ص -306- ... النصارى، والمجوس والهند ذلك الحكم الباطل، لأن الصلاة والأذان والتدريس، موجود في بلدانهم، وهذا إبطال للهجرة والجهاد، وصد للناس عن سبيل الرشاد.
والثاني: مسلم ترخص لنفسه، وآثر دنياه، واختار أوطانهم لعذر من الأعذار الثمانية؛ فهجر هذا الصنف من الناس، هو من باب هجر أهل المعاصي، الذي ترجم له البخاري وغيره. ولا يهجر هجر الكفار؛ بل له حقوق في الإسلام، منها مناصحته والدعاء له، إلا أنا لا نظهر له محبة وملاطفة، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بحيث إنه لا يرى له ذنباً، ويغتر به غيره.
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، مع إيمانهم، وأجلى عمر صبيغاً إلى وطنه، وأمر بهجره، ونهى الناس عن كلامه. ولم يزل الصحابة، رضي الله عنهم، يهجرون في أقل من هذا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي، والدارقطني والطبراني، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين" 1، وأخرجه أيضا ابن ماجة، ورجال إسناده ثقاة، وله شاهد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً: "لا يقبل الله من مسلم عملاً، أو يفارق المشركين"، أخرجه النسائي، وحديث سمرة مرفوعاً: "من جامع المشرك... إلخ"، رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).(10/317)
ص -307- ... ويشهد لصحة هذه الأحاديث، قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]. فنحن نتبرأ مما تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجانبه، شاء العاصي أم أبى.
وقد ذكر محيي السنة البغوي كلاما يحسن ذكره هاهنا، قال: فأما هجر أهل العصيان، وأهل الريب في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم; قال كعب بن مالك - حين تخلف عن غزوة تبوك -: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا"، وذكر خمسين ليلة. وجعل محمد بن إسماعيل، رحمه الله، حداً لتبين توبة العاصي; وقال عبد الله بن عمر: "لا تسلموا على شربة الخمر"، وقال أبو الدرداء:? "لن تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك، فتكون لها أشد مقتاً". انتهى كلامه، رحمه الله.
والأصل الجامع لهذا: أن معرفة استحقاقه سبحانه وتعالى، أن يعبد خوفاً ورجاء، وإجلالاً ومحبة وتعظيماً، لا تبقى في القلب السليم محبة لأعدائه وموادة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل؛ فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية: تصديق الله ورسوله، فلما غلب على الناس حب الدنيا، وإيثارها، أنكروا هذا، ونسوا ما كانوا عليه أولاً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ(10/318)
ص -308- ... الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] جهلاً منهم بحقيقة الإسلام، ولوازمه وقواعده العظام. ولو لم يكن في هذا إلا سد الذرائع المفضية إلى عقد المصالحة بين المسلم والمشرك، لكان كافياً، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإيثار الدنيا، فتح بعض المنتسبين أبواباً على حصن الإسلام، إيثاراً لموافقة العوام؛ وليت هؤلاء احتاطوا لأديانهم، بعض ما احتاطوا لرياساتهم وأموالهم، وما أحسن ما قيل:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا عض العدو ساعدي
فدُهيت منك بضد ما أمّلته ... والمرء يشرق بالزلال الباردِ
وأما من يسافر إلى بلدان المشركين للتجارة، فهؤلاء إن لم يصدر منهم موالاة ومداهنة، وملاطفة للمشركين والمرتدين، فهم أخف حالاً ممن تقدم ذكرهم، وهم مشتركون معهم في التحريم، متفاوتون في العقوبة، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ والحكم منوط بالإقامة والمجامعة في النصوص، لكن كلما خفت المفسدة خف الحكم.
وقد يكون المسافر أخبث من المقيم. وشاهدنا من فسقة المسافرين من أهل القصيم وغيره، من المنكرات العظيمة ما لا يحصى، من ترك الصلاة، وشرب المسكرات، وتحسين طرائق المشركين، والطعن في أهل الدين، ما لا يحكم لأكثرهم معه بإسلام، حتى إن الترك وبعض أهالي مصر، يتحاشون من فعل فسقة نجد.(10/319)
ص -309- ... ولا شك أن بغض هذا الصنف ومقته، والنفرة منه، هو عين المصلحة. وليس هجر هذا الجنس من الهجر المندوب، بل من الواجب، لأن المفسدة عظمت بهم؛ فهم ومن يترخص لهم من المنتسبين، أعظم بلية من العدو البعيد.
والقاعدة الكلية في هذا: ترجيح ما يفضي إلى ضعف الشر وخفته، وإعزاز الحق وقمع الباطل، وارتداع المخالف، قال شيخ الإسلام - لما ذكر هذه القاعدة -: ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين. ولبعضهم شعراً:
صعبت تكاليف الشريعة فانثنى ... وسطا عليها كل خبٍّ لاهِ
فاشدد يديك بحبل ملة أحمد ... لا تخدعن بمنصب أو جاهِ
واسلك طريق اللطف في تبليغها ... متجرداً فيها لوجه الله(10/320)
ص -310- ... [ الصبر على مقام الدعوة ]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي، وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وعافاهم، وأصلح بالهم وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، وعلى أقداره، وحكمه. والخط وصل، وصلكم الله ما يرضيه، وما ذكرتم صار معلوماً، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان.
والذي أوصيكم به: تقوى الله تعالى، ومعرفة تفاصيل ذلك، على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد: "إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات". وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره، عند ذكر الفتن(10/321)
ص -311- ... والملاحم. وذكر ابن رجب في رسالته كشف الكربة في فضل الغربة، ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم، رحمه الله، في المدارج جملة صالحة. وفي الأثرك "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، وفي حديث الغرباء: "للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" 1.
والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، بالتلطف بالإبلاغ عن نبيكم؛ وهذا مع القدرة وأمن الفتنة أفضل من العزلة، والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم. وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكني ابتليت بالناس، وحيل بيني وبين ذلك، والله المستعان، وإليه المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن (3058), وابن ماجة: الفتن (4014).(10/322)
ص -312- ... وكتب إليهم أيضاً: فقال - بعد السلام -: وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العمي، ولم يبلغني عنكم ما يسر من القبول والقيام لله؛ والحق على طالب العلم، والمنتسب إلى الدين والفهم، أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد. والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبال الراسيات، وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات؛ فما مضت فتنة إلا إلى ما هو أكبر من الشرك والكفريات.
ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرج والحكم، وكثر الخوض والاعتراض، من بعض من ينتسب إلى القراءة ويدعي الفهم والطلب. واتبع جمهور أولئك ما يهواه، من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المحاقة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عبّاد الأوثان والأصنام.
وما أحسن ما قال سهل بن حنيف، فيما رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: "لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي. فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله(10/323)
ص -313- ... ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نسد منها خصماً إلا انفجر خصم، ما ندري كيف نأتي له، والسلام".
[ السفر إلى بلاد المشركين ]
وسئل: عمن يسافر إلى بلد المشركين... إلخ.
فأجاب، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين، التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين، فاعلم: أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على من يقدر على إظهار دينه، أو على من كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أنيط بالمجامعة والمساكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: "من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله" 1. فانظر ما علق به الحكم، من المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر، واشتد البلاء؛ وهذه محرمات مستقلة، يضاعف بها الإثم والعذاب، فكيف تروج عليكم هذه الشبهات؟ ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتف مع هذه التعاليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/324)
ص -314- ... ومن مقاصد الهجرة: الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه، وإلى رسوله بطاعته، وتعزيره ونصره، ولزوم جماعة المسلمين؛ ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان، في غير موضع من كتاب الله عز وجل. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به - والغالب كذب هذا الجنس -، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص، أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم، تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى منحدره.
ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النفرة، فرحل إليهم من رحل، وقبلوا رسائلهم، وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم، وجالسوهم، وراسلهم بعض من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية، والشرائع الإيمانية؛ ولو صدق ما زعموه في قلوبهم، لأطاعوا الله ورسوله، واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن. وحماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية؛ وقد ترجم شيخنا، في كتاب التوحيد، لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس!(10/325)
ص -315- ... وله أيضاً، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس، من مداهنة المشركين والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، وفوق ما إليه أشرتم؛ وقد سبق مني لكم جواب، وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك، ونسيان التوحيد، وأن من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر من بعض من يظنه العامة، من أهل العلم وحملة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه والعبارات التي لم يتصل سندها، ولم يعصم قائلها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق.
وفي حديث ثوبان: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" 1، وهو يتناول من له إمامة، ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء؛ وأبيات عبد الله بن المبارك، معلومة لديكم في هذين الصنفين، أعني قوله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... .................................إلخ
وفي مثل هؤلاء قال قتادة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2229), وأبو داود: الفتن والملاحم (4252), وابن ماجة: الفتن (3952), وأحمد (5/278, 5/284), والدارمي: المقدمة (209).(10/326)
ص -316- ... "فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وكما نقلتم عن بعضهم: أنه زعم أن الشيخ الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه، أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين، بأن غاية ما يفعل معه: الهجر وترك السلام، بلا تعنيف ولا ضرب؛ وهذه غلطة من ناقلها، لم يفهم مراد الشيخ إن صح نقله، ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولاً، فإن ثبت بنقل عدل ضابط، فيحمل على قضية خاصة 1 يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية، ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر، مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل.
ويتعين هذا إن صحت، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر، المتوعد صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن، وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال عليه وعلى إظهاره، فإنه مستثنى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ فالكبائر التي ليس فيها حد، يرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير، كالهجر والضرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم عنه، رحمه الله، في صفحة: 275 , ولما يأتي من التفصيل أيضاً في صفحة: 341-346 إن شاء الله تعالى.(10/327)
ص -317- ... وقد يقع التعزير بالقتل، كما في حديث شارب الخمر: "فإن شربها في الرابعة، فاقتلوه" 1. وقد أفتى شيخ الإسلام، رحمه الله، بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان، إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بحل دم من جمز إلى معسكر التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله؛ وكل هذا من التعازير، التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة. وأفتى في التعزير بأخذ المال إذا كان فيه مصلحة.
وقد عرفتم: أن من أكبر المصالح: منع هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حال وإسلام لمن ينتسب إلى الإسلام، مع المخالطة والمقارفة الشركية، لوجوه منها: عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. ومنها: العجز عن إظهاره لو عرفوه. ومنها: أن العدو محارب، قد سار إلى بلاد المسلمين، واستولى على بعضها، فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. ومنها: أن تلك البلاد ملئت بالمشبهين، والصادين عن سبيل الله، ممن ينتسب إلى العلم، ويسمون أهل التوحيد الغلاة، كما سماهم إخوانهم خوارج. والهجرة لها مقصودان:
الفرار من الفتنة، وخوف المفسدة الشركية.
والثاني: مجاهدة أعداء الله، والتحيز إلى أهل الإسلام. وقد كانت غير مشروطة في أول الإسلام مع ضعف المسلمين، وخوف المشركين وشدة بأسهم، وكثرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدارمي: الحدود (2313).(10/328)
ص -318- ... الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يهدر ولا يطرح في كل مقام، لا سيما والمقارف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثير جداً. فالنجا النجا! والوحا الوحا! قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. ولعل الله أن يمن بخط مبسوط، يأتيكم بعد هذا، فيه التعريج على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كذب هذا المفتري على الشيخ.
وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكم الإقامة، يمنع منه من عجز عن إظهار دينه، وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أعطوا الجدل ومنعوا العمل" 1. وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر، من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يؤثر عن السلف: أن علامة أهل البدع: الوقوع في أهل الأثر; وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حققوا، واكتبوا لنا ما تنقمون، وقرروا الحجة بما تدّعون، أحجموا عن ذلك، وعجزوا عن مقاومة الخصوم. ومتى يدرك الضالع شوى الضليع؟
شعراً:
أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ
وحسابنا، وحسابهم على الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وبلغوا سلامنا إخوانكم، الذين جردوا متابعة الرسول، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16]، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن (3253), وابن ماجة: المقدمة (48).(10/329)
ص -319- ... ينتسبوا إلى قيس ويمن، كما قد وقع عندكم فيمن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه، وصلى الله على محمد.
[ ما يصنع عند حدوث الفتن ]
وله أيضاً، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مراراً، وقامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثرين على رأيه الأول، وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر للنصائح والمواعظ وقبولها، ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى، والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل..." 1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة، فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770), والترمذي: الدعوات (3420), والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625), وأبو داود: الصلاة (767), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357), وأحمد (6/156).(10/330)
ص -320- ... والواجب عند ورود الشبهات، هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر، لا سيما عند هذه الفتنة، التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة، قال: قلت: "يا رسول الله، إنا كنا في شر، فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك. فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة، كوجوه البقر؛ لا تدرون أياً من أي" 1. فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده.
فتعين: الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجبه وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن:
فعن حذيفة رضي الله عنه:? "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار -. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/391).(10/331)
ص -321- ... على دخن، وجماعة على إقذاء. قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن، ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار-، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار. وأن تموت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحداً منهم".
قلت: فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، ووصاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفهمه ويفقهه إلا من تعلم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر، من الشك والريب والالتباس؛ وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيرهم؟! شعراً:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وتدبر القرآن والتفقه في معانيه، فبذلك يعرف العبد إن عقل عن الله: أن أوجب واجب فيه، وأهمه وآكده،(10/332)
ص -322- ... وزبدته: معرفة الله تعالى بما تعرف به إلى عباده، من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه وشمول قدرته، وكمال عزته وعميم رحمته.
وبمعرفة ذلك، يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والتقوى، ويرضى به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً رسولاً، ويذوق من طعم الإيمان، ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب. ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها؛ فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر، والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5].
فمن عرف هذا الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتن الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهدّ والهدم، والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الكفرية، وأن(10/333)
ص -323- ... مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهمه المتوهمون، ويظنه الظانون.
وبه يعلم: أن أسباب ما وقع من الوسائل، إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها، من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية. فإن انضاف إلى تسهيلها، إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم، وتوقيره، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعى الإسلام، ويبكيه من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37]. وفي الحديث: "من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام"، فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟! فالله المستعان.
وأعجب من هذا: أن بعض من يتولى خدمة من حاد الله ورسوله، يحسن أمرهم، ويرغب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقاه منافقوها وجهالها، بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين. فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".(10/334)
ص -324- ... وما جاء في القرآن من النهي، والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم، دليل على أن أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات له، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض، قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73].
وهل الفتنة إلا الشرك؟ والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية [سورة المائدة آية: 51-52]، قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، وهو لا يشعر.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58].
قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء(10/335)
ص -325- ... العساكر عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبدالهم به، عما اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81].
وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]. وقد جزم ابن جرير في تفسيره، بكفر من فعل ذلك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [سورة المجادلة آية: 22].
فليتأمل من نصح نفسه: هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم؛ فإنه يتبين له - إن وفق وسدد - أنها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم(10/336)
ص -326- ... السلم، فكيف بمن أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 5].
وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما مَنَّ الله به عليكم، من دعوة شيخنا، رحمه الله، إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم. وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر، وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضى بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 28].
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله! ودعوا اللجاج والمراء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسوله، من البينات والهدى. ولا يسهل لديكم مبارزة رب السماوات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر(10/337)
ص -327- ... والتعطيل والشرك والجدال والمراء. ولا تفتحوا أبواب الفتن للمشاقة والتفرق، والقدح في أهل الإسلام؛ فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه. وقد جاء الحديث: "إن هذا الحي من مضر لا تدع لله في الأرض عبداً صالحاً إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعة" 1.
وبعض من يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنى عليه به; وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربما ثبط عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين. والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر، ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم. ولهذا حذر الشارع من فتنة من فسد من العلماء والعباد، وخافه على أمته. فأما المؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من عرضات الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل، شعر:
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيلُ
وينبغي لك يا عثمان: أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفرقة والاختلاف من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/390).(10/338)
ص -328- ... فتح أبواب الشر والفساد. فاحرص على ذلك واعتد به من صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 1. والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها؛ ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي؛ وإن جاءنا منكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان. والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3009), ومسلم: فضائل الصحابة (2406), وأبو داود: العلم (3661), وأحمد (5/333).(10/339)
ص -329- ... [ التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم: إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلين. والذي كتبناه للإخوان به كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى، عند جماهير المتأخرين؛ نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد، هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي، لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة. وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين.
فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه، منها: أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة، متعذر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من(10/340)
ص -330- ... خبر القوم، مع من يجالسهم ويقدم إليهم؛ وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم، إلا بإظهار عظيم من الركون، والموالاة والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها، ترساً يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق، بين السائرين إلى الله والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم.
وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستبيحت مساكنة عباد الأوثان والأصنام، وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسارت إليهم ربات الخدور والحجال، عملاً بقول رؤساء الفتنة والضلال؛ ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم، في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية، من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح.(10/341)
ص -331- ... وقد قيل: يفسد الأديان، نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية. ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب. وما أحسن ما قال في الكافية الشافية:
ولقد نجا أهل الحديث المحض أتـ ... ـباع الرسول وتابعو القرآنِ
عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفانِ
وسواهمو في الجهل والدعوى مع الـ ... ـكبْر العظيم وكثرة الهذيانِ
مدوا يداً نحو العلى بتكلفٍ ... وتخلف وتكبر وهوانِ
أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشا العلى من ذا الزبون الفاني
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين التصريح من هؤلاء المسافرين؟ والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكر الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين من إباحة السفر لمن أظهر دينه.(10/342)
ص -332- ... ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم. وأي رجل تراه يعمل المطي، جاداً في السفر إليهم، واللحاق بهم، حصل منه ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب؟ والمعروف المشتهر عنهم: ترك ذلك كله بالكلية والإعراض عنه، واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان.
الوجه الثاني: أن قتال من هجم على بلاد المسلمين، من أمثال هؤلاء فرض عين، لا فرض كفاية، كما هو مقرر مشهور؛ فلا يحل ولا يسوغ - والحالة هذه - تركه والعدول عنه، لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية، لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال: يجوز السفر لمن قدر على إظهار دينه، لو فرضناه حاصلاً، فكيف والأمر كما قدمت ؟!
الوجه الثالث: أن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح إشاراتهم: أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه، والإعلان به. وكيف يظهره من(10/343)
ص -333- ... لا يدريه، ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعراً:
فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسنِ
حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيها عقائد المبتدعة، كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرفت - أرشدك الله - أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقَلّ من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه، وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته.
وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة، وتعطيلهم؟ وصار على نصيب وحظ وافر، من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم، ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا.. فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات: هل يغتفر الجهل بذلك، والإعراض عنه، علماً وعملاً، ويكتفى(10/344)
ص -334- ... بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون إليه أيضاً، وهم من أشد خلق الله كفراً به وجحوداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه؟
فإن قالوا: يكتفى بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه، من دليلهم بالرد والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم وسبر، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية.
هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثقُ
فمن هان عليه أمر الله تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته؛ وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره؟(10/345)
ص -335- ...
خلافاً لأصحاب الرسول وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهلُ
الوجه الرابع: أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار دينه الفتنة، بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين، إلى بلاد الحبشة من تعلم، من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب، وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31].
وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم ومكاتباتهم، إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملإ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين؛ ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمع من قائله، قد بلغه وتحققه. فأجهل الخلق وأضلهم(10/346)
ص -336- ... عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم - والحالة هذه - ويرى حله وجوازه.
الوجه الخامس: أن سد الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده؛ وقد رتب العلماء على هذه القاعدة، من الأحكام الدينية تحليلاً وتحريماً، ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية، قدس الله روحه، لهذه القاعدة في كتاب التوحيد، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وساق بعض أدلة هذه القاعدة.
وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك. ولو أفتينا بتحريم السفر، رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً لذرائعه المفضية، لكنا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل.
الوجه السادس: أنا لا نسلم دخول هذه البلدة، التي الكلام بصددها، في عبارات أهل العلم، ورخصتهم، لأن صورة الأمر وحقيقته: سفر إلى معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه.(10/347)
ص -337- ... فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه ؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ
وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته للناس إماماً، من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين - وفي رواية: والمسلمين -. فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يأخذون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم؛ وأولئك هم الشهداء" 1.
والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جمهان، فقد وثقه أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما أُلين لداود الحديد، فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر. ومن أعرض عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الملاحم (4306), وأحمد (5/40, 5/44).(10/348)
ص -338- ... جهادهم، وتباعد عنهم، مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية، المعرفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدإ والخبر؛ والحصر وإن كان ادعائياً، فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته. والحديث وإن تأوله بعضهم، في حادثة التتر في القرن السابع، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولاً وبقية؛ ولا ريب أن الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها، فهو يشبه بها من كل وجه.
فإن لا يكنْها أو تكنْه فإنه ... أخوها غذته غذته أمه بلبانها
وقد قال شيخ الإسلام، في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم، ارتد وحل ماله ودمه. فتأمل هذا! فإنه - إن شاء الله - يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم، من نصوصهم وصريح كلامهم.
ثم اعلم: أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم،(10/349)
ص -339- ... نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة; ومن قال بالتخصيص والتقييد لها، إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية، لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص.
ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم: أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرع، وقضية على قضية. والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق.
وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني جزم فيما كتبه على المنتقى، برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه. مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدم ذكره. والقصد: أن المسألة من أصلها، فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة.
وقد رأيت بخط الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه:
شمر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلاَ
وصل السؤال وكن هديت مباحثا ... فالعيب عندي أن تكون جهولاَ(10/350)
ص -340- ... وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي، فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة والمال ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به. فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين، في هذا الزمان، مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع.
وأكثر الناس، يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار، التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً وأعظم جرماً، بجميع ما تقدم من الأحكام؛ ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم، من المباسطة والمؤانسة والإكرام، ما هو أعظم مما مرت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي. فافهم ذلك! والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه، ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(10/351)
ص -341- ... [ عموم البلوى بالسفر إلى المشركين ]
وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن علي آل موسى، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسبق إليك خط، مع البداة أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ، قدس الله روحه ونور ضريحه، فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام: ورد علينا خط من ولد العجيري، ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله، لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته. هذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله.
وهذه العبارة - بحمد الله - ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل، لوجوه، منها: أن الذي وقع في هذه الأعصار،(10/352)
ص -342- ... وكلامنا بصدده، أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة: منها ما يوجب الردة، وذهاب الإسلام بالكلية ; ومنها ما هو دون ذلك، من الكبائر والمحرمات.
وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1]، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان; وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس، أو للحضر، وهذا واقع مشاهد، تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام، ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم.
فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشرع، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم، على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل(10/353)
ص -343- ... الشرك عليها، وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكلية، بمسألة خلافية، في جواز الاستعانة بمشرك، ليس له دولة ولا صولة، ولا دخل في رأي، مع أنها من المسائل المردودة على قائليها، كما بسط في غير موضع 1.
وبالجملة: فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة.
وقول الشيخ: قد عمت به البلوى، يبين أن الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم، في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض، عما وجب من فروض العين؛ وإذا هجم العدو، صار الجهاد فرض عين، يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟
وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلا بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة، في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن المواضع: ما سيأتي في الصفحات من 364 إلى 374.(10/354)
ص -344- ... والضرب، ونحو ذلك، مفسدة، تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح; فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية، لا سيما في مخاطبة العامة.
وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه. وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ رحمه الله.
وقوله: ينبغي هجره وكراهته، فيه بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور، ومن له سلطان أو قدرة، فعليهم تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فباللسان، ومن لم يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم; بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصر المكابر لا ينتهي، إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد، رحمه الله، تعنيف هذا الجنس، وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين.(10/355)
ص -345- ... وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه من هذا الباب. وأشار إلى ذلك في اختياراته، وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية، تدخل فيها تلك القضية الجزئية.
وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها، أو رضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث؛ بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه، لموافقة الحديث النبوي، لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر الفتوى، يجعله بعض المنتسبين منفاخاً، ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته.
والواجب على مثلك: النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية(10/356)
ص -346- ... [سورة الإسراء آية: 74].
فانظر ما ذكره المفسرون، حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم، في الركون؛ وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به، على اختلاف رتبه، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله، والمؤمنون أنها الكفر، والجهل، والضلالة.
ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله ورسوله، وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته، في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذم ما خالفه والبراءة منه ومن أهله.
وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع، في قطع الوسائل والذرائع؛ وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله، فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان.
وهذا الخط، اقرأه على من تحب من إخوانك، وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام.(10/357)
ص -347- ... [ رد شبهة من قال أن آية: {إن الذين توفاهم الملائكة}
هي فيمن قاتل المسلمين ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن الأخ: حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم، مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به، على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير.
قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي بترك الهجرة. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي: لِم كنتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] أي: لا نقدر على الخروج، ولا الذهاب في(10/358)
ص -348- ... الأرض، قالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97]. وساق، رحمه الله، ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" 1.
فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليقه ما فيها من الأحكام، والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج. كل ذلك ليس فيه ذكر للقتال؛ فتأمل هذا، يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها.
وتأمل حديث سمرة، وما فيه من تعليق هذا الحكم، بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله; وكذلك لما روى ابن جرير عن عكرمة، قال: كان أناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [سورة النساء آية: 97-98]، وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/359)
ص -349- ... هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [سورة النحل آية: 110].
فكتبوا إليهم بذلك: أن جعل الله لكم مخرجاً، فخرجوا، فآذاهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وروي عن ابن عباس في الآية: "هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه. فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ضربت الملائكة وجهه ودبره". وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن قوماً من أهل مكة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام. وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97]"، فهذا القول ونحوه، مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، ولا يدل على أن الآية خاصة بهم، بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السفهاء: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم: أن هذه الآية تناولهم بعمومها، ولم يريدوا: أن هذا النفاق، والقتال مع المشركين، هو الذي أنيط به هذا الحكم، وترتب عليه(10/360)
ص -350- ... الوعيد، فإنهم أجلّ وأعلم من أن يفهموا ذلك، والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام.
ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة. وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم، ودقائقه؟ وليتهم - أعني هذا وأمثاله - اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر منهم ما اشتهر وذاع، من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا، على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوى به سواه.
وتأمل كلام شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، على هذه الآية، فإنه أفاد وأجاد، وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه. فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟!
وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم، ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا(10/361)
ص -351- ... أهلية. ثم لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزين عند المسلمين بحمد الله، على عدم حضوره بتلك البلد. ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله وكذب نفسه. ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة، والتحف والهدايا، والمجالسة، والتردد، شغفاً بالجاه والرياسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله.
وأما ما نقل عنه، من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع؛ وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وروى السدي قال: "لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]". فتأمل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121]، كيف حكم على من أطاع أولياء الشيطان، في تحليل ما(10/362)
ص -352- ... حرم الله، أنه مشرك، وأكد ذلك بـ"إن" المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه. والله تعالى أسأل أن يمن علينا وعليكم، بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
[ الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة ]
وله أيضاً، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده، وتقواه، آمي.، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وإن أتى الدهر بمر القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين، وقد عرفت: أن الله سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام، التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سر وحكمة بالغة، يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء. وأكثر الناس في خفارة جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيما عقل، ولا فيما أطلق.(10/363)
ص -353- ... وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء، ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام، والدعوة إليه ونشره، وتعريفه وتقريره، في كل مجلس ومجمع؛ فإن أكثر الناس قد ضل عنه وهو لا يدري عن حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5].
وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير، مع العسكر والزوار، فلا يصدر هذا الإنكار، إلا عن جهل بحقيقة الإسلام، وقواعده الكبار؛ وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام، وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر، والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العلية، وإخلاص(10/364)
ص -354- ... العبادات للمعبودات الوثنية ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟!
فمن جادل عمن خالط هؤلاء، ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادل فيه، وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم، في أي شيء؟ وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31]. والذي أوصيك به: الثبات، والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وصلى الله على محمد.
وسئل: عمن يجيء من الأحساء، بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهله، ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأن بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر... إلخ ؟
فأجاب: الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج، ونحوهم من المعطلة للربوبية(10/365)
ص -355- ... والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً. فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه.
بل نفس الإيمان المطلق، في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام، ابن تيمية، رحمه الله، في كتاب الإيمان، وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله، أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين"، أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه العظام.(10/366)
ص -356- ... وقد عرف من آية "سورة براءة" أن قصد أحد الأغراض الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله، كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق، ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة، والزيارة والهدايا، والتأنق في المآكل والمشارب، وإن زعم أن له غرضاً من الأغراض الدنيوية؟ فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية.
وقد جاء القرآن العظيم، بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية "النساء"، وقد ذكر المفسرون هناك، ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وأفاد وأوفى; ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة، ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة.
وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة، والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم وما يقال فيهم، حكم المستوطن، لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك الفضائح، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع،(10/367)
ص -357- ... وفرائض، وراء ذلك كله. إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام آية: 132]. وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر; وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع.
والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة، والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة، في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه وأعداء رسوله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة، في الدور الثلاث، قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة البقرة آية: 177].
ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق؛ قال الله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ(10/368)
ص -358- ... يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة البقرة آية: 26-27]، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاث، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدإ والخبر. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]. فهذا الفساد المشار إليه، في هذه الآيات الثلاث الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين.
وبالجملة: فمن عرف غور هذا الكلام - أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر - تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد.
والواجب على مثلك: أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه. والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان.
وسئل: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟(10/369)
ص -359- ... فأجاب: هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين؛ ومن لم يعادهم لا يقال له: عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم.
وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة، ولم يفارق؛ ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة.
فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28].
والثاني: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. وأما الثاني، الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة، فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين; فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن ليس بعذر(10/370)
ص -360- ... يوجب ترك الهجرة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56].
وأما ما كان في دار الإسلام، ولا تعلّم أصل الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها، صار يعزر ويوقر، أعداء الدين؟
فالجواب أن يقال: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجوداً؛ والتفريق والترك، إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات، والمستحبات. وأما اذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الآية [سورة الأعراف آية: 179]، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية [سورة طه آية: 124]. ولكن عليك أن تعلم: أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة، وإن اختلف التعبير واللفظ؛ فإن كثيراً يعرف القصد والقاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور. وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضاً، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه؛ فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من(10/371)
ص -361- ... التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه.
وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل، والحكم به، بل ذكروا وجوهاً متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومن أحسن ما قيل: أن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك؛ وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل.
وسئل: عمن يخالط أهل بلده، ويرجو بها أن يجيبوه إلى الإسلام... إلخ؟
فأجاب: أما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام، وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك، أو بدعة، أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم، إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر، إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد، واستحب.
وبلغني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كان يخرج إلى عسكر التتار، لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل، ممن صحبه في(10/372)
ص -362- ... إحدى تلك المرات، أن ينكر على جماعة منهم، ما رأوه يدور بينهم، من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا، لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم.
وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام؛ لكن إن خاف مفسدة راجحة، أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة، لا سيما ممن ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب، في منازلهم، أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه، مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد.
والهجر، إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة، فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية، والآثار السلفية، يعرف ذلك ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ سورة الحج آية: 78].(10/373)
ص -363- ... والجهاد بالحجة والبيان، يقدم على الجهاد بالسيف والسنان؛ وقد مر صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمنافقين، واليهود، وفيه عبد الله بن أبي رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منزله، والقصة مشهورة.
وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنه يكون مباركاً أين ما كان، داعياً إلى الله مذكراً به، هادياً إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] أي: داعياً إلى الله مذكراً به، معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها؛ ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته. ونسأل الله العظيم لنا ولكم، علماً نافعاً، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً.(10/374)
ص -364- ... [ البراءة من الشرك وأهله، وحكم الاستعانة بالمشرك ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه. والخط وصل. وما ذكرت من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة "سورة العصر" فقد سرني، وقد عرفت ما قال الشافعي، رحمه الله: لو فكر الناس فيها لكفتهم، قلت: لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية. فتفكر فيها، واعلم: أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان.
وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها خوفاً منك وعليك؛ ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة، برد السنة والقرآن، والدفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها: أن ما كتبته ونقلته، من آية أو سنة، أو أثر، فهو عليك لا لك، لأنه يدل بوضعه، أو(10/375)
ص -365- ... تضمنه، أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم.
وأكثر نصوصك التي ذكرت، دالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، والآية التي قبلها، والآية التي بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه، وقد بسطت القول في ذلك.
وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، والأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلنا، عند من فقه عن الله ورسوله. وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: "إنا لا نستعين بمشرك" 1، وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم.
وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة، وزلة ذميمة؛ كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد ويقرر في المساجد والمدارس؟! وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجهاد والسير (1817), والترمذي: السير (1558), وأبو داود: الجهاد (2732), وابن ماجة: الجهاد (2832), وأحمد (6/67, 6/148), والدارمي: السير (2496).(10/376)
ص -366- ... بهم على التتر، والنصيرية ونحوهم؛ كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صارت الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهاليها.
وكذلك ما زعمته، من أن أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا، فهذه دسيسة شيطانية، وقاك الله شرها وحماك حرها، لو سلم تسليماً جدلياً، فابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض. وأين أنت من قوله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88]، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65].
وأما إجازتك الاستنصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة، وأصول الدين وفروعه; وعند رؤسائهم قانون وطاغوت، وضعوه للحكم بين الناس، في الدماء والأموا، وغيرها، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وأما مسألة: الاستنصار بهم، فمسألة خلافية،(10/377)
ص -367- ... والصحيح الذي عليه المحققون: منع ذلك مطلقاً، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتاباً أو سنة.
ثم القائل به شرَط: أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرَط أيضاً: أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية. واشترط مع ذلك: أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، بخلاف ما هنا؛ كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جداً. وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.
وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان بن بشير ; وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسنَ تبصرِ(10/378)
ص -368- ... وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها، خشية الإطالة. هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنأ شانئ. ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[ رد على رسالة ابن عجلان في الاستعانة بالكفار ]
وله أيضاً، نور الله ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: زيد بن محمد آل سليمان، حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما كتب في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت: أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة، وداهية عمياء ذميمة، لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، وقبض فيه العلم، وتوافرت أسباب الفتن، وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، و{ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [سورة الأحزاب آية: 11]، وعند ذلك { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم آية: 27].(10/379)
ص -369- ... وقد شاع ما الناس فيه، من الخوض والمراء، والاضطراب والإعراض، عن منهج السنة والكتاب; ومال الأكثرون إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهورهم، والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم؛ وحبك الشيء يعمي ويصم.
وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان، رسالة ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلاً عن ذي الفقه والعلم؛ وقد نبهت على ما فيها من الخطإ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا، حذراً من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء، ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتتن بها من غلب الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21]. وأخبرت من يجالسني: أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار، حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها، ولم يعط القوس باريها.
وبلغني عن الشيخ حمد، أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة، وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله ونال من عرضه،(10/380)
ص -370- ... وتعاظم هذه العبارة، ورغم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى.
والرجل وإن صدر منه بعض الخطإ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وذب عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكس أعلامه، ومحو آثاره وقلع أصوله وفروعه، ومسبة من جاء به، لقولة رآها وعبارة نقلها، وما دراها من إباحة الاستعانة بالمشركين، مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة، وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار؛ بل هو تولية وتخلية بينهم، وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله، وسفك دماء أهله، واستباحة حرماتهم وأموالهم.
هذا هو حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح، والكفر البواح، ما لا يبقي من الإسلام رسماً يرجع إليه، ويعول في النجاة عليه، كيف وقد هدمت قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصرح بمسبة السابقين الأولين، من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهراً، في تلك الأماكن والبلدان؟
ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم، فما فهم القضية،(10/381)
ص -371- ... وما عرف المصيبة والرزية. فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته; فمحبة الله والغيرة لدينه، ونصر كتابه ورسوله، مرتبة علية، محبوبة لله مرضية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفت في عضد الداعي إلى الله، والملتمس لرضاه. وهبه كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات، "وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" 1.
فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرجِ
ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد، رحمه الله: أرجو الله أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره أن هناك مانعاً. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه، يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين.
ثم إن القول قد يكون ردة وكفراً، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثم مانع من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا، ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3007), ومسلم: فضائل الصحابة (2494), والترمذي: تفسير القرآن (3305), وأبو داود: الجهاد (2650), وأحمد (1/79, 1/105).(10/382)
ص -372- ... ومن المعلوم: أن من تصور هذا الواقع ورضي به، وصوب فاعله وذب عنه، وقال بحله، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ في عدم الفرق، ولم يدر الحقيقة، واغتر بمسألة خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطإ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يغلب جانب الهوى.
والمقصود: أن الاعتراض والمراء، من الأسباب في منع الحق والهدى، ومن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية، والوسائل الكفرية، عرف ما قلناه. والمعترضون على الشيخ، ليس لهم في الحقيقة أهلية، لإقامة الحجج الشرعية، والبراهين المرضية، على ما يدعون من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة؛ وما أحسن ما قيل شعراً:
أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّا
وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل بها الأكثرون. وطريقة الكتاب والسنة، وعلماء الأمة، تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه.
فليكن لك يا أخي طريقة شرعية، وسيرة مرضية، في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة(10/383)
ص -373- ... العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وهذا لا يحصل مع السكوت، وتسليك الحال على أي حال. فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك، واغتنم أيام حياتك؛ فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان.
والشبهة التي تمسك بها من قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء، من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة؛ وهو قول ضعيف مردود، مبني على آثار مرسلة، تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها على ضعفه، مشروط بشروط، نبّه عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طرفاً في شرح المنتقى; منها: أمن الضرورة والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضاً، ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك. وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة، فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس، وبطلانه أظهر شيء، للفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم. شعراً:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظرِ
والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه(10/384)
ص -374- ... من دينه وهداه، والسلام.
تتمة: غلط صاحب الرسالة، في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر، في رياسته، وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين، وحاجته إلى ما يعين عليه، وتحصل به مصلحته، كما صرح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه، والله أعلم.
[ الحث على البراءة من المشركين ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسريرة. وما ذكرت من المحبة والمودة، فما كان لله يبقى وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه.
والذي أوصيك به: التقوى لله سبحانه وتعالى، والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء، من المهاجرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة، نأيت بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنت المراء في الدين واللجاجة، صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في السوق، وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك(10/385)
ص -375- ... والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبت عما هو أولى بالإصابة والأحرى.
وأقبلت في تلك الأيام على الملإ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله، وهدم دينه، ومطردات أوليائه، والتنويه بذكر أعداء الله ورسوله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم؛ وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام.
وأنت أيها الرجل، ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم، ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بحث ومحاقة، ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات؛ لكنك غلبت جانب الهوى، وأكثرت تلك الأيام من مجالسة من يضر ولا ينفع، ولا يني من إغوائه ولا ينزع.
وقد جاء الأثر: أن من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم؟ ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني، من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك، من دعوى البراءة من الشرك وأهله، على سبيل الإجمال لا التفصيل؛ وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما(10/386)
ص -376- ... وقر في القلوب وصدقته الأعمال.
ولم تزل على ما وصفنا، تطير مع من طار، وتغير علينا بالتخطئة والمراء مع من أغار. ومثلك كان يظن به الخير، ويأسى عليه الصاحب; وأنت وإن لم تكن كل الفقيه والطالب، فقد حنكتك التجارب، وقعدتك الحوادث والمذاهب، لولا ما عارضها من صحبة جلساء السوء، الذين يدعونك إلى أهوائهم، وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المس مس الأرنب، والطبع طبع الثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحكم بيننا وبين من أعان على هدم الإسلام، من صغير وكبير، ومأمور وأمير.
وأيضاً، فأهل الأحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة، واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول، وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه؛ بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة، بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم، وقضاء حوائجهم.
