن وأن الله أعدها لمن كفر به وعصاه ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة كما يُرى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤية، قال تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [القيامة : 22-23 ] وقال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه تعالى " .(2/57)
(ص575) ونؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين وأن أفضل أمته : أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم على ثم بقية العشرة، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ثم سائر الصحابة رضى الله عنهم أجمعين ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نترضى عنهم ونستغفر لهم، ونذكر محاسنهم وفضائلهم ونكف عما شجر بينهم ونترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوءٍ وأن فضلاهن عائشة ونبرأ من قول الرافضة ونعتقد كفر غلاتهم ونبرأ من قول الزيدية، وغيرهم من أهل البدع .
ونرى الجهاد مع كل إمام بَرّاً كان أو فاجراً منذ بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال ونرى : وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمرون بمعصية ونرى : هجر أهل البدع ومباينتهم ونرى أن كل محدثةٍ في الدين بدعة .
ونرى : وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على كل قادر بحسب قدرته واستطاعته بيده فان تعذر فبلسانه فان تعذر فبقلبه كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " .
ونعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان(2/58)
(ص576) واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما في الحديث الصحيح " الإيمان بضعٌ، وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إلَه إلا ّ الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " .
ونعتقد : أن الله أكمل الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثه محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلام عليه دائماً إلى يوم الدين قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [ المائدة : 3 ] فلما أكمل الله به الدين، وبلّغ البلاغ المبين، قبضه الله إليه، وتوفاه، واختار له الرفيق الأعلى .
ونعتقد : أن رتبته صلى الله عليه وسلم أعلى رتب المخلوقين، على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء، المنصوص عليها في التنزيل ؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وأما الحياة التي تقتضي العلم، والتصرف، والحركة في التدبير، فهي منفية عنه صلى الله عليه وسلم .
وبالجملة : فعقيدتنا في جميع الصفات، الثابتة في الكتاب، والسنة، عقيدة أهل السنة والجماعة، نؤمن بها، ونُمرها كما جاءت، مع إثبات حقائقها، وما دلت عليه، من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تعطيل، ولا تبديل، ولا تأويل .(2/59)
(ص577) وأما . مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، في الفروع، والأحكام، ولا ندّعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد، كائناً من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم ؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا : أجل وأعظم، من أن نقدم عليها قول أحد ؛ فهذا الذي نعتقده، وندين الله به، فمن نسب عنا خلاف ذلك، أو تقول علينا ما لم نقل، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، وحسابنا وحسابه عند الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر لديه مخبآت الصدور، والضمائر ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[الأحزاب:4] وحسبنا الله، ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
وله أيضاً وفقه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه، من عسير، وكافة الحجاز، واليمن، هداهم الله لدين الإسلام ؛ وبعد : فاعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به وندعوا الناس إليه، ونجاهدهم عليه، هو دين الإسلام، الذي أوجبه الله على عباده، وهو حقه عليهم، الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به عبادته أحداً من(2/60)
(ص578) المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فمن تعلق على غير الله، وصرف له شيئاً من أنواع العبادة، فقد اتخذه إلهاً مع الله ؛ وقد أخبر الله سبحانه وتعالى : أنه حرم الجنة على من أشرك معه أحداً غيره، وحرم المغفرة عليه، كما قال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء:48] وقال : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) الآية [ المائدة :72] وقال صلى الله عليه وسلم :" من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة، ومن لقبه يشرك به شيئاً، دخل النار ".
ونأمر : بهدم القباب، ونهدم ما بُني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب، وغيره ؛ ونأمر : بإقام الصلاة، جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف، أو تكاسل عن حضورها، وترك الحضور في المسجد ؛ ونٌلزم : ببقية شرائع الإسلام، كالزكاة، والصوم، والحج للقادر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ؛ وننهى عن الربا، والزنا، وشرب الخمر، والتتن ؛ وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام .
وبالجملة : فإنا نأمر بما أمر الله في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحلل إلا ما حلل الله ؛ فهذا الذي ندعوا إليه، ومن كان قصده الحق، ومراده الخير، والدخول فيه، التزم ما ذكرنا، وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا ،(2/61)
(ص579) وعليه ما علينا، ونجاهد من لم يقبل ذلك، ونستعين الله على جهاده، ونقاتله، حتى يلتزم ما أمر الله به، في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم .
فإنا - ولله الحمد والمنة - لم نخرج عما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن نسب عنا خلاف ذلك، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين ؛ وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم .
قال الشيخ : سليمان بن سحمان، قدس الله روحه، ونور ضريحه، بعد سياق جملة من عقائد أهل هذه الدعوة :
ذكرتٌ هذه المنظومة، التي تتضمن ما نحن عليه، من الاعتقاد، مما خالفنا فيه المشبهون، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، لو كره الكافرون .
وبالجملة : فهذا ما نعتقده، وندين الله به، وندعوا الناس إليه، ونجاهد عليه من خالفنا في ذلك، بحول الله وقوته، وهذا نصها :
ويا خير مسؤول مجيبٍ لمجتد
.
لك الحمد اللهم يا خير سيد
.
بفضلك إلا ءً بغير تعدد ؟
.
لك الحمد كم أوليتنا وحبوتنا
.
على كل من عادى لدين محمد
.
لك الحمد كم آويتنا بل نصرتنا
.
وقد كان مرفوضاً لدى كل ملحد
.
وعرفتنا الإسلام دين محمد
.
وجنبتنا أديان كل ملدد
.
وبصرتنا نوراً من الحق واضحاً
.(2/62)
(ص580)
على كل ما أولى وأعطاه سيدي
.
فلله ربي الحمد والشكر والثنا
.
أبان لنا الإسلام حقاً لنهتدي
.
وبعد : فإن الله جل جلاله
.
وقد صد عنه كل غاو ومعتدِ
.
ونشكره لما هدانا إلى الهدى
.
إلى الفقه في أصل الهدى والتجرد
.
فهبوا عباد الله من نومة الردى
.
طرائق أهل الغي من كل ملحد
.
ولا تشركوا بالله شيئاً وجنبوا
.
ويدعوهم في كل خطب ويجتدي
.
كمن كان يغدو للمقابر زائراً
.
يلم بهم من حادث متجدد
.
ويرجون غوثاً في الشدائد عندما
.
إلى الله ذي العرش العظيم الممجد
.
ويرجون منهم قربة وشفاعة
.
وفي كل كرب فعل أهل التمرد
.
ويطلب منهم كشف كل ملمة
.
يؤمله من كل خطب ومقصد
.
ويطلب من أهل المقابر كل ما
.
إلهاً عظيماً قادراً ذا تفرد
.
وينسون رباً واحداً جل ذكره
.
عليك بتقوى الله ذي العرش تهتد
.
فيا أيها الراجي سلامة دينه
.
لعلك أن تنجو من النار في غد
.
وإياه فارغب في الهداية للهدى
.
وسل ربك التثبيت أي موحد
.
وكن باذلاً للجد والجهد طالباً
.
وتخطى بجنات وخلد مؤبد
.
وإن رمت أن تنجو من النار سالماً
.
وحور حسان كاليواقيت خرد
.
وروح وريحان وأرغد حبرة
.
بأنواعها لله قصداً وجرد
.
فحقق لتوحيد العبادة مخلصاً
.
وبالحب والرغبى إليه ووحد
.
وأفرده بالتعظيم والخوف والرجا
.
ولا تستغث إلا بربك تهتد
.
وبالنذر والذبح الذي أنت ناسك
.
له خاشياً بل خاشعاً في التعبد
.
ولا تستعن إلا به وبحوله
.
وكن لائذاً بالله في كل مقصد
.
ولا تستعن إلا به لا بغيره
.(2/63)
(ص581)
عليه وثق بالله ذي العرش تَرْشُدِ
.
إليه منيباً تائباً متوكلاً
.
فداع لغير الله غاوٍ ومعتدِ
.
ولا تدع إلا الله لا شيء غيره
.
تعظمه واركع لربك واسجد
.
وكن خاضعاً لله ربك لا لمن
.
إليك وتسميعاً له بالتعبد
.
وصل له واحذر مراءاة ناظرٍ
.
يرون له حقاً فجاؤوا بمؤيد
.
وجانب لما قد يفعل الناس عند من
.
ويومون نحو الرأس والأنف باليد
.
يقومون تعظيماً ويحنون نحوه
.
إليه بتعظيم وذا فعل معتد
.
وهذا سجود وانحنا بإشارة
.
بها الله مختص فوحده تسعد
.
إلى غير ذا من كل أنواعها التي
.
فجانبه واحذر أن تجيء بمؤيد
.
وفي صرفها أو بعضها الشرك قد أتى
.
على عهد نوح والنبي محمد
.
وهذا الذي فيه الخصومة قد جرت
.
مقراً بأن الله أكمل سيد
.
ووحده في أفعاله جل ذكره
.
هو المالك الرازق فاسأله واجتد
.
هو الخالق المحيي المميت مدبر
.
أقر ولم يجحد بها كل ملحد
.
إلى غير ذا من كل أفعاله التي
.
ولا تتأولها كرأي المفند
.
ووحده في أسمائه وصفاته
.
على عرشه من فوق سبع ممجد
.
فنشهد أن الله حق بذاته
.
عن الخلق حقاً قول كل موحد
.
عليه استوى من غير كيف وبائن
.
بها النص من آي ومن وقول أحمد
.
وأن صفات الله حق كما أتى
.
وليست مجازاً قول أهل التمرد
.
بكل معانيها فحق حقيقة
.
سمي وقل لا كفو لله تهتد
.
فليس كمثل الله شيء ولا له
.(2/64)
(ص582)
إله الورى حقاً بغير تردد
.
وذا كله معنى شهادة أنه
.
لنعم الرجا يوم اللقا للموحد
.
فحقق لها لفظاً ومعنى فإنها
.
بها مستقيماً في الطريق المحمدي
.
هي العروة الوثقى فكن متمسكاً
.
تعالى ولا تشرك به أو تندد
.
فكن واحداً في واحد ولواحد
.
كما قاله الإعلام من كل مهتد
.
ومن لم يقيدها بكل شروطها
.
ولكن على آراء كل ملدد
.
فليس على نهج الشريعة سالكاً
.
من الجهل، إن الجهل ليس بمسعد
.
فأولها : العلم المنافي لضده
.
بمدلولها يوماً فبالجهل مرتد
.
فلو كان ذا علم كثير وجاهلاً
.
هو الرد فافهم ذلك القيد ترشد
.
وثانيها : وهو القبول وضده
.
وردوه لما أن عتوا في التمرد
.
كحال قريش حين لم يقبلوا الهدى
.
تدل على توحيده والتفرد
.
وقد علموا منها المراد وأنها
.
بسورة ص فاعلمن ذاك تهتد
.
فقالوا كما قد قاله الله عنهم
.
حلالاً وأغناماً لكل موحد
.
فصارت به أموالهم ودمائهم
.
هو الشرك بالمعبود في كل مقصد
.
وثالثها : الإخلاص، فاعلم وضده
.
بسورة تنزيل الكتاب الممجد
.
كما أمر الله الكريم نبيه
.
محباً لما دلت عليه من الهدي
.
ورابعها : شرط المحبة، فلتكن
.
كذا النفي للشرك المفند والدد
.
وإخلاص أنواع العبادة كلها
.
يتم بحب الدين دين محمد
.
ومن كان ذا حب لمولاه إنما
.(2/65)
(ص583)
ووال الذي والاه من كل مهتد
.
فعاد الذي عادى لدين محمد
.
إلى الله والتقوى وأكمل مرشد
.
وأحبب رسول الله أكمل من دعا
.
جميع الورى والمال من كل أتلد
.
أحب من الأولاد والنفس بل ومن
.
بآبائنا والأمهات فتفتدى
.
وطارفه والوالدين كليهما
.
وأبغض لبعض الله أهل التمرد
.
وأحبب لحب الله من كان مؤمناً
.
كذاك البرا من كل غاو ومعتد
.
وما الدين إلا الحب والبغض والولا
.
هو الترك للمأمور أو فعل مفسد
.
وخامسها : فالانقياد وضده
.
وتعمل بالمفروض حتماً وتقتدى
.
فتنقاد حقاً بالحقوق جميعها
.
ومستسلماً لله بالقلب ترشد
.
وتترك ما قد حرم الله طائعاً
.
ولم يك طوعاً بالجوارح ينقد
.
فمن لم يكن لله بالقلب مسلماً
.
وإن خال رشداً ما أتى من تعبد
.
فليس على نهج الشريعة سالكاً
.
هو : الشك في الدين القويم المحمدي
.
وسادسها : وهو اليقين، وضده
.
ويعلم أن قد جاء يوماً بمؤيد
.
ومن شك فليبكى على رفض دينه
.
عن السيد المعصوم أكمل مرشد
.
بها قلبه مستيقناً جاء ذكره
.
إذا لم يكن مستقيناً ذا تجرد
.
ولا تنفع المرء الشهادة فاعلمن
.
من الكذب الداعي إلى كل مفسد
.
وسابعها : الصدق، المنافي لضده
.
لها عاملاً بالمقتضى فهو مهتد
.
وعارف معناها إذا كان قابلاً
.
وعن واجبات الدين لم يتبلد
.
وطابق فيها قلبه للسانه
.
بقائلها يوماً فليس على الهدى
.
وما لم تقم هذى الشروط جميعها
.(2/66)
(ص584)
. ... ...
محمد المعصوم أكمل مرشد
.
ونشهد : أن المصطفى سيد الورى
.
رسول من الله العظيم الممجد
.
وأفضل من يدعو إلى الدين والهدى
.
يطاع فلا يعصى بغير تردد
.
إلى كل خلق الله طراً وأنه
.
ونجتنب المنهى من كل مفسد
.
ونأتي من المأمور ما نستطيعه
.
عمود لهذا الدين في نص أحمد
.
وأن الصلاة الخمس فرض وأنها
.
على كل ذي مال لدى كل مهتد
.
كذاك زكاة المال فرض وواجب
.
كما قاله المعصوم أكمل سيد
.
ومن لا يصلي فهو لا شك كافر
.
كما هو في نص الكتاب الممجد
.
وقد فرض الله الصيام على الورى
.
على مستطيع قادر ذي تزود
.
كذلك حج البيت فرض وواجب
.
مبينة أركانه في المعدد
.
فهذا هو الإسلام حقاً كما أتت
.
وأملاكه والرسل من كل أمجد
.
ونؤمن بالله العظيم إلهناً
.
وبالقدر المقدور حقاً لنهتد
.
وكتب وباليوم الذي هو آخر
.
وما لم يقدر لا يكون فقيد
.
فما قدر الرحمن كان كما يشا
.
من الله تقديراً بغير تردد
.
وما كان من خير وشر فكله
.
بإخلاص هذا الدين للمتفرد
.
وقد بعث الله النبي محمداً
.
طريقتهم من كل غاو ومعتد
.
وتكفير عباد القبور ومن على
.
لتنجو من حر الجحيم المؤبد
.
فكن سالكاً في منهج الحق والهدى
.
ذوي العلم والتحقيق من كل مهتد
.
وهذا اعتقاد للأئمة قبلنا
.
ومالك والنعمان من كل سيد
.
كمثل الإمام الشافعي وأحمد
.
وأتباعهم أهل التقى والتجرد
.
وأصحابهم من كل حبر وجهبذ
.(2/67)
(ص585)
. ... ...
نسير ولا نألوا اجتهاداً ونقتدى
.
ونحن على منهاجهم واعتقادهم
.
وتوفيقه والله بالخير يبتدي
.
بحول إله العرش جل جلاله
.
لأهل الهدى من قول كل ملدد
.
ونبرأ من كل ابتداع مخالف
.
ومن كل جهمي كفور وملحد
.
ومن دين عباد القبور جميعهم
.
بتكفيرهم بالذنب كل موحد
.
ونبرأ من دين الخوارج إذ غلو
.
وتشديدهم في الدين أي تشدد
.
وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم
.
وليس على نهج النبي محمد
.
ومن كل دين خالف الحق والهدى
.
جميعاً لما قد قلته في المنضد
.
فيا أيها الناس اسمعوا وتفطنوا
.
كما هو معلوم، لدى كل مهتدِ
.
فإن كان حقاً واضحاً وعلى الهدى
.
تلوح وتبدو جهرة للموحد
.
عليه من الحق المبين دلائل
.
ولا تتبعوا آراء كل ملدد
.
ففيئوا إلى دين الهدى وذروا الهوى
.
وزاغ عن السمحاء من قول أحمد
.
يرى الدين في أقوال من ضل واعتدى
.
بتغيير دين المصطفى خير مرشد
.
ويا عجبا كيف اطمأنت نفوسكم
.
ينادى به في كل ناد ومشهد
.
فتأتون بالشرك المحرم جهرة
.
لذلك جهراً باللسان وباليد
.
وما منكمو من منكر ومفند
.
فكيف استجزتم فعل أهل التمرد
.
إذا كنتمو من أهل دين محمد
.
وما منكمو من منكر ومفند
.
وكيف استلذيتم من العيش مطمعاً
.
وأنتم ترون الكفر بالله يزدد
.
وكيف لكم طاب المنام وتهدؤوا
.
على حالة لا ترتضى للموحد
.
وكيف لكم قر القرار وأنتمو
.
فما مبصر في الدين يوما كأرمد
.
ألا فأفيقوا وانظروا وتفكروا
.
ولا آمن في دينه كالمقلد
.
وليس أخو جهل كمن عارفا
.
نجاهد ما عشنا ونهدى ونهتد
.
ونحن على ما قد أبنا من الهدى
.
نفوسا وأموالا يغير تردد
.
ونبذل في إظهار دين محمد
.
وباد جميع المال في كل أتلد
.
ولو تلفت منا النفوس بأسرها
.
ويظهر دين الله جهراً لمهتد
.(2/68)
وطارفه حتى يفيئوا إلى الهدى
.
وليس على الدين القويم المحمدي
.
فان لم يكن حقا لديكم وواضحا
.
ومن قول أصحاب النبي محمد
.
فهاتوا دليلا من كتابٍ وسنة
.
وكل إمام حافظ ومسدد
.
واتباعهم والتابعين على الهدى
.
يجي به من زاغ عن دين احمد
.
وحشا وكلا ما إلى ذاك مسلك
.
بريء من الإسلام غاو ومعتد
.
وما هو إلا في مهامه تائه
.
ذوى الحق من بدو وسكان أبلد
.
ويا من على دين النبي محمد
.
طريقتهم من كل هاد ومهتد
.
واعنى بذا سكان نجد ومن على
.
ونعمر أركانا لدين محمد
.
تعالوا بنا نحي رياضا من الهدى
.
ولم يبق إلا من على دين أحمد
.
عفت وانمحت في كل قطر وموطن
.
موضحة معلومة للموحد
.
فأنتم على السمحاء باد بقينها
.
فانتم حماة الدين في كل مشهد
.
فعضوا عليها بالنواجذ واصبروا
.
وغيركمو لا شك بالجهل مرتد
.
وأنتم على الدين الحنفيى والهدى
.
لنصرة دين الله بالمال واليد
.
فيا أيها الإخوان جدوا وشمروا
.(2/69)
(ص587) . ... ...
بذاك خلود في نعيم مؤبد
.
وبيعوا نفوسا في رضا الله واطلبوا
.
سنظعن عنها عن قريب ونفتدى
.
فما هذه الدنيا بدار إقامة
.
إذا مابعثنا من قبور وألحد
.
ولكنها دار الإقامة
.
فإنك ذا فقر بها فتزود
.
هي الدار في الآخرة فان كنت حازما
.
حنانيك اعملا لتنجو في غد
.
فاعدد لها إن كنت بالله مؤمنا
.
وقد كان معلوما بغير تردد
.
إذا تم هذا واستبان لديكمو
.
من الدين في الإسلام من قول أحمد
.
فليزمكم أيضا حقوق كثير
.
على الكره منكم والرضا والتحمد
.
وذلك أن توفوا بعهدكم إمامكم
.
كما جاء في النص الأكيد المؤيد
.
وتعطونه في ذاك سمعا وطاعة
.
وينهى عن الفحشاء من كل مفسد
.
إذا كان بالمعروف يأمركم به
.
بضرب وتنكيل عنيف منكد
.
ولو جار في أخذ من المال واعتدى
.
تريدون كشفاً للظلامة باليد
.
فلا تخرجوا يوماً عليه تعنتا
.
وقد مرقوا من دينهم بالتشدد
.
كما فعلت أعني الخوارج إذ غلوا
.
ولكن برأي منهمو والتجهد
.
بغير دليل من كتاب وسنة
.
ولم يغن عنهم ما اتوا من تعبد
.
فكانوا كلاب النار يوم معادنا
.
وخالف أمر الله من كل معتد
.
ومنها جهاد الكافرين ومن عصى
.
ولا شك في هذا لدى كل مهتد
.
وقد كان معلوما من الدين واضحا
.
على بعضهم حقا لكل موحد
.
ومنها حقوق المسلمين لبغضهم
.
وقارف أوقد جاء يوما بمؤبد
.
فما مسلم إلا وبالذنب قد أتى
.
وإسلامه إذ كان للخير ينقد
.
فيعطى الحقوق اللازمات لدينه
.
كما قال هذا كل حبر مسدد
.
يوالى على هذا وترعى حقوقه
.
ويثنى عليه بالجميل ليزدد
.(2/70)
(ص588) ويحمد من وجه على حسناته
.
يثاب بلا شك لدى كل مهتد
.
كما أنه بالفعل للخير والتقى
.
وزلاته من غير بغض مبعد
.
ويبغض من وجه على هفواته
.
وينزجر الباقون عن كل مفسد
.
ليقلع عن تلك المعاصي وفعلها
.
يعاقب تنكيلا بغير تشدد
.
كما أنه بالسيئات وفعلها
.
على المنهج الأسني يسير ويقتدي
.
فمن لم يراع ما ذكرناه لم يكن
.
على بعضهم في الدين دين محمد
.
وضاعت حقوق المسلمين لبعضهم
.
ولم يهتدوا يوما إلى قول مرشد
.
وصار إلى دين الخوارج إذ غلوا
.
من الخير منهاجا إليه ليهتدى
.
وهذا قليل من كثير فمن يرد
.
لينجوا من حر الجحيم المؤبد
.
فيسأل أهل العلم عن طرق الهدى
.
فيهلك بل يصبوا إلى قول ملحد
.
ولا يتلق العلم عن كل جاهل
.
وقال الشيخ : سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى :
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدنا الله، وأما بعد : فقد اشتملت هذه المنظومة، على ستة مشاهد، ذكرها العلامة : ابن القيم، رحمه الله، في إغاثة اللهفان، في علامة صحة القلب، وختمت ما ذكره الشيخ بذكر ما عليه أهل السنة والجماعة، من الاعتقاد وهذا نصها :
وذكر الله في كل الفعال
.
بحمد الله نبدأ في المقال
.
عن القلب السليم على التوال
.
فذكر الله يجلو كل هم
.
علامات هنالك للكمال
.
فللقلب السليم إذا تزكى
.(2/71)
(ص589)
. ... ...
سليم عن مداخلة الضلال
.
علامات لصحة كل قلب
.
عن الإعلام واضحة لتال
.
علامات ذكر بكل نثر
.
به أرجوا التنافس في الفضال
.
ولكنى نظمت لها نظاما
.
وذكر للعقيدة في المقال
.
مع الإقرار بالتقصير فيها
.
لذي العرش المقدس ذي الجلال
.
علامة صحة القلب ذكره
.
بلا عجز هنالك أو ملال
.
وخدمة ربنا في كل حال
.
سوى من قد يدل إلى المعال
.
ولا يأنس بغير الله طرا
.
ويدمن ذكره في كل حال
.
ويذكر ربه سرا وجهرا
.
يفوت الورد يوما لاشتغال
.
ومنها وهو ثانيها إذا ما
.
يفوت على الحريص من الفضال
.
فيألم للفوات أشد مما
.
ضياعا كالشحيح يبذل مال ببذل
.
ومنها شحه بالوقت يمضى
.
بهم واحد غير انتحال
.
وأيضاً من علامته اهتمام
.
ويترك ما سواه من المقال
.
فيصرف همه لله صرفاً
.
دنى وقت الصلاة لذي الجلال
.
وأيضاً من علامته إذا ما
.
منيب خاضع في كل حال
.
وأحرم داخلاً فيها بقلب
.
بدنيا تضمحل إلى زوال
.
تناآى همه والغم عنه
.
وقرة عينه ونعيم بال
.
ووافى راحة وسرور قلب
.
فيرغب جاهداً في الإبتهال
.
ويشق الخروج عليه منها
.
بتصحيح المقالة والفعال
.
وأيضاً من علامته اهتمام
.
على الإخلاص يحرص بالكمال
.(2/72)
(ص590) وأعمال ونيات وقصد
.
من الأعمال ثمت لا يبال
.
أشد تحرصاً وأشدهم
.
وإفراط وتشديد لغال
.
بتفريط المقصر ثم فيها
.
يمازج صفوها يوماً بحال
.
وتصحيح النصيحة غير غش
.
مع الإحسان في كل الفعال
.
ويحرص في اتباع النص جهداً
.
ولا يعبأ بآراء الرجال
.
ولا يصغي لغير النص طراً
.
علامات عن الداء العضال
.
فست مشاهد للقلب منها
.
بما أسدى عليه من الفضال
.
ويشهد منة الرحمن يوماً
.
بحق الله في كل الخلال
.
ويشهد منه تقصيراً وعجزاً
.
ومنكوس لفعل الخير قال
.
فقلب ليس يشهدها سقيم
.
نعيماً لا يصير إلى زوال
.
فإن رمت النجاة غدا وترجو
.
بدار الخلد في غرف عوال
.
نعيماً لا يبيد وليس يفنى
.
فإن الله جل عن المثال
.
فلا تشرك بربك قط شيئاً
.
عليم عادل حكم الفعال
.
إله واحد أحد عظيم
.
وتابوا من متابعة الضلال
.
رحيم بالعباد إذا أنابوا
.
ويصليه الجحيم ولا يبال
.
شديد الانتقام بمن عصاه
.
بخير في الحياة وفي المآل
.
فبادر بالذي يرضى لتحظى
.
ولا تركن إلى قيل وقال
.
ولازم ذكره في كل وقت
.
ولا يذهب زمانك في اغتفال
.
وأهل العلم جالسهم وسائل
.
لأهل الخير في رتب المعال
.
وأحسن وانبسط وارفق ونافس
.
ويكسو أهله ثوب الجمال
.
فحسنا لبشر مندوب إليه
.(2/73)
(ص591)
. ... ...
وابغض جاهداً فيه ووال
.
وأحبب في الإله وعاد فيه
.
ولا تركن إلى أهل الضلال
.
وأهل الشرك باينهم وفارق
.
بأن الله جل عن المثال
.
وتشهد قاطعاً من غير شك
.
بلا كيف ولا تأويل غال
.
علا بالذات فوق العرش حقاً
.
هم لله من صفة الكمال
.
علو القدر والقهر اللذان
.
عن المعصوم من صحب وآل
.
بهذا جاءنا في كل نص
.
إلى أدنى السماوات العوال
.
وينزل ربنا في كل ليل
.
بلا كيف على مر الليال
.
لثلث الليل ينزل حين يبقى
.
وهل من تائب في كل حال ؟
.
ينادى خلقه : هل من منيب
.
فيعطى سؤله عند السؤال ؟
.
وهل من سائل يدعو بقلب
.
من الأعمال أو سوء المقال ؟
.
وهل مستغفر مما جناه
.
كلام الله من غير اعتلال
.
وتشهد أنما القرآن حقاً
.
بخلق القول عن أهل الضلال
.
ولا تمويه مبتدع جهول
.
كما جاءت على وجه الكمال
.
وآيات الصفات تمر مراً
.
عياناً في القيامة ذي الجلال
.
ورؤيا المؤمنين له تعالى
.
بلا غيم ولا وهم خيال
.
يرى كالبدر أو كالشمس صحوا
.
مع الحوض المطهر كالزلال
.
وميزان الحساب كذاك حقاً
.(2/74)
(ص592)
. ... ...
بنص وارد للشك جال
.
ومعراج الرسول إليه حق
.
على متن السعير بلا محال
.
كذاك الجسر يبسط للبرايا
.
وهاو هالك للنار صال
.
فناج سالم من كل شر
.
وبالمقدور في كل الفعال
.
وتؤمن بالقضا خيراً وشراً
.
لأعداء الرسول ذوي الضلال
.
وأن النار حق قد أعدت
.
بأحوال الخلائق في المآل
.
بحكمة ربنا عدلاً وعلماً
.
أعدت للهداة أولى المعال
.
وأن الجنة الفردوس حق
.
وتكريماً لهم بعد الوصال
.
بفضل منه إحساناً وجوداً
.
بلا شك هنالك للسؤال
.
وكل في المقابر سوف يلقى
.
أتانا النقل عن صحب وآل
.
نكيراً منكراً حقاً بهذا
.
بخير قارنت أو سوء حال
.
وأعمالاً تقارنه فإما
.
وثبتني بعزك ذا الجلال
.
فيا فرداً بلا ثان أجرني
.
بفضلك عن حرامك بالحلال
.
وعاملني بعفوك و اغن قلبي
.
ورشني من فواضلك الجزال
.
ونق القلب من درن الخطايا
.
ضعيفاً في جنابك ذا اتكال
.
ولاطف باللطائف والعنايا
.
فإن تمنن بعفوك لا أبال
.
وجملني بعافية وعفو
.
على الأغصان من طلح وظال
.
وصلى الله ما غنت بأيك
.
حمامات على فنن عوال
.
تنادي دائماً تدعو هديلاً
.
وأزكى الخلق مع صحب وآل
.
على المعصوم أفضل كل خلق
.(2/75)
(ص593) قال الإمام : عبد العزيز، بن عبد الرحمن، الفيصل، وفقه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز، بن عبد الرحمن، آل فيصل، إلى جناب الأخوين، المكرمين، الشيخ الفاضل : أبو اليسار، الدمشقي ؛ وناصر الدين الحجازي، سلمهما الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ أما بعد : فإني أحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، على نعمه، التي من أجلها : نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه، إذ جعلنا من أهلها وأنصارها، الذابين عنها ؛ ونسأله : أن يصلي على عبده، ورسوله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمد، وآله، وصحبه، وحزبه .
وغير ذلك : ورد علينا ردكم، على عبد القادر، الاسكندراني، فرأيناه : رداً سديداً، وجواباً صائباً، مفيداً، وافياً بالمقصود ؛ فحمدنا الله على ما منّ به عليكم، من معرفة الحق، والبصيرة فيه، وعرضناه على مشائخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه ؛ فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة، تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين ؛ فلربنا الحمد لا نحصى(2/76)
(ص594) ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يتثنى به عليه خلقه .
وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان ،التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأوثان، والأصنام، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان ورأوا أن ذلك قربه ودين، يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة ـ من ينهى عن ذلك، أو يغيره ؛ فعند ذلك : اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى وصار من ينكر ذلك، ويحذر عنه، خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبه وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم، من الكفر والشرك والبدع والمنكرات الفظيعة فالعالم بالحق والعارف له، المنكر للباطل، والمغير له، يعد بينهم وحيد، غريبا .
فاغتنموا : رحمكم الله : الدعوة إلى الله وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه من البينات والهدى ؛ وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بالحجة والبيان ؛ حتى يمنّ الله الكريم عليكم، بمن يساعدكم على هذا ؛ فان القيام في ذلك : من أوجب الواجبات وأهم المهمات وأفضل الأعمال الصالحات لا سيما في هذا الزمان الذي قل .(2/77)
(ص595) خيره وكثرة شره قال صلى الله عليه وسلم : " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء "، وقال لعلى ابن أبي طالب رضي الله عنه : " فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " ونحن إن شاء الله من أنصاركم، وأعوانكم .
ومن حسن توفيق الله لكم : أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجه على الخلق فاشكروه على ذلك ؛ واعلموا : أن من أقامه الله هذا المقام لابد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فان الحق منصور، وممتحن والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان، وهذه هديه نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليبتبين لكم : حقيقة ما نحن عليه، وما ندعوا اليه، نحن وسلفنا الماضون ؛ نسأ ل الله لنا ولكم التوفيق والهداية لأقوم منهج وطريق والسلام .
وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم(2/78)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ
في الأجوبة النجدية
الجزء الثاني
كتاب العقائد(3/1)
(ص5) بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوحيد
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه: -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته، وصفاته، عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات، فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه و أشكره، إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو، والآصال 0
وأشهد: أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به، من عذب زلال؛ اللهم صلِ على محمد، وعلى آل محمد، وأصحابه الذين هم خير صحب، وآل، وسلم تسليما 0
أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء، الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفاً، يشتمل على مسائل أربع،(3/2)
(ص6) وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم، من المشرك 0
الأولى: أن الذي خلقنا، وصورنا، لم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى، فهو فيِ النار؛ والدليل قوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً) [المزمل: 15] وقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعصِ الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) [النساء: 13، 14] 0
الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] وقال: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)[البينة:5]
الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت، ولم تقبل؛ وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) [الزمر: 65] وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) [النساء: 116] وقال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) [المائدة: 72](3/3)
(ص7) ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله، من نجم، أو إنسان، أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك: أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه، أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) [فاطر: 2] وقال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) [يونس: 107] 0
فإذا تبين في القلب: أنه عزَّ وجلَّ بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو؛ ولذلك قال تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة: 51] 0
وقال تعالى: موبخاً لأهل الكتاب، الذين يستغيثون بعيسى، وعزير، عليهما السلام لما أنزل الله عليهم القحط، والجوع: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) [الإسراء: 56 – 57] 0
وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً) [الكهف: 110] وقال تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو(3/4)
(ص8) كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) [الأعراف: 188] 0
ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله؛ فقد قال الله تعالى: (فاعبده وتوكل عليه) الآية [هود: 123] وقال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان: 58] وقال تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة: 51] وقال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) إلى قوله: (وما ذبح علي النصب) [المائدة: 3] وقال تعالى: (فصلِ لربك وانحر) [الكوثر: 2] وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) [الأنعام: 162] 0
ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله هو سبحانه عما يشركون) [التوبة: 31] وقال: عدي بن حاتم، يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ؟ قال: بلى؛ قال: فتلك عبادتهم " 0
وأحبارهم، ورهبانهم: علماؤهم، وعبادهم؛ وذلك: أنهم اتخذوهم أرباباً، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون : ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة، فمن أطاع إنساناً عالماً، أو عابداً، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم(3/5)
(ص9) الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه رباً، كالذين: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله 0
ومن ذلك: أن أناساً من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها ؟ قال: الله؛ قالوا كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالاً ؟ وقتل الله حراماً ؟ فنزل قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، [الأنعام: 121] 0
ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها، لأن الناس يعرفون الرجل الصالح، وبركته، ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك؛ فتارة: يسألونه؛ وتارة: يسألون الله عنده؛ وتارة: يصلون ويدعون الله عند قبره 0
ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الباب؛ ففي الصحيحين، أنه قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً 0
وقال: " لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ولعن الله زائرات(3/6)
(ص10) القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج " وفي الموطأ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " 0
وفي صحيح مسلم، عن علي، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا أدع تمثالاً إلا طمسته؛ فأمر بمسح التماثيل من الصور، الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص، المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا، أو بهذا 0
وبلغ عمر رضي الله عنه: أن قوماً يذهبون إلى الشجرة، التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تحتها، فأمر بقطعها 0
وأرسل إليه أبو موسى: أنه ظهر بتستر: قبر دانيال وعنده مصحف، فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا جدبوا، كشفوا عن القبر، فمطروا، فأرسل إليه عمر، يأمره: أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبراً، ويدفنه بالليل بواحد منها، لئلا يعرفه الناس، فيفتنون به 0
واتخاذ القبور مساجد: مما حرم الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجد، ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرماً، لم يكن من ذلك شيء، على عهد الصحابة، والتابعين 0
وكان الخليل عليه السلام: في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة، لا أحد يدخلها، ولا تشد الصحابة الرحال إليه، ولا إلى غيره من المقابر، ففي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -(3/7)
(ص11) قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " فكان من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى، يصلون فيه، ثم يرجعون، لا يأتون مغارة الخليل، ولا غيرها، وكانت مسدودة حتى استولى النصارى على الشام، في أواخر المائة الرابعة، وجعلوا ذلك مكان كنيسة، ولما فتح المسلمون البلاد: اتخذه بعض الناس مسجداً، وأهل العلم ينكرون ذلك 0
وهذه البقاع، وأمثالها: لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، فإنها محل الشرك؛ ولهذا توجد فيها الشياطين كثيراً، وقد رآهم غير واحد، على صورة الإنسان، يتلون لهم رجال الغيب، فيظنون أنهم رجال من الإنس، غائبون عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالاً، قال تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) [الجن: 6] 0
وما حدث في الإسلام، من هذه الخرافات، وأمثالها: ينافي ما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله وحده، وسد أبواب الشرك، التى يفتحها الشيطان 0
ولهذا: يوجد من كان أبعد عن التوحيد، والإخلاص، ومعرفة الإسلام، أكثر تعظيماً لموضع الشرك؛ فالعارفون سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى بالتوحيد، والإخلاص، وأهل الجهل بذلك: أقرب إلى الشرك، والبدع؛ ولهذا يوجد في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركاً،(3/8)
(ص12) وبدعاً؛ ولهذا: يعظمون المشاهد، ويخربون المساجد، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة، ولا جماعة؛ وأما المشاهد: فيعظمونها، حتى يرون زيارتها أولى من الحج 0
وكلما كان الرجل: أتبع لدين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أكمل توحيداً لله وإخلاصاً لدينه؛ وإذا أبعد عن متابعته، نقص عن دينه بحسب ذلك؛ فإذا كثر بعده عنه: ظهر فيه من الشرك، والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه، لاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والله إنما أمر بالعبادة في المساجد، وذلك عمارتها، فقال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله) [التوبة: 18] ولم يقل مشاهد الله، وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيه البر، والفاجر، وذلك بناء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة " 0
ثم كثير من المشاهد، أو أكثرها: كذب؛ كالذي بالقاهرة، على رأس الحسين رضي الله عنه، فإن الرأس: لم يحمل إلى هناك، وكذلك مشهد: علي، إنما حدث في دولة: بني بويه؛ قال الحافظ، وغيره: هو قبر المغيرة بن شعبة؛ وعلي: إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة؛ ودفن معاوية، بقصر الإمارة بدمشق؛ ودفن عمرو بن العاص، بقصر الإمارة بمصر، خوفاً عليهم إذا دفنوا في المقابر، أن تنبشهم الخوارج 0
المسألة الرابعة: أنه إذا كان عملك صواباً، ولم يكن خالصاً، لم يقبل؛ وإذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم(3/9)
(ص13) يقبل؛ فلا بدَّ: أن يكون خالصاً، على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال سبحانه، في علماء أهل الكتاب، وعبادهم، وقرائهم: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) [الكهف: 103 – 104] وقال تعالى: (وجوه يومئذٍ خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية) [الغاشية: 2 – 4] وهذه الآيات: ليست في أهل الكتاب خاصة، بل كل من اجتهد في علم، أو عمل، أو قراءة، وليس موفقاً لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو: من الأخسرين أعمالاً، الذين ذكرهم الله تعالى، في محكم كتابه العزيز، وإن كان له ذكاء، وفطنة، وفيه زهد، وأخلاق، فهذا العذر: لا يوجب السعادة، والنجاة من العذاب، إلا باتباع الكتاب والسنة؛ وإنما قوة الذكاء، بمنزلة قوة البدن، وقوة الإرادة، فالذي يؤتى فضائل علمية، وإرادة قوية، وليس موافقاً للشريعة، بمنزلة من يؤتى: قوة في جسمه، وبدنه 0
وروي في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يخرج فيكم قوم، تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعلمكم مع علمهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئاً، وينظر في القدح فلا يرى شيئاً، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً، ويتمارى في الفوق " 0(3/10)
(ص14) وروى في صحيح البخاري، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يأتي في آخر الزمان، ناس، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم، فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يكون في آخر الزمان، رجال كذابون، يأتون من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم " رواه أبو هريرة 0
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " رواه ابن مسعود رضي الله عنه 0
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي، قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي الله بأمره وهم على ذلك " رواه معاوية رضي الله عنه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل: يا رسول الله، ومن يأبى ؟ قال: " من أطاعنى دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " رواه أبو هريرة رضي الله عنه،(3/11)
(ص15) وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " 0
وقد تبين: أن الواجب، طلب علم ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب، والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك، كما كان عليه الصحابة، والتابعون، ومن سلك سبيلهم، فكل ما يحتاج إليه الناس، فقد بينه الله، ورسوله، بياناً شافياً كافياً، فكيف أصول التوحيد، والإيمان، ثم إذا عرف ما بينه الرسول، نظر في أقوال الناس، وما أرادوا بها، فعرضت على الكتاب، والسنة والعقل الصريح، الذي هو موافق للرسول، فإنه الميزان، مع الكتاب، فهذا سبيل الهدى 0
وأما سبيل الضلال، والبدع، والجهل، فعكسه: أن تبدع بدعة بأراء رجال، وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول، تبعاً لها، و تحرف ألفاظه، وتأويله، على وفق ما أصلوه، وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر: لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون منه الهدى، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه، تأولوه؛ كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه؛ أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني 0
وكثير منهم: إنما ينظر في تفسير القرآن، والحديث، فيما يقوله، موافقة على المذهب؛ وكثير منهم: لم يكن عمدتهم في نفس الأمر، اتباع نص أصلاً، كالذين ذكرهم الله من اليهود: الذين يفترون على الله الكذب، وهم يعلمون؛(3/12)
(ص16) ثم جاء من بعدهم: من ظن صدق ما افترى أولئك، وهم في شك منهم، كما قال تعالى: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) [الشورى: 14] 0
ففي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: " فمن " ؟ فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب، يكون في هذه الأمة، من يشبههم فيه، هذا حق شوهد، قال الله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) [فصلت: 53] فمن تدبر ما أخبر الله به رسوله، رأى: أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة 0
ومن زاد في الدين بشيء، ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس عليه الصحابة، والتابعون، فكأنما نقص؛ عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم " وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما بال قوم يتنزهون عن شيء أصنعه ؟! فوالله إني لأعلمهم، وأشدهم لله خشية " 0
وعن أنس بن مالك، قال: جاء ثلاثة رهط، إلى بيوت أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا،(3/13)
(ص17) كأنهم تقالوها، قالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل، ولا أرقد؛ وقال أحدهم: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر؛ وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، ولا أتزوج؛ فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال؛ " أنتم الذين قلتم: كذا، وكذا ؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني: أصوم، وأفطر؛ وأصلي، وأرقد؛ وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني " رواه البخاري؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنتم أعلم بأمر دنياكم فخذوا به " 0وعن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) [آل عمران: 7] قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله: أهل الزيغ، فاحذروهم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: هاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت رجلين اختلفا في آية، فخرج في وجهه الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم، بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه " 0
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من أحيا سنة من سنتي، قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر، مثل أجور من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن ابتدع بدعة، ضلالة، لا(3/14)
(ص18) يرضاها الله، ورسوله، كان عليه من الإثم، مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء " رواه بلال بن الحارث المازني، رضي الله عنه؛ وروى في صحيح البخاري، ومسلم، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وروى عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة " 0
وعن العرباض بن سارية، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فوعظنا موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا؛ قال " أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لأميركم، وإن حبشياً، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 0
وروي في سنن أبي داود، والترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح؛ وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا واحدة " قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال: " من عمل بما أنا عليه اليوم، وأصحابي " قال عبد الله(3/15)
(ص19) ابن مسعود: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها؛ رواه جابر مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 0
وعن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال: مررت بالمسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ؟ قال: أو قد فعلوها ؟ قلت: نعم؛ قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت فما المخرج يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله 0
وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد) [الجن: 1 – 2] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم 0
قوله: لا تزيغ به الأهواء؛ يعنى: لا يصير بسببه مبتدعاً ضالاً؛ وقوله: لا تلتبس به الألسن؛ أي: لا يختلط به(3/16)
(ص20) غيره، بحيث يشبه، ويلتبس الحق بالباطل؛ قال تعالى: (وإنا له لحافظون)، [الحجر: 9] 0
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتي " رواه طلحة عن أبيه عن جده؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد" رواه أبو هريرة؛ وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ": إنكم في زمن من ترك منكم عشر ما أمر الله به هلك، ثم يأتي زمان من عمل بعشر ما أمر الله به نجا " حديث غريب 0
وعن عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً، ثم قال: " هذا سبيل الله " ثم خط خطوطاً عن يمينه، وعن شماله وقال: " هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)
[الأنعام: 153] 0
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نزل القرآن على خمسة وجوه: حلال، وحرام؛ ومحكم، ومتشابه؛ وأمثال؛ فأحلوا الحلال؛ وحرموا الحرام؛ واعملوا بالمحكم؛ وآمنوا بالمتشابه؛ واعتبروا بالأمثال " وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الأمر ثلاثة: أمر بين غيه، فاجتنبه؛ وأمر بين رشده، فاتبعه؛ وأمر اختلف فيه، فكله إلى الله تعالى " 0(3/17)
(ص21) وفي الصحيحين عن أبي موسى: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، طعمها طيب، وريحها طيب؛ ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها؛ ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر؛ ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، مثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها " فبين: أن في الذين يقرؤون القرآن، مؤمنين، ومنافقين 0
وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين، هي: باتباع المرسلين؛ فمن المعلوم: أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، واتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم، وأفعالهم، المتبعون لها، هم أهل السعادة في كل زمان ومكان؛ وهم: الطائفة الناجية، من أهل كل ملة؛ وهم: أهل السنة والحديث، من هذه الأمة 0
والرسل: عليهم البلاغ المبين؛ وقد بلغوا البلاغ المبين؛ وخاتم الرسل: محمد - صلى الله عليه وسلم - أنزل الله عليه كتابه، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه؛ فهو: المهيمن على جميع الكتب؛ وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، بلغ: الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق، وأعظمهم نعيماً، وأعلاهم درجة: أعظمهم اتباعاً له؛ وموافقة علماً(3/18)
(ص22) وعملاً؛ والله سبحانه وتعالى أعلم 0
وقال رحمه الله تعالى:
أصل دين الإسلام، وقاعدته: أمران؛ الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له؛ والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه 0 الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله 0
والمخالفون في ذلك أنواع؛ فأشدهم مخالفة: من خالف في الجميع؛ ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله: ومنهم: من عاداهم، ولم يكفرهم 0 ومنهم: من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه 0 ومنهم: من كفرهم، وزعم أنه مسبة للصالحين 0 ومنهم: من لم يبغض الشرك، ولم يحبه 0 ومنهم: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره 0 ومنهم: من لم يعرف التوحيد، ولم ينكره 0
ومنهم: - وهو أشد الأنواع خطراً – من عمل بالتوحيد، لكن لم يعرف قدره، ولم يبغض من تركه، ولم يكفرهم 0 ومنهم: من ترك الشرك، وكرهه، ولم يعرف قدره، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم؛ وهؤلاء: قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء، من دين الله سبحانه وتعالى، والله أعلم 0(3/19)
(ص23) وله أيضاً: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هذه الثلاث: عنوان السعادة 0
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] فإذا عرفت: أن الله خلقك لعبادته، فاعلم: أن العبادة لا تسمى عبادة، إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة؛ فإذا دخل الشرك في العبادة، فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) [التوبة: 17] فإذا عرفت: أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفت: أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله، وذلك بمعرفة أربع قواعد، ذكرها الله في كتابه 0(3/20)
(ص24) القاعدة الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرون: أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور؛ ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، والدليل قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] 0
القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم، إلا لطلب القربة، والشفاعة، ونريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم، والتقرب إلى الله بهم، فدليل القربة، قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3]، ودليل الشفاعة، قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18]0
والشفاعة: شفاعتان؛ شفاعة: منفية؛ وشفاعة مثبتة؛ فالشفاعة المنفية، هي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ والدليل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة: 254] والمثبتة، هي: التي تطلب من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ والشافع: مكرم بالشفاعة؛ والمشفوع له: من رضي الله قوله وعمله، بعد الإذن؛ والدليل قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم(3/21)
(ص25) لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255] 0القاعدة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم؛ منهم: من يعبد الشمس والقمر؛ ومنهم من يعبد الملائكة؛ ومنهم: من يعبد الأنبياء والصالحين؛ ومنهم: من يعبد الأشجار والأحجار؛ وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفرق بينهم؛ والدليل قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الآية [الأنفال: 39] 0
فدليل الشمس والقمر، قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [فصلت: 37] ودليل الملائكة، قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) [سبأ: 40 – 41] 0
ودليل الأنبياء، قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءَأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته) [المائدة: 116] وقوله: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) [آل عمران: 80] ودليل الصالحين، قوله تعالى:(3/22)
(ص26) (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً) [الإسراء: 56] 0
ودليل الأشجار، والأحجار، قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى) [النجم: 19 – 20] وحديث أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط؛ فقال؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى "، (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) [الأعراف: 138 – 139] 0
القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا، أغلظ شركاً من الأولين، لأن الأولين يخلصون لله في الشدة، ويشركون في الرخاء؛ ومشركي زماننا: شركهم دائم، في الرخاء والشدة؛ والدليل قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) [العنكبوت: 65] فعلى هذا: الداعي عابد؛ والدليل قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) [الأحقاف: 5] والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم 0(3/23)
(ص27) وله أيضاً: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فهذه أربع قواعد، ذكرها الله في محكم كتابه، يعرف بها الرجل: شهادة أن لا إله إلا الله، ويميز بها بين المسلمين، والمشركين؛ فتدبرها، يرحمك الله؛ وأصغ إليها فهمك؛ فإنها عظيمة النفع 0
الأولى: أن الله ذكر، أن الكفار في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرون: أن الله الخالق، الرازق، لا يشاركه في ذلك، ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وأنه لا يرزق إلا هو؛ وأنه سبحانه منفرد بملك السماوات والأرض؛ وأن جميع الأنبياء، والمرسلين: عبيد له، تحت قهره وأمنه 0
فإذا فهم: أن هذا مقر به الكفار، ولا يجحدونه، وسألك بعض المشركين، عن دليله ؟ فاقرأ عليه قوله تعالى، في حق الكفار: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم(3/24)
(ص28) تعلمون، سيقولون لله قل فأنَّى تسحرون) [المؤمنون: 84 – 89] وقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] 0
القاعدة الثانية: أنهم يعتقدون في الملائكة، والأنبياء، والأولياء، لأجل قربهم من الله تعالى، قال الله تعالى، في الذين يعتقدون في الملائكة: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) [سبأ: 40 – 41] وقال: في الذين يعتقدون في الأنبياء (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنَّى يؤفكون، قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) [المائدة: 75 – 76] وقال في الذين يعتقدون في الأولياء: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته) [الإسراء: 57] 0
القاعدة الثالثة: وهي أن الله – العلي الأعلى – ذكر في كتابه، أن الكفار ما دعوا الصالحين، إلا لطلب التقرب من الله تعالى، وطلب الشفاعة؛ وإلا فهم مقرون بأنه: لا يدبر الأمر إلا الله كما تقدم؛ فإذا طلب المشرك الدليل على ذلك، فاقرأ عليه قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم(3/25)
(ص29) ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] وقال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) [الزمر: 3] فإذا فهمت هذه المسألة، وتحققت: أن الكفار عرفوا ثلاث هذه المسائل، وأقروا بها؛ الأولى: أنه لا يخلق، ولا يرزق ولا يخفض، ولا يرفع، ولا يدبر الأمر، إلا الله وحده، لا شريك له؛ الثانية: أنهم يتقربون بالملائكة، والأنبياء، لأجل قربهم من الله، وصلاحهم؛ والثالثة؛ أنهم معترفون، أن النفع والضر، بيد الله ولكن الرجاء من الملائكة، والأنبياء، للتقرب من الله، والشفاعة عنده 0
فتدبر هذا، تدبراً جيداً، واعرضه على نفسك، ساعة بعد ساعة؛ فما أقل من يعرفه، من أهل الأرض، خصوصاً من يدعى العلم ! فإذا فهمت هذا، ورأيت العجب، فاعرف، وحقق: المسألة الرابعة، وهي: أن الذين في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشركون دائماً، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون، ويتركون دعاء الأنبياء، والشياطين، فإذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا فيهم؛ وإذا أصابهم الضر، والألم الشديد، تركوهم، وأخلصوا لله الدين؛ وعرفوا: أن الأنبياء، والصالحين، لا يملكون نفعاً، ولا ضراً.