ولم يظهر لي منك قيام بحق الله، عند هذه الدواهي العظام التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني(10/387)
ص -377- ... أحكي ما ظهر لي منك ذلك الوقت. وقد ظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان، رسالة ابن عجلان، فطرت بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني، والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها، مع جماعة من العوام والصبيان. وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، من أهل مصر والشام، بالشرك والمكفرات، وما فيها من أن جلب عباد الأصنام إلى بلاد الإسلام، والاستعانة بهم على من خرج عن الطاعة، ليس بذنب؛ ولولا أن حجاب الجهل والهوى، أكثف الحجب وأغلظها، لتبين شناعة ما فيها للناظرين من أول وهلة، وبمجرد الفطرة، شعراً:
أكل امرئ تحسبين امرءاً ... ونار توقد في الليل ناراً
ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دها بها الشيطان كثيراً من الناس، فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد، ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكاة، ويشب نار الفتنة والضلالات؛ فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة،(10/388)
ص -378- ... ونصب لها حججاً ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين، فيما أمر الله به ورسوله، من واجبات الإيمان، وفيما فيه دفع عن الإسلام وحماية لحوزته، لا تجب والحالة هذه، ولا تشرع.
ولم يدر هؤلاء المفتونون، أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية - حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية - قد وقع منهم ما وقع من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم، معروفة مشهورة، لا ينزعون يداً من طاعة، فيما أمر الله به ورسوله، من شرائع الإسلام وواجبات الدين.
وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة، كسعيد بن جبير، وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق.
والحجاج نائب عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته،(10/389)
ص -379- ... والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه، من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه، ولا يمتنعون من طاعته، فيما يقوم به الإسلام، ويكمل به الإيمان. وكذلك من في زمنه من التابعين، كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة، من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد.
وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان؛ حتى نقل أن السفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم، وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له مشاركة في العلم واطلاع.
والطبقة الثانية من أهل العلم، كأحمد بن حنبل،(10/390)
ص -380- ... ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نصر، وإسحاق بن راهويه، وإخوانهم، وقع في عصرهم من الملوك ما وقع، من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل، كأحمد بن نصر؛ ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم.
وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس، الذين وصفنا حالهم، فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صفحاً، وطويت عن هجرها كشحاً. فإن تبين لك هذا، ومن الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا القديم العهد، والجرح جبار ولا حرج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب إلي واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة. فإن حاك في صدرك شيء، فأكثر من التضرع إلى الله، والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، حديث الاستفتاح، وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام، من كلام شيخ الإسلام، فقد بسط القول في هذه المسألة، في رسائله واستنباطه.
ورأيت له عبارة يحسن ذكرها. قال، رحمه الله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم كلهم،(10/391)
ص -381- ... لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم. ومعلوم أن كلاً من الطائفتين، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي رضي الله عنه من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم، وردتهم، وقتلهم؛ أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم، لو امتنعوا، أترى أن أحداً من الصحابة شك في كفر من التجأ إليهم، ولم يظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم من التجأ، لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟
قال، رحمه الله: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(10/392)
ص -382- ... [ تقوية العضد على الإنكار على من والى الكفار ]
وله أيضاً، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله، وفرج له من كل هم وضيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، أوصيك بتقوى الله تعالى، والصدق في معاملته، ونصر دينه، والتوكل عليه في ذلك. وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى العسكر المشركين، وركن إليهم، وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم، ومبارزتهم لرب العالمين بالقبائح، والكفريات المتعددة؛ هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه، ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل، ومسارعتهم إليه، ومحبتهم له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون آية: 71].
ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهراً، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره، ولا ظهر منه غضب لله، ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده، وإن أنكر بعضهم، وذم ذلك وتبرأ منه، لكن مع الهوينا في ذلك، ولين(10/393)
ص -383- ... الجانب، ومحبته للإعراض، وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض، ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه، قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة، لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9]، شعراً:
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار
فعليك بالجد، والحذر من خدع الشيطان! جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن.
ثم قال، رحمه الله تعالى: ولا تذخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة.
وأهل نجد كادهم الشيطان، وبلغ مبلغاً عظيماً، وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، وأضلهم عن سواء السبيل، الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية، وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنقليز، المعطلة لنفس وجود البارئ، القائلين بالطبائع والعلل، وقدم العالم، وأبديته. وبلغنا أنهم كتبوا خطوطاً لجهات نجد، مضمونها: إنا مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله، ونحو هذا الكلام،(10/394)
ص -384- ... وبسطوا القول في أمر الدولة، والترهيب منهم، والترغيب فيهم.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض، بعد ذلك القرن الصالح، لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهناً في دينه، أو مقصراً في جهاد أعدائه، أو في النصح له ولكتابه ولرسوله. واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم؛ والقلوب أوعية، يعطى كل وعاء بحسبه.
[ الحث على جهاد الكفار ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى، ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره، والإمامة في الدين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه، الذي رغب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل، وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم، وسلامتكم، والحمد لله على ذلك. وما ذكرت كان معلوماً، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين. وليس العجب(10/395)
ص -385- ... ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4]. والواجب على من رزقه الله علماً وحكمة، أن يبثه في الناس وينشره، لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة، وسبقت له الحسنى.
واعلم أن الإمام سعود، قد عزم على الغزو والجهاد، وكتبت لك خطاً، فيه الإلزام بوصول الوادي، وحث من فيه من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة، وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره; كذلك حال البوادي والأعراب، استخفهم الشيطان وأطاعوه، وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام.
فتوكل على الله، واحتسب خطواتك وكلماتك، وحركاتك وسكناتك، وشمر عن ساعد جدك واجتهادك؛ فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب، والله المستعان.
وقد عرفت القراء في زمانك، وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول، المرجو الإجابة، أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام(10/396)
ص -386- ... والتوحيد. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69].
يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا
وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولّت وينصر من بالخير والانا
والسلام.
[ إعلان الإنكارعلى المجاهرين من الفساق ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوماً، وأرجو أن الله يسدد ولي أمر المسلمين، ويمن عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما من الله به من الهدى، الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا، ولا رفعوا به رأساً؛ ونشكو إلى الله ما نحن فيه، من غربة الدين، وقلة الأنصار.
وما ذكرت من جهة... وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم: أن الحق في ذلك لله; والواجب على المسلم: تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه. وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله، إنما هو في الآيات المكية؛ وقد صرح القرآن بنسخه،(10/397)
ص -387- ... وجاءت السنة ببيان ذلك. ولم يرد في الآيات المدنية، الأمر بالصفح عن المشركين، وأعداء الدين؛ بل جاء الأمر بجهادهم، والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهرين من الفساق، ولو كان مسلماً.
ومن جاهر بالمعاصي، ونصرة أولياء المشركين، فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار؛ وفي قصة حاطب، ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النور آية: 2]. وقد ذكر ابن القيم طرفاً من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه.
وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق، قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده السلوك مع الناس، وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق، ونصرة الباطل، يرى الكفاف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم؛ هذا حال فقهاء زمانك، فقل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه، وكشف الشبهة عنه ونصرته، إذا رأيت السكوت والصفح، كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات، لئلا يتوجه الإيراد، والسلام.(10/398)
ص -388- ... [ الحث على الجد فيما ينجي من الركون إلى أهل الكفر ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم: سالم بن سلطان، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وبلغنا خبر هذه الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن تبعه، ممن استزلهم الشيطان. وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد، ولم تحضر ما جرى في ذلك المعهد، وسرنا هذا، لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم، من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين.
فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]، وقال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى(10/399)
ص -389- ... لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57]. فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57]، فإن هذا الحرف وهو: "إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها؛ ومعناه: أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن.
فعليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 94]. نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينزع عنا ما منّ به من الإيمان والتوحيد، بعد ما تفضل علينا وأعطانا.(10/400)
ص -390- ... وقد وعد الله عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، بالنصر والظفر، وحسن العاقبة، قال الله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123].
وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة "عزان" ما يوجب اتهامك؛ ولكن أحببنا الموعظة والتذكرة. والواصل إليك ولدنا: علي بن سليم، بتدبير الإمام، بتذكير أهل الإسلام، وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه. واختار القدوم عليكم، لأنكم أخص، والله الموفق الهادي.(10/401)
ص -391- ... وله أيضا عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الطيف بن عبد الرحمن، إلي الأخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله تعالي، ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، علي حلو نعمه ومر بلواه، وبديع حكمه، والخط وصل؛ وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا، علي نشر النصائع، وكتب الرسائل، لأني استعظت ما فعل " سعود " من خروجه علي الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها، إلا من أطاعه، وانتظم في سلكه، و " عبد الله " له بيعة، وولاية شرعية في الجملة .
ثم بعد ذلك بدا لي منه: أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها، واستجلبها علي ديار المسلمين، فصار كما قيل:
والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، واغلظت له بالقول: إن هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه و فيه و فيه، مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار؛ وكتبت علي لسانه لوالي بغداد؛ أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود، إن شاء الله تعالي، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة،(10/402)
ص -392- ... وكلام من هذا الجنس، وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى .
فاشتبه علي أمره، وتعارضا عندي موجبان، إمامته، ومبيح خلعه، حتى نزل " سعود " بمن معه من أشرار نجد، وفجارها، منافقيها، فعثى في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار، وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى، هذا وأخوه منحصر في شعب " الحائر " وقد ظهر عجزه، واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف، ومحبة المسارعة إليه، ما قد عرف؛ فرأيت من المتعين علي مثلي: الأخذ علي يد أهل البلاد، والنزول إلى هذا الرجل، والتوثق منه، ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين؛ وصيانة لعوراتهم، ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم؛ وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك، كان الرأي فيه: أصوبه، وأكمله، وأعمه نفعا .
فلما واجهت " سعودا " وخاطبته فيما يصلح الحال، فيما بينه وبين أخيه، واشترط شروطا ثقالا علي أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع القتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث، ويستدرك لبقية، وخشيت من عنوة علي البلدة، يبقى عارها بعد سفك دمائهم، ونهب أموالها، والسفاح بنسائها، لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله، والدار الآخرة؛ وخرج عرفاؤه،(10/403)
ص -393- ... والمعروفون من رجالها، فبايعوا " سعودا " بعد ما أعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم و مسيئهم، عهد الله وأمانه، عهدا مغلظا، فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني، بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف، ولزوم الجماعة.
وبعد ذلك: أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام؛ ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد، التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك، واستيلائهم علي الأحساء والقطيف، يقدمهم طاغيتهم " داود بن جرجيس " داعيا إلى الشرك بالله، وعبادة إبليس.
فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزاع، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، شاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر، والخبث المبين ؛ ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم: أنصار لعبد الله بن فيصل؛ فقبل هذه الحيلة، من آثر الحياة الدنيا وزينتها، علي الإيمان بالله ورسله، وكف النفس عن هلاكها، وشقاوتها .
وبعضهم: يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم، لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق،(10/404)
ص -394- ... بل بلغني: أن بعض من يدعي طلب العلم، يحتج بقول شاذ مطرح، وهو: أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل، أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف، مدفوع بالأحاديث المرفوعة ا لصحيحة، وأن قائله اشترط: أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين، ولا سلطان، لقوله تعالى: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) النساء 41 فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم، من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك .
إذا عرفت هذا، عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية، وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة، من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله، وأعداء رسله، قال تعالي: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) آل عمران 187، إلى أمثال ذلك في القرآن، يعرفها الخبير بهذا الشأن .
هذا ما عندي في هذه الحادثة، قد شرحته وبسطته، كما ذكرت لي: ما عندك ؟ وأسأل الله أن يهديني، وإياك إلي صراط مستقيم، وأن يمن علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، والسلام .(10/405)
ص -395- ... [ أكثر أصول الدين وشعبه معدومة في الخواص ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: حمد بن عبد العزيز؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من غربة الدين، فالأمر أجل وأكبر من الغربة. أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص، فكيف بالسوقة، ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل، كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين، وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان، وموالاتهم ونصرهم، ولزوم جماعة المسلمين، وغير ذلك من حقائق الدين، وشعب الإيمان؟ وهذه معدومة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والتمسك به عند فساد الزمان.(10/406)
ص -396- ... [ البراءة من أهل الشرك ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه سحائب فضله، ووالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والذي أوصيك به: القيام لله في هذه الفتنة الشركية، التي أشربتها قلوب أكثر الناس، واذكر قول ابن القيم، رحمه الله، في إغاثته: ولا ينجو من شرك هذا الشرك، إلا من عادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله... إلخ.
والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم؛ فيكون متبعاً لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه؛ وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله.
فلا تذخر المذاكرة بهذا في كل مجلس وكل مجمع، وإن اجتمعت بعبد العزيز بن حسن، فدارجه بالنصيحة، عسى أن ينتفع ويقوم لله، ويبلغ عن رسول الله، فيكون عوناً لك في ناحيتك، والسلام.(10/407)
ص -397- ... [ تفلتات يخاف على صاحبها من النفاق والردة ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ عبد الله بن ربيعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وموجب الخط السلام، والسؤال عن الأحوال مع حدوث هذه الفتن العظام؛ ولعل الله حفظ عليكم الإسلام، وكره إليكم الكفر والفسوق والآثام. ولما أجرى الله - سبحانه وتعالى - هذه الحوادث بنجد، صار من بعض الجهال تفلتات وكلمات، يخاف على صاحبها من النفاق والردة عن الإسلام، وأنتم أهل فطرة، نشأتم في وقت الإسلام فيه قائم، والشرع فيه حاكم، وبين أظهركم من حملة الشرع وطلبة العلم، من يذكر وينصح ويبين.
والآن قد عدم ذلك، وقل ما هنالك، ونَشْرهُ على مثلك من إخواننا، في القيام مع أهل الدين، وتذكير الجماعة بما كانوا عليه من الدين، والمباعدة من المشركين، وهذا فيما يرضي الله ويوجب سعادتك يوم لقائه. وهؤلاء الذين يحصل منهم كلام يضر بالإسلام، مثل ابن هويدي وأمثاله من السفهاء، نَشْرَهُ عليكم، إنكم تقومون عليهم، ولا يسكنون بلادكم. ومثلكم ما يعجز عن أمر يحصل به مرضاة الله،(10/408)
ص -398- ... ونحن وغيرنا من المسلمين معكم على الحق.
فأنت يا أخي لا تغفل عن هذه الأمور، واحرص على أن المقاود يصيرون هم أهل الخير لا أهل الشر. وفي حديث أبي بكر، لما سألته المرأة الخثعمية عن بقاء الإسلام، قال لها ما معناه: إنه يبقى ما استقامت الأئمة، يعني الرؤساء. فإذا صار الأخيار لهم القول، والكلمة النافذة، صلح أمر البلد، وقام الدين، نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
[ معاشرة أعداء الله ومداهنتهم والصلاة خلفهم ]
وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: سهل بن عبد الله، سهل الله له الطريق الموصلة إليه، ووالى إفضاله وإنعامه عليه؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على إنعامه. وخطك لابن عجلان وجوابه لك وصلنا. والواجب على من عوفي في دينه، من هذه الورطات، أن يكثر من ذكر الله وشكره. وفي جوابه من الفهاهة والظلمة، ما لا يعرفه إلا أرباب البصائر، ولو سلم دينه وصح معتقده، لكانت له مندوحة عن معاشرة أعداء الله، ومداهنتهم، والصلاة خلفهم، ولو نوى الانفراد.
وأما ما نقل عن داود، من قصد الزيارة، وأنه ما قصد(10/409)
ص -399- ... الحج، فنعم؛ وهكذا الحال عند الغلاة في الأنبياء والصالحين، حتى صنف بعضهم كتاباً سماه: حج المشاهد، وربما فضل هذه الزيارة على حج بيت الله الحرام.
فأوصيك بتقوى الله، وطلب العلم والإيمان، عله أن يجعل لك نوراً تسير به إلى الإله الحق، الذي في وصولك إليه كل السعادة والهداية، والسيادة في دورك الثلاث. واعلم: أن من حقوق الأخوة في الله، إدامة الدعاء لإخوانك في أوقات الإجابة. وبلغ سلامي إخوانك إجازة عامة مطلقة.
وقال، رحمه الله تعالى وعفا عنه: ورد من بعض الأدباء ما نصه:
رسائل شوق دائم متواتر ... إلى فرع شمس الدين بدر المنابرِ
سلالة مجد من كرام عشائر ... يعيد بديعا من كنوز المحابرِ
ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عميُ البصائرِ
مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر
سقى عهدكم عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائرِ
فيا راكباً بلّغ سلامي وتحفة ... تعزيه فيما قد مضى في العشائرِ
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامرِ
ويبدو بها التعطيل والكفر والزنى ... ويعلو من التأذين صوت المزامرِ(10/410)
ص -400- ...
فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامرِ
أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجرِ
وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على أمة التوحيد أخبث ثائرِ
يقولون لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائرِ
فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول ونشوة ساكرِ
مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكرِ
ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم ... أما رهبوا سيفاً لسطوة قاهرِ
وأما رباع العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكرِ
مصاب يكاد المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابرِ
فجد لي برد منك تبرد لوعتي ... ويحدى به في كل ركب وسامرِ
وتنصر خلا في هواك مباعداً ... ولولاك لم تبعث به أم عامرِ
فأكثر وأقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمنى والبشائرِ(10/411)
ص -401- ... فأجاب، رحمه الله، بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويبل القلوب الصوادي، ويحدي به في كل ركب ونادي، وهذا نصه:
رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالمنى والبشائرِ
تذكرني أيام وصل تقادمت ... وعهداً مضى للطيبين الأكابرِ
ليالي كانت للسعود مطالعاً ... وطائرها في الدهر أيمن طائرِ
وكان بها ربع المسرة آهلاً ... نمتع في روض من العلم زاهرِ
وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائرِ
محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعِمْ بها من محابرِ
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهرِ
وفيهم من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادرِ
وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجرِ
وهندية قد أحسن القين صقلها ... مجربة يوم الوغى والتشاجرِ
ورومية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائرِ
وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامرِ
غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائرِ
وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسرِ
وبدلت منهم أوجهاً لا تسرني ... قبائل يام أو شعوب الدواسرِ(10/412)
ص -402- ...
يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابرِ
وأرملة تبكي بشجو جنينها ... لها رنة بين الربى والمحاجرِ
وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادرِ
فصل: فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي
ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البغي من كل غادرِ
وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصرِ
وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرثى السباع الضوامرِ
وهتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضرِ
وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر
وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يبكين أزواجاً وخير العشائرِ
وجاءت غواش يشهد النص أنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادرِ
وجر زعيم القوم للترك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابرِ
ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكرِ
وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافرِ
وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكرِ
ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامرِ
وقد جاءهم فيما مضى خير ناصحٍ ... إمام هدى يبني رفيع المفاخرِ
وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعرِ(10/413)
ص -403- ...
ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكرِ
فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنز اللهى والذخائرِ
سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم ... مشائخهم واستنصروا كل داغرِ
وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاؤوا بهم من كل إفك وساحرِ
ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامرِ
وباؤوا من الخسران بالصفقة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسرِ
وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكرِ
وعاد لديهم للواط وللخنى ... معاهد يغدو نحوها كل فاجرِ
وشُتت شمل الدين وانبتّ حبلُه ... وصار مضاعاً بين شر العساكرِ
وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامرِ
وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريدٍ في القبائل صائر
فقل للغوي المستجير بظلمهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغرِ
ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع وهل ينجو مجير امِّ عامرِ
ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكرِ
فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائرِ
يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمرِ
وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكرِ
هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكرِ
سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون أن لاقى مزير المقابرِ(10/414)
ص -404- ...
يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم الزواهرِ
سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكرِ
وواليتمو أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافرِ
نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابرِ
فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوى صحيح الدفاترِ
وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائرِ
وقال الشقي المفتري كنت كارهاً ... ضعيفاً مضاعاً بين تلك العساكرِ
أماني تلقاها لكل متبّر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ
تعود سرابا بعد ما كان لامعاً ... لكل جهول في المهامه حائرِ
فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهرِ
وتدنو من الجبار جل جلاله ... إلى غاية فوق العلى والمظاهرِ
فهاجر إلى رب البرية طالباً ... رضاه وراغم بالهدى كل جائرِ
وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادرِ
وبادر إلى رفع الشكاية ضارعاً ... إلى كاشف البلوى عليم السرائرِ
وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفع في ثوب من العفو ساترِ
ولا تيأسنْ من صنع ربك إنه ... مجيب وإن الله أقرب ناصرِ
ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسراً لصابرِ
وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي هام وماطرِ
فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخرِ(10/415)
ص -405- ... وله أيضاً، رحمه الله وعفا عنه:
دع عنك ذكر منازلٍ ومغانِ ... وبدور أنس قد بدت وغوانِ
وجآذر في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتانِ
لا تصغ للعشاق سمعك إنما ... منادمهم بين البرية عانِ
والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيانِ
قطع الوسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطانِ
واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى ... أو رمت ترقى ذروة الإحسانِ
واعكف بقلبك في أراضي روضةٍ ... مملوءة بالعلم والإيمانِ
وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشانِ
هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمانِ
فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطانِ
وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عند ازدحام عساكر الشيطانِ
أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركْنني متواصل الأحزانِ
من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني
لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطير جناني
واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا ... يوما لنصر الدين بالإحسانِ(10/416)
ص -406- ...
من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذا الأركانِ
قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمانِ
وغدا الزمان بذكرهم متبسماً ... يبدو سنا للطالب الولهانِ
سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يعشي سناها عابدي الأوثانِ
قد جددوا للدين أوضح منهج ... يبدو ضيا للسالك الحيرانِ
حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديانِ
أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمانِ
إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثانِ
حقا على عرش السماء قد استوى ... يرى ويسمع فوق ست ثمان
يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شانِ
خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوانِ
بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرش للثرى التحتاني
فاحذر توالي في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطانِ
واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا ... في حب أدنى أو خسيس فانِ
واقطع علائق حبها وطلابها ... إذ قطّعوا فيها عرى الإيمانِ
لهفي عليهم لهفة من والهٍ ... متوجع من قلة الأعوانِ
قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمنِ(10/417)
ص -407- ...
واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عمو عن واضح البرهانِ
واقطع علائق حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطانِ
واهجر مجالس غيهم إذ قطّعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمانِ
لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطانِ
لما بدا جيش الضلالة هادماً ... ربع الهدى وشرائع الإحسانِ
قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان يبوء بالخسرانِ
قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دانِ
بل فيه قانون النصارى حاكماً ... من دون نص جاء في القرآنِ
بل كل أحكام له قد عُطلت ... حتى النِّدا بين الورى بأذانِ
ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعهم من جملة الهذيانِ
ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربانِ
والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلهو به الأشياخ كالشبانِ
والمنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان
فانظر إلى أنهار كفْر فجِّرت ... قد صادمت لشريعة الرحمنِ
بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوّانِ
والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصمت منا عرى الإيمانِ
فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقرآنِ(10/418)
ص -408- ...
والله يعطي من يشاء بفضله ... فوق الجنان عطية الرضوانِ
وكذا يجازي من سعى في رفعها ... ما قد أعد لصاحب الكفرانِ
يا رب واحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم إلى الشيطانِ
سلوا سيوف الغي من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوانِ
واستبدلوا بعد الدراسة والهدى ... بالقدح في صحبٍ وفي إخوانِ
صرفوا نصوص الوحي عن أوضاعها ... وسعوا بها في زمرة العميانِ
فتحوا الذرائع والوسائل للّتي ... يهوى هواها عابدو الصلبانِ
وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشرك أو أقلف نصراني
وقضوا بأن السير نحو ديارهم ... في كل وقت جائز بأمانِ
لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفانِ
ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ ... ـتوفى الشروط فصار ذا بطلانِ
فادرأ بها في نحرهم تلْقَ الهدى ... وارجمهمو بثواقب الشهبانِ
واقعد لهم في كل مقعد فرصة ... واكشف نوابغ جهلهم ببيانِ
حتى يعود الحق أبلج واضحاً ... يبدو سنىً للسالك الحيرانِ
وقضوا بأن العهد باق للذي ... ولى الولاية شيعة الشيطانِ
تباً لهم من معشر قد أُشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطانِ
وقضوا له بالجزم أن متابه ... قد هد ما أعلى من البنيانِ
وطلابه للأمر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفرانِ(10/419)
ص -409- ... [ الحث على نشر العلم أوقات الفتن ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين. ومن مدة ما جاءنا منك مراسلة، وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضاً، لا سيما أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج.
وأوصيك بتقوى الله تعالى، والقوة في دينك، ونشر العلم، خصوصاً في كشف الشبهة التي راجت على من لا بصيرة له، ولم يفرق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر من استنصر من أهل الملة على أهل الشرك، واجب على أهل الإيمان والدين، قال تعالى فيمن ترك الهجرة: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72].
ومن عقيدة أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر إلى يوم القيامة. واكتب لي جواباً يكون عوناً على البر والتقوى، وردعاً لأهل الجهل والهوى.(10/420)
ص -410- ... [ التساهل في الإنكار ]
وله أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من حال أكثر الناس، وأنهم دخلوا في الفتنة، ولا أحسنوا الخروج منها، فالأمر كما وصفت؛ ولكن ذكر الحافظ الذهبي أن حسيناً الصائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللفظية، فقال: مبتدع، فغضب أحمد وقال: اللفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام، أو كما قال. فأنكر على أبي ثور، التساهل في الإنكار، ورأى أن تعظيم الأمر والنهي، يقتضي غير ذلك، من ذكر أوصافهم الخاصة الشنيعة، والغلظة في كل مقام بحسبه. وفتنة البغي فتح باب الفتنة بالشرك والمكفرات، ووصل دخنها وشررها، جمهور من خاض فيها، من منتسب إلى العلم وغيره؛ والخلاص منها عزيز، إلا من تداركه الله ورده إلى الإسلام، ومنّ عليه بالتوبة النصوح، وعرف ذنبه.(10/421)
ص -411- ... [ تحريم السفر إلى بلاد المشركين ]
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فالواجب على المؤمن: رد ما تنازع فيه الناس، إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون الله إلهه ومعبوده، والرسول إمامه ومتبوعه، وأن يرغب في الحق ويلزمه، ويعض عليه بالنواجذ، وإن رغب عنه الأكثرون، ويحذر الباطل ويجتنبه، وإن رغب فيه الأكثرون؛ فمن عرف الحق وقبله وعمل به سعد، ومن اغتر بالكثير غوى وبعد.
ومن أعظم الواجبات على المؤمن: محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وكذلك ما يحبه من الأشخاص، كالملائكة، وصالح بني آدم، وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك. فإذا رسخ هذا(10/422)
ص -412- ... الأصل في قلب المؤمن، لم يطمئن إلى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه، وساءه النظر إليه.
فلما ضعف هذا الأصل، في قلوب كثير من الناس واضمحل، صار كثير منهم مع أولياء الله، كحاله مع أعداء الله، يلقى كلاً منهم بوجه طلق، وصار بلاد الحرب كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيق غضبه السماوات والأرض، والجبال الراسيات.
ولما عظمت فتنة الدنيا، وصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، حملهم ذلك على التماسها وطلبها، ولو بما يسخط الله، فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم، وخالطوهم في أوطانهم، ولبس عليهم الشيطان أمر دينهم، فنسوا عهد الله وميثاقه الذي أخذ عليهم، في مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7]، ونسوا ما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه عند البيعة، فكان يأخذ على أحدهم: "أن لا ترى نارك نار المشركين، إلا أن تكون حرباً لهم"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله" 1.
وقد سئل أبناء شيخ الإسلام، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم: عن السفر إلى بلاد المشركين للتجارة؟
فأجابوا بما حاصله: أنه يحرم السفر إلى بلاد المشركين، إلا إذا كان المسلم قوياً له منعة، يقدر على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/423)
ص -413- ... إظهار دينه، وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من موادتهم، والركون إليهم، واعتزالهم؛ وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين.
وقول القائل: إنا نعتزلهم في الصلاة، ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده، بل لا بد مما ذكر.
وقول القائل: إنهم لا ينكرون علينا، قول فاسد، وإنكارنا على من يظن به الخير، ومن يخالطهم يخاف عليه، إن سلم من الردة لا يسلم من الكبيرة الموبقة. وأما من يظن به موادة الكفار وموالاتهم، ويظن به أنه يرى أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، فليس للكلام معه كبير نفع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد ألزم الله المؤمنين أن يأخذوا ما آتاهم الرسول، وينتهوا عما نهاهم عنه، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، شديداً حذرهم عما حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أقسم أن لا يظله سقف هو وقاطع رحم، حذراً من قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم"، فكيف بمن جالس كافرا، أو واكله، وألان له الكلام؟! ويذكر عن عيسى عليه السلام، أنه قال: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم".(10/424)
ص -414- ... فإذا كان هذا مع أهل المعاصي، فكيف بالمشركين والكافرين والمنافقين؟ قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113]. قال أبو العالية: "لا تميلوا إليهم كل الميل، في المحبة ولين الكلام؛ فتوعد سبحانه بمسيس النار، من ركن إلى أعدائه ولو بلين الكلام".
وإن الله تعالى فرض على عباده جهادهم، والغلظة عليهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [سورة التوبة آية: 73]، وقال تعالى لما ذكر حال المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء آية: 63]، قال بعض المفسرين: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المنافقين، وإغلاظ القول عليهم، وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهراً عابساً، متغيراً من الغيظ.
فإذا كان هذا مع المنافقين الذين بين أظهر المسلمين، يصلّون معهم ويجاهدون معهم، ويحجون، فكيف بمن يسافر إلى المشركين، وأقام بين أظهرهم أياماً وليالي، واستأذن عليهم في بيوتهم، وبدأهم بالسلام، وأكثر لهم التحية، وألان لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة، ولم يجعل الله الدنيا عذراً لمن اعتذر بها(10/425)
ص -415- ... قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، في الحديث الطويل الذي قال فيه: "ولا يحملكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته". ولما نهى الله سبحانه عن حمل المشركين إلى بيته، وعلم من خلقه الاعتذار بالحاجة، قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [سورة التوبة آية: 28]، فلم يعذر الله بالفقر والحاجة إلى ما في أيديهم، وأخبر أنه الرزاق ذو القوة المتين.
والموجب لهذه النصيحة: الشفقة عليكم، مخافة أن(10/426)
ص -416- ... توادوهم فتكونوا مثلهم؛ والكلام في هذا مع مؤمن عاقل، يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن هواها، وأما المنافق والمرتاب، ومن يرد الله فتنته، فالله له بالمرصاد، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء آية: 88-89].
فالواجب على العاقل الناصح لنفسه: النظر في أمره، والفكرة في ذنوبه، ومجاهدة نفسه على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالعمل الصالح، وتقديم محبة الله على جميع المحاب، وإيثار مرضاته على حظوظ النفس؛ فإن كل شيء ضيعه ابن آدم، ربما يكون له منه عوض، فإن ضيع حظه من الله، لم يكن له عوض. وقد خاب من كان حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه، وإن أفاد في دنياه.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يلزمنا كلمة التقوى، وأن يجعلنا من أهلها، وصلى الله على محمد.(10/427)
ص -417- ... [ الهجرة من بلاد المشركين ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق، إلى الأخ: عبد الله بن صالح، أصلح الله له الشأن، وهداه للإسلام والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ونسأله أن يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم. ووصل إلينا كتابك، وفهمنا مضمون خطابك، وإن كان في صدره ما لا يليق، ولم يصدر عن عين تحقيق؛ وقد علمت ما في مدح الإنسان في وجهه من الذم، وإن كان بحق، فكيف إذا كان بغير ذلك؟
ثم إن في خطابك طلب المشورة مني، بالانتقال من بلادك، فأقول: اعلم: أن الله سبحانه وبحمده، بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية ملة إبراهيم، وأمره باتباعها بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123]، وأمره بالتصريح لمن تركها، بأنه لازم لها، وبريء ممن خالفها، بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105].(10/428)
ص -418- ... بل أمره الله: أن يصرح بكفر الكافرين، وبراءتهم من الدين، بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 1-3]. وأمثال هذا في القرآن كثير.
وبالجملة: فأصل دين جميع الرسل، هو القيام بالتوحيد، ومحبته ومحبة أهله، وموالاتهم، وإنكار الشرك، وتكفير أهله، وبغضهم، وإظهار عداوتهم، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، ومعنى قوله: {وَبَدَا} أيك ظهر وبان؛ والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه. فمن حقق ذلك علماً وعملاً، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان.
وأما من لم يكن كذلك، بل ظن أنه إذا تُرك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين؛ فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل عباد القبور، وشربة الخمور، وأهل القمار، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك، وأحكام الطواغيت، وكل موطن يكون كذلك، لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم(10/429)
ص -419- ... فليتأمل العاقل، وليبحث الناصح لنفسه عن السبب الحامل لقريش على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، وهي أشرف البقاع؛ فإن من المعلوم: أنهم ما أخرجوهم إلا بعد ما صرحوا لهم بعيب دينهم، وضلال آبائهم، فأرادوا منه صلى الله عليه وسلم الكف عن ذلك، وتوعدوه وأصحابه بالإخراج. وشكا إليه أصحابه شدة أذى المشركين لهم، فأمرهم بالصبر والتأسي بمن كان قبلهم ممن أوذي، ولم يقل لهم: اتركوا عيب دين المشركين، وتسفيه أحلامهم. فاختار الخروج بأصحابه، ومفارقة الأوطان، مع أنها أشرف بقعة على وجه الأرض. { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} [سورة الأحزاب آية: 21]، {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100]. نعم، إن كانت ولاية أهل الإسلام عليكم ضافية، وأوامرهم فيكم نافذة، وأيدي أهل الشرك والضلال عنكم قاصرة، ولم يبق إلا جفاء في الفروع، وتقصير في بعض الواجبات، ونحو ذلك، ففي مثل هذه الحال، قد تكون الهجرة مستحبة في حق بعض الناس; فإن كان في إقامة الإنسان تخفيف للشر، وتكثير للخير، فربما يترجح في حقه الإقامة، إذا لم يخف على دينه من الفتن. وبما ذكرناه يظهر للمتأمل ما يصلح دينه، والسلام.(10/430)
ص -420- ... وسئل، رحمه الله: إذا كان الرجل يتهم بالركون إلى الكفار، هل تجوز مجالسته، ومحادثته، أو لا؟
فأجاب: قد حرّم الله تعالى في كتابه الركون إلى الذين ظلموا، فإذا كان الركون ظاهراً معلوماً، فلا يجوز للمؤمن أن يتخذ الراكن جليساً; وأما محادثته، فإن كانت لنصيحته ودعوته إلى الله، ونهيه عن هذا المنكر، فهذه لا بأس بها، بل هي طاعة لله تعالى، وجهاد في سبيله. وأما محادثته صاحباً وخليلاً، فذلك لا يجوز، وهو من القوادح في الدين. وأما إذا لم يكن الركون ظاهراً، وليس إلا مجرد تهمة لا دليل عليها، فلا يجوز هجر المسلم لأجل ذلك، والله أعلم.(10/431)
ص -421- ... [ حكم هجر ونفي من زل ثم تاب ]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان الكرام، وفقهم الله للبصيرة والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، موجب كتابي لكم: ما يبلغني عنكم، من الشر الوخيم، والفعل الذميم، وهو: أنه إذا أخطأ أحد من المسلمين أو من الإخوان، أو زل زلة، وأظهر الندم والتوبة، ورجع إلى إخوانه، أنكم تنفونه، وتأمرون بهجره؛ هذه من سنن ابن بطي الخبيثة، والله سبحانه وبحمده يدعو عباده إلى التوبة، ويقبل منهم، قال تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 74]، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الفرقان آية: 70]، وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [سورة النساء آية: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" 1، وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: قاتل الله فلاناً، لما رأوه يجلد في شرب الخمر: "لا تعينوا الشيطان على صاحبكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2499), وابن ماجة: الزهد (4251), وأحمد (3/198), والدارمي: الرقاق (2727).(10/432)
ص -422- ... والموجب لهذا: فعلكم مع فلان لما تاب وأراد المنزل نفرتموه، ولا خفتم سوء الخاتمة، ولا سألتم الله الثبات، ومن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. وأيضاً، البلدان، الأمر فيها لله ثم لولي الأمر، كيف تبدرون بأمر بدون مراجعته وأمره؟ والذي يأمركم بهذا، حقيقة أمره أنه يأمركم بخروجكم عن الطاعة، فأنتم اعرفوا ربكم، واعرفوا أنفسكم، الذي ما يقبل توبة أخيه المسلم، ولا يقبل اعتذاره، لا يقبل الله توبته، ولا يقيل عثرته، قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [سورة المؤمنون آية: 71]. لا تعرضوا عن القرآن وأحكامه، وتأخذوا بضلال ابن بطي وأتباعه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وسئل: عن الفرق بين الموالاة، والتولي؟
فأجاب: التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب، كبل الدواة، أو بري القلم، أو التبشش لهم، أو رفع السوط لهم.(10/433)
ص -423- ... وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: هل للهجر حد... إلخ؟
فأجابا: أما الهجر لأجل الدين، فليس له حد محدود، بل هو بحسب المصلحة الراجحة؛ وقد اختلف العلماء في حده، كما هو مبسوط في فتح الباري، على قصة الثلاثة الذين خلفوا عام تبوك. والصحيح أنه لا حد له، والله أعلم.
[ عداوة وهجر من سافر إلى بلاد الكفار ]
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: ما قولكم فيمن يسافر من المسلمين إلى بلاد الشرك، هل تجب عداوته وهجره، أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. المسافر إلى بلاد الشرك قسمان:
قسم يستوطنون بلاد المشركين، فهؤلاء إذا لم يظهروا دينهم بالبراءة من دين المشركين، وتكفيرهم، حكمهم حكمهم، وفيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: في صف المسلمين وفريقهم، أم في صف المشركين وفريقهم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، فردت عليهم الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]، والأرض الواسعة إذ ذاك: المدينة، وفيها ثلاث محال من اليهود كفار لم يسلموا.
قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [سورة النساء آية: 97-98]. صح أن(10/434)
ص -424- ... الصحابة قالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله هذه الآية. وفي هذا الضرب، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله" 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين" 2. وفيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين" 3 الحديث؛ فهؤلاء تجب عداوتهم وهجرهم.
الضرب الثاني: من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} الآية [سورة النساء آية: 51-52]. وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).
2 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
3 ابن ماجة: الفتن (3952), وأحمد (5/278).(10/435)
ص -425- ... وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]، وقال تعالى: { تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 80-81]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]. وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} الآية [سورة التوبة آية: 67]. ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك. وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنيمة، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" 1. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزهد (2376), وأحمد (3/456, 3/460), والدارمي: الرقاق (2730).(10/436)
ص -426- ... حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد، وآله وصحبه وسلم.
[ الهجرة من بلاد المشركين ]
وسئل: عن الهجرة من بلاد المشركين؟
فأجاب: الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام، فرض واجب بنص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ وقد فرضها الله على رسوله وأصحابه، قبل فرض الصوم والحج، كما هو مقرر في الأصول والفروع.
ولما تثاقل أناس ممن أسلم، وأخرجتهم قريش معهم يوم بدر، فقُتل من قُتل منهم، حزن الصحابة، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] يعني: في فريق المسلمين وصفّهم، أم في فريق المشركين وصفّهم؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، يعنون: أخرجنا كرهاً. قالت الملائكة رداً عليهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]، ولم يكن إذ ذاك دار هجرة غير المدينة، وفيها ثلاث محال كبار من اليهود، قبل أن يجلَوْا منها، وهي إذ ذاك أضيق البلاد عيشاً، ورمتهم العرب عن قوس العدوان، ومع ذلك سماها الله سبحانه أرضاً واسعة. وقال تعالى في سورة "التوبة" وهي من آخر ما نزل فيمن شح بمحبوبات الدنيا، وترك لأجلها الهجرة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ(10/437)
ص -427- ... وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24].
ولا يفسق إلا بترك واجب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين" 1، وقال: "من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله" 2. فهذه مسألة هي من أصول الشريعة المحمدية، وليست من مسائل الخلاف، بل هي مجمع عليها، ولا ينازع فيها إلا ضال أضل من حمار أهله، ولكن من خالط المشركين، وأقام بين أظهرهم، عوقب بمثل هذا الزيغ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن مضلات الفتن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 أبو داود: الجهاد (2787).(10/438)
ص -428- ... [ رد زعم من قال أن الهجرة من بلاد الكفر ليست واجبة ]
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من محمد بن عبد اللطيف، إلى عبد الله بن علي الزحيفي، سلام على عباد الله الصالحين. أما بعد، فقد بلغنا عنك شبهة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تكاد تصدر ممن يدعي أنه من المسلمين، وذلك أنك تزعم أن الهجرة ليست بواجبة، بل هي مستحبة، أو أنها منقطعة على الدوام، مستدلاً على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 1. فليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه جنحت وقصدت، بل لم تفهم المراد من الحديث، والمقصود منه؛ ولكن لما غلب على قلبك من الهوى ومخالفة الحق، وما طبع عليه من الرين، بعدم الفرق بين القبيح والشين، واستحباب الحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
فإن معنى الحديث: أن مكة لما صارت بلد إسلام، ومعقل إيمان، لم تكن الهجرة منها واجبة; وأما إذا كانت البلاد مكة فما دونها، بلاد كفر ومحل شرك، فالهجرة منها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).(10/439)
ص -429- ... واجبة متعينة، على كل من له قدرة، بنص الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحنيفية والملة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97].
قال ابن كثير في تفسير الآية: هذه الآية دالة على وجوب الهجرة، عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99]. انتهى.
وقال البيضاوي: الآية دالة على وجوب الهجرة، ففي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم". انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال البخاري، رحمه الله تعالى: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك(10/440)
ص -430- ... كحكمها، فلا تجب الهجرة من بلدة قد فتحها المسلمون.
أما قبل فتح البلد، فمن بها أحد ثلاثة أقسام:
الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.
الثاني: قادر على الهجرة، يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فالهجرة منها مستحبة، لتكثير سواد المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسْر، أو مرض، أو غير ذلك من الأعذار، فهذا ممن عذر الله، فتجوز له الإقامة; فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر. انتهى كلامه. فانظر إلى قوله: لكنه يمكنه إظهار دينه، فإنه إذا حصل منه ذلك، لم تكن الهجرة واجبة في حقه، بل مستحبة، لأجل ما ذكره، رحمه الله؛ ولكن هذا القسم الثاني عزيز الوجود، فالله المستعان.
وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله، في العقد الثمين: وقد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان، ليست واجبة، ولا متعينة في هذه الأزمان، وأن محكم عقدها مفسوخ، ووجوبها المستمر منسوخ، متمسكين من الدليل بما لا يروي الغليل، ولا يشفي القلب العليل، وذلك ظاهر قول خير البرية: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 1، وظاهر حديث: "المهاجر من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).(10/441)
ص -431- ... هجر ما نهى الله عنه" 1؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا المعنى كما فهموا، بل ليس الأمر كما جزموا به وحكموا، وإنما المراد المقصود، والمنهج المسدود: الهجرة من مكة إلى المدينة، بعد فتحها للمسلمين، وزوال أوثان المشركين، وإضاءة أرجائها بأنوار الدين، ورفع قواعد التوحيد، وقصم كل جبار عنيد، لأن الله تعالى قد بدل الحال، والمحذور فيها قد زال، والمهاجرة منها تؤدي إلى الإحلال بأم القرى والتعطيل؛ فسد بعد ماضي تلك الحكمة وذلك السبيل.
وأما الهجرة من بلدان المشركين والكفار، وعدم السكن معهم والاستقرار، إلى ما للمسلمين من الديار، حيث لا يمكن إقامة دين للموحدين، ولا إظهار ولا تعزيز للإسلام ولا انتصار، فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب، والإلزام، مستمر على مر السنين والأعوام، كما صرح بذلك الأئمة الأعلام؛ والآيات دالة على ذلك، دلالة صريحة، والأحاديث ثابتة صحيحة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97]. وذكر كلام ابن كثير المتقدم.
وقال أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله" 2، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: هذا الحديث على ظاهره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (10), والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996), وأبو داود: الجهاد (2481), وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224).
2 أبو داود: الجهاد (2787).(10/442)
ص -432- ... وهو: أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر إن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يتولى المشركين.
ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام، إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا. فقال الصحابة: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، فلم يعذر الله منهم إلا المستضعفين. انتهى 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين، ما لم تتراءى ناراهما" 2، رواه أبو داود؛ ولو لم يكن إلا هذا الحديث في الاستدلال، لكان كافياً بالمقصود وافياً.
وما أحسن ما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية:
من لم يكن يكفيه ذان فلا كفا ... هُ الله شرَّ حوادث الأزمانِ
من لم يكن يشفيه ذان فلا شفا ... هُ الله في قلب ولا أبدانِ
من لم يكن يغنيه ذان رماه رَبْـ ... ـبُ العرش بالإعدام والحرمانِ
من لم يكن يهديه ذان فلا هدا ... هُ الله سبيلَ الحق والإيمانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم في صفحة: 164.
2 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645)(10/443)
ص -433- ... وكذلك تزعم أيضاً أنك تظهر دينك وتسب المشركين، فهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى، قد دهى بها الشيطان كثيراً من الناس، من أشباهك وأمثالك؛ فغلطتم في إظهار الدين، وظننتم أنه مجرد الصلوات الخمس، والأذان والصوم وغير ذلك، وأنكم إذا جلستم في بعض المجالس الخاصة، قلتم: هؤلاء كفار، هؤلاء مشركون، وليس معهم من الدين شيء، وأنهم يعلمون أنا نبغضهم، وأنا على طريقة الوهابية، وتظنون أن هذا هو إظهار الدين، فأبطلتم به وجوب الهجرة.
فليس الأمر كما زعمتم، فإن الله سبحانه ذكر في كتابه المرادَ من إظهار الدين، وأنه ليس ما توهمتم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة؛ فأمره أن يقول لهم: إنكم كافرون، وإنه بريء من معبوداتهم، وإنهم بريئون من عبادة الله، وهو قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3]، وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6]: تصريح بالبراءة من دينهم الذي هو الشرك، وتمسك بدينه الذي هو الإسلام؛ فمن قال ذلك للمشركين ظاهراً، في مجالسهم ومحافلهم وغشاهم به، فقد أظهر دينه. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ(10/444)
ص -434- ... دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4].
قال شيخنا حمد بن عتيق، رحمه الله: فأخبر الله تعالى عن جميع المرسلين، أنهم تبرؤوا من الشرك والمشركين، فإن معنى قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من المرسلين، وقوله: {وَبَدَا} أي: ظهر وبان؛ وهذا هو الواجب: أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرة، يعلمها المشركون من المسلم، وتكون مستمرة. انتهى.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105]، فذكر له البراءة من معبوداتهم، وتصريحه بالتوحيد في قوله: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104]، فذكر أنه لا يعبد إلا الله، وأنه من المسلمين الذين هم أعداء لهم، وأن الله أمره أن يكون حنيفاً، وحذره أن يكون من المشركين; هذا معنى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الآية، رحمه الله.
فمن صرح لهم بذلك، فقد أظهر دينه وصرح بالعداوة؛ وهذا هو إظهار الدين، لا كما يظن الجهلة، من أنه إذا تركه الكفار، وخلوا بينه وبين أن يصلي، ويقرأ القرآن، ويشتغل بما شاء من النوافل، أنه يصير مظهراً لدينه. هذا غلط فاحش؛ فإن من يصرح بالعداوة للمشركين، والبراءة منهم، لا يتركونه بين أظهرهم، بل إما(10/445)
ص -435- ... قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، كما ذكره الله عن الكفار. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة إبراهيم آية: 13]، وقال، إخباراً عن قوم شعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 88]. وذكر عن أهل الكهف، أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20]. وهل اشتدت العداوة بين الرسل وقومهم، إلا بعد التصريح بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم؟
وقال شيخ الإسلام والمسلمين، محيي ما اندرس من الملة والدين، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في ستة المواضع التي من السيرة النبوية: أنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22]. انتهى. فصرح الشيخ، رحمه الله، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح للمشركين بالعداوة والبغضاء. وتأمل ما استدل به على ذلك، تجد الأمر واضحاً بحمد الله، ولكن كما قيل(10/446)
ص -436- ... شعراً:
فيا لك من آيات حق لو اهتدى ... بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة ... فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وأنت لم تكتف بمجرد إقامتك بين أظهر المشركين، وانتقالك إليهم، بل آل بك الأمر إلى المجادلة والمخاصمة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} الآية [سورة غافر آية: 56]، وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 5].
وأنت قد عهد منك في سابق الأمر: الشدة، والغلظة على من تولى المشركين، وركن إليهم، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8]. فتب إلى ربك واستغفر من ذنبك، وهاجر إلى الله والدار الآخرة، بالأجر العظيم والفضل العميم.
نسأل الله لنا ولإخواننا الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والله أسأل أن ينصر دينه، وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.(10/447)
ص -437- ... وسئل أيضاً: الشيخ محمد بن عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم: فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالم: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون; ووفد على عمر بن عبد العزيز، كثير عزة، وهو متهم بالتشيع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته. وقال الآخر: لا يجوز، لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طه آية: 47]، والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سنة، وهؤلاء أشر حالاً وعقيدة منهم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة، والمشركين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، محمد وآله وصحبة والتابعين.
أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته، عن هذا السؤال المذكور أعلاه، بما عليه أهل التحقيق من أئمة الاسلام والهداة الأعلام، وما نعتقده في ذلك وندين الله به؟ فنقول: اعلم، وفقنا الله وإياك، لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلا بمعاداة أعداء الله ورسوله،(10/448)
ص -438- ... وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [سورة التوبة آية: 23]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22].
وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام"، وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم"، وقال بعض العلماء: من مشى إليهم ولم ينكر عليهم، عد من الراكنين إليهم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]. فالواجب على من أحب نجاة نفسه وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلا بذلك والقيام به، لأنه من أهم(10/449)
ص -439- ... المهمات، وآكد الواجبات.
إذا عرفت هذا، فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز، لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة، بين المسلمين والمشركين، بقوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]. والآيات في المعنى كثيرة كما تقدم.
والسلام تحية أهل الإسلام بينهم، فإذا سلم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقاهم بالإكرام والبشاشة، وألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم. فإذا وادهم، وانبسط لهم، مع ما تقدم، جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أفشوا السلام بينكم". فإذا سلم على الرافضة والمبتدعين، وفساق المسلمين، خلصت مودته ومحبته، في حق أعداء الله وأعداء رسوله. وعن قتادة عن الحسن: "ليس بينك وبين الفاسق حرمة".(10/450)
ص -440- ... وقال الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال النخعي: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". فانظر، رحمك الله، إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مجالسة أهل البدع، والإصغاء إليهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة، الذين أخرجهم أهل السنة والجماعة، من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم؛ ومواكلتهم، والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم. والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين.
قال البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه: باب من لم يسلم على من ارتكب ذنباً، ولم يرد سلامه، حتى تبين توبته، وإلى متى تبين توبة العاصي، قال ابن حجر في الفتح: وابتداء الكفار بالسلام، أجازه طائفة من العلماء، ومنعه طائفة، قال: والحق مع المانعين، إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية. وكذلك أهل البدع والمعاصي المجاهرين بها، يمنع من ابتدائهم بالسلام، والرد عليهم; قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي والبدع، سنة ماضية، وبه قال كثير(10/451)
ص -441- ... من أهل العلم. وقال النووي: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه، لا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قاله جماعة من أهل العلم. واحتج البخاري بقصة كعب. انتهى.
فانظر، يا طالب الحق، إلى ما قاله البخاري واستدل به، وإلى قول صاحب الفتح: والحق مع من منع، وإلى قول المهلب، والنووي، ووازن بين أقوالهم، وبين قول من أجازه وأباحه، وجادل عليه، تعرف أنه لا بصيرة له، ولا معرفة له بأصول الشرع، وأقوال العلماء. وأما قول صاحب الفتح: إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، فالمصلحة هي أن يرجى بها إسلام غيره، أو تأليفه أو غير ذلك، وأما المصالح الدنيوية، فلا تترتب عليها الأمور الشرعية، ولا تناط بها أحكامها، ولا تجعل سلماً وذريعة إلى الجمع بين ما فرق الله ورسوله بينهما. وقال البغوي رحمه الله في كتاب السنة: وأما هجر أهل المعاصي، وأهل الريب والبدع في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر علامات توبتهم، وأماراتها. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي: وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السلام على هؤلاء الثلاثة، يعني: كعباً(10/452)
ص -442- ... وصاحبيه، من بين من تخلف عنه، دليل على صدقهم، وكذب المنافقين؛ فأراد هجر الصادقين، وتأديبهم، على هذا الذنب - إلى أن قال - وفيه دليل أيضاً: على هجران الإمام، والعالم، والمطاع، لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له - إلى أن قال - وفي إشارة الناس للنبطي، الذي يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ دون نطقهم له، تحقيق لمقصود الهجر، وإلا لو قالوا له صريحاً: كعب بن مالك، لم يكن ذلك سلاماً، ولا يكونون به مخالفين للنهي، لكن لفرط تحريهم، وتمسكهم بالأمر، إذ لم يذكروه بصريح اسمه.
وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع، نوع مكالمة، لا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بالسلام، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع؛ وهذا أحسن وأفقه. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.
فانظر إلى قوله: وقد يقال إن في الحديث عنه بحضرته، وهو يسمع، نوع مكالمة... إلخ، فإذا كان في ذكره باسمه نوع مكالمة، فكيف بمن ابتدأ المشرك والعاصي والمبتدع بالسلام، وأظهر له الإكرام، وأكثر عنه الجدال والخصام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقد سئل عن(10/453)
ص -443- ... الهجر المشروع، ومن يجب هجره أو يجوز هجره، قال في أثناء كلامه: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين، وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالاً من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، وكانت المصلحة الدينية في تأليفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، وفي هجرهم عز للدين، وتطهير لهم من ذنوبهم. انتهى كلامه، رحمه الله.
فانظر، أيها المنصف، بعين الإنصاف، واحذر التعصب والاعتساف، إلى ما قاله شيخ الإسلام من أن في هجرهم عزاً للدين، هذا إذا كانوا مسلمين، لكنهم أصحاب معاص واقتراف لبعض الأوزار، فيجب هجرهم واعتزالهم حتى يقلعوا; وأما المشرك والمبتدع، فلا نزاع في هجرهما، ولا خلاف فيه إلا عند من قل حظه ونصيبه من العلم الموروث عن صفوة الرسل، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال أيضاً، رحمه الله: ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه؛ ومن الإنكار المشروع: أن يهجر حتى يتوب; ومن الهجر: امتناع أهل الدين من الصلاة عليه، لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليها. وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة. انتهى.(10/454)
ص -444- ... وقال البخاري، رحمه الله، في الأدب المفرد: باب لا يسلَّم على الفاسق، وذكر بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "لا تسلِّموا على شرّاب الخمر"، وذكر بسنده أيضاً عن قتادة عن الحسن: "ليس بينك وبين الفاسق حرمة"، وذكر: "عن أبي رزيق أنه سمع علي بن عبد الله بن عباس ينهى عن الشطرنج، ويقول: لا تسلِّموا على من لعب بها، وهي من الميسر". ثم قال بعد ذلك: باب ترك السلام على المتخلق - يعني بالطيب - وأصحاب المعاصي، وذكر بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلّق بخلوق، فنظر إليهم وسلّم عليهم، وأعرض عن الرجل. فقال الرجل: أعرضت عني يا رسول الله؟ قال: بين عينيك جمرة من النار".
وذكر بسنده عن عبد الله بن وائل السهمي، عن أبيه عن جده: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب، فأعرض عنه. فلما رأى الرجل كراهيته للذهب ذهب فألقاه، وأخذ خاتماً من حديد فلبسه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فرجع فطرحه، ولبس خاتماً من ورق، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكر بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "أقبل رجل من البحرين على النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فلم يرد عليه(10/455)
ص -445- ... السلام، وفي يده خاتم من ذهب، وعليه جبة من حرير. فانطلق الرجل محزوناً، فشكا إلى امرأته، فقالت: لعل برسول الله جبتك وخاتمك، فألقهما ثم اغد عليه. ففعل، فرد عليه السلام، وقال: جئتك وأعرضت عني. قال: كان في يدك جمر من النار".
ثم قال بعد ذلك: باب إذا سلم على نصراني ولم يعرفه، قال: "مر ابن عمر، رضي الله عنهما، بنصراني فسلم عليه، فرد عليه. فأخبر أنه نصراني، فرجع فقال: رد علي سلامي"، ثم قال: باب يضطر أهل الكتاب في الطريق إلى أضيقه، وذكر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم المشركين فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطروهم في الطريق إلى أضيقها" 1. انتهى.
فتأمل، رحمك الله، ما ذكره هذا الإمام، من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب هجر أهل المعاصي، وأن ذلك هو هديه وسنته، فمن أعرض عنهما، ونبذهما وراء ظهره، فقد خاب سعيه وضل عمله؛ فلا نجاة للخلق ولا سعادة، ولا كفاية ولا هداية، إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به، ورفض ما خالفه، وهجر من نكب عن سنته، وإن كان الحبيب المواتيا. {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر آية: 12]. وفي كتاب محمد بن وضاح، قال: قال أسد بن موسى: جاء في الأثر: من جالس صاحب بدعة نُزعت منه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: السلام (2167), والترمذي: السير (1602) والاستئذان والآداب (2700), وأبو داود: الأدب (5205), وأحمد (2/525).(10/456)
ص -446- ... العصمة، ووُكل إلى نفسه. وفي أثر آخر: من جالس صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام. وقال الأوزاعي: "كانت أسلافكم تشتد ألسنتهم على أهل البدع، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم".
وعن الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال إبراهيم النخعي: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم؛ فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". روى هذه الآثار ابن وضاح.
قال إمام الدعوة الإسلامية، وناصر الملة الحنيفية، شيخ الإسلام والمسلمين، شيخنا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وطيب ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومأواه: فإذا كان هذا كلام السلف في أهل البدع والضلال، والتحذير عن مجالستهم، مع كون بعضهم لم يخرج ببدعته عن الإسلام، فكيف الحال بمجالسة أهل الكفر، والشرك والنفاق، الذين باينوا أهل الإسلام، وخالفوهم؟ انتهى.
فمن أكرم مَن تلك نحلته، وتلك طريقته، كان دليلاً على عدم فقهه وبصيرته في دين الإسلام، وعدم فرقه بين عابدي الرحمن وعابدي الأوثان، والضدان عنده يجتمعان; فلضعف بصيرته نهج هذا المنهج، وأعرض عن الحق بعد ما اتضح وابلولج، فيخشى عليه أن يحشر يوم القيامة معهم، ويكون من جملتهم، كما كان في الدنيا من أصدقائهم(10/457)
ص -447- ... ومعاشريهم؛ عياذاً بك اللهم من تلك الأحوال والأعمال، التي تؤول بصاحبها إلى الخزي والوبال، وسوء المنقلب في الحال والمآل.
وأكثر الخلق إنما يحمله على الوقوع في تلك الورطات، الحرص على تحصيل الدنيا، والتقرب عند أهلها، وتسليك حاله معهم، ولو فسد عليه دينه، وانهدم إيمانه. نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء، أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت به راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فماذا عملت في ما لي عليك؟ قال: يا رب، فما لك عليّ؟ قال: هل واليت لي ولياً، أو عاديت لي عدواً؟". وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]، قال بعض العلماء الفضلاء: الفتنة في الأرض: الشرك، والفساد الكبير: اختلاط المسلم بالكافر، والمطيع بالعاصي؛ فعند ذلك يختل نظام الإسلام، وتضمحل حقيقية التوحيد، ويحصل من الشر ما الله به عليم.
فلا يستقيم الإسلام، ويقوم قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرتفع علم الجهاد، إلا بالحب في الله(10/458)
ص -448- ... والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ والآيات الدالة على ذلك، أكثر من أن تحصر. وأما الأحاديث، فأشهر من أن تذكر، فمنها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وعن أبي ذر رضي الله عنه: "أفضل الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وفي حديث مرفوع: "اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً ولا نعمة فيودّه قلبي؛ فإني وجدت فيما أوحيته إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22]". وفي الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "المرء مع من أحب" 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 2. وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه مرفوعاً: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي" 3.
وعن علي رضي الله عنه مرفوعاً: "لا يحب رجل قوماً إلا حُشر معهم" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله بسخطهم، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم"، وقال عيسى عليه السلام: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم".
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "من أحب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6168), ومسلم: البر والصلة والآداب (2641), وأحمد (1/392, 4/405).
2 الترمذي: الزهد (2378), وأبو داود: الأدب (4833), وأحمد (2/303, 2/334).
3 الترمذي: الزهد (2395), وأبو داود: الأدب (4832), وأحمد (3/38).
4 أحمد (6/160).(10/459)
ص -449- ... في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان، ولو كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك"؛ يعني: حتى تكون محبته وموالاته لله، وبغضه ومعاداته لله. قال رضي الله عنه: "وقد صارت عامة مواخاة الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".
فإذا كان هذا كلام ابن عباس، وهو في خير القرون، فما زاد الأمر بعده إلا شدة، وبعداً عن الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه"؛ بل كانت موالاة الناس اليوم، ومحبتهم، ومعاشرتهم، على الكفر والشرك والمعاصي. فليحذر العبد كل الحذر من الانهماك مع أعداء الله، والانبساط معهم، وعدم الغلظة عليهم، أو أن يتخذهم بطناء وأصحاب ولايات، ويستنصح منهم؛ فإن ذلك موجب لسخط الله ومقته.
قال القرطبي، رحمه الله، في تفسيره عند قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 118]: نهى الله عباده المؤمنين، أن يتخذوا من الكفار واليهود، وأهل الأهواء والبدع، أصحاباً وأصدقاء، يفوضوا لهم في الرأي، ويسندون إليهم أمورهم. وعن الربيع: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً}: لا تستدخلوا المنافقين، ولا تتولوهم من دون المؤمنين; ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك، لا ينبغي لك أن(10/460)
ص -450- ... تخادنه وتعاشره وتركن إليه.
[ حكم الرافضة ]
وأما حكم الرافضة - فيما تقدم -، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في الصارم المسلول: ومن سب الصحابة أو أحداً منهم، واقترن بسبه أن جبرئيل غلط في الرسالة، فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في كفره. ومن قذف عائشة فيما برأها الله منه، كفر بلا خلاف - إلى أن قال - وأما من لعن أو قبح، يعني: الصحابة، رضي الله عنهم، ففيه الخلاف: هل يفسق أو يكفر؟ وتوقف أحمد في تكفيره، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتى يموت أو يتوب.
قال، رحمه الله: وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك، بل لا ريب في كفر من لم يكفّره. انتهى كلامه، رحمه الله.
فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك: الغلو في الأولياء، والصالحين من أهل البيت وغيرهم، واعتقدوا فيهم النفع والضر، في الشدة والرخاء، ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله، ودين يدينون به؛ فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه. ومن تأمل القرآن، والسنة، وكلام محققي سلف(10/461)
ص -451- ... الأمة، علم يقيناً أن أكثر الخلق إلا من شاء الله، قد أعرضوا عن واضح المحجة، وسلكوا طريق الباطل ونهجه، وجعلوا مصاحبة عباد القبور، وأهل البدع والفجور، ديناً يدينون به، وخلقاً حسناً يتخلقون به، ويقولون: فلان له عقل معيشي، يعيش به مع الناس، ومن كانت له غيرة، ولو قلّت، فهو عندهم مرفوض ومنبوذ، كالأحلاس؛ فما أعظمها من بلية! وما أصعبها من رزية!
وأما حقيقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدى والنور، فعزيز والله من يعرفها أو يدريها؛ والعارف لها من الناس اليوم، كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود، وكالكبريت الأحمر. أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ لم يبق إلا رسوم قد درست، وأعلام قد عفت، وسفت عليها عواصف الهوى، وطمستها محبة الدنيا، والحظوظ النفسانية. فمن فتح الله عين بصيرته، ورزقه معرفة للحق وتميزاً له، فلينج بنفسه، وليشح بدينه، ويتباعد عمن نكب عن الصراط المستقيم، وآثر عليه موالاة أهل الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتهم ومعاشرتهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه وانتكاسه; وفي الأثر: إن من الذنوب ذنوباً عقوبتها موت القلوب،(10/462)
ص -452- ... وزوال الإيمان، فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث التي لا يدريها إلا من تربى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وتلقى عنهم أصول دينه، لأن ضدهم لا يؤمن أن يلقي عليك شيئاً من الشُّبه الفاسدة، التي تشكك في الدين، وتوجب لك الحيرة. وما أحسن ما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وأما قول المنازع: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، فهذا معاكسة وتصحيف؛ ليس الشأن في أخذ الهدية أو ردها، إنما الشأن والنزاع في ابتداء الكفار، والمبتدعين، والعصاة، بالسلام، وعدم النفرة منهم. ولا يستدل بهذا على جواز السلام والمواكلة، إلا من هو جاهل بالأحكام الشرعية، والسيرة النبوية. وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه، وأصحابه من بعده، ومن سلك منهاجهم من الصفوة، يخالف ما استدل به. وقبول الهدية نوع، والسلام نوع آخر: أما الهدية فقد قبلها صلى الله عليه وسلم وقبلها أصحابه، والسلف الصالح من بعدهم، ولا ينكر على من قبل، ولا على من رد، ولو كانت الهدية من مشرك. وأما ترك السلام والهجر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هجر مرتكب الذنب ولم يرد عليه؛، وكذلك في مكاتباته للمشركين، لا(10/463)
ص -453- ... يبدؤهم بالسلام، كما يعرف ذلك من له خبرة بسيرته وهديه، كما مر في الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي لا تحتمل التأويل.
وأما الوفود والرسل، فكانوا يفدون عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيهم الجوائز، ويخاطبهم باللين، ويدعوهم بدعاية الإسلام، وهم على كفرهم؛ فلا يستدل بذلك على جواز السلام على المشركين والمبتدعين، ومن يتولاهم من فساق المسلمين، إلا من هو من أجهل الخلق بأصول الشريعة. وأما شيخه الذي يدعي أنه على طريقته، فالمعروف عندنا من أخلاقه وسيرته: الغيرة، والغلظة، والشدة على أعداء الله، وأعداء رسوله، والتحذير منهم، ومن موالاتهم. وأما أنت، أيها المنازع، فالواجب عليك: تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديهم، وعدم الانبساط مع من هب ودب، لأن الواجب على المنتسب للطلب، والمتزيي بزي أهل العلم، أعظم مما يجب على غيره؛ فليكن لك بصيرة ونهمة بمعرفة أصل الأصول، وزبدة دعوة الرسول، والبحث عما يضاد هذا الأصل وينقضه، أو ينقص كماله الواجب، والوقوف عند أوامر الرب ونواهيه، والبعد عن الرذائل والقبائح، فالحق مرحمة، والجدال والخصام ملحمة. فهذا آخر ما تيسر إيراده، وفيه الكفاية لمن أراد الله هدايته.(10/464)
ص -454- ... وأسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين، التوفيق للهداية، والبعد عن أسباب الجهالة والغواية، والثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا; ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن؛ والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[ الخروج من دار الهجرة بعد النزول فيها لأجل إصلاح المال ]
وسئل أيضاً: عن الخارج من دار هجرته بعد ما نزل لأجل تصليح ماله، ونيته الرجوع إلى بلده، هل يكون عاصياً أم لا؟
فأجاب: هذا الخارج لا يطلق عليه أنه عاص لله، ولا يدخل في حكم الوعيد المرتب على من تعرب بعد الهجرة، بل يحب ويوالى، لأن خروجه ليس معصية؛ فيعامل بما يعامل به من لم يخرج من بلده، لأنه من جملة المهاجرين، وليس له نية إلا الرجوع إلى وطنه، والهجرة مع إخوانه، فلا يحكم عليه بردة، بل ولا بمعصية.
الثانية: ما حكم من باع بيته وخرج إلى البادية، وليس من نيته الرجوع والسكنى، وهو ثابت على ما هو عليه من الإسلام، والتزام شرائعه، ومحبة المسلمين؟(10/465)
ص -455- ... فالجواب: أن هذا يكون مرتكباً معصية، ومتعرباً بعد هجرته، وهو داخل في حكم الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه لما عد الكبائر، قال: "التعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة" يعني: جماعة المسلمين، "ونكث الصفقة" يعني: نكث بيعة الإمام؛ فجعل التعرب بعد الهجرة من الكبائر، ولكن لا يكون خروجه وتعربه كفراً ولا ردة، بل هو مسلم عاص، يوالى ويحب، على ما معه من الإيمان، ويبغض على ما معه من المعصية، ولا يعامل بالتعنيف، لأنه بتعربه بعد هجرته لا يدخل في حكم المرتدين، ولا يعامل بما يعامل به المرتد.
[ الهجرة من بين ظهراني المشركين وفضلها ]
وسئل: عما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين، من البادية والحاضرة، وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟ وهل بين بادية نجد وغيرهم، كعنزة والظفير ومن والاهم من بادية الشمال والجنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟
فأجاب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد، وحفظ لإيمانه. وهي أقسام: هجر المحرمات، التي حرمها الله في كتابه، وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المكلفين، وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه؛ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (10), والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996), وأبو داود: الجهاد (2481), وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224).(10/466)
ص -456- ... وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات، القولية والفعلية.
القسم الثاني: الهجرة من كل بلدة تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه، والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم، وبطلان ما هم عليه، لكن إنما جلس بين ظهرانيهم، شحاً بالمال والوطن، فهذا عاص، ومرتكب محرماً، وداخل في حكم الوعيد. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 97-99]، فلم يعذر الله إلا المستضعف، الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته، إلى غير ذلك من الأعذار. وقال صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله" 1. فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافراً، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرهاً، فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/467)
ص -457- ... المال، لا في الكفر؛ وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر.
ومن الهجر الواجب أيضاً: الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته، فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم; فهؤلاء يعادَوْن ويبغَضون، على ما معهم من المعصية، ويحبون ويوالون على ما معهم من أصل الإسلام. وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم، إذا كان فيه مصلحة راجحة، وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو مشروع. والمسافر إليهم مرتكب أيضاً حراماً، فيهجر بقدر ذنبه. قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين، والمسافر إليهم لأجل التجارة، مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة؛ فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر، فيعامَلون بالهجر والمعاداة والموالاة، بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.
وأما الهجرة المستحبة، وهي: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، إذا كان مظهراً لدينه، وقد أمن الفتنة على(10/468)
ص -458- ... نفسه ودينه، فهذا هجرته مستحبة; وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام، المتجنبين لما حرمه الله عليهم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل، لتعلّم الخير وإقامة الجمعة، وغير ذلك من المصالح، التي يعرفها مَن نوّر الله وقلبه، ورزقه البصيرة.
وليعلم: أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة، وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير، برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد. والله ولي الهداية.
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: وأما الانتقال من بلاد الإسلام، إلى بلاد القبوريين، والتحيز إلى جماعة المشركين، وعدم المبالاة في ذلك، فمن المصائب العظام، والدواهي الكبار، التي وقع فيها كثير من الناس، وتساهلوا فيها واستصغروها؛ وخف شأنها عند كثير من الناس، الذين ضعفت بصائرهم في دين الإسلام، وقل نصيبهم من معرفة ما بعث الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام.(10/469)
ص -459- ... وما زال الأمر بالناس، حتى صار النهي عن ذلك، والكلام في ذمه، وذم من فعله من المستنكر عند الأكثر، وصاروا لا يرون بذلك بأساً، وينسبون من ينهى عنه وينكره على من فعله، إلى الغلو في الدين، والتشديد على المسلمين.
وفي القرآن الكري، والسنة النبوية، ما يدل من في قلبه حياة، على المنع من ذلك؛ وكلام العلماء مرشد إلى ذلك، فإنهم صرحوا بالنهي عن إقامة المسلم بين أظهر المشركين، من غير إظهار دينه، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية [سورة هود آية: 113]، وقال: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99]. قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: وهذه الآية عامة في كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو مرتكب حراماً بالإجماع، ونص هذه الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة، يعرفها من قرأ القرآن وتدبره.
وفي الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما دل عليه القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن(10/470)
ص -460- ... معه، فإنه مثله" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تستضيئوا بنار المشركين" 2، وحديث بهز بن حكيم: "أن تفر من شاهق إلى شاهق بدينك" 3. قال ابن كثير معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوهم، وتهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود فقال: "لا تراءى ناراهما" 4، وفي قصة إسلام جرير، لما قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال: "أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين" 5. وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: "من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حُشر معهم يوم القيامة".
وكلام العلماء في المنع من الإقامة عند المشركين، وتحريم مجامعتهم، ووجوب مباينتهم، كثير معروف، خصوصاً أئمة هذه الدعوة الإسلامية، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده، وأولادهم، وأتباعهم من أهل العلم والدين؛ ففي كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37].
فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف، في بعض رسائله: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر فيها دين الإفرنج والروافض، ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).
2 النسائي: الزينة (5209), وأحمد (3/99).(10/471)
3 صحيح البخاري: كتاب الصوم (2007) وكتاب أخبار الآحاد (7265), وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (641) وكتاب الصيام (1116) وكتاب الحج (1244) وكتاب الجهاد والسير (1784), وسنن الترمذي: كتاب الصلاة (199, 312) وكتاب الصوم (761) وكتاب السير (1579), وسنن النسائي: كتاب القسامة (4801, 4853) وكتاب الأشربة (5747), وسنن أبي داود: كتاب الجهاد (2629) وكتاب الديات (4541), وسنن ابن ماجة: كتاب الطهارة وسننها (278) وكتاب الديات (2630) وكتاب الفرائض (2746) وكتاب الفتن (4030) , ومسند أحمد (1/41, 1/278, 1/342, 2/176, 2/178, 2/217, 3/268, 4/48, 5/38, 5/231, 5/326), وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (649) وكتاب الديات (2352).
4 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
5 البخاري: الزكاة (1396), ومسلم: الإيمان (13), والنسائي: الصلاة (468), وأحمد (5/417, 5/418).(10/472)
ص -461- ... والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين.
وذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات. انتهى كلامه، رحمه الله 1.
[ الإقامة في بلدان المشركين من المنتسبين للإسلام ]
وأما السؤال: عن حكم المقيم في بلدان المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام، فهذا الجنس من الناس مشتركون في فعل ما نهى الله عنه ورسوله، إلا من عذره القرآن، في قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}؛ ثم هم مختلفون في المراتب، متفاوتون في الدرجات، بحسب أحوالهم، وما يحصل منهم من موالاة المشركين والركون إليهم، فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم في صفحة: 355.(10/473)
ص -462- ... ذلك قد يكون كفراً، وقد يكون دونه، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 132].
وما ذكرت من إعراض الناس عما كان عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسائل، فالأمر فوق ما وصفت؛ وهذا غير مستنكر في هذا الزمان، الذي قل فيه العلم، وفشا فيه الجهل، وتزاحمت فيه الفتن، وقل فيه العمل بالسنة والكتاب، واشتدت فيه غربة الدين، ووقع ما أخبر به الصادق الأمين، وصار كثير من الناس لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما اعتادوه وألفوه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت فتأكفت ... سحائبها بالدمع ديما وهطّلا
ولكنها لقسوة القلب أقحطت ... فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا(10/474)
ص -463- ... [ وجوب الهجرة والمعاداة ]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه المنان:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فاعلم، وفقني الله وإياك، لسلوك الطريق الأقوم، أن الله سبحانه أوجب على العبد الهجرة من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأوجب عليه معاداتهم، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بذلك، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] وقال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 49].
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، فهذه هي ملة إبراهيم، التي قال الله فيها {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130]. فعلى المسلم أن يعادي(10/475)
ص -464- ... أعداء الله، ويظهر عداوتهم، ويتباعد عنهم كل التباعد، وأن لا يواليهم، ولا يعاشرهم، ولا يخالطهم؛ وكيف يسوغ عند من نصح نفسه، وكان لها عنده قدر وقيمة، جواز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين من هذه الأمصار، التي قد شاع وذاع، وتقطعت به الأسماع، أنهم يقصدون قبور الصالحين، وكذلك المجاذيب وغيرهم؟
ويجتمعون في الموالد المخترعة المبتدعة، كمولد أحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، والرفاعي، والست زينب، والست نفيسة، وعبد القادر، والكاظم، وحمزة، وغيرهم، فيتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت الأسحار.
ومنهم: من يسجد لها، فهم يعبدون أصحابها بدعائهم، ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصرة والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل النذور لجلب ما أملوه، ودفع الشرور، مع اتخاذ قبورهم أعياداً، والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترباتها، وغير ذلك من أنواع العبادات والطلبات، التي كان عليها عباد الأوثان، يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم.
وهؤلاء المشركون إذا رأوا قبته من مكان بعيد، نزلوا عن الدواب، واستقبلوا بدعائهم والنحيب، ووضعوا لها(10/476)
ص -465- ... الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت الأصوات بالضجيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوه، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا وصلوا إليه، صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد حازوا من الأجر كمن صلى القبلتين.
فهم حول القبر ركعاً وسجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً؛ فللشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرفع بالدعاء من الأصوات، ويطلب من الميت أنواع الحاجات، ويسأل منه تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات.
ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، كأنه الحجر الأسود، وما يفعل به وفد بيت الله الحرام، ثم عفروا عنده تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك القبر، فلم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك القرابين، فكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير رب العالمين.
وقد آل الأمر إلى فعل أنواع المنكرات، من بذل الفروج ثلاثة أيام من كل سنة، في مولد أحمد البدوي، ومشهده الذي في طنطا؛ وقد حدثني بذلك شفاهاً، من شاهد(10/477)
ص -466- ... ذلك، يخرجن إليه الغواني، جاعلين ذلك في صحائفه، ولينالوا من بركته، وأنهم محسوبون عليه، زيادة على فعلهم عند قبر الست نفيسة، ومشهد الحسين؛ هذا والعلماء حاضرون، والعباد شاهدون، والمردان مع الفجار المدعين الولاية والمتزينين بها مجتمعون، وفي فراش واحد بلا حائل ليلاً ينامون، وفي النهار معهم مختلون، ويدعون أنهم لهم يربون. والعلماء والحالة هذه لا ينكرون، والعباد لله لا يغارون، مع أنهم متمكنون من العبادة، ولأجلها يعظمون، ويعزرون ويوقرون، وليس أحد من الكفار لهم عن فعل العباد مانعاً، ولا عن إظهارها جهاراً دافعاً، لكنهم لهذه الأفعال لا ينكرون، ولا الحق يقولون، بل كلا الفريقين يصنفون الكتب في ذلك، ويعتذرون عنه بأجوبة ليست صواباً، ولا سديدة، بل هي عن الحق بعيدة.
منها قولهم: تنبيه: اعلم أنه قد يعترض بعض الناس على أحمد البدوي، وعلى هؤلاء المجتمعين عنده في حضرة ضريحه، ويقولون: إذا كان له هذا المولد العظيم، والتصرف التام النافذ بعد الممات، فكيف لا يتصرف في دفع أصحاب المعاصي عند حضور مولده؟!
والجواب عن ذلك من أوجه:
أحدها: أنه في عناية من ربه، فكل من حضر مولده من أهل العصيان، وافق نزول الرحمة والغفران، فغفر له بسببه، وتيب عليه ولو بعد حين(10/478)
ص -467- ... من الزمان.
الثاني: أن الغالب على حاله البسط، وجاهه عريض يسع الخلق، ولو وافقه جميع فساق أهل الأرض كذلك، كان مغفوراً لهم بسببه.
الثالث: أنه قد خرج إلى مقام لا تكليف فيه، وهؤلاء العاملون عملهم لهم وعليهم. انتهى ما ذكره هذا المجيب عن عباد القبور، وأهل الفواحش والفجور. فأي ملة - صان الله ملة الإسلام - لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟ فإن كان الخير عند هؤلاء ومساكنتهم، ومجامعتهم والسفر إلى أوطانهم مباح، والحالة هذه، فما أرى من يرى ذلك شم رائحة الإيمان، والغيرة لله ورسوله ودينه، ولا عرف ما يجب لله في الإسلام على المسلمين، ولا ما هو الشرك المنافي لتوحيد رب العالمين.
وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إلى طلب العلم، أنه يبيح السفر مطلقاً إلى مَن هذا دينه، وهذه نحلته، وهذه حال بلده، مستدلاً بسفر أبي بكر رضي الله عنه إلى بصرى، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سفره، وأن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يظهر دينه؛ وليس هذا الجهل بغريب ممن لم يعرف كفر هؤلاء، وأن أبا جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إلى ساحل هذا الكفر العظيم، ولا عرف أن بلادهم بلاد كفر والحالة هذه.
ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه، وأراد نجاتها، أن الاستدلال لجواز سفر عوام الناس، الذين لا يعرفون ما(10/479)
ص -468- ... أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، بسفر أبي بكر رضي الله عنه، من دسائس الشيطان؛ فإن من المعلوم عند الخاص والعام، ولا ينكره إلا مكابر مبخوس الحظ، أن الصحابة يظهرون دينهم، وقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وإنكارهم، رضي الله عنهم وأرضاهم، باللسان، على من أحدث حدثاً أو فعل منكراً معروف مشهور.
ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى منكراً وسكت عن إنكاره بلسانه، بل كانوا يكافحون الظلمة بالإنكار، ولا يخافون في الله لومة لائم. ومن ظن أن الصحابة، رضي الله عنهم، لا يظهرون دينهم، ولا ينكرون المنكر، فقد ظن بهم ظن السوء، ولم يعرف قدرهم وفضلهم ومحلهم من الإسلام، وغيرتهم لله وعلى دينه، ولم يقدرهم حق قدرهم؛ فهم القدوة وبهم الأسوة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستناً، فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمَن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فخذوا بسننهم، واهتدوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وإذا كانوا على ما ترى من العلم والفضل والمعرفة،(10/480)
ص -469- ... والغيرة لله ولدينه، وإظهار الدين، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فإذا جاز لأحدهم السفر والحالة هذه، من كمال العلم والمعرفة، وإظهار الدين، وإنكار المنكر، ومباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، أفيقول من له دين وعقل وورع إيماني: إن سفر غوغاء الناس وسفلتهم، والعوام - ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، من معاداة المشركين، ومقاطعتهم، وما حرم الله ورسوله من موالاتهم، والركون إليهم، والتلطف لهم في المعاملات، والمبايعات والمعاشرات، ومن لا يعلم أن من الموالاة ما يوجب الردة، ومنها ما هو دون ذلك – يجوز، قياساً على سفر أبي بكر وغيره من الصحابة، رضي الله عنهم؟ وهل لهذا القياس حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟!
فالصحابة، رضي الله عنهم، أعلم الناس بدينهم وكيفية إظهاره، ومعهم من العلم والدلائل ما يقطع المجادل والمخاصم؛ فهم النجوم للورى هداية ودراية، مع أن الاستدلال بسفر أبي بكر، من الدلائل الجزئية، وهي لا تعارض القواعد الكلية، أو أنها قضية عين خاصة؛ والقضايا العينية الخاصة مقصورة على مواردها، ولا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار.
فقياس سفر غوغاء الناس وعوامهم، وفساق المسلمين ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، على سفر أعلم الناس(10/481)
ص -470- ... وأصلحهم، وأعرفهم بدلائل دينه، وأقومهم بحق الله وإظهار دينه وإعلاء كلمته، من أبطل القياس وأفسده؛ ولا يقيس هذا القياس إلا فاسد المزاج، محتاج إلى علاج.
أين الثريا مكانا في ترفعها ... من الثرى قال هذا كل منتبه
من ذا يقيس نقا الجلد من درن الدْ ... دُنْيا وأمراضها يوماً بأجربه
هذا لعمر الله من أمحل المحال، وأبين الضلال، وأفسد القياس. ثم إن سفر أبي بكر ومن سافر من الصحابة، إنما كان سفرهم إلى بلاد النصارى، وإلى بلاد المجوس؛ ومن المعلوم: أن النصارى والمجوس يعلمون أن العرب على غير دينهم، حتى في الجاهلية، والعرب يعلمون أن هؤلاء على غير دين؛ فالكل منهم متميز عن الآخر بدينه، خصوصاً بعد البعثة، فإنه من المعلوم: أن أهل الإسلام يكفرونهم، لا يشك في ذلك أهل الكتاب ولا غيرهم؛ بخلاف عباد القبور اليوم وأشياعهم، فإنهم ينتسبون إلى الإسلام، ويتلفظون بالشهادتين، وغالبهم يصلي ويصوم ويحج، ومن لا يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله، ومع هذا كله، فحالهم كما تقدم قريباً، من صرفهم خالص حق الله لمعبوداتهم، ولو علموا ممن يسافر إلى ديارهم أنهم على غير دينهم، وأنهم يكفرونهم، لأوقعوا بهم الفتنة، ولآذوهم. فقياس هؤلاء الكفرة على أولئك، من القياس الباطل المردود، مع أن السفر إلى ديار هؤلاء وهؤلاء ممنوع؛ لكن أهل الكتاب(10/482)
ص -471- ... والمجوس، يعلمون أنهم على غير دينهم، بخلاف عباد القبور، فإنهم يظنون أن من سافر إلى بلادهم على دينهم. إذا تبين هذا، وعلمته، فسفر أبي بكر رضي الله عنه كان مع إظهار دينه؛ ومن أظهر دينه كما ينبغي، فلا مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه; وقد قال ابن كثير، رحمه الله تعالى، على آية النساء: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، فلا يجوز خرق الإجماع.
فمن أظهر دينه، جاز له السفر والإقامة، ومن لا يقدر على إظهار دينه، لا يجوز له السفر ولا الإقامة، بإجماع العلماء؛ ولكن الشأن كل الشأن، في إظهار الدين ما هو؟ أهو: ملة إبراهيم، من مباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، والبراءة منهم ومما يعبدون، وأن ما هم عليه من عبادة غير الله كفر وضلال بعيد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد؟ أو هو: ما لفقه هؤلاء، من عبارات لبعض العلماء مجملة محتملة، لا صراحة فيها، ولا راحة فيها لمبطل ولا مشبه؟ ثم كيف يسوغ لذي عقل ودين، أن يجعل سفر أبي بكر رضي الله عنه الذي قد كان من المعلوم أنه من الدلائل الجزئية، والقضايا العينية، مع أنه بلا شك ولا مرية يظهر دينه، دفعًا في نحر النصوص الواردة في وجوب المنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها،(10/483)
ص -472- ... ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم. وهي نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو عبد الرحمن النسائي، في قصة إسلام جرير بن عبد الله: "أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين" 2، قال ابن كثير: معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوا عنهم، وهاجروا من بلادهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع المشركين، فقد برئت منه الذمة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق". والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ومنها: حديث لقيط بن صبرة، لما قال: يا رسول الله، على ما أبايعك؟ فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وقال: "على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك، وأن لا تشرك بالله شيئاً" 4، قال ابن القيم، رحمه الله - في الكلام عليه -: قوله في عقد البيعة: "وزيال المشرك" أي: مفارقته ومعاداته، فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 النسائي: الزينة (5209), وأحمد (3/99).
3 النسائي: الزكاة (2568).
4 أحمد (4/13).(10/484)
ص -473- ... تجاوره، ولا تواكله، كما جاء في حديث السنن: "لا تراءى ناراهما" 1. انتهى.
فحقيق بمن نصح نفسه وأراد نجاتها، أن تكون نصوص الشارع في صدره أعظم وأجل من مفهوم ما لفقه الملفقون من العبارات المجملة، وأن يكون له معرفة وغور في معاني النصوص ودلالتها، ومعرفة بالصحيح الصريح الذي لا يحتمل غير ما دل عليه، وأن يعرف ما ورد من الأحاديث الصحيحة التي لا صراحة فيها على ما يراد، بل إما أن تكون محمولة على من أظهر دينه، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة..." 2 الحديث، وكحديث الأعرابي المحمول على أنه خاص به، وكسفر أبي بكر المحمول على إظهار الدين، وغيرها من الأحاديث.
وأما قول شيخ الإسلام في الاقتضاء: ولو أن رجلاً سافر إلى بلاد الحرب ليشتري منها لجاز عندنا، فنعم؛ قاله شيخ الإسلام، ولكن مع إظهار الدين كما قاله غيره من العلماء. وكيف يجوزه بدون إظهار الدين، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم على وجه العموم والإطلاق؟! بل قال، رحمه الله تعالى: بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 البخاري: التوحيد (7423), وأحمد (2/335, 2/339).(10/485)
ص -474- ... فسفر أبي بكر رضي الله عنه لا يستدل به على جواز سفر فسّاق المسلمين إلى بلاد المشركين، الذين لا يعرفون ما أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين ومفارقتهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، إلا من قصده فاسد، وذهنه كاسد، وفي قلبه مرض، ولا غيرة فيه لله ورسوله ولا على دينه، ولا في قلبه نفرة من مشاهدة أعداء الله وأعداء رسوله، بل كل الناس عنده على حد سواء، مسلمهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم. فالله المستعان وبه المستغاث وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وسئل أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: ما قول علماء المسلمين - كشف الله بهم كل غمة، وجلا بهم كل ظلماء مدلهمة - في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟ وهل يعاب من انتقل إليها ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟ وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟ وهل يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟ أفتونا(10/486)
ص -475- ... وبينوا لنا، فإن الأمر مهم، وليل الجهل مدلهم؛ فرحم الله من أبان الدليل، وهدى الضال إلى سواء السبيل.
فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما قول السائل: ما قول علماء المسلمين، في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ فاعلم يا أخي، وفقك الله: أن هذه الأرض المسماة بـ"قرية" من أعمال نجد الداخلة في حدوده، وليست هي من أعمال الساحل، بل كانت من قديم الزمان وحديثه من أعمال نجد، الكائنة في ولاية المسلمين؛ وهذا مما لا شك فيه عند كل أحد.
وأما قوله: وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟
فنقول: إذا نزل بها طائفة من المسلمين بإذن الإمام، واستقروا بها، فهي دار هجرة لمن هاجر إليها من المسلمين، من بلاد الكفر، أو من البادية التي قد غلب عليهم الجفاء، والغفلة عن تعلم ما ينفعهم في دينهم. والمهاجر إليهم يسمى مهاجراً، إذا قام بأعباء الهجرة وحقوقها، كما في الحديث(10/487)
ص -476- ... الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1، رواه البخاري في صحيحه.
وأما قوله: وهل يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟
فالجواب أن نقول: لا يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، ومن عاب من نزل بها بهذا السبب، فهو جاهل مركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، الذين هاجروا إلى المدينة من مكة وغيرها، قد انتقل كثير منهم منها إلى الأمصار والأقطار، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن أجلهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه انتقل من دار هجرته إلى الكوفة، واستقر بها، إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي بها، ودفن بقصر الإمارة بالكوفة; وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه، لما رجع عن قتال علي، قصد راجعاً إلى الكوفة، فقتل في أثناء الطريق، ثم حمل إلى موضع الزبير الآن فمات به.
وكذلك ابن عباس رضي الله عنه، خرج من المدينة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6689), ومسلم: الإمارة (1907), والترمذي: فضائل الجهاد (1647), والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794), وأبو داود: الطلاق (2201), وابن ماجة: الزهد (4227), وأحمد (1/25, 1/43).(10/488)
ص -477- ... وصار إلى البصرة، ثم نزل بمكة ومات بالطائف. وكذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه، كان أميراً على المدائن، في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد خرج من المدينة دار المهاجرين; وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وغيرهم من الصحابة، ممن لا يحصى عددهم، ولا نعلم أن أحداً من العلماء عاب ذلك، أو أنكره.
ومن عاب ذلك أو أنكره، فقد عاب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 1. وعلي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسك بسنتهم وهديهم. فمن أنكر ما ذكرناه وعابه، فقد أخطأ وأضاع نصيبه من العلم، وتكلف ما لا علم له به.
وأما قول السائل: وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟
فنقول: قد ذكرنا آنفاً، من انتقل من الصحابة من المدينة، بأسباب اقتضت ذلك، مذكورة في مظانها; ومنهم من انتقل منها، ولم نطلع على السبب الذي أوجب له ذلك; ولا شك أن من انتقل منها بسبب، كان أعذر ممن لم ينتقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4607), والدارمي: المقدمة (95).(10/489)
ص -478- ... عنها بلا سبب. وقد خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى قصره بالبادية، أيام الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، وقيل له في ذلك، فقال:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ ... عوى وصوت إنسان فكدت أطير
وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خرج أيام الفتنة من المدينة. فمن خرج من دار هجرته إلى بلد من بلدان المسلمين من غير سبب، لا نعيب عليه ذلك، إلا بدليل شرعي، فمن كان عنده في ذلك دليل، فليرشدنا إليه.
وأما قول السائل: وهل يطلق اسم دار الهجرة، على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟
فنقول: نعم، يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية، ولا يقيد ذلك بديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان؛ بل من هاجر من ديار الكفر أو من البادية، إلى بلد من بلدان المسلمين، فهو مهاجر، فلا فرق في ذلك بين الديار التي نزلها الإخوان في هذا الزمان، وبين قرى المسلمين. ولا يفرق بين ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان على نصيب وافر من الجهل، والقول على الله بلا علم.
ثم إن في تسمية هذه البلدان التي نزلها الإخوان من البادية، حيث سموها الهجر، نظراً؛ فإن هذا اسم حادث. فإن الصحابة، رضي الله عنهم، لما فتحوا الأمصار والبلدان،(10/490)
ص -479- ... واختطوا لهم منازل، وسكنوا بها، لم يسموها بهذا الاسم. وعمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، فسموها بالبصرة والكوفة، وكذلك سائر القرى، التي نزل بها الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون، إنما سموها باسمها الذي سماها به أهلها.
وكذلك ما أحدثوه من تسمية، من سكن من الأعراب والبلدان التي اختلطوا بها منازل، حيث سموهم "الإخوان" وجعلوا هذا الاسم خاصاً بهم، دون الإخوان من المسلمين الحاضرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [سورة الحجرات آية: 10]، مع بغي بعضهم على بعض، ومقاتلة بعضهم لبعض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103]، فسماهم الله جميعاً إخواناً ولم يفرق بينهم.
وقد بلغنا: أن بعض الجهال المتعمقين من هؤلاء الدوارين، لما سأله بعض البادية: هل يجوز أن نهاجر؟ ونبني مساكن في "نفي" أو غيره من قرى السر؟ فقال: لا يجوز أن يبنى بها، أو تكون محل هجرة، لأنها مؤسسة على(10/491)
ص -480- ... الكفر; وما علم هذا المسكين الجاهل: أن المدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قد كانت مؤسسة على الكفر 1 قبل الإسلام، وكان الذي أسسها الأوس والخزرج، وحلفاؤهم من اليهود، وكانوا إذ ذاك كفاراً مشركين، فلما ظهر بها الإسلام، وهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، صارت دار الهجرة، ولم يضرها تأسيس من أسسها على الكفر.
وبلغنا أيضاً، من مجازفة بعض هؤلاء الأعراب المهاجرين في هذه البلدان، ومجاوزتهم للحد بالغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض فيه، والموالاة والمعاداة فيه، أنه لما سافر بعضهم إلى بعض بلدان المسلمين من بلدان نجد، ومكث فيها نحواً من أربعة أشهر، هجروه من السلام، لزعمهم أنه متربص في هذه البلاد؛ ولازم قولهم: أن هذه البلدة إما بلاد كفر، أو بلاد فسق، يجب على من لم يقدر على إظهار دينه فيها الهجرة عنها، لأنها على زعمهم، لا يحل لأحد المقام بها.
وهاهنا مسألة، قد أجبنا عليها في غير هذا الموضوع، ثم لما يسر الله كلام شمس الدين بن القيم، رحمه الله تعالى، على هذه المسألة بخصوصها، أحببنا أن نثبته في هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مراده: مبنية في حالة الكفر.(10/492)
ص -481- ... الموضع. والمسألة التي أشرنا إليها، هي قول السائل: ما الرخصة المذمومة، المذموم المترخص بها، التي قيل فيها: من تتبع الرخص تزندق، أو كاد؟ فإن أكثر من لدينا إذا سمع ما لم يدر به، ولا هو على باله عد ذلك رخصاً؟ فنقول: قال شمس الدين بن القيم، رحمه الله: الرخصة نوعان:
أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، ونكاح الأمة خوفاً من العنت، ونحو ذلك. فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرده إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها: ما هو واجب، كأكل الميتة عند الضرورة. ومنها: ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره. ومنها: ما مصلحته للمترخص وغيره؛ ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع. ففعل هذه الرخص أرجح، وأفضل من تركها.
النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع(10/493)
ص -482- ... بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر، وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء، وجوز أن يكون زوج قحبة، وقول من أباح آلات اللهو والمعازف، من اليراع والطنبور والعود، والطبل والمزمار، وقول من أباح الغناء، وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء، وقول من جوز للصائم أكل البرد، وقال ليس بطعام ولا شراب، وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم، وقول من صحح الصلاة بـ{مُدْهَامَّتَانِ} [سورة الرحمن آية: 64] بالفارسية وركع كلحظة الطرف، ثم فصل كحد السيف، ولم يتشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج من الصلاة بحقبة، وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن، ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة، إذا كان ذلك الحمل من زنى، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء، فهذا الذي تنقص برخصته رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص؛ فهذا لون والأول لون. انتهى.
وبهذا يتبين لك الفرق بين الرخص المحمودة، التي ورد بها الشرع ويحبها الله، كما في الحديث: "إن الله يحب أن(10/494)
ص -483- ... تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه" 1، وبين الرخص المذمومة شرعاً، التي من تتبعها فقد تزندق، والذي يترخص بهذه الرخص المذمومة، متلاعب بدين الله وشرعه، ومستخف بهما.
فإذا فهمت ذلك، فاعلم: أن الذي قصده المشائخ، إنما هي هذه الترخصات المذمومة؛ فظن هؤلاء المتدينون أن المشائخ إذا سئلوا عن شيء وردت فيه الرخصة من التيسير، وعدم التكلف، أن هذا هو الترخص الذي مَن تتبعه فقد تزندق، وليس الأمر كذلك، وإنما أُتوا من جهلهم واستغنائهم بآرائهم، وأهوائهم الخاسرة القاصرة؛ فالله المستعان. هذا ما تيسر لي من الجواب على سبيل الاختصار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/108).(10/495)
ص -484- ... [ حكم الإقامة في بلاد المشركين ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97-98]، وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]. قال الحسن البصري: لا يجوز له القعود معهم، خاضوا أو لم يخوضوا، لقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68]، وقال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة التوبة آية: 66]، قال شيخ الإسلام: فعلم: أن الطائفة المعفو عنها عاصية لا كافرة، إما بسماع الكفر دون إنكاره، والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو كلام هو ذنب وليس هو كفراً، وغير ذلك من الذنوب. انتهى.(10/496)
ص -485- ... وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما" 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق إلى شاهق". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
فمن أقام بين أظهر المشركين من غير إظهار للدين، إلا من استثنى الله من المستضعفين، فقد فعل أمراً محرماً بنص القرآن، وإجماع العلماء؛ قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
الحادي عشر: أن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم، وإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها، في الوعيد خاصة; فأما في التحريم فليس فيه خلاف معتمد محتسب، وما زال العلماء من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، والفقهاء بعدهم، في خطابهم وكتبهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره، بل إذا كان في الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 النسائي: الزينة (5209), وأحمد (3/99).
3 النسائي: الزكاة (2568).(10/497)
ص -486- ... وعيد، كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم، على ما تعرفه القلوب. وتقدم أيضاً التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم، واعتقاد الوعيد، وأنه قول الجمهور; وعلى هذا، فلا يقبل قول مخالف الجماعة.
الثاني عشر: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جداً، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون، أو مغضوب عليه، أو مستحق للنار. انتهى المقصود منه.
وحكم السفر للتجارة والكسب حكم الإقامة، لا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه الدليل؛ فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء: على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه، وكان قادراً على الهجرة.
فإن قال بعض المتنطعين المتهوكين، الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها: إذا كنتم تحرمون الإقامة بين أظهر المشركين، من غير إظهار للدين، وتحرمون السفر إلى ديارهم، فمن المعلوم أن من أحل محرماً فهو كافر، ونحن نبيح السفر إلى بلاد المشركين مطلقاً، أو مقيداً بإظهار الأركان الخمسة.(10/498)
ص -487- ... قيل له: من فعل أمراً محرماً، غير عالم بتحريمه، لا نؤثمه بذلك فضلاً عن تكفيره; ومن فعله عالماً بتحريمه متعمداً فعله، فهو عاص لله بارتكابه المحرم على عمد. فمن أباح السفر إلى بلاد المشركين، وهو يعلم أن ذلك حرام عليه، لكنه أصر وعاند، وكابر وعتا وتمرد، وشرد على الله شراد البعير على أهله، زاعماً أن الحق فيما خالف الكتاب والسنة، مما هو ينتحله من الأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة، فكلام أهل العلم في ذلك واضح، لا خفاء به.
وأما من قامت له شبهة، أو تأول، وزعم أن هذا السفر ليس بحرام، ولكن مباح، لأنه يظهر دينه، وأن البلد التي يسافر إليها ليست عنده ببلد كفر، إلى غير ذلك من الشبه والتأويل، فهذا لا يكفر بإباحة ما حرمه الله ورسوله، لقيام الشبهة معه، والتأويل المانع من تكفيره، ولكنه آثم عاص بفعله ذلك من غير اجتهاد في طلب الحق والدليل، إذ حسن الظن بمن يقلده ويسهل له في ذلك.
هذا كله فيمن يقلد، وفي العامي الذي لا اطلاع له، ولا علم يميز به بين الحق والباطل، وأما من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فاعلم: أنه لا يتجاسر على إباحة المحرمات عالم يخشى الله، وإنما يخشى الله من عباده العلماء؛ وإنما يقع ذلك من بعض العلماء، لأسباب ذكرها شيخ الإسلام في رفع الملام عن(10/499)
ص -488- ... الأئمة الأعلام بأمثلتها; فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها هناك، ونذكرها هاهنا على سبيل الاختصار والإشارة.
فنقول: اعلم أن من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فإنما ذلك لكونه لم يبلغه في ذلك نص، فاجتهد، أو استند إلى موجب ظاهر آية أو حديث، أو موجب قياس، أو موجب استصحاب، أو بلغه في ذلك نص لكنه لم يثبت عنده، لشيء مما قد يعرض للعالم من تضعيف الحديث، أو لعلة من جهالة أو انقطاع أو غير ذلك، وإن كان قد ثبت عند غيره، أو بلغه الحديث لكنه نسيه، أو لعدم معرفته بدلالة الحديث، أو اعتقد أن هذا النص لا دلالة فيه، أو اعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز من أنواع المعارضات، أو غير ذلك من الأعذار، مما ذكره أهل العلم لأهل العلم. فإذا جاء حديث صحيح، فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء، الذين وصفنا أسباب تركهم، يعاقَب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله; وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل، مِن لعنة، أو غضب، أو عذاب، أو براءة، أو ليس منا، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول(10/500)
ص -489- ... أحد: إن ذلك الذي أباح هذا من العلماء، أو فعله، داخل في هذا الوعيد; فهذه أسباب يعذر بها العلماء.
فإذا علمت هذا، تبين لك جهل من تعنت من هؤلاء الجهلة، في قوله: فما يلزم ابن تيمية في إباحته السفر إلى بلاد المشركين، لأن شيخ الإسلام، قدس الله روحه، لا يبيحه إلا بشروطه من إظهار الدين، كغيره من العلماء؛ وكيف يبيحه مطلقاً، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد، فيما اقتضته من التحريم، على وجه العموم والإطلاق؟ إذا علمت هذا، فما حكم به الحاكم من هؤلاء على مستحل السفر، من غير تفصيل، فهو وذاك، ونبرأ إلى الله من حكمه القاسط المنتن المظلم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31]. وأما نحن، فالذي نقطع به عن غالبهم - أعني المسافرين في هذه الأزمان - أنهم لا يعلمون التحريم، ولا أن أهل العلم منعوا منه من لا يقدر على إظهار دينه؛ وأما من علم بالتحريم، ثم استحله استخفافاً بوعيد الله، واستهزاء بأحكامه، ومكابرة ومعاندة لله ورسوله، فكلام أهل العلم فيمن هذه حاله واضح.
وهؤلاء الذين يجادلون في إباحة السفر، معهم من التأويل والشبهة، ما صدهم عن سواء السبيل; فإنهم يزعمون: أن ما نستدل به من الآيات والأحاديث، محمولة(11/1)
ص -490- ... على من لا يظهر دينه، وأنه لا دلالة فيها على التحري، ومعارضون الأحاديث العامة المطلقة بالأحاديث الخاصة، المقيدة بإظهار الدين، ومعهم من الجهل والغباوة ما لا مزيد عليه. فإنهم يزعمون أنا نكفر من أباح السفر إلى بلاد المشركين، لأن السفر إلى بلاد المشركين محرم، ومن أباح محرماً فقد كفر؛ ونحن نبرأ إلى الله مما يقولون، وهذا الإلزام لازم لهم، فإن من حرم حلالاً فقد كفر كمن أحل حراماً، لا فرق، ولكنهم لا يعلمون. وصلى الله على محمد.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: وتذكر أني إن رأيت في كلامك عثرة، أو هفوة، فالمؤمن مرآة أخيه.
فاعلم وفقك الله لما يحبه ويرضاه: أنه وقع في كلامك الذي كتبت به إلى الملاحي، بعض الهفوة والعثرة، غفلة منك؛ ولم يكن ذلك الخطأ منك على بال، ولم تقصد ذلك المعنى على عمد واعتقاد، ولكن لم تحسن التعبير عن الأمر الذي تقوم به الحجة على المخالف، ويندفع به وجه احتجاجه عليكم؛ وذلك أنك جعلت الأمر المسوغ للدخول في طاعتهم، هو: استجلاب مصالح المسلمين، وإعزاز أهل الدين، وليس هذا هو المسوغ للدخول في طاعتهم فقط، وإنما المسوغ لذلك هو: درء المفاسد، مع استجلاب(11/2)
ص -491- ... المصالح الدينية.
وقد ذكر أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فدرء مفسدة قمع أهل الحق، وعدم إظهار دينهم واجتماعهم عليه، والدعوة إلى ذلك، وعدم تشتيتهم وتشريدهم في كل مكان، مقدم على جلب مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، مع قوتهم وتغلبهم وقهرهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وإظهار عداوتهم والهجرة عن بلادهم، بمجرد الدخول في طاعتهم في غير معصية الله ورسوله.
فإذا كان لأهل الدين حوزة، واجتماع على الحق، وليس لهم معارض فيما يظهرون به دينهم، ولا مانع يمنعهم من ذلك، وكون الولاة مرتدين عن الدين، بتوليهم الكفار، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام، فالبلد حينئذ بلد إسلام، لعدم إجراء أحكام الكفر، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، عن الحنابلة وغيرهم من العلماء.
وإذا كان الحال على ما وصفنا، فمراعاة درء مفسدة قمع أهل الحق، وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم، وإظهار أهل الباطل باطلهم، وإعلاء كلمتهم على أهل الحق، وكذلك مراعاة جلب المصالح، في إعزاز أهل الحق، واحترامهم وعدم معارضتهم، مقدم والحالة هذه على مصلحة الإنكار(11/3)
ص -492- ... على ولاة الأمور من غير قدرة على ذلك، لأجل تغلب أهل الباطل وقوتهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وعدم تنفيذ الأمور التي يحبها الله ويرضاها؛ فدرء المفسدة المترتبة على الإنكار على الولاة، أرجح من المصلحة المترتبة على منابذتهم بأضعاف مضاعفة. وإذا استلزم الأمر المحبوب إلى الله، أمراً مبغوضاً مكروهاً إلى الله، وتفويت أمر هو أحب إلى الله منه، لم يكن ذلك مما يحبه الله ويقرب إليه، لما ينبني على ذلك من المفاسد، وتفويت المصالح.
وقد ذكر أهل العلم قاعدة تنبني عليها أحكام الشريعة، وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين، لتفويت أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين، لتحصيل أعلاهما.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي، في رده على السبكي، كلاماً يحسن أن نذكره في هذا الموضع. قال رحمه الله:
الوجه الثالث: أنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له، في كونه قربة، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل؛ وأما إذا استلزم ذلك، فلا يكون قربة، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم، وإن كان محبوباً لله، فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه، من إعطاء من يحصل بعطيته(11/4)
ص -493- ... قوة في الإسلام وأهله، وإن كان قوياً غنياً غير مستحق. وكذلك التخلي لنوافل العبادة، إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد، الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال، وإن كانت قربة في غيرها. وكذلك الصلاة في وقت النهي، إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكره، من التشبه ظاهراً بأعدائه، الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت. فهاهنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزامه لأمر مبغوض مكروه، أو تفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل. ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل، أطلعه الله على سر الشريعة، ومراتب الأعمال، وتفاوتها في الحب والبغض، والضر والنفع، بحسب قوة فهمه وإدراكه، ومراد توفيق الله، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة، وهي: تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل. انتهى.
وقال ابن القيم، رحمه الله - في الأقسام، بعد كلام سبق -: والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق، ويلتزم بعض الباطل. انتهى.(11/5)
ص -494- ... فتأمل ما ذكرناه، من أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا اجتمع درء المفاسد واجتلاب المصالح، كان ذلك أقوى في الحجة على الخصم، من ذكر استجلاب المصالح فقط.
وأما استدلالك بكلام ابن القيم، فقد أبعدت النجعة، وما أبعده من دليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في ولايتهم، ولا صالحهم على الدخول فيها بما التزمه لهم، وأجابهم فيه بما يعظمون به حرمة من حرمات الله، فأين هذا مما أنتم فيه؟ فإن الولاة المذكورين لم يكن بينهم وبينهم مصالحة، ولا طلبوا منهم أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله، فتجيبوهم إلى ذلك وتعينوهم عليه، فما وجه الاستدلال بكلام ابن القيم لذلك، والحالة غير الحالة؟ وأما الولاة المذكورون، فإنهم قد حصل منهم موالاة وتول للكفار وموافقة، ومظاهرة على المسلمين، فلا شك في ردتهم؛ والمتأخرون منهم إما راضون بأفعالهم، أو معينون لهم، ولم يظهر منهم مخالفة لمن قبلهم، ولا عيب لهم على أفعالهم، فحكمهم حكمهم، إلا أن يكون قد تبين لكم منهم خلاف ما عليه أسلافهم. فإذا عرفت هذا، تبين لك وجه الحجة على خصمك لما ذكرناه.(11/6)
ص -495- ... وقال أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان: وأما قول السائل: ويقولون: ساكن البادية والنازل منها إلى الحاضرة، سواء، فنقول: هذا من الكذب على المشائخ، فإنه لم يقل أحد منهم أن من أسلم من البادية، ودخل في هذا الدين ولم يهاجر، كمن هاجر منهم وترك جميع ما كان عليه من أمور الجاهلية، وسكن مع الحاضرة سواء؛ بل هذا من أعظم الكذب والافتراء؛ وقد بينا فضل من هاجر على من لم يهاجر. وإنما قال المشائخ لمن سألهم عن الفرق بين حكم من أسلم وتبين له الدين، وكان متمكناً من إقامة دينه وإظهاره، وبين من لم يسلم من الأعراب، الساكنين في البادية، أن الهجرة لا تجب عليه، بل هي مستحبة في حقه، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، والله أعلم.(11/7)
ص -496- ... سئل الشيخ سعد بن عتيق: عن الهجرة، هل تطلق على الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام؟ أم الهجرة البلد المهاجر إليها... إلخ؟
فأجاب: الهجرة في اللغة: الانتقال من أرض إلى أرض، وفي الشرع: الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي، إلى بلد الإسلام والطاعة. فكل موضع لا يقدر الإنسان فيه على إظهار دينه، يجب عليه أن يهاجر إلى موضع يقدر فيه على إظهار دينه؛ وانتقاله إلى ذلك الموضع الذي يتمكن فيه من إظهار دينه، يسمى هجرة، والبلد الذي يهاجر إليها يسمى مهاجَراً بفتح الجيم، ويسمى دار هجرة. وأما إطلاق الهجرة على الموضع الذي يهاجر إليه، فهو اصطلاح حادث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أريت دار هجرتكم" 1، ولم يقل: هجرتكم، وقال: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم" 2، يريد ما فعلوا من الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/198).
2 البخاري: الجنائز (1296), ومسلم: الوصية (1628), والنسائي: الوصايا (3628), وأبو داود: الوصايا (2864), وأحمد (1/179).(11/8)
ص -497- ... سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجلين بحثا في الهجرة... إلخ؟
فأجاب: الصواب مع الثاني، وهو الحق المقطوع به الذي ندين الله به، وهو: أن الهجرة واجبة على من لم يقدر على إظهار دينه، وخاف الفتنة؛ وأدلة ذلك ظاهرة من الكتاب والسنة. وقد نص علماء السنة على ذلك وذكروه من أصولهم، وأن الجهاد قائم مع كل إمام بر وفاجر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، وأن الهجرة باقية لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
وأما الجواب عما احتج به الأول، من قوله: لا هجرة بعد الفتح، فالمراد بذلك لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، ولم يبق فيها من يفتن المسلم عن دينه; قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: أراد به: الهجرة المعهودة في زمنه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة، وغيرها من أرض العرب؛ فإن الهجرة مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها. فلما فتحت مكة، وصارت دار إسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار إسلام، فقال: "لا هجرة بعد الفتح" 1؛ وعلى هذا يحمل حديث صاحب الخضرمة، لأن بلاد العرب إذ ذاك صارت كلها دار إسلام؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).(11/9)
ص -498- ... وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان، أو دار فسق، ليست صفة لازمة، بل هي صفة عارضة بحسب حال سكانها، والحكم يدور مع علته.
وأما الحديث الثاني: فالمراد به غير ما فهم هذا في الأصل، وهو: أن التوحيد شرط لجميع الأعمال، الصلاة وغيرها، وهذا الشرط هو الذي تفهمه العرب من لسانها، ولذلك لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله إلا الله"، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5]، وقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36]. وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم وإن نطقوا بها، وصلّوا وزكّوا، لا يفهمون منها ما فهمته العرب، من أن معناها: خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له; بل يخالفون معناها، فيصرفون التأله لغير الله تعالى، ويعتقدون ذلك قربة إلى الله، فيصرفون خالص حق الله الذي دلت عليه هذه الكلمة لغيره تعالى، بل أكبهم الجهل إلى الشرك في الربوبية، فلا تنفعهم "لا إله إلا الله" مع ذلك وإن قالوها، لأن الشرك محبط للعمل، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر آية: 65]، وغير ذلك من الآيات الدالة على حبوط عمل المشرك.
ومشركو العرب، إنما كان شركهم في الإلهية، فلا(11/10)
ص -499- ... تنفع "لا إله إلا الله" قائلها، إلا إذا التزم ما دلت عليه من خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة; ولذلك لما قالها أهل النفاق واليهود، ولم يلتزموا ما دلت عليه، لم تنفعهم. فإن كان الإنسان مقيماً بين أظهر من هذا حاله، فهو دائر بين أحوال: إما الموافقة لهم على هذا المعتقد، وموالاتهم عليه، أو مدح معتقدهم وتفضيلهم على أهل التوحيد، فهذا مثلهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51]، وقال تعالى في حق المادحين لدينهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [سورة النساء آية: 51-52]؛ بل من كان كذلك فهو منهم، وإن كان بين أظهر المسلمين، فهذا غير مظهر لدينه، فتجب عليه الهجرة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثامن،
ويليه الجزء التاسع، وأوله:
فصل: في الإمامة والبيعة والسمع والطاعة(11/11)
الدرر السنية - المجلد التاسع
القسم الثاني من كناب الجهاد وأول كتاب المرتد(12/1)
ص -5- ... بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة]
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم.
وقال أيضا: اختلفوا في الجماعة والافتراق، فذهب الصحابة ومن معهم إلى وجوبها، وأن الإسلام لا يتم إلا بها، وذهبت الخوارج ومن معهم إلى الأخرى وإنكار الجماعة، ففصل الكتاب بينهم، بقوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 103] الآية.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله(12/2)
ص -6- ... تعالى: الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا، فبين - أي الكتاب - هذا بيانا شائعا ذائعا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف بالعمل به؟
وقال أيضا: وبعد يجيئنا من العلوم، أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شيء ما يستقيم عليه دين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين، صار بطانته أهل الشر; وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم، والتغاضي عن زلته؛ وهذا أمر لا بد منه من أهل الدين، يتغاضون عن أميرهم، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم، ويجعلهم مشورته وأهل مجلسه، ولا يسمع فيهم كلام العدوان، وترى الكل: من أهل الدين والأمير، ما يعبد الله أحد منهم إلا برفيقه، فأنتم توكلوا على الله، واستعينوا بالله على الائتلاف والمحبة واجتماع الكلمة، فإن العدو يفرح إذا رأى أن الكل ناقم على رفيقه، والسبب يرجو عود الباطل.
[الإمامة في غير قريش]
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله تعالى، هل تصح الإمامة في غير قريش؟
فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء، أنها لا تصح في غير قريش إذا أمكن ذلك وأما إذا لم يمكن ذلك واتفقت الأمة على مبايعة الإمام، أو اتفق(12/3)
ص -7- ... أهل الحل والعقد عليه، صحت إمامته، ووجبت مبايعته، ولم يصح الخروج عليه، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي... " الحديث.
[فرضية نصب الإمام]
وسئل: أبناء الشيخ محمد وحمد بن ناصر رحمهم الله؛ هل نصب الإمام فرض على الناس أم لا؟
فأجابوا: الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن الإمام يجب نصبه على الناس، وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك، كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإنصاف الضعيف من القوي، وغير ذلك من أمور الدين، ولهذا أوجب الله طاعة أولي الأمر، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [سورة النساء آية : 59. ] وقال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 103]
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "1، وفي حديث العرباض بن سارية، أنه قال عليه السلام: " أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وعليكم بسنتي وسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأحكام (7144) , ومسلم : الإمارة (1839) , والترمذي : الجهاد (1707) , وأبو داود : الجهاد (2626) , وابن ماجه : الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).(12/4)
ص -8- ... الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "1. ولا يستقيم الدين إلا بإمام، ولهذا قال علي رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قالوا: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال يقام بها الحدود، ويؤمن بها السبل ".
وأما العبد إذا اجتمعت فيه شروط الإمامة، فالذي عليه أهل العلم: أن العبد لا تجوز إمامته إذا أمكن، ولم يقهر الناس بسلطانه، وأما إذا قهر الناس واجتمع عليه أهل الحل والعقد، وجبت طاعته وحرمت مخالفته، كما في حديث العرباض المتقدم " وإن تأمر عليكم عبد حبشي "2؛ وإذا أمكن كون الإمام من قريش، فهو أولى، كما في الحديث الصحيح.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال بعض الجهال: إن من شروط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قام معه وبعده بما دعا إليه; وأيضا: إن البغاة تحل دماؤهم دون أموالهم، وقد استحل الأموال والدماء من العلماء وغيرهم... إلى آخره؟
فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : العلم (2676) , وأبو داود : السنة (4607) , وابن ماجه : المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي : المقدمة (95).
2 البخاري : الأذان (693) , وابن ماجه : الجهاد (2860) , وأحمد (3/171).(12/5)
ص -9- ... يقل تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح؛ وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش، ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم دعا إلى الهدى، وقاتل عليه ولم يلقب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما.
وأيضا: فالألقاب أمرها سهل، وهذا كل من صار وليا في صنعا يسمى إماما، وصاحب مسكة، يلقب كذلك.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة، ولم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ المال.
قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه،(12/6)
ص -10- ... كما قاتل الصديق مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، إلى أن قال: فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات، والصيام، والحج، وعن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنى والميسر، وعن التزام جهاد الكفار، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، لوجوبها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، إلى أن قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، والخارجون عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، انتهى.
وأيضا: فالمشار إليهم في السؤال، لا نقول إنهم معصومون، بل يقع منهم أشياء تخالف الشرع، ولولا ما يحدث من المخالفات، لم يسلط عليهم عدوهم، ولكن عوقبوا بأن سلط عليهم من ليس خيرا منهم وأحسن. "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني". والذي أدركنا من سيرة هذه الطائفة المشار إليها، ما بقي منها اليوم إلا الاسم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(12/7)
ص -11- ... [قوله صلى الله عليه وسلم من مات وليس في عنقه بيعة]
وسئل: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية "
فأجاب: أرجو أنه لا يجب على كل إنسان المبايعة، وأنه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد، ورأى أنه لا يجوز الخروج على الإمام، ولا معصيته في غير معصية الله، أن ذلك كاف، وإنما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهلية، لأن أهل الجاهلية كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم، ولا يرضون بالدخول في طاعة واحد؛ فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهلية في هذا المعنى، والله أعلم.
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن: إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بفهمون أن الجماعة فرض على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلام، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [ سورة آل عمران آية: 103] ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح، عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها(12/8)
ص -12- ... العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ".
وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعة من خرج وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله الناس عليهم.
وتفهمون: أن الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامكم: عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل رحمه الله، فالذي بايع بايع وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايع لهم كبارهم، واجتمع عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين.
ونقض البيعة، وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وساع في نقض بيعة الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ(12/9)
ص -13- ... أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [سورة النحل آية: 91،92].
وسعى سعود في ثلاثة أمور كلها منكرة، نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإمام؛ فعلى هذا: يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث " من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية" وفي الحديث الآخر "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله، لما في الحديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" فظاهر الحديث: أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، إما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين، أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم، من غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين.
وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم، ذكروا قتال العصبية، وحكمه؛ وقتال البغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية، أن يحملهم على الشريعة؛ وأما البغاة فحكمهم: أنهم يقاتلون حتى يفيئوا ويرجعوا، ويدخلوا في جماعة المسلمين، فالفرق ظاهر بين ولله الحمد، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى، وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر لا يخفى على من له عقل،(12/10)
ص -14- ... واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، والسلام.
وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمة، وسلك بنا وبه سبيل سلف الأمة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه؛ والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله سبحانه فيه حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن.