فإذا شك أحد في أن الكفار الأولين، كانوا يخلصون لله بعض الأحيان، فاقرأ عليه قوله: (وإذا مسكم الضر في البحر(3/26)
(ص30) ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) [الإسراء: 67] وقال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) [الزمر: 8] 0
فهذا الذي هو من أصحاب النار: يخلص الدين لله تارة، ويخلص للملائكة، والأنبياء تارة؛ وقال تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) [الأنعام: 40 – 41] وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم 0(3/27)
(ص31) وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين؛ سألت – رحمك الله – أن أكتب لك كلاماً، ينفعك الله به؟
فأول ما أوصيك به: الالتفات إلى ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تبارك وتعالى، فإنه جاء من عند الله، بكل ما يحتاج إليه الناس، فلم يترك شيئاً يقربهم إلى الله، وإلى جنته، إلا أمرهم به، ولا شيئاً يبعدهم من الله، ويقربهم إلى عذابه، إلا نهاهم، وحذرهم عنه؛ فأقام الله الحجة على خلقه، إلى يوم القيامة؛ فليس لأحد حجة على الله، بعد بعثه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، قال الله عزَّ وجلَّ، فيه، وفي إخوانه من المرسلين: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) إلى قوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً) الآية [النساء: 163 – 165] 0
فأعظم ما جاء به من عند الله، وأول ما أمر الناس به:(3/28)
(ص32) توحيد الله، بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له وحده، كما قال عزَّ وجلَّ: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبِّر) [المدثر: 1 – 3] ومعنى قوله: (وربك فكبِّر) أي؛ عظم ربك بالتوحيد، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له؛ وهذا قبل الأمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرهن، من شعائر الإسلام؛ ومعنى: (قم فأنذر) أي: أنذر عن الشرك في عبادة الله وحده، لا شريك له؛ وهذا: قبل الإنذار عن الزنا، والسرقة، والربا، وظلم الناس، وغير ذلك من الذنوب الكبار 0
وهذا الأصل، هو: أعظم أصول الدين، وأفرضها، ولأجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] ولأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] ولأجله تفرق الناس، بين مسلم، وكافر 0
فمن وافى الله يوم القيامة، وهو موحد، لا يشرك به شيئاً: دخل الجنة؛ ومن وافاه بالشرك: دخل النار، وإن كان من أعبد الناس، وهذا معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله، هو: الذي يدعى، ويرجى، لجلب الخير، ودفع الشر، ويخاف منه، ويتوكل عليه، فإذا عرفت هذا، فعليك – رحمك الله – بمعرفة: أربع قواعد؛ قلت: تقدم نحوها، فتركناها، خشية التكرار 0(3/29)
(ص33) وقال أيضاً: رحمه الله تعالى:
هذه: أربع قواعد من قواعد الدين؛ يميز بهن المسلم، بين مذهب المسلمين، من مذهب المشركين 0
القاعدة الأولى: أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرون: بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر – الضار، النافع؛ ولم ينفعهم إقرارهم، إذ لم يخلصوا الدعاء لله وحده؛ والدليل على ذلك، قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] وقوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله) إلى قوله: (فأنَّى تسحرون) [المؤمنون: 84 – 89] وقوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) [الزمر: 38] 0
وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما(3/30)
(ص34) من شرك وماله منهم من ظهير) [سبأ: 22] وقال تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) [فاطر: 13 – 14] وقال تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات) إلى قوله: (وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف: 4 – 6] 0
القاعدة الثانية: أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قصدوا من قصدوا بعبادتهم، إلا لأجل التقرب، والشفاعة منهم إلى الله، وأنه عزَّ وجلَّ: نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع، بل أمرنا بالإخلاص؛ وهو: أن لا يجعل له واسطة؛ فلا نستغيث، ولا نستعين إلا به؛ والدليل على ذلك، قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي) [الزمر: 3] وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] وقال تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً) الآية [الزمر 43 – 44] 0
القاعدة الثالثة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى أناس، منهم: من يعبد الأصنام الجمادات، والسحرة، والكهنة، والشياطين؛ ومنهم: من يعبد الملائكة، والصالحين؛ فلم يفرق بين الكل، بل قاتلهم جميعاَ، ولا فرق بينهم، إلى أن(3/31)
(ص35) كان الدين كله لله؛ والدليل على ذلك، قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) [الإسراء: 56 – 57] وقال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) [سبأ: 40 – 41] وقال تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) [يونس: 28] 0
القاعدة الرابعة: أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابهم الضر، لم يجعلوا لله واسطة، بل يدعونه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) [العنكبوت: 65] وقوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) [الروم: 33] وقوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) [لقمان: 32] وصلى الله على محمد 0(3/32)
(ص36) وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] 0
فإذا عرفت: أن الله خلقك لعبادته؛ فاعلم؛ أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد؛ كما أن الصلاة: لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة؛ فإذا دخل الشرك في العبادة، فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) [التوبة: 17] 0
فمن دعا غير الله، طالباً منه، ما لا يقدر عليه إلا الله، من جلب خير، أو دفع ضر، فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف: 5 – 6] وقال تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل(3/33)
(ص37) خبير) [فاطر: 13 – 14] 0
فأخبر تبارك وتعالى: أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله؛ أو: يا عبد الله بن عباس؛ أو: يا عبد القادر؛ أو: يا محجوب؛ زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده، أو وسيلته إليه، فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال، إلا أن يتوب من ذلك، وكذلك: من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو توكل على غير الله، أو رجا غير الله، أو التجأ إلى غير الله، أو استغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضاً: شرك 0
وما ذكرنا من أنواع الشرك، فهو: الذي قال الله فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) [النساء: 48] وهذا الذي قاتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي العرب، وأمرهم بإخلاص العبادة لله 0
ويتضح: بمعرفة أربع قواعد؛ أولها: أن تعلم أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الضار، النافع، المدبر لجميع الأمور؛ والدليل على ذلك، قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] وقوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع(3/34)
(ص38) ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون) [المؤمنون: 84 – 89] 0
إذا عرفت هذه القاعدة، وأنهم أقروا بهذا، ثم توجهوا إلى غير الله، فاعرف: القاعدة الثانية؛ وهي: أنهم يقولون، ما توجهنا إليهم، ودعوناهم، إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم؛ والدليل على ذلك، قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) [يونس: 18] وقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) [الزمر: 3] 0
فإذا عرفت هذا، فاعرف: القاعدة الثالثة؛ وهي: أن منهم من تبرأ من الأصنام، وتعلق بالصالحين، مثل عيسى، وأمه، والأولياء؛ قال الله فيمن اعتقد في عيسى وأمه: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون، قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم) [المائدة: 75 – 76] وقال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)(3/35)
(ص39) الآية[التوبة: 31] وقال تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) [الإسراء: 57] والرسول - صلى الله عليه وسلم -: قاتل من عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين، ولم يفرق بين أحد منهم، حتى كان الدين كله لله 0
القاعدة الرابعة؛ وهي: أن الأولين يخلصون لله في الشدائد، وينسون ما يشركون، كما قال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) [العنكبوت: 65] وأهل زماننا: يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله، فإذا عرفت هذا، فاعرف: أن شرك المشركين، الذين كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف من شرك أهل زماننا، لأن أولئك: يخلصون لله في الشدائد؛ وهؤلاء: يدعون مشائخهم، في الشدة، والرخاء؛ والله أعلم 0
وله أيصاً، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خصوصاً: محمد بن عبيد، وعبد القادر العديلي، وابنه وعبد الله بن سحيم، وعبد الله بن عضيب، وحميدان بن تركي؛ وعلي بن زامل، ومحمد أبا الخيل، وصالح بن عبد الله 0(3/36)
(ص40) أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى، أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته، هو: إخلاص الدين لله، بعبادته وحده لا شريك له؛ والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلاً عن غيرهم؛ فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له؛ ولا يدعى لكشف الضر، إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له، وجميع العبادة: لا تصلح إلا له؛ وحده لا شريك له، وهذا معنى قول: لا إله إلا الله؛ فإن المألوه، هو المقصود، المعتمد عليه؛ وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه، فمن عرف هذه المسألة، عرف: أن أكثر الخلق، قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب، حب الصالحين، وتعظيمهم 0
والكلام في هذا: ينبني على قاعدتين، عظيمتين؛ الأولى: أن تعرف أن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرفون الله، ويعظمونه، ويحجون، ويعتمرون؛ ويزعمون: أنهم على دين إبراهيم الخليل؛ وأنهم يشهدون: أنه لا يخلق، ويرزق، ولا يدبر إلا الله، وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) [يونس: 31] 0
فإذا عرفت: أن الكفار يشهدون بهذا كله؛ فاعرف:(3/37)
(ص41) القاعدة الثانية؛ وهي: أنهم يدعون الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى، وعزير، وغيرهم؛ وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء، سماه إلهاً؛ ولا يعني بذلك، أنه يخلق، أو يرزق؛ بل يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ ويقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] والإله في لغتهم، هو الذي يسمى في لغتنا: فيه السر؛ والذي يسمونه، الفقراء: شيخهم؛ يعنون بذلك: أنه يدعى، وينفع، ويضر؛ وإلا فهم مقرون لله بالتفرد بالخلق، والرزق؛ وليس ذلك معنى الإله، بل الإله المقصود: المدعو، المرجو 0
لكن: المشركين في زماننا، أضل من الكفار، الذين في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من وجهين؛ أحدهما: أن الكفار، إنما يدعون الأنبياء، والملائكة، في الرخاء؛ وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) [الإسراء: 67] 0 والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناساً، لا يوازنون: عيسى، والملائكة ! 0
إذا عرفتم هذا، فلا يخفي عليكم: ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام؛ هذا يأتي إلى قبر: نبي؛ وهذا إلى قبر: صحابي، كالزبير، وطلحة؛ وهذا إلى قبر: رجل صالح؛ وهذا يدعوه، في الضراء، وفي غيبته؛ وهذا ينذر له؛ وهذا يذبح: للجن؛ وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا، والآخرة؛ وهذا يسأله: خير الدنيا، والآخرة 0(3/38)
(ص42) فإن كنتم تعرفون: أن هذا الشرك , من جنس عبادة الأصنام , الذي يخرج الرجل من الإسلام , و قد ملأ البر , و البحر , و شاع , و ذاع , حتى إن كثيراً ممن يفعله , يقوم الليل , و يصوم النهار , و ينتسب إلى الصلاح , و العبادة: فما بالكم , لم تفشوه في الناس ؟ و تبينوا لهم: أن هذا كفر بالله , مخرج عن الإسلام 0
أرأيتم: لو أن بعض الناس , أو أهل بلدة , تزوجوا أخواتهم , أو عماتهم , جهلاً منهم، أفيحل لمن يؤمن بالله , و اليوم الآخر , أن يتركهم ؟ لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات , و العمات ؟ فإن كنتم تعتقدون: أن نكاحهن أعظم مما يفعله الناس اليوم , عند قبور الأولياء , و الصحابة , و في غيبتهم عنها , فاعلموا: أنكم لم تعرفوا دين الإسلام , و لا شهادة أن لا إله إلا الله , و دليل هذا مما تقدم من الآيات , التي بينها الله في كتابه , و إن عرفتم ذلك , فكيف: يحل لكم كتمان ذلك , و الإعراض عنه ؟ و قد: (أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه)، ] آل عمران: 187 [0
فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم: هزوا , و جهلا , كما هي عادتكم , و لا تقبلونه , فانظروا في: الإقناع, في باب حكم المرتد، و ما ذكر فيه من الأمور الهائلة , التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها , فقد ارتد , و حل دمه , مثل: الاعتقاد في الأنبياء , و الصالحين , و جعلهم: وسائط بينه , و بين الله , ومثل: الطيران في الهوى , و المشي في الماء , فإذا كان من(3/39)
(ص43) فعل هذه الأمور منكم , مثل: السائح , الأعرج , و نحوه , تعتقدون: صلاحه , وولايته , و قد صرح في: الإقناع , بكفره؛ فاعلموا: أنكم لم تعرفوا معنى شهادة: أن لا إله إلا الله 0
فإن بان في كلامي هذا شيء من الغلو , من أن هذه الأفاعيل , لو كانت حراماً، فلا تخرج من الإسلام، وأن فعل أهل زماننا في الشدائد، في البر، والبحر، وعند قبور الأنبياء، والصالحين: ليس من هذه؛ بينوا لنا الصواب، وأرشدونا إليه 0
و إن تبين لكم: أن هذا هو الحق , الذي لا ريب فيه؛ و أن الواجب , إشاعته في الناس , و تعليمه النساء , و الرجال؛ فرحم الله: من أدى الواجب عليه , و تاب إلى الله , و أقر على نفسه؛ فإن التائب عن الذنب , كمن لا ذنب له؛ و عسى الله: أن يهدينا و إياكم , و إخواننا , لما يجب و يرضى , و السلام.
و قال أيضاً: رحمه الله تعالى , بعد كلام له:
و أما النوع: الثاني؛ فهو: الكلام في الشرك , و التوحيد؛ و هو: المصيبة العظمى , و الداهية الصما؛ و الكلام على هذا النوع , و الرد على هذا الجاهل: يتحمل مجلداً , و كلامه فيه , كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا قرأه المؤمن تارة يبكي , و تارة يضحك !!.(3/40)
(ص44) و لكن: أنبهك منه على كلمتين؛ الأولى , قوله: إنهما , نسبا من قبلهما , إلى الخروج من الإسلام , و الشرك الأكبر؛ أفيظن: أن قوم موسى , لما قالوا: اجعل لنا إلهاً , كما لهم آلهة , خرجوا من الإسلام ؟ أفيظن: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط؛ فحلف لهم: أن هذا مثل قول قوم موسى: اجعل لنا إلهاً , أنهم خرجوا من الإسلام ؟ أيظن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمعهم يحلفون بآبائهم , فنهاهم و قال: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) أنهم: خرجوا من الإسلام ؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر , فلم يفرق بين الشرك , المخرج عن الملة , من غيره , و لم يفرق بين الجاهل , و المعاند 0
و الكلمة الثانية , قوله: إن المشرك لا يقول: لا إله إلا الله؛ فيا عجباً من رجل يدعى العلم , و جاء من الشام بحمل كتب , فلما تكلم: إذا أنه لا يعرف الإسلام من الكفر؛ و لا يعرف الفرق: بين أبي بكر الصديق , رضي الله عنه , و بين: مسيلمة الكذاب.
أما علم: أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله , و أن محمداً رسول الله , و يصلي و يصوم ؟! أما علم: أن غلاة الرافضة , الذين حرقهم علي , رضي الله عنه , يقولونها ؟! و كذلك الذين: يقذفون عائشة , و يكذبون القرآن؛ و كذلك: الذين يزعمون أن جبرائيل غلط؛ و غير هؤلاء , ممن أجمع أهل العلم على كفرهم؛ منهم: من ينتسب إلى الإسلام ,(3/41)
(ص45) ومنهم: من لا ينتسب إليه , كاليهود , و كلهم يقولون: لا إله إلا الله؛ و هذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام , من أن يحتاج إلى تبيان 0
و إذا كان المشركون , لا يقولونها , فما معنى: باب حكم المرتد ؟! الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب ؟ هل الذين ذكرهم الفقهاء، وجعلوهم مرتدين، لا يقولونها ؟ هل الذي ذكر أهل العلم: أنه أكفر من اليهود، والنصارى ؟ وقال بعضهم: من شك في كفر أتباعه، فهو كافر؛ وذكرهم في الإقناع، في: باب حكم المرتد؛ وإمامهم: ابن عربي، أيظنهم لا يقولون: لا إله إلا الله ؟! لكن: هو أتى من الشام، وهم يعبدون: ابن عربي؛ جاعلين على قبره صنماً يعبدونه، ولست أعني أهل الشام كلهم، حاشا وكلا؛ بل لا تزال طائفة على الحق، وإن قلَّت، واغتربت 0
لكن: العجب العجاب؛ استدلاله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعى الناس إلى قول: لا إله إلا الله؛ ولم يطالبهم بمعناها، وكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتحوا بلاد الأعاجم، وقنعوا منهم بلفظها، إلى آخر كلامه؛ فهل يقول هذا الكلام: من يتصور ما يقول ؟! 0
فنقول، أولاً: هو الذي نقض كلامه، وكذبه، بقوله: دعاهم إلى ترك عباده الأوثان، فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان، تبين أن النطق بها لا ينفع، إلا بالعمل بمقتضاها، وهو: ترك الشرك، وهذا هو المطلوب؛ ونحن(3/42)
(ص46) إنما نهينا عن الأوثان، المجعولة على قبر الزبير، وطلحة، وغيرهما، في الشام، وغيره 0
فإن قلتم: ليس هذا من الأوثان، وإن دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم في الشدائد، ليست من الشرك، مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخلصون لله في الشدائد، ولا يدعون أوثانهم، فهذا: كفر؛ وبيننا وبينكم: كلام العلماء، من الأولين، والآخرين، الحنابلة وغيرهم 0
وإن أقررتم: أن ذلك كفر، وشرك، وتبين أن قول: لا إله إلا الله، لا ينفع إلا مع ترك الشرك، فهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلا من: خراسان؛ وهذا القول، كما في أمثال العامة: لا وجه سمح، ولا بنت رجال؛ لا أقول صواب، بل خطأ ظاهر، وسب لدين الله؛ وهو أيضاً: متناقض، يكذب بعضه بعضاً، لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس 0
وأما دعواه: أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم، إلا مجرد هذه الكلمة، ولم يعرفوهم بمعناها، فهذا قول: من لا يفرق بين دين المرسلين، ودين المنافقين، الذين هم في الدرك الأسفل من النار؛ فإن المؤمنين: يقولونها، والمنافقين يقولونها، لكن المؤمنين: يقولونها، مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم، بمقتضاها، والمنافقون، يقولونها، من غير فهم لمعناها، ولا عمل بمقتضاها؛ فمن أعظم المصائب، وأكبر الجهل: من لا يعرف الفرق،(3/43)
(ص47) بين الصحابة، والمنافقين 0
لكن هذا: لا يعرف النفاق، ولا يظنه في أهل زماننا؛ بل يظنه: في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وأما زمانه: فصلح بعد ذلك ! وإذا كان زمانه، وبلدانه: ينزهون عن البدع، ومخرجها من أهل خراسان، فكيف بالشرك والنفاق ؟! ويا ويح هذا القائل، ما أجرأه على الله ! وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم ! حيث ظن أنهم: لا يعلمون الناس معنى لا إله إلا الله 0
أما علم هذا الجاهل: أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه، فضلاً عن مسائل الشرك؛ ففي الصحيحين: أن عمر رضي الله عنه، لما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، لأجل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " قال أبو بكر: فإن الزكاة من حقها؛ فإذا كان منع الزكاة، من منع حق: لا إله إلا الله، فكيف بعبادة القبور ؟ والذبح للجن ؟ ودعاء الأولياء ؟ وغيرهم، مما هو دين المشركين ؟!0
وصرح الشيخ تقي الدين، في: اقتضاء الصراط المستقيم، بأن من ذبح للجن، فالذبيحة حرام، من جهتين؛ من جهة: أنها مما أهل لغير الله به؛ ومن جهة: أنها ذبيحة مرتد، فهي: كخنزير مات، من غير ذكاة؛ ويقول؛ ولو سمى الله عند ذبحها، إذا كانت نيته ذبحها للجن، ورد على من قال: إنه إن ذكر اسم الله، حل الأكل منها مع(3/44)
(ص48) التحريم 0
وأما: ما سألت عنه، من قوله: اللهم صلِّ على محمد إلى آخره؛ فهذه؛ المحامل التي ذكر، غير بعيدة، لو كان الإنكار على الرجل الميت، الذي صنفها؛ والإنكار إنما هو على الخطباء، والعامة، الذين يسمعون؛ فإن كان يزعم: أن عامة أهل هذه القرى، كل رجل منهم يفهم هذا التأويل، فهذا مكابرة؛ وإن كان يعرف: أنهم ما قصدوا إلا المعاني، التي لا تصلح إلا لله، لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أنه شرك؛ لكون الذي قالها أولاً، قصد معنى صحيحاً 0
كما لو أن رجلاً من أهل العلم؛ كتب إلى عامية، أن نكاح الأخوات حلال؛ ففهموا منه ظاهره؛ وجعلوا يتزوجون أخواتهم، خاصتهم، وعامتهم؛ لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أن الله حرم نكاح الأخوات، لكون القائل أراد الأخوات في الدين، كما قال إبراهيم – عليه السلام – لسارة: هي أختي؛ وهذا واضح بحمد الله، ولكن: من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه، انفتح له باب طويل عريض 0(3/45)
(ص49) وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته 0
أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام، من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير؛ مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة؛ ولكن الأمر كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدا " 0
فلما عظم العوام: قطع عاداتهم؛ وساعدهم على إنكار دين الله: بعض من يدعى العلم، وهو من أبعد الناس عنه – إذ العالم من يخشى الله – فأرضى الناس بسخط الله؛ وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله؛ وأوهمهم: أنه من تنقيص الأنبياء، والصالحين؛ وهذا بعينه، هو الذي جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن عيسى عليه السلام: عبد، مربوب، ليس له من الأمر شيء؛(3/46)
(ص50) قالت النصارى: إنه سب المسيح، وأمه؛ وهكذا قالت الرافضة: لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه: ببغض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 0
وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم، ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم، من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار، والرهبان، أرباباً من دون الله؛ قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء، والصالحين، والأولياء؛ والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون 0
وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم، من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله، ورسوله، وكتابه ودينه؛ ولم تأخذه في ذلك لومة لائم 0
فأما كلام الحنابلة، فقال الشيخ: تقي الدين، رحمه الله، لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع عبادته العظيمة، فيعلم: أن المنتسب إلى الإسلام، والسنة، قد يمرق أيضاً؛ وذلك بأمور، منها: الغلو، الذي ذمه الله تعالى؛ كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي؛ بل الغلو في علي بن أبي طالب؛ بل الغلو في المسيح، ونحوه.(3/47)
(ص51) فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان: أغثني؛ أو أجرني؛ أو أنت حسبي؛ أو أنا في حسبك؛ فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون: أنها تخلق وترزق؛ وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) فبعث الله الرسل: تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى 0
وقال في: الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، فهو: كافر إجماعاً 0
وأما كلام الحنفية، فقال الشيخ: قاسم، في شرح: درر البحار؛ النذر: الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلاً: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي: فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا، وكذا، باطل إجماعاً، لوجوه؛ منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز؛ ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا: كفر؛ إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ؛ أحمد البدوي0(3/48)
(ص52) وقال الإمام: البزازي، في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية، زماننا هذا، في المساجد، مختلطاً بهم جهال العوام، الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام؛ بل لا يعرفون الإسلام، والإيمان، لهم نهيق، يشبه نهيق الحمير، يقول، هؤلاء لا محالة: اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، فويل للقضاة، والحكام، حيث لا يغيرون هذا، مع قدرتهم 0
وأما: كلام الشافعية، فقال الإمام، محدث الشام: أبو شامية، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث – وهو في زمن الشارح، وابن حمدان – لكن نبين من هذا: ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف، من المنتسبين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخات النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم 0
وأطال رحمه الله الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها: كان مبادئ ظهور الكفر، من عبادة الأصنام، وغيرها؛ ومن هذا: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، في كل بلد، يحكى لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها: أحداً ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط؛ وفي مدينة: دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة 0(3/49)
(ص53) ثم ذكر – رحمه الله – الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قاله له بعض من معه: اجعل لنا ذات أنواط قال: " الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " انتهى كلامه ورحمه الله 0
وقال في: اقتضاء الصراط المستقيم، إذا كان هذا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في مجرد قصد شجرة، لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه، بالقبور ونحوها 0
وأما: كلام المالكية، فقال أبو بكر: الطرطوشي، في كتاب: الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة، ذات أنواط؛ فانظروا رحمكم الله: أينما وجدتم، سدرة، أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء، والشفاء لمرضاهم، من قبلها؛ فهي: ذات أنواط، فاقطعوها؛ وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 0
قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئاً، إلا أنهم يصلون جميعاً 0 وروى: مالك، في الموطأ عن بعض الصحابة، أنه قال: ما أعرف(3/50)
(ص54) شيئاً مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة 0 قال الزهري؛ دخلت على أنس، بدمشق، وهو يبكي 0000 فقال: ما أعرف شيئاً مما أدركت، إلا هذه الصلاة؛ وهذه الصلاة، قد: ضيعت؛ قال الطرطوشي – رحمة الله؛ - فانظروا رحمكم الله: إذا كان في ذلك الزمن، طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة؛ فما ظنك بزمانك هذا ؟! والله المستعان.
وليعلم الواقف: على هذا الكلام من أهل العلم – أعزهم الله – أن الكلام في مسألتين؛ الأولى: أن الله سبحانه بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد، في العبادة، والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك؛ وأن من عظّم الصالحين بالشرك بالله، فهو: يشبه النصارى؛ وعيسى عليه السلام: برئ منهم 0
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام؛ وليعلم: أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم، من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء؛ فرحم الله من نصر الله، ورسوله، ودينه، ولم تأخذه في الله: لومة لائم؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم 0(3/51)
(ص55) وله أيضاً: رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المسلمين، هدانا الله وإياهم لدينه القويم، وسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإياهم ملة الخليلين: محمد، وإبراهيم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
أما بعد: قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال: 39] وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران: 103] وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) إلى قوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الآية [الشورى: 13] 0 فيجب على كل إنسان، يخاف الله، والنار: أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه، هل يحصل لأحد من الناس، أن يدين الله بغير دين النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) الآية [النساء: 115] 0 ودين النبي - صلى الله عليه وسلم -: التوحيد؛ وهو معرفة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ والعمل بمقتضاهما 0(3/52)
(ص56) فإن قيل: كل الناس يقولونها؛ قيل: منهم من يقولها، ويحسب معناها، أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، وأشباه ذلك؛ ومنهم: من لا يفهم معناها؛ ومنهم: من لا يعمل بمقتضاها؛ ومنهم: من لا يعقل حقيقتها؛ وأعجب من ذلك: من عرفها من وجه، وعاداها، وأهلها من وجه؛وأعجب منه: من أحبها، وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها، وأعدائها، يا سبحان الله العظيم! تكون طائفتان، مختلفتين، في دين واحد، وكلهم على الحق! كلا، والله (فماذا بعد الحق إلا الضلال) [يونس: 32].
فإذا قيل: التوحيد زين، والدين حق، إلا التكفير، والقتال؛ قيل: اعملوا بالتوحيد، ودين الرسول، ويرتفع حكم: التكفير، والقتال، فإن كان حق التوحيد: الإقرار به، والإعراض عن أحكامه، فضلاً عن بغضه، ومعاداته، فهذا والله: عين الكفر، وصريحه؛ فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ والسلام عائد عليكم، كما بدا، ورحمة الله وبركاته.(3/53)
(ص57) وله أيضاً: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: عبد الوهاب، بن عبد الله، بن عيسى؛ سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته:
وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو؛ وأبلغوا الوالد السلام، وفي نفسي عليه بعض الشيء، من جهة هذه المكاتيب، لما حبسها عنا، ظننا فيه الظن الجميل، ثم بعد ذلك، سمعنا: أنه أعطاها بعض السفهاء، يقرؤنها على الناس؛ وأنا أعتقد فيه المحبة؛ واعتقد أيضاً: أن له غاية، وعقلاً؛ وهو: صاحب إحسان علينا، فلا أود يعقبه بالأذى، ويكدر هذه المحبة، بلا منفعة في العاجل، والآجل.
وذكر أيضاً عنه: كلام يشوش الخاطر، فإن كان يرى: أن هذه ديانة، ويعتقده، من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأنا ولله الحمد: لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته: إن أتاني منه، أو ممن دونه في هذا الأمر: كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، وأترك قول كل إمام اقتديت به، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يفارق.(3/54)
(ص58) الحق؛ فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان، وزخرفة كلامهم، الذي أوحى إليهم - ليجادل في دين الله، لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه - غرته و أصغت إليها أفئدتكم، فاذكروا لي حجة، مما فيها، أو كلها، أو في غيرها من الكتب، مما تقدرون عليه أنتم، ومن وافقكم؛ فإن لم أجاوبه عنها، بجواب فاصل بين، يعلم كل من هداه الله: أنه الحق؛ وأن تلك، هي الباطل، فانكروا علي.
وكذلك: عندي من الحجج الكثيرة الواضحة، ما لا تقدرون، أنتم، ولا هم، أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقات جند الله ورسوله؛ وإن كنتم تزعمون: أن أهل العلم علي خلاف ما أنا عليه، فهذه كتبهم موجودة، ومن أشهرهم، وأغلظهم كلاما َ: الإمام أحمد، وكلهم على هذا الأمر، لم يشذ منهم رجل واحد، ولله الحمد، ولم يأتِ منهم كلمة واحدة، أنهم أرخصوا لمن لم يعرف الكتاب، والسنة في أمركم هذا، فضلاً عن أن يوجبوه.
وإن زعمتم: أن المتأخرين معكم، فهؤلاء سادات المتأخرين، وقادتهم: ابن تيمية؛ و: ابن القيم؛ و: ابن رجب، عندنا له مصنف مستقل في هذا؛ ومن الشافعية: الذهبي؛ وابن كثير، وغيرهم؛ وكلامهم في إنكار هذا: أكثر من أن يحصر؛ وبعض كلام الإمام أحمد ذكره: ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية، فراجعه؛ ومن أدلة شيخ(3/55)
(ص59) الإسلام: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [التوبة: 31] فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و الأئمة بعده، بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركاً، واتخاذهم أرباباً، لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافاً.
والحاصل: أن من رزقه الله العلم، يعرف: أن هذه المكاتيب، التي أتتكم، وفرحتم بها، وقرأتموها على العامة، من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء، كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) إلى قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) الآية [الأنعام: 112 ـ 113] لكن: هذه الآيات، ونحوها عندكم، من العلوم المهجورة؛ بل: أعجب من هذا: أنكم لاتفهمون شهادة: أن لا إله إلا الله، ولا تنكرون هذه الأوثان، التي تعبد في الخرج، وغيره، التي هي الشرك الأكبر، بإجماع أهل العلم؛ وأنا: لا أقول هذا وحدي.
وله أيضاً: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: نغيمش، وجميع الإخوان؛ سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، وبعد: إن(3/56)
(ص60) سألتم عنا ؟ فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، ونخبركم: أنا بخير، وعافية، أتمها الله علينا و عليكم، في الدنيا و الآخرة؛ وسرنا والحمد للَه: ما بلغنا عنكم، من الأخبار، من الاجتماع على الحق، والاتباع لدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا: هو أعظم النعم، المجموع لصاحبه، بين خيري الدنيا و الآخرة، عسى الله: أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه.
ولكن، يا إخواني: لا تنسوا قول الله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) [الفرقان: 20] وقوله: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت: 2 - 3].
فإذا تحققتم: أن من اتبع هذا الدين، لابدَّ له من الفتنة؛ فاصبروا قليلاً، ثم أبشروا عن قليل، بخير الدنيا و الآخرة؛ واذكروا قول الله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) [غافر: 51] وقوله: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون) [الصافات: 171 - 173] وقوله تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) [المجادلة: 20 - 21].(3/57)
(ص61) فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء، الذين تمسكوا بدين الله، مع ترك الناس إياه، فطوبى، ثم طوبى، إن كنتم ممن قال فيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " قيل يا رسول الله، من الغرباء ؟ قال: " الذين يصلحون إذا فسد الناس " فيا لها من نعمة ! ويا لها من عظيمة ! جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا؛ ثم أنتم في أمان الله، وحفظه، والسلام.
وله أيضاً: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن يحيى، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
وبعد: ما ذكرت من قبل مراسلة سليمان، فلا ينبغي أنها تغضبك؛ أولاً: أنه لو خالف، فمثلك يحلم؛ ولا يأتي بغايته هذا، ولا أكثر منه؛ وثانياً: أنك إذا عرفت، أن كلامه ماله فيه قصد، إلا الجهد في الدين، ولو صار مخطأ فالأعمال بالنيات؛ والذي هذا مقصده: يغتفر له، ولو جهل عليك؛ ونحن: ملزمون عليك لزمةً جيدة؛ وربك، ونبيك، ودينك، لزمتهم لزمة: تتلاشى فيها كل لزمة؛ وهذه: الفتنة الواقعة،(3/58)
(ص62) ليست في مسائل الفروع، التي مازال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير؛ ولكن هذه في شهادة أن: لا إله إلا الله، والكفر بالطاغوت.
ولا يخفاك: أن الذي عادانا في هذا الأمر، هم الخاصة، ليسوا بالعامة؛ هذا: ابن إسماعيل، والمويس، وابن عبيد، جاءتنا كتبهم: في إنكار دين الإسلام، الذي حكى في الإقناع، في باب حكم المرتد: الإجماع من كل المذاهب، أن من لم يدن به، فهو كافر؛ وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن، وما زادهم ذلك إلا نفوراً؛ وزعموا: أن أهل العارض، ارتدوا، لما عرفوا شيئاً من التوحيد ! وأنت تفهم: أن هذا لا يسعك، الإكتفاء بغيرك فيه، فالواجب عليك: نصر أخيك، ظالماً، أو مظلوماً.
وإن تفضل الله عليك: بفهم، ومعرفة، فلا تعذر، لا عند الله، ولا عند خلقه، من الدخول في هذا الأمر؛ فإن كان الصواب معنا، فالواجب عليك: الدعوة إلى الله، وعداوة من صرح بسب دين الله، ورسوله؛ وإن كان الصواب معهم، أو معنا شيء من الحق، وشيء من الباطل؛ أو معنا غلو في بعض الأمور فالواجب منك: مذاكرتنا، ونصيحتنا، وترينا عبارات أهل العلم، لعل الله أن يردنا بك إلى الحق؛ وإن كان إذا حررت المسألة، إذا أنها من مسائل الإختلاف، وأن فيها خلافاً عند الحنفية، أو الشافعية، أو المالكية، فتلك مسألة أخرى.(3/59)
(ص63) و بالجملة: فالأمر عظيم، ولا نعذرك من تأمل كلامنا، وكلامهم، ثم تعرضه على كلام أهل العلم، ثم تبين في الدعوة إلى الحق، وعداوة من حاد الله ورسوله، منا أو من غيرنا، والسلام.
وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
قال السائل: ما يقول الشيخ، شرح الله له صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت عليَّ، فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية، الربوبية، وأراك قليل التعريج عليها، عند تقرير الإلهية ؟.
ويشكل عليَّ أيضاً: كون مشركي العرب، أقروا به؛ هل يكون من غير معرفة لوضوحه ؟ أم توغلوا في التقليد، ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة ؟ أم زعمهم: أن هذا شيء يرضاه الرب ؟ أم كيف الحال ؟.
أيضاً: كلمة التوحيد، كونها محتوية على جميع الدين، من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات، المسماة بالآلهة الباطلة، إذ حدها القصد، فتسمى بذلك من غير استحقاق، لأنها: مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد، هو: الواحد في الخلق؛ وإن تكلم الناس في معناها و عملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئاً، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى،(3/60)
(ص64) عند قوله سبحانه: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) [الإسراء: 79] وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه، حتى قال: " أذن لي فيمن قال لا إله إلا الله " هذا مشكل علي جداً، وقاصر فهمي عن معرفته، إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية، وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه - صلى الله عليه وسلم - من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان؛ فأنت – جزاك الله خيراً – بين لي معنى هذا الكلام، لا أضل ولا أضل 0
وأخبرك: أني غافل عن الفهم في الربوبية، ما فهمي بجيد في الإلهية، فحين بان لي شيء من معرفتها، واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل: إن فيصل ما استعبد لعريعر، إلا لأجل كبر ملك عريعر، مع أنه قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك، وفيهم من لا يرى الربوبية، ولا يعتبرها، أو يتهاون بها، وهذا تسمعه من بعضهم، فجزاك الله خيراً، صرح بالجواب 0
فأجاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الأخ؛ حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: سرني ما ذكرت من الإشكال، وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك: أن التفصيل يحتاج إلى أطول، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، فأما توحيد الربوبية، فهو: الأصل ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى، فيمن أقر بمسألة منه: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى(3/61)
(ص65) يؤفكون) [الزخرف: 87] 0
ومما يوضح لك الأمر: أن التوكل من نتائجه، والتوكل من أعلى مقامات الدين، ودرجات المؤمنين؛ وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرفته بالربوبية، كما قال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) [الزمر: 8] وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائماً، في الشدة والرخاء، فلا يعرفونها وهي نتيجة الآلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل وغير ذلك؛ وأما الصبر والرضا، والتسليم والتوكيل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرخاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الإلهية، هو: أشهر نتائج توحيد الربوبية؛ وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة، وفهم العبارة 0
وأما الفرق بينهما: فإن أفرد أحدهما مثل قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [فصلت: 30] فهو توحيد الإلهية؛ وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية، مثل قوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19] وأمثال ذلك؛ فإن قرن بينهما فسرت كل لفظة بأشهر معانيها، كالفقير، والمسكين 0
وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية: كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية ؟ هل هو كذا ؟ أو كذا ؟ أو غير ذلك ؟ فهو: لمجموع ما ذكرت، وغيره 0
وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن، ويشرح الحديث بمجلدات، ثم(3/62)
(ص66) يشرح البردة ويستحسنها، ويذكر في تفسيره، وشرحه للحديث: أنه شرك ! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه ! هذا: هو العجب العجاب؛ أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا ناراً، ولا رسولاً، ولا إلهاً؛ وأما كون: لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.
... وسر المسألة: أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول: الأعمال كلها، من: لا إله إلا الله، فقوله الحق، و الذي يقول: يخرج من النار من قالها، وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق، السبب مما ذكرت لك، من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي: غلط أبو حنيفة، وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان، والسلام وله أيضاً: قدس الله روحه، ونور ضريحه.
... بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين الحمد لله وكفي، وسلام على عباده الذين اصطفي.
أما بعد: فاعلم رحمك الله، أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] والعبادة هي:(3/63)
(ص67) التوحيد، لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه، كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36].
... والتوحيد: ثلاثة أصول؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذات، والأسماء، والصفات.
... الأصل الأول: توحيد الربوبية، وهو: الذي أقر به المشركون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستحل دماءهم، وأموالهم، وهو: توحيد الله بفعله، والدليل عليه، قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] وقوله: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون) [المؤمنون: 84 – 89] والآيات على هذا كثيرة جداً، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
والأصل الثاني: وهو توحيد الألوهية، فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر،(3/64)
(ص68) والذبح، والرغبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم، فدليل الدعاء، قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) الآية [غافر: 60] وكل نوع من هذه الأنواع، عليه دليل من القرآن.
وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [الجن: 18] وقوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) [الأعراف: 158] (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25] وقوله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) إلى قوله: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد: 14] وقوله: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) [الحج: 62] وقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] وقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31].
الأصل الثالث: وهو توحيد الذات، والأسماء والصفات، كما قال تعالى: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) [الإخلاص]. وقوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين(3/65)
(ص69) يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) [الأعراف: 180] وقال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11].
واعلم: أن ضد التوحيد الشرك؛ وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر؛ وشرك أصغر، وشرك خفي.
والدليل على الشرك الأكبر، قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) [النساء: 116] وقوله تعالى: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) [المائدة: 72].
وهو: أربعة أنواع.
النوع الأول: شرك الدعوة، والدليل عليه، قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) [العنكبوت 65 – 66] 0
النوع الثاني: شرك النية، وهى: الإرادة والقصد، والدليل عليه، قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15 – 16].(3/66)
(ص70) النوع الثالث: شرك الطاعة، والدليل عليه قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) [التوبة: 31 ] وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، هو: طاعة العلماء والعباد، في معصية الله سبحانه، لادعاؤهم إياهم، كما فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم، لما سأله فقال لسنا نعبدهم فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية.
النوع الرابع: شرك المحبة، والدليل عليه قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب) إلى قوله: (وما هم بخارجين من النار) [البقرة: 165: 167] 0
والنوع الثاني: شرك أصغر، وهو الرياء، والدليل عليه، قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110].
والنوع الثالث: شرك خفي، والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " الشرك في هذه الأمة أخفي، من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل" وكفارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم إن أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ".
والكفر: كفران؛ كفر يخرج من الملة، وهو خمسة أنواع.(3/67)
(ص71) النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل عليه، قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) [العنكبوت: 68] 0
النوع الثاني: كفر الاستكبار، والإباء مع التصديق؛ والدليل عليه، قوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) [البقرة: 34] 0
النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل عليه، قوله تعالى: )ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً) [الكهف: 35 –37] 0
النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل عليه قوله تعالى: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) [الأحقاف: 3] 0
النوع الخامس: كفر النفاق، الدليل عليه، قوله تعالى: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) [المنافقون: 3]، وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو: كفر النعمة؛ والدليل عليه، قوله تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله) [النحل: 112] وقوله: (إن الإنسان لظلوم كفار) [إبراهيم: 34](3/68)
(ص72) وأما النفاق، فهو: نوعان، نفاق اعتقادي، ونفاق عملي.
فأما الإعتقادي فهو: ستة أنواع، تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول؛ فهذه الأنواع الستة، صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله من الشقاق والنفاق 0
وأما النفاق العملي، فهو: خمسة أنواع، إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف؛ والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كبيراً.
وسئل أيضاً: رحمه الله تعالى، عن توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات ؟
فأجاب: توحيد الربوبية: هو الذي أقر به الكفار كما في قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء و الأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن بخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31]0
وأما توحيد الألوهية، فهو: إخلاص العبادة لله وحده من(3/69)
(ص73) جميع الخلق؛ لأن الإله في كلام العرب، هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين، والملائكة، وغيرهم؛ يقولون: إن الله يرضى هذا، ويشفعون لنا عنده.
فإذا عرفت هذا، معرفة جيدة: تبين لك غربة الدين؛ وقد استدل عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على بطلان مذهبهم، لأنه إذا كان هو المدبر وحده، وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة، فكيف يدعونه، ويدعون معه غيره، مع إقرارهم بهذا 0
وأما توحيد الصفات: فلا يستقيم توحيد الربوبية، ولا توحيد الألوهية، إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار: أعقل ممن أنكر الصفات، والله أعلم 0
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أصل الحنيفية: عبادة الله وحده لا شريك له، وتجنب الشرك، كما قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [النساء: 36] ومغلظ الكفر: الكبر، والشرك؛ فإن كان الإنسان ما عبد الله، فهو مستكبر، مثل ما يقع من غالب البدو، من التهزى بالوضوء، والصلاة؛ فإن كان عبد الله، وعبد معه غيره، فهو مشرك، مثل ما يقع من كثير من العباد، مثل النصارى، وجنسهم، ولكن فيهم رقة
فإذا عرفت هذا، وعرفت ما جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - من سد(3/70)
(ص74) الذرائع، مثل كونه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونهى المصلي أن لا يصمد للسترة، وألا يستقبل النار، ونهى المأمومين عن القيام، إذا صلى الإمام جالساً، وأمرهم بالجلوس وغير ذلك 0
فإذا عرف الإنسان: أنه أمر بالجلوس إذا جلس الإمام، والإخلال بالركن، لأجل المشابهة، لما يفعله الكفار لعظمائهم، ونظر لما يجري من الناس من التكبر، والقيام والخضوع، وغير ذلك، عرف نفسه، وعرف ربه، وما يجب له من الحقوق، لعله واقع في شيء من هذا 0
وعرف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك شيئاً ينفع أمته إلا أمرهم به، ولا شيئاً يضرهم إلا نهاهم عنه، وكذلك كونه يعرف أن أصل الشرك الإعتقاد في الصالحين، وغيرهم، وهو: الذي فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - قومه، وقاتلهم عنده 0
وقال رحمه الله تعالى:
إذا أمر الله العبد بأمر، وجب عليه فيه: سبع مراتب؛ الأولى: العلم به؛ الثانية: محبته؛ الثالثة: العزم على الفعل؛ الرابعة: العمل؛ الخامسة: كونه يقع على المشروع خالصاً صواباً؛ السادسة: التحذير من فعل ما يحبطه؛ السابعة: الثبات عليه 0
إذا عرف الإنسان: أن الله أمر بالتوحيد، ونهى عن الشرك؛ أو عرف: أن الله أحل البيع 0 وحرم الربا؛ أو(3/71)
(ص75) عرف: أن الله حرم أكل مال اليتيم، وأحل لوليه أن يأكل بالمعروف، إن كان فقيراً، وجب عليه أن يعلم المأمور به ويسأل عنه إلى أن يعرفه، ويعلم المنهي عنه، ويسأل عنه إلى أن يعرفه 0
واعتبر ذلك بالمسألة الأولى، وهي: مسألة التوحيد، والشرك 0
أكثر الناس: علم أن التوحيد حق، والشرك باطل، ولكن أعرض عنه، ولم يسأل؛ وعرف: أن الله حرم الربا، وباع واشترى ولم يسأل؛ وعرف: تحريم أكل مال اليتيم، وجواز الأكل بالمعروف؛ ويتولى، مال اليتيم ولم يسأل 0
المرتبة الثانية: محبة ما أنزل الله، وكفر من كرهه، لقوله: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) [محمد: 9] فأكثر الناس: لم يحب الرسول، بل أبغضه، وأبغض ما جاء به، ولو عرف أن الله أنزله 0
المرتبة الثالثة: العزم، على الفعل؛ وكثير من الناس: عرف وأحب، ولكن لم يعزم، خوفاً من تغير دنياه 0
المرتبة الرابعة: العمل؛ وكثير من الناس: إذا عزم أو عمل وتبين عليه من يعظمه من شيوخ أو غيرهم ترك العمل.