وتذكر أن أباك يوم يركب ما ظن أن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة؛ والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى بحمد الله بين أيدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟ ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة(12/11)
ص -15- ... والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يسأل عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر، وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته.
ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان، ينبغي أن يتنْزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم؛ وإنما خاطبتكم بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق; وبعض من ينتسب إلى الدين، قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله.
وأما يمينك على أنك تحقق من أبيك أنه لا ينكث عهده ولو يقال له الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل النكث حقيقة إلا تباين ما وقع، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وقولك: والله غالب على أمره، حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأما الخط مني له: فخطي لك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام وذروة سنامه، كما هو مقرر في محله; والآيات القرآنية لا يتسع هذا(12/12)
ص -16- ... الموضع لسياقها، بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب العلم؛ بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام، يعرف هذه المسألة ولا تلتبس عليه.
ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر، وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة من المسلمين، على يد شيخهم وإمامهم في الدين والدنيا، قدس الله روحه ونور ضريحه، فأي شيء نسخ هذا؟ وأنت وأبوك تعرفون حال عبد الله معنا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه ولا يتشفى بما يفسد دينه؛ نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن.
وذكّر أباك حديث ابن عباس، في استفتاحه صلى الله عليه وسلم صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره، وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه؛ والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله أن يمن بذلك؛ وصلى الله على محمد.(12/13)
ص -17- ... وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، السيخ: إبراهيم، ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، وحصل من التفرق والاختلاف، والخوض في الأهواء المضلة، ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين أعلامه الظاهرة وشرعه؛ وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها: إلى بصر ناقد عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات؛ والقول على الله بغير علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك، واتخاذ الأنداد معه.
وقد صار لديكم وشاع بينكم، ما يعز حصره واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فحسبه السكوت، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر إليكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله، ولزوم بيعته،(12/14)
ص -18- ... والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية؛ وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله، ووجوب السمع والطاعة.
فلما صدر من عبد الله ما صدر، من جلب الدولة إلى البلاد ا لإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الأحساء والقطيف، والخط؛ تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد، النكير عليه شفاها، ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله ترسا، تدفع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم، والبراءة منهم، وتحريم موادتهم ومواخاتهم، من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية.
والقول: بأنهم جاؤوا لنصر إمام أو دين، قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته وضعف عقله، وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سوتسية الأعراب، ومن نكب عن طريق الحق والصواب؛ وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك؛ والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها، والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث "إنا لا نستعين بمشرك" هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى.
وهذه الصورة، حقيقتها: تولية وتخلية، وخيانة(12/15)
ص -19- ... ظاهرة، كما يعرفه من له أدنى ذوق ونهمة في العلم، لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء، ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتبت إلى ابن عتيق أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعى فيما يصلح الإسلام والمسلمين؛ ويأبى الله إلا ما أراد { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21].
والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم: أن أمر المسلمين لايصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية، ولا تحصل الأركان الإسلامية، وتظهر الأحكام القرآنية إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط.
ومن عرف القواعد الشرعية، عرف ضرورة الناس وحاجتهم، في أمر دينهم ودنياهم إلى الإمامة والجماعة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوه كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة، وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الإمامة والجماعة،(12/16)
ص -20- ... ولم يختلف أحد في ذلك، وعالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط.
ومع ذلك: فأهل العلم والدين: يأتمرون بما أمروا به من المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام، كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة، ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها، وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم، وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مصاب في عقله، موتور في دينه وفهمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا
بل هذا الحكم الديني، يؤخذ من قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركه مفسدة محضة ومخالفة صريحة، قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [سورة المائدة آية: 2]، وفي الحديث "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه".
لاسيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس، وزين لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر، يعزلون ويولون،(12/17)
ص -21- ... وينصرون وينصبون, وأنهم جاؤوا لنصرة فلان، كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد الترسم بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها عن دين الله ورسوله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل، المشعرة بجواز الاستنصار بهم، وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلة لا يرقى سليمها، وورطة قد هلك وضل زعيمها، وما أحسن قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] فاقبلوا وامتثلوا موعظة ربكم، وجاهدوا في الله حق جهاده.
وقد أجمع المسلمون: على جهاد عدوهم مع الإمام سعود وفقه الله؛ وقد قرر أهل السنة في عقائدهم: أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام، لا يبطله جور جائر.
وقد قال بعض السلف – لما لامه بعض الناس على الصلاة خلف المبتدعة – إن دعونا إلى الله أجبنا، وإن دعونا إلى الشيطان أبينا، وفي الحديث "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقيله، واحذروا المراء والخوض في دين الله(12/18)
ص -22- ... بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من بني تميم، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، ونسأل الله أن يحسن عزانا وعزاكم، في الأخ الشيخ: عبد الملك بن حسين، غفر الله ذنبه ورحمه، ورفع في المقربين درجته؟
وما ذكرتم من جهة حالكم، مع عبد الله، وصدقكم معه، صار معلوما، نسأل الله لنا ولكم التوفيق؛ وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالناس ما لا قبل لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد، من السبي وهتك الأستار، وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح، بإذن من عبد الله في الصلح، وألجأتنا إليه الضرورة، ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قبل لهم به، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان، وفي السير ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انتحلناه، وقد صالح(12/19)
ص -23- ... أهل الدرعية وآل الشيخ، وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية، لما خيف السبي والاستئصال.
وعبد الله ظهر بمرحلة عن البلد، ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [سورة يوسف آية: 21] ثم بلغنا أن الدولة ومن والاهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف، يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودا على جهادهم وغبناه في قتالهم، وكتبنا لبلدان المسلمين بذلك ، قال الله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [سورة الأنفال آية: 72] والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك، والإفرنج وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الحث على الإجتماع وجهاد أعداء الشريعة]
وله أيضا إليهم ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة، سلمهم الله تعالى وهداهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام(12/20)
ص -24- ... بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن، ما لا نشكوه إلا إلى الله.
فمن ذلك الفتنة الكبرى، والمصيبة العظمى: الفتنة بعساكر المشركين أعداء الملة والدين، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله، وعدل به غيره، ولم ينْزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون; وأفضل القرب إلى الله: مقت أعدائه المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك، فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك.
فالحذر الحذر، مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [سورة المائدة آية : 57] وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير.(12/21)
ص -25- ... وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين، توجب من الاختلاف والتفرق والبغضاء، وسفك الدماء ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض، ما لا يحصيه إلا الله؛ وذلك مما لا يستقيم معه إسلام؛ ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه، وهذه الحالة وتلك الطريقة، بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد الإسلام، وهدم بنيانه والأعلام; فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟!
فاتقوا الله عباد الله: ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن، إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [سورة الزمر آية : 15-16].
فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه، من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن، وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان، فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة؛ وهو حبل الله المتين، ونوره المبين،(12/22)
ص -26- ... فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم؛ لا يضل متبعه، ولا يطفأ نوره؛ فما هذه المشاقة، وما هذا الاختلاف والتفرق؟
وقد جاءتكم النصائح وتكررت إليكم المواعظ، قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [سورة النساء آية : 115] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [سورة النساء آية : 59].
وقد خرج الإمام أحمد، من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وآمركم بخمس، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله; فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم. قالوا: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم، على ما سماهم الله عز وجل به؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله " 1.
وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/202).(12/23)
ص -27- ... خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة; نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره واتقاء غضبه، وسخطه; فاحذروا الاختلاف:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال آية : 1] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية : 31] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة النحل آية : 91] وصلى الله على محمد.
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: علي بن محمد، وابنه محمد بن علي، سلمهما الله تعالى من الأسواء، وحماهما من طوارق المحن والبلوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير؛ والخط وصل وصلكما الله ما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه؛ وما ذكرتما صار معلوما، وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم، كيف لا، وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سلما لولاية المشركين،(12/24)
ص -28- ... وسببا لارتداد المرتدين، وموجبا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين.
فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان، يعرف ذلك من من الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وعلى نصيب من مراقبة عالم السر والسريرة; وقد عرفتم مبدأ هذه الفتنة وأولها، والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه ومن هذا الطريق، كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة.
وأول ذلك: ولاية آل مروان، لم تصدر لا عن بيعة ولا عن رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية، ومخرجها من خراسان، وزعيمها رجل فارسي، يدعى أبا مسلم، صال على من يليه، ودعا إلى الدولة العباسية، وشهر السيف وقتل من امتنع عن ذلك، وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله.
وظهرت الرايات السود العباسية، وجاسوا خلال الديار(12/25)
ص -29- ... قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول؛ وشاهد ذلك أهل القرن الثاني، والثالث، من أهل العلم والدين، وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس.
وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا؛ ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم.
إذا عرفت هذا: فالحاصل في هذا العصر بين أهل نجد، له حكم أمثاله من الحوادث السابقة، في زمن أكابر الأئمة كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق من ينتسب إلى العلم لديكم على هذا، كالشيخ إبراهيم، والشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق؛ وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه، كل هذا موجود بخطوطهم؛ فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق.
ثم توفى الله سعود واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك،(12/26)
ص -30- ... وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر، وبنينا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود؛ ومن عندهم ومن يليهم، نصب عبد الرحمن بن فيصل، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة، ذكرناهم قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية : 103]، ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات.
وترك بعض من لديكم هذا المنهج، وسلكوا طريقا وعرة، تفضي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك واستحسنه، من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وما ارتضوه؛ وكان الواجب على من عنده علم، أن ينصح الأمة، بل وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل، ويرشد الجاهل، ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال، لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المحاقة؛ والله هو ولي الهداية، الحافظ الواقي من موجبات الجهل والغواية.
وقد أوجب الله البيان وترك الكتمان، وأخذ الميثاق على(12/27)
ص -31- ... ذلك على من عنده علم وبرهان. هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المكاتبات الواردة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً الاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [سورة الأحزاب آية : 39].
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل
وأما الصلح بين المسلمين، فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة، يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا نألو جهدا إن شاء الله فيما يكف الله به الفتن، ويصلح به بين المسلمين؛ وأسأل الله أن يمن بذلك ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد.
وله أيضا: رفع الله منازله في عليين:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين، زيد بن محمد، وصالح ، إلى الأخوين المكرمين ، زيد بن محمد ، وصالح بن محمد الشثري ، سلمهم الله تعالى ، سلام عليكم الله وبركاته وبعد : فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان(12/28)
ص -32- ... معلوما، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه، من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله، أعدها لديه جل وعلا ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها.
والقصد: بيان ما أشكل على الخواص، والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين، وخروجه على أخيه؛ وقد صدر منا الرد عليه وبسفيه رأيه، ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء، عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبويه، والآيات القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة "جودة" فثل عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه: وصيته بالاعتصام بالله، وطلب النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة.
ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر، وأهل الفرع، وأهل الحريق وأهل الأفلاج، وأهل الوادي،(12/29)
ص -33- ... ونحن في قلة وضعف، وليس قي بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجت إليه، وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت، خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك، ويتفوه بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد.
وما جرى من المظالم والنكث، دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر، تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف، كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لدي، فسرت على آثار أهل العلم، واقتديت بهم قي الطاعة في المعروفب، وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك.
ومن أشكل عليه شئ من ذلك، فليراجع كتب الإجماع، كمصنف ابن حزم، ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسةِ، وقد قيل: سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.
وأما الإمام عبد الله: فقد نصحت له كما تقدم أشد(12/30)
ص -34- ... النصح، وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا، وقدم من الأحساء، ذاكرته في النصيحة، وتذكيره بآيات الله وحقه، وإيثار مرضاته، والتباعد عن أعدائه، وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك، والكفر البواح؛ وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته، على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم: أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة.
ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزما لايلوي على أحد، وخشيت من البادية؛ وعجلت إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مدافعة الأعراب، مع شرذمة قليلة من أهل البلدة، ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلدة، وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصار الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته.
وأما بعد وفاة سعود، فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف وسفك الدماء، وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن، مع غيبة عبد الله، وتعذر مبايعته، بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم،(12/31)
ص -35- ... نهبا وسبيا للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم.
ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك، مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري، فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورا، ومن عرف قواعد الدين وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي، والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته، وانعقدت، وصار من ينتظر غائبا لا تحصل به المصالح، فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به.
ثم إن حمولة آل سعود، صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوى من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته، ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه.
فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام، أنه وافق(12/32)
ص -36- ... على تقديم عبد الله وعزل نفسه، بشروط اشترطها، بعضها غير سائغ شرعا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا، اجتهدت إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه، وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب، واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه، وإذا أهل الفرع، وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين، يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا.
ولكنه بعد ذلك: أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا، وتحقق عيدي دعواه التوبة، وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله، هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم، والممارسين الذين يكتفون بالإشارة وأصول المسائل، لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم، ما يكشف الغمة ويزيل اللبس.
ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله، ولو أنكم أرسلتم بما عندكم، مما يقرر هذا أو يخالفه، وصارت المذاكرة لا نكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده علم، واغتر(12/33)
ص -37- ... الجاهل، ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه، وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه.
وبالجملة: فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حسابنا وحسابه إلى الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
وأما ما ذكرتم من التنصل، والبراءة مما نسب في حقي إليكم، فالأمر سهل والجروح جبار، ولا حرج ولا عار؛ وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه، من الغلظة على المنافقين، الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب؛ وتأمل قوله بعد نهيه عن موالاة الكافرين { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران آية: 30] والسلام.(12/34)
ص -38- ... وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: سهل بن عبد الله، ومحمد بن عثمان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقب غدوات الدهر وروحاته؛ والخط وصل، وسرني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله، وما حصل بكما من الانتفاع؛ فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ".
قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم والحديث، المبلغين عن الله وعن رسوله، فإنهم يعطون نضرة في وجوههم، يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " 1 وتعليمه يتناول: تعليم معانيه وما دل عليه من الأصول الإيمانية، والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا"2 والأحاديث في المعنى كثيرة.
وللحديث الأول بقية، قد سألني سهل عنها، وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907 ,2908) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57 ,1/58 ,1/69) , والدارمي : فضائل القرآن (3338).
2 مسلم : العلم (2674) , والترمذي : العلم (2674) , وأبو داود : السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي : المقدمة (513).(12/35)
ص -39- ... قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 1، ذكر العلامة ابن القيم وغيره، أن المعنى: لا يحمل الغل ويبقى فيه، مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش، وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: { َذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية : 24]، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر آية : 40] فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان.
ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا، فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده، وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم.
وهذا بخلاف ما انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : العلم (2658).(12/36)
ص -40- ... والعيب والذم، كما يفعله الجهال والضلاّل مع شيخ الإسلام وأتباعه، على توحيد الله ودينه، وكما فعله إخوانهم: الرافضة والخوارج، والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون قط إلا أعوانا على أهل الإسلام، مع أي عدو ناوأهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان، ويشجي القلوب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "1، هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا، لمن لزمها تحيط به تلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته.
هذا: وما ذكرتما من الأخبار، صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله تعالى، والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : المناسك (3056) , وأحمد (4/80 ,4/82) , والدارمي : المقدمة (227).(12/37)
ص -41- ... وله أيضا: عفا الله عيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، حفظه الله من طوائف الشيطان، وجعلنا وإياه من أوعية العلم والإيمان، وحرسنا وإياه من مضلات الفتن وتلاعب الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركانه.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله اللطف بنا وبكم، وبكافة المسلمين, عند كل كرب عسير، وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم، وتفاصيلها عن ألسن القادمين، وقد لطف الله بنا، ودفع ما هو أشد وأعظم، من استباحة البيوت والمحارم، حين صارت الهزيمة، وجنب عبد الله البلد، وكتبت لسعود كتابا، ونادى في قومه بالكف عن بلد الرياض، وأن البلد سلمت، فدفع الله بذلك شرا عظيما.
وثاني يوم قدمت عليه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول، وكف عنا كثيرا من الناس، وأدخل له طارفة في القصر واستقر أمره، وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم، قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه، وهل عند رسم دارس من معول.(12/38)
ص -42- ... فالواجب مساعدة إخوانكم بصالح الدعاء، ونشر العلم، وبذل النصائح، وتقديم خوف الله على مخافة خلقه، وما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قبله، كذلك هذه الشبهة التي حصلت، والمكاتبات التي رسمت في شأن هذه الفتن، ممن ينتسب إلى العلم والدين، لا يسوغ لمثلك السكوت عليها، وعدم التنبيه على ما فيها { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] فاكتب لي بما يسر عن مثلك، وما هو الظن بك؛ ولقولك بحمد الله موقع في نفوس المسلمين، كذلك لاتذخر نصح سعود بالمكاتبة، والنصائح والتذكير وابسط القول.(12/39)
ص -43- ... وله أيضا: أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: عبد الله بن إبراهيم بن علي، وسليمان بن إبراهيم آل سعود، سلمهما الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وهذه الفتنة التي وقعت، ودارت رحاها لديكم، سببها الذنوب، ومعصية الله ورسوله، والتمادي والإهمال فيما سلف من أناس لديكم، هم مفاتيح للشر مغاليق للخير، دخلوا في تميم مدخلا عظيما بالقيل والقال، والكذب والضلال، نسأل الله أن يقينا وإياكم شر هذه الفتنة، وأن لا يشمت بنا الأعداء.
ولا أرى لنا ولكم إلا تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله في موارد النّزاع، فإن حذيفة قد سأل رسول الله عن الشر، فذكر له الفتن وحذره منها، فقال حذيفة: " ما المخرج يا رسول الله؟ قال: "إقرأ كتاب الله واعمل بما فيه؛ كرر ذلك ثلاثا "، فالنجاة تحكيمه في موارد النّزاع، والحق مستبين لولا الهوى ومجانبة الهدى، وعلى الحق منار كمنار الطريق، فاحذروا الفتنة والقطيعة، وخراب الديار، وحلول قوارع(12/40)
ص -44- ... البلاء والبوار: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال آية : 1] ولا تهاونوا بأمر الفتنة، فإن أمرها عظيم وعذاب أليم.
وأما أمر ولاية عبد الرحمن بن فيصل، فسبق إليكم خطوط بعد وفاة سعود، وعرفتكم بعقد البيعة لعبد الرحمن، وحذرت من الفتنة والمشاقة، والرغبة عن جماعة المسلمين، وكتبت لغيركم هذا المضمون، ولا قصد لي إلا اجتماع المسلمين، ودفع الشر والفساد بحسب الطاقة، و{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية : 286] ولا جرى مني ما ينقض هذا.
والخط الذي ورد عليكم وأرسلتموه إلينا، لا حقيقة له، ولم يصدر مني ما ذكر فيه، ولو طالبتموه بخطي، لم تجدوا عنده أثرا ولا خبرا، والله يقضي ما يريد بحكمته، وينفذ بقدرته وعزته، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا تغتروا بالحكي وتسويد القرطاس{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [سورة النساء آية : 79]. والله عند لسان كل قائل وقلبه، ولا يستنكر مثل هذا، وأعظم منه في هذه الفتنة، نسأل الله العظيم أن يلطف بأهل الإسلام، وأن يهديهم سبل السلام، وأن يخرجنا وإياهم من الظلمات إلى النور، وينصرهم على عدوهم، وصلى الله على محمد.
سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي(12/41)
ص -45- ... الأَمْرِ} [سورة آل عمران آية 159] وما يلزم الإمام في ذلك؟ أوضحوا لنا رحمكم الله؟.
فأجاب: قال الله تعالى لصفوته من خلقه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، وقرأ ابن عباس: في بعض الأمر; قال الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان في تفسيره المسمى "البحر المحيط" على هذه الآية الكريمة: أمر الله تعالى بمشاورتهم.
وفيها فوائد: تطييب نفوسهم، ورفع مقدارهم بصفاء قلبه لهم، حيث أهلهم للمشاورة، وتشريع المشاورة لمن بعده، والاستظهار برأيهم فيما لم ينْزل فيه وحي، فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به، واختبار عقولهم، فتنْزلهم منْزلة لهم، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح، وجرى على منهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور.
وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء، ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم لم يتشاوروا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه إلى أن قال: إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة الصادقة والعقل والتجربة، قال رحمه الله: وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعا، ولهذا كان كثير المشاورة صلى الله عليه وسلم لأصحابه انتهى.
وفي الحديث: " ما خاب من استخار، ولا ندم من(12/42)
ص -46- ... استشار " ولولي الأمر كتمان بعض الأمر لمصلحة يراها، كفعله صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي، وينبغي أن يفهم: أن من استشار واحدا أو اثنين وأمره فقد استشارهم، كما صرحت به سنته وهديه، ففي بعض الأمر استشار أم سلمة، ولم يستشير غيرها، وفي مصالحة المشركين استشار السعدين فقط، ولما أراد أن يرجع من الطائف استشار نوفل بن معاوية الديلمي، وهذا باب واسع، وربما فعل أشياء ولم يستشر فيها أحدا، وقد أرسل بعض السرايا، وكتب لهم كتابا إذا بلغتم كذا وكذا، فانظروا كتابي واعملوا به، ولم يطلع عليه غيره، ولم يشاورهم فيه.
والحاصل من الجواب: أن المشاورة مأمور بها، مندوب إليها، وعاقبتها خير، وفوائدها كثيرة، لكن من استشار البعض فقد استشارهم، ولا يشاور إلا أهل الصلاح، والمحبة الصادقة، والعقل، والتجربة، والنصح، ومن علم منه غير هذا فلا يستشار، آخره، والله الموفق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(12/43)
ص -47- ... وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق، إلى الإمام سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل إلي خطك وتأملته، وكثرت الظنون فيه، حتى إني ظننت أن الذي أملاه غيرك، لأن فيه أمورا ما تصدر من عاقل، وفيه أكاذيب ما تليق بمثلك، وتذكر أنك أشرفت على خط لمبارك بن محمد، وتحققته، فنقول: ذلك ما كنا نبغ، فإنك المقصود به، وتحققنا أن مباركا يوصله إليك، وأردت أنه يكون لي حجة عليك عند الله.
وقد جاءنا خط من مبارك، يقول فيه، ويشهد: أن هذا الكلام الذي فيه، هو الحق الذي ليس بعده حق، وقد رآه كثير من الإخوان، فما أمكروا منه شيئا، فلا يضر الحق جحدك له والأحاديث، فأجب عنها، وإلا فاتق الله ولا تغتر بدعاية ليس لها أصل.
وأما قولك: إنه غيرني طمع الدنيا، فأنا لا أزكي نفسي، وابن آدم على خطر ما دامت روحه في جسده؛ وأما في هذا الأمر، فأنا جازم أني على الحق – ولله الحمد – فإن رجعت إلى ما تعلمه مني، مما كنت أقول لك وأجاهرك به، عرفت أن طمع الدنيا ما يغرني، ولا قوة إلا بالله.(12/44)
ص -48- ... وأما إنكارك موالاة أهل نجران، فهو مكابرة، لأنها أمر قد اشتهر، واحتجاجك: بأن عبد الله يوالي الشريف، نقول: نبرأ إلى الله من موالاة الشريف، وأهل نجران جميعا.
ونقول لك أيضا: لا شك أن عبد الله، وقبله والده، وقبله جدك تركي، رحمهما الله، يكاتبون الشريف، وينهون، ويعتقدون بأنهم يفعلون ذلك مكافأة دون المسلمين، واستدفاعا لشر الدول، ولا نحملهم إلا على الصدق.
وأنتم تكاتبون أهل نجران، وتستصرخون بهم على أهل الإسلام، لتفريق جماعتهم، والإفساد في الأرض، وأنتم تعلمون عداوتهم لهذا الدين وأهله، وما جرى بينهم وبين أهل الإسلام، أفلا يستحي العاقل؟.
وأما قولك: إنكم ما أنكرتم على عبد الله، فنقول لك أولا: إنا لا نقول إن مجرد المكاتبة تستلزم الموالاة الموجبة للإنكار؛ وأيضا: نفيك لإنكارنا رجم بالغيب، فإنه ليس من شرط الإنكار إطلاعك عليه، وأيضا: من الذي قال إن تركنا للإنكار أو غيرنا، يكون حجة لك، في فعل ما هو أكبر وأنكر؟!.
وأما قولك: إن جنودك آل عرجا والمرة، فنقول:(12/45)
ص -49- ... كلهم أعداء، قاتلهم الله، واستعانتك بهم على أهل الإسلام، من أكبر الحجج عليك، ومما يوجب نفرة كل مؤمن عنك.
وأما قولك: إن حكمك ماض عليهم، قبل أن يموت الوالد باثني عشر سنة، فنقول: ما علمنا أن لك حكما تختص به، إلا أنك أمير للإمام من جنس غيرك من الأمراء، ويدل عليه: أن والدك وحمه الله عزلك في حياته، ومات وأنت معزول.
وأما قولك: إن معك ختمه، فنقول: حاشا الإمام فيصل رحمه الله، مع ما أعطاه الله من العقل، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ومعرفة أسباب الفتن، والتحرز مما يقتضيها، حاشاه أن يكتب أن الرعية تكون فرقتين، إلا إن صح ما ذكرته في خطك، من أن عقله اختل في آخر عمره، فيكون هذا صدر في تلك الحال، فيكون وجوده كعدمه.
ولو نقدر أن ما تدعيه صدر في صحة عقله، لكان هذا مردودا عليه، فإنه أمر مستحيل وجوده في مثل تجد وما يتبعها.
وأما قولك: إني منكر عليك تحيزك إلى محمد بن عايض، أنكرنا عليك السعي في الفتنة وسفك الداء، وطلب ما ليس لك؛ ومحمد بن عايض ما نقول فيه إلا الخير؛ والظن فيه: أنه ما يساعدك على ما تحاول، ومعه من العقل(12/46)
ص -50- ... والديانة ما يحجزه عن الخروج عن مقتضى الشرع، ومقابلة إحسان آل الشيخ، وآل مقرن بالإساءة، حاشاه من ذلك.
مع أنه قد علم وتحقق بالعادة الجارية، والأدلة القاطعة: أنه ما من طائفة قامت في عداوة أهل هذا الدين، ونصبت لهم الحرب، إلا أوقع الله بها بأسه، ونوع عليها العقوبات، هذا أمر ثابت يعرفه من نظر واعتبر، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [ سورة الإسراء آية: 76،77].
فكيف يظن بمحمد: أنه يعرض نفسه وإخوته، وما أعطاه الله من العز، إلى حلول هذه السنة به؟ أعاذه الله من ذلك؟ والحمد لله الذي أوصل خطى إليه حتى عرفه وتحققه، أن الله قد جعل له نصيبا من العلم، وعنده الكتب: التفسير، والحديث، والتواريخ التي فيها أيام الناس.
وأما قولك: إنك بايعت عبد الله قهرية؛ فنقول: ثبتت إمامة عبد الله، بايعت أم أبيت، فلو أنك امتنعت من بيعة عبد الله، ولم يطلبها منك، هل يثبت لك ما ذكرت؟ أم هل يحل لك أن تفعل ما فعلت؟ سبحان الله وبحمده؟ مع أنك بايعت اختيارا، فإنك خضرت مع المشائخ ومن حضر معهم، وبايعت أخاك طوعا واختيارا، لا قهرا واضطرارا.
وأما قولك: إن أهل نجد بايعوا عبد الله ذلا وقهرا،(12/47)
ص -51- ... فهذا قول معلوم عدم صحته، فإن أهل نجد بايعوا عبد الله، ودخلوا في طاعته طوعا واختيارا، وثبتت الولاية باتفاق الرعية، ولا نعلم أحدا خالف في ذلك ولا نازع فيه، فكان أمرا معلوما عند الخاص والعام، وقد اختاره والده وقدمه في حياته، ورضيه المسلمون بعد وفاة أبيه، فصار من نازع في ذلك باغيا، يجب على المسلمين دفعه وجهاده باليد واللسان والمال، وهذا الذي ندين الله به ونلقى به ربنا، رضيت يا سعود أم غضبت.
وأما جراءتك في حق أخيك، مثل قولك: إن عبد الله أفسد أديان الناس، فهذا كلام مستبشع، لايحل التلفظ بمثله، وحرص عبد الله على صلاح دين الناس ودنياهم أمر معلوم.
وأما الذين هلكوا في المعتلى، فنرجو أن من صلحت نيته منهم شهيد، ولم يموتوا إلا بآجالهم، ونرجو لهم عند الله، لأنهم قتلوا تحت سيف ابن سريعة، ونحوه من الطواغيت.
وأما دعواك على أخيك: فعل كذا وكذا، فلو كان صدقا لم يوجب خروجك عليه، وشق عصا المسلمين، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، أنه يجب على المسلم السمع والطاعة، وإن ضرب ظهره وأخذ ماله؛ وأنت لم يضرب لك ظهر، ولا أخذ لك مال، فإن كان الذي حملك(12/48)
ص -52- ... على ما فعلت: الطمع في بيت مال المسلمين، واستقلالك ما تأخذ منه، فهذا من العدوان الظاهر.
فإن بيت المال مشترك بين المسلمين، عامهم وخاصهم، مع أن أخاك ما قصر في عطائك، يعطيك أشياء لاتستحقها، فإن الواحد منكم كأنه واحد من المسلمين، وما يفعله كثير كم من الملوك، من تفضيل أقاربهم، قد أنكره السلف، وعمل أئمة العدل يخالفه؛ وقد بلغك: أن عمر بن الخطاب نقص ابنه عبد الله عن عطاء المهاجرين خمسمائة درهم.
فلو أن أخاك عاملك بما تقبضيه السنة، وما ذكره مثل شيخ الإسلام في السياسة الشرعية، لم يكن لك عليه حجة، ولكان أحرى بإعانة الله له عليك وعلى من خرج، فكيف وهو يحثو عليك وعلى أشباهك ما لا تستحقونه، والظاهر أن هذا ما يخفى عليك.
وأما قولك: إنك تطلب حكم الله ورسوله، فأخوك ما يمنع حكم الله ورسوله، فما الذي منعك من طلب ذلك، حين كنت بين المشائخ أهل العدل والإنصاف؟ فإن زعمت أنك خائف، فكيف لم تطلب ذلك بعد ما ألفيت على محمد بن عايض؟ ولو أنك كاتبت أخاك أو المشائخ تطلب المحاكمة لم تمنع، فلما لم تفعل فأخوك لم يمنعك إلى اليوم، وأنت الطالب، فإن طلبت من أخيك يعطيك(12/49)
ص -53- ... المواثيق، وتقدم عليه وتجالسه عند آل الشيخ، حصل لك ذلك.
وأما قولك: إن عبد الله يوكلني أخاصمك، فأنا لا أطلب ذلك، وإذا أراد خصومتك فإن قربت منه خاصمك بنفسه، فإن بعدت عنه وجد لها غيري، فإن عين ذلك على وألزمني به، قلت سمعا وطاعة.
وأما قولك: إن عبد الله حال بينك وبين ما تملك في الأحساء والقطيف، فلا نعلم أن عبد الله حال بينك وبين شيء تملكه، وأما خراج الأحساء والقطيف، فهو مشترك بين المسلمين، وحكمه وتدبيره عند من ولاه الله أمرهم.
وأما ما ذكرت: من المزاعيل والتخويفات، فجوابه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [ سورة هود آية: 56] ونصدع بالحق إن شاء الله ولا قوة إلا به، ولا يمنعنا من ذلك تخويف أحد.
وفي خطك أمور تحتاج إلى جواب طويل، واقتصرنا على القليل منه، ليتبين لك ولمن عندك خطؤك، لعل الله أن يردك للحق، وتترك ما هو شر في العاجل والآجل، وفي الكتاب والسنة ما يبين المحق من المبطل، والضلال من الصراط المستقيم؛ كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية: 103] وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } [سورة آل عمران آية: 105](12/50)
ص -54- ... وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [ سورة الأنعام آية: 159].
وفي الأحاديث مثل ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يفي لذي عهد فليس مني ولست منه" وقوله: "من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه كائنا من كان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما" وقوله: "اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيية" في أحاديث كثيرة في هذا المعنى، قد قرأتها، وقرئت عليك.
فاتق الله، فإني أخاف عليك من قوله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [سورة الصف آية: 5] ومن قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ونحن لا نكره أن يهديك الله إلى صراطه المستقيم، وتكون على ما كان عليه آباؤك الصالحون، وسلفك المهتدون، وفيمن ذكرت ممن مات من إخوتك عبرة للمعتبر، رحمهم الله وعفا عنهم، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(12/51)
ص -55- ... وقال الإمام: عبد الله بن فيصل، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه وحكمه، والوصية الجامعة النافعة لمن عقلها وفهمها، هي وصية الله لعباده، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه } [سورة النساء آية : 131] وتفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، يجده من طلبه.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ َوَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 102-103] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 103] والآيات بعدها إلى قوله: {مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية : 108].
فأمر تعالى بتقواه حق التقوى، وأمر بالتزام الإسلام والتمسك به مدة العمر والمحيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، كما جرت به عادة أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأمر بالاعتصام بحبله، وهو كتابه، وقيل هو الجماعة، والمعنى متقارب، لأن الاعتصام بالكتاب لا يحصل على وجه الكمال الواجب، إلا مع الجماعة،(12/52)
ص -56- ... ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: " يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أكرمكم به ".
ويشهد له الحديث المرفوع: " من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1، وعنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " 2.
وكذلك هذه الآية، فيها النهي عن التفرق، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
وإذا وقعت الفرقة فسد الدين، ونبذ الكتاب، وغلبت الأهواء، وذهب سلطان العلم والهدى، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منفرد بأمره، منتقص لغيره، معرض عن قبول الهدى، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم; وقد ورد مرسلا: " كل رجل من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " وعن الحسن : " إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله ". وإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه، لقام دين الله بالأمر الذي أراد من خلقه; وبالجملة: فشأن الجماعة شأن عظيم، قد عدها كثير من أهل العلم من أركان الإسلام، التي لا يقوم إلا بها.
وقد عرفتم: ما حدث من الاختلاف والتفرق في هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344).
2 أحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).(12/53)
ص -57- ... الأوقات، وظهر من أمور الجاهلية ما يعرفه من عرف حال القوم، وما كانوا عليه قبل النبوة في أصل التوحيد وغيره، مما لا يقوم الإسلام إلا به، فالله الله، تداركوا أمره، وتوبوا إلى ربكم، قبل أن تبسل نفس بما كسبت.
ثم ذكر سبحانه بنعمته بالجماعة، وما من به على أول هذه الأمة، من الاجتماع على دينه الذي ارتضاه، بعد ما كان بينهم من الفرقة والعداوة، فألف بين قلوبهم، وصاروا إخوانا متحابين متواصلين، متناصرين على دينه، متعاونين على جهاد عدوه وعدوهم، فأنقذهم بذلك من النار، بعد أن كانوا على طرف حفرة منها، وهذه هي النعمة العظيمة، والعطية الكريمة، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [سورة آل عمران آية : 185].
ثم بين سبحانه مراده وحكمته، بما تقدم من الأمر والبيان، وأن المقصود به هداية عباده المؤمنين، والعمل بما أمر به وشكر نعمه التي أسداها إلى خلقه.
ثم قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [سورة آل عمران آية : 104] قال بعض المفسرين: المقصود بهذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة، متصدية للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقد ورد الوعيد، في الكتاب والسنة على ترك الأمر(12/54)
ص -58- ... بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" " 1 والأحاديث في المعنى كثيرة.
ثم نهى عن مشابهة الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهم أهل الكتاب من قبلنا، وذكر الوعيد على ذلك وعظمه.
ثم ذكر الوقت والأجل اللاحق، وما أعد لأهل التفرق والاختلاف، من العذاب والعقاب، فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [سورة آل عمران آية : 106]، قال ابن عباس: " تسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ".
ومن هنا يعلم: أن من أعظم الفساد ترك الجماعة، والاختلاف في الدين، والإعراض عن كتاب الله، وكثرة المراء والجدال، وإظهار دعوى الجاهلية المفرقة للجماعة، فهذا وأمثاله يعود على أصل الإسلام - معرفة الله وتوحيده - بالهدم والقلع، ولذلك كرر النهي عن هذا الاختلاف في هذه الآيات الكريمات.
وعلى العامة والخاصة أن يعظموا كتاب الله ودينه وشرعه، وأن يقبلوا على ما ينفعهم من تعلم دين الله ومعرفة شرعه، وأن لا يعرضوا عن ذكره الذي أنزله على رسوله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/388).(12/55)
ص -59- ... وهو كتابه العزيز، فإن الإعراض عن ذلك يؤدي إلى الكفر - والعياذ بالله - وإن لم يجحده وينكره.
وقد عرفتم الجماعة، والمقصود بها، وأنه لا يحصل إلا بالإمامة والطاعة لولي الأمر، فاجتمعوا على ذلك ولا تختلفوا، وكونوا عباد الله إخوانا، على دين الله ومرضاته أعوانا.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والبصيرة في أمره، وأن يجعل لنا ولكم فرقانا، نفرق به بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والغي والرشاد، والضلال والهدى، وأن يجعل لنا نورا نمشي به، وأن يعيذنا من خلط الحق بالباطل، واللبس والالتباس{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية : 40].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(12/56)
ص -60- ... وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، لا زالوا بالعروة الوثقى متمسكين، وفي جهاد أعداء الله مشمرين، آمين; السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعده: قد علمتم - وفقكم الله - ما أوجب الله على المسلمين من حقوق الإمامة والبيعة، وأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا.
وقد من الله على المسلمين بإمامة الإمام عبد العزيز حفظه الله، من آخر هذا الزمان، جمع الله به الكلمة، وحمى به الحوزة، وآمن به السبل، وأنصف به بين الضعيف والقوي، وحصل به - ولله الحمد - انتظام المصالح الدينية والدنيوية.
وقد علمتم حالكم قبل ولايته، من تعطيل سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبل، وكل هذا نفاه الله تعالى بولايته، قال بعضهم:
لولا الولاية لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا(12/57)
ص -61- ... وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ويجب أن يعرف: أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، فإن الله تعالى: أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد، والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم إلا بقوة وإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف الصالح، كأحمد بن حنبل، والفضيل بن عياض وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان، فالواجب: اتخاذ الإمامة قربة ودينا يتقرب بها إلى الله تعالى، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
إذا عرفتم ذلك: فإن الإمام أيده الله تعالى، قد بذل جميع الأسباب مع هذا الرافضي المكار; طلب السلم معه والراحة للمسلمين فأبى وعاند، وبدأ المسلمين بالبغي(12/58)
ص -62- ... والعدوان، فحينئذ لم يسع الإمام إلا جهاده وكف شره عن المسلمين.
فتعين على جميع المسلمين الجهاد مع إمامهم، ومساعدته بالنفس والمال، وقد من الله عليكم - ولله الحمد - بهذا الغيث العام الذي أحيا الله به البلاد، ونرجوه: أن يجعله قوة لهم على ما يرضيه سبحانه، ومن شكر هذه النعمة، وغيرها من النعم: مجاهدة هذا العدو; فإن شكر النعم قيد الموجود، وتحصيل المفقود، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية : 39] مع أنه ولله الحمد قد جاءت البشائر بالاستيلاء على كثير من حصونه وذخائره، واستئصال كثير من جنوده، وهتك كثير من قواته وجنوده.
ولكن الاستعداد للعدو، قد أمرنا الله به كما قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [سورة الأنفال آية : 60] إلى قوله:{ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية : 272].
ومصلحة الجهاد، وتسكين الفتنة عن المسلمين مصلحة عظيمة، فلو خرج المسلمون من نصف أموالهم، وأتم الله مقصودهم، وكفاهم عدوهم لكان ذلك قليلا في تحصيل هذه المصلحة، فكيف وفي الجهاد سعادة الدارين لمن خلصت نيته، وكان قصده وجه الله والدار الآخرة؟(12/59)
ص -63- ... وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تكفل الله لمن خرج في الجهاد في سبيله إن توفاه أن يدخلة الجنة، أو يرجعه بما نال من أجر أو غنيمة " 1 وورد أيضا: " الجنة تحت ظلال السيوف " 2.
والذي مثلكم من أهل العقول والديانة والحمية للإسلام، والنصرة لله ورسوله وللمؤمنين، يجد في هذا الأمر غيرة لله ولدينه ولحوزة المسلمين، فالله الله يا إخواني: بالتشمير والجد والاجتهاد في مساعدة ولي الأمر، على إطفاء هذه الفتنة، والجهاد معه بالنفس والمال. والإمام - أيده الله تعالى - قد طلب من المسلمين أن يجاهدوا معه، ولو طلب منهم النفير لتعين عليهم ذلك حكما شرعيا، كما قال صلى الله عليه وسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " 3.