المرتبة الخامسة: أن كثيراً ممن عمل، لا يقع خالصاً، فإن وقع خالصاً، لم يقع صواباً 0
المرتبة السادسة: أن الصالحين يخافون من حبوط(3/72)
(ص76) العمل، لقوله تعالى: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) [الحجرات: 2] وهذا من أقل الأشياء في زماننا 0
المرتبة السابعة: الثبات على الحق، والخوف من سوء الخاتمة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، ويختم له بعمل أهل النار " وهذه أيضاً: من أعظم ما يخاف منه الصالحون؛ وهى قليل في زماننا؛ فالتفكر في حال الذي تعرف من الناس، في هذا وغيره، يدلك على شيء كثير تجهله؛ والله أعلم 0
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن التوحيد الذي فرض الله على عباده، قبل الصلاة والصوم، هو: توحيد عبادتك، فلا تدعو إلا الله وحده لا شريك له، لا تدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره؛ كما قال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) [الجن: 18] وقال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110] 0
واعلم: أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفة إشراكهم: أنهم يدعون الله، ويدعون معه الأصنام، والصالحين؛ مثل عيسى، وأمه، والملائكة؛ يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ وهم يقرون: أن الله سبحانه، هو:(3/73)
(ص77) النافع، الضار، المدبر؛ كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت) الآية [يونس: 31] 0
فإذا عرفت هذا؛ وعرفت: أن دعاءهم الصالحين، وتعلقهم عليهم، أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليخلصوا الدعاء لله، ويكون الدين كله لله؛ وعرفت: أن هذا هو التوحيد، الذي أفرض من الصلاة والصوم، ويغفر الله لمن أتى به يوم القيامة، ولا يغفر لمن جهله، ولو كان عابداً؛ وعرفت؛ أن ذلك هو الشرك بالله، الذي لا يغفر الله لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنا، وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله 0
ثم مع هذا: عرفت أمراً آخر، وهو: أن أكثر الناس – مع معرفة هذا الدين – يسمعون العلماء، في سدير، والوشم، وغيرهم، إذا قالوا: نحن موحدون الله، نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون من التوحيد، إلا توحيد الكفار، توحيد الربوبية؛ عرفت: عظم نعمة الله عليك، خصوصاً إذا تحققت: أن الذي يواجه الله، ولا عرف التوحيد؛ أو عرفه ولم يعمل به، أنه خالد في النار، ولو كان من أعبد الناس، كما قال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) [المائدة: 72] و الله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم 0(3/74)
(ص78) وله أيضاً: تقريب الله التوحيد، بالعقل، والنقل، والأئمة، والأدلة المصرفة 0
فأما العقل: فكون الإنسان الذي في عقله: أنك تلجأ إلى الحي، ولا تلجأ إلى الميت؛ وتطلب الحاضر، ولا تطلب الغائب؛ وتطلب الغني ولا تطلب الفقير؛ وأما النقل: ففي القرآن أكثر من أربعين مثلاً؛ والأئمة مثل ما يعرف: أن الناس متعلقة قلوبهم باتباع العلماء، ويقال من أكبر الأئمة؛ ومعلوم: أنه محمد، وإبراهيم، عليهما السلام 0
فأما إبراهيم، فكما قال تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) [البقرة: 124] لما جعله الله إماماً، معلوم أنه في التوحيد، وما جرى عليه من قومه، أوقدوا له ناراًُ، إذا مر الطير من فوقها سقط فيها 0
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فأي شيء هو مرسل به ؟ دعوة الصالحين، هو مرسل بهدمها ؟ أو يقيمها ؟ أو هو ساكت عنها ؟ لا قال شينة، ولا زينة ؟! ومعلوم أنه: ما تفارق هو وقومه إلا عندها، وأما الأدلة المصرفة، فبحر لا ساحل له، كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية 0
وقال رحمه الله تعالى:
هذه أربع قواعد، ينبغى لكل إنسان يتأملهن، ويفهمهن فهم قلب، يفيض عملهن على الجوارح 0
الأولى: الإنسان إذا مات على ما علم من ألفاظ الصلاة(3/75)
(ص79) فقط، هل معه دين يدخل به الجنة ؟ وينجيه من النار ؟ أم لا ؟ 0
الثانية: هذه الحوادث عند المقامات، ونحوها، هل هي توجد ؟ أو شيء منها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وخلفائه الراشدين ؟ والقرون المثنى عليهم ؟ أم لا ؟ 0
الثالثة: هذا الذي يفعلونه عندها، من القصد، والتوجه، من إجابة الدعوات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، هل هو الذي يفعله مشركوا العرب ؟ قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، عند اللات، والعزى، ومناة، سواء بسواء ؟ أم لا ؟ 0
الرابعة: من فعل هذا، وهو مسلم، مؤمن، هل يكفر ويحبط إيمانه بذلك ؟ أم لا ؟ فإن أشكلت عليك الأولى، فانظر، إلى سؤال الملكين في القبر، وقوله: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً، فقلته مثلهم؛ الثانية: إن قلت توجد، فعليك الإثبات؛ الثالثة: إن قلت القصد، غير القصد؛ فعليك التفريق، بالأدلة الصحيحة، من كتاب أو سنة، أو إجماع الأمة؛ الرابعة: إن قلت، الإسلام: يحميه عن الكفر؛ ولو فعل ما فعل، فطالع باب حكم المرتد، من الإقناع، وغيره؛ والله أعلم 0
وقال رحمه الله تعالى:
ظهر لي في الحديث، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا " الخ، أن هذا فيه: تنبيه على جلالة التوحيد،(3/76)
(ص80) وأن هذا من نوع التمثيل، كما ذكر في الشرك، وكبره عند الله، في قوله تعالى، في الأنبياء (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) [الأنعام: 88] لكون التوحيد يكفر الخطايا، كما أن الشرك يحبط الحسنات 0
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى:
الواجب على كل عبد: أن يعرف هذه المسائل، المسألة الأولى: الرب الذي خلقنا، ورزقنا لم يتركنا هملاً، لم يأمرنا، ولم ينهنا؛ بل أرسل إلينا رسولاً، من أطاعه فهو في الجنة، ومن عصاه فهو في النار؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً) الآية [المزمل: 15 – 16] 0
المسألة الثانية: أن أعظم ما جاء به هذا الرسول من عند الله، أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد غيره، والدليل علي ذلك، قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) [الجن: 18] 0
المسألة الثالثة: أن من صدق الرسول، ووحد الله، ما يجوز له يواد من حاد الله، ورسوله، حتى يتوب، من المحادة لله، ورسوله، والدليل على ذلك، قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من(3/77)
(ص81) تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [المجادلة: 22].
فمن لم يعرف ربه، بمعنى: معبوده؛ ودينه ورسوله، الذي أرسله الله إليه، بدلائله في الدنيا، ولم يعمل به، سئل عنه في القبرفلم يعرفه؛ ومن لم يعرفه في القبر : ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها الجن والإنس، ما أطاقوا حملها 0.
ومن عرفه بدليله، وعمل به في الدنيا، ومات عليه، سئل في القبر، فيجيب بالحق، فإنه ذكر في الحديث: " إن العبد المؤمن، أو الموقن، إذا وضع في قبره، سألته الملائكة عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، فيقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وصدقنا، واتبعنا، فيقال له: نم صالحاً، قد علمنا أنك مؤمن، وأعظم البينات، الذي جاء به الرسول؛ كتاب الله، كما قال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة: 23] 0
وأما المنافق، والمرتاب، إذا سئل عن ذلك، يقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ فتعذبه الملائكة، فالحذر، الحذر، من ذلك؛ تفقهوا في دينكم قبل الموت، وصلى الله على محمد 0(3/78)
(ص82) وسئل أيضاً: عن مسائل فأجاب:
الأولى: أن الله سبحانه، بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد، وتجريده، ونفى الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ.
الثانية: أن العبادة التي شرعها الله تعالى كلها، تتضمن إخلاص الدين كله لله، تحقيقاً لقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) [البينة: 5] فإن دين الإسلام، هو: دين الله، الذي أمر به الأولين والآخرين، كما قال تعالى – وهي: الثالثة – (بلى من أسلم وحهه لله وهو محسن) [البقرة: 112] وفسر إسلام الوجه، بما يقتضى الإخلاص؛ والإحسان: العمل الصالح، المأمور به؛ وهذان الأصلان: جماع الدين؛ لا نعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع، بل بما شرع، كما قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110] 0
الرابعة: أن هذين الأصلين، هما تحقيق الشهادتين، شهادة: أن لا إله إلا الله؛ وشهادة: أن محمداً رسول الله؛ فالأولى: تتضمن إخلاص الألوهية، فلا يتأله القلب غيره، لا بحب، ولا خوف ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام؛ والثانية: تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر؛ فلا حرام إلا ما حرم، ولا دين إلا ما شرع 0(3/79)
(ص83) ولهذا: ذم الله تعالى المشركين، في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ما لم يأذن فيه، قال تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) [الأحزاب: 45 – 46] فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا الله بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك: بدعة، والمبتدع يؤل إلى الشرك، كما قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [التوبة: 31] وقال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) [التوبة: 29] 0
ولفظ الإسلام: يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له، ولغيره، فهو مشرك؛ ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر 0
وقال أيضاً:
الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان: أنواع؛ النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له، الذي بعث الله به رسوله 0
النوع الثاني: أن يدعو الله، ويدعو معه نبياً، أو ولياً، ويقول: أريد شفاعته، وإلا فأنا أعلم: ما ينفع، ولا يضر، إلا الله؛ لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح، لعله يشفع لي؛ فهذا الذي فعله المشركون، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/80)
(ص84) حتى يتركوه؛ ولا يدعوا مع الله أحداً، لا لطلب شفع، ولا نفع 0
النوع الثالث، أن يقول: اللهم إنى أتوسل إليك بنبيك، أو بالأنبياء، أو الصالحين؛ فهذا: ليس شركاً، ولا نهينا الناس عنه؛ ولكن المذكور عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهم: أنهم كرهوه، لكن ليس مما نختلف نحن، وغيرنا فيه 0
وقال أيضاً رحمه الله:
ذكر في السيرة، في استماع أبي جهل، قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلامه معروف، يقول: هذا حق، وذكر الذي منعه، خوفه: أن يصيروا تبعاً لبني عبد مناف؛ والواقع: لو أن واحداً من الملوك، يقر أن هذا الدين حق، ولا يدع اتباعه، إلا خوف أن يزول ملكه، لوجدت النفوس تعذره 0
الثانية: كونهم يخفون إقرارهم على عامة أهل مكة، مخافة أن يتبعوه، وأما أهل هذا الزمان، فكل مطوع شيطان، منطقه الله: أن التوحيد دين الله ورسوله، والشرك الذي هم يفعلون: دين الشيطان؛ ولا أحد يعي لقولهم 0
وقال أيضاً؛ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب:
هذه: كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن(3/81)
(ص85) محمداً رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك، تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يفضى إلى أعظم المهالك 0
فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم " الحديث، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة ؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وكذلك حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار، من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 0
وهذه الأحاديث الصحيحة، إذا رآها هذا الجاهل، أو بعضها، أو سمعها من غيره، طابت نفسه، وقرت عينه، واستفزه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك، فلو أنه دعا غير الله، أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له، لم يرَ ذلك شركاً، ولا محرماً، ولا مكروهاً، فإذا أنكر عليه أحد بعض ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله، اشمأز، ونفر، وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله 0
وهذا: لم يدر حقيقة الحال، فلو كان الأمر كما قال، لما قال الصديق رضي الله عنه في أهل الردة: والله لو منعوني عناقاً، أو قال عقالاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم(3/82)
(ص86) عليه، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله ؟ 0
وما يصنع هذا الجاهل، بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل تحت أديم السماء " أفيظن هذا الجاهل: أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله ؟ وقال - صلى الله عليه وسلم -: " في هذه الأمة " – ولم يقل: منها – " قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم " 0
وكذلك أهل حلقة الذكر، لما رآهم أبو موسى في المسجد، في كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة، هللوا مائة – الحديث – فلما أنكر عليهم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله ما أردنا إلا الخير؛ قال: كم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا " أن قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلوقهم، أو قال تراقيهم " وأيم الله: لا أدري أن يكون فيكم أكثرهم، فما كان إلا قليلاً، حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النهروان، مع الخوارج؛ أفيظن هذا الجاهل المشرك، أنهم يشركون لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون ؟ 0
وكذلك المنافقون، على عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاهدون في سبيل الله، بأموالهم، وأنفسهم، ويصلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس، ويحجون معه، قال الله(3/83)
(ص87) تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) [النساء: 145] أفيظن هذا الجاهل، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله ؟ وكذلك قاتل النفس بغير الحق يقتل، أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل لا إله إلا الله، وأنه لم يقلها خالصاً من قلبه ؟
فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب، (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) [الفرقان: 44] حتى قال هؤلاء الجهلة، ممن ينتسب إلى العلم، والفقه قبلتنا من أمها لا يكفر 0
فلا إله إلا الله، نفي وإثبات الإلهية كلها لله: فمن قصد شيئاً من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلهاً من دون الله؛ مكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل 0
فإن قال: هذا المشرك، لم أقصد إلا التبرك؛ وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر: (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) فأجابهم بقوله: (إنكم قوم تجهلون) الآيتين [الأعراف: 138 – 139] 0
وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة(3/84)
(ص88) يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) لتركبن سنن من كان قبلكم " وقال تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) [النجم: 19] وفي الصحيح عن ابن عباس، وغيره: كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره 0
فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا اعتقد في أناس صالحين، أنبياء، وأولياء، أريد منهم الشفاعة، عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله؛ فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] وقوله: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] 0
وقد ذكر أناساً يعبدون المسيح، وعزيراً؛ فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجونها، ويخافون عذابي، كما تخافونه؛ وأنزل الله سبحانه: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً) الآيتين [الإسراء: 56 – 57] وقال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا(3/85)
(ص89) سبحانك) الآيتين [سبأ: 40 – 41] 0
والقرآن، بل والكتب السماوية، من أولها إلى آخرها: مصرحة ببطلان هذا الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملاً منهم، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وقال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) [الفرقان: 23] وقال تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) [البقرة: 22] قال ابن مسعود، وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله، وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله نداً ؟ قل: ما شاء الله وحده " وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر " فسئل عنه فقال: " الرياء " 0
وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض، من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) [إبراهيم: 35] كما قص الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل واتباعهم من الموحدين 0(3/86)
(ص90) وكفى في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون، قال الله تعالى: (فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) [الإسراء: 89] وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) [الأنعام: 116] وقال: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف: 103] 0
ولما أراد سبحانه إظهار توحيده، وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهوراً، وفي توراة موسى، وإنجيل عيسى، مذكوراً، إلى أن أخرج الله تلك الدرة، بين بني كنانة، وبني زهرة فأرسله على حين فترة من الرسل، وهداه إلى أقوم السبل 0
فكان له - صلى الله عليه وسلم - من الآيات، والدلالات على نبوته، قبل مبعثه، ما يعجز أهل عصره، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت له: بصرى من أرض الشام " 0
وولد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلة مولده، حتى سمع انشقاقه وسقط أربع عشرة شرفة، وهو باقٍ إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت(3/87)
(ص91) بحيرة: ساوة، وكانت بحيرة عظيمة، في مملكة العراق، عراق العجم، وهمدان، تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده، يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك، حتى بني مكان " ساوة " وباقية إلى اليوم.
وأرسلت الشهب على الشياطين، كما أخبر الله بقوله: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) [الجن: 9] وأنبته الله نباتاً حسناً، وكان أفضل قومه مروة، وأحسنهم خلقاً وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، حتى سماه قومه الأمين، لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال المرضية 0
ووصل بصرى من أرض الشام، مرتين، فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر عمه أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر برده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به، فلم نجد قدماً أشبه من القدم الذي بالمقام من قدمه، واستمرت كفالة أبى طالب، كما هو مشهور، وبغضت إليه الأوثان، ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك 0
والدليل على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقل والنقل، أما النقل: فواضح، وأما العقل: فنبه عليه القرآن؛ من ذلك: ترك الله خلقه بلا أمر، ولا نهى، لا يناسب في حق الله، ونبه عليه، في قوله: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به(3/88)
(ص92) موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) [الأنعام: 91]0
ومنها أن قول الرجل: إني رسول الله، إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم، وأكذبهم، والتمييز بين ذلك سهل، يعرف بأمور كثيرة؛ ونبه على ذلك بقوله: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم) الآيات [الشعراء: 221- 223] ومنها: شهادة الله بقوله: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) [الرعد: 43] ومنها: شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم، كما في الآية 0
ومنها: - وهي أعظم الآيات العقلية - هذا القرآن الذي تحداهم الله بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك، من جهة العربية، فنحن نعلمها من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم، وفصحائهم، وتكريره هذا، واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك، على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبه على الناس؛ ومنها: تمام ما ذكرنا وهو: إخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله، إلى يوم القيامة؛ فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة، والكمال، والعلوم 0
ومنها: نصرة من اتبعه، ولو كانوا أضعف الناس؛ ومنها: خذلان من عاداه، وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم؛ ومنها: أنه رجل أمي لا يخط، ولا يقرأ(3/89)
(ص93) الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه، مع كثرة كذبهم، وبهتانهم؛ ومع هذا: أتى بالعلم، الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا ارتاب المبطلون) [العنكبوت: 48].
وقال رحمه الله تعالى:
ولما بلغ أربعين سنة: بعثه الله (بشيراً ونذيراً)، (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا) ولما أتى قومه بلا إله إلا الله، قالت قريش: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، وزيد بن مروان، وغيرهم، قالوا: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، فيقول: " أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة " وأبو لهب وراءه، يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئي كذاب، فيردون عليه أقبح الرد 0
ولما أمره الله بالهجرة، هاجر، وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين، ولم يميز بين من اعتقد في نبي، ولا ولي، ولا شجر، ولا حجر؛ ومازال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك: كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطع الجمال؛ وعن أنس قال: قال: أناس: يا رسول الله، يا خيرنا(3/90)
(ص94) وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " يا أيها الناس أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ " 0
وعن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: انطلقت في وفد بني عامر، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى " وعن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".
ومازال - صلى الله عليه وسلم - معلماً لأصحابه هذا التوحيد، ومحذراً من الشرك، حتى أتاهم وهم يتذاكرون الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل، فيصلي فيزين صلاته، لما يرى من نظر رجل "، وحتى قال: " لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض، فليس من الله " وحتى قال: " لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان " وحتى قال " لا تقولوا لولا الله وفلان " وحتى قال: " لا يقل أحدكم عبدي و أمتي " وحتى قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر ".
وحذرهم من الشرك بالله، في الأقوال والأعمال، حتى قال: " إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك كتاب الله، فيه الهدى والنور، ومن تركه كان(3/91)
(ص95) على الردي " وحتى قال: " خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت، والتحذير لنا من هذا الشرك، حتى قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وحتى قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب " الحديث 0
وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة، والملاح حاذق، ونحو ذلك؛ ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " قال: إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها كما قال الصديق لعمر، ووافقه عمر، وسائرهم على ذلك، ويكون ذلك أنه إذا قالها قد شرع في العصمة، وإلا بطلت.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من الحديثين، في وقت، ليعلم المسلمون: أن الكافر إذا قالها وجب الكف عنه، ثم صار القتال مجرداً إلى الشهادتين، ليعلم: أن تمام العصمة يحصل بذلك، لئلا يقع شبهة وأما مجرد الإقرار فلا يعصمهم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى(3/92)
(ص96) جلاها الصديق رضى الله عنه، ووافقه عمر.
وقال صاحب المنازل: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال؛ وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة وان لم يقوموا بحسن الاستدلال، بعد أن يسلموا من الشبهة، والحيرة والريبة، بصدق شهادة، صحيحها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي الرسالة والصنائع، ويجب بالسمع، ويوجد بتبصير الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد، والحمد لله رب العالمين.
وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه.
لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنه: بعثه الله (بشيراً ونذيراً)، (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) ونذكر قبل ذلك شيئاً من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل بعثته، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح، عشرة قرون، كلهم على الهدى، وشريعة من الحق؛ ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله لهم نوحاً، وكان أول رسول أرسل لأهل الأرض؛ قال ابن عباس، في قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) [البقرة: 213] قال على الإسلام.(3/93)
(ص97) وكان أول ما كادهم الشيطان به تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) [نوح: 23] قال الكلبي: هؤلاء قوم صالحون، فماتوا في شهر، فجزع عليهم أقاربهم، وقال لهم رجل: هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام، على صورهم ؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام، ونصبها لهم.
وفي غير حديثه، قال أصحابهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة؛ فكان الرجل يأتي أباه، وابن عمه، فيعظمه، حتى ذهب القرن الأول، ثم جاء القرن الآخر، وعظموهم أشد من الأول ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء، إلا وهم يرجون شفاعتهم؛ فعبدوهم؛ فلما بعث الله نوحاً، وأغرق من أغرق، وأهبط الماء هذه الأصنام، من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء، بقيت على الشاطىء، فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح وذريته الأرض، وبقوا على الإسلام ما شاء الله، ثم حدث فيهم الشرك.
وما من أمة إلا ويبعث الله فيها رسولاً، يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك؛ فمنهم: عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؛ بعث الله لهم: هوداً عليه السلام، وكانوا في ناحية الجنوب، بين اليمن وعمان، فكذبوه فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، ونجى الله هوداً ومن معه؛ ثم بعث
(98ص) الله صالحا إلى ثمود، وكانوا بالشمال، بين الشام والحجاز (فاستحبوا العمى على الهدى) [فصلت: 17] فأرسل الله عليهم صيحةً فأهلكتهم؛ ونجى الله صالحاً ومن معه؛ ثم بعد ذلك: أخرج إليهم إبراهيم عليه السلام، وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار، فكذبوه إلا ابنة عمه سارة، زوجته، ولوطاً أيضاً، فأكرمه الله ورفع قدره، وجعله إماماً للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب 0(3/94)
ومنذ ظهور إبراهيم: لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) [الزخرف: 28] وكان له ابنان، أحدهما: إسحاق عليه السلام، وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن إسحاق؛ والثاني: إسماعيل عليه السلام، وهو أبو العرب، وقصته وأمه مشهورة، لما وضعها عليه السلام في مكة، وكان هو في الشام، فنشأ إسماعيل عليه السلام، في أرض العرب، فصار له ولأولاده ولاية البيت ومكة.
فلم يزالوا بعده على دين إسماعيل، حتى نشأ فيهم: عمروبن لحى، بن قمعة، فملك مكة، وكان معظماً فيهم، بسبب الدين، والدنيا؛ فسار إلى الشام، ورآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك، وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز، وكان له رئي من الجن، فأتاه، فقال: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائت جدة، تجد فيها أوثاناً معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى(3/95)
(ص99) عبادتها تجب 0
فأتى جدة، فاستثارها، ثم حملها، فلما حضر الحج: دعا العرب إلى عبادتها، فأجابوه، ففرقها في كل قبيلة واحد، فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكسرها، وقال: " رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار " وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم، ونصب الأوثان، وكان أهل الجاهلية إذ ذاك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل: تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، وإهداء البدن؛ وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
ومن أقدم أصنامهم: مناة على ساحل البحر، بقديد بين مكة والمدينة، ولم يكن أحد أشد تعظيماً له من الأوس، والخزرج؛ فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً فهدمها عام الفتح، ثم اتخذوا اللات بالطائف، وكان أصله رجلاً صالحاً، يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره؛ فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة فهدمها، ثم اتخذوا العزى، وكانت بوادي نخلة، وبنوا عليها بيتاً وكانوا يسمعون منه الصوت، فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، بعث خالد بن الوليد، فأتاها، فعضدها، وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة: إذ هو بجنِّيه، نافشة شعرها، فقال خالد، يا عزى: كفرانك، لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك، ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة 0(3/96)
(ص100) وكان من العرب: من يتعلق على الملائكة، يريدون شفاعتهم، وهم بنو ملح، وكان منهم: من يدعو الجن؛ وكانت النصارى: تدعوا عيسى وأمه؛ وكان الناس، من يدعو أناساً صالحين، غير ما ذكرنا؛ وهو أول أنواع الشرك وقوعاً في الأرض، كما تقدم، وامتلأت أرض العرب، وغيرها، من الأوثان، والشرك بالله؛ وكان لكل قوم: شيء يقصدونه، غير ما كان عند الآخرين 0
فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) [ص: 5] ولما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، وجد حول البيت: ثلاثمائة وستين صنماً، وجعل يطعن في وجوهها، ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) [الإسراء: 81] وهي تساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت 0
وقال بعض الصحابة في اللات: -
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر
إن التي حرقت بالسد فاشتعلت ... ... فلم تقاتل لدى أحجارها هدر
وصلى الله على محمد 0
وقال أيضاً: بوأه الله منازل النبيين، والصديقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات، في بيان: شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان(3/97)
(ص101) التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، فرحم الله امرءاً نصح نفسه، وعرف أن وراءه جنة وناراً، وإن الله عزَّ وجلَّ جعل لكل منهما أعمالاً، فإن سأل عن ذلك، وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى؛ فمن أتى به يوم القيامة، فهو من أهل الجنة، قطعاً، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال 0
ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله، فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار، والصدقة والإحسان، فهو من أهل النار قطعاً؛ كالنصارى، الذين يبنى أحدهم صومعة في البرية، ويزهد في الدنيا، ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله، تعالى الله عن ذلك، قال الله عزَّ وجلَّ: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) [الفرقان: 23] وقال تعالى: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) [إبراهيم: 18] 0
فرحم الله امرءاً، تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) [الفرقان: 27] 0
نسأل الله: أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم العلماء، الذين علموا ولم(3/98)
(ص102) يعملوا، وطريق الضالين، وهم العباد الجهال، فما أعظم هذا الدعاء، وما أحوج من دعا به: أن يحضر قلبه في كل ركعة، إذا قرأ بها، بين يدي الله تعالى، أن يهديه، وأن ينجيه؛ فإن الله قد ذكر: أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة، إذا دعا به الإنسان، من قلب حاضر 0
فنقول: لا إله إلا الله، هي: العروة الوثقى؛ وهي: كلمة التقوى؛ وهي: الحنيفية، ملة إبراهيم؛ وهي: التي جعلها الله عزَّ وجلَّ، كلمة باقية في عقبه؛ وهي: التي خلقت لأجلها المخلوقات؛ وبها قامت الأرض والسماوات؛ ولأجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب؛ قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] والمراد: معنى هذه الكلمة؛ وأما: التلفظ باللسان، مع الجهل بمعناها، فلا ينفع؛ فإن المنافقين يقولونها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار 0
فاعلم: أن معنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عما سوى الله تبارك وتعالى، وإثباتها لله وحده، لا شريك له، ليس فيها حق لغيره، وإثباتها كلها لله وحده، لا شريك له، ليس فيها حق لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) [مريم: 93 – 95] وقال تعالى: (يوم يقوم(3/99)
(ص103) الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً) [النبأ: 38] وقال تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) الآية [النحل: 111] 0
فإذا قيل: لا خالق إلا الله، فهذا معروف، لا يخلق الخلق إلا الله، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وإذا قيل: لا يرزق إلا الله، فكذلك؛ فإذا قيل: لا إله إلا الله، فكذلك؛ فتفكر رحمك الله، في هذا، واسأل عن معنى الإله، كما تسأل عن معنى الخالق، والرازق 0
واعلم: أن معنى الإله، هو: المعبود؛ هذا هو تفسير هذه اللفظة، بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئاً، فقد اتخذه إلهاً من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد، وهو: الله وحده، تبارك وتعالى، علوا كبيراً 0
والعبادة: أنواع كثيرة؛ لكني أمثلها بأنواع ظاهرة، لا تنكر، من ذلك: السجود؛ فلا يجوز لعبد، أن يضع وجهه على الأرض، ساجداً، إلا لله وحده، لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي 0
ومن ذلك: الذبح؛ فلا يجوز لأحد، أن يذبح إلا لله وحده؛ كما قرن الله بينهما في القرآن، في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له) [الأنعام: 162 – 163] والنسك، هو: الذبح؛ وقال: (فصلِ لربك وانحر) [الكوثر: 2] فتفطن لهذا،(3/100)
(ص104) و اعلم: أن من ذبح لغير الله، من جنى، أو قبر، فكما لو سجد له؛ وقد لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، قال: " لعن الله من ذبح لغير الله ".
ومن أنواع العبادة: الدعاء؛ كما كان المؤمنون، يدعون الله وحده، ليلاً، ونهاراً، في الشدة، والرخاء؛ لا يشك أحد، أن هذا من أنواع العبادة؛ فتفكر ـ رحمك الله ـ فيما حدث في الناس اليوم، من دعاء غير الله، في الشدة، والرخاء؛ هذا: يريد سفراً، فيأتي عند قبر، أو غيره، فيدخل عليه بما له، عمن ينهبه؛ وهذا تلحقه: الشدة، في البر، أو البحر؛ فيستغيث بعبد القادر، أو شمسان، أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة.
فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف، أن الإله، هو: المعبود؛ وتعرف: أن الدعاء من العبادة؛ فكيف تدعو مخلوقاً، ميتاً، عاجزاً ؟ ! وتترك: الحي، القّيوم، الحاضر، الرؤف، الرحيم، القدير ؟ ! فقد يقول ـ هذا المشرك ـ إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح، يشفع لي عند الله، وتنفعني شفاعته، وجاهه؛ ويظن أن ذلك: يسلمه من الشرك.
فيقال لهذا الجاهل: المشركون، عباد الأصنام، الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغنم أموالهم، وأبناءهم، ونساءهم، كلهم يعتقدون: أن الله هو النافع، الضار، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا: ما أردت، من الشفاعة عند الله، كما قال(3/101)
(ص105) تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] وقال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] وإلا فهم يعترفون: بأن الله، هو الخالق، الرازق، النافع الضار، كما أخبر الله عنهم، بقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدير الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31].
فليتدبر اللبيب العاقل، الناصح لنفسه، الذي يعرف: أن بعد الموت جنة، وناراً، هذا الموضع؛ ويعرف: الشرك بالله، الذي قال الله فيه: (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وقال: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) [المائدة: 72] فما بعد هذا البيان، بيان، إذا كان الله عزَّ وجلَّ، قد حكى عن الكفار، أنهم مقرون: أنه هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي يدبر الأمر؛ وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم: التقرب، والشفاعة عند الله تعالى.
وكم آية في القرآن، ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله) إلى قوله: (فأنى تسحرون) [المؤمنون: 84 ـ 89] وكقوله؛ (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر(3/102)
(ص106) الشمس والقمر ليقولن الله) [العنكبوت: 61] (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء ً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) الآية [العنكوت: 63] وغير ذلك من الآيات، التي أخبر الله بها عنهم، أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم، إلا الشفاعة، لا غير ذلك.
فإن احتج بعض المشركين: أن أولئك، يعتقدون في الأصنام، وهي حجارة، وخشب؛ ونحن نعتقد: في الصالحين؛ قيل له: والكفار أيضاً، منهم من يعتقد في الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى بن مريم، وفي الأولياء، مثل العزير، واللات، والعزى، وناس، من الجن، وغيرهم؛ وذكر الله عزَّ وجلَّ، ذلك في كتابه، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة، ليشفعوا لهم: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) [سبأ: 40 ـ 41] وقال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28].
وقال فيمن اعتقد في عيسى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) الآية [النساء: 171] وقال: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم) [المائدة: 76] فإذا كان عيسى بن مريم، وهو من أفضل الرسل، قيل(3/103)
(ص107) فيه هذا، فكيف بعبد القادر، وغيره، أن يملك ضراً، أو نفعاً ؟ !.
وقال في حق الأولياء: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) [الإسراء: 56 ـ 57] قال طائفة من السلف: كان أقوام، يدعون الملائكة، وعزيراً، والمسيح، فقال الله: هؤلاء عبيدي، كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي؛ فرحم الله امرءاً: تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه؛ وعرف: أن الذين اعتقدوا فيهم، إنما أرادوا التقرب إلى الله، والشفاعة عنده.
وهذا كله، يدور على كلمتين: الأولى: أن تعرف، أن الكفار، يعرفون: أن الله سبحانه هو الخالق الرازق، الذي يدبر الأمر، وحده؛ وإنما أرادوا: التقرب بهؤلاء، إلى الله تعالى؛ والثانية: أن تعرف أن منهم أناساً، يعتقدون في أناس، من الأنبياء، والصالحين، مثل: عيسى، والعزير، والأولياء؛ فصاروا هم، والذين يعتقدون في الأصنام، من الحجر، والشجر، واحداً، فلما قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين الذين: يعتقدون في الأوثان، من الخشب، والحجر، وبين الذين: يعتقدون في الأنبياء، والصالحين؛ على أن أهل زماننا هذا، يعتقدون، في الحجارة، على(3/104)
(ص108) القبور، والشجر الذي عليها.
إذا تبين هذا، وأنه ليس من دين الله؛ وقال بعد ذلك، المشرك: هذا بين، نعرفه من أول... فقل له: إذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفوا هذا، إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء، ما عرفوها إلا بعد سنين؛ وأنت عرفت هذا بلا تعلم، فأنت أعلم منهم ! بل الأنبياء: لم يعرفوا هذا، إلا بعد أن علمهم الله تعالى، قال الله تعالى، لأعلم الخلق، محمد - صلى الله عليه وسلم - (فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد: 19] وقال تعالى: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننَّ من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) [الزمر: 65 ـ 66].
فإذا كان هذا نبينا، فما بال الخليل إبراهيم عليه السلام، يوصي بها أولاده، وهم أنبياء ؟ قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [البقرة: 132] و (قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13] فإذا كان هذا أمر، لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل، يخاف على نفسه، وعلى بنيه، وهم أنبياء ؟ حيث قال: (رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) [إبراهيم: 35].(3/105)
(ص109) وما بال العليم الحكيم، لما أنزل كتابه، ليخرج الناس، من الظلمات، إلى النور، جعله في هذا الأمر، وكثر الكلام فيه، وبينه، وضرب فيه الأمثال، وحذر منه، وأبدى وأعاد ؟ فإذا كان الناس، يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم من الوقوع فيه، فما بال رب العالمين، جعل أكثر كتابه فيه ؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم.
وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله؛ لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئاً، لا تظن: أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل: لا بدَّ من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم؛ كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: (إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 4] وقال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) [البقرة: 256] وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36].
ولو يقول رجل: أنا اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن: لا أتعرض اللات، والعزى، ولا أتعرض أبا جهل، وأمثاله، ما علي منهم؛ لم يصح إسلامه؛ وأما مجادلة بعض(3/106)
(ص110) المشركين، بأن هؤلاء الطواغيت، ما أمروا الناس بهذا، ولا رضوا به، فهذا لا يقوله، إلا مشرك مكابر؛ فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل، ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا من قربوا، إلا بهذا؛ وإذا رأوا رجلاً صالحاً: استحقروه، وإذا رأوا مشركاً، كافراً، تابعاً الشيطان، قربوه، وأحبوه، وزوجوه بناتهم، وعدوا ذلك شرفاً ! !.
وهذا القائل: يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم، ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتنى شدة، فنخيت الشيخ، أو السيد، فنذرت له، فخلصني؛ لم يجسر أن يقول هذا القائل: لا يضر، ولا ينفع إلا الله؛ بل لو قال هذا، وأشاعه في الناس، لأبغضه الطواغيت؛ بل لو قدروا على قتله، لقتلوه؛ وبالجملة: لا يقول هذا، إلا مشرك، مكابر، وإلا فدعواهم هذه، وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية، التي بآبائهم، شيء مشهور، لا ينكره من عرف حالهم، كما قال تعالى: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) [التوبة: 17] 0
ولنختم الكتاب، بذكر آية من كتاب الله، فيها عبرة لمن اعتبر، قال تعالى، في حق الكفار: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) [الإسراء: 67] فذكر عن الكفار: أنهم إذا جاءتهم الشدة، تركوا غيره، وأخلصوا له الدين؛ وأهل زماننا: إذا جاءتهم الشدة، والضر، نخوا غير الله سبحانه وتعالى عن ذلك.(3/107)
(ص111) فرحم الله: من تفكر في هذه الآية، وغيرها، من الآيات؛ وأما من: منَّ الله عليه بالمعرفة، فليحمد الله تعالى؛ وإن أشكل عليه شيء، فليسأل أهل العلم، عما قال الله ورسوله، ولايبادر بالإنكار، لأنه إن رد، رد على الله، قال الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) [السجدة: 22].
واعلم رحمك الله: أن أشياء، من أنواع الشرك الأكبر، وقع فيه بعض المصنفين، على جهالة، لم يفطن له، من ذلك، قوله في البردة: ـ
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وفي الهمزية: جنس هذا، وغيره أشياء كثيرة؛ وهذا من الدعاء، الذي هو من العبادة، التي لا تصلح إلا لله وحده؛ وإن جادلك بعض المشركين؛ بجلالة هذا القائل، وعلمه وصلاحه، وقال بجهله: كيف هذا ؟ فقل له: أعلم منه وأجل، أصحاب موسى، الذين اختارهم الله، وفضلهم على العالمين، حين قالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) [الأعراف: 138] فإذا خفي هذا على بني إسرائيل، مع جلالتهم، وعلمهم، وفضلهم؛ فما ظنك: بغيرهم ؟
وقل لهذا الجاهل: أصلح من الجميع وأعلم، أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لما مروا بشجرة، قالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فحلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن(3/108)
(ص112) هذا: كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) ففي هذا: عبرتان عظيمتان.
الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح، أن من اعتقد في شجرة، أو تبرك بها: أنه قد اتخذها إلهاً، وإلا فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرفون أنها لا تخلق، ولا ترزق، وإنما ظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم بالتبرك بها، صار فيها بركة.
والعبرة الثانية: أن الشرك، قد يقع فيمن هو أعلم الناس، وأصلحهم، وهو لا يدري، كما قيل: الشرك أخفى من دبيب النمل؛ بخلاف قول الجاهل: هذا بين نعرفه؛ فإذا أشكل عليك من هذا شيء، وأردت بيانه من كلام أهل العلم، وإنكارهم جنس الشرك، الذي حرمه الله، فهو موجود؛ وأعني كلام العلماء في هذا، إن أردت من الحنابلة، وإن أردت من غيرهم؛ والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
فصل في معنى: لا إله إلا الله، اعلم رحمك الله تعالى، أن " لا إله إلا الله " هي: الكلمة العالية، والشريفة الغالية، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بها فقد عصم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز ّ وجلّ.
والحديث يفصح: أن لا إله إلا الله، لها لفظ ومعنى،(3/109)
(ص113) ولكن الناس فيها ثلاث فرق؛ فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها.
وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة نطقوا بها، ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) [الكهف: 104].
فالفرقة الأولى، هي: الناجية، وهم المؤمنون حقاً؛ والثانية، هم: المنافقون؛ والثالثة، هم: المشركون؛ فلا إله إلا الله: حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدو، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة؛ وفي الحديث: { إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } سلبوا معنى: لا إله إلا الله، فبقي معهم لقلقة باللسان، وقعقعة بالحروف، وهو ذكر الحصن لا مع الحصن، فكما أن ذكر النار لا يحرق، وذكر الماء لا يغرق، وذكر الخبز لا يشبع، وذكر السيف لا يقطع، فكذلك ذكر الحصن لا يمنع.
فإن القول: قشر، والمعنى: لب، والقول: صدف، والمعنى: در؛ ماذا يصنع بالقشر مع فقدان اللب ؟! وماذا يصنع بالصدف مع فقدان الجوهر ؟ !. لا إله إلا الله، مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها. فعالم(3/110)
(ص114) الفضل أخذوا بهذه الكلمة بصورتها ومعناها، فزينوا بصورتها ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالمعنى، وبرز لهم شهادة القدم بالتصديق (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)، [آل عمران: 18].
وعالم العدل: أخذوا هذه الكلمة بصورتها دون معناها، فزينوا ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالكفر، بالاعتقاد فيمن لا يضر ولا ينفع، فقلوبهم مسودة مظلمة، لم يجعل الله لهم فرقاناً يفرقون به بين الحق والباطل، ويوم القيامة يبقون في ظلمة كفرهم (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، [البقرة: 17].
فمن قال: لا إله إلا الله، وهو عابد لهواه، ودرهمه، وديناره، ودنياه، ماذا يكون جوابه يوم القيامة لمولاه ؟ (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية: 23] " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ".
إذا قلت: لا إله إلا الله، فإن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في الثمرة، فأنت منافق؛ وإن كان مسكنها منك القلب، فأنت مؤمن، وإياك أن تكون مؤمناً بلسانك دون قلبك، فتنادى عليك هذه الكلمة في عرصات القيامة، إلهي صحبته كذا وكذا سنة، فمات اعترف بحقي، ولا رعى لي(3/111)
(ص115) حرمتي، حق رعايتي؛ فإن هذه الكلمة: تشهد لك، أو عليك.
فعالم الفضل: تشهد لهم بالإحترام، حتى تدخلهم الجنة؛ وعالم العدل، تشهد لهم: بالإجترام، حتى تدخلهم النار (فريق في الجنة وفريق في السعير)، [الشورى: 7].
لا إله إلا الله: شجرة السعادة؛ إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح، رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها)، [إبراهيم: 25].
وإن غرست هذه الشجرة، في منبت التكذيب، والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء، والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة، والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير العذر، ولفحها هجير هجر، تناثرت ثمارها، وتساقطت أوراقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً)، [الفرقان: 23].
فإذا تحقق المسلم هذا، فلا بد معه من تمام: بقية أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح: " بنى الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،(3/112)
(ص116) وحج البيت الحرام، من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وسئل رحمه الله، عن: معنى: " لا إله إلا الله " فأجاب: اعلم رحمك الله، أن هذه الكلمة، هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي: كلمة التقوى، وهي: العروة الوثقى، وهي: التي جعلها إبراهيم عليه السلام: (كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون) [الزخرف: 28] وليس المراد: قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون، ويصومون، ويتصدقون؛ ولكن المراد: معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله مخلصاً " وفي رواية: " صادقا من قلبه " وفي لفظ: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله " إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة.
واعلم: أن هذه الكلمة، نفي، وإثبات؛ نفي الألوهية عما سوى الله تبارك وتعالى، من المخلوقات، حتى عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن الملائكة، حتى جبرائيل، فضلا عن غيرهم، من الأولياء، والصالحين؛ إذا فهمت ذلك: فتأمل هذه الألوهية، التي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن محمد،(3/113)
(ص117) وجبرائيل عليهما السلام، فضلا عن غيرهما من الأولياء، والصالحين، وأن يكون لهم مثقال حبة خردل.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن هذه الألوهية، هي التي تسميها العامة، في زماننا: السر، والولاية؛ فالإله معناه: الولي الذي فيه السر؛ وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ؛ وتسمية العامة: السيد، وأشباه هذا؛ وذلك: أنهم يظنون، أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزله، يرضى أن الإنسان يلتجىء إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه، وبين الله؛ فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا: أنهم وسائطهم؛ هم: الذين يسميهم الأولون، الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط.
إذا أردت أن تعرف هذا، معرفة تامة، فذلك بأمرين؛ الأول: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقتلهم، وغنم أموالهم، واستحل دماءهم، وسبى نساءهم، كانوا مقرين لله: بتوحيد الربوبية؛ وهو أنه لايخلق إلا الله، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31].
وهذه: مسألة عظيمة، مهمة؛ وهي: أن تعرف أن(3/114)
(ص118) الكفار شاهدون بهذا كله، ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم، وأموالهم؛ وكانوا أيضا: يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات، خوفا من الله عزَّ وجلَّ.
ولكن الأمر الثاني، هو: الذي كفرهم، وأحل دماءهم، وأموالهم؛ وهو: أنهم لا يشهدون الله بتوحيد الألوهية، وهو أنه: لا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولايذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره، فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره، فقد كفر؛ وأشباه هذا.
وتمام هذا: أن تعرف أن المشركين، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الملائكة، وعيسى، وعزيراً، وغيرهم من الأولياء، فكفرهم الله بهذا، مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر؛ فإذا عرفت: معنى لا إله إلا الله؛ وعرفت: أن من نخا نبيا، أو ملكا، أو ندبه، أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر، الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر؛ لكن هؤلاء الصالحين: مقربون، ونحن ندعوهم، وننذر لهم، وندخل عليهم، ونستغيث بهم،(3/115)
(ص119) نريد بذلك الجاه، والشفاعة، وإلا فنحن نفهم: أن الله هو المدبر؛ فقل: كلامك هذا، دين أبي جهل، وأمثاله؛ فهم يدعون: عيسى، وعزيراً، والملائكة، والأولياء، يقولون: (مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] وقال: (ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18].
فإذا تأملت هذا تأملاً جيداً، عرفت: أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق، والرزق، والتدبير، فهم ينخون عيسى، والملائكة، والأولياء يقصدون: أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده؛ وعرفت: أن الكفار، خصوصاً النصارى؛ منهم: من يتعبد الليل، والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه منها، معتزلا في صومعة عن الناس، ومع هذا: كافر، عدو لله، مخلد في النار، بسبب اعتقاده في عيسى، أو غيره من الأولياء، يدعوه ويذبح له، وينذر له؛ وتبين لك: أن كثيرا من الناس عنه بمعزل؛ وتبين لك: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبا كما بدأ ".
فالله، الله، إخواني: تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره، اسه ورأسه، وهو: شهادة أن لاإله إلا الله؛ واعرفوا: معناها؛ وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين؛ واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وابغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال ماعلي(3/116)
(ص120) منهم، أو قال ماكلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله، وافترى؛ بل: كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم؛ ولو كانوا: إخوانه، وأولاده؛ فالله، الله، تمسكوا بأصل دينكم، لعلكم تلقون ربكم، لا تشركون به شيئا؛ اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
ولنختم الكلام: بآية ذكرها الله في كتابه، تبين لك: أن كفر المشركين، من أهل زماننا، أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) الآية [الإسراء: 67] فقد ذكر الله تعالى، عن الكفار، أنهم إذا مسهم الضر، تركوا السادات، والمشائخ، فلا يدعونهم، ولا يستغيثون بهم؛ بل يخلصون لله وحده، لا شريك له، ويستغيثون به، ويوحدونه؛ فإذا جاء الرخاء: أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد، واجتهاد، وعبادة؛ وإذا مسه الضر، يستغيث بغير الله، مثل: معروف؛ وعبد القادر، الجيلاني؛ وأجل من هؤلاء، مثل: زيد بن الخطاب، والزبير؛ وأجل من ذلك، مثل: رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله المستعان؛ وأعظم من ذلك، وأعظم: أنهم يستغيثون بالطواغيت، والكفرة، المردة، مثل: شمسان؛ وإدريس، ويوسف، وأمثالهم؛ والله أعلم.(3/117)
(ص121) وقال رحمة الله تعالى:
اعلم رحمك الله: أن فرض معرفة، شهادة أن لا إله إلا الله، قبل فرض الصلاة، والصوم؛ فيجب على العبد: أن يبحث عن معنى ذلك، أعظم من وجوب بحثه، عن الصلاة، والصوم؛ وتحريم الشرك، والإيمان بالطاغوت: أعظم من تحريم نكاح الأمهات، والعمات؛ فأعظم مراتب الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك، أن يشهد العبد: أن الإلهية كلها لله، ليس منها شيء لنبي، ولا لملك، ولا لولي، بل هي حق الله على عبادة، والألوهية، هي التي تسمى في زماننا: السر؛ والإله في كلام العرب، هو الذي يسمى في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يدعى به، ويستغاث به؛ فإذا عرف الإنسان: أن هذا الذي يعتقده كثيرون، في شمسان، وأمثاله، أو قبر بعض الصحابة، هو: العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من اعتقد في نبي من الأنبياء، فقد كفر، وجعله مع الله إلها آخر، فهذا لم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله.
ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل مايعتقد فيه غير الله، من جنى، أو أنسى، أو شجر، أو حجر، أو غير(3/118)
(ص122) ذلك؛ وتشهد عليه بالكفر، والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك؛ فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت.
وهذا: كلام يسير، يحتاج إلى بحث طويل، واجتهاد في معرفة دين الإسلام، ومعرفة ماأرسل الله به رسوله صلى الله صلى الله عليه وسلم والبحث عما قال العلماء، في قوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) [البقرة: 256] ويجتهد في تعلم ماعلمه الله رسوله، وما علمه الرسول أمته، من التوحيد؛ ومن أعرض عن هذا، فطبع الله على قلبه، وآثر الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة، والله أعلم.
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، مانصه: اعلم رحمك الله: أن معنى لا إله إلا الله، نفي، وإثبات؛ لا إله نفي، إلا الله إثبات؛ تنفي أربعة أنواع؛ وتثبت أربعة أنواع؛ المنفي الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب.
فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير، أو دفع ضر، فأنت متخذه إلها، والطواغيت: من عبد، وهو راض، أو ترشح للعبادة، مثل: شمسان؛ أو تاج، أو أبو حديدة.
والأنداد: ماجذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو(3/119)
(ص123) مسكن، أو عشيرة، أو مال، فهو: ند، لقوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) [البقرة: 165].
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق، وأطعته مصدقا، لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) [التوبة: 31].
وتثبت: أربعة أنواع، القصد: كونك ماتقصد إلا الله؛ والتعظيم، والمحبة؛ لقوله عزَّ وجلَّ: (والذين آمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165] والخوف، والرجاء؛ لقوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عبادة وهو الغفور الرحيم) [يونس: 107].
فمن عرف هذا: قطع العلائق من غير الله، ولا يكبر عليه جهامة الباطل، كما أخبر الله عن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بتكسيره الأصنام، وتبريه من قومه؛ لقوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 3].
وقال أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: اعلم أرشدك الله: أن الله خلقك لعبادته، وأوجب(3/120)
(ص124) عليك طاعته؛ ومن أفرض عبادته عليك، معرفة: لا إله إلا الله، علما، وقولا، وعملا؛ والجامع لذلك، قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران 103] وقوله: (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى: 13].
فاعلم: أن وصية الله لعباده , هي: كلمة التوحيد , الفارقة بين الكفر , والإسلام؛ فعند ذلك: افترق الناس , سواء جهلا , أو بغيا , أو عناداً؛ والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) [يوسف: 108].
فالواجب: على كل أحد , إذا عرف التوحيد , وأقربه: أن يحبه بقلبه , وينصره بيده , ولسانه؛ وينصر من نصره , ووالاه؛ وإذا عرف الشرك , وأقربه: أن يبغضه بقلبه , ويخذله بلسانه , ويخذل من نصره , ووالاه , باليد , واللسان والقلب؛ هذه: حقيقة الأمرين؛ فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [ال عمران: 103]
فنقول: لا خلاف بين الأمة , أن التوحيد: لابد أن يكون بالقلب , الذي هو العلم؛ واللسان , الذي هو القول والعمل , الذي هو تنفيذ: الأوامر والنواهي؛ فإن أخل بشيء(3/121)
(ص125) من هذا , لم يكن الرجل مسلما , فإن أقر بالتوحيد , ولم يعمل به , فهو: كافر , معاند , كفرعون , وإبليس؛ وإن عمل بالتوحيد ظاهراً , وهو لا يعتقده باطناً , فهو: منافق خالصاً , أشر من الكافر؛ والله أعلم.
قال رحمه الله: وهو نوعان؛ توحيد: الربوبية؛ وتوحيد: الألوهية؛ أما توحيد: الربوبية , فأقر به الكافر ,والمسلم؛ وأما توحيد: الألوهية , فهو: الفارق بين الكفر , والإسلام؛ فينبغي لكل مسلم: أن يميز بين هذا , وهذا.
ويعرف: أن الكفار لا ينكرون , أن الله هو الخالق , الرازق , المدبر؛ قال الله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون)الآية [يونس: 31] وقال: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) [العنكبوت: 61].
فإذا تبين لك: أن الكفار يقرون بذلك , عرفت: أن قولك , لا يخلق , ولا يرزق إلا الله , ولا يدبر إلا الله؛ لا يصيرك مسلماً , حتى تقول: لا إله إلا الله , مع العمل بمعناها؛ فهذه الأسماء , كل واحد منها , له معنى يخصه.
أما قولك: الخالق , فمعناه: الذي أوجد جميع مخلوقاته , بعد عدمها؛ وأما قولك: الرازق , فمعناه: أنه لما(3/122)
(ص126) أوجد الخلق , عليهم أرزاقهم؛ وأما المدبر , فهو الذي تنزل الملائكة من السماء إلي الأرض بتدبيره , وتصعد إلى السماء بتدبيره؛ ويسير السحاب , بتدبيره ,وتصرف الرياح ,بتدبيره, وكذلك جميع خلقه , هو الذي يدبرهم , على ما يريد؛ فهذه الأسماء , التي يقر بها الكفار , متعلقة بتوحيد الربوبية.
وأما توحيد: الألوهية، فهو قولك: لا إله إلا الله؛ وتعرف معناها، كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله، نفي، وإثبات؛ فتنفي: الألوهية كلها، وتثبتها لله وحده؛ فمعنى: الإله، في زماننا: الشيخ، والسيد. الذي يقال فيهما، أو غيرهما: سر؛ ممن يعتقد فيهم أنهم: يجلبون منفعة؛ أو: يدفعون مضرة؛ فمن اعتقد في هؤلاء، أو غيرهم، نبيا كان أو غيره، فقد اتخذه إلها من دون الله.
فإن بني إسرائيل: لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم، وأمه، سماهما الله إلهين؛ قال تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك مايكون لي أن أقول ماليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم مافي نفسي ولاأعلم مافي نفسك إنك أنت علام الغيوب) [المائدة: 116] ففي هذا: دليل على أن من اعتقد في مخلوق، لجلب منفعة، أو دفع مضرة، فقد: اتخذه إلها؛ فإذا كان الإعتقاد في الأنبياء، هذا(3/123)
(ص127) حاله، فما دونهم أولى.
وأيضا: فإن من تبرك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر، أو قبة يتبرك بهم، فقد: اتخذهم آلهة؛ والدليل على ذلك: أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال: " الله أكبر: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) [الأعراف: 138 – 140].
فمثل: قول الصحابة في ذات أنواط، بقول بني إسرائيل، وسماه إلها؛ ففي هذا: دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرنا، فقد اتخذه إلها.
والإله هو: المعبود، الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده؛ فمن نذر لغير الله، أو ذبح له، فقد: عبده؛ وكذلك: من دعا غير الله قال الله: (ولا تدع من دون الله ما لاينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) [يونس: 106] وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " وكذلك: من جعل بينه، وبين الله واسطة، وزعم أنها تقربه إلى الله، فقد عبده
وقد ذكر الله ذلك عن الكفار، فقال تعالى: (ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا(3/124)
(ص128) عند الله) [يونس: 18] وقال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] وكذلك ذكر عن الذين: جعلوا الملائكة وسائط، فقال، (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) [سبأ: 40 – 41].
فذكر سبحانه: أن الملائكة نزهوه عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين، الذين يأمرونهم بذلك، وذكر سبحانه عن الذين: جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) [الإسراء: 56 – 57] وذكر سبحانه: أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد، ولا عن أنفسهم؛ وأنهم لا يحولونه عن أحد؛ وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه؛ فهذا: يبين لك معنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت: حال المعتقدين في عيسى بن مريم؛ والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين؛ وحالهم معهم، أنهم: لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم، عرفت: أن من اعتقد فيمن دونهم أضل سبيلا؛ فحينئذ: يتبين لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم.(3/125)
(ص129) مذاكرة الشيخ: أهل حرمة.
قال لهم: لا إله إلا الله، سألنا عنها كل من جاءنا منكم من مطوع، ولا وجدنا عندهم، إلا أنها لفظة مالها معنى ! ومعناها لفظها ! ومن قالها فهو مسلم ! ووقتاً يقولون لها معنى، لكن معناها لا شريك له في ملكه !
ونحن نقول: لا إله إلا الله، ليست باللسان فقط، لابد للمسلم إذا لفظ بها، أنه يعرف معناها بقلبه؛ وهي التي جاءت لها الرسل، وإلا فالملك ماجاءت الرسل له.
وأنا أبين لكم إن شاء الله مسألة التوحيد، ومسألة الشرك؛ تعرفون: المشهد فيه قبة، والذي من الرجال صلى الظهر، قام واستقبل القبر، وولى الكعبة قفاه، وركع لعلي ركعتين، صلاته لله توحيد، وصلاته لعلي شرك، أأنتم فهمتم ؟ قالوا: فهمنا، وصار هذا مشركا، صلى لله، وصلى لغيره.
ولله سبحانه حق على عبده، في البدن، والمال؛ والصلاة: زكاة البدن؛ والزكاة في المال حق لله؛ فإذا زكيت لله، وخرجت بشيء تقسمه عند القبة، فزكاتك لله توحيد، وزكاتك للمخلوق شرك؛ كذلك سفك الدم: إن ذبحت لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) [الأنعام: 162] والنسك: سفك الدم؛ كذلك التوكل، من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا؛ وإن(3/126)
(ص130) توكلت على صاحب القبة، صار شركا، قال تعالى: (فاعبده وتوكل عليه) [هود: 123].
وأكبر من ذلك كله: الدعاء؛ تفهمون: أن الدعاء مخ العبادة؛ قالوا: نعم؛ قال الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [الجن: 18] أنتم تفهمون: أن هنا من يدعو الله، ويدعو الزبير، ويدعو الله، ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده، مخلص؛ وإن دعا غيره صار مشركا، فهمتهم هذا ؟ قالوا: فهمنا؛ قال الشيخ: هذا إن فهمتموه، فهذا الذي بيننا وبين الناس.
فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما، ويدعونهم، يريدون منهم؛ ونحن عبيد، مذنبون، وهم صالحون، ونبغي بجاههم؛ فقل لهم: عيسى نبي الله عليه السلام، وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك؛ والذين يدعونهم: أخبر الله عنهم، وأنهم ماأرادوا منهم ماأرادوا، إلا بجاههم، قربة، وشفاعة.
واقرأ عليه الآيات في الملائكة، في قوله تعالى: (ويوم يحشرهم) الآية [سبأ: 40] وفي الأنبياء، قوله: (ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) الآية [النساء: 171] وفي الصالحين: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) الآية [الإسراء: 56] ولا فرق بينهم صلى الله عليه وسلم.
وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله صادقا "(3/127)
(ص131) والحديث الآخر: " مخلصا دخل " مامعنى الصدق ؟ والإخلاص ؟ والفرق بينهما ؟ وأيضا حديث: البطاقة، كونها رجحت بتلك السجلات، لما تضمنت من الإخلاص، والصدق؛ مامعنى: الصدق في ذلك ؟
فأجاب رحمه الله:
المسألة كبيرة؛ ولما ذكر الإمام أحمد الصدق، والإخلاص، قال: بهما ارتفع القوم؛ ولكن يقربهما إلى الفهم: التفكر في بعض أفراد العبادة، مثل الصلاة، فالإخلاص فيها، يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا، من الرياء، والطبع، والعادة , وغيرها , والصدق , يرجع إلي: إيقاعها على الوجه المشروع؛ ولو أبغضه الناس لذلك , وحديث البطاقة: أنه رزق عند الخاتمة قولها , على ذلك الوجه؛ والأعمال بالخواتيم؛ مع أن على بقية إشكال , والله أعلم.
وقال ايضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب , رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه: أمور , خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية: الكتابيين ,و الأميين ,و مما لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فالضد يظهر حسنة الضد وبضدها تتبين الأشياء(3/128)
(ص132) فأهم ما فيها , وأشدها خطراً: عدم إيمان القلب , بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن انضاف إلي ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية , تمت الخسارة؛ كما قال تعالى: (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) [العنكبوت: 52].
المسألة الاولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين , في دعاء الله , وعبادته , يريدون شفاعتهم عند الله , كما قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] وقال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفى) [الزمر: 3] وهذه: أعظم مسألة , خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأتى بالإخلاص , وأخبر أنه دين الله , الذي أرسل به جميع الرسل , وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص؛ وأخبر؛ أن من فعل ما يستحسنونه , فقد حرم الله عليه الجنة , ومأواه النار؛ وهذه المسألة , هي: التي تفرق الناس لأجلها , بين مسلم , وكافر؛ وعندها وقعت العداوة , ولأجلها شرع الجهاد , كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال: 39].
المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم , كما قال تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون)[الروم: 32] وكذلك في دنياهم , ويرون ذلك هو الصواب , فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا(3/129)
(ص133) والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)[الشورى: 13] وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) [الأنعام: 159] ونهانا عن مشابهتهم بقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) [آل عمران: 105] ونهانا عن التفرق في الدين , بقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103].
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر عندهم , وعدم الانقياد له , فضيلة , والسمع والطاعة ,ذل , ومهانة؛ فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم , والنصيحة , وغلظ في ذلك , وأبدى فيه وأعاد , وهذه الثلاث , التي جمع بينها فيما ذكر عنه , في الصحيحين أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا , أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا , وأن تعتصموا بحبل الله جميعا , ولا تفرقوا , وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " ولم يقع خلل في دين الناس , ودنياهم , إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث , أو بعضها.
الرابعة: أن دينهم مبني على أصول , أعظمها: التقليد؛ فهو: القاعدة الكبرى , لجميع الكفار , أولهم وآخرهم, كما قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على(3/130)
(ص134) آثارهم مقتدون) [الزخرف: 23] وقال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلي عذاب السعير) [لقمان: 21] فأتاهم بقوله: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) [سبأ: 46] وقوله: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) [الأعراف: 3].
الخامسة: أن من أكبر قواعدهم , الاغترار بالأكثر , ويحتجون به على صحة الشيء , ويستدلون على بطلان الشيء , بغربته , وقلة أهله , فأتاهم بضد ذلك , وأوضحه في غير موضع من القرآن. السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين , كقوله: (فما بال القرون الأولى: [طه: 51] (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) [المؤمنون: 24].
السابعة: الاستدلال بقوم , أعطوا قوى في الأفهام والأعمال , وفي الملك , والمال , والجاه؛ فرد الله ذلك بقوله: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) الآية [الأحقاف: 26]وقوله (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) [البقرة: 89] وقوله: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) الآية [البقرة: 146].
الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء , بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء , كقوله: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) [الشعراء: 111] وقوله: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) فرده الله(3/131)
(ص135) بقوله: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) [الأنعام: 53].
التاسعة: الاقتداء بفسقة العلماء، فأتى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) [التوبة: 34] وبقوله: (لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) [المائدة: 77].
العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين، بقلة أفهام، أهله، وعدم حفظهم، كقوله: (بادي الرأي) [هود: 27].
الحادية عشر: الاستدلال بالقياس الفاسد، كقوله: (إن أنتم إلا بشر مثلنا) [إبراهيم: 10].
الثانية عشر: إنكار القياس الصحيح؛ والجامع لهذا وما قبله: عدم فهم الجامع، والفارق.
الثالث عشر: الغلو في العلماء، والصالحين، كقوله: (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) [النساء: 171].
الرابعة عشر: أن كل ما تقدم، مبني على قاعدة، وهي: النفي، والإثبات؛ فيتبعون الهوى، والظن، ويعرضون عما آتاهم الله
الخامسة عشر: اعتذارهم عن اتباع الله، بعدم(3/132)
(ص136) الفهم، كقوله: (قلوبنا غلف) [البقرة: 88] (يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) [هود: 91] فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم؛ والطبع: بسبب كفرهم.
السادسة عشر: اعتياضهم عما أتاهم من الله، بكتب السحر، كما ذكر الله ذلك، في قوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) [البقرة: 101 – 102].
السابعة عشر: نسبة باطلهم إلى الأنبياء، كقوله: (وما كفر سليمان) [البقرة: 102] وقوله: (ما كان يهودياً ولا نصرانياً) [آل: عمران 67].
الثامنة عشر: تناقضهم في الانتساب، ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه.
التاسعة عشر: قدحهم في بعض الصالحين، بفعل بعض المنتسبين، كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود، والنصارى، في محمد صلى الله عليه وسلم.
العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة، وأمثالهم، أنها من كرامات الصالحين، ونسبته إلى الأنبياء، كما نسبوه لسليمان.
الحادية والعشرون: تعبدهم بالمكاء، والتصدية.
الثانية والعشرون: أنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً.(3/133)
(ص137) الثالثة والعشرون: أن الحياة الدنيا غرتهم؛ فظنوا: أن عطاء الله منها , يدل على رضاه , كقوله: (نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين) [سبأ: 35].
الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق , إذا سبقهم إليه الضعفاء , تكبراً , وأنفة , فأنزل الله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) [الأنعام: 52 –55].
الخامسة والعشرون: الاستدلال على بطلانه , بسبق الضعفاء , كقوله: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) [الأحقاف: 11].
السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله , من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة , ونسبتها إلي الله , كقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) [البقرة: 79]
الثامنة والعشرون: أنهم لا يعقلون من الحق , إلا الذي مع طائفتهم , كقوله: (نؤمن بما أنزل علينا) [البقرة: 91]
التاسعة والعشرون: أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة , كما نبه الله عليه بقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) [البقرة: 91].(3/134)
(ص138) الثلاثون: - وهي من عجائب آيات الله –أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع , وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق؛ صار: كل حزب بما لديهم فرحون.
الحادية والثلاثون: - وهي من عجائب الله أيضا –معاداتهم الدين , الذي انتسبوا إليه , غاية العداوة , ومحبتهم دين الكفار , الذين عادوهم , وعادوا نبيهم , غاية المحبة , كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بدين موسى , واتبعوا كتب السحر , وهي من دين آل فرعون.
الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق , إذا كان مع من لا يهوونه , كما قال تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) [البقرة: 113].
الثلاثة والثلاثون: إنكارهم ما أقروا , أنه من دينهم , كما فعلوا في حج البيت , فقال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) [البقرة: 130].
الرابعة والثلاثون: أن كل فرقة تدعي أنها الناجية , فأكذبهم الله بقوله: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [البقرة: 111] ثم بين الصواب بقوله: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) [البقرة: 112].
الخامسة والثلاثون: التعبد بكشف العورات , كقوله (وإذا فعلوا فاحشة) [الأعراف: 28].(3/135)
(ص139) السادسة والثلاثون: التعبد بتحريم الحلال , كما تعبدوا بالشرك.
السابعة والثلاثون: التعبد باتخاذ الأحبار , والرهبان ,أربابا من دون الله.
الثامنة والثلاثون: الإلحاد في الصفات , كقوله تعالى: (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا ما تعملون) [فصلت: 22].
التاسعة والثلاثون: الإلحاد في الأسماء , كقوله: (وهم يكفرون بالرحمن) [الرعد: 30].
الأربعون: التعطيل , كقول آل فرعون.
الحادية والأربعون: نسبة النقائص إليه.
الثانية والأربعون: الشرك في الملك: كقول المجوس.
الثالثة والأربعون: جحود القدر.
الرابعة والأربعون: الاحتجاج على الله.
الخامسة والأربعون: معارضة شرع الله بقدره.
السادسة والأربعون: مسبة الدهر , كقولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر) [الجاثية: 24].
السابعة والأربعون: إضافة نعم الله إلي غيره , كقوله(3/136)
(ص140) (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) [النحل: 83].
الثامنة والأربعون: الكفر بآيات الله.
التاسعة والأربعون: جحد بعضها.
الخمسون: قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء.
الحادية والخمسون: قولهم في القرآن: (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: 25].
الثانية والخمسون: القدح في حكمة الله تعالى.
الثالثة والخمسون: أعمال الحيل الظاهرة , والباطنة , في دفع ما جاءت به الرسل , كقوله: (ومكروا ومكر الله) [آل عمران: 54] وقوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) [آل عمران: 72].
الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق , ليتوصلوا به إلي دفعه , كما قال في الآية.
الخامسة والخمسون: التعصب للمذهب , كقوله فيها (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) [آل عمران: 73].
السادسة والخمسون: تسمية اتباع الإسلام شركاً , كما ذكره في قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد لي من دون الله) [آل عمران: 79 –80].(3/137)
(ص141) السابعة والخمسون: تحريف الكلم عن مواضعه.
الثامنة والخمسون: لي الألسنة بالكتاب.
التاسعة والخمسون: تلقيب أهل الهدى , بالصباة , والحشوية.
الستون: افتراء الكذب على الله.
الحادية والستون: التكذيب بالحق.
الثانية والستون: كونهم إذا غلبوا بالحجة فزعوا إلي الشكوى للملوك , كما قال: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) [الأعراف: 127].
الثالثة والستون: رميهم إياهم بالفساد في الأرض ,كما في الآية.
الرابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص دين الملك , كما قال تعالى: (ويذرك وآلهتك) [الأعراف: 127] وكما قال تعالى: (إني أخاف أن يبدل دينكم) [غافر: 26].
الخامسة والستون: رميهم إياهم بانتقاص آلهة الملك كما في الآية.
السادسة والستون: رميهم إياهم بتبديل الدين كما قال (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)[غافر: 26].(3/138)
(ص142) السابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص الملك , كقولهم: (ويذرك وآلهتك) [الأعراف: 127].
الثامنة والستون: دعواهم العمل بما عندهم من الحق , كقوله: (نؤمن بما أنزل علينا) [البقرة: 91] مع تركهم إياه.
التاسعة والستون: الزيادة في العبادة , كفعلهم يوم عاشوراء.
السبعون: نقصهم منها , كتركهم الوقوف بعرفات.
الحادية والسبعون: تركهم الواجب ورعاً
الثانية والسبعون: تعبدهم بترك الطيبات من الرزق.
الثالثة والسبعون: تعبدهم بترك زينة الله.
الرابعة والسبعون: دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم.
الخامسة والسبعون: دعواهم محبة الله، مع تركهم شرعه، فطالبهم الله بقوله: (إن كنتم تحبون الله) الآية [آل: عمران 31]
السادسة والسبعون: دعاؤهم إياهم إلى الكفر، مع العلم.
السابعة والسبعون: المكر الكبار، كفعل قوم نوح.(3/139)
(ص143) الثامنة والسبعون: أن أئمتهم إما عالم فاجر، وإما عابد جاهل، كما في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) إلى قوله: (ومنهم أميون) [البقرة: 75 – 78].
التاسعة والسبعون: تمنيهم الأماني الكاذبة، كقولهم: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) [البقرة: 80] وقولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) [البقرة: 111].
الثمانون: دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس.
الحادية والثمانون: اتخاذ قبور أنبيائهم، وصالحيهم، مساجد
الثانية والثمانون: اتخاذ آثار أنبيائهم، مساجد، كما ذكر عن عمر.
الثالثة والثمانون: اتخاذ السرج على القبور
الرابعة والثمانون: اتخاذها أعياداً.
الخامسة والثمانون: الذبح عند القبور.
السادسة والثمانون: التبرك بآثار المعظمين، كدار الندوة، وافتخار من كانت تحت يده، كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش ؟ فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى.
السابعة والثمانون: الاستسقاء بالأنواء.(3/140)
(ص144) الثامنة والثمانون: الفخر بالأحساب.
التاسعة والثمانون: الطعن في الأنساب.
التسعون: النياحة.
الحادية والتسعون: أن أجل فضائلهم، الفخر بالأنساب، فذكر الله فيه ما ذكر.
الثانية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر أيضاً، ولو بحق، فنهي عنه.
الثالثة والتسعون: أن الذي لا بد منه عندهم، تعصب الإنسان لطائفته، ونصر من هو منها ظالماً، أو مظلوماً، فأنزل الله في ذلك ما أنزل.
الرابعة والتسعون: أن دينهم أخذ الرجل بجريمة غيره، فأنزل الله: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الإسراء: 15]
الخامسة والتسعون: تعيير الرجل بما في غيره، فقال: " أعيرته بأمه ؟ إنك امرء فيك جاهلية "
السادسة والتسعون: الافتخار بولاية البيت، فذمهم الله بقوله: (مستكبرين به سامرا تهجرون) [المؤمنون: 67].
السابعة والتسعون: الافتخار بكونهم ذرية الأنبياء، فأتى الله بقوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت) الآية [البقرة: 134].
الثامنة والتسعون: الافتخار بالصنائع، كفعل أهل
(145ص) الرحلتين، على أهل الحرث.
التاسعة والتسعون: عظمة الدنيا في قلوبهم، كقولهم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31].المائة: التحكم على الله، كما في الآية. الحادية بعد المائة: ازدراء الفقراء، فأتاهم بقوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)، [الأنعام: 52] الثانية بعد المائة: رميهم اتباع الرسل بعدم الإخلاص، وطلب الدنيا، فأجابهم بقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء) الآية [الأنعام: 52] وأمثالها.(3/141)
الثالثة بعد المائة: الكفر بالملائكة؛ الرابعة بعد المائة: الكفر بالرسل. الخامسة بعد المائة: الكفر بالكتب. السادسة بعد المائة: الإعراض عن ما جاء عن الله. السابعة بعد المائة: الكفر باليوم الآخر. الثامنة بعد المائة: التكذيب بلقاء الله. التاسعة بعد المائة: التكذيب ببعض ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، كما في قوله: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) [الأعراف: 147] ومنها: التكذيب بقوله: (مالك يوم الدين) [الفاتحة: 4] وقوله: (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) [البقرة: 254] وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86].
العاشرة بعد المائة: الإيمان بالجبت والطاغوت؛(3/142)
(ص146) الحادية عشر بعد المائة: تفضيل دين المشركين، على دين المسلمين؛ الثانية عشر بعد المائة: لبس الحق بالباطل. الثالثة عشر بعد المائة: كتمان الحق مع العلم به. الرابعة عشر بعد المائة: قاعدة الضلال، هي: القول على الله بلا علم. الخامسة عشر بعد المائة: التناقض الواضح، لما كذبوا الحق، كما قال تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) [ق: 5]. السادسة عشر بعد المائة: الإيمان ببعض المنزل دون بعض. السابعة عشر بعد المائة: التفريق بين الرسل. الثامنة عشر بعد المائة: مخالفتهم فيما ليس لهم به علم. التاسعة عشر بعد المائة؛ دعواهم اتباع السلف، مع التصريح بمخالفتهم. العشرون بعد المائة: صدهم عن سبيل الله من آمن به. الحادية والعشرون بعد المائة: مودتهم الكفر، والكافرين.الثانية والعشرون بعد المائة، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة والعشرون بعد المائة: العيافة، والطرق، والطيرة، والكهانة، والتحاكم إلى الطاغوت، وكراهية التزويج بين العيدين؛ والله أعلم.(3/143)
(ص147) وقال أيضاً: رحمة الله تعالى: ذكر بعض ما في قصة الجاهلية، المذكورة في السيرة، من الفوائد؛ الأولى: ما في قصة، ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر؛ من بيان: الشرك بالله؛ وإزالة الشبهة التي أدلى بها المشركون، من قولهم: نريد الجاه، والشفاعة؛ وقولهم: ليس دعوة الصالحين، مثل الأصنام؛ وقولهم؛ نحن نعلم أن الله هو النافع الضار؛ وقولهم: هؤلاء ولو أشركوا، فهم من أمة محمد؛ وقول شياطينهم: هذا شرك أصغر؛ فكل هذا: يكشفه قصتهم.
الثانية: مضرة البدع، ولو صح قصد مبتدعها، وأنها سبب للخروج عن الإسلام. الثالثة: التحذير من الغلو. الرابعة: كون الحق في القلوب ينقص، والباطل يزيد. الخامسة: التحذير من الكذب على العلماء، وقد يكون الكاذب لم يتعمد. السادسة، معرفة: أن الأصنام لم تعبد لذاتها؛ وإنما عبدت لأجل الصالحين. السابعة: أن الردة، وعبادة الأصنام، قد يكون سببها فعل بعض الصالحين. الثامنة: التحذير من الفتنة بقبور الصالحين، لقوله: " عكفوا على قبورهم ".
التاسعة: أن من أسباب الردة بعدُ الأمد عن النبوة. العاشرة: أن من أسبابها: نسيان العلم. الحادية عشر: ما في قصة عمرو بن لحى، من التحذير من فتنة البلد الحرام. الثانية عشر: التحذير من فتنة أهل الشام. الثالثة عشر:(3/144)
(ص148) التفطن لما أعطى عمرو، من الأعمال. الرابعة عشر: ما أعطى من الكمال. الخامسة عشر: ما أعطى من الملك. السادسة عشر: ما أعطى من طاعة الناس له. السابعة عشر: التفطن للفرق بين: كرامات الأولياء، وتنزل الشياطين.
الثامنة عشر: أن من علامات الباطل، زيادته كل وقت، وعلامات الحق، ثقله و نقصانه، التاسعة عشر: العبرة برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له في النار. العشرون: اللطيفة، كون صور الصالحين يبعث عليها أول الرسل، ولم يكسرها إلا خاتم الرسل. الحادية والعشرون؛ معرفة أن الكفار لم يقصدوا بالشرك، وعبادة الأصنام، إلا الخير. الثانية والعشرون: كون بعض الأوثان عندهم أعظم من بعض. الثالثة والعشرون: تفرقهم، واختلافهم، في تعظيم أوثانهم، وفى عبادتها. الرابعة والعشرون: كونهم في أمر مريج، وفى قول مختلف، يقولون: إن الأمر بيد الله، لا يدبر هو؛ ويقولون: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) [هود: 54]. الخامسة والعشرون: فعلهم العبادات
وسئل رحمه الله، عن قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) [آل: عمران 154] وقوله: (الظانين بالله ظن السوء)
[الفتح: 6] وقوله: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) [فصلت: 23] ما معنى سوء(3/145)
(ص149) الظن بالله ؟. وقوله: (من يعمل سوءاً يجز به) [النساء: 123] ما معناه ؟ وما معنى: إدخال البخارى إياه في كتاب الطب ؟
وكذلك: الحديث الذي أورده " ما من مسلم يصيبه أذى " فإن فسرتم " الأذى " بجميع المكروهات، كما هو المشهور من معنى اللفظ الآخر: " ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى " فعطف: " الأذى " على ما تقدم، والعطف يقتضى المغايرة، هل المراد: المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية ؟ أم لا ؟.
وما معنى قولهم: من الشرك التصنع للمخلوق، وخوفه، ورجاؤه ؟.
وهل المراد به: الشرك الأكبر ؟ أو الأصغر ؟
وقوله: " أنا عند ظن عبدى بى، إن ظن بى خيراً فله، وإن ظن بى شراً فله " ما معناه ؟
فأجاب: أما قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) وقوله : (الظانين بالله ظن السوء) فقد بسط الكلام عليها في الهدى، على وقعة أحد، وقد فسره بأشياء كثيرة، نقولها، ونعتقدها، ولا نظن إلا أنها عقل، وصواب؛ فتأمل كلامه تأملا جيداً.
وأما قوله: (من يعمل سوءاً يجز به) وإدخال البخارى لها في كتاب الطب، فمراد البخارى: أن هذه الأمراض، التى يكرهها العبد، هى: مما يكفر الله بها عن المؤمن(3/146)
(ص150) سيئاته، ويطهره بها، لأن قوله: (من يعمل سوءا يجز به) عام في جزاء الدنيا والآخرة؛ وأما: إدخاله هذا في كتاب الطب، فواضح، وأهل العلم: يذكرون في الباب، ماهو أبعد من هذا، تعلقا واستطرادا.
وأما قوله: " ما من مسلم يصيبه أذى " فهو عام، وأما عطف: " الأذى " على الوصب، والنصب، والهم؛ فمن: عطف العام على الخاص، وهو كثير جدا في كلام العرب، وفي كلامنا.
وأما سؤالكم: هل هذا في المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية ؟.
فنقول: أما الشرك الذي يصدر من المؤمن، وهو لا يدري، مع كونه مجتهدا في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجو أن لا يخرجه هذا من الوعد.
وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب، كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة، وقولهم: ماشاء الله وشاء محمد؛ وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط؛ ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا فيه حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات.
وأما الذي يدعى الإسلام، وهو يفعل من الشرك الأمور العظام؛ وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من(3/147)
(ص151) ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ماحاله. وأما قول من قال: من الشرك التصنع للمخلوق؛ فلعل مراده: التصنع بطاعة الله الذي يسمى: الرياء؛ وهو كثير جدا، فهذا صحيح في أمور لا يفطن لها صاحبها.
وأما خوف المخلوق ؟ فالمراد به: الخوف الذي يحملك أن تترك مافرض الله عليك، وتفعل ماحرم الله عليك، خوفا من ذلك المخلوق؛ وأما: الرجاء ؟ فلعل المراد: الذي يخرج العبد عن التوكل على الله والثقة بوعده، وكل هذه الأمور كثيرة جدا.
وأما قولك: هل المراد به الشرك الأصغر، أو الأكبر ؟ فهذا يختلف باختلاف الأحوال، وقد يتصنع لمخلوق فيخافه، أو يرجوه، فيدخل في الشرك الأصغر، وقد يتزايد ذلك، ويتوغل فيه، حتى يصل إلى الشرك الأكبر.
وسئل رحمه الله:
عن معنى عقد اللحية ؟ والضرب في الأرض ؟ هو الذي نعرف: أن بعضهم يخط خطوطا، ثم يعدها: إن ظهرت شفعا فكذا، وإن ظهرت وترا فكذا أم غير ذلك ؟ وتفسير: " الجبت " برنة الشيطان؛ مارنة الشيطان ؟ وحديث: " من ردته الطيرة فقد أشرك، وكفارة ذلك أن تقول: - اللهم لا طير إلا طيرك " الخ، أم كيف يزول ذلك الشرك بهذا اللفظ ؟ مع أن الطيرة مخامرة باطنة، واللفظ وحده لا يفيد، أو فائدة(3/148)
(ص152) قليلة ؟ ومامعنى: الفخر، والطعن ؟ ومامعنى مكر الله بالعبد ؟ وماالفرق بين الروح، والرحمة ؟.
فأجاب رحمه الله:
عقد اللحية: لا أعلمه، لكن ذكر في: الآداب، ما يقتضي: أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب، على وجه التكبر.
وأما الضرب، فهو مشهور جدا حتى إن بعض الناس يخط، فمن وافق خطه فذاك، والذي يبدو للذهن: أنه عام في كل أنواع الخط، وخط ذلك النبي عُدِمَ، لا يوجد من يعرفه.
ورنة الشيطان: لا أعرف مقصود الحسن، بل عادة السلف، يفسرون اللفظ العام، ببعض أفراده، وقد يكون السامع، يعتقد: أن ذلك ليس من أفراده، وهذا كثير في كلامهم جدا، ينبغي التفطن له.
وقوله في الطيرة: " وكفارة ذلك أن تقول " الخ.
فالطيرة: تعم أنواعا؛ منها: مالا إثم فيه، كما قال عبد الله: ومامنا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل؛ فإذا وقع في القلب شيء، وكرهه، ولم يعمل به، بل خالفه، وقال، لم يضره؛ فإن قال: من الحسنات شيئا فهو أبلغ، وأتم في الكفارة؛ فلو قدرنا: أن تلك الطيرة، من الشرك الخفي، أو الظاهر، ثم تاب منه، وقال: هذا الكلام على طريق التوبة، فكذلك.(3/149)
(ص153) وأما: الفخر بالأحساب؛ فالأحساب: الذي يذكر عن مناقب الآباء السالفين، التي نسميها: المراجل؛ إذا تقرر هذا، ففخر الإنسان بعمله، منهي عنه؛ فكيف افتخاره بعمل غيره ؟!
وأما: الطعن في الأنساب، ففسر بالموجود في زماننا: ينتسب إنسان إلى قبيلة، ويقول بعض الناس: ليس منهم، من غير بينة؛ بل الظاهر أنه منهم.
وأما: مكر الله، فهو: أنه إذا عصاه، وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه.
وأما: الفرق بين الروح، والرحمة، فلا أعرفه، ولعله: فرق لطيف، لأن الروح، فسر بالرحمة في مواضع.
وسئل رحمه الله:
عن الوعيد: فيمن حفظ القرآن، ثم نسيه، هل هو صحيح، أم غير ذلك ؟ أيضا: نبهني عبد الوهاب، في خطه للموصلي: أنك مارضيت قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في مشيئته، حتى إني أفكر فيها، ولا بان لي فيها شيء أيضا، سوى المذكور عند النووي " اللهم إني أسلمت نفسي إليك " الخ، بين لي معناه، جزاك الله خيرا
الجواب: الوعيد فيمن حفظ القرآن، ثم نسيه، ثابت عند أهل الحديث؛ فإن كنت قد حفظت القرآن، أو شيئا منه، ثم نسيته، فودي أن تعود إليه؛ وأما قوله في الخطبة:(3/150)
(ص154) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في مشيئته، وإراداته، فعجب ! كيف يخفى عليك ؟ هذا للألوهية، والمذكور في الخطبة توحيد الربوبية، الذي أقر به الكفار.
وأما قوله: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك " إلى آخره، فترجع إلى الإخلاص، والتوكل، ولو كان بينهما فروق لطيفة. والله أعلم.
وسئل رحمه الله:
عن الفقير الصابر، والغنى الشاكر أيهما أفضل ؟ وعن حد الصبر وحد الشكر ؟
فأجاب: أما مسألة الغنى والفقر، فالصابر والشاكر: كل منهما من: أفضل المؤمنين؛ وأفضلهما: أتقاهما، كما قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، [الحجرات: 13].
وأما: حد الصبر، وحد الشكر: فلا عندي علم إلا المشهور بين العلماء؛ أن الصبر: عدم الجزع، والشكر: أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك.
قال ابنا الشيخ: محمد، رحمهم الله تعالى، مانصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسين، وعبد الله ابني الشيخ: محمد بن عبد الوهاب؛ إلى جناب: الأخ في الله، محمد بن أحمد الحفظى، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات(3/151)
(ص155) الصالحات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد: فإنا نحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير؛ والصلاة، والسلام، على نبيه وحبيبه، محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه، أولى الفضل الشهير، والعلم المستطير، وقد وصل الله إلينا كتابك، وفهمنا ماحواه، من حسن خطابك؛ وتذكر: أنك على هذا الدين، الذي نحن عليه، من إخلاص الدين لله، وترك عبادة ماسواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق.
فالحمد لله الذي من علينا وعليك، وهذا: هو أفرض الفرائض، على جميع الخلق؛ ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه، فله البشرى في الحياة الدنيا، و في الآخرة؛ وله العزة، والرفعة، والجاه، والملابس الفاخرة؛ وفي الحديث: عن الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، قال: " إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما، ويضع به آخرين ".
والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا رحمه الله، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد، الذي بعث الله به رسوله؛ وحقيقة الشرك: الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أنه لا يغفره، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله، والشأن كل الشأن، في معرفة: حقيقة التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وبه يكون الرجل مسلما، مفارقا للشرك وأهله؛ وذلك: لأن كثيرا(3/152)
(ص156) من المصنفين، إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون؛ ومنهم من يفسره: بتوحيد الذات , والصفات؛ وذلك وإن كان حقا , فليس هو المراد من توحيد العبادة , الذي هو معنى: لا إله إلا الله.
وكثير من المصنفين: يفسر الشرك , بالاشراك في توحيد الربوبية , الذي أقر به كفار العرب , وغيرهم من طوائف المشركين , كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) [العنكبوت: 61] وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون , سيقولون لله) [المؤمنون: 88 –89] إلي غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين: يقرون بتوحيد الربوبية , وإنما الخلاف بينهم , وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو في توحيد الإلهية , الذي هو توحيد العبادة؛ ولهذا لم يصيروا موحدين , بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية؛ فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون , وابتدعوه , كابن حجر: الهيتمي؛ وأشباهه.
واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله ,الذي أنزله تبيانا لكل شيء , وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين؛ وعلى ما كان عليه السلف الصالح , من أصحابه , والتابعين لهم بإحسان , ولا تغتر بما حدث بعدهم , من البدع المضلة , في أصول الدين , وفروعه , كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(3/153)
(ص157) [الأنعام: 153] وبهذا تعرف: أن أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا تعبد إلا الله , وحده لا شريك له.
وتحقيق شهادة أن محمد رسول الله: هو أن يطاع فيما أمر , وينتهي عما نهي عنه وزجر , ويكون هو الإمام المتبع , ومن سواه , فيؤخذ من كلامه , ويترك؛ فعلى أقواله , وأفعاله: تعرض الأقوال , والافعال؛ فما وافق قوله , فهو المقبول؛ وما خالفه فهو المردود؛ وكاتبه حمد بن ناصر بن معمر , وصلى الله على محمد.
وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى , عن الفرق بين الشفاعة المثبتة , والمنفية.
فأجاب: أما الفرق بين الشفاعة المثبتة , والشفاعة المنفية , فهي مسألة عظيمة , ومن لم يعرفها , لم يعرف حقيقة التوحيد , والشرك؛ والشيخ رحمه الله تعالى , عقد لها باباً , في كتاب التوحيد , فقال: باب الشفاعة , وقول الله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) [الأنعام: 51] ثم ساق الآيات , وعقبه بكلام الشيخ: تقي الدين.
فأنت راجع الباب , وأمعن النظر فيه , يتبين لك حقيقة الشفاعة , والفرق بين ما أثبته القرآن , وما نفاه؛ وإذا تأمل الإنسان القرآن: وجد فيه آيات كثيرة , في نفي الشفاعة؛ وأيات كثيرة ,(3/154)
(ص158) في إثباتها؛ فالآيات التي فيها نفي الشفاعة , مثل قوله: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) ومثل قوله: (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) [البقرة: 254] وقوله: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) [السجدة: 4] وقوله: (قل لله الشفاعة جميعا) [الزمر: 44] إلي غير ذلك من الآيات.
وأما الآيات التي فيها إثبات الشفاعة , فمثل قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم: 26] وقوله: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 23] وقوله (: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] وقوله: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا)[طه: 109] إلي غير ذلك من الآيات.
فالشفاعة: التي نفاها القرآن؛ هي؛ التي يطلبها المشركون من غير الله , فيأتون إلي قبر النبي صلي الله عليه وسلم أو إلي قبر من يظنونه: من الأولياء , والصالحين؛ فيستغيث به , ويستشفع به إلي الله , لظنه أنه أذا فعل ذلك , شفع له عند الله , وقضي الله حاجته , سواء أراد حاجة دنيوية , أو حاجة أخروية , كما حكى الله عن المشركين في قوله: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18] لكن: كان الكفار الأولون , يستشفعون بهم , في قضاء الحاجات الدنيوية؛ وأما المعاد , فكانوا: مكذبين به , جاحدين له؛ وأما المشركون اليوم: فيطلبون من غير الله , حوائج الدنيا , والأخرة؛(3/155)
(ص159) ويتقربون بذلك إلي الله , ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة (حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) [الشورى: 16].
وأما الشفاعة: التي أثبتها القرآن , فقيدها سبحانه , بإذنه للشافع , ورضاه عن المشفوع له؛ فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه , لا ملك مقرب , ولا نبي مرسل , ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله , وعمله؛ وهو سبحانه: لا يرضى إلا التوحيد.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته: أهل التوحيد , والإخلاص؛ فمن طلبها منه اليوم , حرمها يوم القيامة؛ والله سبحانه قد أخبر: أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين؛ وإنما تنفع من جرد توحيده؛ بحيث أن يكون الله وحده , هو: إلهه , ومعبوده؛ وهو سبحانه: لا يقبل من العمل , إلا ما كان خالصاً , كما قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 3].
فإذا تأملت الآيات , تبين لك: أن الشفاعة المنفية , هي: التي يظنها المشركون , ويطلبونها اليوم من غير الله , وأما الشفاعة: المثبتة؛ فهي: التي لأهل التوحيد والإخلاص؛ كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته , لا يشرك بالله شيئاً , والله أعلم.(3/156)
(ص160) وسئل أيضاً: الشيخ , حمد بن ناصر بن معمر , عن قوله: " أسألك بحق السائلين عليك ".. ؟ الخ.
فأجاب: أما السؤال عن قول الخارج إلي الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ,فهذا ليس فيه دليل على جواز السؤال بالمخلوق , كما قد توهم بعض الناس , فاستدل به على جواز التوسل , بذوات الأنبياء , والصالحين؛ وإنما هو سؤال الله تعالى , بما أوجبه على نفسه , فضلاً وكرماً , لأنه يجيب: سؤال السائلين , إذا سألوه, كما قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) [البقرة: 186].
ونظيره قوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) [الروم: 47] وقوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: 6] وقوله: (وكذلك ننجي المؤمنين) , [الأنبياء: 88]. هذا ما ذكره العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح , وإلا فهو ضعيف , وعلى تقدير صحته فهو من باب السؤال بصفات الله , لا من باب السؤال بذوات المخلوقين , والله أعلم.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ:
هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم , أو غيره من الأنبياء والمرسلين والصالحين في الدعاء ؟.
فأجاب: التوسل المشروع , الذي جاء به الكتاب(3/157)
(ص161) والسنة , هو: التوسل إلي الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات , والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات , كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) الآية [آل عمران: 193].
وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلي الغار , فانطبقت عليهم الصخرة , فتوسلوا إلي الله بصالح أعمالهم , الحديث؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه وغيره؛ (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك , أو أنزلته في كتابك , أو علمته أحداً من خلقك , أو أستأثرت به في علم الغيب عندك).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمزي وغيره: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، ياحي ياقيوم " وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه: " أسألك ياالله يا رحمان بجلالك ونور وجهك " الحديث، وأمثال ذلك.
فهذا كله أمر مشروع، لا نزاع فيه، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) [المائدة: 35] وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل(3/158)
(ص162) الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي.
وأما التوسل بجاه المخلوقين، كمن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء على النهي عنه، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى: أنه بدعة إجماعا، ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضى ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم.
لأن الذي لهم من الجاه والدرجات، أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، والله المجازي لنا على ذلك.
وأما التوسل بذواتهم مع عدم التوسل بالإيمان والطاعة فلا يكون وسيلة، ولأن المتوسل بالمخلوق إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل أو بمحبته واتباعه فبأي شيء يتوسل ؟!
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى، في كتاب: الاستغاثة، مازلت أبحث وأكشف ماأمكنني من كلام السلف، والأئمة، والعلماء، هل جوز أحد منهم: التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقية أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه(3/159)
(ص163) لايجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأما بالنبي صلي الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدوري في شرح: الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء , انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى؛ قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز , لأنه لا حق للمخلوق على الخالق , فلا تجوز معنى , وفاقاً , انتهى.