[أدلة فضل الجهاد]
وقد ورد في فضل الجهاد آيات وآحاديث، منها قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف آية : 10-11] إلى قوله:{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الصف آية : 12].
وهذه والله هي التجارة الرابحة، التي تحصل بها النجاة من النار، والفوز بدخول الجنة ونعيمها.
ولم يرض سبحانه للجنة ثمنا لغلائها ونفاستها، إلا نفوس المؤمنين، فقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم : الإمارة (1876) , والنسائي : الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه : الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك : الجهاد (974) , والدارمي : الجهاد (2391).(12/60)
2 البخاري : الجهاد والسير (2819) , ومسلم : الجهاد والسير (1742) , وأبو داود : الجهاد (2631).
3 البخاري : الحج (1834) , ومسلم : الحج (1353) , والترمذي : السير 1590) , والنسائي : البيعة (4170) , وأبو داود : الجهاد (2480) , وابن ماجه : الجهاد (2773) , وأحمد (1/226 ,1/315 ,1/355).(12/61)
ص -64- ... أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية : 111].
وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية : 69] فنبهنا الله سبحانه على الإخلاص في الجهاد :{ جَاهَدُوا فِينَا } [سورة العنكبوت آية 69] يعني: لله وفي الله، بخلاف من يجاهد لنفسه أو لغرض.
وقال تعالى:{ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية : 6] وقال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية : 142] يعني: أحسبتم أن دخول الجنة سهل وهو إنما يحصل لأهل الصدق في الجهاد والصبر.
وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية : 146] يعني أن نفوسهم وهممهم لم تضعف، ولم يصبها مسكنة لما أصابهم في سبيل الله، بل قويت هممهم وعزائمهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم لما علموا ما عند الله من الثواب الجزيل للمجاهدين الصابرين، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يبالوا بقريب(12/62)
ص -65- ... ولا بعيد في ذات الله تعالى، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية : 200] وفي الحديث: " غدوة في سبيل الله أو روحة خير من ألف يوم يقام ليلها، ويصام نهارها ".
وأخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أن للجنة ثمانية أبواب، أعلاها باب الجهاد، لا يدخل منه إلا المجاهدون في سبيل الله ".
[وصية للغزاة والمجاهدين بالثبات]
ولنختم هذه الرسالة بوصية للغزاة والمجاهدين، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية : 45-46].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذكر الله سبحانه في هذه الآية خمسة أمور.
الأول: الثبات عند لقاء العدو، وهو في قوله تعالى: { فَاثْبُتُوا}.
الثاني: ذكر الله تعالى، وهو في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأنفال آية : 45].
الثالث: طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وهو في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [سورة الأنفال آية : 1].(12/63)
ص -66- ... الرابع: عدم التنازع، فإن التنازع سلاح للعدو، وهو في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [سورة الأنفال آية : 46].
الخامس: الصبر، وهو في قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية : 46] والصابر منصور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " واعلم أن النصر مع الصبر " 1 لكن إن كان الصابر محقا كان له النصر في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وإن كان مبطلا، كان له من النصر في الدنيا على حسب صبره، ولا عاقبة له.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فقبة النصر مضروبة على هذه الأمور الخمسة، ولهذا لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم، فتحوا البلاد ودان لهم العباد، ولما تفرقت في غيرهم، فاتهم من النصر بحسب ما فاتهم منها; انتهى بمعناه، والله الموفق لمن يشاء، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/307).(12/64)
ص -67- ... وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الفضلاء الأعلام، والمشائخ الكرام: إبراهيم بن عبد الله، وحمد بن حسين، وزيد بن محمد، وحمد بن عتيق، وصالح الشثري، ومحمد بن علي، وعلي بن إبراهيم الشثري، وإبراهيم بن عميقان، وسعود بن مفلح، وكافة الإخوان من طلبة العلم، حمانا الله وإياهم عن الاستكبار، عن قبول النصائح، ووفقنا وإياهم لاتباع السلف الصالح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن موجب الكتاب، القيام بأوجب واجبات الدين، وأفضل شعائر الموحدين، وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الصالحين، من أداء النصيحة لله، ولكتابه، وللأئمة، والعامة من المسلمين، فقد أرشدنا ربنا تعالى في ذلك، إلى طريق الفلاح المنجي من الخسران، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الر حيم)، {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية : 1-3] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ(12/65)
ص -68- ... مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } [سورة سبأ آية : 46ب] قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: لما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق، حالتان; إحداهما: أن يكون ناظرا مع نفسه; والثانية: أن يكون مناظرا لغيره; أمرهم بخصلة واحدة، وهي: أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران، ويتساءلان بينهما، وواحدا وفردا، يقوم كل واحد مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلة الصدق والكذب، ويعرض ما جاء به عليهما، ليتبين له حقيقة الحال، فهذا هو الحجاج الجليل، والإنصاف المبين، والنصح العام، انتهى.
وقد عرفتم: أنه لا بد في التوحيد من العلم به والعمل، والدعوة إليه، فهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، في كل زمان ومكان، وهذا الواجب يجب على كل إنسان بحسبه، وإن كثر جهله وقل علمه واطلاعه، فلو كان ذلك مقصورا على أحد لعلمه وفضله، لتعطلت أمور الدين; أو كان فيه غضاضة للفاضل، ورفع للمفضول لما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي على ابن أبي وهو كذا وكذا؟ ولما أنكر على أبي بكر رضي الله عنه قتال أهل الردة أولا; ولما أنكر بعض الصحابة على بعض، لما هموا بجمع المصحف، حتى اجتمعوا على ذلك; ولما قال عمر رضي الله عنه " الله أكبر! أصابت امرأة وأخطأ عمر ".
وهكذا شأن العلماء الأخيار، في جميع الأعصار، ومع(12/66)
ص -69- ... ذلك فالأخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل، فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند موارد النّزاع.
وقد علمتم أن الفتن كثيرا ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة، وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا سأل ربه الثبات والاستقامة، وشكره على التوفيق والإصابة; وإلا رده إلى من هو أعلم منه بحجة يجب المصير إليها، ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده ومجازيه بعمله، فلا بد من زلة قلم وعثرة قدم{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية : 76] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية : 110].
ولا يخفى عليكم: أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال على غير هدى ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غُبَّرِ أهل الكتاب، فصدع بما أوحى الله إليه، وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة; ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح قويم، يصل سالكه إلى جنات النعيم.(12/67)
ص -70- ... وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة، الدالة على صدقه وثبوت رسالته، ما أعجزهم به، فلم يبق لأحد على الله حجة، ومع ذلك كابر المكابر، وعاند المعاند: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [سورة غافر آية : 5ب] ورأوا أن الانقياد له وترك ما هم عليه من النحل والملل، يجر عليهم من مسبة آبائهم، وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياساتهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم؛ فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة.
وأكثرهم يعلمون أنه محق، وأنه جاء بالهدى ودعا إليه; ولكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ورياسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها، إلا بمخالفته، وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله، وإسلام الوجه له خصمان.
وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك، حتى أيد الله دينه ونصر الله رسوله، بصفوة أهل الأرض وخيرهم، ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره مراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتى من الله على ذلك الحي(12/68)
ص -71- ... من الأنصار، بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة الأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة، حصل بهم من العز والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة، فصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عز جانبهم، وقويت شوكتهم، أذن لهم في الجهاد بقوله تعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج آية : 39] ثم لما اشتد ساعدهم وكثر الله عددهم، أنزل آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجردوا في حب الله ونصر دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة آية : 24].
فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه; فأذل بهم أنوفا شامخة عاتية، ورد بهم إليه قلوبا شاردة لاهية، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحوا ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما(12/69)
ص -72- ... هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم، في أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرر معلوم.
ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعلم الإسلام في كل جهة من الجهات مرفوع منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع، والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوة الإسلامية، وغلظت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول، من العلوم والشأن، ورفعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات، وظهرت أسرار قوله تعالى:{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [سورة التوبة آية : 69] وقوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1 ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار، من ذلك أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها، كيلا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته; فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد سوى الرسول. ولهذا المجدد: علامات يعرفها المؤمنون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأصدقها وأولاها، محبة الرعيل الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89).(12/70)
ص -73- ... من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل، واسمها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وأن يعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها.
وفي بسط هذه الجملة، من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه، ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل، ويتفرع عنه.
ومن طاف البلاد، وخبر أحوال الناس من أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل، وبعدهم عما جاءت به الرسل، فكل بلد وكل قطر وجهة - فيما يبلغنا - فيها الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية، بالعطاء والمنع والتدبير، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خارجي، ينكر الكرامات. وكذلك هم في باب الإيمان بالأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة لذلك، يدينون بالإلحاد والتحريفات، ويظنون أنهم من أهل التنْزيه والمعرفة(12/71)
ص -74- ... باللغات، ثم إذا نظرت إليهم، وسبرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات.
وأما من كذب بأصل الرسالة، ولم يرفع بها رأسا، فهؤلاء نوع آخر، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ } [سورة الأعراف آية : 179] الآية ومن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ نعمة الله عليه، وما اختصه به، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن.
وقد اختصكم الله من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصة، ومن عليكم بمنة عظيمة صالحة من بين سائر الأمم، وأصناف الناس، في هذه الأزمان، فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حبرا جليلا، وعلما نبيلا فقيها، عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام وتحول.
فتجرد للدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار،(12/72)
ص -75- ... وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، وجادل في الله، وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله.
وأنكر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له; وصنف في الرد على من عاند أو جادل، وجرى من المخاصمات والمحاربات، ما يطول عده، وأكثركم يعرف ذلك.
ووازره على ذلك: من سبقت له من الله سابقة السعادة، فأقبل على معرفة ما عنده من العلم وأراده، من أسلاف آل مقرن الماضين، وآبائهم المتقدمين، رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا، فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه.
وأظهر لهم من الدولة والصولة، ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة، رتبة تدرس بمجرد السابقة والعادة، لا تزاحمهم فيها العرب العرباء، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد، لا يعرف من حاكها ولا درى،(12/73)
ص -76- ... فلم يزل الأمر في مزيد، حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح، رحمهما الله رحمة واسعة.
ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير، ما يعرفه الفطن الخبير.
ثم أدرك سبحانه من رحمته وألطافه أهل هذه الدعوة، ما رد لهم به الكرة، ونصرهم ببركته المرة بعد المرة؛ وبعضكم أدرك ذلك ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة، ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله سبحانه السابقة في أنبيائه ورسله؛ " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه " 1 وله في ذلك حكمة بالغة، دلنا على بعض أفرادها في محكم كتابه، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية : 1-2ب] الآية.
وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [سورة آل عمران آية : 179] وقال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ } [سورة الأنفال آية : 37].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } [سورة البقرة آية : 214] الآية وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الزهد (2398) , وابن ماجه : الفتن (4023) , وأحمد (1/172 ,1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي : الرقاق (2783).(12/74)
ص -77- ... وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ } [سورة التوبة آية : 16] الآية وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [سورة الحج آية : 11] الآية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته، جمع المسلمين على إمام واحد، وحصل لهم من الأمن والراحة والعافية، وكف أيدي الظلمة، ما لا يخفى.
ثم بعد ذلك وقعت المحنة، وخبطتنا فتنة، عم شرها، وطار شررها، وتفرق الناس فيها أحزابا وشيعا، ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه، بغير حجة ولا برهان، بغضا للجماعة، ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده، يلوح بين عينيه " إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1.
والرابع: ضعيف العنان، خوار الجنان، مع هؤلاء تارة، ومع الآخرين تارة، يتبع طمعه. وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى، أو تفسقها، أو تكفرها، بل وتنتسب إلى طالب علم، تأتم به وتقلده، وتحتج بقوله عياذا بالله من ذلك، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم، وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه.
ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة، وتجديد الأخوة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7056).(12/75)
ص -78- ... الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه، من ثبوت الإمامة، والدعوة إلى الجماعة، وتجديد العهود والمواثيق على ذلك، فحمدنا الله تعالى، وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين، وأذهب الله عنا هباء الشبهات، وأطفأ نار تلك الضلالات.
ثم خرج من خرج بشق العصا ومفارقة الجماعة، طلبا للفساد في الأرض وفلا لجمع المسلمين عن مجاهدة أعداء الله المشركين، ومن انتظم في سلكهم، من الطغاة والبغاة المفسدين، ثم كان عاقبة ذلك، حدثان عظيم، وضلال مستبين، مضادة لأمر الله ورسوله، ورفضا لفرضية الجماعة، وإقامة لشعار أهل الجاهلية، لأن دينهم الفرقة، ويرون السمع والطاعة مهانة ورذالة.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 102-103] وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } [سورة التغابن آية : 16] ومن شعارهم: أن مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له فضيلة، وبعضهم يجعله دينا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد.
وهذه هي التي ورد فيها ما في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به(12/76)
ص -79- ... شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم، إلا من الإخلال بهذه الوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بسمع وطاعة " 2.
فليتأمل: من أراد نجاة نفسه هذا الشرط، الذي لا يوجد الإسلام إلا به؛ ومع ذلك استحسن الواقع من استحسنه، وأجاز نصب إمامين، وأثبت البيعة لاثنين، كأنه لم يسمع في ذلك نص: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما; أوفوا ببيعة الأول فالأول); وما قاله الفاروق رضي الله عنه في بيعة أبي بكر رضي الله عنهما، لما قال الأنصار - أهل السقيفة -: منا أمير ومنكم أمير; وما ذهب إليه الحكمان، في شأن علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فلو كان جائزا في دينهم نصب إمامين، لأقرا عليا على الحجاز والعراق، وأقرا معاوية على مصر والشام، ولكن لم يجدا مخرجا إلا بخلع أحدهما، مع أن عليا رضي الله عنه لم يقاتل معاوية وأهل الشام، إلا لأجل الجماعة، والدخول في الطاعة، وكان محقا في ذلك رضي الله عنه.
وما ذهب إليه الحسن في خلع نفسه، فلو رأى ذلك جائزا له، لاقتصر على الحجاز والعراق، وترك معاوية وما بيده، لكن لما علم أن ذلك لا يستقيم إلا بخلع أحدهما، آثر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).
2 الدارمي : المقدمة (251).(12/77)
ص -80- ... الباقي وغض الطرف عن الفاني، وخلع نفسه.
وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد رحمه الله تعالى، لما أراد عبد العزيز أن يجعل أخاه عبد الله، أميرا في الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال: هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره; لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظن به إلا خيرا، وحسبك به رحمه الله.
فإن كنتم معشر العلماء، تعرفون أن هذا حق وتعتقدونه، وآثرتم المسالمة والسكوت، فهيهات هيهات، أنى لكم الخلاص، وقد كتمتم ما لا يجهل؟ فإن كنتم تعتقدون خلافه، وأن ما ذهبنا إليه واعتقدناه في هذه القضية خطأ، فرحم الله من أرشد جاهلا، وبصر حائرا، فإن أشكل الأمر فهلم، فالحكم والحق مقبول.
فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم؟ ... على ملة نقضي بها ثم نعدل
أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المرفل
هذه النصوص من كتاب الله نرجع عند التنازع إليها، وهذه الآثار من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه، مضبوطة محررة، مسطورة في دواوين الإسلام، قال عمر رضي الله عنه: " والله ما توفي محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ".(12/78)
ص -81- ... وقال أبو ذر، رضي الله عنه " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يطير يقلب جناحيه، إلا أبدى لنا فيه علما ". فاستأنف النهار يا ابن جبير، قبل أن تنفرج ذات البين، بينكم معشر العلماء، ويضلل بعضكم بعضا، أو يفسقه أو يكفره، فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور، تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم. فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل، تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة، نصحا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ فإني والله لا إخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت، إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر، فقد وقع والله بكثرتهم، وأعضل البأس، واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه، والأرضى لربه، بالاجتماع على الأسد فالأسد، والأجد فالأجد، والأصلح فالأصلح.
فإن الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، يزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب(12/79)
ص -82- ... الآجل، وغض الطرف عن العاجل، وقطع هامة عدو الله وعدو الدين، باتباع الحق والعمل به، رضي ذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، فإن لهذه الأمور غاية وخيمة، وعاقبة ذميمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقال أيضا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان: سعد بن مثيب، وعبد الله بن فايز، وكافة إخوانهم، سلمهم الله تعالى، ورزقنا وإياهم الثبات والاستقامة، وجنبنا وإياهم طريق الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفي عليكم ما امتن الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، وأنقذكم بذلك من أسباب الهلكة، وذلك من فضل الله، الذي يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، قال تعالى:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية : 58] فضله الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهله، والفرح بذلك والغبطة به، ومحبته والتمسك به، خير من الدنيا بأسرها.(12/80)
ص -83- ... وقد علمتم ما أوجب الله عليكم من معرفة دينه، وإخلاص العبادة له، والبراءة ممن أشرك به، وأن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" دلت على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة ممن أشرك به، ولا يستقيم إسلام عبد إلا بذلك، فمن شك أو توقف، في كفر من لم يعتقد دين الإسلام، ولم يتكلم به، أو لم يعمل به، فهو لم يأت بالإسلام العاصم لدمه وماله، الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله.
وهؤلاء الذين قاموا في عداوة أهل التوحيد، واستنصروا بالكفار عليكم، وأدخلوهم إلى بلاد نجد، وعادوا التوحيد وأهله أشد العداوة، وهم "الرشيد" ومن انضم إليهم من أعوانهم، لا يشك في كفرهم، ووجوب قتالهم على المسلمين، إلا من لم يشم روائح الدين، أو صاحب نفاق، أو شك في هذه الدعوة الإسلامية.
وجميع أهل الباطل، يحسنون باطلهم بزخرف القول، ولهم من يزخرف لهم، ويجعل باطلهم في صورة حق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية : 112].
وبلغني: أن عندكم من يتكلم في هذه الأمور بغير علم، بل بمجرد الجهل والهوى، ويجعل حكم هؤلاء حكم(12/81)
ص -84- ... البغاة من المسلمين، وأنتم في غنية عن هذا الكلام والتكلم به، فتفطنوا، لا يفسد عليكم دينكم ومعاشكم، وأنتم في بيعة الإسلام، والإمام لا تفتات عليه الرعية.
ولا يجوز لآحاد الناس، أن يتكلم في الأمور العامة، التي هي متعلقة بالإمامة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بفرضية السمع والطاعة، ولزوم البيعة وعدم الخروج على الأئمة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من فارق الجماعة قيد شبر، فمات، فميتته جاهلية، وحض على السمع والطاعة، في قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي " 1.
وأصل فتنة الخوارج، ومروقهم من الدين - مع كثرة صلاتهم وصيامهم، فإنهم من أكثر الناس تهليلا وعبادة، حتى إن الصحابة يحتقرون أنفسهم عندهم - هو الخوض والشغب، والكلام في الفتنة، التي وقعت بين علي ومعاوية، حتى قدحوا في الصحابة، مع أن القتال وقع بين الطائفتين، والقاتل والمقتول في الجنة، فكيف بمن يفتات على الإمام، ويقدح في المسلمين في قتال هؤلاء الذين ما بين طواغيت البادية وهم رؤوسهم، وبين سفهاء وجند لم يعرفوا ما خلقوا له، ولم يدينوا بدين الحق، لا في الاعتقادات، ولا في الأعمال والإرادات؟
ومن مال إليهم، وجادل عنهم، فقد شك في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين; واحذروا خدع الشيطان، فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : العلم (2676) , وابن ماجه : المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي : المقدمة (95).(12/82)
ص -85- ... يدعو إلى الفجور، ويمنى بالغرور، وأخلصوا الخوف والخشية لله، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية : 175].
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم للعمل بدينه، والثبات عليه، وأنتم بحمد الله في ظل دعوة إيمانية، وإمامة إسلامية، وتأملوا قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } [سورة النساء آية : 91] والله أخبرنا أن هذا حال المنافقين، يسعون في طلب الأمن من الكفار، والأمن من المسلمين، فاحذروا أن تقعوا في شيء من ذلك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد.(12/83)
ص -86- ... [الحث على الاجتماع على قتال العدو]
وله أيضا وغيره:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، وعبد العزيز بن محمد، وحسن بن حسين، ومحمد بن محمود، وعبد الله بن محمد الخرجي، وسعد بن حمد بن عتيق، إلى من يراه من إخواننا أهل الفرع، سلمهم الله، ومن علينا وعليهم بالبصيرة في الدين; ونجانا وإياهم من شهوات الغي، وشبهات المبطلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فتفهمون ما من الله به على عموم المسلمين، وعلينا وعليكم خاصة، من ظهور الدعوة الإسلامية في هذه الأوطان، وإزالة الشرك وشعائره، وذلك بدعوة الشيخ وأنصاره، رحمهم الله تعالى، وعرفتم بالإسلام، وسميتم به من بين سائر أهل الأديان، وهذه من أكبر النعم، كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ } [سورة الحج آية : 78] ودرج على هذه الدعوة، من اختصهم الله بنصرها، ووسمهم بحمايتها.
ثم حصل الخلل والتفريط في حق الله، والإعراض عنه، وأعظم ذلك التفرق والاختلاف، الذي هو سبب الشر، وسبب تسلط الأعداء، وحصل من الفتن وانحلال عرى الإسلام، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، وذلك بما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [سورة الرعد آية : 11].(12/84)
ص -87- ... والواجب علينا وعليكم، معرفة ذلك على التفصيل، ومعرفة أهله ومن قام به، والاجتماع على ذلك، والتواصي به مثنى وفرادى، ولا يصدكم عن ذلك شبهة ولا شهوة، ولا تغتروا بمن يتكلم بكلام الحق، ليتوصل به إلى الباطل، فإن هذا كثير، وبسببه تنقدح الشبهات في قلوب العوام، الذين لا بصيرة لهم.
وقد عرفتم ما يتعين علينا وعليكم، من الحض على الجهاد، والقيام فيه، ودفع من سعى في هتك حرمتهم، ودينهم، وصيرهم أذلة بين الملأ، والذي لم يكشف له هذا الغطاء، فهو مبخوس الحظ، ومنكوس القلب، عياذا بالله من ذلك، وفي بعض الآثار " إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند حلول الشهوات ".
والخلق بين رجل إما مدخول في اعتقاده، أو منقوص في عقله بطلب الدنيا، وإيثارها على الحق وأهله، والصنف الثالث من عصمه الله، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [سورة الأنفال آية : 72] ونحن والمسلمون جميعا: ندعوكم بدعاية الإسلام، وحماية أهله، والذب عنهم، والقيام التام، مع أن المسلمين في أكمل نعمة وأتمها، من ثبات القلوب، وخذلان العدو، وضعفه، ولكن نحب لكم الخير، وأن تكونوا رؤساء فيه، وتعاونوا وتناصروا فيه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ(12/85)
ص -88- ... وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [سورة المائدة آية : 2] وأعظم التعاون على البر والتقوى، التعاون على نصر الإسلام والمسلمين، والذب عن حرمه، وجهاد من قصد تشتيتهم وانتدب لعداوتهم، وضد ذلك التعاون على الإثم والعدوان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وله أيضا رحمة الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى من يراه من الإخوان، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء والطرق المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة، إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي نيته وقصده طلب الحق، ولكنه ابتلى بالوساوس والغرور; تعلمون - وفقنا الله وإياكم - أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهو ما جاء به صلى الله عليه وسلم من البرهان والنور، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [سورة النساء آية : 174] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [سورة الحشر آية : 7] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ(12/86)
ص -89- ... يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية : 63] الفتنة هي الشرك.
وفرض الله علينا الإخلاص في عبادته، واتباع سنة نبيه، ولا يقبل لأحد شيئا من الأعمال، إلا بالقيام بهذين الركنين، الإخلاص، والمتابعة; فالإخلاص: أن يكون لله; والمتابعة: أن يكون متبعا لأمر رسوله، لأن كل عبادة حدها الشرع: ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير إطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس، وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم: لها حد يقف المؤمن، والخائف من عقاب الله عنده، وهو ما أمر به الرسول، قال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"1 وقال: " من أحدث شيئا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2 وما خرج أحد عن طريقته، إلا سلك أحد طريقين، إما جفاء وإعراض، وإما غلو وإفراط، وهذه مصائد الشيطان، التي يصطاد بها بني آدم، ولهذا حذر سبحانه عن الغلو، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الاَّ الْحَقَّ } [سورة النساء آية : 171] وفي الآية الأخرى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية : 77].
فلما من الله سبحانه: على المسلمين في آخر هذه الأزمان، التي اشتدت فيها غربة الدين، باجتماع المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).(12/87)
2 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).(12/88)
ص -90- ... ورد لهم الكرة ولم شعثهم، بإمام يدعوهم إلى دين الله وإلى طاعته، بماله ونفسه ولسانه، وهدى الله بسبب ذلك من هدى من البادية، وعرفهم الإسلام ورغبهم فيه ودانوا به، وهي من أعظم النعم عليهم وعلى المسلمين عموما، أن هداهم الله لدينه وعرفهم به، وأخرجهم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإسلام وطاعة ربهم، وعرفهم دينهم الذي خلقوا له، وتعبدهم الله سبحانه وبحمده به.
وقد كانوا قبل ذلك في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، أشقى الناس في الدنيا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى في النار، فالواجب علينا وعليكم: معرفة هذه النعمة، والقيام بحق الله. تعالى في ذلك، وشكر نعمه عليكم، ولا تكونوا كـ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم آية : 28] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية : 100] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [سورة آل آية : 102-103] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ(12/89)
ص -91- ... وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة آل عمران آية : 105-107] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والشناعة.
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [سورة الشورى آية : 13] وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية : 4] والآيات في النهي عن التفرق في الدين كثيرة، لكن القصد التنبيه على ما يلقيه الشيطان ويزينه للناس، من التفرق والاختلاف; والذي قصده الله والدار الآخرة، يرد ما صدر وما سمع إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية : 59] ولا عمل إلا بدليل وبرهان، يطلب به صاحب العمل.
وقد بلغني عن بعض من غره الغرور، من الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة، وأشباه هذه الأقاويل، التي صدت أكثر الخلق عن دين الله، وزين لهم الشيطان بسبب ذلك، الطعن في الولاية بأمور، حقيقتها البهتان، والطعن(12/90)
ص -92- ... بالباطل; وقد علمتم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرضه من السمع والطاعة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } [سورة النساء آية : 59] ولم يستثن سبحانه وتعالى برا من فاجر، ونهى صلى الله عليه وسلم عن إنكار المنكر، إذا أفضى إلى الخروج عن طاعة أولي الأمر، ونهى عن قتالهم، لما فيه من الفساد; عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه "قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1 أخرجاه في الصحيحين.
وقوله: "أن لا ننازع الأمر أهله" دليل على المنع من قتال الأئمة، إلا أن يروا كفرا بواحا، وهو الظاهر الذي قد باح به صاحبه، فطاعة ولي الأمر، وترك منازعته، طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا هو فصل النّزاع بين أهل السنة، وبين الخوارج والرافضة.
وعن حذيفة بن اليمان: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اسمع وأطع للأمير، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " 2 وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد خرج من السلطان شبرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7056) , والنسائي : البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه : الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك : الجهاد (977).
2 مسلم : الإمارة (1847) , وأحمد (5/403).(12/91)
ص -93- ... فمات، مات ميتة جاهلية " 1 وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2 فذكر في هذا الحديث: البيعة والطاعة; فالخروج عليهم نقض للعهد والبيعة، وترك طاعتهم ترك للطاعة، وبهذه الأحاديث وأمثالها، عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وعرفوا أنها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية، والحجاج، ومن بعدهم خلا الخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز، أمورا ظاهرة ليست خفية، ونهوا عن الخروج عليهم، والطعن فيهم، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين، إلى طريقة الخوارج.
ولهذا لما حج ابن عمر رضي الله عنهما مع الحجاج، وطعن في رجله، قيل له أنبايعك على الخروج على الحجاج وعزله؟ وهو أمير من أمراء عبد الملك بن مروان، غلظ الإنكار عليهم، وقال: (لا أنزع يدا من طاعة)، واحتج عليهم بالحديث الذي تقدم ذكره; فإذا فهمتم ذلك، فاشكروا نعمة الله عليكم بما من به من إمامة إسلامية، تدعوكم إليه ظاهرا وباطنا، مما سمعتم وصدقه الفعل، من بذل المال والسلاح والقوة، وإعانة المهاجرين لأجل دينه، لا لقصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7053) , ومسلم : الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297 ,1/310) , والدارمي : السير (2519).
2 مسلم : الإمارة (1851) , وأحمد (2/70 ,2/83 ,2/93 ,2/97 ,2/123 ,2/133 ,2/154).(12/92)
ص -94- ... سوى ذلك، يعرف ذلك من عرفه، ولا يجحده إلا منافق فارق بقلبه ونيته، ما اعتقده المسلمون وقاموا به.
وأما الطعن على العلماء، فالخطأ ما يعصم منه أحد، والحق ضالة المؤمن، فمن كان عنده علم يقتضي الطعن، فليبين لهم جهارا، ولا يخاف في الله لومة لائم، حتى يعرفوا حقيقة الطعن وموجبه، واحذروا التمادي في الضلالة، والخروج عن الجماعة، فالحق عيوف، والباطل شنوف، والشيطان متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بالعداوة والشحناء، عياذا بالله من فتنة جاهل مغرور، أو خديعة فاجر ذي دهى وفجور، يميل به الهوى، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى.
والله أسأل أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
وله أيضا، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، إلى جناب عالي الجناب، الإمام المفخم، والرئيس المكرم. عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله(12/93)
ص -95- ... تعالى، وأكرمه بتقواه، ونظمه في سلك من خافه واتقاه، وبتر من شنأه وقلاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالسبب الداعي لتحريره محض النصيحة، وتفهم حفظك الله: أن الله سبحانه وبحمده، ما أنعم على عباده نعمة أجل وأعظم من نعمة الإسلام، لمن تمسك به، وقام بحقوقه، ورعاه حق رعايته، ومن أعظم فرائض الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم: الجماعة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة " 1 وهذا أمر غير خفي عليك، ولا على أحد له معرفة بفرائض الإسلام، ومن الله سبحانه وبحمده في آخر هذا الزمان - الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وظهر فيه الفساد في البر والبحر ـ بفضله وكرمه بهداية غالب بادية أهل نجد خصوصا رؤساؤهم، وجعل الله سبحانه وبحمده لك حظا وافرا في إعانتهم، ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشا الإسلام في نجد جنوبا وشمالا، والله سبحانه وبحمده له حكمة، وله عناية بعباده، لا يعلمها إلا هو.
ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدارمي : المقدمة (251).(12/94)
ص -96- ... إلا بولايته; وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله ". والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله.
وقد علمت حفظك الله: أنه لما صدر من الدويش جهلا منه، واستفتيت عالما من علماء المسلمين، وأفتاكم بالحق والدين، الذي يدان الله به، لم يلتفت إليه، وهذا من أعظم الوهن في دين الله، أن العالم يفتى بالحق، ويعارض بالهوى والجهل، مع أن الذين وقع الأمر عليهم، لم ينبذ إليهم على سواء، واستباحوا غنائمهم من غير أمر شرعي.
فالواجب عليك: حفظ ثغر الإسلام عن التلاعب به، وأنه لا يغزو أحد من أهل الهجر إلا بإذن منك، وأمير منك لو صاحب مطية، وتسد الباب عنهم جملة، لئلا يتمادوا في الأمر، ويقع بسبب تماديهم وتغافلكم خلل كبير، وذكرنا هذا قياما بالواجب من النصيحة لك، وخروجا من كتمان العلم، والله يمدك بمدد من عنده، ويعينك على ما حملك، وصلى الله على محمد، سنة 1338 هـ.(12/95)
ص -97- ... وقال بعضهم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لتوحيد العبادة، الذي هو أساس الملة والدين، ومفتتح دعوة المرسلين، وقد غلط في مسمى التوحيد، الأذكياء من المتأخرين، والفقهاء، والصوفية، والمتكلمين، وهذا التوحيد هو توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا الله وحده، وأن لا يعبد إلا بما شرع، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية : 36] وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية : 11].
والآيات في هذا التوحيد، أكثر من أن تحصر; فوفقنا سبحانه وبحمده، لفهم ما اختلف فيه من الحق بإذنه، وكان بحمد الله عن علم وإخلاص، وصدق ويقين، وجعلنا على ذلك مجتمعين مؤتلفين، متناصرين غير مفترقين، ولا مختلفين، اللهم اجعلنا لنعمك شاكرين ذاكرين، وبالعمل بكتابك معتصمين مستمسكين.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
وبعد: فإن الله تعالى أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على(12/96)
ص -98- ... عباده المؤمنين، فيما أوحاه إلى عبده ورسوله الصادق الأمين، فقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية : 3] وأوجب على عباده أن يكونوا بحبله معتصمين، وبالعمل به مستمسكين، فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية : 102] وحبله هو القرآن، والتمسك به علما وعملا، يجمع الإسلام والإيمان وشرائع الدين.
وذلك لا يحصل للمسلمين المؤمنين، إلا إذا كانوا على العمل بالحق مجتمعين مؤتلفين، متعاونين متناصرين، فبهذا يكون لهم الظهور، ويقوم به الدين، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [سورة الشورى آية : 13] فأمر تعالى عباده بإقامة الدين، الذي أكمله لهم على لسان سيد المرسلين، ونهاهم عن التفرق فيه، لأن التفرق ينافي إقامة الحق الذي شرعه، وبعث به هذا النبي الذي ختم به المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولما كان هذا الاجتماع العظيم، وما يحصل به من المصالح العظيمة، وعدم التفرق والاختلاف، يتوقف على(12/97)
ص -99- ... مشروعية نصب إمام، يبايعه المسلمون على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والأثرة عليهم، ولهذا بايع المهاجرون والأنصار، أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية التفرق والاختلاف، رضي الله عنهم أجمعين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية : 59].
وفي الأحاديث أيضا ما يؤكد ذلك ويوجبه، لما فيه من المصالح، لأن عدمه يفضي إلى التفرق والاختلاف، وذهاب الدين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به " 1، وعن أنس مرفوعا: " اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " 2، وعن عبادة بن الصامت، قال: "بايعنا سول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى الأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كان، لا نخاف في الله لومة لائم ".
وعن أبي هريرة مرفوعا: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا إلا مات ميتة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2957) , ومسلم : الإمارة (1835 ,1841) , والنسائي : البيعة (4193 ,4196) والاستعاذة (5510) , وابن ماجه : المقدمة (3) والجهاد (2859) , وأحمد (2/244 ,2/252 ,2/270 ,2/313 ,2/342 ,2/386 ,2/416 ,2/467 ,2/471 ,2/511 ,2/523).(12/98)
2 البخاري : الأذان (693) , وابن ماجه : الجهاد (2860) , وأحمد (3/114 ,3/171).(12/99)
ص -100- ... جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو أو ينصر عصبية، فيقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي بسيف، يضرب برها وفاجرها، لا يخشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه " 1.
وسأل يزيد بن سلمة الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت يا رسول الله، إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " وعن ابن عمر مرفوعا " من خلع يدا من طاعة أميره، لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2.
وعن الحارث الأشعري مرفوعا " آمركم بخمس، بالجماعة، والسمع، والطاعة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثى جهنم، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم " 3. وفي صحيح مسلم مرفوعا: " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4. ولم نذكر من الأحاديث إلا بعضها، وفيما لم نذكر تشديد في حق من خرج عن الجماعة، وعصى الإمام، ولم يسمع ويطع للإمام.
نسأل الله: أن يجعلنا على الحق أعوانا، وعلى طاعته إخوانا، مؤتلفين، آمين، وأن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1848) , والنسائي : تحريم الدم (4114) , وابن ماجه : الفتن (3948) , وأحمد (2/296 ,2/306 ,2/488).
2 مسلم : الإمارة (1851) , وأحمد (2/111).
3 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344).
4 مسلم : الإمارة (1852).(12/100)
ص -101- ... من دين الإسلام، والاجتماع عليه، والدعوة إليه، والحث على لزومه بذكره، وعدم الغفلة عنه، والقيام بالنصيحة لمن وجبت له، وبالله التوفيق.
وعلى الإمام وفقه الله تعالى: أن يعمل بثلاث آيات من كتاب الله، تجمع له الخير كله، وتدفع عنه الشر كله، ونظائرها في الكتاب والسنة كثيرة جدا، الآية الأولى، قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية : 18-19] فنهاه تعالى عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، لما فيه من مخالفة الشريعة والخروج عنها، إلى ما يسخط الله تعالى، ويحل نقمته وعقوبته، والشريعة: ما أمر الله به رسوله والمؤمنين، وأوجب عليهم أن يفعلوه، وأن يتركوا ما نهاهم عنه، خالصا لوجهه الكريم.
ومن ذلك: الذي أمر الله به نبيه، وأوجبه عليه، وعلى من ولي أمر المسلمين إلى يوم القيامة، قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران آية : 159] وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية فيما صح عنه، ففي صحيح مسلم وغيره، أنه قال: " اللهم من ولي من أمور(12/101)
ص -102- ... أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه " 1. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراءه وعماله، ويقول: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " ويقول: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين " 2 والتيسير دعوة إلى الإسلام، وترغيب للناس في قبوله، والدخول فيه، لأن من صحت سريرته، وحسنت سيرته، أقبلت القلوب إليه، وصغت إليه، وصفت عليه، والضد بالضد، وبالله التوفيق، والعمل بهذه الآيات والأحاديث، من أعظم ما تشكر به النعم، وتستدفع به النقم.
ومما أمر الله به نبيه، ورضيه له واختاره له ولأنبيائه ورسله، ولمن له عقل ودين، قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية : 28]. فما أعظمها من آية، وما انفعها للقلوب لمن عمل بها؟! فذكر الخير وسببه وأمر به، وذكر الشر وسببه ونهى عنه أشد النهي، فتدبر.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بالأمير خيرا، جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه " 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1828) , وأحمد (6/257).
2 البخاري : الوضوء (220) , والترمذي : الطهارة (147) , والنسائي : الطهارة (56) والمياه (330) , وأبو داود : الطهارة (380) , وأحمد (2/239 ,2/282).
3 النسائي : البيعة (4204) , وأبو داود : الخراج والإمارة والفيء (2932).(12/102)
ص -103- ... وعن أبي سعيد مرفوعا: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ". وفي الحديث الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " 1 وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: فيصل الدويش، وسلطان بن بجاد بن حميد، ومن لديهما من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا الكتاب، والداعي إليه، هو النصح لكم والشفقة عليكم، لأن من حقكم علينا بذل ذلك لكم، وقد بلغنا اجتماعكم، وتزاوركم، فإن كان المراد بذلك التذكر بما من الله به عليكم، من نعمة الإسلام، واجتماع الكلمة، وذهاب العدو، والحرص على التزام هذه الإمامة والولاية، والقيام بحقها، فما أحسن ذلك.
وإن كان الاجتماع إنما هو للتفرق والاختلاف، الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : النكاح (5188) , ومسلم : الإمارة (1829) , والترمذي : الجهاد (1705) , وأبو داود : الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/108 ,2/111 ,2/121).(12/103)
ص -104- ... هو من دين الجاهلية الأولى، والطعن على من ولاه الله عليكم، وعيبه، وثلبه، وتتبع عثراته للتشنيع عليه، ونسبة علمائه إلى المداهنة والسكوت، فهذه- والله- وصمة عظيمة، وزلة وخيمة، وقاكم الله شرها، وحال بينكم وبين أسبابها. فأذكركم إخواني أولا: نعمة الإسلام، وما من الله به عليكم من الانتقال، عن عوائد الآباء والأجداد، وسوالفهم، التي خالفوا في أكثرها ما جاء في الكتاب والسنة، واتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله بعثته رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على أعداء الملة والدين، فاشكروا مولاكم على ذلك.
واشكروه أيضا: على ما من به في هذا الزمان، من ولاية هذا الإمام، الذي أسبغ الله عليكم على يديه، من النعم العظيمة، ودفع به عنكم من النقم الكثيرة، وخولكم مما أعطاه الله، وتابع عليكم إحسانه، صغيركم وكبيركم، وقام بما أوجب الله عليه، حسب الطاقة والإمكان، ونظره في مصالح المسلمين، وما يعود نفعه عليهم، ودفع المضار عنهم، وحسم مواد الشر أولى من نظركم، والكمال لم يحصل لمن هو أفضل منه.
فالذي يطلب الأمور على الكمال، وأن تكون على سيرة الخلفاء، فهو طالب محالا; فاسمعوا له وأطيعوا، وراعوا حقه وولايته عليكم، واحذروا غرور الشيطان، وتسويله(12/104)
ص -105- ... وخدعه ومكره، فإنه متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بإلقاء الشحناء والعداوة، وتفريق الكلمة بين المسلمين عادة له مذ كان، ولا يسلم من مكره إلا من راقب الله في سره وعلانيته، ووقف عند أقواله وأعماله، وحركاته وسكناته، وتفكر في عاقبة ما يصير إليه في ماله، وراجع أهل البصائر والمعرفة من أهل العلم، الذين لهم قدم راسخ في المعرفة والفهم.