وقد احتج من أجاز المسألة بالمخلوقين بأمور , الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري , قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا " الحديث.
فالجواب: إن الحديث في إسناده عطية العوفي , وفيه كلام , ضعفه الإمام أحمد , والثوري , وهشيم , وأبو زرعة , وأبو حاتم , والجوزجاني , والنسائي , وابن حبان , وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب , وقال ابن معين: صالح؛ وقال ابن سعيد كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته , هو: من التوسل المستحب , فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم , وحق المطيعين له أن يثيبهم , فالسؤال له , والطاعة سبب لحصول الإجابة وإثابته.
والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه من(3/160)
(ص164) حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , عن أبيه عن جده , عن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما اقترف آدم الخطيئة , قال: رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي " الحديث.
فالجواب: إن هذا الحديث ساقط , لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف بالاتفاق , ضعفه: مالك , وأحمد ,وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعه، وأبو داود، وابن سعد , وأبو حاتم , وابن خزيمة , وابن حبان , قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه
فهذا كما ترى تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو: هو. وقال الحافظ الذهبى في تلخيص المستدرك لما ذكر الحاكم هذا الحديث فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا , ثم هو مخالف للقرآن , لأن الله عزَّ وجلَّ ذكر قصة آدم عليه السلام وتوبته وتوسله , ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث ما رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة , وابن شاهين والبيهقي وصححه الترمذي عن عثمان بن حنيف " أن رجلاً ضرير البصر أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني , فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك , قال: فادعه , فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه , ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة , إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضى , اللهم فشفعه في " هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا(3/161)
(ص165) من حديث أبي جعفر , وهو غير الخطمي , هذا لفظ الترمذي , وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير.
والجواب: إن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته وتوسلهم به هو: دعاؤه , ودعاؤهم معه , فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى , وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته , ولا في مغيبه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا لهم , ولهذا قال في حديث الأعمى: " اللهم فشفعه في " فعلم أن النبي صلى الله علي وسلم شفع له , فسأل الله أن يشفعه فيه.
قلت: من تأمل هذا الحديث , علم صحة هذا , فإنه صريح في أن الأعمى أتاه فقال: ادع الله أن يعافيني , فقال: " إن شئت دعوت , وإن شئت صبرت فهو خير لك؛ قال: فادعه "فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعى له , وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه , بأن يستجيب دعاءه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا كافٍ في حكم هذه المسألة.
واعلم: أن التوسل بذات المخلوق , أو بجاهه: غير سؤاله , ودعائه. فالتوسل بذاته , أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي , وارحمني , وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم , أو(3/162)
(ص166) بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ,ونحو ذلك , فهذا بدعة ليس بشرك.
وسؤاله ودعاؤه , هو أن يقول: يا رسول الله اسألك الشفاعة ,أو أنا في كرب شديد , فرج عني , أو استجرت بك من فلان , فأجرني , ونحو ذلك , فهذا كفر , وشرك أكبر ينقل صاحبه عن الملة ,لأنه صرف حق الله لغيره , لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله , فمن دعاه , فقد عبده , ومن عبد غير الله , فقد أشرك , والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر.
وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق، أو بجاهه، وبين دعائه، وسؤاله، فافهم ذلك وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك
وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية , وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء , هل له محمل أم لا , والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الإمام : عبد العزيز ,بن محمد ,بن سعود , رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود , إلي جناب الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي , سلمه الله من جميع الأشرار , وجعله من عباده الصالحين الأبرار , الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من الفجار.(3/163)
(ص167) أما بعد: فإني أحمد إليك الله , الذي لا إله إلا هو وهو للحمد والثناء أهل؛ وأسأله أن يصلي على صفوته وخيرته من خلقه , محمد خير أنبيائه , وأمينه على إنبائه , وعلى آله وصحبه , الذين كانوا سيوفا قاطعة , على رقاب أعدائه.
وقد وصل إلينا كتابكم؛ وفهمنا ما تضمنه، من لطيف خطابكم، فإن سألت عن الأحوال ؟ فلله الحمد والمنة، نحن في أحسن حال، وأسر بال، نسأل الله أن يزيدنا، وسائر إخواننا من النعم، والإفضال.
وما ذكرت من اتباعكم، هذه الدعوة الإيمانية، وإخلاصكم الدعوة، والتوحيد، لمن له الوحدانية، فهنيئاً لمن كانت حاله كذلك، وأنقذه الله من الشرك، والمهالك؛ لأن الإسلام، عاد في هذه الأزمان غريباً كما بدا، كما أخبر به الصادق المصدوق، كما ثبت في صحيح مسلم، وغيره؛ نسأل الله: أن يجعلنا وإياك، من الغرباء، الذين ذكر أنهم يحيون من السنة ما أمات الناس.
وما ذكرت: من طلب الوصية في كتابك ؟ فأعظم ما نوصيك به: تحقيق هذين الأصلين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ وذلك: لأنهما أصل الإسلام؛ ولا ينفع علم، ولا يقبل عمل، بدون تحقيقهما، قولاً وعملاً، واعتقاداً؛ وهما أصل التقوى، التى أوصى الله بها الأولين والآخرين، في كتابه، بقوله تعالى: (ولقد وصينا الذين أوتوا(3/164)
(ص168) الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) [النساء: 131].
وفسر التقوى، من فسرها من السلف، بتفاسير؛ منها: أنها العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله؛ واجتناب معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله؛ فأعظم ما نوصيك به: استحضار هذا.
ثم الدعوة إلى الله، قال جل جلاله: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين) [فصلت: 33] وقال: (قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) [يوسف: 108] وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبى طالب رضى الله عنه: " فو الله لأن يهدى الله بك رجلا واحداً، خير لك من حمر النعم ".
فإذا حققت هذه التقوى، وكنت من أهلها، فلا تخف، ولا تحزن؛ وقد وردت البشرى من الله: أنه معك حيث كنت، ناصراً ومعيناً، وحافظاً، قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل: 128] وإذا كان الله معك، فمن تخاف ؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو ؟ وكما قال بعضهم: من اتقى الله، كان الله معه؛ ومن كان الله معه: فمعه الفئة التى لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادى الذي لا يضل.
نسأل الله: أن يهدينا، وإياكم إلى صراطه المستقيم، ويدخلنا برحمته، جنات النعيم؛ والسلام عليكم، ورحمة الله(3/165)
(ص169) وبركاته.
وبعد ما فرغ: أمير المؤمنين من جوابه، خطر لأحد خدام علماء المسلمين، أن يذيل بكلمات لطيفة، غايتها: ثناء على الله، وتحدث بنعمة الله، وترغيب في دين الله، مراعياً فيها، ما قيل في المثل: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل؛ وقد اتفقت على روى المبتدى، وبحره.
فقال غفر الله له:
فعم حياة الكون في الغور والنجد
.
تألق برق الحق في العارض النجدى
.
يوانع أنواع من الثمر الرغد
.
وأورقت الأشجار وانتضدت بها
.
وأعقبت الأقطار من طيب الند
.
وأشرقت الأنوار من زهر ورده
.
مسامع جهراً فوق أغصانها الملد
.
وغردت الأطيار بالذكر تطرب الـ
.
على الخصب بعد المحل بالشكر والحمد
.
وقام خطيب الكائنات لربها
.
ومطعومها مشروبها طيبها الوردى
.
فذاك الحيا محيى القلوب ربيعها
.
ونرجوا جناه العفو في جنة الخلد
.
فها نحن نجنى من ثمار غراسه
.
فذقه تجد طعماً ألذ من الشهدى
.
فإن كنت مشتاقاً إلى ذلك الجنا
.
وحظهم الأوفى وجدهم المجدى
.
هو الوحى دين الله عصمة أهله
.
به يرتجى نيل الرغائب والرفد
.
به ينتجى والناس في هلكاتهم
.
ومن قبل عند الاحتضار وفى اللحد
.(3/166)
(ص170) به الأمن في الدنيا وفى الحشر واللقا
.
به يحتمى من كل باغ وذى حقد
.
به تصلح الدنيا به تحقن الدما
.
ولم يجد ما حازا من المال والجند
.
به زعزعت أركان كسرى وقيصر
.
أرانا كما قد قاله صادق الوعد
.
ومثلهما في السالكين طريقهم
.
على نعم زادت عن الحصر والعد
.
فلله حمد يرتضيه لنفسه
.
أمين إله الخلق واسطة العقد
.
فأعظمها بعث الرسول محمد
.
وتوحيده بالقول والفعل والقصد
.
دعانا إلى الإسلام دين إلهنا
.
وأنقذنا بعد الغواية بالرشد
.
هدانا به بعد الضلالة والعمى
.
وأمكننا من كل طاغ ومعتد
.
حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا
.
ممالك لا تدعو سوى الواحد الفرد
.
وأيدنا بالنصر واتسقت لنا
.
يثبتنا عند المصادر كالورد
.
فنسأله إتمام نعمته بأن
.
على قدم التجريد يهدى ويستهدي
.
فيا فوز عبد قام لله جاهداً
.
بعزم يرى أمضى من الصارم الهندى
.
وجدد في نصر الشريعة صارماً
.
لخالقه فيما يسر وما يبدى
.
وتابع هدى المصطفى الطهر مخلصاً
.
بإعراضه عن دين ذى الجود والمجد
.
ويا حسرة المحروم رحمة ربه
.
وقد خاب واختار النحوس على السعد
.
لقد فاته الخير الكثير وما درى
.
وتسليمه الأوفى الكثير بلا حد
.
ومن بعد حمد الله أزكى صلاته
.
وأصحابه أهل السوابق والزهد
.
على المصطفى خير الأنام وآله
.
قال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى، وقد سئل عن رجل عبد الله على ظاهر دين الإسلام، يأتى بالواجبات، ويترك المقبحات ولا يقلد في دينه أحداً من(3/167)
(ص171) أرباب هذه المذاهب المشهورة، بل إن كان فيه أهلية النظر في أدلة الكتاب والسنة عمل بها، وإلا سأل من وجده من العلماء، فهل هذا ناج، أم لا ؟
فنقول: بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم، قال الله تعالى في كتابة: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)، [النساء: 69].
فأخبر الله سبحانه أن من أطاع الله ورسوله، من الأولين والآخرين، فهو ناج من العذاب، ويحصل جزيل الثواب، وهذا أمر مجمع عليه بين الأمة، ولله الحمد، لا اختلاف فيه، لكن الشأن في تحقيق ذلك، وتصديق القول بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وذلك: لأن الناس أحدثوا بعد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، والسلف الصالح: محدثات، زعموا أنها من البدع الحسنة، فأقبح ذلك وأشده: دعوة غير الله، والاستغاثة بالصالحين، من الأحياء، والأموات، في جلب الفوائد، وكشف الشدائد، وسؤالهم الحاجات، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم عنده.
وكذلك: كنا نفعله، قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام، نحن وغيرنا، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد، وصار عند غالب الناس، هو غاية تعظيم الصالحين، ومحبتهم، ومن أنكره عليهم كفروه، وخرجوه.(3/168)
(ص172) فلما ظهر الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة يوم المآب: نهانا عن ذلك، وأخبر أن هذا هو الشرك، الذي لا يغفره الله، إلا بالتوبة منه، وأنه هو فعل المشركين، عبدة الأوثان، من العرب، وغيرهم.
وأتانا بالدلائل القطعية، من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، كقوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) [الجن: 18] وقوله تعالى: (ومن أضل ممنن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف: 5-6] وقال تعالى: (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين)، [غافر: 60].
والآيات في هذا المعنى كثيرة معروفة، فلما عرفنا: أن هذا هو الشرك، الذي بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، تنهى عنه، وتأمر بعبادة الله، وإخلاص الدعوة له، وحده لا شريك له، وأن هذا هو تحقيق شهادة: أن لا إله إلا الله، تبرأنا من الشرك بالله وأهله، ومن دعوة غير الله، والاستغاثة بهم في الشدائد، وجلب الفوائد، وإخلاص الدعوة لله وحده لا شريك له.
فلما فعلنا ذلك، وأزلنا: جميع الأوثان، والقباب، التى في بلداننا، أنكر الناس ذلك، وكفرونا، وخرجونا، وبدعونا، ورمونا بعداوتهم عن قوس واحد، فاعتصمنا بالله،(3/169)
(ص173) وتوكلنا عليه، وجاهدناهم في الله، وفى دين الله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم، وديارهم وأموالهم، والحمد لله على ذلك، فهو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
إذا عرفتم ذلك، فنقول في جواب المسألة الكبرى: من عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص جميع العبادة بأنواعها لله وحده لا شريك له، فلم يستغث إلا بالله، ولم يدع إلا الله وحده، ولم يذبح إلا لله وحده، ولم ينذر إلا لله وحده، ولم يتوكل إلا عليه، ويذب عن دين الله، وعمل بما عرف من ذلك بقدر استطاعته، فهو ناج بلا شك، وإن لم يعرف هذه المذاهب المشهورة.
قال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين رحمة الله تعالى: ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء والعز والكبرياء الموصوف بالصفات والأسماء المنزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته، بحكم القضاء من السعادة، والشقاء؛ وأكمل لنا ديننا، ولم يجعله ملتبساً علينا، وتفضل، فرضى لنا الإسلام ديناً، فنحمده على ذلك، ونشكره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونتوب إليه، ونستغفره؛ وصلى الله وسلم، على المبعوث، بالمحجة البيضاء، والشريعة الغراء؛ محمد أفضل الرسل، والأنبياء؛ وعلى آله وأصحابه الأتقياء،(3/170)
(ص174) صلاة وسلاماً دائمين، متلازمين إلى يوم البعث والجزاء.
أما بعد: فإن العبادة التى هى اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، هى الغاية التى خلق الله لها جميع العباد، من جهة أمر الله تعالى، ومحبته ورضاه، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ وذلك: أن الدين كله بأنواعه لله وحده، والأمر كله لله، مختص بجلاله وعظمته، ليس للخلق منه شئ البتة، لا ملك، ولا نبى، ولا ولى، بل حق لله تعالى، غير جنس حق المخلوق.
فأما حقه تعالى: فتوحيده، وإفراده بعبادته، التى أوجبها تعالى على عباده، وخلقهم ليعملوا بها، وإخلاصها له تعالى وتقدس، بعد نفيها عن غيره؛ وحصرها له وعليه؛ والدعاء بما لا يقدر على جلبه، ودفعه إلا الله، مختصاً به؛ لا يجوز: أن يدعى في ذلك غيره؛ تبارك وتعالى؛ ورجاؤه فيه، والتوكل عليه؛ وذبح النسك، والنذر، لجلب الخير، أو دفع الشر، والإنابة، والخضوع كله لله، مختص بجلاله، كالسجود، والتسبيح، والتكبير والتهليل.
قال سبحانه وتعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد: 14] وقال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) [الجن: 18] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تدع من دون الله ما لا(3/171)
(ص175) ينفعك ولا يضرك) [يونس: 106] وقال تعالى لأفضل خلقه: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً، قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً) [الجن: 21-22]
وقال تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن إلا أنا نذير وبشير لقوم يؤمنون) [الأعراف: 188] وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [الأنعام: 162 –163] وقال تعالى: (فاعبده وتوكل عليه)[هود 123].وحق الأنبياء: الإيمان بهم، وبما جاؤوا به، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وموالاتهم، وتقديم محبتهم على النفس، والمال، والبنين، والناس أجمعين؛ وعلامة التصديق في ذلك: اتباع هديهم، والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم، وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم، التي أثبتها الله سبحانه في كتابه، وهي من بعد إذن ربهم لهم فيها، ممن يرضى عنه من أهل التوحيد؛ وأن المقام المحمود، الذي ذكره الله في كتابه؛: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك حق أوليائه: محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان(3/172)
(ص176) بكرامتهم؛ لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه، إلا الله تبارك وتعالى؛ ويدفعوا عنهم سوءا لا يقدر على دفعه، أو رفعه، إلا الله، لأنه عبادة مختصة، بجلاله سبحانه، قال الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر: 60] فسماه عبادة، وأضافها إلى نفسه؛ وروى النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي " الآية، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وكل مافي القرآن، من دعاء، أو دعوة، فهو، إما بمعنى: اسألوني أعطكم، كما في هذا الحديث، وكقوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية [البقرة: 186] وإما بمعنى امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، كما في قوله: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم) [الشورى: 26] أي يثيبهم على أحد التفسيرين، لا أن يتخذوا في ذلك واسطة، بين الله، وبين من دعاهم، ولا سيما في حصول المطلوب، كالواسطة بين السلطان ورعيته؛ فإن ذلك دين المشركين، الذين قال الله فيهم: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير) الآية [سبأ: 22] وقال(3/173)
(ص177) تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ً) [الإسراء: 56]
وإنما ذكر الله ذلك عنهم، لأنهم يدعون الملائكة، والأنبياء، ويصورون صورهم، محبة لهم، ويرجونهم، ويلتجؤون إليهم؛ ليشفعوا لهم، فيما دعوهم فيه، وذلك بطرق مختلفة؛ ففرقة قالت: ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله، ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه، وتشفع لنا عنده، لعظمته؛ وفرقة قالت: الأنبياء، والملائكة، ذووا وجاهة عند الله، ومنزلة عنده، فاتخذوا صورهم، من أجل حبهم لهم، ليقربوهم إلى الله زلفى؛ وفرقة: جعلتهم قبلة في دعاء الله، وفرقة قالت: إن على كل صورة مصورة، على صور الملائكة، والأنبياء، وكيلاً موكلاً بأمر الله، فمن أقبل على دعائه، ورجائه، وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل، ما طلب منه، بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمره؛ فالمشرك: إنما يدعو غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ويلتجىء إليه فيه ويرجوه منه، لما يحصل له في زعمه من النفع.
وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع، إما أن يكون: مالكاً لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكاً، كان شريكاً؛ فإن لم يكن، كان ظهيراً، فإن لم يكن ظهيراً، كان شفيعاً؛ فنفى الله سبحانه: هذه المراتب الأربع عن غيره، نفياً مرتباً، متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى؛ فنفى: الملك عن غيره، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التى لأجلها وقعت(3/174)
(ص178) العداوة، والمخاصمة، بقوله تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً) [الإسراء: 111] (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه) [المؤمنون: 88] وقوله: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) [آل عمران: 26]
وقوله: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) [غافر: 16] وقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) [الإنفطار: 19] وقوله: (مالك يوم الدين) [الفاتحة: 4] وقوله: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً) [طه: 108] وقوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 22 – 23]
فأثبت سبحانه وتعالى ما لا نصيب فيها للمشرك البتة، وهي: الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه سبحانه، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ ولهذا لما قالت الصحابة رضي الله عنهم، يا رسول الله: أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ أنزل الله تبارك وتعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية [البقرة: 186] وقال تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل(3/175)
(ص179) لله الشفاعة جميعاً) [الزمر: 43 –44] وقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) الآية [الأنعام: 51].
فليس الموحد: إلا من اجتمع قلبه، ولسانه، على الله، مخلصاً له تعالى ألوهيته، المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه، أو دفعه عنه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا، عالماً بالفرق، بين حق: الخالق، والمخلوق، من الأنبياء، والأولياء، مميزاً بين الحقين، وذلك: واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره ومعرفته؛ وفى حال القلب، أيضاً، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
فهذا من تحقيق معنى، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معنى الإله عند الأولين: ما تألهه القلوب، بالمحبة، التى كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع، والرجاء، والالتجاء، والتوكل، والدعاء بما هو مختص بالله، وذبح النسك له.
قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) [البقرة: 165] وقالوا لمن أحبوه كحب الله (تالله إن كنا لفى ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) [الشعراء: 97-98] وهم: ما(3/176)
(ص180) ساووهم به في الصفات، ولا في الذات، ولا في الأفعال، كما حكى الله عنهم في الآية، في قوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) الآية [يونس: 31] وقوله: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون) الآيات [المؤمنون: 84-89].
والشاهد لله، بأنه: لا إله إلا الله هو، وقائلها: نافياً في قلبه، ولسانه، ألوهية كل ما سواه من الخلق، ومثبتاً الألوهية لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضاً عن: ألوهية جميع المخلوقات، مقبلاً على عبادة رب الأرض والسماوات، وذلك يتضمن: اجتماع القلب، في عبادته، ومعاملته، على الله تعالى، ومفارقته في ذلك ما سواه، فيكون مفرقاً، في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق، والمخلوق، بحيث يكون عالماً بالله، ذاكراً له، عارفاً به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم، بعبادته، وأفعاله وصفاته.
فيكون محباً له، مستعيناً، به لا بغيره، متوكلا عليه، لا على غيره، ممتنعاً عن دعاء غيره بما لا يقدر على إيجاده، أو دفعه، أو رفعه، إلا الله؛ فلا يجعل ما هو مختص بجلاله تعالى، لغيره، وهذا المقام، هو المعنى في: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: 5] وهذا من خصائص ألوهيته تعالى، التى يشهد له بها عباده المؤمنون؛ كما أن رحمته تعالى لعبيده، وهدايته إياهم، وخلق السماوات
(181ص) والأرض، وما بينهما، وما فيهما من الآيات، من خصائص ربوبيته، التى يشترك في معرفتها: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس عليه اللعنة، معترف بها في قوله: (رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون) [الحجر: 36] وقوله: (رب بما أغويتنى لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) [الحجر: 39].(3/177)
وأمثال هذا الخطاب، الذي يعرف فيه: بأن الله ربه، وخالقه، ومليكه، وأن ملكوت كل شئ، في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده، وتكبره، عن الحق، وطعنه فيه، وزعمه: أنه فيما ادعاه، وقاله، محق، وكذلك المشركون الأولون: يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون.
قال الله عزَّ وجلَّ: آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم عن ربهم، الذي خلقهم، ورزقهم، ويحييهم، ويميتهم، ويدبر أمورهم كلها؛ فإذا عرفوه، واعترفوا به: استحق أن يخص بألوهيته، فلا يدعوا مع الله إلها آخر، بل يتركوا تلك الآلهة التى يدعونها، ويرجونها، وينسكون لها، لتقربهم إلى الله زلفى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت) الآية [يونس: 31]: وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله) [المؤمنون: 84-85] وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) [العنكبوت: 61].(3/178)
(ص182) فهم قد أقروا، واعترفوا بأن الله سبحانه: خالق الأشياء كلها، وموجدها، ومالكها، وأنه النافع، الضار، المعطى، المانع، الذي لا رازق سواه، ولا قابض، ولا باسط إلا هو، وحده لا شريك له في ذلك، قال تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) [الأنعام: 40 –41]
وقال تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) الآية [لقمان: 32] وقال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) [العنكبوت: 65] وقال تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله) [المؤمنون: 88 – 89] وقال: (واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذا قال لأبيه) الآيات [الشعراء: 69 –82]
وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، من حديث حصين بن منذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا حصين كم تعبد " ؟ قال؛ سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: " فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك " ؟ قال: الذي في السماء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسلم حتى أعلمك كلمات، ينفعك الله بهن " فأسلم، فقال: قل " اللهم ألهمنى رشدي، وقني شر نفسي "(3/179)
(ص183) فبمجرد معرفتهم ربوبيته تعالى، واعترافهم بها، لم تنفعهم، ولم تدخلهم في الإسلام، مع جعلهم مع الله آلهة أخرى، يدعونها، ويرجونها، لتقربهم من الله زلفى، وتشفع لهم عند الله، فبذلك: كانوا مشركين في عبادته، ومعاملته؛ ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وقد وصف الله سبحانه، دين المشركين، الذي قال الله فيه: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) [المائدة: 72] وقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وقال تعالى: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) [الزمر: 65 – 66] وقوله: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] وسيظهر تعالى المحق على المبطل، بحكمه بين الفريقين غدا، كما قال تعالى: (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) [الزمر: 3] وفي صحيحي: البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم ؟ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " قال قلت: ثم أي، قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك "(3/180)
(ص184) قال قلت: ثم أي، قال: " أن تزاني حليلة جارك " فأنزل الله تصديقها (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) الآية [الفرقان: 68] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الذنب: الشرك بالله، الذي هو جعل الأنداد، واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " فدين الله وسط، بين: الغالي فيه، والجافي عنه. والشرك: شركان، شرك أكبر، وهو: الذي تقدم بيانه آنفاً، فهو محبط للأعمال، موجب للخسران، والخلود في النيران، إلا بالتوبة منه، والرجوع إلى دين الإسلام.
وشرك: أصغر، كالرياء، والسمعة، ففي: صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، أشرك فيه غيري، تركته وشركه" ومنه: الحلف بغير الله؛ روى الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رجل: ماشاء الله وما شئت، قال: " أجعلتني لله نداً ؟ قل: ما شاء الله وحده " وروى الإمام أحمد في مسنده: أن رجلاً أتى به، قد أذنب ذنباً، وهو أسير، فلما وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: " عرف(3/181)
(ص185) الحق لأهله "
والشرك الأصغر: ذنب تحت المشيئة، كسائر الذنوب، بل هو أكبرها، لعموم قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) [النساء: 48] وحديث: " أي الذنب أعظم " ولكن: لا يكفر مرتكبها، ولا يخرج عن الملة الإسلامية، إذا لم يستحل فعلها فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل المؤمنين بإيمانهم، في قولهم: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان) [آل عمران: 193] وكتوسل أصحاب الصخرة، المنطبقة عليهم، وهم: الثلاثة النفر، توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، التي تقربهم، وتحببهم إلى ربهم، رواه البخاري في صحيحه؛ لأنه وعد أنه: يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: 180] وكالأدعية المأثورة في السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " وأمثال ذلك.
وهذا معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) [المائدة: 35] فإنها القربة التي تقرب إلى الله، وتقرب فاعلها منه، وهي: الأعمال الصالحة، كما(3/182)
(ص186) روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " الحديث بتمامه.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همه أمر، فزع إلى الصلاة، فإنها أعظم التقرب إلى الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) [البقرة: 45]
وليست الوسيلة بمخلوق يبتغي، ليجعل واسطة بينه وبين خلقه، يتقربون به إليه، لأن هذا عين ما نهى الله عنه في الآيات، وأنزل بقبحه الكتب، وأرسل الرسل، وهو ما قالت بنوا إسرائيل لموسى، صلاة الله وسلامه عليه، يا موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فإن قصدهم: يتقربون به إليه
وأما الأقسام على الله بمخلوق، فهو منهي عنه، باتفاق العلماء؛ وهل هو منهي عنه، نهى تنزيه، أو تحريم ؟ على قولين، أصحهما: أنه كراهة تحريم؛ قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف يقول؛ قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى، لا ينبغي لأحد أن يدعوإلا به، وأكره: بمعاقد العز من عرشك،(3/183)
(ص187) وهو حق خلقك؛ وقال أبو يوسف: معاقد العز: هو الله، فلا أكره هذا؛ وأكره: بحق فلان؛ أو بحق أنبيائك ورسلك؛ وبحق البيت، والمشعر الحرام؛ قال رحمه الله: المسألة بحق المخلوق لا تجوز لهذا، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه: لا حق للمخلوق على الخالق.
وقال تعالى: (من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً) الآية [الجاثية: 10] فإذا والى العبد ربه وحده، أقام له ولياً من الشفعاء، وعقد الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله؛ بخلاف من اتخذ مخلوقاً من دون الله، فهذا لون، وذاك لون؛ كما أن الشفاعة الشركية الباطلة: نوع؛ والشفاعة: الحق الثابتة، التى إنما تنال بالتوحيد، نوع؛ وهذا موضع فرقان، بين أهل التوحيد، وأهل الشرك بالله؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
ومما استدل به: الذين يدعون مع الله غيره، في المهمات، من أهل القبور، والأموات، ويقولون: المراد الوسيلة: " اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة؛ يا محمد: إني، أتوجه بك إلى ربي، في حاجتي هذه لتقضى، اللهم شفعه في " رواه الترمذي، والحاكم، وابن ماجه، عن عثمان بن حنيف، قال: جاء رجل ضرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: " إن شئت اخترت لك، وهو خير، وإن شئت دعوت(3/184)
(ص188) لك قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء " قال الحاكم: صحيح.
وهذا الحديث، دليل للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لا عليه، لوجوه
الأول: أنه في غير محل النزاع، بل اختراع منكر، ووردت الأحاديث بحرمته، وهو عمارة القبور، وإلقاء الستور عليها، وتسريجها، وهذه كلها كبائر كما قال أهل العلم، حتى ابن حجر الهيتمي، وغيره؛ إن حدها: كل ما اتبع بلعنة، أو غضب، أو نار.
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ولمسلم: " لعن الله اليهود، والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "
وفي صحيحه: عن جندب بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك "(3/185)
(ص189) وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال، وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، متفق عليه.
وروى الإمام أحمد، في مسنده، بإسناد جيد، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس، من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "، " وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج " رواه الإمام أحمد، وأهل السنن وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن سجد للقبر نفسه، أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع الجهال، والطغام، وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم، من تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من عبادتها، بدعائها، ورجائها، والإلتجاء إليها، والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها؛ وخطاب الموتى بالحوائج: يا سيدي، يا مولاي: افعل بي كذا وكذا؛ وأخذ ترابها، وجعل الخرق عليها تبركاً، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتحليتها، وشد الرحال إليها، وينضاف إلى ذلك: إلقاء الخرق على الشجر،(3/186)
(ص190) ودعاؤها والذبح، والنذر لها؛ اقتداء: بمن عبد اللات، والعزى؛ والويل كل الويل عندهم، لمن عاب، أو نكر عليهم. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر ونهى، وما كان عليه أصحابه، وبين الذي عليه أكثر الناس اليوم: رأي أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً؛ ودعاء المقبور عند المهمات: شرك بالله عزَّ وجلَّ، وقد ذكرنا أدلته فيما تقدم؛ وإن كان سبب قول الله عزَّ وجلَّ: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) [البقرة: 22] مجيء خبر من اليهود، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقوله: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله أنداداً؛ فتقولون: ما شاء الله وشاء فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما إنه قد قال حقاً " وأنزل الله (فلا تجعلوا لله أنداداً) الآية [البقرة: 22] وممن أخرج الحديث: جلال الدين السيوطي، في الدر المنثور، في تفسير الآية؛ وعن قتيلة – امرأة من جهينة – قالت: أتى يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون، وتشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت؛ وتقولون: والكعبة؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: ورب الكعبة؛ وما شاء الله، ثم شئت؛ رواه النسائي.وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودي: إن هذا شرك، فكيف حال من نادى عند المهمات غير الله ؟ إذ هو داخل تحت(3/187)
(ص191) قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) [البقرة: 165].
وهؤلاء: يحب أحدهم معتقده، أكثر من حب الله، وإن زعم أنه لا يحبه كحب الله، فشواهد الحال: تشهد عليه بذلك؛ فإنه يعظم القبر أعظم من بيت الله، ويحلف بالله تعالى كاذباً، ولا يحلف بمعتقده؛ ويحلف بالله تعالى في أي محل، ولا يحلف بمعتقد يعتقده؛ فلا جامع بين ما استدلوا به، وبين ما نهاهم عنه: محمد بن عبد الوهاب، عافاه الله تعالى. الثاني: أن الحديث دليل للشيخ رحمه الله تعالى، أنه لا يدعى غير الله عزَّ وجلَّ، فإن مسألة: اللهم إني أتوجه إليك؛ المسئول: الله عزَّ وجلَّ، وإنما توجه إليه بحبيبه المصطفى عنده، ونهايته سؤاله سبحانه؛ ووسطه: يا حبيبنا محمداً، إنا نتوسل بك إلى ربك، فاشفع لنا.
فهذا خطاب، لخاص معين، في قوله؛ كقولنا في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته؛ وكاستحضار الإنسان محبه، ومبغضه في قلبه، فيخاطبه بما يهواه لسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة، دون العامة، ومعناه: أتوجه إليك بدعاء نبيك، وشفاعته، المشتملة على الدعاء؛ ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم شفعه في؛ وهذا متفق على جوازه.(3/188)
(ص192) وقد مضت السنة: أن الحي يطلب منه الدعاء، كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أم بغيرها؛ ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي، المستغيث بموسى على القبطي، في قوله: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى) الآية [القصص: 15] وكاستشفاع الأمة من أهل الموقف، بالأنبياء، والطواف عليهم، يسألونهم: أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة.وأما: المخلوق الغائب، أو الميت، فلا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله البتة؛ وهذا موافق لقوله تعالى؛ (قل إن الأمر كله لله) [آل: عمران 154] وإنما غاية طلب الشفاعة عند الله عزَّ وجلَّ، أن يشفع نبيه فيه، هو صلى الله عليه وسلم قد انتقل من هذه الدار، إلى دار القرار، بنص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وسألوه: أن يدعو لهم في الاستسقاء، عام القحط، أخرجه البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في: باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا؛ ولم يأتوا إلى قبره، ولاوقفوا عنده، مع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية، أعلى من حياة الشهداء.
وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، على: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل بعد موته، لا استغفاراً، ولا دعاءً، ولا(3/189)
(ص193) غيرهما؛ فإن الدعاء عبادة، مبناها على التوقيف، والاتباع، لا على الهوى، والابتداع، ولو كان هذا من العبادة، لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له.
وقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله) الآية [النساء: 64] فإتيانهم له صلى الله عليه وسلم للاستغفار، مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، مع شدة احتياجهم، وكثرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعانى كتاب الله، وسنة رسوله، وأحرص اتباعاً لملته من غيرهم؛ بل كانوا ينهون عنه، وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده؛ منهم الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي؛ وهم من خير القرون، التي قد نص صلى الله عليه وسلم عليها في قوله: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " قال عمران: لا أدري أذكر اثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه.
الثالث: أنهم زعموا أنه دليل للوسيلة إلى الله تعالى، بغير محمد صلى الله عليه وسلم، فلا دليل فيه أصلاً، لأنهم صرحوا بأنه لا يقاس مع فارق، فلا يجوز لنا أن نقول: اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك برسولك، نوح، يا رسول الله، يا نوح، إلى آخره؛ ولا أن نقول: اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك، بخليلك إبراهيم، إلى آخره، ولا أن نقول: بكليمك موسى، ولا بروحك عيسى.(3/190)
(ص194) ونحن نقول: إن الجامع في نوح عليه الصلاة والسلام: الرسالة؛ وفي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: الخلة مع الرسالة؛ وفي موسى، عليه الصلاة والسلام: الكلام مع الرسالة؛ وفي عيسى عليه الصلاة والسلام: كونه، روح الله، وكلمته، مع الرسالة؛ فليس لنا هذا، لأنه، أولاً: لم يرد، ولا حاجة لنا إلى فعل شيء لم يرد؛ ثانياً: إنما أبيح القياس، عند من يقول به، للحاجة في حكم لم يوجد فيه نص؛ فإذا وجد النص، فلا يحل القياس، عند من يقول به، ولا حاجة بنا إلى قوله هو مخترع؛ خصوصاً مع ما ورد في الشرك، وأنه في هذه الأمة، أخفى من دبيب النمل.
الرابع: أن الوسيلة، ليست هي: أن ينادي العبد غير الله، ويطلب حاجته، التي لا يقدر على وجودها إلا الله، ممن لا يملك لنفسه، نفعاً، ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) [الحج: 73] بل هذا شرك بالله، وجعلوا دليلهم، مع ما تقدم، بعد ارتكابهم أكبر المناكر، قوله صلى الله عليه وسلم: " يا عباد الله أعينوني " وقوله: " يا عباد الله احبسوا ".
وهذا من جملة الجهل، والضلال، وإخراج المعاني عن مقاصدها، من وجوه. الأول: أن هذه بوسيلة أصلاً، إذ معنى الوسيلة: ما يتقرب به من الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا ليس بقربة، لأنه ورد في أذكار السفر: أن العبد، إذا أراد عوناً، بمعنى:(3/191)
(ص195) أنه إذا أعيى من حمل متاعه، أو انفلتت دابته، فقد جعل الله عباداً، من صالحي الجن، أو من الملائكة، أو ممن لا يعلمه، من جنده سواه (وما يعلم جنود ربك إلا هو) [المدثر: 31] واستعماله في كل المهمات، من أعظم الجور؛ وإن أراد فيما ورد الحديث به خاصة: امتثال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون بهذه الإرادة قربة.
ولا دلالة فيه: أن ينادي عبد القادر الجيلاني، من قطر شاسع، بل ولا من عند قبره، ولا ينادي غيره، لا الأنبياء، ولا الأولياء، إنما غايته: أن العبد يقول، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عباد الله " وإذا نادى شخصاً باسمه، معيناً، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون، وقيام وقعود؛ وإنما أبيح له ذلك، إن أراد عوناً على حمل متاعه، وعلى الدابة، أو انفلتت.
الثاني: أن الحديثين غير صحيحين؛ أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير، بسند منقطع، عن عتبة رضي الله عنه؛ وحديث: انفلات الدابة، عزاه النووي لابن السني، وفي إسناده: معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث؛ ولا دليل في الحديثين، مع ضعفهما، ولا في الحديث المتقدم قبلهما، على شيء يفعله عباد القبور؛ من دعائها، ورجائها، والتوكل عليها، والذبح، والنذر لها، والهتف بذكر من فيها، عند الشدائد(3/192)
(ص196) الثالث: أن الله قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)[المائدة: 3] فبعد أن أكمله، بفضله ورحمته، فلا يحل لنا أن نخترع فيه ما ليس منه، ونقيس ما لا يقاس عليه.
الرابع: أن الحديث الصحيح، ما رواه: العدل، الضابط، عن مثله، من غير شذوذ، ولا علة؛ فكيف: يعمل بالحديث المتكلم فيه، فيما لا يدل عليه دلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام ؟ فهذا هو البهتان.
الخامس: أنهم عمروا مواقفهم، بذكر من يعتقدونه، ونسبوا الأفعال إليهم، وكل أحد يذكر ما وقع له، من الاستغاثة بفلان، ومن أنجده، وكشف شدته، فإذا قال أحد: (سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) [يس: 83] (سبحانك هذا بهتان عظيم) [النور: 16] قامت عليه الجماعة، وقالوا معلوم: (إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [يونس: 62]
فإذا قال: نعم، وليس بيد أحد منهم، ملكوت خردلة، والله يقول: (ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) [فاطر: 13] والقطمير: القشرة اللطيفة، تكون على النواة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) [فاطر: 14] 0
فإذا كان فيهم: من يدعى العلم، والإنصاف، وهو(3/193)
(ص197) واسع الصدر؛ يقول: هذه الآية، نزلت في عباد الأصنام؛ فإذا قيل له: نعم؛ الأصنام: ود، وسواع، ونسر، أسماء رجال صالحين؛ وهذه الخرق، على التوابيت، وهي: فعل عباد الأصنام، وأسماء رجال صالحين؛ وقد قرر أهل العلم: أن العام لا يقصر على السبب؛ ولا يحل إلا أن نؤدي الأمانة 0
فإذا قيل: أدوا الأمانة، فإنه تعالى يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات) [النساء: 58] فلا نقول: هذه نزلت في مفتاح باب الكعبة، فلا نحتج بها؛ كذلك لا نقول: هذه نزلت في عباد الأصنام، ونفعل فعلهم، ونقول: لسنا بمشركين؛ وفي الأحاديث القدسية، عن سيد البرية: " قال الله عزَّ وجلَّ، إني، والجن، والإنس، في نبأ عظيم، أخلق، ويعبد غيري، وأرزق، ويشكر سواي " أخرجه: الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه؛ فيجيب: بأن الأمة مطبقة على هذا، والأمة لا تجتمع على ضلالة، يلزم من هذا تضليل الأمة وتسفيه الآثار 0
فيجاب عليه: أمَّا: إن الأمة مطبقة على هذا، فكذب على الأمة، وليست بمطبقة على هذا، وهذه كتب الفروع، في كل مذهب، وكتب الحديث والتفسير، ليس فيها: أنه يدعى غير الله عزَّ وجلَّ، ولا يسن، ولا يستحب، ولا ينبغي، ولا يجوز، ولا يباح؛ بل الآيات البينات، والأحاديث، وأقوال العلماء ترشد إلى أن هذا شرك محقق؛ والله تعالى يقول لرسوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم(3/194)
(ص198) ألا تشركوا به شئيا) [الأنعام: 151] ويقول: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23].
السادس: قد اختلف في التوسل إليه بشئ من مخلوقاته، فقال أبو محمد بن عبد السلام، في فتاويه: إنه لا يجوز التوسل إليه بشئ من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لاعتقاده: أنه ورد في ذلك حديث، وإنه لم يعرف صحة هذا الحديث؛ وتقدم: قول أبى حنيفة وأصحابه، رحمهم الله تعالى.
السابع: أنهم يشترون أولادهم ممن يعتقدونه، ويجعلون له النذور، وإذا جاء المولود، جعلوا لمن ينتسب إلى ذلك المعتقد طعاماً، وقد أوحى إليهم الشيطان: أن يجعلوا زوايا لمن يعتقدونه، وفيها جماعة ينسبون أنفسهم إلى ذلك , كالعلوانية , والقادرية , والرفاعية , وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان , بل قال تعالى: (هو سماكم المسلمين من قبل) [الحج: 78], في الكتب المنزلة , كالتوراة , والإنجيل , وفي هذا القرآن , فاستبدلوا الذي هو أدني, بالذي هو خير.
وإذا مرض هذا المشتري من المعتقد , نذر أهله النذور , ولم يزل يستغيث به , ليشفي سقمه , ويكشف شدته , ولم يزل يلتزموا في فعلهم هذا: أن يكون المشتري منه الولد ميتاً , في تلك البلدة؛ بل يشتري أهل مكة أولادهم: من عبد القادر الجيلاني , ومن الجبرتي , المدفون في زبيد؛(3/195)
(ص199) ويجهلون قوله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 6] فإن الشراء ممن يملك الشيء.
وهذا الأمر سار في العلماء , والجهال؛ فهم قد غلبت عليهم العوائد , وسلبت عقولهم , من تفهم المراد والمقاصد, ولم يجدوا هذا في كتاب فروع أحد من الأئمة , صانهم الله عن هذه الوصمة , فما استدلوا به مما تقدم , لا يكون دليلاً على التوسل بالأموات , المعلوم حالهم , أنهم في أعلى الجنان , فكيف غيرهم , ممن لا يعلم حاله , ولا يدرى أين مآله , أم كيف يكون دليلاً , على دعاء غير الله تعالى , في المهمات ؟ ويقال: المراد الوسيلة , ويستدل لها بهذا؟! (سبحانك هذا بهتان عظيم) [النور: 16] وتحريف للكلم عن مواضعه.
فبهذا تبين: أن الشيطان اللعين , نصب لأهل الشرك , قبوراً يعظمونها , ويعبدونها أوثاناً من دون الله؛ ثم يوحى إلي أوليائه: أن من نهى عن عبادتها , واتخاذها أعياداً , وجعلها – والحالة هذه –أوثاناً , فقد انتقصها , وغمصها حقها , وسبها؛ فيسعي الجاهلون المشركون , في قتالهم , وعقوباتهم , وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين , إلا أنهم أمروهم بإخلاص توحيده , ونهوهم عن الشرك بأنواعه , وقالوا بتعطيله. فعند ذلك: غضب المشركون , واشمأزت قلوبهم , فهم لا يؤمنون , وقالوا: قد انتقصوا أهل المقامات , والرتب ,(3/196)
(ص200) فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم: أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال، والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، وحب الأولياء، وأتباع المرسلين.
بسبب ذلك: عادونا، وبالعظائم، والكبائر، والجرائم الغزار رمونا، ونسبوا كل قبيح إلينا، ونفروا الناس عنا، وعما ندعوا إليه، ووالوا أهل الشرك، وظاهروهم علينا، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه، ورسوله وكتابه.
ويأبى الله ذلك: (وماكانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) [الأنفال: 34] له، الموافقون له، العارفون به، وبما جاء به، والعاملون به، والداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن دينه، وهديه، وسنته (ويبغونها عوجا) [الأعراف: 45].
(وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) [الكهف: 104] باتباعه، واحترامه، والعمل به؛ وتعظيم الأنبياء، والأولياء، واحترامهم: متابعتهم لهم فيما يحبونه، وتجنب مايكرهونه؛ وهم: أعصى الناس لهم، وأبعدهم منهم، ومن هديهم، ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي.
وأهل التوحيد: أين كانوا أولى بهم، وبمحبتهم، ونصرة طريقتهم، وسنتهم، وهديهم، ومنهاجهم؛ وأولى بالحق، قولا، وعملا، من أهل الباطل؛ فالمؤمنون(3/197)
(ص201) والمؤمنات: بعضهم أولياء بعض؛ والمنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات: بعضهم من بعض.
ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه، وتدبره، وتفهمه، أغناه عن اتباع الشيطان وشركه، الذي يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه، وإلى حديث الرسول بكليته، وحدث نفسه بهما، وعمل باقتباس الهدى، والعلم منه، لا من غيره، أغناه عن البدع، والشرك، والآراء، والتخرصات، والشطحات، والخيالات، التي هي من وساوس الشيطان، والنفوس، وتخيلات الهواء، والبؤساء.
ومن بعد عن ذلك، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، بل مضرة عليه؛ كما أن من عَمَّر قلبه، بمحبة الله، وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، أغناه أيضا عن عشق الصور، وإذا خلا من ذلك، عبد هواه، أي شيء استحسنه ملكه، واستعبده، فالمعرض عن التوحيد، عابد الشيطان، مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة، مبتدع، شاء أم أبى.
وفي صحيح: مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، واسمه حيان بن حصين، قال: قال لي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع(3/198)
(ص202) تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته؛ وفي صحيحه أيضا؛ عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبرة فسوى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، وقد أمر به، وفعله الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون.
قال الشافعي، في الأم: رأيت الأئمة بمكة، يأمرون بهدم مايبنى على القبور ويؤيد الهدم، قوله: " و لا قبرا مشرفا إلا سويته " وحديث جابر، الذي في صحيح مسلم: " نهى صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور " ولأنها أسست على معصية الرسول، لنهيه عن البناء عليها، وأمره بتسويتها؛ فبناء أسس على معصيته، ومخالفته صلى الله عليه وسلم بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعا؛ إذ المفسدة أعظم، حماية للتوحيد؛ والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى، شرحا لكلام جده، الشيخ: محمد، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله رحمه الله تعالى: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران؛ الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه(3/199)
(ص203) قلت: وأدلة هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، كقوله تعالى: (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) الآية [آل: عمران 64] أمر الله تعالى نبيه: أن يدعو أهل الكتاب، إلى معنى لا إله إلا الله، الذي دعا إليه العرب وغيرهم.
والكلمة هي: لا إله إلا الله؛ ففسرها بقوله: (ألا نعبد إلا الله) فقوله: ألا نعبد؛ فيه معنى: لا إله، وهو نفي العبادة عما سوى الله؛ وقوله معنى: لا إله، وهو نفي العبادة عما سوى الله؛ وقوله: إلا الله، هو: المستثنى في كلمة الإخلاص؛ فأمره تعالى: أن يدعوهم إلى قصر العبادة عليه وحده، ونفيها عمن سواه؛ ومثل هذه الآية كثير، يبين أن الإلهية هي العبادة، وأنها لا يصلح منها شيء لغير الله، كما قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] معنى، قضى: أمر ووصى؛ قولان؛ ومعناهما واحد؛ وقوله: (ألا تعبدوا) فيه معنى: لا إله، وقوله: (إلا إياه) فيه معنى: إلا الله.
وهذا: هو توحيد العبادة، وهو دعوة الرسل، إذ قالوا لقومهم: (أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [المؤمنون: 32] فلا بد من نفى الشرك في العبادة رأسا، والبراءة منه، وممن فعله، كما قال تعالى، عن خليله إبراهيم، عليه السلام، (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني) [الزخرف: 26-27] فلا بد(3/200)
(ص204) من البراءة من عبادة ماكان يعبد من دون الله.
وقال عنه عليه السلام: (وأعتزلكم وماتدعون من دون الله) [مريم: 48] فيجب: اعتزال الشرك، وأهله، بالبراءة منهما، كما صرح به في قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 4] والذين معه هم: الرسل، كما ذكره ابن جرير.
وهذه الآية: تتضمن جميع ماذكره، شيخنا رحمه الله، من التحريض على التوحيد، ونفي الشرك، والموالاة لأهل التوحيد، وتكفير من تركه، بفعل الشرك المنافى له، فإن من فعل الشرك، فقد ترك التوحيد، فإنهما ضدان لا يجتمعان، فمتى وجد الشرك، انتفى التوحيد.
وقد قال تعالى، في حال من أشرك: (وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) [الزمر: 8] فكفره تعالى: باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة، وأمثال هذه الآيات كثيرة، فلا يكون موحدا، إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، وتكفير من فعله.
ثم قال رحمه الله تعالى، الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا؛ وهو دين الرسل،(3/201)
(ص205) أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25] وقال تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله) [الأحقاف: 21].
قوله: في عبادة الله؛ العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
قوله: والتغليظ في ذلك؛ وهذا موجود في الكتاب، والسنة، كقوله تعالى: (ففروا الى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إنى لكم منه نذير مبين) [الذاريات: 50-51] ولولا التغليظ، لما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش ماجرى، من الأذى العظيم، كما هو مذكور في السير مفصلا، فإنه بادأهم بسب دينهم، وعيب آلهتهم.
قوله: رحمه الله تعالى: والمعاداة فيه؛ كما قال تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) [التوبة: 5] والآيات في هذا كثيرة جدا، كقوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال: 39] والفتنة: الشرك ووسم تعالى أهل الشرك، بالكفر فيما لا يحصى من(3/202)
(ص206) الآيات؛ فلا بد من تكفيرهم أيضا، وهذا هو مقتضى: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها، إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله " فقوله: وكفر بما يعبد من دون الله: تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك، أو تردد، لم يعصم دمه وماله.
فهذه الأمور: هي تمام التوحيد، لأن: لا إله إلا الله، قيدت في الأحاديث، بقيود ثقال؛ بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك، فلا يكون المرء موحدا، إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه، والموالاة، فبمجموع ماذكره شيخنا، رحمه الله، يحصل ذلك.
ثم قال رحمه الله تعالى: والمخالف في ذلك أنواع، فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع، فقبل الشرك واعتقده دينا، وأنكر التوحيد، واعتقده باطلا، كما هو حال الأكثر، وسببه: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، من معرفة التوحيد، وما ينافيه من الشرك، والتنديد، واتباع الأهواء، وماعليه الآباء، كحال من قبلهم من أمثالهم، من أعداء الرسل، فرموا أهل التوحيد، بالكذب، والزور، والبهتان، والفجور؛ وحجتهم (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ([الشعراء: 74].(3/203)
(ص207) وهذا النوع من الناس، والذي بعده، قد ناقضوا مادلت عليه كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما تضمنته من الدين، الذي لا يقبل الله دينا سواه، وهو دين الإسلام، الذي بعث الله به جميع أنبيائه، ورسله، واتفقت دعوتهم عليه، كما لا يخفى فيما قص الله عنهم في كتابه.
ثم قال رحمه الله: ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله.قلت: ومن المعلوم أن من لم ينكر الشرك لم يعرف التوحيد، ولم يأت به؛ وقد عرفت: أن التوحيد لا يحصل إلا بنفي الشرك، والكفر بالطاغوت المذكور في الآية.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم؛ فهذا النوع أيضا: لم يأت بما دلت عليه، لا إله إلا الله، من نفي الشرك، وما تقتضيه من تكفير من فعله، بعد البيان إجماعا، وهو مضمون سورة الإخلاص، و(قل يا أيها الكافرون) وقوله، في آية الممتحنة: (كفرنا بكم) ومن لم يكفر من كفر القرآن، فقد خالف ماجاءت به الرسل، من التوحيد، وما يوجبه.
ثم قال رحمه الله: ومنهم من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه؛ فالجواب: أن من لم يحب التوحيد، لم يكن موحدا، لأنه هو الدين، الذي رضيه الله تعالى لعباده، كما قال: (ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة: 3] فلو رضي بما رضي به الله، وعمل به لأحبه، ولابد من المحبة، لعدم(3/204)
(ص208) حصول الإسلام بدونها، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد؛ قال شيخ الإسلام، رحمه الله، الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه؛ فمن أحب الله أحب دينه، وما لا فلا، وبالمحبة يترتب عليها ماتقضيه كلمة الإخلاص، من شروط التوحيد. ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يبغض الشرك، ولم يحبه. قلت: ومن كان كذلك، فلم ينف ما نفته لا إله إلا الله، من الشرك، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا، ولم يعصم دمه، ولا ماله، كما دل عليه الحديث، المتقدم.
وقوله رحمه الله: ومنهم من لم يعرف الشرك، ولم ينكره قلت: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره، لم ينفه؛ ولا يكون موحدا، إلا من نفى الشرك، وتبرأ منه، وممن فعله، وكفرهم، وبالجهل بالشرك، لا يحصل شيء مما دلت عليه، لاإله إلا الله، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة، ومضمونها، فليس من الإسلام في شيء، لأنه لم يأت بهذه الكلمة، ومضمونها، عن علم ويقين، وصدق وإخلاص، ومحبة وقبول، وانقياد؛ وهذا النوع، ليس معه من ذلك شيء، وإن قال لا إله إلا الله، فهو لا يعرف مادلت عليه، ولا ماتضمنته.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يعرف التوحيد، ولم ينكره. فأقول: هذا كالذي قبله، لم يرفعوا رأسا بما خلقوا له من الدين، الذي بعث الله به رسله، وهذه الحال،(3/205)
(ص209) حال من قال الله فيهم: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)، [الفرقان: 44]
وقوله رحمه الله: ومنهم – وهو أشد الأنواع خطرا – من عمل بالتوحيد، ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه، ولم يكفرهم؛ فقوله رحمه الله: وهو أشد الأنواع خطرا، لأنه لم يعرف قدر ماعمل به، فلم يجيء بما يصحح توحيده، من القيود الثقال، التي لابد منها، لما علمت أن التوحيد، يقتضى: نفي الشرك، والبراءة منه، ومعاداة أهله، وتكفيرهم، مع قيام الحجة عليهم، فهذا قد يغتر بحالة، وهو لم يجيء بما عليه من الأمور، التي دلت عليها كلمة الإخلاص، نفيا، وإثباتا.
وكذلك قوله رحمه الله: ومنهم من ترك الشرك، وكرهه، ولم يعرف قدره؛ فهذا أقرب من الذي قبله، لكن لم يعرف قدر الشرك، لأنه لو عرف قدره، لفعل مادلت عليه الآيات المحكمات، كقول الخليل: (إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني) [الزخرف: 26 – 27] وقوله: (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) [الممتحنة: 4].
فلا بد لمن عرف الشرك، وتركه من أن يكون كذلك، من الولاء، والبراء، من العابد والمعبود، وبغض الشرك، وأهله، وعداوتهم؛ وهذان: النوعان، هما الغالب على أحوال كثير ممن يدعى الإسلام، فيقع منهم من الجهل(3/206)
(ص210) بحقيقته , ما يمنع الإتيان بكلمة الإخلاص , وما اقتضته على الكمال الواجب , الذي يكون به موحداً , فما أكثر المغرورين , الجاهلين بحقيقة الدين.
فإذا عرفت: أن الله كفر أهل الشرك , ووصفهم به في الآيات المحكمات , كقوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) [التوبة: 17] وكذلك السنة.
قال شيخ الإسلام , رحمه الله تعالى: فأهل التوحيد والسنة ,يصدقون الرسل فيما أخبروا , يطيعونهم فيما أمروا , ويحفظون ما قالوا , ويفهمونه , ويعملون به , وينفون عنه تحريف الغالين , وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين , ويجاهدون من خالفهم , تقرباً إلى الله , وطلباً للجزاء من الله , لا منهم؛ وأهل الجهل , والغلو: لا يميزون بين ما أمروا به , ونهوا عنه , ولا بين ما صح عنهم , وما كذب عليهم , ولا يفهمون حقيقة مرادهم , ولا يتحرون طاعتهم؛ بل هم جهال لما أتوا به , معظمون لأغراضهم.
قلت: ما ذكره شيخ الإسلام , يشبه حال هذين النوعين الأخيرين؛ بقي مسألة حدثت , تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية , وهو: عدم تكفير , المعين ابتداء , لسبب ذكره رحمه الله تعالى , أوجب له التوقف في تكفيره , قبل إقامة الحجة عليه , قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة , أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحد , أن يدعو أحداً من الأموات , لا(3/207)
(ص211) الأنبياء , ولا الصالحين , ولا غيرهم؛ ولا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها , كما أنه لم يشرع لأمته: السجود لميت , ولا إلي ميت , ونحو ذلك؛ بل نعلم: أنه نهى عن هذه الأمور كلها , وأن ذلك من الشرك , الذي حرمه الله , ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن: لغلبة الجهل ,وقلة العلم بآثار الرسالة , في كثير من المتأخرين , لم يمكن تكفيرهم بذلك , حتى يبين ما جاء به الرسول , مما يخالفه , انتهى. قلت: فذكر رحمه الله تعالى , ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم , على التعيين خاصة , إلا بعد البيان والإصرار؛ فإنه قد صار أمة وحده؛ لأن من العلماء , من كفره , بنهيه لهم عن الشرك في العبادة , فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال؛ كما جرى لشيخنا: محمد بن عبد الوهاب , رحمه الله تعالى , في ابتداء دعوته , فإنه إذا سمعهم يدعون زيداً بن الخطاب: قال: الله خير من زيد , تمرينا لهم على نفي الشرك , بلين الكلام , نظراً إلي المصلحة , وعدم النفرة , والله سبحانه أعلم؛ وصلى الله على سيدنا محمد , وعلى آله وصحبة وسلم. وله أيضاً: قدس الله روحه , ونور ضريحه , في تقرير الإلهية , ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , وصلى الله على سيد(3/208)
(ص212) المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما ً. اعلم: أن أعظم شهادة، وأفرضها على الخلق، قولاً، وعملاً، واعتقاداً، ما شهد الله به لنفسه، من اختصاصه بالإلهية، دون جميع خلقه، أزلاً، وأبداً، قال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل: عمران 18] فكرر الشهادة به في هذه الآية؛ وأخبر أن ملائكته، وأولى العلم: شهدوا له بذلك، جل وعلا؛ وأخبر عباده بهذه الشهادة، ودعاهم إلى أن يشهدوا له بها، قال تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً) [النساء: 87] وقال تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 8] وقال (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة) [القصص: 70]
وأخبر: أنه بعث بهذه الشهادة، الرسل جميعهم، فقال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25] فبين في هذه الآية، وأمثالها، كقوله: (أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [المؤمنون: 32] أن الإلهية، هي العبادة؛ فإن: الإله، هو المألوه، الذي تألهه القلوب، محبة، وتعظيماً، وتذللاً، وخضوعاً، وتوكلاً، ورغبة إليه، ورهبة، وخوفاً، ورجاءً، وغير ذلك من أنواع العبادة
وقال تعالى: (ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل(3/209)
(ص213) شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) [الأنعام: 102]وبين تعالى: ما تضمنته هذه الشهادة، من النفي والإثبات، بقوله، عن خليله عليه السلام، أنه قال لأبيه، وقومه: (إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) [الزخرف: 26-28]والكلمة هي: لا إله إلا الله؛فعبر عنها الخليل بمعناها، فنفى ما نفته هذه الكلمة، من الشرك في العبادة، بالبراءة من كل ما يعبد من دون الله، واستثنى الذي فطره، وهو الله سبحانه، الذي لا يصلح من العبادة شيء لغيره، كما قال تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألا تعبدوا إلا الله) [هود: 1-2] فقوله: (ألا تعبدوا) فيه معنى: لا إله، وقوله: (إلا الله) هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة؛ وفي هذه الآيات: نفي الإلهية عما سوى الله، نفياًً عاماً، بلا النافية للجنس، وأثبت الإلهية له وحده، دون كل ما سواه ...
والآيات في معنى هذه الكلمة: كثيرة في القرآن؛ قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] فقوله: (ألا تعبدوا) نفى استحقاق العبادة لغيره، وأثبتها لنفسه بقوله: (إلا إياه) وقال تعالى: (أمر أن لاتعبدوا إلا إياه) [يوسف: 40] وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب، إلى معنى هذه الكلمة، وما تضمنته: من النفي، والإثبات،(3/210)
(ص214) فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) [آل عمران: 64] فتضمنت هذه الآية، معنى " لا إله إلا الله " من نفي الإلهية عما سوى الله؛ وتفرده بالعبادة، دون كل ما سواه ومعنى: (تعالوا) أي: هلموا، وأقبلوا، إلى أن نكون نحن، وأنتم في توحيد الله مجتمعين على ذلك، ثم قرر تعالى، بقوله: (ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) [آل عمران: 64]وهذه الكلمة: هي التي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا والعرب أن يقولوها، ويعملوا بها، وقال لهم: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا؛ كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكاً في الجنة " فقالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) [ص: 5] (وما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) [ص: 7] وذلك: أنهم نشؤوا في الفترة، بعد عبادة الأصنام، حين استخرجها عمروبن لحي الخزاعي، وفرقها في القبائل؛ وهي: الأصنام التي عبدها قوم نوح، فعبدوها، وكثرت عبادة الأوثان، والأصنام؛ فصار عند الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً على صورة من كانوا يعبدونه وعبدوا اللات، والعزى، ومناة، وذا الخلصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، ولذلك: أنكروا معنى: لا إله إلا الله،(3/211)
(ص215) لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، فأبوا أن ينفوا ما نفته، من عبادة الأوثان، والأصنام، وأن يخلصوا العبادة لله وحده ولمعرفتهم معنى هذه الكلمة: نهوا أبا طالب، عن أن يقولها عند موته، لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله " قال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ علموا أنه لو قالها لترك عبادة غير الله، وأنكرها، لمعرفتهم ما دلت عليه من النفي، والإثبات؛ قال الله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35 –36]
وأما: هذه الأمة؛ فلما كثر الشرك فيهم، كما كثر في أولئك، وبنيت المساجد على القبور، وعبدت؛ وبنيت المشاهد، على اسم من بنيت باسمه، من الصالحين وعبدت، صاروا يقولون: لا إله إلا الله، والشرك قد قام في قلوبهم، واتخذوه ديناً، فأثبتوا مانفته هذه الكلمة، من عبادة غير الله، وأنكروا مادلت عليه من الإخلاص.
فعكسوا مدلول هذه الكلمة العظيمة، بكونهم أثبتوا ما نفته من الشرك، ونفوا ما أثبته من الإخلاص الذي هو حق الله على عباده، فيقول قائلهم: لا إله إلا الله، وقد اعتقد عكس مادلت عليه؛ وهذا غاية الجهل والضلال، يقول كلمة،(3/212)
(ص216) تتضمن النفي، والإثبات، فلا يعرف مانفت، ولا ماأثبتت، هذا وهم فيما يقرؤونة، ويقرئونة في مذاهبهم، وماكانوا يتعاطونه من العلوم، لا يجهلون مثل هذا.
وكثير منهم، له في علم المعقول: اليد الطولى؛ فسبحان الله ! كيف جهلوا من ذلك مادعت إليه الرسل؛ من توحيد الله، ونفي الشرك الذي نهوا أممهم عنه، كما هو صريح في القرآن، لا يخفى على من له أدنى فهم، إن وفق لفهم؛ فوضعوا الشرك؛ موضع التوحيد، بالقبول والعمل، ووضعوا التوحيد، موضع الشرك، بالإنكار على من دعا إليه، وعداوته.
فبهذا: يتبين لك معنى، ماأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدا " فلا غربة للإسلام أعظم من هذه الغربة، التي عليها الأكثرون، في هذه القرون المتأخرة؛ وقد ذكر العلماء – رحمهم الله – من أهل السنة والجماعة، في معني: لا إله إلا الله، وبيان مانفته، وما أثبتته، مايفيد: العلم اليقيني بمعناها، الذي أوجب الله تعالى معرفته، وماتضمنته من النفي والإثبات.
قال الوزير: أبو المظفر، في الإفصاح، قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي: أن يكون الشاهد، عالماً بأنه لا إله إلا الله؛ كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19] قال: واسم الله مرتفع بعد: (إلا) من(3/213)
(ص217) حيث: أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه؛ قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم: أن هذه الكلمة، مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله تعالى، كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله.
قال ابن القيم رحمه الله في: البدائع؛ فدلالتها – أي لا إله إلا الله – على إثبات الإلهية، أعظم من دلالة قولنا: الله إله؛ ولايستريب أحد في هذا البتة، انتهى بمعناه.
وقال رحمه الله: والإله، هو: الذي تألهه القلوب، محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما؛ وتعظيماً، وذلا، وخضوعاً، وخوفاً ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤال منه، ودعاء له، لايصلح ذلك كله إلا لله؛ فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور، التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحاً في إخلاصه، في قوله: لا إله إلا الله؛ وكان فيه من عبودية المخلوق، بحسب مافيه من ذلك، وقال: أبو عبد الله القرطبي، في تفسيره: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا هو.
قال شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله: الإله، هو: المعبود، المطاع؛ فإن الإله، هو المألوه؛ والمألوه، هو: الذي يستحق أن يعبد؛ وكونه يستحق هو، بما اتصف به من الصفات، التي تستلزم: أن يكون هو المحبوب، غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.(3/214)
(ص218) وقال رحمه الله تعالى: فإن الإله، هو: المحبوب المعبود الذي، تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه؛ وليس ذلك إلا لله وحده، وبهذا كانت: لا إله إلا الله، أصدق الكلام، وكان أهلها، هم: أهل الله، وحزبه؛ والمنكرون لها، أعداؤه، وأهل غضبه، ونقمته؛ فإذا صحت، صح بها كل مسألة، وحال، وذوق؛ وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له، في علومه، وأعماله.
وقال البقاعي: لاإله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيماً، أن يكون معبودا بحق، غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم، هو: أعظم الذكرى، المنجية من أهوال الساعة؛ وإنما يكون علماً، إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعا، إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه؛ وإلا فهو: جهل صرف؛ وهذا الذي ذكرناه، عن شيخ الإسلام، والبقاعي، هو: الموجود في كلام أهل السنة جميعهم.
إذا عرفت ذلك: فمما يدل على غربة الإسلام، ماأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة، كما في الصحيح من حديث ثوبان: " وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تدور رحى الإسلام: لخمس وثلاثين، أ و ست وثلاثين، أو(3/215)
(ص219) سبع وثلاثين، فإن يهلكوا، فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقم تسعين عاماً قال قلت: أمما بقي، أو مما مضى ؟ قال: " مما مضى ".
ومما يبين: غربة الإسلام، وشدتها، ما جرى، من الملوك، والقضاة، والرؤساء، على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من العداوة، والحبس، وشدة الإنكار عليه، لما دعاهم إلى ماتضمنته: لا إله إلا الله، ومعناها، الذي تقدم عنه، وعن أمثاله من العلماء؛ وقد ردوا عليه، بشبهات واهية، وضلالات، في الضلال متناهية؛ رد عليهم رحمه الله تعالى في: منهاج السنة، واقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب الاستغاثة، في الرد على ابن البكري: ورد على أهل البدع، جميعهم، من الفلاسفة، والمتكلمين، كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة.
وذكر رحمه الله: أن هؤلاء كلهم، وإن كثرت أبحاثهم، ومصنفاتهم، فما منهم من يعرف مادلت عليه كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله " فلم يعرفوا التوحيد، الذي أثبتته، ولا الشرك، الذي نفته، هذا: معنى كلامه؛ ولتلميذه: العلامة ابن القيم، في بيان أنواع التوحيد، والرد على أهل البدع، المصنفات الكثيرة، المفيدة، فمن أحسنها: إغاثة اللهفان، وكتاب: الصواعق المرسلة، في الرد على الجهمية والمعطلة.
وللحافظ: ابن عبد الهادي: الصارم المنكي، في الرد(3/216)
(ص220) على السبكي؛ ولهم أصحاب كثير، أخذوا عنهم؛ فلما طال الأمد بعدهم، صارت كتبهم، في أيدي أناس جهلة، وفي خزائن الكتب الموقوفة، فلم يلتفتوا إليها، فرجعوا الى ماكان عليه من قبلهم، ممن مضى من المبتدعة، وكثر الشرك في القري والأمصار؛ وصاروا: لا يعرفون من التوحيد إلا ما تدعيه الأشاعرة، من تأويل صفات الرب، والإلحاد فيها؛ فصاروا كذلك، حتى نسي العلم، وعم الشرك، والبدع؛ إلى منتصف القرن الثاني عشر، فإنه لا يعرف إذ ذاك، عالم أنكر شركاً، أو بدعة، مما صار في آخر هذه الأمة.
فشرح الله صدر: شيخنا، فضلا من الله، ونعمة عظيمة، من بها تعالى في آخر هذا الزمان، فعرف من الحق، ماعرف: شيخ الإسلام ابن تيمية، وأصحابة، بتدبره الآيات المحكمات؛ وصحيحي: البخاري، ومسلم، والسنن، والمسانيد، والآثار؛ ومعرفة ماكان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون، وأتباعهم؛ وما عليه سلف الأمة، وأئمتها، والأئمة من أهل الحديث، والتفسير، والفقهاء؛ كالأئمة الأربعة، ومن أخذ عنهم فتبين له التوحيد، وما ينافيه، والسنة، وما يناقضها.
فدعا الناس، من أهل قريته، وما قرب منها: أن يتركوا عبادة أرباب القبور، والطواغيت، وعبادة الأشجار، والأحجار، والذبح للجن، ونحو ذلك؛ وكل هذا: قد وقع في قرى نجد، وغيرها، كالبوادي؛ فلما أنكر ذلك: كرهوا(3/217)
(ص221) ذلك منه، وطرده أهل قريته عنها، وهي: حريملا، وصار في العيينة: يدعو إلى دين الإسلام، وينهى عن الشرك، وعبادة الأوثان، وقبل ذلك: طائفة منهم، ومن أهل: الدرعية؛ ثم بعد ذلك ضاق نطاق أمير العيينة، لما رآه قد أنكر قوله، الخلق الكثير، والجم الغفير، وقد نصب له العداوة: أهل القرى، والأمصار، والبادي والحاضر؛ فأمره أن ينتقل من بلده عنه.
وصار في: الدرعية، عند: محمد بن سعود وأولاده، وإخوانه، وبعض الأعيان من جماعته، فصار لهم قبول لهذه الدعوة، فصبروا على عداوة الناس، قريبهم، وبعيدهم؛ وكل قصدهم بالحرب، فثبتهم الله على قلتهم، وكثرة من خالفهم، وقتل من قتل من أعيانهم، فصبروا، وصارت الحرب بينهم سجالا، والله يحميهم، ويقوي قلوبهم؛ وماجرى بينهم وبين عدوهم، مذكور في التاريخ.
فأظهر الله هذا الدين في نجد، والبادية، حتى لم يكن فيهم من ينازع ويجادل، لأن الله أبطل كل شبهة، بما أبداه هذا الشيخ، ببيانه، ومصنفاته، التي صارت في أيدي المسلمين؛ وانتشرت دعوته في الأمصار، وقبلها القليل منهم، ممن له التفات إلى ماينفعه، بخلاف من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله، وهم الأكثرون؛ فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة؛ فيا سعادة من هدي إلى معرفة حقيقة دين الإسلام واتبعه.(3/218)
(ص222) وقد وجدت: للعلامة ابن القيم رحمه الله، كلاما في الصواعق المرسلة، على الجهمية والمعطلة، يتعين نقله هنا، لعظيم فائدته، وشدة الحاجة اليه، قال رحمه الله تعالى:
فصل:
عظيم النفع، جليل القدر؛ ينتفع به: من عرف نوعي التوحيد، القولي، العلمي، الخبري؛ والتوحيد: القصدي، الإرادي، العملي؛ كما دل على الأول سورة: (قل هو الله أحد) وعلى الثاني سورة: (قل ياأيها الكافرون) وكذلك دل على الأول، قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) الآية [البقرة: 136] وعلى الثاني: (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) [آل: عمران 64] ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين، في سنة الفجر، وسنة المغرب؛ ويقرأ بهما في ركعتي: الطواف؛ ويقرأ بالآيتين، في سنة: الفجر، لتضمنهما التوحيد، العلمي، والعملي.
والتوحيد العلمي، أساسه: إثبات الكمال للرب، ومباينته لخلقه، وتنزيهه عن العيوب، والنقائص، والتمثيل؛ والتوحيد العملي، أساسه: تجريد القصد، بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والإستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح، لله وحده.
ومدار: مابعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، على(3/219)
(ص223) هذين التوحيدين، وأقرب إلى الله: أقومهم بهما علماً، وعملا؛ ولهذا: كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، أقرب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه وسيلة، أولوا العزم، وأقربهم: الخليلان؛ وخاتمهم: سيد ولد آدم، وأكرمهم على الله؛ لكمال عبوديته، وتوحيده.
فهذان الأصلان، هما قطب رحى الدين، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور؛ والله سبحانه: بينهما غاية البيان، بالطرق العقلية، والنقلية، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة؛ ونوع سبحانه: الطرق بإثباتهما كل التنوع، بحيث صار معرفة القلوب الصحيحة، والفطر السليمة لهما، بمنزلة: رؤية العين المبصرة، التي لا آفة بها، للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض والسماء؛ فذلك للبصيرة، بمنزلة هذه للبصر.
فإن تسلط التأويل على التوحيد: الخبري، العلمي، كان تسليطه على التوحيد: العملي، القصدي، أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل، والشرك؛ ولهذا: كان الشرك، والتعطيل متلازمين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه؛ وإمام المعطلين المشتركين: فرعون؛ فهو إمام كل معطل، ومشرك، إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام.
وقال أيضا: لما ذكر سبب عبادة الأصنام، التي صورها قوم نوح، على صور الصالحين؛ وما زال الشيطان، يوحي(3/220)
(ص224) إلى عباد القبور، ويلقي إليهم: أن البناء، والعكوف عليها، من محبة أهل القبور، من: الأنبياء، والصالحين؛ وأن الدعاء عندها: مستجاب؛ ثم ينقلهم من هذه المرتبة، إلى الدعاء بالمقبور، والإقسام به على الله؛ فإن شأن الله: أعظم من أن يقسم به عليه؛ أو يسأل بأحد من خلقه؛ فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم: نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا، ومنسكا؛ ورأوا: أن ذلك أنفع لهم في دنياهم، وأخراهم؛ وكل هذا: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد، وألا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى: أن من نهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: 45].
وسرى ذلك في نفوس كثير، من الجهال، والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالو أهل(3/221)
(ص225) الشرك، وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك (وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) [الأنفال: 34] انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.
وقال تعالى: (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ماقدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 73-74].
فتأمل: هذا المثل، الذي أمر الناس كلهم باستماعه – فمن لم يسمعه فقد عصى أمره – كيف تضمن إبطال الشرك، وأسبابه، بأصح برهان، وأوجز عبارة، وأحسنها، وأحلاها، وسجل على جميع آلهة المشركين: أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضا، وعاونه، بأبلغ المعاونة، لعجزوا عن خلق ذباب واحد؛ ثم بين ضعفهم، وعجزهم، عن استنفاذ مايسلبه الذباب إياه؛ فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب؛ فهل قدر القوي العزيز حق قدره، من أشرك معه آلهة هذا شأنها ؟
فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبين: إفك أهل الشرك، والإلحاد، بأعذب الألفاظ، وأحسنها، لم يعترها غموض، ولم يشبها تطويل، ولم يعبها تعقيد، ولم يزربها زيادة ولا تنقيص، بل: بلغت في الحسن والفصاحة، والإيجاز، مالا يتوهم متوهم، ولا يظن ظان، أن يكون أبلغ في معناها منها،(3/222)
(ص226) وتحتها من المعنى الجليل العظيم الشريف، البالغ في النفع، ماهو أجل من الألفاظ؛ انتهى، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
وسئل: أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه: عما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عزَّ وجلَّ ".
فأجاب: اعلم أن لا إله إلا الله، هي: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وهي: الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل، عليه السلام، باقية في عقبة لعلهم يرجعون؛ ومعناها: نفي الشرك في الإلهية، عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالإلهية.
والإلهية، هي: تأله القلب، بأنواع العبادة، كالمحبة، والخضوع، والذل، والدعاء، والاستعانة، والرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي ذكر الله في كتابه العزيز، أمراً، وترغيباً للعباد، أن يعبدوا بها ربهم وحده.
وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة؛ وكل فرد من أفراد العبادة، لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده؛ فمن صرفه لغير الله، فقد أشركه في حق الله، الذي لا يصلح لغيره، وجعل له أنداداً.(3/223)
(ص227) وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور، والأشجار، والأحجار، واتخذوا ذلك ديناً، زعموا: أن الله يحب ذلك ويرضاه، وهو: الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية [النساء: 48] وقال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) [المائدة: 72].
وقال في معنى هذا التوحيد: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] أي: أمر، ووصى؛ وهذا معني: لا إله إلا الله؛ فقوله: (ألا تعبدوا) هو معنى: لا إله، في كلمة الإخلاص، وقوله: إلا إياه، هو معنى الاستثناء، في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كما سنذكر بعضه.
وقال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [الجن: 18] وهذا نهي عام، يتناول كل مدعو، من ملك، أو نبي، أو غيرهما، فإن: (أحداً) نكرة في سياق النهي، وهي تعم؛ وأمثال هذه الآية كثير، كقوله تعالى: (قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحداً [الجن: 20] وفي حديث معاذ، الذي في الصحيحين " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " وفيهما أيضاً: " من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار ".
وإخلاص العبادة لله تعالى، هو: التوحيد، الذي(3/224)
(ص228) جحده المشركون، قديماً وحديثاً؛ ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، وغيرهم من أحياء العرب: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " قالوا: (أجعل الألهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) [ص: 5 – 7].
فعرفوا معنى: لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه، كما قال عن قوم هود: (أجئتنا لنعبد الله وحده) [الأعراف: 70] وقال تعالى عن مشركي هذه الأمة: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35 – 36] عرفوا: ان المراد من لا إله إلا الله، ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه ـ مما كانوا يعبدونه، من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك.
فإخلاص العبادة لله، هو: أصل دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب) [الرعد: 36] وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) [لقمان: 22] فإسلام الوجه، هو : إخلاص الأعمال الباطنة، والظاهرة، كلها لله تعالى.
وهذا هو توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، وتوحيد القصد(3/225)
(ص229) والإرادة؛ ومن كان كذلك، فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي: لا إله إلا الله؛ فإن مدلولها نفي الشرك، وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل، عليه السلام: (إني وجهت وجهي للذى فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) [الأنعام: 79].
وهذا هو الإخلاص، الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده ديناً سواه، كما قال: (فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 2 – 3] والدين هو العبادة، وقد فسره: أبو جعفر ابن جرير، في تفسيره، بالدعاء، وهو بعض أفراد العبادة، كما في السنن، من حديث أنس " الدعاء مخ العبادة " وحديث النعمان بن بشير " الدعاء هو العبادة " أي: معظمها: وذلك: أنه يجمع من أنواع العبادة أموراً سنذكرها، إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى: (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) [الزمر: 11] وقال: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) [الزمر: 14] وقال تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين) [غافر: 14] والدعاء في هذه الآية، هو: الدعاء بنوعيه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة .
وقال: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) [البينة: 5] والحنيف: هو الراغب عن الشرك، المنكر له، وقد فسره: ابن القيم، رحمه الله، بتفسير شامل(3/226)
(ص230) لمدلول: لا إله إلا الله: فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وهذا التوحيد، هو الذي أنكره أعداء الرسل، من أولهم إلى آخرهم.
وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك، كما قال تعالى (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً) [الفرقان: 3] وقال تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) [الأحقاف: 4] وهذا المذكور في هذه الآية، هو: توحيد الربوبية؛ ومشركوا العرب، والأمم لم يجحدوه، بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم، فيما جحدوه من الإلهية.
ولهذا قال بعد هذه الآية: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) [الأحقاف: 5] وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) [الحج: 71] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، بل القرآن من أوله إلى آخره، يدل على هذا التوحيد، مطابقة، وتضمناً، والتزاماً.
وهو الدين الذي بعث به المرسلين، من أولهم إلى(3/227)
(ص231) آخرهم، كما قال تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله) [الأحقاف: 21] فدلت هذه الآية، وما قبلها، على أن الله تعالى: إنما أراد من عباده، أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكاً في عباداتهم، وإراداتهم، التي لا يستحقها غيره، كما تقدم؛ قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [النساء: 36] وقال تعالى: فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) [الحج: 34].وقال تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) [الحج: 26] والمراد: تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق)، [الحج: 30-31] وقد بين الله تعالى، في مواضع من القرآن، معنى كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم، كما قال تعالى: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) [يس: 61] وقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي(3/228)
(ص232) فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) [الزخرف: 26 –28] فعبر عن معنى: لا إله، بقوله: (إنني براء مما تعبدون) وعبر عن معنى: إلا الله، بقوله: (إلا الذي فطرني) فتبين: أن معنى، لا إله إلا الله، هو: البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما تقدم؛ وهذا واضح بين، لمن جعل الله له بصيرة، ولم تتغير فطرته، ولا يخفى إلا على من عميت بصيرته، بالعوائد الشركية، والبدع، والضلال (ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور) [النور: 40] وقال تعالى، في بيان معناها: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) [آل عمران: 64] والمعنى: أي بعض كان من نبي أو غيره، كالمسيح بن مريم، والعزير، ونحوهما؛ وفي قوله: (ألا نعبد) معنى: لا إله، وقوله: إلا الله، هو المستثنى في كلمة الإخلاص وهذا التوحيد، هو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، وغيرهم، من الإنس والجن، كما قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)، [يوسف: 108](3/229)
(ص233) وقد قال تعالى، في معنى هذه الكلمة، عن أصحاب الكهف: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) [الكهف: 16] ففي قوله: (وإذ اعتزلتموهم) معنى: لا إله، وقوله (إلا الله) هو المستثنى في كلمة الإخلاص؛ وقال تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا) إلى قوله: (لن ندعو من دونه إلهاً) [الكهف: 14]فتقرر بهذا: أن الإلهية، هي: العبادة؛ وأن من صرف شيئاً لغير الله، فقد جعله لله نداً، والقرآن كله في تقرير معنى: لا إله إلا الله، وما تقتضيه، وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد، وعقاب أهل الشرك ومع هذا البيان، الذي ليس فوقه بيان: كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة، في معنى هذه الكلمة، وسببه: تقليد المتكلمين الخائضين، فظن بعضهم أن معنى: لا إله إلا الله، إثبات وجود الله تعالى، ولهذا قدروا الخبر المحذوف في: لا إله إلا الله، وقالوا؛ لا إله: موجود، إلا الله؛ ووجوده تعالى: قد أقر به المشركون، الجاحدون لمعنى هذه الكلمة، وطائفة ظنوا أن معناها: قدرته على الإختراع وهذا: معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله تعالى، كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من عجائب المخلوقات؛ وبه استدل الكليم: موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، لما قال: (وما رب العالمين، قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين) [الشعراء: 23 –26](3/230)
(ص234) وفي سورة بني إسرائيل: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) ففرعون يعرف الله، ولكن جحده، مكابرة، وعناداً وأما غير فرعون: من أعداء الرسل، من قومهم، ومشركي العرب، ونحوهم، فأقروا بوجود الله، وربوبيته، كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) [الزخرف: 9] وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) [الزخرف: 87] فلم يدخلهم ذلك في الإسلام، لما جحدوا ما دلت عليه: لا إله إلا الله، من إخلاص العبادة، بجميع أفرادها لله وحده وفي الحديث الصحيح: "من مات وهو يدعو لله نداً: دخل النار " وتقدم، قول قوم هود: (أجئتنا لنعبد الله وحده) [الأعراف: 70] دليل على أنهم: أقروا بوجوده، وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده، دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه فالخصومة: بين الرسل وأممهم، ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع: فإن الفطر، والعقول: دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؛ وإنما كانت الخصومة: في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله، كما قال تعالى: (ولقد(3/231)
(ص235) أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين، ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) [هود: 25-26] وقال تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين) [العنكبوت: 16-18] فالشرك في العبادة، هو الذي عمت به البلوى، في الناس، قديماً وحديثاً، كما قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) [الروم: 42] وقد أخبر النبي صلى عليه وسلم أن هذه الأمة: تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع؛ ولهذا: أنكر كثير من أعداء الرسل، في هذه الأزمنة، وقبلها، على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، وجحدوا: ما جحدته الأمم المكذبة، من التوحيد؛ واقتدوا بمن سلف، من أعداء الرسل، في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم، كـ "ـابن كمال " المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله، وأتى في كلامه بأمحل المحال.(3/232)
(ص236) وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات، أنه يقول؛ عبد القادر في قبره، يسمع، ومع سمعه ينفع، وما يشعره: أنه في قبره الآن، رفات، كحال الأموات؛ وهذا قول شنيع، وشرك فظيع؛ ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة، سمعه وبصره، لو ينادي من مسافة فرسخ، أو فرسخين، لم يمكنه سماع نداء من ناداه ؟ فكيف يسمع ميت من مسافة شهر، أو شهرين، أو دون ذلك، أو أكثر؛ وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه ؟ هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر وفي كتاب الله عزَّ وجلَّ، ما يبطله، قال الله تعالى: (ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) [فاطر: 13-14] فأخبر الخبير جل وعلا: أن سماعهم ممتنع، واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة فهؤلاء المشركون، لما استغرقوا في الشرك، ونشؤوا عليه، أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره؛ وقال تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) [النحل: 20 –21] فذكره تعالى: أنهم أموات، دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم، يبين تعالى بهذا: جهل المشرك، وضلاله؛ فأحق عزَّ وجلَّ في كتابه(3/233)
(ص237) الحق، وأبطل الباطل، ولو كره المشركون لكن هؤلاء، لما عظم شركهم: نزلوا الأموات في علم الغيب، منزلة علام الغيوب، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون؛ قال الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون) [الأعراف: 191 –192] وليس عند هؤلاء الملاحدة: ما يصدون به العامة، عن أدلة الكتاب، والسنة، التي فيها النهي عن الشرك في العبادة، إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان، يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة فنقول: هذا وأمثاله، ليسوا بحجة تنفع عند الله، وتخلصكم من عذابه؛ بل الحجة ما في كتاب الله، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما أحسن ما قاله الإمام مالك رحمه الله: وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبرائيل، على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله ؟!
إذا عرف ذلك: فالتوسل يطلق على شيئين؛ فإن كان ابن حجر، وأمثاله: أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح، فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، ولو جاز لما ترك(3/234)
(ص238) الصحابة السابقون الأولون، من المهاجرين، والأنصار، رضي الله عنهم: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، إذا قحطوا وثبت عن أمير المؤمنين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب، عام الرمادة، بمحضر من السابقين الأولين، يستسقون، فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فأسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله تعالى؛ ولم يسأله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره؛ ولو كان هذا التوسل حقاً، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص.فإن كانوا أرادوا بالتوسل: دعاء الميت، والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه؛ والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جداً، فمن ذلك قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) [الزمر: 43- 44] فالذي له ملك السماوات والأرض، هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255].
وقال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم: 26] وهو لا يرضى إلا الإخلاص، في الأقوال،(3/235)
(ص239) والأعمال، الباطنة، والظاهرة؛ كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، وغيره؛ وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء، فقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) [يونس: 18]. فبين تعالى في هذه الآية: أن هذا شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم، لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا شرك، نزه نفسه عنه، بقوله تعالى: (سبحانه وتعالى عما يشركون) فهل فوق هذا البيان بيان ؟ وقال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) [الزمر: 3] فكفرهم بطلبهم من غيره: أن يقربوهم إليه. وقد تقدم: بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله، والتغليظ في ذلك؛ وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله، وكفر به، كما قال تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) [المؤمنون: 117]. فمن أراد النجاة: فعليه التمسك بالوحيين، الذين هما حبل الله، وليدع عنه: بنيات الطريق، كما قال تعالى: (وأن(3/236)
(ص240) هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) [الأنعام: 153] وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم: الصراط المستقيم، وخط خطوطاً عن يمينه، وعن شماله، وقال: " هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعوا إليه " والحديث في الصحيح، وغيره، عن عبد الله بن مسعود؛ وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة، بزخرف أهل الأهواء، فهو شيطان.
فصل: والعاقل، إذا تأمل: ما عارض به أولئك الدعاة، إلى الشرك بالله في عبادته، كابن كمال، وغيره، من دعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل، يعلم: أن معارضتهم، قد اشتملت على أمور كثيرة.الأمر الأول: أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل، من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية، من هذا التوحيد، فهم في الحقيقة: إنما عارضوا الرسل، والكتب المنزلة عليهم، من عند الله. الأمر الثاني: تضمنت معارضتهم، قبول الشرك الأكبر، ونصرته، وهو: الذي أرسل الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه؛ وقد خالفوا جميع الرسل، والكتب، فهم في الحقيقة: قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه، من الأولين، والآخرين(3/237)
(ص241) الأمر الثالث: وقد تضمنت معارضتهم، أيضاً: مسبة من دعا إلى التوحيد، وأنكر الشرك، أسوة أعداء الرسل، كقوم نوح، إذ قالوا (إنا لنراك في ضلال مبين) [الأعراف: 60] وقال قوم هود: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين [الأعراف: 66] وقول، من قال: من مشركي العرب، للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) [الفرقان: 4] فالظلم والزور، في كلام هؤلاء، المنكرين للتوحيد: أمر ظاهر، يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم: كل من دعا إلى الإسلام، وعمل به، من الأولين والأخرين، كما أن من كذب رسولاً، بما جاء به من الحق، فقد كذب المرسلين، كما ذكره الله تعالى، في قصص الأنبياء؛ فمن أنكر ما جاءت به الرسل، فهو: عدو لهم.
الامرالرابع: وتضمنت معارضتهم , أيضا: الكذب , والإفك,والبهتان , وزخرف القول في ذلك, أسوة أعداء الرسل , الذين قال الله فيهم: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غروراً) [الأنعام: 112] فهذه حال كل داعية إلي الشرك بالله, في عبادته , من الأولين والآخرين؛ فإذا تأمل اللبيب: ما زخرفوه , وأتوا به من الفشر , والأكاذيب , وجدها كما قال تعالى: (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)(3/238)
(ص242) [النور: 39].
والأمر الخامس: معارضة أولئك , للآيات المحكمات البينات , التي هي في غاية البيان , والبرهان؛ وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد , فعارضوا بقول أناس من المتأخرين , لا يجوز الاعتماد عليهم , في أصول الدين , فيقولون: قال بن حجر الهيتمي , قال البيضاوي , قال فلان؛ ولا ريب أن: الزمخشري , وأمثاله من المعطلة: أعلم من هؤلاء , وأدري في فنون العلم , لكنهم اخطؤوا كخطأ هؤلاء , وفي تفسير الزمخشري , من دسائس الاعتزال , ما لا يخفى , وليسوا بأعلم منه.
وعلى كل حال: فليسوا بحجة , يعارض بها نصوص : الكتاب ,والسنة , وما عليه سلف الأمة , وأئمتها من الدين الحنيف , الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام , ودين الرسل , الذي قال الله تعالى فيه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً, والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) [الشورى: 13] , فأولئك المعارضون للحق , ممن ذكرنا وأمثالهم: فيهم شبه بمن قال الله فيهم: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون , قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) [الزخرف: 23 –24]وهذا على تقدير: أنهم أصابوا في(3/239)
(ص243) النقل عنهم , ولعلهم أخطؤوا , وكذبوا عليهم , والله أعلم.
والأدلة بالأجماع: ثلاثة؛ الكتاب , والسنة , وإجماع سلف الأمة, وأئمتها؛ وأما القياس الصحيح: فعند بعض العلماء حجة , إذا لم يخالف كتاباً , ولا سنة؛ فإن خالف نصاًأو ظاهراً , لم يكن حجة , وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء , سلفاً وخلفاً ,وتفصيل ذلك , في كتب أصول الفقه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " وكفر بما يعبد من دون الله " فهذا: شرط عظيم , لا يصح قول: لا إله إلا الله إلا بوجوده , وأن لم يوجد , لم يكن من قال لا إله إلا الله, معصوم الدم , والمال؛ لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فلم ينفعه القول , بدون الإتيان بالمعنى؛ الذي دلت عليه , من ترك الشرك , والبراءة منه وممن فعله ,فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه وعادى من فعل ذلك: صار مسلما , معصوم الدم , والمال؛ وهذا معنى , قول الله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) [البقرة: 256].
وقد قيدت لا إله إلا الله , في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال , لابد من الإتيان بجميعها , قولاً , واعتقاداً, وعملاً , فمن ذلك: حديث عتبان ,الذي في الصحيح " فإن(3/240)
(ص244) الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغى بذلك وجه الله " وفي حديث آخر: " صدقا من قلبه "، " خالصاً من قلبه " مستيقنا بها قلبه، غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود، إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها، ومضمونها كما قال تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19] فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل.
فلابد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة، علماً ينافي الجهل، بخلاف من يقولها، وهو لا يعرف معناها، ولابد من اليقين، المنافي للشك، فيما دلت عليه من التوحيد؛ ولابد من الإخلاص، المنافي للشرك، فإن كثيرا من الناس يقولها، وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده، وعمل به، ولابد من الصدق، المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق، الذي يقولها من غير صدق، كما قال تعالى: (يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم) [الفتح: 11] ولابد من القبول، المنافي للرد؛ بخلاف من يقولها، ولايعمل بها، ولابد من المحبة، لما دلت عليه، من التوحيد، والإخلاص، وغير ذلك؛ والفرح بذلك، المنافي لخلاف هذين الأمرين، ولابد من الانقياد بالعمل بها، ومادلت عليه مطابقة، وتضمنا، والتزاما؛ وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه.(3/241)
(ص245) وأنت أيها الرجل: ترى كثيراً ممن يدعى العلم، والفهم، قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه، من الطواغيت، فيثبتون مانفتة لا إله إلا الله، من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك ديناً، وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتمون أهله، وقد قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 2-3].
وهذا النوع من الناس، الذين قد فُتِنُوا، وفَتَنُوا، يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزؤون بهم، أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله تعالى، في أمثال هؤلاء: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)، [الزمر: 45].
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
الكلام في بيان ما أوردناه، على الجهمي، الذي في بني ياس.
أما الكلام في معنى لا إله إلا الله، فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهى: التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولوا العلم من خلقه، كما قال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم(3/242)
(ص246) قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل: عمران 18] فلا إله إلا الله، هي: كلمة الإسلام، لايصح اسلام أحد إلا بمعرفة ماوضعت له، ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به؛ وهي: كلمة الإخلاص، المنافي للشرك، وكلمة التقوى، التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة.
الأول: العلم بمعناها، نفياً وإثباتًا؛ الثاني: اليقين، وهو: كمال العلم بها، المنافي للشك والريب؛ الثالث: الإخلاص، المنافي للشرك؛ الرابع: الصدق، المانع من النفاق؛ الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك؛ السادس: القبول، المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها، لكن لايقبلها ممن دعاه إليها، تعصباً، وتكبراً، كما قد وقع من كثير؛ السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصاً لله، وطلباً لمرضاته.
إذا عرفت ذلك فقولك: لا إله إلا الله، فلا نافية للجنس، والإله هو المألوه بالعبادة، وهو الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع، أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات، والغائبين، والأصنام؛ فكل معبود: مألوه بالعبادة؛ وخبر: لا، المرفوع، محذوف، تقديره: حق، وقوله: إلا الله، استثناء من الخبر المرفوع، فالله سبحانة هو الحق، وعبادته وحده، هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا، في هذه الكلمة، قال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق(3/243)
(ص247) وأن مايدعون من دونه هو الباطل) [الحج: 62] فإلهية ما سواه باطل؛ فدلت الآية على: أن صرف الدعاء، الذي هو مخ العبادة عنه لغيره، باطل.
فتبين: أن الإلهية هي العبادة؛ لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى، فهو باطل، والقرآن كله، يدل على: أن الإلهية، هي العبادة، كما قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني) [الزخرف: 26-27] فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره، ثم قال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) [الزخرف: 28] أي: لا إله إلا الله؛ فعبر عن الإلهية بالعبادة، في النفي، والإثبات.