فإن كان أحد ممن يدعي العلم زين لكم ذلك، وألقى عليكم التشكيكات والتشبيهات، وحسن لكم طريقة أهل البدع والضلالات، فاعلموا: أنه منفاخ سوء، يبدي لكم ما يخفيه كيره، ويلبس عليكم دينكم، فإن كان يدعي أن معه دليلا، من الكتاب والسنة، في الطعن على الأئمة والولاة وعلمائهم، فليبرز إلينا بما لديه، فنحن له مقابلون ومناظرون بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء المهديين، التي تجلو عن القلب عماه، وترد المعارض عن انتكاسه.
فوالله ثم والله: إنا لا نعلم على وجه الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، شخصا أحق وأولى بالإمامة منه، ونعتقد صحة إمامته وثبوتها، لأن إمامته إمامة إسلامية، وولايته ولاية دينية، فلو نعلم أن عليه من المثالب والمطاعن شيئا يوجب مخالفته ومنابذته، لكنا أولى منكم بالنصح له(12/105)
ص -106- ... وتحذيره ومراجعته، فإنه- ولله الحمد- يقبل الحق ممن جاء به، ولا يستنكف من الناصح، ومقاماته ونصحه، ومدافعته عن الإسلام وأهله، وبذل إحسانه، وعفوه وعدم انتقامه، شهيرة بين الورى، لا يجحدها إلا معاند مماحل.
وأيضا: حرصه على اجتماع المسلمين، وعدم اختلافهم معلوم، لا يخفى على منصف، فأفيقوا عن سكرتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وأقول لكم مثل ما حكاه الله عن مؤمن آل فرعون {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة غافر آية : 44].
فلا تنسوا عباد الله إحسان إمامكم، ومعروفه عليكم، فإن نعمة الله تترى عليكم باطنا وظاهرا، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت وجحدت فرت، فارجعوا إلى مولاكم بالتوبة والندم، والانطراح بين يدي الله أولا، لأنه مقلب القلوب والأبصار، وبين يدي إمامكم وعلمائه ترشدوا، فهذا الواجب لكم علينا، الذي تعبدنا الله به، وهو الذي نحبه ونرضاه لكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[ما من الله به من هذا الدين والاجتماع عليه]
وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن(12/106)
ص -107- ... إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ونشهد: أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبة، والتابعين، ومن سلك طريقهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه لا يخفى على من نور الله قلبه، وألهمه رشده، ما من الله به على أهل نجد، من معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، والدعوة إليه على بصيرة، والاجتماع على ذلك، والائتلاف عليه، وما حصل بذلك من العز والظهور، وإقامة دين الله، وقهر أعدائه.(12/107)
ص -108- ... وقد كان أهل نجد، قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في شر عظيم من التفرق والاختلاف، والفتن العريضة، من الشرك بالله فما دونه، من سفك الدماء، وأخذ الأموال بغير حق، وإخافة السبل، وليس لهم إمامة يجتمعون عليها، ولا عقيدة صحيحة يعولون عليها، بل هم في أمر مريج، حتى أزال الله ذلك بدعوة هذا الشيخ، رحمه الله تعالى.
فإنه قام بهذه الدعوة أتم القيام، ووازره على ذلك، ونصره الإمام محمد بن سعود، وأولاده وإخوانه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، فبسببهم دخل الناس في دين الله أفواجا، ونفذت الدعوة الإسلامية، وشملت كافة أهل نجد، البادية والحاضرة، وقام علم الجهاد، وانقمع أهل الغي والفساد.
ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس، من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها، ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف، وتسلط الأعداء، والرجوع إلى كثير من عوائدهم السالفة، حتى من الله في آخر هذا الزمان، بظهور الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أيده الله ووفقه، وما من الله به في ولايته، من انتشار هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، وقمع من خالفها، وإقبال كثير من البادية(12/108)
ص -109- ... والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة.
وكذلك ما حصل بسببه، من هدم القباب، ومحو معاهد الشرك والبدع، وردع أهل المعاصي والمخالفات، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين، زادهما الله تعالى تشريفا وتكريما، وكذلك ما من الله به على قبائل العرب، من الاجتماع بعد الفرقة، والائتلاف بعد العداوة التي كانت بينهم، والأمن والطمأنينة بعد الخوف، حتى صار الراكب يسير من الشام إلى اليمن، لا يخشى إلا الله. وهذه النعم يجب شكرها على جميع المسلمين، والحذر من الأسباب التي توجب زوالها، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك.
إذا علم ذلك فإنه لما رأينا ما وقع من كثير من الناس من الاختلاف، والخوض في دين الله، والقول على الله بلا علم، والتجرؤ على ذلك، من غير مبالاة بالكلام على جهل، وعدم بصيرة فيما يتكلم به الإنسان، خشينا أن تكون هذه الأمور، سببا لزوال النعمة العظيمة، فتعين علينا أن نكتب هذه الكلمات، نصيحة لله ولعباده، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة"1، قالها ثلاثا.
فنقول: الكلام في هذا المقام، على فصول: الفصل الأول: في القول على الله وعلى رسوله بلا علم، الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة، وما يجب لولي الأمر من الحقوق على رعيته، وما يجب لهم عليه، الفصل الثالث:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(12/109)
ص -110- ... في التحذير من التفرق والاختلاف، وبيان حرمة المسلم، وما يجب له من الحقوق.
الفصل الأول : في القول على الله وعلى رسوله بلا علم
ليعلم الناصح لنفسه: أن القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكامه ودينه، من أعظم المحرمات، كما قال الله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية : 33] وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية : 116].وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يقل علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار"1 رواه البخاري.
قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في "أعلام الموقعين"- في الكلام على الآية الأولى-: إنه سبحانه وتعالى رتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (109).(12/110)
ص -111- ... أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه.
وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية : 116-117] فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم - لما لم يحرمه- هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه: أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، إلا لما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.
وقال بعض السلف، ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرم كذا، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله، وحرمه الله، بمجرد التقليد، أو التأويل، انتهى.
فتبين مما تقدم: تحريم القول على الله بلا علم، وتحريم الإفتاء في دين الله وشرعه، بمجرد الرأي والهوى، وفاعل ذلك ومنتحله، يبوء بإثمه وإثم من استفتاه، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية : 25].
وقال ابن القيم أيضا، في كتابه "الأعلام": وقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أفتى بغير علم(12/111)
ص -112- ... كان إثم ذلك على الذي أفتاه " 1 وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 2 وفي أثر مرفوع، ذكره أبو الفرج وغيره: " مَن أفتى الناس بغير علم، لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض ".
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها.
وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت الله يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [سورة المزمل آية : 5] فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، انتهى.
ومن القول على الله بلا علم: تفسير القرآن بغير معناه، والاستدلال به على غير المراد به، استنادا إلى الآراء والأهواء والشهوات، وهذا يفعله كثير من الجهلة الغوغاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال في القرآن برأيه، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : العلم (3657) , وابن ماجه : المقدمة (53) , وأحمد (2/365).
2 البخاري : العلم (100) , ومسلم : العلم (2673) , والترمذي : العلم (2652) , وابن ماجه : المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي : المقدمة (239).(12/112)
ص -113- ... بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار، وأخطأ ولو أصاب " 1.
وقال أبو بكر الصديق لما سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم " وعن عمر رضي الله عنه قال: " ما أخاف على هذه الأمة، من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا فاسق بين فسقه، ولكن أخاف عليها رجلا قرأ القرآن، حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله " رواه ابن عبد البر.
فالواجب على طالب الحق، إذا أشكل عليه شيء، سؤال العلماء، والرجوع إليهم في الأحكام الشرعية، قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية : 43]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: أن من اتخذ رؤساء جهالا، فسألهم فأفتوه بغير علم، فقد ضلوا وأضلوه، وفي حديث صاحب الشجة " ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال "2. وقال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ومما ينبغي التنبيه عليه: ما وقع من كثير من الجهلة، من اتهام أهل العلم والدين، بالمداهنة والتقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق، والسكوت عن بيانه، ولم يدر هؤلاء الجهلة: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (2951) , وأحمد (1/233 ,1/269).
2 أبو داود : الطهارة (336).(12/113)
ص -114- ... المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية : 58].
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من ... اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
فإذا سمع المنصف هذه الآيات، والأحاديث، والآثار، وكلام المحققين من أهل العلم والبصائر، وعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومسئول عما يقول ويعمل، وقف عند حده، واكتفى به عن غيره، وأما من غلب عليه الجهل والهوى، وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة،
وما يجب لولي الأمر على رعيته، وما يجب لهم عليه.
قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا(12/114)
ص -115- ... يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية : 58-59].
قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية": قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل, ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الامر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم، ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأديت حقوقهم إليهم، كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [سورة المائدة آية : 2].
وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة العادلة، والولاية(12/115)
ص -116- ... الصالحة، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "1.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه "2.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " 3 رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا: " الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 4 أخرجاه.
ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7056) , والنسائي : البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه : الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك : الجهاد (977).
2 مسلم : الإمارة (1848) , والنسائي : تحريم الدم (4114) , وأحمد (2/296, 2/306 ، 2/488).
3 النسائي : الجهاد (3188) , وأبو داود : الجهاد (2515) , وأحمد (5/234) , والدارمي : الجهاد (2417).(12/116)
4 البخاري : الأحكام (7144) , ومسلم : الإمارة (1839) , والترمذي : الجهاد (1707) , وأبو داود : الجهاد (2626) , وابن ماجه : الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).(12/117)
ص -117- ... بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع"1. وفي حديث الحارث الأشعري، الذي رواه الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن، السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2.
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم، إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، إلى أن قال: فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1847).
2 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344).(12/118)
ص -118- ... وإقامة الحدود، لا يتم إلا بالقوة والإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا، وقربه يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال، انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح الأربعين" وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: " إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله ".
وقال الحسن في الأمراء : " هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود؛ والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا؛ والله لما(12/119)
ص -119- ... يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر " انتهى.
إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحققين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر، والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر، الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى في رسالة له، ذكرناها ههنا لعظم فائدتها، قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن(12/120)
ص -120- ... عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء، حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين ينكر منكرا، وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان.
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 102-103].
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1. وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).(12/121)
ص -121- ... وأيضا، يذكر العلماء: أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببه افتراق، لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا، صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة، لو صار أهل الدين واجب عليهم إنكار المنكر، فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم لازم، تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله.
والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد؛ فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم ثم يرسلونها لحرمة والمجمعة، ثم للغاط والزلفى، والله أعلم.
وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين": المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجابا إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان(12/122)
ص -122- ... إنكار منكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة، إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء، الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا، ما أقاموا الصلاة " 1، وقال: " من رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينْزعن يدا من طاعة " 2 ومن تأمل ما جرى على الإسلام، في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، انتهى.
وقال ابن مفلح، في "الآداب": قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك - ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولاتخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزع أيديهم من طاعته- صوابا هذا خلاف الآثار، ا هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي : الرقاق (2797).
2 البخاري : الفتن (7054) , ومسلم : الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297 ,1/310) , والدارمي : السير (2519).(12/123)
ص -123- ... إذا تقرر ذلك، فليعلم: أن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، قد ثبتت بيعته وإمامته، ووجبت طاعته على رعيته فيما أوجب الله من الحقوق، فمن ذلك أمر الجهاد، ومحاربة الكفار ومصالحتهم، وعقد الذمة معهم، فإن هذه الأمور من حقوق الولاية، وليس لآحاد الرعية الافتيات، أو الاعتراض عليه في ذلك، فإن مبنى هذه الأمور، على النظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، وهذا الاجتهاد والنظر، موكول إلى ولي الأمر، وعليه في ذلك تقوى الله، وبذل الجهد في النظر بما هو أصلح للإسلام والمسلمين، ومشاورة أهل الرأي والدين والنصح من المسلمين.
ويجب عليه النصح لرعيته، والشفقه عليهم، والرفق بهم، والنظر في جميع ما تنتظم به مصالح دينهم ودنياهم، من حماية حوزة الإسلام، والذب عنها، وإقامة العدل بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الحقوق اللازمة إلى مستحقيها، فإن قصر عن القيام ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعية أن ينازعه الأمر من أجل ذلك، كما ثبتت بذلك الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بوجوب السمع والطاعة، والوفاء بالبيعة، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان.(12/124)
ص -124- ... الفصل الثالث: في التحذير من التفرق والاختلاف وبيان حرمة المسلم وما يجب له من الحقوق
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية : 102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 103] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية : 104] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية : 105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية : 106] قال بعض المفسرين تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في "المنهاج" في الكلام على هذه الآيات-: فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه وبدينه، وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة، فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده، وأمره وطاعته، والاعتصام(12/125)
ص -125- ... به جميعا، إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته: الإخلاص لله.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1. والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين، أحياءهم وأمواتهم، وحرم دماءهم وأموالهم، وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: " إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع " 2.
وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية : 58] فمن أذى مؤمنا حيا أو ميتا، بغير ذنب يوجب ذلك، فقد دخل في هذه الآيات، ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه، أو غفر له بسبب آخر، لم يبق عليه عقوبة، فآذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).
2 البخاري : العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447) , ومسلم : القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/40 ,5/49) , والدارمي : المناسك (1916).(12/126)
ص -126- ... " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه " 1 رواه مسلم.
ولهما عن ابن عمر مرفوعا: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة "2، ولهما عن أنس مرفوعا: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " 3.
وهذا الذي ذكرناه في هذه الرسالة، هو الذي نعتقده وندين الله به، وفيه كفاية لمن أراد الله هدايته، وكان قصده طلب الحق، نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة من موجبات سخطه، وأليم عقابه، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[ما من الله به على بادية نجد وما أدخله الشيطان عليهم]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277).
2 البخاري : المظالم والغصب (2442) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2580) , والترمذي : الحدود (1426) , وأبو داود : الأدب (4893) , وأحمد (2/67 ,2/91).
3 البخاري : الإيمان (13) , ومسلم : الإيمان (45) , والترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه : المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/206 ,3/251 ,3/272) , والدارمي : الرقاق (2740).(12/127)
ص -127- ... عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق، على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم المناهج، وأوضح السبل، فشرع الشرائع، وبين الأحكام، ولم يقبضه إليه حتى تم شرعه وكمل، فمن أراد الله سعادته اكتفى بهديه، عن سائر الشرائع والنحل، ومن قضي عليه بالشقاء، صدف عن ذلك وعدل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم العرض من كل كرب ووجل، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الخلق، وخاتم الرسل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين حازوا قصب سبق الفضائل، بالعلم والعمل.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، لما من على بادية نجد، في آخر هذا الزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، والعمل به، وكثر ذلك فيهم وانتشر، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، يئس منهم أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، فأخذ في فتح أبواب من أبواب الشر، حسنها لهم وزينها، وجعلها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهم المتمسكون بملة(12/128)
ص -128- ... إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم.
وهذا هو المعهود من كيد اللعين، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، في "إغاثة اللهفان"، فإنه ذكر: أن الشيطان- لعنة الله- يشم قلب العبد، فإذا رأى فيه كسلا، سعى في رده عن الدين بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله؛ وإذا أخبر بالأمر المشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، الواجب عليك شيء غير هذا، هذا معنى كلامه رحمه الله تعالى.
إذا علم هذا؛ فمن الأمور التي أدخلها على الإخوان- وفقهم الله تعالى- أنه غلظ أمر الأعراب عندهم، حتى صار منهم من يعتقد كفرهم مطلقا، ومنهم من يرى جهادهم، حتى يلتزموا سكنى القرى.
والجواب عن هذا: أن تعلم أيها المنصف، الذي مراده الحق، أن الواجب علينا وعلى جميع المسلمين رد ما تنازعنا فيه، إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى، أو استحسان العقل، والأقيسة الفاسدة، ونحن نطالب من قال ذلك، بدليل من كتاب الله وسنة رسوله، أو نقل من الخلفاء الراشدين، والصحابة المهديين، ومن تبعهم من أئمة الدين.
فإن كان اعتمادهم فيما توهموه، من إلزام البادية(12/129)
ص -129- ... بالسكنى في القرى، على مطلق وجوب الهجرة، فنعرفك عن حقيقة الهجرة الواجبة بالشرع المطهر.
فنقول: الهجرة تجب من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، على من لم يقدر على إظهار دينه، فإن كان المحل الذي فيه الأعراب، تظهر فيه شعائر الشرك، وتفعل فيه المحرمات، وتترك فيه الواجبات، فإن الهجرة تجب من ذلك المحل، إلى بلاد تظهر فيها شعائر الإسلام، سواء كان ذلك في بادية أو حاضرة، وأما البادية الذين هم في ولاية إمام المسلمين، وهم مع ذلك ملتزمون شرائع الإسلام، من الإتيان بأركان الإسلام الخمسة، وترك الشرك والكفر، ولا يظهر فيهم شيء من نواقض الإسلام، فلا تجب عليهم الهجرة إلى القرى، ولا يجوز إلزامهم بذلك.
ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [سورة الشورى آية : 21] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، وفي رواية " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" 2 أي: من أحدث في ديننا وشرعنا، زيادة لم نشرعها، فمن قال قولا، أو عمل عملا لم يشرعه الله ورسوله، فهو مردود عليه، كائنا من كان، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
2 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/240).(12/130)
ص -130- ... يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية : 116].
ومن نسب إلزام بادية المسلمين بسكنى القرى إلى دين الله ورسوله، فقد افترى وضل، نعم، تستحب الهجرة في حقهم والحالة هذه، لما يترتب على ذلك من حضور الجمع والأعياد، وغير ذلك، من غير إكراه على ذلك، فافهموا حكم الهجرة ومن تجب عليه، وقولوا بعلم، ودعوا الجهل والهوى، واستحسانات العقول، وإن أردتم الدليل على ما قلناه، فانظروا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، وحالهم مع أعرابهم الموجودين في عصر النبوة وما بعده، فإنهم لم يلزموهم بسكنى القرى، فإن كان عند أحد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم فليوجدناه ونقبله على الرأس والعين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي رواه مسلم في صحيحه، في أعراب المسلمين، فإنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية " 1 - إلى قوله- " ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله " 2 الحديث ; فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة.
وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي، في أواخر الوفود: "فصل" في قدوم وفد بني عبس، ” وفد عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجهاد والسير (1731) , والترمذي : الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود : الجهاد (2612) , وابن ماجه : الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي : السير (2439).
2 مسلم : الجهاد والسير (1731) , والترمذي : السير (1617) , وأحمد (5/352 ,5/358).(12/131)
ص -131- ... بنو عبس، فقالوا يا رسول الله: قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا: أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، وهي معائشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة لة، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا " انتهى.
نعم، يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب شرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وأما إطلاق الكفر على الأعراب بالعموم، فالدليل على منعه قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية : 99] الآية.
فإذا علمت أنها لا تجب الهجرة على من كان في بادية المسلمين، تبين لك أنه لا يجوز هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من عرف منهم بالمجاهرة بالمعاصي، والإعلان بها، وهذا ليس خاصا بالأعراب، فإن المجاهر بالمعاصي يشرع هجره، سواء كان ذلك من أهل البادية أو الحاضرة، إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم يترتب عليه مفسدة، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا كان قد هاجر، وسكن في قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، واعتاش بها هو وعائلته، وخرج لرعيها،(12/132)
ص -132- ... ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل الذي خرج منه، هجر عن السلام في زعم هذا الجاهل: أن خروجه مع إبله وغنمه معصية، وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك مباح، فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاة يرعونها، وقال الفضل بن العباس: " زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا " 1.
وأما من هاجر ثم رجع إلى البادية، منتقلا عن دار هجرته، فإنه عاص ومرتكب كبيرة، إذا لم يكن من نيته الرجوع، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن كان مقصوده الهوى، والتعمق والتكلف، والتضييق على نفسه، وعلى غيره، من غير دليل شرعي، فهو شبيه بمن انحرف عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والضلال.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات". وذلك حين سأل نفر من أصحابه، عن عبادته صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا أصوم ولا أفطر، وأصلي ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن النسائي : كتاب القبلة (753) , وسنن أبي داود : كتاب الصلاة (718) , ومسند أحمد (1/211 ,1/212).(12/133)
ص -133- ... ولما قام أبو إسرائيل في الشمس، أمره أن يستظل ; ومن المعلوم أن مقصود هؤلاء النفر، الحرص على الخير، وطلب الزيادة في العبادة، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الزيادة على المشروع ضرر على صاحبها، وسبب لخروجه عن الصراط المستقيم، ومضاهاته للمغضوب عليهم، والضالين.
[إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له]
ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين: اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان، فلا يتلقى العلم إلا عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين، الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة.
والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف، أخذ الدين عن أهله، كما قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين، ولم يعرضها على العلماء، بل يعتمد على فهمه، وربما قال: حجتنا مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام، فإن هذا جهل وضلال.
ومن المعلوم: أن أعظم الكلام وأصحه، كلام الله العزيز؛ فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ(12/134)
ص -134- ... لا يعرف معناه، أو أوله على غير تأويله، فقد ضاهى الخوارج المارقين، فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها، ولا ما يراد بألفاظها؟!
والكتب أيضا فيها من الأحاديث: الصحيح والضعيف، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، فإذا لم يأخذ العامي عن العلماء النقاد، الذين هم للحديث بمنْزلة الصيارفة للذهب والفضة، خبط خبط عشواء، وتاه في وادي جهالة عمياء.
وقد قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في "كتاب أصول الإيمان" باب قبض العلم، ثم ذكر حديث زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ذلك حين أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرئ القرآن أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك امك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى، يقرؤون التوارة والإنجيل، ولا يعملون بشيء مما فيهما " رواه أحمد وابن ماجه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم ما يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده.(12/135)
ص -135- ... وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق؛ وعليكم بالعتيق " رواه الدارمي بنحوه، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1 انتهى.
إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغنى بمجموعة التوحيد، عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء، فإذا ذهب العلماء واتخذ الناس رؤساء جهالا، وسألوهم وأخذوا بفتواهم، ضلوا وأضلوا، عياذا بالله.
ومما أدخل الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له، فإن هذا من أعظم المعاصي، وهو من دين الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال: " اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ".
فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته، لأنه نائب المسلمين والناظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (100) , ومسلم : العلم (2673) , والترمذي : العلم (2652) , وابن ماجه : المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي : المقدمة (239).(12/136)
ص -136- ... في مصالحهم، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم، لأن بولايته يستقيم نظام الدين، وتتفق كلمة المسلمين، لا سيما وقد من الله عليكم بإمام ولايته ولاية دينية، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين، خصوصا المتدينين، بالإحسان إليهم ونفعهم، وبناء مساجدهم وبث الدعاة فيهم، والإغضاء عن زلاتهم وجهالاتهم.
ووجود هذا في آخر هذا الزمان، من أعظم ما أنعم الله به على أهل هذه الجزيرة، فيجب عليهم شكر هذه النعمة ومراعاتها، والقيام بنصرته والنصح له باطنا وظاهرا. فلا يجوز لأحد الافتيات عليه، ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه؛ ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين، وفارق جماعتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله " 1 والمراد بالأمير في هذا الحديث: من ولاه الله أمر المسلمين، وهو الإمام الأعظم.
وقال ابن رجب في "شرح الأربعين" له: وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأحكام (7137) , ومسلم : الإمارة (1835) , والنسائي : البيعة (4193) , وابن ماجه : الجهاد (2859) , وأحمد (2/270 ,2/313 ,2/467 ,2/471 ,2/511).(12/137)
ص -137- ... وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا خمسا، الجمعة والجماعة، والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر).
وخرج الخلال في كتاب الإمارة، من حديث أبي أمامة، قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حين صلوا العشاء: أن احشدوا، فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح، قال: "هل حشدتم كما أمرتم؟ قالوا: نعم، قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم، قال: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هل عقلتم هذه" ثلاثا، قلنا: نعم، قال: اسمعوا وأطيعوا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم. قال: فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتكلم كلاما طويلا، ثم نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع الأمر كله ".
[التهاجر على غير سبب يوجب ذلك]
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان في المسلمين، لينال بها مقصوده من إغوائهم، واختلاف كلمتهم وتفرقهم، ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ينافي ما عقده الله بين المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتواد، والتراحم والتعاطف، كما قال(12/138)
ص -138- ... النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " 2.
وقال الله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 103] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية : 53] وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [سورة الأنفال آية : 46] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم " 3 الحديث.
وقد تقدم أن هجر أهل المعاصي يشرع، إذا كانت المصلحة بذلك راجحة على مفسدته، فإذا لم تكن فيه مصلحة راجحة لم يشرع، لما يترتب على ذلك من المفاسد، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، والهجر إنما شرع تأديبا وتعزيرا، بترك السلام عليه، وعدم تكليمه، حتى ينْزجر عن معصيته، وأما ضربه وتعنيفه، فلا أصل له في الشرع.
ومن نسب إلى الشيخ الإمام عبد اللطيف، رحمه الله أنه يضرب كل من سافر إلى بلاد المشركين، فقد افترى؛ والناقل لذلك يطالب بصحة ما نقل عنه، وإن صح من ذلك شيء، فهو محمول على بعض المنتسبين، الذين يقتدى بهم، ويغتر بهم الجهال، والله المسؤول المرجو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6011) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270).
2 البخاري : الصلاة (481) والمظالم والغصب (2446) والأدب (6027) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي : البر والصلة (1928) , والنسائي : الزكاة (2560) , وأحمد (4/405).(12/139)
3 البخاري : الأدب (6065) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2559) , والترمذي : البر والصلة (1935) , وأبو داود : الأدب (4910) , وأحمد (3/110 ,3/165 ,3/199 ,3/209 ,3/225) , ومالك : الجامع (1683).(12/140)
ص -139- ... الإجابة أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآلة وصحبه وسلم.
[ أمر الله بالاجتماع على الدين ]
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا من أهل الأرطاوية، والغطغط وغيرهم، من عتيبة، ومطير، وقحطان، وغيرهم من إخواننا المسلمين، نور الله قلوبنا وقلوبهم بنور العلم والإيمان، وجعلنا وإياهم من أتباع السنة والقرآن، وأعاذنا وإياهم من زيغ القلوب ونزغات الشيطان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه الكتاب المبين، وجعله هدى للمتقين، وشفاء ورحمة للمؤمنين، وحجة على المبطلين، وضمن الرحمة والسعادة، والفلاح والهدى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، لمن اتبعه وعمل بما فيه.
وتوعد من خالفه أو أعرض عنه، بأنواع من الوعيد قال تعالى:{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ(12/141)
ص -140- ... تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية : 155].
وقال تعالى :{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [سورة ص آية : 29] وقال تعالى:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه آية : 123-126] قال بعض السلف: تكفل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
ومما أمر الله به في كتابه المبين، وأوحاه إلى رسوله الأمين، الحث على الاجتماع على الدين، والاعتصام بحبله المتين، واتباع سبيل المؤمنين، واجتناب ما ذمه الله سبحانه، من أخلاق من ذمهم في كتابه، من أهل التفرق والاختلاف، والمشاقة له ولرسوله، ومخالفة أهل الصراط المستقيم.
قال الله تعالى:{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية : 13] وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 102-103].(12/142)
ص -141- ... وقال تعالى:{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [سورة آل عمران آية : 104-106] قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف.
وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1.
ومن أعظم: أسباب التفرق والاختلاف، والعدول عن طريق الحق والإنصاف: ما وقع من كثير من الناس، من الإفتاء في دين الله بغير علم، والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا فهم، فإن الله تعالى قد حرم القول عليه بغير علم، في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكام.
وجعل ذلك قرينا للشرك، الذي هو أعظم المحرمات، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية : 33] وقال تعالى:{ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).(12/143)
ص -142- ... هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } [سورة النحل آية : 116]. وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية : 144].
وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون فى آخر الزمان، من قبض العلم بذهاب أهله، وظهور الجهل، واتخاذ الناس من الجهلة المفتين بالفتوى المضلة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
وقال تعالى في هذا الصنف من الناس: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية : 25] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لاينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"1.
ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين: الاستخفاف بولاية المسلمين، والتساهل بمخالفة إمام المسلمين، والخروج عن طاعته، والافتيات عليه بالغزو،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : العلم (1017) , والترمذي : العلم (2675) , والنسائي : الزكاة (2554) , وابن ماجه : المقدمة (203) , وأحمد (4/357) , والدارمي : المقدمة (512 ,514).(12/144)
ص -143- ... وغيره، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، وقد قيل:
تهدى الأمور بأهل الرشد إن رشدت ... وإن تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا صلاح إذا جهالهم سادوا
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وأنا آمركم بخمس، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1 وفي الحديث " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2.
ومن ذلك: ما وقع من غلاة هؤلاء، من اتهام أهل العلم والدين، ونسبتهم إلى التقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه وتعالى، وكتمان ما يعلمون من الحق، ولم يدر هؤلاء: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344).
2 الترمذي : العلم (2658).(12/145)
ص -144- ... وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية : 58] شعرا:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من ... اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ومن ذلك: ما التزموه وألزموا به غيرهم من أعراب المسلمين، من ترك سكنى البادية، والتزام الحضر، وإنشاء العمران والبنيان، والتشديد في أمر العمائم، والعدوان على كثير من أهل الإسلام والتوحيد، بالضرب الشديد، والهجر والتهديد، إلى غير ذلك من الأمور التي خرجوا بها عن حكم العقل والعدل والإنصاف، وانتظموا بها في سلك أهل الجهل والظلم والاعتساف، وهم مع ذلك يحسبون أنهم مهتدون، ويزعمون أنهم مصلحون{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [ سورة البقرة آية: 12].
وهذه الأمور ونحوها، يكفي في ردها مجرد الإشارة والتنبيه، دون بسط القول فيها واستقصاء الأدلة على ردها، فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية : 281] ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 103] ونسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه(12/146)
ص -145- ... المستقيم، ويجنبنا موجبات غضبه، وعذابه الأليم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[ يجب الإخلاص ولزوم الجماعة وأخذ العلم من حملته ]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من نظر في هذا الكتاب من إخواننا، من أهل الأرطاوية، وغيرهم من أهل البلدان، وفقنا الله وإياهم لصالح العمل، وجنبنا سبل أهل الغواية والضلالة والزلل، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، على ما أولاه من نعمه العظام، التي أعظمها وأجلها نعمة الإسلام وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، في السر والعلانية، فإنها خير الوصايا، وأعظم الفضائل والمزايا، أوصى بها سبحانه عباده في كتابه، وكرر الأمر بها فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه وخطابة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية : 131] وقال تعالى {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية 71].
وهذه وصية نافعة، وللحث على اتباع أوامره واجتناب(12/147)
ص -146- ... نواهيه جامعة، وأصل ذلك ما يودعه الله- سبحانه وتعالى- في قلب العبد، من معرفته ومحبته، وخشيته والخوف منه، والإنابة إليه، والرضى به ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
ومن أعظم ما يجب علينا وعليكم، مما تضمنته هذه الوصية الإلهية: إخلاص العبادة لله، ومناصحة جميع المسلمين، ولزوم جماعتهم، والتزام السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وترك التفرق والاختلاف، كما جاءت بذلك الآيات المحكمات، وثبتت به الروايات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية : 102-103] إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [سورة آل عمران آية : 104-106] الآية قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف.
وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [سورة المائدة آية : 2] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا(12/148)
ص -147- ... الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية : 18-19].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 و " قال صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم ".
ولعلكم تعلمون أن أكبر أسباب السعادة والفلاح في المعاش والمعاد: الانتظام في سلك أهل الحق والرشاد، وأعظم أسباب السلامة الهرب من سبل أهل الغي والفساد، واقتباس نور الهدى من محله، والتماس العلم النافع من حملته وأهله، وهم أهل العلم والدين، الذين بذلوا أنفسهم في طلب الحق وهداية الخلق، حتى صاروا شهودا لهم بالهداية والعدالة، وصانوا أنفسهم عن صفات أهل الغي والضلالة.
لا من سواهم من أهل الجهل والضلال، الذين ضلوا وأضلوا كثيرا من العباد، وتكلموا في دين الله بالظن والخرص، وصاروا فتنة للمفتونين، ورؤساء للجاهلين، فكانوا هم وأتباعهم، كالذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أتباع كل ناعق، يميلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).(12/149)
ص -148- ... مع كل داع لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق).
وقد بلغني عن هذا الجنس، الوقوع في أهل العلم والدين، وإساءة الظن بهم، ونسبتهم إلى ترك ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا من جهلهم، وعدم مبالاتهم بما يقعون فيه من الغيبة لأهل العلم، وثلبهم إياهم، وذمهم وانتقاصهم، ومن وقع في أهل العلم بالعيب والثلب، ابتلاه الله بموت القلب.
وقد ذكرنا لكم في هذه الصحيفة، وما قد سبق لكم منا، ومن غيرنا من إخوانكم، من أهل العلم، من النصائح في الرسائل والمكاتبات، المتضمنة للحث على لزوم جماعة المسلمين، وامتثال أمر من ولاه الله أمرهم، والاقتداء بأهل العلم والدين، وقبول النصيحة منهم، وترك التفرق والاختلاف، واجتناب داعي الهوى والشقاق والخلاف، وذكر أدلة ذلك، والترغيب فيه، وذم من خالفه وأعرض عنه، ما فيه كفاية لمن أراد الله به خيرا، وأما من غلب عليه الهوى، ولم يكن قصده التماس الحق والهدى، فلا حيلة فيه.
تالله ما بعد البيان لمنصف ... إلا العناد ومركب الخذلان
وحقيق من هذا شأنه أن ينتقل معه بعد الدعوة إلى(12/150)
ص -149- ... الحق والجدال، إلى مرتبة العقوبة والنكال، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ثم إنه ذكر لي: أن بعض هؤلاء الجهلة المغرورين، إذا نصح من عندهم من أهل العلم، انتقل من بلده إلى بلد آخر، قاصدا تحيزه إلى من هو من جنسه، واجتماعه بمن هو على رأيه الفاسد.
وهذا من أسباب الفساد، ووقوع الشر والاختلاف بين العباد؛ فينبغي عدم موافقة هؤلاء على ذلك، وإلزام كل إنسان منهم بسكنى البلد الذي هو فيه، فإن كان قصده طلب الحق والعلم، فعنده من يدله عليه. وعلى أهل البلدان أن ينتبهوا لذلك، وأن يمنعوا من جاءهم من هذا الجنس، من السكنى عندهم، إذا انتقل من بلده لهذا المقصد الرديء.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد.
[حث الإمام الإخوان على لزوم طريقة مجدد الدعوة]
وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فهذه عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذي أظهر الله به الدين في(12/151)
ص -150- ... نجد، بعد أن كانوا في ضلال مبين، وقوم شرائع الدين، بعدما وهت أركانه بين العالمين، في مراسلاته ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله.
قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم رحمة الله وبركاته.
وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين، ينكر منكرا وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 102-103] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ".
وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى ; وأنتم محتاجون إلى الحرص على فهم هذا والعمل(12/152)
ص -151- ... به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين، من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.
وأيضا يذكر العلماء: أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه، وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة- لو صار أهل الدين واجبا عليهم إنكار المنكر- فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا.
وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم، لازم: تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله.
[كيفية أمر ولي الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر]
والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية، ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجل يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية، وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ثم يرسلونها لحرمة، والمجمعة، والغاط،(12/153)
ص -152- ... والزلفى، والله أعلم 1.
إذا تحققتم ذلك، فاعلموا أيها الإخوان: هل أنتم على طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في عقيدته، ومراسلاته، ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله؟ أم أنتم مخالفون له في ذلك، غير متبعين له في أقواله ورسائله ومناصحاته؟ ومتبعون في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
فتأملوا رحمكم الله، ما قاله شيخ الإسلام في هذه الرسالة، التي أجاد فيها وأفاد، حيث قال: وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب، ولكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية : 102-103] الآية.
إلى قوله: ويذكر العلماء أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببة افتراق، لم يجز إنكاره- إلى أن قال- والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدمت في صفحة: 119 - 121 .(12/154)
ص -153- ... يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية.
إذا فهمتم ذلك، وتحققتم أنه لا يجوز إنكار المنكر ظاهرا، فالواجب على المسلم: أن ينكر المنكر على من أتى به بخفية، خصوصا إن كان على أمير، فإن إنكار المنكر على الولاة ظاهرا، مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته، فإن لم يقبل المناصحة خفية، فليرد الأمر إلى العلماء، وقد برئت ذمته.
وإنكار المنكر على الولاة ظاهرا من إشاعة الفاحشة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [سورة النور آية : 19] وإطلاق الفاحشة لفظ عام، يدخل فيه كل ما كان منكرا، وإعمال المطي بين الإخوان، واجتماعاتهم لأجل إنكار المنكر ظاهرا، مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة من العلماء، ولما كان عليه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في هذه الرسالة؛ وهذا منا إعذار وإنذار، لئلا يحتج أحد علينا أنا لم نناصحهم في ذلك، ولم نبين لهم ما عندنا.
وقد سمعنا في الأيام الماضية، ما أجمع عليه الإخوان في هذا الأمر، ولم يمنع المشائخ مناصحتهم في ذلك، إلا ما ذكروه في مراسلاتهم للمشائخ: أنهم على عقيدتهم، وأنه(12/155)
ص -154- ... ليس لهم رأي يخالف رأيهم، وأنهم لا يبدرون في شيء إلا بمراجعتهم، فلما مضوا فيما مضوا فيه، ولم يرفعوا للمشائخ خبرا بذلك، تحققنا أنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية : 2-3].
وأيضا: فها هنا مسألة أخرى، يجب التنبيه عليها، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهي ما ورد في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1.
ومن سنة الخلفاء الراشدين- أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم- أنهم هم الذين بعثوا البعوث، وجندوا الأجناد، وفتحوا الفتوحات العظيمة، كمصر، والشام، والعراق، والفرس، وأنفقوا خزائنها في سبيل الله، كما هو مشهور من سيرتهم، ولم يقل أحد من الصحابه والتابعين رضي الله عنهم: إنا نحن الذين فتحنا هذه الأمصار، بل ذكر العلماء أن الذي فتحها هم الخلفاء الراشدون.
وذكروا أيضا: أن عمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، والخلفاء الراشدون، لم يخرجوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4607) , والدارمي : المقدمة (95).(12/156)
ص -155- ... من المدينة، ولم يروا هذه الأمصار بأعينهم، إلا ما كان من مسير عمر للشام، لفتح بيت المقدس، وهم الذين تولوا خراجها، ولم يتول خراجها من أرسلهم الخلفاء، إلى هذه الأمصار والأقطار، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين.
وآخر من كان على هذه الطريقة المرضية، شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، وآل سعود، رحمهم الله تعالى، فإنه لما سار عثمان المضايفي، وعبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وربيع، ومبارك بن روية بالدواسر، وهادي بن قرملة بقحطان، وحصل بينهم الوقعة المشهورة، هم وراجح الشريف، ثم بعد ذلك حاصروا مكة المشرفة، حتى أذعنوا بالصلح، وطلب منهم غالب الشريف الصلح، فلم يقبلوا منه إلا بعد مراجعة الإمام سعود، فأمر بإتمام الصلح، وحج من العام المقبل بجميع المسلمين، ودخلوا مكة آمنين من غير قتال.
ولم يقل أحد من العلماء في تاريخهم، أن الذي فتحها هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وإنما ذكروا أن الذي فتحها سعود، وهو الذي تولى خراجها، ولم يتول خراجها أحد ممن ذكرنا، ولم نسمع في قديم زمان أو حديثه، ممن سلف من الأئمة، ولا من خلف ممن بعدهم، أنهم قالوا بمثل قول هؤلاء. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد.(12/157)
ص -156- ... [ مجرد المصالحة لا يكون موالاة ]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من تصل إليه هذه النصيحة، من إخواننا المسلمين، جعلهم الله على الحق متعاونين، ولطريق أهل الزيغ والبدع مجانبين، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب لهذه النصيحة، هو ما أخذ الله علينا من الميثاق، في بيان ما علمنا من الحق، وخفي على غيرنا، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [سورة آل عمران آية : 187] وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، ثلاثا. قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "1، وقال صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، وقال عليه الصلاة والسلام: " المؤمن مرآة أخيه " 2.