وقال تعالى: (قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا) [الجن: 20] فقوله: (قل إنما أدعو ربي) هو معنى: إلا الله في كلمة الإخلاص، وقوله: (ولا أشرك به أحدا) هو: المنفي في كلمة الإخلاص، بلا إله؛ فتبين: أن لا إله إلا الله، دلت على البراءة من الشرك في العبادة، في حق كل ما سوى الله، وقال الله تعالى: (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) [الزمر: 11] والدين، هو: العبادة.
وقال تعالى: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب) [الرعد: 36] (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) [الكهف: 110] أي:(3/244)
(ص248) الذي لا تصلح الإلهية إلاله وحده، فانتفت الإلهية، وبطلت في حق كل ماسوى الله؛ والقرآن: يبين بعضه بعضا، ويفسره، والرسل: إنما يفتتحون دعوتهم، بمعنى لا إله إلا الله (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [المؤمنون: 32] (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [الأعراف: 59، 65، 73، 85 وهود 61، 84].
فتبين: أن الإلهية، هي: العبادة؛ ولهذا قال قوم هود، لما قال: (ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)، (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا) [الأعراف: 70] ؟ فتبين بالآية: أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، فلم ينفوا ما نفيته لا إله إلا الله، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، لعدم قبولهم مادعاهم إليه، من إخلاص العبادة، كما قال تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) وهم الرسل جميعهم ( ألا تعبدوا إلا الله) [الأحقاف: 21] وهذا هو معنى: كلمة الإخلاص، الذي اجتمعت عليه الرسل.
فقوله: (ألا تعبدوا) هو معنى: (لا إله) وقوله: (إلا الله) هو: المستثنى في كلمة الإخلاص؛ فهذا: هو تحقيق معناها بحمد الله؛ وإنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له؛ فما ذكرناه في هذه الآيات، في معناها، كافٍ، وافٍ، شافٍ؛ ولله(3/245)
(ص249) الحمد والمنة.
وأما تعريف العبادة: فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله في الكافية الشافية:
مع ذل عابده هما قطبان
.
وعبادة الرحمن غاية حبه
.
مادار حتى قامت القطبان
.
وعليهما فلك العبادة دائر
.
لا بالهوى والنفس والشيطان
.
ومداره بالأمر أمر رسوله
.
فذكر: أصل العبادة، التي يصلح العمل مع حصولها، إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما: غاية المحبة لله، في غاية الذل له؛ والغاية تفوت بدخول الشرك، وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك، لابد أن يحب معبوده، ولابد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه، ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده؛ وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر، والدائر هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة.
وهذا معنى قول الفضيل بن عياض رحمه الله، في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه؛ قالوا: يا أبا علي، ماأخلصه، وأصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً، لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً؛ والخالص: ماكان لله؛ والصواب: ماكان(3/246)
(ص250) على السنة.
وأما أقسام التوحيد، فهي: ثلاثة؛ توحيد الإلهية، وهي: العبادة، كما تقدم؛ فهي تعلق بأعمال العبد، وأقواله الباطنة، والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام، ابن تيمية: العبادة اسم جامع، لكل مايحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله، فهو مشرك بالله؛ فهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة، في حق من لم يتب منه.
ويسمى هذا التوحيد، إذا كان لله وحده: توحيد القصد، والطلب، والإرادة؛ وهو: الذي جحده المشركون من الأمم؛ وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك؛ فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه ومن أسلافهم فيجاهدهم صلى الله عليه وسلم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا) إلى قوله (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) [ص: 4-6].
النوع الثاني: توحيد الربوبية، وهو العلم، والإقرار: بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم، كما قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء(3/247)
(ص251) والأرض أمن يملك السمع والأبصار) إلى قوله: (ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) [يونس: 31] وقال: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون) إلى قوله: (فأنى تسحرون) [المؤمنون: 84 – 89] وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع: قد أقر به المشركون، كما دلت عليه الآيات.
والنوع الثالث: توحيد الأسماء، والصفات؛ وهو: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، التي تعرَّف بها سبحانه إلى عباده، وينفي مالا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي: أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في: الكافية الشافية.
فأهل السنة والجماعة، سلفاً وخلفاً: يثبتون لله هذا التوحيد، على مايليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا النوع، والذي قبله، هو: توحيد العلم والإعتقاد.
وأما تعريف التوحيد، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في؛ الكافية الشافية، بقوله:
حيد كالركنين للبنيان
.
فالصدق والإخلاص ركنا ذلك التو
.التوحيد
فلا يزاحمه مراد ثان
.
وحقيقة الإخلاص توحيد المراد
.
الجهد لا كسلا ولا متوان
.
والصدق توحيد الإرادة وهو بذل
.
ثم ذكر توحيد المتابعة فقال:(3/248)
(ص252)
فتوحيد الطريق الأعظم السلطان
.
والسنة المثلى لسالكها
.
أعني طريق الحق والإيمان
.
فلواحدٍ كن واحداً في واحد
.
وقد ذكر؛ شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله، الإخلاص، بمثل ماذكره ابن القيم، رحمه الله، فقال: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه.
وأما: أقسام العلم النافع، الذي يجب معرفته، واعتقاده، فهو: يتضمن ماسبق ذكره، وهو: ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة: ابن القيم، رحمه الله، في: الكافية الشافية، قال:
من رابع خلوا عن الروغان
.
والعلم أقسام ثلاثة مالها
.
وكذلك الأسماء للرحمن
.
علم بأوصاف الإله وفعله
.
وجزاؤه يوم المعاد الثان
.
والأمر والنهي الذي هو دينه
.
وبهذا: تم الجواب عما أوردناه، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
وله أيضا رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله: أن كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، لا تنفع قائلها، إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله، والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله تعالى، بجميع أنواع العبادة، كما قال تعالى (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله) [آل: عمران 64](3/249)
(ص253) ومعنى: (سواء بيننا وبينكم) أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة على الله، وترك الشرك كله.
وقال الخليل عليه السلام: (إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبة) [الزخرف: 26-28] فهذا، هو حقيقة معنى: لا إله إلا الله؛ وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده؛ وهذا: هو معناها، الذي دلت عليه هذه الآيات، ومافي معناها؛ فمن تحقق ذلك، وعلمه، فقد حصل له العلم بها، المنافي لما عليه أكثر الناس، حتى من ينتسب إلى العلم، من الجهل بمعناها.
فإذا عرف ذلك، فلابد له من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد، لأن كثيراً ممن يقولها، ويعرف معناها، لا يقبلها، كحال مشركي قريش، و العرب، وأمثالهم، فإنهم عرفوا مادلت عليه، لكن لم يقبلوا، فصارت دماؤهم، وأموالهم، حلال لأهل التوحيد؛ فإنهم كما قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35 – 36] عرفوا: أن لا إله إلا الله، توجب ترك ماكانوا يعبدونه من دون الله.
ولابد أيضا من الإخلاص، المنافي للشرك، كما قال تعالى: (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، ، وأمرت لأن أكون أول المسلمين) إلى قوله: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ماشئتم من دونه) [الزمر: 11 – 15] وفي(3/250)
(ص254) حديث عتبان: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله "
ولا بد أيضا من المحبة، المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة، وقبول إلا بمحبة ما دلت عليه من الإخلاص، ونفي الشرك، فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا، فلا، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) [البقرة: 165] فصارت محبتهم لله ولدينه خاصة، فأحبوا لله ولدينه، ووالوا لله ولدينه؛ فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا من أبغضه الله وفي الحديث: " وهل الدين إلا الحب والبغض " ولهذا وجب: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من نفسه، ووالده، والناس أجمعين؛ فإن شهادة: ألا إله إلا الله، تستلزم شهادة أن محمداً رسول الله، وتقتضي متابعته، كما قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) [آل: عمران 31] ولابد أيضاً من الانقياد، لحقوق: لا إله إلا الله، بالعمل بما فرضه الله، وترك ما حرمه الله ، والتزام ذلك، وهو ينافي الشرك، فإن كثيراً ممن يدعى الدين، يستخف بالأمر والنهي، ولا يبالي بذلك والإسلام حقيقته: أن يسلم العبد بقلبه، وجوارحه، لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: (بلى(3/251)
(ص255) من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه) [البقرة: 112] وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) [لقمان: 22] وإحسان العمل، لابد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله ولا بد أيضاً: لقائل هذه الكلمة، من: اليقين بمعناها، المنافي للشك، والريب، كما في الحديث الصحيح: " مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها " ومن لم يكن كذلك، فإنها لا تنفعه، كما دل عليه حديث: سؤال الميت في قبره. ولابد أيضاً: من الصدق، المنافي للكذب، كما قال تعالى، عن المنافقين: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) [الفتح: 11] فالصادق: يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله، ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، فيصدق قلبه لسانه، فلا تصح هذه الكلمة، إلا إذا اجتمعت هذه الشروط، وبالله التوفيق. وقال أيضاً: رحمه الله تعالى، في جواب له: وسرنا ما ذكرت، من معرفتك جهل أكثر الناس، بمعنى: لا إله إلا الله، وإن تكلموا بها لفظاً، فقد أنكروها معنى، فانتبه لأمور ستة، أو سبعة، لا يسلم العبد من الكفر، والنفاق، إلا باجتماعها: وباجتماعها، والعمل(3/252)
(ص256) بمقتضاها، يكون العبد مسلماً؛ إذ لابد من مطابقة القلب للسان، علماً، وعملاً، واعتقاداً، وقبولاً، ومحبة، وانقياداً. فلا بّد من العلم بها، المنافي للجهل؛ ولابد من الإخلاص، المنافي للشرك؛ولا بّد من الصدق، المنافي للكذب، بخلاف المشركين، والمنافقين؛ ولا بّد من اليقين، المنافي للشك، والريب؛ فقد يقولها، وهو شاك في مدلولها، ومقتضاها؛ ولا بّد من المحبة، المنافية للكراهة، ولابد من القبول، المنافي للرد، فقد يعرف معناها، ولا يقبله، كحال مشركي العرب. ولابد أيضاً، من الانقياد، المنافي للشرك، لترك مقتضياتها، ولوازمها، وحقوقها، المصححة للإسلام، والإيمان؛ فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعاً، صرف الهمة، إلى تعلم معنى: لا إله إلا الله؛ وصار على بصيرة من دينه، وفرقان، ونور، وهدى، واستقامة؛ وبالله التوفيق وقال أيضاً: الشيخ عبدالرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: زعم من لا علم لديه: أن المستثنى بإلا، في لا إله إلا الله، دخل في عموم المنفي، في اسم لا؛ وهذا خطأ بين، من وجوه؛ الأول: أن النفي يناقض الإثبات، فاجتماع النفي، والإثبات في جملة، جمع بين النقيضين، وهما لا(3/253)
(ص257) يجتمعان، فيمتنع الجمع بينهما الثاني: أن لا النافية للجنس، لها اسم وخبر، ولابد؛ فلا تتم فائدة اسمها إلا بخبرها، والخبر الجزء المتم للفائدة، فـ"ـلا" حرف نفي، و" إله " اسمها، مبني معها على الفتح، والخبر المقدر، وهو " حق " على الصحيح، كما في قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) [الحج: 62]والخبر؛ وصف في المعنى، قيد في الإسم؛ وقد خص من الإلهية ما ليس بحق، وفائدته: إخراج الإله الحق من المنفي، لتخصيص المنفي، بانتفاء حقيقته، وهذا ظاهر لمن له أدنى فهم، فالاستثناء من الخبر، المقيد في حقيقة المستثنى، وهو الله تعالى، دون ما يعبد من دونه، وكل ما يعبد من دونه، هو المنفي، بحرف النفي، فيكون النفي منصباً على كل مألوه ليس بحق، وأما الحق، فثابت لم ينتف، بدليل الوصف المثبت له. الثالث: أن الآية، وهي قوله (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه) [الزخرف: 26-28] فأتى بمعناها، نفياً وإثباتاً، فيجري في مدلولها، ما جرى في الدال، وهو: لا إله إلا الله، فلا يجوز في قلب مسلم: أن يعتقد أن إبراهيم عليه السلام، تبرأ من معبوده، الذي فطره، بقوله: (إنني براء) ثم أثبته بقوله (إلا) هذا لا يقع اعتقاده من مسلم، عرف هذه الكلمة، ومعناها.(3/254)
(ص258) والحق الذي يجب اعتقاده، ويدان الله به، أن الخليل عليه السلام، تبرأ من كل ما كانوا يعبدونه، سوى الله سبحانه، المستحق للعبادة وحده، سبحانه، وبحمده؛ فاستثناه تعالى من معبوداتهم، لأنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون غيره، والقرآن يدل على هذا، كما هو ظاهر في آيات التوحيد، كما قال تعالى، عن الخليل عليه السلام، أنه قال لقومه: (أئفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين) [الصافات: 86-87]وقال: (وأعتزلكم وماتدعون من دون الله وأدعوا ربي) [مريم: 48] وقال عن أصحاب الكهف: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) [الكهف: 16] لكن الجاهل أعمى، ولهذا تجد أكثرهم يتعصب لجهله (ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور) [النور: 40] وصلى الله على محمد.
وله أيضاً رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد الرحمن بن حسن، إلى: الإمام المكرم: فيصل، كرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد، والتنديد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته(3/255)
(ص259) وبعد: فاعلم أن " لا إله إلا الله " لها معنى عظيم، يستضيء به قلوب أهل الإسلام، والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وخلقهم لأجله، والقرآن من أوله إلى آخره: يبين معنى هذه الكلمة. ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء، من أئمة الإسلام؛ فدونك كلام العماد ابن كثير، رحمه الله، في تفسير سورة: (قل يا أيها الكافرون) ذكر أن هذه السورة، سورة البراءة من العمل، الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشاً دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون إلهه سنة؛ فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: (لا أعبد ما تعبدون) يعني من الأصنام، والأنداد، (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وهو الله وحده؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ والمشركون يعبدون غير الله.قلت: فدلت هذه السورة الكريمة. على البراءة من عبادة أصنام المشركين، وأوثانهم؛ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دين المشركين، وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات، والعزى، ومناة، وغيرها؛ وقد أخبر الله عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه قال لأبيه، وقومه: (ما) ذا كنتم (تعبدون) الآيات [الشعراء: 70 –77] فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها، وهي موجودة في الخارج؛واستثنى(3/256)
(ص260) من معبوداتهم: رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام. فاستثنى المعبود الحق، الذي لا تصلح العبادة إلا له، فأخبر تعالى أنه قال لقومه: (أئفكا آلهة دون الله تريدون) [الصافات: 86] وأخبر عنه أنه قال لقومه: (إنني براء مما تعبدون.إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه) [الزخرف: 26- 28] وهي: " لا إله إلا الله " بإجماع أهل الحق، فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم، التي كانوا يعبدونها في الخارج، فقوله: (إنني براء مما تعبدون) هو معنى النفي في قوله: " لا إله " وقوله: (إلا الذي فطرني) هو معنى: إلا الله وهكذا كافٍ في البيان لمثلك، الذي قد عرفه الله معنى: لاإله إلا الله.وهذا المعنى في هذه الكلمة، يعرفه حتى المشركون، كما قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) الآية [الصافات: 35] عرفوا أن لا إله إلا الله، علم على ترك عبادة آلهتهم، التي كانوا يعبدونها، من أوثانهم، وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل، كما قالت عاد: (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبائنا) [الأعراف: 70] عرفوا على شدة كفرهم، أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم، فتبين بهذا: أن لا إله إلا الله، نفت كل ما كان يعبد من دون الله، من صنم، ومن وثن، من حين حدوث الشرك في قوم نوح، إلى أن تقوم(3/257)
(ص261) الساعة وهذا المعنى: أكثر أهل العلم يسلمونه، يعرفونه، حتى الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمتكلمون، من كل أشعري، وكرامي، وما تريدي؛ وإنما اختلفوا في العمل، بلا إله إلا الله؛ فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا؛ فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة، وأهل الاتحاد، فإنهم لا يقولون بهذا المعنى، ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي بلا إله إلا الله، كلي، لايوجد منه في الخارج، إلا فرد، وهو الله، فهو المنفي، وهو المثبت؛ بناءً على مذهبهم، الذي صاروا به أشد الناس كفراً، وهو قولهم: إن الله، هو الوجود المطلق؛ فلم يخرجوا من ذلك، صنماً، ولا وثناً وشبيه قولهم هذا: قول أهل وحدة الوجود، القائلين بأن الله تعالى، هو الوجود بعينه؛ فيقولون: إن المنفي، كلي، والمثبت بقوله: " إلا الله " هو الوجود بعينه؛ ولا فرق عند الطائفتين، بين الخالق، والمخلوق، ولا بين العابد، والمعبود؛ كل شيء عندهم، هو الله، حتى الأصنام، والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء.
فخذ قولي، واقبله، وفقك الله؛ فلقد عرفت بحمد الله، ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد؛ ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة، أن(3/258)
(ص262) تقدير خبر " لا " وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود؛ وإنما وضعت لنفي الشرك والبراءة منه وتجريد التوحيد كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. وتقدير خبر " لا " موجود؛ لا يجري إلا على مذهب الطائفتين، لعنهم الله، على قولهم: إن الله هو الموجود، فلا وجود إلا الله، فهذا معنى قوله: إنه كلي، لا يوجد منه في الخارج، إلا فرد؛ فغير المعنى، الذي دلت عليه لاإله إلا الله، من نفى جميع المعبودات التى تعبد من دون الله؛ والمنفي إنما هو حقيقتها، كما قال المسيح عليه السلام: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) [المائدة: 116]
ولا ريب: أن كل معبود سوى الله، فهو باطل؛ والمنفي بلا إله إلا الله، هو المعبودات الباطلة، والمستثنى بإلا، هو سبحانه، ويدل على هذا، قوله تعالى، في سورة الحج: (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى) الآية [الحج: 6] وقال في آخر السورة: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) [الحج: 62] وقال في سورة لقمان: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) [لقمان: 30]. فقوله) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) [لقمان: 30]. فقوله: (ذلك بأن الله هو الحق) هو المستثنى: إلا " الله " وهو الحق، وقوله: (وأن ما يدعون من دونه هو(3/259)
(ص263) الباطل) هو المنفي بلا إله، وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم، في معنى كلمة الإخلاص، فكابر المعقول والمنقول، بدفعه ما جاء به كل رسول. نسأل الله لنا ولكم: علماً نستضيء به جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين؛ وفي الحديث: " رب لاتزغ قلبي بعد إذ هديتني " وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يقرأ في الركعة الأخيرة من المغرب: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل: عمران 8] وهذا بحمد الله كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل؛ وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. وله أيضاً، مع مشاركة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، وعلى بن حسين، وإبراهيم بن سيف، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، رزقنا الله وإياهم الفقه في الدين، والإيمان، واليقين؛ سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، ونذكركم ما أنعم الله به علينا، وعليكم، من دين الإسلام، الذي رضيه لكم ديناً؛ كما قال تعالى)اليوم(3/260)
(ص264) أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3] وهو الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل: عمران 85] وليس الإسلام بمجرد الدعوى، والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد، والخضوع، والإذعان له بالربوبية، والإلهية، دون كل ما سواه، كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) الآية [البقرة: 256] وقال: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) إلى قوله: (كل حزب بما لديهم فرحون) [الروم: 30 –32] وقال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) الآية [البينة: 5] وقال: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) الآية [يوسف: 40] وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25] وقال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين) [فصلت: 6] والإله: الذي تألهه القلوب، محبةً، ورجاءً، وتعظيماً، وتوكلاً، واستعانة، ونحو ذلك من أنواع العبادة، الباطنة، والظاهرة(3/261)
(ص265) فالتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، كما تقدم بيانه، ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطناً وظاهراً، كما ذكر الله تعالى ذلك عن إمام الحنفاء، عليه السلام، بقوله: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الآية [الزخرف: 26]وقوله: (يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) [الأنعام: 78 –79] فتأمل: كيف ابتدأهم بالبراءة من المشركين، وهذا هو حقيقة معنى: لا إله إلا الله، ومدلولها، لا بمجرد قولها باللسان، من غير معرفة وإذعان، لما تضمنته كلمة الإخلاص، من نفي الشرك، وإثبات التوحيد؛ والجاهلون من أشباه المنافقين: يقولونها بألسنتهم، من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها؛ ولهذا تجد كثيراً ممن يقولها باللسان، إذا قيل له: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، اشمأز من هذا القول، كما قال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: 45] وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) [يونس: 105- 106] والحنيف، هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وقد قال تعالى: (فإياي فاعبدون)(3/262)
(ص266) [العنكبوت: 56] وتقديم المعمول: يفيد الحصر، كما في هذه الآية، وأشباهها. قال: العماد بن كثير، رحمه الله، في معنى قوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) [البقرة: 130] فيها: الرد على المشركين، المخالفين لملة إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك قومه، حتى تبرأ من أبيه، كما ذكر الله ذلك عنه في قوله: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) الآية [مريم: 48 –49] وكيف بادأهم بذكر اعتزالهم أولاً ثم عطف عليه باعتزال معبوداتهم، كما في سورة الكهف: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) [الكهف: 16] وهذا هو حقيقة التوحيد. وقد أرشد الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين: أن يأتموا بخليله في ذلك، ويتأسوا به، فقال: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 4]
ولهذا الأصل العظيم، الذي هو ملة إبراهيم: شرع الله جهاد المشركين، فقال: (وقاتلوا المشركين كافة كما(3/263)
(ص267) يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) [التوبة: 36] وفي الحديث: " بعثت بالسيف، بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لاشريك له " ومع هذا: حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من الركون إليهم، فقال: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [الإسراء: 74-75] وقال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) الآية [هود 113]؛ وأظلم الظلم: الشرك بالله؛ كما قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13] وقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)الآية [الممتحنة: 1]؛ ومن المعلوم: أن الذين نزلت فيهم هذه الآية في التحذير عن توليهم، ليسوا من اليهود، ولا من النصارى؛ ولا ريب أن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين، البراءة من كل مشرك، وإظهار العداوة لهم، والبغضاء، وحرم على المؤمنين موالاتهم، والركون إليهم.
ومعلوم أن مشركي العرب، لا يقولون: إن آلهتهم تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؛ وشركهم: إنما هو في التأله، والعبادة، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) الآية [البقرة: 165] وقال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون(3/264)
(ص268) الله من لايستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) والآية الثانية، [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد: 14] وقال تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) [فاطر: 13، 14] والآيات في بيان الشرك في العبادة، وأنه دين المشركين، وما تضمنه القرآن من الرد عليهم، وبيان ضلالهم، وضياع أعمالهم: أكثر من أن تحصر؛ ويكفي اللبيب الموفق لدينه بعض ما ذكرناه، من الآيات المحكمات؛ وأما من لم يعرف حقيقة الشرك، لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، فكيف يعرف التوحيد، ومن كان كذلك، لم يكن من الإسلام في شيء، وإن صام، وصلى، وزعم انه مسلم.وأما من شرح الله صدره للإسلام، وأصغى قلبه إلى ذكر الله، من الآيات المحكمات، في بيان التوحيد، المتضمن لخلع الأنداد، التي تعبد من دون الله، والبراءة منها، ومن عابديها: عرف دين المرسلين، كما قال تعالى: (ولقد بعثنا(3/265)
(ص269) في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع. وكلما ازداد العبد تدبراً، لما ذكره الله تعالى في كتابه، من أنواع العبادة، التي يحبها الله من عبده، ، ويرضاها، عرف أن من صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك، كما قال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) الآية [الكهف: 110] ويجمع أنواع العبادة، تعريفها، بأنها: كل ما يحبه الله، ورسوله، من الأقوال، والأعمال، الظاهرة، والباطنة.إذا فهمتم ذلك، وعقلتموه، علمتم: أن من المصائب في الدين، ما يقع اليوم، من كثير ممن يدعى الإسلام، مع هؤلاء، الذين يأتونهم من أهل الشمال، وهم يعلمون: أن الأوثان التي تعبد، وتقصد بأنواع العبادة، موجودة في بلادهم؛ وأن الشرك: يقع عندهم، من الأقوال، والأعمال؛ ولا يحصل منهم نفرة، ولا كراهة له؛ مثل هؤلاء الذين لا يعرف منهم، أنهم عرفوا ما بعث الله به رسوله، من توحيده، وأنكروا الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله؛ بل الواقع منهم: إكرامهم، وإعظامهم؛ بل زوجوهم نساءهم؛ فأي موالاة أعظم من هذا ! وأي ركون أبين من هذا، أين العداوة لهم والبغضاء ؟ هل كان ذلك الذي شرع الله، وأوجبه على عباده، خاصاً بأناس كانوا فبانوا ؟ والناس بعد أولئك القرون(3/266)
(ص270) قد صلحوا ؟ أم كان الشرك ؟ وله أيضاً قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من أهل القصيم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: اعلموا وفقنا الله وإياكم، لمعرفة العلم النافع، والعمل به؛ تفهمون: أن الله سبحانه منَّ على أهل نجد، بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه؛ وهذه نعمة عظيمة، خص الله أهل نجد بالقيام فيها، من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها. والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار، بقوله (أولئك هم الغافلون) [الأعراف: 179] وذم أهل الإعراض، بقوله: (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) [طه: 124] وهو القرآن؛ ولا تعرفون العبادة، التي خلقكم الله لها، إلا من القرآن؛ والقرآن من أوله، إلى آخره، يبين لكم كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله " ولا يصح لأحد إسلام، إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة، من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده، لا شريك له؛ والموالاة في ذلك(3/267)
(ص271) فمن الآيات، التي بين الله تعالى فيها، هذه الكلمة، قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه) [الزخرف: 26-28] وهي: لا إله إلا الله؛ وقد افتتح قوله، بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموماً، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو: الله تعالى، الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له. ونوع تعالى البيان، لمعنى هذا الكلمة، في آيات كثيرة، يتعذر حصرها، كقوله تعالى: قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) [آل عمران: 64] والكلمة، هي: لا إله إلا الله؛ بالإجماع، ففسرها بقوله: (سواء بيننا وبينكم) أي نكون فيها سواء، علماً، وعملاً، وقبولاً، وانقياداً، فقال: (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً) فنفي ما نفته: لا إله إلا الله، بقوله: (ألا نعبد) وأثبت ما أثبتته: لا إله إلا الله، بقوله: (إلا الله) وقال: (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) [يوسف: 40] فهذا أعظم أمر، أمر الله به عباده، وخلقهم له؛ ففي قوله: (ألا تعبدوا) نفي الشرك، الذي نفته : لا إله إلا الله؛ وقوله: ( إلا إياه) هو: الإخلاص، الذي أثبتته: لا إله إلا الله، وقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] قضى: أى أمر (ألا تعبدوا) فيه من النفي، ما في معنى: لا إله، وقوله (إلا إياه) هذا هو الإثبات،(3/268)
(ص272) الذي أثبته: لا إله إلا الله؛ وقال الذي أثبتته: لا إله إلا الله؛ وقال تعالى: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) [الرعد: 36] فهذا هو الذي أمر به صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إليه، وهو: إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك، قولاً، وفعلاً، واعتقاداً وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا، هو: حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) [الأنبياء: 108] بين تعالى: أن توحيد الإلهية، هو الإسلام، والأعمال كلها، لا يصلح منها شيء، إلا بهذا التوحيد؛ وهو: أساس الملة، ودعوة المرسلين؛ والدين كله، من لوازم هذا الأصل، وحقوقه. وقد قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [صّ: 29] فمن تدبر القرآن، وتذكر به، عرف حقيقة دين الإسلام، الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3] هذا: ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم.(3/269)
(ص273) وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلي الإخوان: الأمير محمد بن أحمد، والشيخ: عبد اللطيف بن مبارك، وأعيان أهل الاحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم، الاعتصام بالكتاب، والسنة؛ وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع، والأهواء؛ ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله، من النور والهدى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإن الباعث على هذا الكتاب، هو النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأوصيكم: بما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله؛ وما تضمنته من نفي الإلهية عما سوى الله؛ وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بعث الله به رسله من التوحيد، كما قال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)[فصلت: 6]
وقال تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن(3/270)
(ص274) خلفهم ألا تعبدوا إلا الله) [فصلت: 13، 14] وهذه الآية، وما في معناها: تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه، ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم؛ والقرآن من أوله إلى آخره: يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غناء لأحد عن معرفته، والعمل به باطناً وظاهراً. قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ وقال تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين) [الزمر: 11، 12] وهذا هو مضمون شهادة: ألا إله إلا الله؛ كما تقدمت الإشارة إليه. ومضمون شهادة: أن محمداً رسول الله، وجوب اتباعه، والرضى به نبياً ورسولاً، ونفي البدع، والأهواء المخالفة لما جاء به صلى الله عليه وسلم فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك وقبوله، ومحبته والانقياد له، قولاً وعملاً، باطناً وظاهراً.
وله: أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح الشثري، وزيد بن محمد، وإخوانهم، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن(3/271)
(ص275) الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها؛ وأوصيكم: بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس، في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر، ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه، وملزوماته، ومكملاته، ومقتضايته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته.
فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه: آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه، وصفاته، التي تجلو الريب والشك، عن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد، (إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدىء ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد) [البروج: 12 –16]
فقد عمت البلوى، بالجهل المركب؛ والبسيط، (إن الله بما يعلمون محيط) [آل: عمران 120] فالله الله، في التحفظ على القلب، بكثرة الاستغفار من الذنب، جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله.
وسئل رحمه الله تعالى: عمن يعرف التوحيد، ويعتقده، ويقرأ في التفسير، كتفسير البغوي، ونحوه، هل له أن يحدث بما سمعه، وحفظه، من العلم، ولو لم يقرأ في النحو، أو لا ؟(3/272)
(ص276) فأجاب: من المعلوم أن كثيراً من العلماء، من المحدثين، والفقهاء، إنما كان دأبهم، طلب ما هو الأهم، والنحو إنما يراد لغيره، فيأخذ الرجل منه ما صلح لسانه؛ فانشر ما علمت من العلم، خصوصاً علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات، كالشمس في نحر الظهيرة، لمن رغب فيه، وأحبه وأقبل عليه.
وقد عرفت: أن كتمان العلم، مذموم، بالكتاب، والسنة، كما قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [البقرة: 159] وقد أرشد الله تعالى عباده، إلى تدبر كتابه، وذم من لم يتدبره، وقد قال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) [العنكبوت: 51] 0
وأخبر عن جن نصيبين، أنهم لما سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، بوادي نخلة، منصرفة من الطائف: (ولًّو إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) الآية [الأحقاف: 29 – 31] وأخبر تعالى عنهم، في سورة الجن، أنهم أنكروا الشرك، الذي كان يفعله الإنس مع الجن، من الاستعاذة بهم، إذا نزلوا وادياً.
وأخبر تعالى: عن هدهد سليمان، أنه أنكر الشرك،(3/273)
(ص277) وهو: طائر من جملة الطير، قال تعالى: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض) الآية [النمل: 22 –25]
فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه، من السجود لغير الله؛ والسجود نوع من أنواع العبادة، فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك، ما عرف الهدهد؛ فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد، في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله
وقال أيضاً الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
فائدة: عظيمة النفع، لمن تدبرها، وفهمها، في حقيقة التوحيد والمتابعة؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله في: كتاب المفتاح؛ الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن الله سبحانه خلق خلقه، لعبادته، الجامعة لمحبته ومرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونصب للعباد علماً، لا كمال لهم إلا به – وهو: أن تكون حركاتهم كلها، واقعة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، فكمال العبد،(3/274)
(ص278) الذي لا كمال له إلا به، أن تكون حركاته: موافقة لما يحبه الله ويرضاه؛ ولهذا جعل اتباع رسله دليلاً على محبته، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31]
قال بعض العلماء، المحب الصادق: إن نطق نطق بالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضاة الله، فهو لله وبالله، ومع الله؛ ومعلوم: أن صاحب هذا المقام، أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها، ولا السكون المحبوب له من غيره، إلا بالعلم، فليست حاجته إلى العلم، كحاجة من طلب العلم لذاته، لأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إلى العلم، كحاجته إلى الطعام والشراب
ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين، لمريديهم بالعلم وطلبه، وأن من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له، من السفلة؛ قال ذو النون – وقد سئل عن السفلة – فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى، ولا يتعرفه
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى الرجل، وقد أعطى من الكرامات، حتى يترفع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه، عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، ومعرفة الشريعة؛ وقال أبو حمزة: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه؛ ولا دليل إلى الله، إلا بمتابعة(3/275)
(ص279) رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وقال محمد بن فضل، الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف؛ صنف: لا يعملون بما يعلمون؛ وصنف: يعلمون بما لا يعلمون؛ وصنف: لا يعلمون، ولا يعملون؛ وصنف: يمنعون الناس من التعلم.
قلت: الصنف الأول، من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة؛ فإنه حجة لهم، في كل نقيصة، ومحسنة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله، وهذان الصنفان، هما اللذان ذكرهما بعض السلف، في قوله: احذروا فتنة، العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم، وعبادهم فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة: عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
الصنف الثالث: الذين لا علم لهم، ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة؛ الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض؛ وهم: الذين يثبطون الناس عن طلب العلم، والتفقة في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب، وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعة الأصناف، هم الذين ذكرهم هذا(3/276)
(ص280) العارف، رحمه الله تعالى؛ وهؤلاء كلهم، على شفا جرف هار، وعلى سبيل هلكة، وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله، ما يلقاه من الأذى والمحاربة، إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في مرضاته (إنه بعباده خبير بصير) [الشورى: 27] ولا ينكشف سر هذه الطوائف، وطريقتهم، إلا بالعلم؛ فعاد الخير بحذافيره، إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه؛ انتهى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن عبد اللطيف، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: هذا الوجه من أنفع ما رأيت، في تحقيق التوحيد، والمتابعة، فأنت اقرأه على الإمام، فيا سعادة من عقله، وصار على باله، والله أعلم.(3/277)
(ص281) قال الإمام: فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي بن سعود، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أشراف اليمن، وعلمائهم، ووجوه القبائل؛ سلمهم الله من النار، ومن غضب الجبار، ورزقهم إخلاص العبادة للواحد القهار، ووفقهم لاتباع سبيل محمد النبي المختار، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، المقربين منهم، والأبرار، وسلم تسليماً، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد وصل إلينا من جهتكم الشيخ: صالح ابن سعيد الجوني، فأحببت أن أكتب معه إليكم: نصيحة مختصرة؛ وفي الحديث: " الدين النصيحة " وهو من الأحاديث الصحيحة، فأعظم ما يستنصح به العبد، وينصح به غيره، الإيمان بالله، والعمل له، والتواصي بالحق، والصبر عليه.
فأصل دين الإسلام، وأساسه الذي تنبني عليه الأعمال، وتصح به الأقوال والأفعال، هو: إخلاص العبادة بجميع(3/278)
(ص282) أنواعها لله تعالى، وهي منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح؛ ولا يكون مخلصاً، إلا بترك الشرك في العبادة، والبراءة منه.
وأفضل الأعمال: الأركان الخمسة، التى أعظمها تجريد التوحيد، والبراءة من الشرك، والتنديد، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى: 13] وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الرسل، ثم قال: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم) الآيات [الشورى: 15 –17].
وقال تعالى، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف: 108] فسبيله، وسبيل اتباعه: النهي عن الشرك، والدعوة إلى الإخلاص؛ ولهذا قال: (وما أنا من المشركين).
وقد بين تعالى: ما وصى به عباده من ذلك، وما نهى عنه من الشرك في العبادة، فأخبر عن رسوله نوح، ومن بعده من الرسل، عليهم السلام، أنهم قالوا لقومهم: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [الأعراف: 59، 73، 85] (ألا تعبدوا إلا الله) [هود: 2] وقال خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)(3/279)
(ص283) [الإسراء: 23] قال العلماء رحمهم الله تعالى؛ (قضى) وصى، وقيل؛ أمر، وهما بمعنى واحد.
وقال تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين) [الزمر: 11، 12] والإسلام، وهو: الإخلاص، لأنه شرط لكل عمل، وكل عمل مفتقر إليه، وقد فسره علماء السلف، بالإخلاص، كما في قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) [البقرة: 112] وقوله: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن) [لقمان: 22] قالوا: إسلام الوجه، الإخلاص، والإحسان، والمتابعة؛ والقرآن من أوله إلى آخره، وكذلك السنة، في تقرير هذين الأصلين.
ومن تدبر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته، وبعدها، وما كان عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة، عرف: حقيقة دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه؛ وتبين له: كثرة المنحرفين عنه، في هذه الأزمنة، وقبلها؛ فإن الأمة بعد القرون الثلاثة: افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، وذلك بعد ظهور دول الأعاجم، والقرامطة في المشرق؛ وبني عبيد القداح، في مصر والمغرب؛ وظهرت الفلسفة، وغيرها، من أصول البدع، وظهر الشرك.
وكل قرن ينحل عقد الإسلام، حتى اشتدت الغربة، وعظم الافتراق، وعاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ونشأ(3/280)
(ص284) عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وجهل الناس التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وبعث به إمامهم، وسيدهم: محمد صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في الشرك، الذي نهى الله عنه، ورسوله، حتى ظنوه من أفضل القربات (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) [النجم: 23]
فيجب على من نصح نفسه، وطلب لها الخلاص من عذاب الله، أن يسعى في خلاصها، بالإخلاص لله وحده، بجميع أنواع العبادة، التي موردها القلب، واللسان، والجوارح؛ ويطلب العلم، الذي ينجو به من النار، ويدخل به جنات تجري من تحتها الأنهار، ويصح به إيمانه، وتنفعه معه أعماله.
ومن عرف ما جرى من الأمم مع الرسل، وما ذكره الله عن الأكثر، وما جرى من اليهود مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يغتر بكثرة المخالفين لهذا الدين، ولا يصدفه عن الحق المبين، زخرف الملحدين المزخرفين، كما قال تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) [الأعراف: 102] وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف: 103] وقال في حال اليهود: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) [البقرة: 89] وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله: اليهود(3/281)
(ص285) والنصارى ؟ قال " فمن ؟" يعني أنهم هم المراد؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة، رحمه الله: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى؛ هذا وهو في القرن الثاني، من القرون الثلاثة المفضلة، فما الظن بمن بعدهم من القرون ؟ التي فيها هؤلاء الخلوف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بنص الحديث، وفي حديث أنس مرفوعاً: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم عزَّ وجلَّ " سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لما اشتدت غربة الإسلام، في هذه الأزمان، وقبلها، عاد الأمر إلى: أن من دعا بدعوى المرسلين، وقال: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه؛ قيل له: تنقصت الأنبياء، والصالحين؛ فأشبهوا من قال الله فيهم: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: 45]. وقد أمر الله تعالى، بإخلاص العبادة له، في مواضع كثيرة، من كتابه، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته، أن يدعوا أحداً من دونه، فقال: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) الآية [يونس: 106] وقال: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) [الشعراء: 213] وقال: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله(3/282)
(ص286) إلا هو) [القصص: 88] وقال (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي) [غافر: 66] وقال: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم) الآية [الأنعام: 56] وهذه الآيات: تحقق أن الدعاء عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك بالله، وقد قال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) إلى قوله: (قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحداً)[الجن 18-20]
وقال: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) [المؤمنون: 117] فبين في هذه الآية: أن دعوة غيره كفر، كما قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد: 14].
فتدبروا: ما في هذه الآيات، من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، والبيان الذي لا يخفى، حتى على البليد. وهذا النهي: عام، يتناول كل مدعو من الأنبياء فمن دونهم، كما قال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا(3/283)
(ص287) يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [الإسراء: 56، 57]. نزلت هذه الآيات، فيمن يدعو: المسيح بن مريم، وأمه، وعزيراً، والملائكة، على الصحيح، من أقوال المفسرين؛ وعليه أكثرهم؛ يقول الله، هؤلاء عبيدي، كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي.
ولا ريب أن: المسيح بن مريم، والملائكة، أحياء، لكنهم غافلون عمن دعاهم، ولا يستجيبون لهم بشيء؛ وأما: العزير، ومريم، فقد ماتا، فلا يدعى ميت، ولا غائب، فبطل بهذه الآية: كل ما ادعاه المشركون، في معبوديهم، كقولهم: ندعوهم، لأن لهم صلاحاً، وترجى شفاعتهم؛ ونظائر هذه الآية، في القرآن كثير، في الرد على من دعا الأنبياء، والصالحين، والملائكة ونحوهم.
ومع هذا البيان، فلا بد من وجود من يجادل في آيات الله، كما قال تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) الآية [غافر: 4، 5] وقال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن(3/284)
(ص288) أطعتموهم إنكم لمشركون) [الأنعام: 121]. يخبر تعالى: أنه لابد للحق من أعداء، يجادلون في آيات الله وحججه، وبيناته، تحذيراً عنهم، وعن الإصغاء إليهم وإلى شبهاتهم، وعن طاعتهم، فأقام تعالى الحجة على عباده، وحذر، وأنذر، وبين، وأظهر (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) [الأنعام: 149].
وكل شبهة، يلقيها أهل الباطل، على أهل الحق، ففي الكتاب والسنة، وما يبطلها، كما قال تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً)[الفرقان: 33].(3/285)
(ص289) سئل الشيخ: عبد الله، بن عبد الرحمن، أبا بطين، رحمه الله تعالى. ما قولكم دام فضلكم، في تعريف العبادة، وتعريف توحيد العبادة، وأنواعه ؟ وتعريف الإخلاص ؟ وما بين الثلاثة، من العموم، والخصوص ؟ وهل هو مطلق، أو وجهي ؟ وما معنى الإله ؟ وما معنى الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه، والكفر به ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين؛ أما العبادة في اللغة، فهي: من الذل؛ يقال؛ بعير معبد، أي: مذلل، وطريق معبد، إذ كان مذللاً، وقد وطأته الأقدام، وكذلك الدين أيضاً، من الذل، يقال دنته، فدان، أي: ذللته، فذل؛ وأما تعريفها في الشرع، فقد اختلفت عباراتهم، في تعريفها، والمعنى واحد. فعرفها طائفة بقولهم، هي: ما أمر به شرعاً، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ وعرفها طائفة بأنها: كمال الحب مع كمال الخضوع؛ وقال ابو العباس، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة، والظاهرة(3/286)
(ص290) فالصلاة، والزكاة، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار، والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك، من الآدميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك، من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمته، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك؛ فالدين كله داخل في العبادة انتهى.
ومن عرفها بالحب من الخضوع، فلأن الحب التام، مع الذل التام، يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له؛ فالعبد، هو الذي ذله الحب، والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه، تكون طاعته، فمحبة العبد لربه، وذله له يتضمن عبادته وحده لا شريك له؛ والعبادة المأمور بها، تتضمن معنى الذل، ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله، بغاية المحبة له؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
مع خضوع القلب والأركان
.
ليس العبادة غير توحيد المحبة
.
وبغض ما لا يرتضى بجنان
.
والحب نفس وفاقة فيما يحب
.
والقصد وجه الله ذي الإحسان
.
ووفاقه نفس اتباعك أمره
.(3/287)
(ص291) فعرف العبادة: بتوحيد المحبة، مع خضوع القلب، والجوارح؛ فمن أحب شيئاً، وخضع له، فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة، عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة؛ فالمحبة والخضوع: ركنان للعبادة، فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر، فمن خضع لإنسان مع بغضه له، لم يكن عابداً له؛ ولو أحب شيئاً، ولم يخضع له، لم يكن عابداً له؛ كما يحب ولده، وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة الكاملة، والذل التام إلا الله سبحانه.
إذا عرف ذلك، فتوحيد العبادة، هو: إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة المتقدم تعريفها، وهو نفس العبادة المطلوبة شرعاً، ليس أحدهما دون الآخر؛ ولهذا قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة، فمعناه التوحيد؛ وهذا: هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وأما العبادة من حيث هي، فهي أعم من كونها توحيداً عموماً مطلقاً، فكل موحد عابد لله، وليس كل من عبد الله يكون موحداً؛ ولهذا يقال عن المشرك: إنه يعبد الله، مع كونه مشركاً، كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) [الشعراء: 75 –77] وقال عليه السلام: (إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) [الزخرف(3/288)
(ص292): 26، 27] فاستثنى الخليل ربه من معبوديهم، فدل على أنهم يعبدون الله.فإن قيل: ما معنى النفي في قوله سبحانه: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) [الكافرون: 3] قيل: إنما نفى عنهم، الاسم الدال على الوصف، والثبوت؛ ولم ينف وجود الفعل، الدال على الحدوث، والتجدد؛ وقد نبه ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذا المعنى اللطيف، في بدائع الفوائد، فقال: لما انجر كلامه على سورة (قل يا أيها الكافرون) وأما المسألة الرابعة، وهو أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى.
وذلك – والله أعلم – لحكمة بديعة، وهي: أن المقصود الأعظم، براءته من معبوديهم، بكل وجه، وفي كل وقت؛ فأتى أولاً، بصيغة الفعل، الدالة على الحدوث، والتجدد؛ ثم أتى في هذا النفي، بعينه، بصيغة اسم الفاعل، الدالة على الوصف، والثبوت؛ فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني؛ وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي، ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله، لا تكون فعلاً لي، ولا وصفاً فأتى بنفيين، لمنفيين، مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف، والثبوت، دون الفعل؛ أي: الوصف الثابت، اللازم للعابد لله، منتف عنكم، فليس هذا الوصف، ثابتاً لكم، وإنما(3/289)
(ص293) يثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، لم يشرك معه فيها أحداً؛ وأنتم لما عبدتم غيره، فلستم من عابديه، وإن عبدتموه في بعض الأحيان، فإن المشرك: يعبد الله، ويعبد معه غيره، كما قال تعالى، عن أهل الكهف: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) [الكهف: 16] أي اعتزلتم: معبوديهم، إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قول المشركين، عن معبوديهم: (وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر: 3] فهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، لم ينف عنهم الفعل، لوقوعه منهم، ونفي الوصف، لأن من عبد غير الله، لم يكن ثابتاً على عبادة الله، موصوفا ًبها. فتأمل: هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها: أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وإن عبده، ولا المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحداً في عبادته، وأنه إن عبده، وأشرك به غيره، فليس عابداً لله، ولا عبداً له؛ وهذا من أسرار هذه السورة، العظيمة، الجليلة، التي هي أحد سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن، وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه، إلا من منحه الله، فهما من عنده، فله الحمد والمنة، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وأما الإخلاص، فحقيقته: أن يخلص العبد لله، في أقواله، وأفعاله، وإرادته، ونيته؛ وهذه، هي: الحنيفية،(3/290)
(ص294) ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي: حقيقة الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران: 85] وهي ملة إبراهيم، التي من رغب عنها، فهو من أسفه السفهاء (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) [البقرة: 130].وقد تظاهرت دلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على اشتراط الإخلاص، للأعمال، والأقوال، الدينية؛ وأن الله لا يقبل منها، إلا ما كان خالصاً، وابتغى به وجهه؛ ولهذا كان السلف الصالح، يجتهدون غاية الاجتهاد، في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء، وأشقها على النفس؛ وذلك لمعرفتهم بالله، وما يجب له، وبعلل الأعمال، وآفاتها؛ ولا يهمهم العمل، لسهولته عليهم؛ وإنما يهمهم سلامة العمل، وخلوصه من الشوائب، المبطلة لثوابه، والمنقصة له. قال الإمام أحمد رحمه الله: أمر النية شديد؛ وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً، أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي؛ وقال يوسف بن إسباط : تخليص النية، من فسادها، أشد على العاملين من طول الاجتهاد؛ وقال سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، و لأنه ليس لها فيه نصيب؛ وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا، الإخلاص، وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي،(3/291)
(ص295) وكأنه ينبت فيه على لون آخر، فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته، وتخليصها من الشوائب، فوق اهتمامه بكل شيء، لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى وأما ما بين الثلاثة، من العموم، والخصوص، وهل هو وجهي، أو مطلق ؟ فقد قدمنا: أن العبادة من حيث هي، أعم من توحيد العبادة، عموماً مطلقاً، وأن العبادة المطلوبة شرعاً، هي نفس توحيد العبادة؛ ودل كلام ابن القيم رحمه الله: أن توحيد العبادة، أعم من الإخلاص، حيث قال:
أعني سبيل الحق والإيمان
.
فلواحد كن واحداً في واحد
.
حيد العبادة منك للرحمن
.
هذا وثاني نوعي التوحيد تو
.
تعبد بغير شريعة الإيمان
.
أن لا تكون لغيره عبداً ولا
.
ـإحسان في سر وفي إعلان
.
فتقوم بالإسلام والإيمان والـ
.
ـوحيد كالركنين للبنيان
.
والصدق والإخلاص ركنا ذلك التـ
.
إلى أن قال:
د فلا يزاحمه مراد ثان
.
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا
.
ل الجهد لا كسلاً ولا متوان
.
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ
.
حيد الطريق الأعظم السلطان
.
والسنة المثلى لسالكها فتو
.
فقوله رحمه الله: والصدق، والإخلاص، ركنا ذلك التوحيد، جعل الإخلاص، أحد ركني العبادة، والصدق ركنه(3/292)
(ص296) الآخر، وفسر الصدق بما ذكر؛ وقال في بعض كلامه: ومقام الصدق، جامع للإخلاص؛ فعرفنا رحمه الله: أن توحيد العبادة، أعم من الإخلاص، ولم يذكر إلا عموماً مطلقاً؛ وأما العموم الوجهي، فالظاهر، أن المراد به: إذا كان أحد الشيئين أعم من وجه، وأخص من وجه؛ والعموم الذي بين مطلق العبادة، وبين توحيد العبادة، والإخلاص، مطلق، لا وجهي
وأما الإله، فهو: الذي تألهه القلوب، بالمحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء؛ وتوابع ذلك، من: الرغبة، والرهبة، والتوكل، والإستغاثة، والدعاء، والذبح، والنذر، والسجود؛ وجميع أنواع العبادة: الظاهرة والباطنة؛ فهو إله، بمعنى: مألوه؛ أي: معبود؛ وأجمع أهل اللغة: أن هذا معنى الإله، قال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله، وأصله؛ إله، على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه، بمعنى معبود، كقولنا: إمام، فعال؛ بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به؛ قال، والتأليه، التعبيد؛ والتأله: التنسك، والتعبد؛ قال رؤبة
سبحن واسترجعن من تأله.......................... انتهى
وقال في القاموس: أله، إلهة، وألوهة، عبد، عبادة؛ ومنه: لفظ الجلالة؛ واختلف فيه، على عشرين قولاً؛ يعني في لفظ: الجلالة؛ قال، وأصله: إله، بمعنى: مألوه؛(3/293)
(ص297) وكل ما اتخذ معبوداً، أله عند متخذه؛ قال، والتأله: التنسك، والتعبد، انتهى؛ وجميع العلماء، من: المفسرين، وشراح الحديث، والفقه، وغيرهم، يفسرون: الإله، بأنه: المعبود.وإنما غلط في ذلك بعض أئمة المتكلمين، فظن أن الإله، هو القادر على الاختراع؛ وهذه زلة عظيمة، وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل، تبين له بطلانه؛ وكأن هذا القائل، لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين، في مواضع من كتابه؛ ولم يعلم أن مشركي العرب، وغيرهم، يقرون بأن الله، هو القادر على الاختراع، وهم مع ذلك مشركون؛ ومن أبعد الأشياء: أن عاقلاً يمتنع، من التلفظ بكلمة يقر بمعناها، ويعترف به، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً؛ هذا ما لا يفعله، من له أدنى مسكة من عقل
قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: ليس المراد بالإله، هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الألوهية، هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع، دون غيره، فقد شهد: ألا إله إلا الله؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد؛ كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) [الزمر: 38] وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل(3/294)
(ص298) أفلا تذكرون) الآيات [المؤمنون: 84-89]وقال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [يوسف: 106]
قال ابن عباس: تسألهم، من خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون: الله؛ وهم مع هذا، يعبدون غيره.
وهذا التوحيد، من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك، الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله؛ بل: لابد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه لله، والإله، هو: المألوه، الذي تألهه القلوب؛ فهو إله بمعنى مألوه لا بمعنى أله؛ انتهى.
وقد دل: صريح القرآن، على معنى الإله، وأنه هو المعبود، كما في قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إننى براء مما تعبدون، إلا الذي فطرنى فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه) [الزخرف: 26-28] قال المفسرون: هى كلمة التوحيد، لا إله إلا الله (باقية في عقبه) أى: ذريته؛ قال قتادة، لا يزال في ذريته، من يعبد الله، ويوحده؛ والمعنى: جعل هذه الموالاة، والبراءة من كل معبود سواء، كلمة باقية في ذرية إبراهيم، يتوارثها الأنبياء، وأتباعهم، بعضهم عن بعض، وهى كلمة: لا إله إلا الله. فتبين: أن موالاة الله بعبادته، والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى: لا إله إلا الله، إذا تبين ذلك، فمن صرف لغير الله شيئا، من أنواع العبادة، المتقدم تعريفها، كالحب،(3/295)
(ص299) والتعظيم، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فقد عبد ذلك الغير، واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألها، وعبادة وشركا؛ ومعلوم عند كل عاقل: أن حقائق الأشياء، لا تتغير بتغير أسمائها؛ فلو سمى: الزنا، والربا، والخمر، بغير أسمائها، لم يخرجها تغيير الاسم، عن كونها: زنا، وربا، وخمرا، ونحو ذلك.
ومن المعلوم: أن الشرك، إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبة الرب، وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد، بتغيير اسمه، كتسميته: توسلا، وتشفعا، وتعظيما للصالحين، وتوقيرا لهم، ونحو ذلك؛ فالمشرك: مشرك، شاء أم أبى؛ كما أن الزانى: زان، شاء أم أبى؛ والمرابى: مراب، شاء أم أبى.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طائفة من أمته: يستحلون الربا، باسم البيع؛ ويستحلون الخمر، باسم آخر غير اسمها، وذمهم على ذلك؛ فلو كان الحكم: دائرا مع الاسم، لا مع الحقيقة، لم يستحقوا الذم؛ وهذه: من أعظم مكائد الشيطان لبنى أدم، قديما وحديثا؛ أخرج لهم الشرك، في قالب تعظيم الصالحين، وتوقيرهم؛ وغير اسمه بتسميته إياه: توسلا، وتشفعا، ونحو ذلك؛ والله الهادى إلى سواء السبيل.
وأما: تعريف الطاغوت؛ فهو مشتق من طغا، وتقديره(3/296)
(ص300) طغوت، ثم قلبت الواو ألفاً، قال النحويون، وزنه: فعلوت، والتاء زائدة؛ قال الواحدى: قال جميع أهل اللغة، الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحداً، وجمعاً، ويذكر، ويؤنث؛ قال تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) [النساء: 60] فهذا في الواحد، وقال تعالى في الجمع: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) [البقرة: 257]
وقال في المؤنث: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) [الزمر: 17] قال: ومثله: في أسماء الفلك، يكون واحداً، وجمعاً، ومذكراً ومؤنثاً؛ قال: قال الليث، وأبو عبيدة، والكسائى، وجماهير أهل اللغة، الطاغوت: كل ما عبد من دون الله؛ وقال الجوهرى، الطاغوت: الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال؛ وقال مالك، وغير واحد من السلف، والخلف: كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت.
وقال: عمر بن الخطاب، وابن عباس رضى الله عنهما، وكثير من المفسرين، الطاغوت: الشيطان؛ قال: ابن كثير، وهو قول قوى جداً، فإنه يشمل: كل ما عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها؛ وقال الواحدى، عند قول الله تعالى: (يؤمنون بالجبت والطاغوت) [النساء: 51] كل معبود من دون الله، فهو(3/297)
(ص301) جبت، وطاغوت؛ قال ابن عباس في رواية عطية ـ الجبت: الأصنام؛ والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس؛ وقال ـ في رواية أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس؛ وقال ـ في واية الوالبي ـ: الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر؛ وقال بعض السلف ـ في قوله سبحانه: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) [النساء: 60] ـ إنه كعب بن الأشرف؛ وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم، لكونهما من رؤساء الضلال، ولإفراطهما في الطغيان، وإغوائهما الناس، ولطاعة اليهود لهما في معصية الله، فكل من كان بهذه الصفة، فهو طاغوت، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ([النساء: 60] لما ذكر ما قيل: إنها نزلت في من طلب التحاكم، إلى كعب بن الأشرف، أو إلى حاكم الجاهلية، وغير ذلك، قال: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل؛ وهو المراد بالطاغوت ههنا.
فتحصل من مجموع كلامهم رحمهم الله: أن اسم الطاغوت، يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال، يدعو إلى الباطل، ويحسنه؛ ويشمل أيضاً: كل من نصبه الناس، للحكم بينهم، بأحكام الجاهلية، المضادة لحكم الله، ورسوله؛ ويشمل أيضاً: الكاهن، والساحر، وسدنة الأوثان، الداعين إلى عبادة المقبورين، وغيرهم، بما(3/298)
(ص302) يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة: أن المقبور، ونحوه، يقضى حاجة من توجه إليه، وقصده، وأنه فعل: كذا وكذا، مما هو كذب، أو من فعل الشياطين، ليوهموا الناس، أن المقبور، ونحوه يقضى حاجة من قصده، فيوقعوهم في الشرك الأكبر، وتوابعه؛ وأصل هذه الأنواع كلها، وأعظمها: الشيطان؛ فهو: الطاغوت الأكبر؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/299)
(ص303) وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، الطيبين الطاهرين؛ أما بعد: فقد ورد علينا رسالة، من شيخنا العلامة، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، متعنا الله بوجوده، متضمنة للإفادة، أخرجها مخرج السؤال، بقوله: عرفونا، ما معنى: العبادة ؟ ويكون التعريف جامعاً مانعاً، وكذلك الإله المنفى، بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة، للحق سبحانه وتعالى ؟
فالجواب، وبالله التوفيق: أما تعريف العبادة، فقد عرفها شيخنا: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في فوائده، على كتابه: كتاب التوحيد، بأن العبادة، هى التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به، لم يعبد الله، فدل: على أن التجرد من الشرك، لابد منه في العبادة، وإلا فلا يسمى عبادة.
وقال الشيخ تقى الدين، العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال؛ فهى الغاية(3/300)
(ص304) المحبوبة له تعالى، وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ كما قال نوح عليه السلام، لقومه: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [المؤمنون: 32] وكذلك: هود، وصالح؛ وذلك: أن الإله، يطلق على كل معبود بحق، وباطل؛ والإله الحق، هو الله؛ قال الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19].
ويسمى هذا النوع: توحيد الإلهية، لأنه مبنى على إخلاص التأله، وهو: أشد المحبة لله وحده، لا شريك له؛ وذلك يستلزم إخلاص العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الإرادة، لأنه مبنى على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد القصد، لأنه مبنى على إخلاص القصد، المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده؛ قال الله تعالى: (فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 2، 3].
فالموحد: من جمع قلبه، ولسانه، مخلصا لله تعالى، في الإلهية، المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستغاثة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء، بما لا يقدر على جلبه، أو دفعه، إلا الله وحده؛ والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وامتثال أمره، ناظرا إلى حق الخالق، والمخلوق، من الأنبياء، والأولياء، مميزاً بين الحقين؛ وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته،(3/301)
(ص305) ومحبته؛ وموالاته، وطاعته، وهذا من تحقيق " لا إله إلا الله ".
لأن معنى: "الإله" عند الأولين، ما تألهه القلوب، بالمحبة التى كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع؛ قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) الآية [البقرة: 165] فالمحبة التى لله، غير المحبة التى مع الله، قال الله تعالى، عن الكفار: (تالله إن كنا لفى ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) [الشعراء: 98: 97].
فمعنى شهادة: ألا إله إلا الله، أن يقولها، نافياً قلبه ولسانه، الإلهية عن كل ما سواه، ومثبتها لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضا بقلبه، عن جميع المخلوقات، لا يتألههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات، وذلك يتضمن، إرادة القلب في عبادته ومعاملته، ومفارقته في ذلك كل ما سواه؛ فيكون: مفرقاً في علمه وقصده وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً بالله، ذاكرا له، عارقاً به؛ وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم، بعبادته، وأفعاله، وصفاته؛ ويكون محباً له، مستعيناً به، لا بغيره، متوكلا عليه، لا على غيره.
وهذا هو معنى: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفتحة: 5](3/302)
(ص306) وهى من خصائص الإلهية، كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم، وخلقه السماوات والأرض، وما فيهما، من الآيات من خصائص الربوبية، التى يشترك في معرفتها: المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، حتى إبليس لعنه الله، معترف بها في قوله: (رب بما أغويتنى) [الحجر: 39] وقوله: (أنظرنى إلى يوم يبعثون) [الأعراف: 14] مقر بأن كل شئ في يده سبحانه، وإنما كفر بعناده، وتكبره عن الحق، وطعنه فيه، وكذلك المشركون الأولون، يعرفون ربوبيته، وهم بها له معترفون، كما ذكر الله ذلك عنهم، في قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) الآية [يونس: 31] وغيرها من الآيات؛ وكما يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك.
فمن ترك التوحيد، وارتكب ضده، من الإقبال إلى غير الله، بالتوكل عليه، ورجائه، فيما لا يمكن إلا من الله، والتجأ إلى ذلك الغير، مقبلاً عليه بقلبه، طالباً شفاعته، متوكلاً عليه، راغباً إليه فيها، تاركاً ما هو المطلوب المتعين عليه، متعلقاً على المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه، فعل المشركين، واعتقادهم؛ ولا نشأت فتنة في الوجود، إلا بهذا الاعتقاد، فصار شقياً، بالإرادة الكونية.
والإرادة الدينية: أصل في إيجاد المخلوق، والإرادة الكونية: أصل فيمن كتبت عليه الشقاوة، فلا ييسر إلا لها،(3/303)
(ص307) ولا يعمل إلا بها، قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118، 119] فهي: الإرادة الكونية، وهي لا تعارض الإرادة الدينية، التي هي أصل إيجاد المخلوقات، فمن ذلك قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذريات: 56] فقد يعبدون، وقد لا يعبدون؛ وقوله: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وكما في حديث القبضتين؛ فبهذا يتبين الفرق، بين الإرادة الكونية، والإرادة الدينية.
وأما تعريف الشرك، وأنواعه، فقد عرفه، شيخنا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في: كتاب التوحيد، خصوصاً: الشرك في العبادة، وأقسامه وجليه، وخفيه، وأكبره وأصغره، خصوصاً: الشرك في العبادة، مما عساك لا تجده مجموعاً في غيره، من الكتب المطولات؛ فإن الإيمان النافع، لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقاً.
وأما أنواعه، فمنها: الشرك في الربوبية، وهو: نوعان، شرك التعطيل، كشرك فرعون؛ وشرك الذي حاج إبراهيم في ربه؛ ومنه شرك طائفة ابن عربي، ومنه شرك من عطل أسماء الرب سبحانه، وأوصافه، من غلاة الجهمية، ومنه: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل ربوبيته كشرك النصارى، الذين جعلوه ثالث ثلاثة.
النوع الثاني: الشرك في أسمائه، وصفاته؛ ومنه تشبيه(3/304)
(ص308) الخالق بالمخلوق، كمن يقول: يد، كيدي؛ وهو شرك المشبهة.
والنوع الثالث: الشرك في توحيد الإلهية، والعبادة؛ كالرياء، والسمعة، والعمل لأجل الناس؛ وقد قال شيخنا: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إن الشرك الأصغر، أكبر من الكبائر؛ ومنه الشرك في الألفاظ، كقول: ما شاء الله وشئت، ونحوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك نوعان، أكبر، وأصغر؛ فمن خلص منهما، وجبت له الجنة؛ ومن مات على الأكبر، وجبت له النار؛ ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر، مع حسنات راجحة، دخل الجنة؛ ومن خلص من الأكبر، لكن كثر الأصغر، حتى رجحت به سيئاته، دخل النار؛ وذلك على سبيل الإشارة، والإختصار؛ والله أعلم.
وأجاب أيضاً:
وقولك: هل تعريف العبادة، تعريف العبودية ؟ المراد: هل معناهما واحد ؟. فالعبادة: أخص من العبودية، واسم(3/305)
(ص309) العبودية عام؛ قال ابن القيم، رحمه الله، في: المدارج؛ العبودية: نوعان، عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماء والأرض، كلهم مؤمنهم، وكافرهم، وبرهم، وفاجرهم، وهي: عبودية القهر، والملك، قال تعالى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتِ الرحمن عبداً [مريم: 93] فهذا يدخل فيه مؤمنهم، وكافرهم.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة، والمحبة، واتباع الأوامر، قال تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) [الزخرف: 68] (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) [الفرقان: 63].
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول من يقول: إن الأمر بعبادة الله وحده، لا يفيد النهي عن الشرك، بل لابد من النهي عن الشرك ؟
فأجاب: قول الجاهل، الكاذب على الله، الهاضم لكلام الله عما أريد منه، من قوله: إن الأمر بعباده الله وحده، لا يفيد النهي عن الشرك، بل لابد من النهي عن الشرك، فهذا مخطئ ضال، والوعيد الشديد فيمن قال في القرآن برأيه، ولو أصاب؛ فكيف بمن قال برأيه وأخطأ ! وقد قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من الأمر بالعبادة،(3/306)
(ص310) فمعناها التوحيد؛ وعلى هذا جميع المفسرين، والعلماء.
فعلى قول هذا الجاهل: إن قوله سبحانه: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) [البقرة: 21] وقوله: (إياك نعبد) [الفاتحة: 5] وقوله: (وأنا ربكم فاعبدون) [الأنبياء: 92] وقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] وقوله: (فإياي فاعبدون) [العنكبوت: 56] ونحو ذلك، لا يفيد النهي عن الشرك؛ فإذا كانت العبادة المأمور بها، هي التوحيد؛ والتوحيد، هو إفراد الله بالإلهية، ونفيها عمن سواه، وهو معنى: لا إله إلا الله؛ التي حقيقتها: إثبات العبادة لله وحده، ونفي الشركة عن الله سبحانه فيها، وهذا أمر واضح، وما يحتاج إلى إيضاح، فقد تبين بطلان قوله بما ذكرناه.
وسئل عن معنى: لا إله إلا الله ؟ وما تنفي، وما تثبت ؟
فأجاب رحمه الله: أول واجب على الإنسان: معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19] وقال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق) أى بلا إله إلا الله (وهم يعلمون) [الزخرف: 86] بقلوبهم، ما شهدوا به بألسنتهم؛ فأفرض الفرائض: معرفة معنى هذه الكلمة؛ ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها؛ فالإله، هو المعبود؛ والتأله التعبد، ومعناها: لا معبود إلا الله؛ نفت الإلهية عمن سوى الله،(3/307)
(ص311) وأثبتها لله وحده.
فإذا عرفت: أن الإله، هو المعبود، والإلهية، هي العبادة؛ والعبادة: اسم جامع، لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأفعال؛ فالإله، هو المعبود المطاع؛ فمن جعل شيئاً من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وذلك، كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر؛ كذلك: التوكل، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، الظاهرة، والباطنة، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، ونفيها عمن سواه، هو حقيقة التوحيد، وهو معنى: لا إله إلا الله.
فمن قال: لا إله إلا الله، بصدق، ويقين، أخرجت من قلبه: كل ما سوى الله، محبة وتعظيماً؛ وإجلالاً، ومهابة، وخشية، وتوكلاً؛ فلا يصير في قلبه، محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه، دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار ".
قيل للحسن البصري: إن ناساً، يقولون: من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال، من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها، وفرضها... إلخ؛ وغالب من يقول لا إله إلا الله، إنما يقولها تقليداً، ولم يخالط الإيمان: بشاشة قلبه، فلا يعرف الإخلاص فيها، ومن لا يعرف ذلك، يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت، وغالب من يفتن في القبور،(3/308)
(ص312) أمثال هؤلاء، كما في الحديث: " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " نسأل الله: أن يثبتنا وإياكم، بالقول الثابت، في الحياة الدنيا، وفي الآخرة؛ والله أعلم.
وسئل: أيضاً، عن معنى: لا إله إلا الله، وعمن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، وهل من قالها، ودعا نبياً، أو ولياً، تنفعه ؟ أو هو: مباح الدم، والمال، ولو قالها ؟
فأجاب رحمه الله: معنى "لا إله إلا الله " عند جميع أهل اللغة، وعلماء التفسير، والفقهاء كلهم، يفسرون: الإله، بالمعبود؛ والتأله: التعبد؛ وأما العبادة، فعرفها بعضهم، بأنها: ما أمر به شرعاً، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ والمأثور عن السلف، تفسير العبادة، بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور، وترك المحظور، من واجب ومندوب، وترك المنهى عنه، من محرم و مكروه.
فمن جعل: نوعاً من أنواع العبادة، لغير الله، كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فهو مشرك؛ ولا إله إلا الله: إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه؛ وهذا معنى: الكفر بما يعبد من دونه؛ لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه، البراءة منه، اعتقاد بطلانه، وهذا معنى
الكفر بالطاغوت، في قوله تعالى: (فمن(3/309)
(ص313) يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) [البقرة: 256].
والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله، كما في قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله " فقوله: " وكفر بما يعبد من دون الله " الظاهر: أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله، متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله.
ومن قال: لا إله إلا الله , ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر , كدعاء الموتى , والغائبين , وسؤالهم قضاء الحاجات , وتفريج الكربات , والتقرب إليهم بالنذور , والذبائح , فهذا مشرك , شاء أم أبى؛ و(الله لا يغفر أن يشرك به) [النساء: 48] و(من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) [المائدة: 72] ومع هذا فهو شرك , ومن فعله, فهو كافر.
ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر , حتى يبين له ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فإن أصر بعد البيان , حكم بكفره , وحل دمه , وماله؛ وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي: شرك (ويكون الدين كله لله) [الأنفال: 39] فإذا كان في بلد: وثن يعبد من دون الله, قوتلوا , لأجل هذا(3/310)
(ص314) الوثن , أي لإزالته , وهدمه ,وترك الشرك , حتى يكون الدين كله لله.
والدعاء: دين سماه الله دينا , كما في قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) [العنكبوت: 65] أي: الدعاء , وقال صلي الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة , حتى يعبد الله وحده لا شريك له" فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله , فالسيف مسلول عليه , والله أعلم.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين , عن إنكار النبي , على من قال: نستشفع بالله عليك.. الخ.
فقال: وما سألت عنه , من إنكار النبي صلي الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك , ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله , لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله , أي: نطلب منك , أن تدعو الله أن يغيثنا؛ لأن الداعي: شافع؛ ومعنى: نستشفع بالله عليك , نطلب من الله: أن يطلب منك , أن تدعو لنا , وتستسقي لنا؛ فالله سبحانه يشفع إليه ولا يستشفع هو إلى أحد.
وأما: آخر الحديث , الذي أشار عليه , بعد قوله: "لا يستشفع به على أحد , شأن الله أعظم من ذلك؛ إن الله على عرشه , وإن عرشه على سماواته وأرضه , هكذا بأصابعه , مثل القبة" وفي لفظ: " وإن عرشه فوق سماواته , وسماواته فوق(3/311)
(ص315) أرضه ,هكذا " وقال بأصابعه مثل القبة؛ وقوله في الحديث الآخر: " إنه لا يستغاث بي " الحديث.
فكأن النبي صلي الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد , وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق , فيما يقدر عليه جائزه , كقوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) [القصص: 15] وإذا أقبل عليك عدو , واستغثت بأصحابك , ليعينوك , فهذا: استغاثة بهم , والاستغاثة بالمخلوق , فيما يقدر عليه , جائزة. ...
وسئل: أيضا , رحمه الله , عن سؤال الله ,بحق الكعبة , وطوافي عليك يا رب؛ وبحق محمد , ومدينته , عليك يا رب؛ وبحق القرآن , عليك يا رب؛ وبحق جبرئيل , والملائكة , والجنة , والنار , والشمس , والقمر , والأقطاب , والأبدال , والأوتاد , وغيرها؟ ...
فأجاب: السؤال بهذه الأشياء , التي ذكرتم , باطل لا أصل له؛ والمشروع " إنما هو , سؤاله سبحانه , بأسمائه وصفاته , كما في الأحاديث المشهورة؛ والله أعلم.
قال الشيخ: عبد اللطيف , بن عبد الرحمن ,بن حسن , رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن الله خلق الخلق لعبادته؛ الجامعة(3/312)
(ص316) لمعرفته , ومحبته , والخضوع له , وتعظيمه , والإنابة إليه , والتوكل عليه , وإسلام الوجه له؛ وهذا , هو الإيمان المطلق , المأمور به , في جميع الكتب السماوية , وسائر الرسالات النبوية , ويدخل في باب معرفة الله تعالى: توحيد الأسماء , والصفات , فيوصف سبحانه , بما وصف به نفسه , من صفات الكمال , ونعوت الجلال , وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم , لا يتجاوز ذلك , ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
وجميع ما في الكتاب والسنة , يجب الإيمان به , من غير تحريف ولا تعطيل , ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ قال الله تعالى " (ولله الأسماء الحسنى) [الأعراف: 180] فأسماؤه كلها حسنى , لأنها تدل على الكمال المطلق , والجلال المطلق , والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه , وما أثبته رسوله صلي الله عليه وسلم , لا نعطله , ولا نلحد فيه , ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات , عما دلت عليه: كفر؛ والتشبيه فيها , كذلك: كفر.
وقد قال مالك بن أنس , رحمه الله , لما سأله رجل , فقال: (الرحمن على العرش استوى)[طه: 5] كيف استوى ؟ فاشتد ذلك على مالك رحمه الله , حتى علته الرحضاء , إجلالا لله , وهيبة له , من الخوض في ذلك؛ ثم قال رحمه الله: الاستواء معلوم , والكيف غير معقول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة؛ يريد رحمه الله(3/313)
(ص317) تعالى: السؤال عن الكيفية.
وهذا الجواب: يقال في جميع الصفات , لأنه يجمع الإثبات والتنزيه؛ ويدخل في الإيمان , بالله ومعرفته , الإيمان به, وبربوبيته العامة ,الشاملة , لجميع الخلق , والتكوين , وقيوميته , العامة , الشاملة , لجميع التدبير , والتيسير , والتمكين؛ فالمخلوقات بأسرها , مفتقرة إلي الله , في قيامها , وبقائها , وحركاتها , وسكناتها , وأرزاقها , وأفعالها؛ كما هي مفتقرة إليه , في خلقها , وإنشائها , وإبداعها , قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد , إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد , وما ذلك على الله بعزيز) [فاطر: 15 ,16 ,17].
ويدخل في الإيمان به : إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تضمنته شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله؛ فقد تضمنت: نفي استحقاق العبادة , بجميع أنواعها , عما سواه تعالى , من كل مخلوق , ومربوب؛ وأثبت ذلك , على وجه الكمال الواجب , والمستحب , لله تعالى؛ فلا شريك له , في فرد من أفراد العبادة , إذ هو الإله الحق , المستحق , المستقل , بالربوبية , والملك , والعز , والغنى , والبقاء.
وما سواه: فقير مربوب: معبد خاضع , لا يملك لنفسه نفعا , ولا ضرا؛ فعبادة سواه , من أظلم الظلم , وأسفه السفه؛ والقرآن كله: راد على من أشرك بالله , في هذا التوحيد؛ مبطل لمذهب جميع أهل الشرك , والتنديد , آمر ,(3/314)
(ص318) ومرغب في إسلام الوجه لله , والإنابة إليه , والتوكل عليه , والتبتل في عبادته , ومعنى العبادة , في أصل اللغة: لمطلق الذل , والخضوع؛ ومنه: طريق معبد , إذا كان مذللا , قد وطأته الأقدام , كما قال الشاعر:
تبارى عتاقا ناجيات واتبعت وظيفا وظيفا فوق مور معبد
واستعملها الشارع , في العبادة: الجامعة لكمال المحبة , وكمال الذل والخضوع؛ وأوجب الإخلاص له فيها , كما قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين , ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 2 ,3] وهذا: هو التوحيد , الذي جاءت به الرسل , ونزلت به الكتب؛ والعبادة إذا خالطها الشرك , أفسدها , وأبطلها؛ ولا تسمى عبادة , إلا مع التوحيد؛ قال ابن عباس: ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله , إنما يراد به التوحيد , انتهى.
ويدخل في العبادة الشرعية , كل: ما شرعه الله , ورضيه, من الأقوال , والأعمال , الباطنة والظاهرة؛ كمحبة الله , وتعظيمه , وإجلاله , وطاعته , والتوكل عليه , والإنابة إليه , ودعائه , خوفا وطمعا , وسؤاله , رغبا , ورهبا, وصدق الحديث , وأداء الأمانة , والوفاء بالعهود , وصلة الأرحام , والإحسان على الجار , واليتيم , والمملوك , والمسكين , وابن السبيل , وكذا النحر , والنذر , فإنهما من أجل العبادات , وأفضل الطاعات , وكذا الطواف ببيته تعالى , وحلق الرأس , تعظيما وعبودية , وكذا سائر الواجبات ,(3/315)
(ص319) والمستحبات.
فحق الله على العباد: أن يعبدوه , وحده لا شريك له , ولا يشركوا به شيئا؛ والشرك في العبادة , ينافي هذا التوحيد , ويبطله؛ كما قال تعالى , لما ذكر حال خواص أوليائه , ومقربي رسله: (ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) [الأنعام: 88]
والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع , كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه , أنه قال: يا رسول الله , أي الذنب أعظم ؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " والند المثل , والشبيه.
فمن صرف شيئا , من العبادات , لغير الله , فقد أشرك به شركا , يبطل التوحيد , وينافيه , لأنه شبه المخلوق بالخالق , وجعله في مرتبته , ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق , ولما فيه من سوء الظن به تعالى , كما قال الخليل عليه السلام: (أئفكا آلهة دون الله تريدون , فما ظنكم برب العالمين) [الصافات: 86 ,87].
قال: العلامة ابن القيم رحمه الله , أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه , وقد عبدتم غيره ؟ وما ظننتم بأسمائه, وصفاته , وربوبيته من النقص , حتى أحوجكم ذلك إلي عبودية غيره ؟ فلو ظننتم به ما هو أهله , من أنه بكل شيء عليم , وعلى كل شيء قدير , وأنه غني عن كل ما سواه , وكل ما سواه فقير عليه , وأنه قائم بالقسط على خلقه , وأنه المتفرد(3/316)
(ص320) بتدبير خلقه , لا يشركه فيه غيره , والعالم بتفاصيل الأمور , فلا تخفى عليه خافية من خلقه , والكافي لهم وحده , لا يحتاج على معين؛ والرحمن بذاته , فلا يحتاج في رحمته على من يستعطفه. ...
وهذا بخلاف الملوك , وغيرهم من الرؤساء , فإنهم محتاجون: من يعرفهم أحوال الرعية , وحوائجهم , والذي يعينهم على قضاء حوائجهم , على من يسترحمهم , ويستعطفهم بالشفاعة , فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم, وعجزهم , وضعفهم , وقصور علمهم.
فأما: القادر على كل شيء , الغني بذاته عن كل شيء , العالم بكل شيء , الرحمن الرحيم , الذي وسعت رحمته كل شيء , فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه , تنقص بحق ربوبيته , وإلهيته , وتوحيده , وظن به ظن السوء , وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده , ويمتنع في العقول والفطر , وقبحه: مستقر في العقول السليمة , فوق كل قبيح , انتهى.
إذا عرفت هذا: فصلاح العبد , وفلاحه , وسعادته , ونجاته , وسروره , ونعيمه , , وسعادته , ونجاته , في إفراد الله بهذه العبادات , والإنابة إليه بما شرعه لعباده , منها – وهو أصلها – كمال المحبة , وكمال الذل , والخضوع , كما تقدم؛ هذا: سر العبادة وروحها , ولابد في عبادة الله من كمال الحب , وكمال الخضوع , فأحب خلق الله إليه , وأقربهم منزلة عنده , من قام بهذه المحبة والعبودية , وأثنى عليه –سبحانه –بذكر أوصافه(3/317)
(ص321) العلا , فمن أجل ذلك: كان الشرك أبغض الأشياء إليه , لأنه ينقص هذه المحبة , والخضوع , والإنابة , والتعظيم؛ ويجعل ذلك بينه , وبين من أشرك به.
والله لا يغفر أن يشرك به , لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى, وبين غيره في المحبة والتعظيم , وغير ذلك من أنواع العبادة , قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين أمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165] أخبر سبحانه: أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله , فقد اتخذه ندا , وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين , إذ نسويكم برب العالمين) [الشعراء: 97 ,98] فهذه تسوية في المحبة, والتأله , لا في الذات , والأفعال , والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير إلهة الحق , فقد أعرض عنه , وأبق عن مالكه وسيده , فاستحق مقته وبغضه , وطرده عن دار كرامته , منزل أحبابه.
والمحبة: ثلاثة أنواع , محبة طبيعية , كمحبة الجائع للطعام , والظمآن للماء , وغير ذلك؛ وهذا لا يستلزم التعظيم؛ والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق , كمحبة الوالد لولده الطفل , ونحوها؛ وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم؛ والنوع الثالث: محبة أنس , وألفة؛ وهي محبة المشتركين في صناعة , أو علم , أو مرافقة , أو تجارة , أو سفر بعضهم لبعض؛ وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا؛ فهذه المحبة: التي تصلح للخلق بعضهم من بعض؛ ووجودها فيهم , لا يكون(3/318)
(ص322) شركا في محبة الله سبحانه؛ ولهذا كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل , وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد , وكان أحب اللحم إليه الذراع , وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب نساءه وكانت عائشة أحبهن إليه , وكان يحب أصحابه, وأحبهم إليه الصديق.
وأما المحبة الخاصة , التي لا تصلح إلا لله وحده ومتى أحب العبد بها غيره , كان شركا , لا يغفره الله؛ فهي محبة العبودية , المستلزمة للذل , والخضوع , والتعظيم , وكمال الطاعة , وإيثاره على غيره؛ فهذه المحبة , لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً , وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها , وهي أول دعوة الرسل , وآخر كلام العبد المؤمن , الذي إذا مات عليها دخل الجنة , باعترافه , وإقراره بهذة المحبة , وإفراد الرب بها.
فهي أول ما يدخل به في الإسلام , وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله؛ وجميع الأعمال كالأدوات , والألات لها؛ وجميع المقامات وسائل إليها , وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل؛ فهي: قطب رحى السعادة , وروح الإيمان , وساق شجرة الإسلام , ولأجلها أنزل الله الكتاب , والحديد؛ فالكتاب هاد إليها ودال عليها , ومفصل لها؛ والحديد لمن خرج عنها , وأشرك مع الله غيره فيها ولأجلها خلقت الجنة والنار؛ فالجنة دار , أهلها الذين أخلصوها لله وحده , وأخلصهم لها؛ والنار دار من أشرك فيها(3/319)
(ص323) مع الله غيره , وسوى بينه وبين الله فيها؛ فالقيام بها واجب , علما وعملاً وحالاً؛ وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله
فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها، ونجاتها: أن يتيقظ لهذه المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده وأجل علومه، وأعماله، فإن الشأن كله فيها، والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة؛ كما قال تعالى: (فو ربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون) [الحجر: 92، 93] قال غير واحد من السلف: عن قول لا إله إلا الله؛ وهذا حق؛ فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها؛ قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والأخرون: ماذا كنتم تعبدون ؟ ماذا أجبتم المرسلين ؟ فالسؤال عما كانوا يعبدون: السؤال عنها نفسها، والسؤال عما ذا أجابوا المرسلين: سؤال عن الوسيلة والطريقة المؤدية، هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها، فعاد الأمر كله إليها.
وأمر هذا شأنه، حقيق أن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضلة، بل يجعل هو المطلوب الأعظم؛ وما سواه إنما يطلب على فضلة، والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك، علما وعملا وحالاً؛ ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك، مجرد حكايته؛ وصلى الله على محمد.(3/320)
(ص324) وسئل أيضاً الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن تفصيل ما يجب على الإنسان، من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه، من المعاداة، والموالاة ؟ فأجاب: معرفة التفاصيل، تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية، من أدلتها التفصيلية؛ فالدين كله توحيد؛ لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصاً له الدين؛ والعبادة: اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة؛ فيدخل في ذلك قول القلب، وعمله؛ وقول اللسان، وعمل الجوارح؛ وترك المحظورات، والمنهيات، داخل في مسمى العبادة؛ ولذلك فسر قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 21] بالتوحيد في العبادة، لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس.
إذا عرفت: هذا، عرفت: أن على العبد، أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره، فقد أشرك في عبادة ربه؛ ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية، إذا اقتضى شركه التسوية بربه، والعدل به، وتضمن مسبة الله؛ فإن الشرك الأكبر يتضمنهما؛ ولهذا ينزه الرب تعالى، ويقدس نفسه عن ذلك الشرك، في مواضع من كتابه؛ كقوله تعالى: (سبحان الله وتعالى عما يشركون) [القصص: 68] (سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين)(3/321)
(ص325) [الصافات: 180: 182] (وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف: 108] ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة، في بيان الأحكام الشرعية، وواجباتها، ومستحباتها؛ سواء كانت في معرفة القلوب، وعلمها، أو عملها وسيرها؛ فالأول: العقائد؛ وهى: التوحيد العلمى؛ وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات، من أحسنها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله؛ وأما الثانى، وهو علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى: علم السلوك؛ فقد بسط القول فيه ابن القيم رحمه الله تعالى، في شرح: المنازل؛ وفى: سفر الهجرتين؛ وأما أعمال الجوارح الظاهرة، فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر؛ وبالجملة: فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر؛ إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهى العلم إلى الله تعالى.
وأما الموالاة، والمعاداة، فهى من أوجب الواجبات؛ وفى الحديث " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وأصل الموالاة: الحب؛ وأصل المعاداة: البغض؛ وينشأ عنهما من أعمال القلوب، والجوارح، ما يدخل في حقيقة الموالاة، والمعاداة؛ كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال؛ والولي ضد العدو.
وسئل أيضاً الشيخ: عبد اللطيف، عن معنى: لا إله إلا الله، فأجاب:(3/322)
(ص326) بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ وبعد: فقد خاض بعض الجاهلين، في معنى كلمة الإخلاص، وإعرابها، وأتى بخلط، وجهل، لا يسع السكوت عليه؛ فنقول: اعلم أن لا إله إلا الله، هى كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وأصل دين الإسلام، ومفتاح دار السلام؛ قد دلت بمنطوقها، وموضوعها، على نفى استحقاق الإلهية عن غيره تعالى، والبراءة من كل معبود سواه، قولا وفعلا، وإثبات استحقاق الإلهية على وجه الكمال لله تعالى.
فالأول: وهو النفى، يستفاد من: لا، واسمها، وخبرها المقدر؛ والإثبات: يستفاد من الاستثناء؛ لأن الإثبات بعد النفى المتقدم، أبلغ من الإثبات بدونه، وهذه طريقة القرآن، يقرن بين النفى والإثبات غالباً، كما في هذا الموضع، لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) [البقرة: 256] وقال: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] وقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] وقال: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألا تعبدوا إلا الله) [هود: 1، 2] وقال عن نبيه يوسف: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) [يوسف: 40] وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.(3/323)
(ص327) قال ابن القيم رحمه الله: وطريقة القرآن في مثل هذا، أن يقرن النفى بالإثبات، فينفى عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد؛ والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد، إلا متضمناً للنفى والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، انتهى.
ولذلك أفادت هذه الكلمة، الحصر، والاختصاص؛ وقرر بعض المحققين، لهذه الكلمة الطيبة، وما شابهها من الآيات، التى ابتدأت بنفى الإلهية والعبادة عن غير الله، أن ذلك أبلغ، وآكد في الإثبات، والاختصاص؛ ومنه: لا رجل إلا زيد، أو: لا كريم إلا زيد، فإنه مع إفادته نفي الصفة عن غير المستثنى، أفاد إثباتها له، على وجه الكمال، الذي لا يتأتى بمجرد الإثبات، من غير نفي، فلا تفيده: زيد رجل؛ أو زيد كريم؛ ولأن بين النفى والإثبات هنا تلازم من كل وجه، فلا براءة من الشرك وعبادة غير الله إلا بتوحيده، ولا توحيد إلا بالبرءاة من كل معبود سوى الله، وكما تضمنت العلم، فهي تتضمن العمل، ولا يتصور وجود شهادة، وإذعان وإتيان بمدلولها إلا مع العلم والعمل، وهذا الذي قررناه، تدل عليه عبارات أهل العلم، من اللغويين، والمفسرين وغيرهم.
والإله وضع لكل معبود، حقاً كان أو باطلاً، لأنه مشتق من: الإلهة، بمعنى: العبادة؛ قال في القاموس: أله، يأله، إلهة، وألوهية: عبد، يعبد، عبادة؛ وكل من عبد شيئاً، فقد اتخذه إلها، انتهى؛ وقال غيره: إله، اسم(3/324)
(ص328) جنس، يقع على كل معبود؛ والإله، بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب ـ قال شيخ الإسلام: الإله، هو الذي تألهه القلوب، محبة، وذلا وإنابة، وتعظيماً، وتوكلا، وخوفاً، ورجاء؛ وكذا قال ابن القيم، وابن رجب، وغيرهما من أهل العلم؛ وبعد التعريف، والتفخيم، صار علماً على ربنا جل وعلا، قال سيبويه: هو أعرف المعارف؛ قال تعالى متمدحاً بذلك: (هل تعلم له سمياً) [مريم: 65] والدليل على أنه بمعنى العبادة، قول رؤبة:
لله در الغانيات المُدّهِ ... ... سبحن واسترجعن من تأله
يعنى تعبد، وقرأ ابن عباس (ويذرك وإلهتك) [الأعراف: 127] أى: عبادتك، وزنا ومعنى؛ وأما التعبيد، فهو في الأصل: التذليل، كما قال الشاعر:
تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت ... ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والمور المعبد، هو: الطريق المذلل؛ وفى الاصطلاح، هى أخص، لأنه لا بد فيها من وجود الركن الأعظم، وهو الحب، قال في الكافية: ـ
وعبادة الرحمن غاية حبه ... ... مع ذل عابده هما قطبان
والقطب، الأس، الذي عليه المدار؛ وبهذا يتبين أن المقصود: نفى استحقاق العبادة عن غيره تعالى، لا نفى وجود التأله والتعبد لسواه؛ فإن نفى وجوده مكابرة للحس والنص، قال تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة ليكونوا لهم(3/325)
(ص329) عزاً) [مريم: 81] وقال: (أئفكا آلهة دون الله تريدون) [الصافات: 86] وقال عن صاحب يس: (ءأتخذ من دونه آلهة) [يس: 23] فسمى معبوداتهم على اختلاف أجناسها آلهة، وعبادة غير الله وجدت وانتشرت، واشتهرت في الأرض، من عهد قوم نوح؛ وقد تقدم: أن من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها؛ ويدل عليه، قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون)[الكافرون: 1]
وقد غلط هنا بعض الأغبياء، وقدر الخبر : " موجود " وبعضهم قدره: " ممكن" ومعناه: أنه لا يوجد، ولا يمكن، وجود إله آخر؛ وهذا جهل بمعنى: الإله؛ ولو أريد بهذا الاسم: الإله الحق وحده، لما صح النفي من أول وهلة، والصواب: أن يقدر الخبر: " حق" لأن النزاع بين الرسل وقومهم، في كون آلهتهم حقاً، أو باطلا ً؛ قال تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) [سبأ: 24] وأما إلهية الله: فلا نزاع فيها، ولم ينفها أحد ممن يعترف بالربوبية.
لكن زعموا: أن إلهية أندادهم، وأصنامهم، حق أيضاً، ولذلك: قالت لهم رسلهم (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) [الأعراف: 59، 65، 73، 85] وبادر منهم من جحد ذلك بقوله: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) [ص: 5] لما دعى إلى هذه الكلمة، فأنكروا إبطال عبادتها، المستلزم لإبطال تسميتها، وهذا مستفيض عندهم، قد ارتاضت به(3/326)
(ص330) ألسنتهم، لا يحتاجون فيه إلى موقف ومعلم، بل عرفوه بمجرد الوضع، قال أبو جهل لأبى طالب لما دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كلمة الإخلاص: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فعرف بعربيته: أنها تبطل عبادة وإلهية من عبده عبد المطلب وقومه، وهذا قصر إفراد، لا قصر قلب؛ لأن المقصود إفراده بالإلهية وإستحقاقها.
فيكون النفي على هذا منصباً على الخبر، وهو: " حق " المقدر، وتقديره: موجود، أو ممكن: لا يفيد ما تقدم، إلا إذا وصف الاسم بحق؛ وقيل: لا إله حق موجود، فحينئذ يستقيم الكلام، ويرجع إلى ما قلنا.
و" لا " هذه، هى: النافية للجنس، واسمها يبنى معها على الفتح، على المشهور، والخبر ما مر تقريره، و " إلا " أداء استثناء، وما بعدها هو المستثنى، وهو مرفوع، والعامل فيه، هو العامل في الخبر؛ لأنه بدل منه عند البصريين، وعند الكوفيين: هو عطف نسق؛ قال ثعلب: كيف يكون بدلاً، وهو موجب، ومتبوعه منفي، يريد أن التابع والمتبوع، لابد أن يتوافقا نفياً وإثباتاً، وأجيب عنه، بأنه بدل منه في عمل العامل، وتخالفهما في النفي والإيجاب، لا يمنع البدلية؛ وأجاب: خالد الأزهرى، بأن محل اشتراط ذلك، في غير بدل البعض.
قلت: وبما قالوه، يعلم: أن المستثنى مغاير للمستثنى منه، معنى، ولفظاً؛ فمن أجهل خلق الله، وأضلهم من(3/327)
(ص331) فهم: دخول المثبت في المنفي، والمستثنى في المستثنى منه؛ فكيف يتوهم من يعقل ما يقول، دخول: الإله الحق في اسم: " لا " المنفي ؟! وهل بعد هذا التوهم من الضلال، أمد ينتهى إليه ؟ وقد ترد " إلا " بمعنى: غير، كما في قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: 22] وذلك: إن كان الموصوف جمعاً، أو شبهه؛ ويؤيده، حديث الاستفتاح: " سبحانك اللهم وبحمدك....... ولا إله غيرك " وعاقبت "غير "، " إلا " في هذا المحل، وهى: تفيد مغايرة ما قبلها لما بعدها بالذات، كما إذا قلت: جاءنى رجل غير زيد؛ وفى الصفات، كقولك: خرجت بوجه غير الذي دخلت به.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنه رفع إليَّ رسالة، لرجل فارسى، تكلم فيها على معنى: لا إله إلا الله، وأتى بخلط وضلال، يخالف ما عليه أهل العلم، في هذا المقام؛ من ذلك: أنه افتتح رسالته بقوله: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات؛ وهذه العبارة: دائرة بين أمرين، إما سوء المعتقد، والقول بأنه تعالى في كل مكان، كما هو قول أهل الحلول؛ وإما الجهل بالعربية، ومعانى الحروف؛ ولا يقال؛ إن "الباء" بمعنى "من " لأنها لا تنوب إلا عن " من " التبعيضية؛ ويشترط في نيابتها: أن تشرب معنى لا يستفاد من " من " وقد اجتمع الأمران، في قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله) [الإنسان: 6] وقول الشاعر:
(332ص) شربن بماء البحر ثم ترفعت ... ... متى لجج خضر لهن نئيج ثم قال في رسالته: وبالله التمسك والاعتصام؛ والتمسك إنما يكون بدينه، وكتابه، وأمره؛ ولا يقال: تمسكت بالله، لأن التمسك بمعنى: الالتزام، والأخذ والثبات؛ ولا تليق هذه المعانى ههنا؛ وقال في رسالته: إن الإله وضع في اللغة للمعبود فقط، لا بقيد الحقيقة، أو البطلان؛ وهذه العبارة كذب على اللغة، فإن كتب اللغة بأجمعها، دلت، وقررت: أن الإله موضوع لكل معبود، وأدلة ذلك تعرف في مواضعها، فلا نطيل بذكرها.(3/328)