وأيضا: ما بلغني عن بعض الإخوان، من خوض بعضهم في بعض، وكذا في ولي أمرهم، فعن لي أن أذكر كلمات، لعل الله أن ينفع بها، وأسأل الله التوفيق والإعانة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).
2 الترمذي : البر والصلة (1929) , وأبو داود : الأدب (4918).(12/158)
ص -157- ... وأعوذ به من اتباع الهوى والإهانة، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، ومن قضى عليه بالشقاء فلا حيلة في الأقدار.
فأقول مستمدا من الله الصواب، معتمدا عليه في دفع ما دهى من الحوادث وناب: اعلموا جعلني الله وإياكم ممن علم وعمل، أن القول على الله بغير علم، أعظم من الشرك، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية : 33] فجعل القول عليه بغير علم في مرتبة فوق الشرك.
وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم، أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم، بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك، أنها هي موالاة المشركين، المنهي عنها في الآيات والأحاديث، وربما فهمتم ذلك من "الدلائل" التي صنف الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، ومن سبيل النجاة للشيخ حمد بن عتيق.
فأولا: نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم.
وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل(12/159)
ص -158- ... النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم.
والإمام وفقه الله لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا بد له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب، والمشايخ رحمهم الله، كالشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد اللطيف. والشيخ حمد بن عتيق، إذا ذكروا موالاة المشركين، فسروها بالموافقة والنصرة، والمعاونة والرضى بأفعالهم؛ فأنتم وفقكم الله، راجعوا كلامهم، تجدوا ذلك كما ذكرنا.
قال الشيخ حمد بن عتيق، فيما نقله عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ، رحمهم الله: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " 1 على ظاهره، وهو: أن الذي يدعى الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنْزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام، إلا أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الجهاد (2787).(12/160)
ص -159- ... يكون يظهر دينه ولا يتولى المشركين، انتهى.
فانظر وفقك الله إلى قوله في هذه العبارة: وكون المشركين يعدونه منهم، يتبين لك أن هذا هو الذي أوجب كفره، وأما مجرد الاجتماع معهم في المنزل، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء آية : 144] يعني: معهم في الحقيقة، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم إنا معكم، فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة.
فأنتم وفقكم الله، الواجب عليكم التبصر، وأخذ العلم عن أهله، وأما أخذكم العلم من مجرد أفهامكم، أو من الكتب، فهذا غير نافع، ولأن العلم لا يتلقى إلا من مظانه وأهله، قال تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية : 43] وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [سورة النساء آية : 83] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية : 59].
وقال شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد بن تيمية، رحمه الله، في "المنهاج" بعد كلام سبق: ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بالولاة، وأنه لو تولى من هو دون(12/161)
ص -160- ... هؤلاء، من الملوك الظلمة- يعني يزيد، والحجاج ونحوهما- لكان ذلك خيرا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا إمام.
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة. قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبل، وتقام بها الحدود، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء " ذكره علي بن مهدي في "كتاب الطاعة والمعصية".
وقال فيه أيضا: وأهل السنة يقولون، إنه- أي الإمام- يعاون على البر والتقوى، دون الإثم والعدوان، ويطاع إلى طاعة الله دون معصيته، ولا يخرج عليه بالسيف، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا، كما في الصحيحين قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل، فقتلته جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه ".
فذم الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، وجعل ذلك ميتة جاهلية، لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، - إلى أن قال -: وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه بعد ذلك يقوم أئمة،(12/162)
ص -161- ... لا يهتدون بهديه، ولا يستنون بسنته، ويقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك; فبين: أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو كان ظالما.
وكذلك في الصحيح من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 1، وفي الصحيحين وغيرهما، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 2.
وفي صحيح مسلم، عن عرفجة بن شريح، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان " 3، وفي لفظ " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1851) , وأحمد (2/70 ,2/83 ,2/93 ,2/97 ,2/111 ,2/123 ,2/133 ,2/154).
2 البخاري : الفتن (7056) , والنسائي : البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه : الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك : الجهاد (977).
3 مسلم : الإمارة (1852) , والنسائي : تحريم الدم (4020 ,4021 ,4022) , وأبو داود : السنة (4762) , وأحمد (4/261 ,4/341 ,5/23).(12/163)
4 مسلم : الإمارة (1852) , والنسائي : تحريم الدم (4020 ,4021 ,4022) , وأبو داود : السنة (4762) , وأحمد (4/261 ,4/341 ,5/23).(12/164)
ص -162- ... ننابذهم؟ قال: لا، ما صلوا " 1.
وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فلينكر ما يأتي من معصية الله، ولا ينْزعن يدا من طاعة" 2 وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج، هو أصلح الأمور للعباد، في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا، لا يحصل بفعله صلاح، بل فساد، انتهى.
وقال الشيخ: في "السياسة الشرعية": ويجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، لأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من أمير حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم " 3 رواه أبو داود من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وروى الإمام أحمد في المسند، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم " 4.
فأوجب على تأمير الواحد في الجمع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1854) , والترمذي : الفتن (2265) , وأبو داود : السنة (4760) , وأحمد (6/295 ,6/302 ,6/305 ,6/321).
2 مسلم : الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي : الرقاق (2797).
3 أبو داود : الجهاد (2608).
4 أحمد (2/176).(12/165)
ص -163- ... ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والأعياد، ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك؛ ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 رواه مسلم، وقال: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2 رواه أهل السنن.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة، ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"3, فالواجب: اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله عز وجل، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، أفضل القربات، انتهى.
وقال في "غذاء الألباب": لا ينبغي لأحد أن ينكر على السلطان، إلا وعظا وتخويفا له، وتحذيرا من العاقبة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).
2 الترمذي : العلم (2658).
3 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(12/166)
ص -164- ... الدنيا والآخرة فيجب ; قال القاضي: ويحرم بغير ذلك ; قال ابن مفلح: والمراد ولم يخف منه، بالتخويف والتحذير، وإلا سقط وكان حكم ذلك كغيره.
قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا- يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك - وما نرضى بإمارته، ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزعهم أيديهم من طاعته- صوابا، هذا خلاف الآثار.
وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يأمر بالكف عن الأمراء، وينكر الخروج إنكارا شديدا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكف، أي: يجب الكف، لأنا نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما صلوا) فلا تنْزع يدا من طاعتهم، مدة ما داموا يصلون، خلافا للمتكلمين في جواز قتالهم، كالبغاة؛ وفرق القاضي بينهما من جهة الظاهر والمعنى، أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة، بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [سورة الحجرات آية : 9] الآية، وفي مسألتنا أمره بالكف عن(12/167)
ص -165- ... الأئمة، بالأخبار المذكورة، وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بإمام، وفي مسألتنا يحصل قتالهم يغير إمام، انتهى.
قال الإمام: عبد الله بن المبارك، رحمه الله ورضي عنه:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وفي وصية عمرو بن العاص رضي الله عنه: (يا بني احفظ علي ما أوصيك به، إمام عدل خير من مطر وبل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم) انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "المنهاج": ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون، ولا يكفرون، وسبب ذلك: أن أحدهم قد يظن أن ما ليس بكفر كفرا، انتهى.
فانظروا وفقكم الله، في كلام هؤلاء الأئمة، في حق ولاة الأمر، وحثهم على عدم منازعتهم للأمراء، وتقرير وجوب السمع والطاعة لهم، وإن كان فيهم ما فيهم من الأمور التي ينكرها الشرع، ما لم يظهر منهم كفر بواح; وإمامكم حفظه الله، وأعاذه من مضلات الفتن، وإن كنا لا نعتقد عصمته، فإنه قد أصغى إلى قبول النصيحة من كل(12/168)
ص -166- ... ناصح، وجد في إزالة ما قدر عليه من المنكرات.
ونرجو الله أن يعينه على إزالة كل ما أنكره الشرع المطهر، ولا يكله إلى نفسه طرفة عين؛ وقد انتظم به من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى. هذا، والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم وإياه، لسلوك الصراط المستقيم، ويجنب الجميع طريقة أصحاب الجحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ما من الله به على بادية نجد من الإقبال، وما زين الشيطان لهم من التفرق]
وقال الشيخ: عمر بن محمد بن سليم، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عمر بن محمد بن سليم، إلى كافة الإخوان من أهل الأرطاوية، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء المضلة، والسبل المفضية بسالكها إلى طرق الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة 1 إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي قصده الحق، فإن الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتتفق في بعض عباراتها مع رسالة الشيخين: محمد بن عبد اللطيف, وعبد الله العنقري, المتقدمة في الصفحات: 126 - 139 .(12/169)
ص -167- ... سبحانه لما من على بادية المسلمين من أهل نجد، في آخر هذه الأزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، وأيس أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، أخذ في فتح أبواب الشر، وحسنها لهم، وزينها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهو المتمسك بملة إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم.
وهذا من كيد اللعين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الشيطان يشم قلب العبد، فإن رأى فيه كسلا، سعى في رده عن دينه بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحد، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، فإذا أخبر بالمشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ومن الأمور التي زينها الشيطان: التفرق والاختلاف في الدين ; وسبب ذلك: كلام أهل الجهل بأحكام الشرع، فلو سكت الجاهل سقط الاختلاف؛ والكلام في دين الله بغير علم، وخوض الجاهل في مسائل العلم، قد حرمه الله تعالى في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية : 33].
ومن كيد الشيطان أيضا، الذي صدهم عن تعلم العلم(12/170)
ص -168- ... وطلبه: إتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع؛ فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ومن زهد في الأخذ عنهم، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين؛ والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله، فإن الفرض الواجب، واللازم لعوام المسلمين، سؤال العلماء وأتباعهم، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية : 43].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنما شفاء العي السؤال " 1 أي: سؤال العلماء، وقال: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ".
وأما من رغب عن سؤال العلماء، أو قال: حجتنا الكتاب الفلاني، أو مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك، فإن هذا جهل وضلال. فإن أعظم الكلام كتاب الله، فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ لم يفهم معناه، وأوله على غير تأويله، فقد ضاهى أهل البدع المخالفين للسنة؛ فإذا كان هذا حال من اكتفى بظاهر القرآن، عما بينته السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها.
والكتب أيضاً فيها الصحيح والضعيف، والمطلق،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطهارة (336).(12/171)
ص -169- ... والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ؛ فإذا لم يؤخذ العلم عن العلماء النقاد، الذين من الله عليهم بفهم الكتاب والسنة، ومعرفة ما عليه السلف الصالح والأئمة، وقع في الجهل والضلال، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
إذا عرف هذا، تبين: أن الذي يستغنى بمجموعة التوحيد، أو يقلد من يقرؤها عليه، وهو لا يعرف معناها، قد وقع في جهل وضلال، بل يجب عليه الأخذ عن علماء المسلمين.
ومن كيد الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر، وعدم الطاعة له، وهو من دين أهل الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه وهواه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال " اسمع وأطع، وإن أخذ مالك، وضرب ظهرك ". فتحرم معصية ولي الأمر، والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته، وفي معاقدته ومعاهدته، ومصالحته الكفار.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم حارب وسالم، وصالح قريشا صلح(12/172)
ص -170- ... الحديبية، وهادن اليهود وعاملهم على خيبر، وصالح نصارى نجران، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده؛ ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك، لأنه نائب المسلمين، والناظر في مصالحهم؛ ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو، وغيره، وعقد الذمة، والمعاهدة، إلا بإذنه.
فإنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر، من أعظم أسباب الفساد، في البلاد والعباد.
ومن كيد الشيطان أنه غلظ أمر الأعراب عند بعض الناس، حتى صار منهم من يتجاوز الحد الشرعي، وحكم عليهم بأحكام مخالفة للكتاب والسنة، فمن الناس من يرى جهادهم حتى يلتزموا سكنى القرى، أو أنهم لا يستقيم لهم دين حتى يهاجروا، فالواجب على كل مسلم رد ما تنازع فيه المتنازعون، إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى.
ومن علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعراب الذين في زمانه، وسيرة الخلفاء الراشدين، تبين له الحق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [سورة التوبة آية : 5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية : 11].(12/173)
ص -171- ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي في صحيح مسلم، أنه كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، إلى قوله: " ثم ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك لذلك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " 1.
فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة إلى القرى، ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
وقال ابن القيم رحمه الله- في الهدي النبوي، في آخر الوفود- وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا ".
نعم: يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب بشرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وبعث دعاة يعلمونهم شرائع الإسلام. إذا علمت أنه لا يجوز إلزامهم بغير ذلك، تبين لك أنه لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجهاد والسير (1731) , وأبو داود : الجهاد (2612) , وابن ماجه : الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358).(12/174)
ص -172- ... هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من كان مجاهرا بالمعاصي، وهذا ليس خاصا بالأعراب.
نعم حديث بريدة يدل على استحباب الهجرة لأعراب المسلمين والحالة هذه، وترغيبهم فيها، ولما يترب على الهجرة من تعلم شرائع الإسلام، وشهود الجمع والأعياد. ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا هاجر، وسكن قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، وخرج ليرعاها في وقت من الأوقات، ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل، هجر عن السلام، وفي زعم الذي هجره: أن خروجه مع ماشيته معصية؛ وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك قد أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاه يرعونها، وقال الفضل بن عباس: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان على بعض الناس لينال بها مقصوده من إغوائهم، وتفريق كلمتهم، وإلقاء البغضاء بينهم، التي هي الحالقة- أي حالقة الدين- ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف للكتاب والسنة ; وهذا ينافي ما عقده الله بين(12/175)
ص -173- ... المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتراحم، والتواد والتعاطف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " 2 وشبك بين أصابعه، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران آية : 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه " 3 الحديث.
ومن كيد الشيطان: ما زينه لبعض الناس من الاستطالة على الناس بالضرب والتعنيف، والكلام السيء، والتوعد للناس، وتعيير الناس وعيبهم، والطعن عليهم، فحسن لهم الشيطان ذلك، وأدخل عليهم أن ذلك من باب الأمر بالمعروف، وإنكار المنكر، وهذه الأفعال من أعظم المنكرات، واستحلالها واعتقاد أنها من الدين أكبر من فعلها. وهؤلاء لم يفهموا إنكار المنكر، الذي جاءت به الشريعة، فإن إنكار المنكر، إزالة المنكر، لا ضرب فاعله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6011) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/268 ,4/270 ,4/271 ,4/274 ,4/276 ,4/278 ,4/375).
2 البخاري : الصلاة (481) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي : البر والصلة (1928) , والنسائي : الزكاة (2560).
3 البخاري : الأدب (6076) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2559) , والترمذي : البر والصلة (1935) , وأحمد (3/165 ,3/199 ,3/277 ,3/283).(12/176)
ص -174- ... وأما إقامة الحدود، والتعزير بالضرب والتهديد، والتوعد، فهذا لولي الأمر، دون آحاد الناس، والذي علينا بيان الحق، ونصيحتكم، وإرشادكم إلى ما جاءت به الشريعة. ونسأل الله أن يمن علينا وعليكم، بقبول الحق واتباعه، والثبات عليه، وأن يمن علينا وعليكم بالتوبة إليه، مما يخالف شرعه ودينه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لاتباع السنة والكتاب، وجنبنا طريق أهل الغي والشك والارتياب، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: نظرت في هذه الرسالة الفريدة، والكلمات الطيبة السديدة، التي كتبها أخونا الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله آل سليم، سلمنا الله وإياهم من عذاب الجحيم، ووفقنا وإخواننا لسلوك الصراط المستقيم، فوجدتها مشتملة على بيان الحق، جارية على منوال سبيل أهل العلم والنصيحة والصدق، الداعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وافية بمقصود الإفادة، مع ذكر الدليل. كافية في تقرير الحق وإيضاحه، والدعوة إلى سواء السبيل، لما تضمنته من الآيات(12/177)
ص -175- ... القرآنية، والأحاديث النبوية، والجمل الصالحة السنية المرضية، المشتملة على النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
فينبغي لمن بلغته هذه الرسالة المفيدة أن يعتبرها، ويعتمد عليها، ويدين الله تعالى بما تضمنته، ويحث من عنده من المسلمين، على الأخذ بها، واتباع ما فيها، وعدم مخالفة ما دلت عليه، من الحق الواضح المستبين:
دعوا كل قول غير قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم: إلى الأمير المكرّم، سلطان بن بجاد بن حميد، وعلوش بن خالد، وعبد المحسن بن رجاء، وهندي، وشجاع، وشلويح بن فلاح، سلّمنا الله وإيّاهم من مضلاّت الفتن، السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الكتاب: إبلاغكم السلام، وبيان ما تبرأ به الذمة، وتحصل به النجاة، وتعلمون: أن لي حولا عنكم،(12/178)
ص -176- ... ولم أكتب لكم في هذه المدة مناصحة، لأمرين:
الأول: أني بينت لكم في ذلك مشافهة.
والثاني: أني أخشى عليكم عدم القبول والانتفاع; والآن كتبت لكم نصحا لكم، ومحبة وشفقة عليكم، ولم يطلع على ذلك أحد، واسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
فاعلموا وفقكم الله: أن عقيدتي التي أنا عليها، أني أدين الله بالنصح والمحبة لكم، ولجميع إخواننا المسلمين، إلى أن ألقى الله عز وجل. وأهم شيء أناصحكم فيه، وأعظمه: إجابة داعي الشرع، وأن لا تلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، ومن ذلك إجابة داعي إمام المسلمين، لأنه لم يدع إلى الاجتماع على معصية، وإنما دعا إلى الاجتماع على طاعة الله، وعدم التفرق والاختلاف، وجميع المشايخ يرون ذلك، ويفتون به.
وعدم قدومكم على إمامكم وعلمائكم، من الأمور التي لا يرضى بها لكم، من في قلبه أدنى محبة لكم، أعني المحبة الدينية؛ وهو من أعظم الأمور التي يفرح بها عليكم، وعلى جميع المسلمين، أعداء الدين من الكفار والمنافقين، ومن أعظم أسباب شق العصا؛ وهذا كتاب الله، وتفاسير الأئمة له، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة بشروحها، المبينة للمقصود منها، وفي ذلك كله حل المشكل، وكشف(12/179)
ص -177- ... الاشتباه، والشفاء لكل داء، والكفالة بالفلاح والهدى، والنجاة من المهالك والردى.
قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [سورة الأنعام آية : 38] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء آية : 82] { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [سورة يونس آية : 57] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا وإني أوتيت القرآن، ومثله معه " 1 وقال صلى الله عليه وسلم " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 2.
وهؤلاء علماء المسلمين، الذين هم أعلم الناس بمعنى ذلك، ورثوه عن أئمتهم الذين تخرجوا عليهم، وأخذوه عنهم، وربوهم به، كما يربي الوالد الولد، وكتبوا لهم بذلك الشهادات والوثائق، وهم الذين عدلهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ".
وقد عدلهم الله سبحانه، حيث استشهدهم على وحدانيته، في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية : 18] وجعل لهم القول في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية : 43] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا سألوا إذا لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4604) , وأحمد (4/130).
2 ابن ماجه : المقدمة (44) , وأحمد (4/126).(12/180)
ص -178- ... يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ".
وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية : 27] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الروم آية : 56] فهؤلاء هم الذين يؤخذ عنهم معاني نصوص الكتاب والسنة، ويرجع إليهم فيها، وأما الجهال فلا يلتفت إليهم، في معاني نصوص الكتاب والسنة، لعدم درايتهم وروايتهم، وتخرجهم على العلماء.
والمقصود: بيان وجوب القدوم على إمام المسلمين، وفرضيته عليكم، وليس لكم عذر في التخلف، ولا حجة، فإن ذلك من السمع والطاعة، التي أوجبها الله ورسوله، لا سيما وهو يدعوكم إلى الشريعة، والرجوع فيما يشكل إلى حملتها، فإن كان عندكم إشكال في بعض المسائل، فالواجب عليكم أحد أمرين: إما القدوم وسؤال طلبة العلم مشافهة، أو مراسلتهم وذكر المسائل المشكلة بأعيانها، وطلب الجواب منهم؛ فإذا أجابوكم فعليكم القبول والإذعان، وحسبكم ذلك، ولا يسعكم سواه.
اللهم اهدنا وإخواننا صراطك المستقيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات،(12/181)
ص -179- ... وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم، وأزواجهم ما أبقيتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد.
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن الشيخ عبد الله، والشيخ عبد الله بن زاحم، ومحمد بن عثمان الشاوي، والشيخ عبد العزيز الشثري عن مسجد حمزة، وأبا رشيد، والقوانين، ودخول الحاج المصري بالسلاح، إلى آخره؟
فأجابوا بما نصه: أما مسجد حمزة رضي الله عنه وأبا رشيد: فأفتينا الإمام وفقه الله أن يهدمهما على الفور، وأما القوانين: فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر.
وأما دخول الحاج المصري بالسلاح والقوة، في بلد الله الحرام: فأفتينا الإمام بمنعهم من الدخول بالسلاح(12/182)
ص -180- ... والقوة، ومن إظهار الشرك، وجميع المنكرات.
وأما المحمل: فأفتينا بمنعه من دخول المسجد الحرام، ومن تمكين أحد أن يتمسح به أو يقبله، وما يفعله أهله من الملاهي والمنكرات، يمنعون منهاة وأما منعه بالكلية عن مكة، فإن أمكن بلا مفسدة تعين، وإلا فاحتمال أخف المفسدتين، لدفع أعلاها سائغ شرعا.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد الله بن الشيخ، والشيخ عبد الله بن بليهد، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الله السياري، والشيخ حمد آل مزيد، والشيخ محمد آل عثمان الشاوي، والشيخ علي بن زيد، والشيخ مبارك بن باز، والشيخ فالح آل عثمان، والشيخ سعد بن سعود آل مفلح، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد العزيز الشثري، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم، وعمر بن خليفة، وإبراهيم(12/183)
ص -181- ... السياري، وفيصل بن مبارك، وعلي بن داود، ومحمد بن علي البيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، محمد وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا جواب عن ثلاث مسائل، أوردها بعض الإخوان..
الأولى: مسألة الجهاد، خصوصا جهاد من بنى هذه القصور، في جزيرة العرب، مما يلي العراق، فنقول: الجواب عن هذه المسألة. أما جهاد من بنى هذه القصور، وساعد على ذلك بحمايته، من بادية العراق أو غيرهم، فجهاده حق واجب على المسلمين، ولا يجوز تركهم، حتى تهدم هذه القصور.
الثانية: مسألة الأتيال1: فالجواب عنها أن نقول: قد تقدم جوابنا فيها مرارا، وليس عندنا إلا ما سبق؛ فمن اعترض فيها ونازع ولي الأمر من جهتها، فهو عاص، ونبرأ إلى الله منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المبرقات "التلي جراف".(12/184)
ص -182- ... الثالثة: أن من العشائر الذين دخلوا في ولاية المسلمين، طوائف لم يتعلموا دينهم، بل هم باقون على جهلهم، فالجواب: أن مما أوجب الله ورسوله على ولي الأمر: نشر العلم، وإقامة الدين، وإلزام الناس بتعلم ما يجب عليهم من أمر دينهم، وأداء ما أوجب الله عليهم، من توحيد الله، وترك ما يضاده من الشرك، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والإمام وفقه الله وأعانه: مهتم لهذا الأمر، وقد بعث إلى أكثر القبائل دعاة، يعلمونهم أمر دينهم؛ وإنا نؤمل منه إن شاء الله الاجتهاد التام، وأنه يبعث إلى عموم القبائل، من يقوم بهذا الواجب. وأما الذي ندين الله به، في حقوق الراعي والرعية، فقد بينا ذلك في الرسالة السابقة، المشتملة على ثلاثة فصول، وهي منشورة عند المسلمين. ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وأوصافه العلا أن يمن على الإمام بالقيام بما يجب عليه، وعلى الرعية بالسمع والطاعة. ومن توقف من الرعية، ولم يعمل بما قرره علماء المسلمين، فهو عاص، ونبرأ إلى الله من حاله، والله أعلم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ.(12/185)
ص -183- ... وقال أيضا: بعض من تقدم ذكرهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، وسليمان سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم:
وبعد: فأشرفنا على كتابكم، الذي أرسلتم إلى الإمام عبد العزيز، سلمه الله تعالى، ذكرتم في آخره: أنا لا نجتمع وإياك إن خالفت شيئا مما ذكرنا، إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وهذه كلمة ذميمة، وزلة وخيمة، تدل على أنكم أضمرتم شرا، وعزمتم على الخروج على ولي أمر المسلمين، والتخلف عن سبيل أهل الهدى، وسلوك مسلك أهل الغي والردى، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، وممن فعله أو تسبب فيه، أو أعان عليه، لأنا ما رأينا من الإمام عبد العزيز ما يوجب خروجكم عليه، ونزع اليد من طاعته; وإذا صدر منه شيء من المحرمات، التي لا تسوغها الشريعة، فحسب طالب الحق الدعاء له بالهداية، وبذل النصيحة على الوجه المشروع.(12/186)
ص -184- ... وأما الخروج، ونزع اليد من طاعته، فهذا لا يجوز. وأنتم تزعمون أنكم على طريقة مشائخكم، وأنكم ما تخالفونهم في شيء يرونه لكم؛ ولا ندري من هؤلاء المشائخ، أهم مشائخ المسلمين؟ أم غيرهم، ممن سلك غير سبيلهم، ويريد فتح باب الفتن على الإسلام والمسلمين؟
أين الخط الذي قد شرفتمونا عليه؟ أين السؤال الذي سألتمونا عنه، وأفتيناكم فيه؟ أين الأمر الذي شاورتمونا عليه؟ حتى الخط الذي تدعون أنكم تنصحون الإمام عبد العزيز، عن أمور يفعلها، أنتم مشائخ أنفسكم، تحللون وتحرمون على أنفسكم، ولا ترفعون لنا خبرا في شيء؛ ودعواكم أنكم على طريقة المشائخ، يكذبه ما صدر منكم.
وقد علمتم حقيقة ما عندنا، وما نعتقده من حينما حدث منكم الخوض، وكثرت منكم الخطوط، والمراسلات للإمام، وعرفناكم بما عندنا، وما نعتقد وندين الله به، وهو: وجوب السمع والطاعة، لمن ولاه الله أمر المسلمين، ومجانبة الوثوب عليه، ومحبة اجتماع المسلمين عليه، والبغض لمن رأى الخروج عليه، ومعاداته، اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: " اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم " 1.
والذي نرى لكم: التوبة إلى الله سبحانه، والاستغفار;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الجمعة (616) , وأحمد (5/251).(12/187)
ص -185- ... وعدم التمادي، والاسترسال، مع دواعي الجهل، والغي والضلال، وأن تلتزموا ما أوجبه الله عليكم، من القيام بالواجبات، واجتناب المحرمات، وملازمة طاعة من ولاه الله أمركم؛ وانظروا وتفكروا في أحوالكم سابقا ولاحقا، واعرفوا نعمة ربكم، واشكروه عليها.
فإنكم كنتم أولا في جاهلية عريضة، وحالة عن الحق بعيدة، رؤساؤكم أكثرهم طواغيت كبار، وعوامكم جفاة أشرار، لا تعرفون حقائق دين الإسلام، ولا تعملون من الحق إلا بما تهوى نفوسكم، مع ما كان بينكم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وتعدي حدود الله، وغير ذلك من المحرمات، وعظيم المنكرات.
ثم هداكم الله لمعرفة دينه، والعمل بتوحيده، وسلوك مسلك أهل الإسلام والتوحيد، وانتشرت بينكم كتب السنن والآثار، ومصنفات علماء الإسلام، ثم أنتم الآن: انتقلت بكم الأحوال، إلى أنكم تحاولون الخروج على الإمام، ومنابذة أهل الإسلام، ومفارقة جماعتهم.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 103].(12/188)
ص -186- ... فما أشبه الليلة بالبارحة! وهذا الذي ذكرناه لكم، وأشرنا به عليكم، من السمع والطاعة للإمام، وعدم نزع اليد من طاعته، وعدم الشقاق والخلاف، وترك أسباب التفرق والاختلاف، ومجانبة سبل أهل الغي والضلال، والاعتساف، هو اعتقادنا الذي نحن عليه مقيمون، وله على مر الزمان معتقدون، وبه مستمسكون، وعليه موالون ومعادون، ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية.
ومن نسب إلينا غيره، فهو علينا من الكاذبين الظالمين، وسيجزيه الله بما يجزي به الظالمين والمفترين. فإن تبتم إلى ربكم، ورجعتم عما عنّ لكم واستحسنته نفوسكم، فالحمد لله رب العالمين، والمنة لله في ذلك عليكم، وإن أبيتم إلا الشقاق والعناد، وسلكتم مسالك أهل الغي والفساد، فاعلموا: أنا نبرأ إلى الله منكم، ونشهد الله وملائكته وعباده المؤمنين، على خطئكم وضلالكم، وأنكم قد خالفتم ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وعلماء الملة والدين.
وقد قال تعالى: { َمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية : 115] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الحج (1870) والجزية (3172 ,3180) والفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم : الحج (1370) , والترمذي : الولاء والهبة (2127) , والنسائي : القسامة (4734) , وأبو داود : المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81 ,1/119 ,1/126 ,1/151).(12/189)
ص -187- ... فنسأل الله: أو يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعا مواقع سخطه وعذابه الأليم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[ما يجب من حقوق الإمامة، وأدلة ذلك ]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم طرق الردى والفضائح، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني قد أحببت أن أبين لكم، ما رأيت من أمور الإمام أيده الله، مع هذه الطائفة الباغية، نصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنه ليس الخبر كالعيان، وكنت قبل أظن فيهم بعض المقاصد الحسنة، لما يدعونه من دعوى الجهاد للكفار، فلما بعثني الإمام وفقه الله إليهم، رأيت منهم أمورا ردية، ومقاصد غير مرضية.
ولم أزل أبذل لهم النصيحة، وأحذرهم من أسباب الخزي والفضيحة، وأشير عليهم بالحضور عند الإمام، لأنه نزل معهم إلى غاية، لا تليق بما له من المقام والاحترام، فأبوا الحضور، وتمادوا في العتو والنفور، فلما أعياه(12/190)
ص -188- ... دواهم، وأصروا على متابعة هواهم، أرخى العنان، وأمضى السنان، فعجل حينهم، وفرق ذات بينهم، فنعوذ بالله من الخذلان، ومتابعة الشيطان، فإنه يضل من اتبعه ويغويه، وفي مزلة الهلاك يرميه ويرديه.
هذا، وإني أنصح من كان متابعا لهم اغترارا بدعواهم، أن يراجع الحق، وينظر بعين الإنصاف، ويتوب إلى الله مما جناه من الاقتراف. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى، ومن أصر منهم وأبى، فإن على المسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه، فإن مرامهم الذي راموا، شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم، وهذا غاية الخراب لدين المسلمين ودنياهم.
وأنا أذكر ما يجب اعتقاده على كل مسلم، من حقوق الإمامة على المسلمين، حتى يعلم المنصف ما يجب عليه شرعا، فيمتثل المأمور، وتقوم الحجة على كل معاند، وصاحب فجور.
فأقول: اعلم وفقك الله، أنه قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.(12/191)
ص -189- ... قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [سورة النساء آية : 58-59].
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية" قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم، وحكمهم، ومغازيهم، وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإن تنازعوا في شيء، ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [سورة المائدة آية : 2] وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة(12/192)
ص -190- ... العادلة، والولاية الصالحه، انتهى.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه قال: "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية؛ ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عمية، فقتل، فقتلته جاهلية ; ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه " 2.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فإن نومه، ونبهته، أجر كله ; ومن غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا: " الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 3 أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7056) , والنسائي : البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه : الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/319 ,5/325) , ومالك : الجهاد (977).
2 مسلم : الإمارة (1848) , وأحمد (2/296).
3 مسلم : الإمارة (1839) , والترمذي : الجهاد (1707) , وأبو داود : الجهاد (2626) , وابن ماجه : الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).(12/193)
ص -191- ... ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع " 1. وفي حديث الأشعري الذي رواه الإمام أحمد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن، السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإن من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2.
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه إلا بها، ولا يستقر إلا عليها، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس- إلى أن قال- فإن الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1847).
2 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344).(12/194)
ص -192- ... أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة.
وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى، من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بقوة، وإمارة، ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك.
ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس، لابتغاء الرياسة والمال، انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما السمع والطاعة لولاة المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله).
وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا الجمعة(12/195)
ص -193- ... والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وأن فرقتهم لكفر)، انتهى.
إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام المحققين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين: أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ولرسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها: مناصحتهم على الوجه الشرعي، برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد؛ وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه، واتبع هواه.(12/196)
ص -194- ... ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى: أن يهدينا وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، ويعيذنا وإياهم من نزغات الشيطان الرجيم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد: فهذه رسالة كتبناها، لقصد نصيحة إخواننا المسلمين، واقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"1.
فنوصي إخواننا، بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [سورة النساء آية : 131] وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(12/197)
ص -195- ... تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية : 102-103].
قال بعض السلف، التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، وقال ابن جرير، رحمه الله{ اتَّقُوا اللَّهَ } خافوا الله، وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه; وقال ابن مسعود في الآية الثانية { حَقَّ تُقَاتِهِ }: (أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر).
وقال ابن جرير: وقوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } يعني ذلك جل ثناؤه: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله؛ وقال ابن مسعود: (حبل الله: الجماعة); وقال قتادة: بعهد الله وأمره.
وقوله: { وَلاَ تَفَرَّقُوا }، قال قتادة: (إن الله قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة،(12/198)
ص -196- ... فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله).
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } قال قتادة: " كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب ".
وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } قال ابن جرير، يعني: بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام، وكلمة الحق والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا صادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"1، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2.
والآيات والأحاديث في بيان وجوب الاجتماع على الإسلام، والتناصر فيه، والتعاون على إقامته ووجوب طاعة ولي أمر المسلمين، وعدم التخلف عن طاعته والافتيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك : الجامع (1863).
2 الترمذي : العلم (2658).(12/199)
ص -197- ... عليه، واجتناب التفرق والاختلاف، كثيرة لا نطيل بذكرها.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ وهذه الثلاثة متلازمة، لا يتم بعضها ولا يستقيم بدون بعض، وبها قوام الدين والإسلام، وبها صلاح العباد في معاشهم ومعادهم؛ وإذا وقع الإخلال والتقصير فيها، أو في بعضها، حصل من الشر والفساد بحسب ما وقع من ذلك ولا بد، وهكذا حتى يعظم الفساد، ويتتابع الشر، ويتفاقم الأمر، وينحل النظام، وتتخلف أمور الدين، ويتكلم في دين الله وشرعه وأحكامه بغير علم.
وقد حصل بسبب الإخلال بما تضمنته هذه الآيات، وهذه الأحاديث، وعدم العمل بما دلت عليه، وما ذكره علماء الإسلام قديما وحديثا، وجوب الاجتماع على الإسلام، والتعاون والتناصر عليه، وطاعة ولي أمر المسلمين، وعدم الاختلاف عليه والتخلف عن طاعته، ما وقع من هذه الطائفة الباغية، من شق العصا، والخروج عن طاعة ولي الأمر، حتى فعلوا ما فعلوا من الفساد، من سفك الدماء، ونهب الأموال المحرمة.
وقد اجتهد ـ الإمام وفقه الله- في ردهم إلى الحق، وأكثر من مناصحتهم، حتى بعث إليهم الشيخ عبد الله العنقري، يدعوهم إلى تحكيم الشريعة، والرجوع إلى سبيل(12/200)
ص -198- ... الحق، فأصروا على ما كانوا عليه، ولم يلتفتوا إلى نصح ناصح؛ بل ذكر الشيخ عبد الله: أنه اطلع منهم على أمور ردية، ومقاصد غير مرضية؛ وما زالوا على ذلك، حتى أوقع الله بهم ما أوقع، من الفشل والتشتيت، وذلك بما قدمت أيديهم، ونعوذ بالله من أسباب الخذلان.
فالواجب على من نصح نفسه أن لا يغتر بطريقتهم، ولا يستحسن ما فعلوا. ويجب عليهم وعلى من اغتر بهم، واستحسن ما فعلوا: أن يتوب إلى الله، ويقلع مما اقترفه وجناه. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى; ومن أصر منهم وأبى، فإن على الإمام والمسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه؛ فإنهم شقوا عصا المسلمين، وفرقوا جماعتهم، وسعوا في الأرض بالفساد، ونسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصلى الله على محمد.
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ: عبد الله بن حسن، والشيخ: عبد العزيز، والشيخ: عمر، والشيخ(12/201)
ص -199- ... عبدالرحمن، بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، وفقهم الله آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله تعالى وهداهم، ووفقهم لما يرضي مولاهم، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الكتاب إبلاع السلام، والنصيحة لجميع المسلمين بما ينفعهم، والتحريض على منعهم عما يضرهم، وهذا من التواصي بالحق الذي أمر الله به، من ذلك: أن كثيرا من الناس يتساهلون بأمور يفعلونها، ويتكلمون بها، فيظنون أنهم مصيبون في ذلك، والحال أنهم غير مصيبين في كثير مما يصدر منهم، فيما يتعلق بهذه الأمور، مثل كون كثير من الناس يطلقون السب على عموم الإخوان، من غير فرق بين من يستحق الذم وبين من لا يستحقه.
ولا يفرقون بين من فعل ما لا يجوز له من الأمور الباطلة، مثل المشاقة لولاة المسلمين، والعدوان على أهل الإسلام، في سفك الدماء، ونهب الأموال، والسعي إلى الأرض بالفساد، والوقيعة في المسلمين بالذم والعيب، وبين غيرهم ممن كان مع المسلمين بالقول والفعل، وجاهد مع المسلمين، ولم يخالف ولي أمر المسلمين؛ فهؤلاء ينبغي(12/202)
ص -200- ... للمتكلم أن يبين في كلامه الثناء عليهم، وبيان عدم استحقاقهم للذم، وهذا الأمر يتعين على كل إنسان يتكلم في هذه الأمور، سواء كان من العلماء، أو من العوام.
وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه يجب على العلماء، وولاة الأمور، التحذير من الخوض، والقيل والقال، والكلام الذي يكون سببا، يحصل به التفرق والاختلاف بين المسلمين، وعدم التمييز بين أهل الحق والباطل؛ فالواجب على طلبة العلم، وولاة الأمور نصح من صدر منه شيء مما يخالف الحق، وردعه عن ذلك، وزجره عنه، فإن أبى أن يرجع عما هو عليه، فيؤدب تأديبا يردع أمثاله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد.
ولهم أيضا، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد سألنا الإمام المكرم، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله، عن حكم من جاء تائبا من هذه الطائفة الخارجة عن سبيل المؤمنين، هل تقبل توبته أم لا؟(12/203)
ص -201- ... فنقول: إذا جاء تائبا قبلت توبته، كما قال الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة الشورى آية : 25ب] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 1 وفيه أيضا " من تاب قبل موته، تاب الله عليه"2، إذا علم هذا، فالتوبة لها شروط; وهي: الإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود.
فلا بد في توبته من إظهار الندم على ما صدر منه، من شق عصا المسلمين، ومفارقة جماعتهم، وسل سيف البغي عليهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، والاعتراف بخطئه وضلاله، في المجالس والمحافل، والبراءة ممن خطأ علماء المسلمين، وضللهم.
ولا بد أيضا في توبته، من البراءة ممن ارتد عن الإسلام، بانحيازه إلى المشركين، ودعوته إلى الدخول تحت ولايتهم، وإظهار عداوة المسلمين؛ بل لا بد من تكفيره، ومجاهدته باليد والمال واللسان؛ فإذا حصل منه ما ذكر، قبلت توبته، ووكلت سريرته إلى الله; وصلى الله على محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3537) , وابن ماجه : الزهد (4253).
2 أحمد (2/206).(12/204)
ص -202- ... وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بارك الله فيكم، العمل على نصيحة المشايخ، جزاهم الله خير الدنيا والآخرة، وتفهمون ما منّ الله به علينا، من نعمة الإسلام، وما منّ الله به على المسلمين، من الخير الكثير، في أمور دينهم ودنياهم، ومن أهمها ما حدث في آخر الزمان، من ظهور دين الله، وهو آية الله لهذه البادية، حتى جعل الله فيهم خيرا كثيرا، ونفعهم الله في أنفسهم بالإسلام، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، ونفع الله بهم المسلمين في أمور كثيرة.
ولكن من عوائد الله: امتحان الناس، وتبيين غايتهم، كما قال سبحانه في أول سورة العنكبوت (بسم الله الرحمن الر حيم)،{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية : 1-3] ولا شك أن الفتنة هي الامتحان، ليميز الله الخبيث من الطيب. فلما منّ الله علينا وعليهم بذلك، صاروا ثلاثة أقسام:(12/205)
ص -203- ... قسم: عرف الحق وادعاه، ولكن عميت بصيرته، وانقلب، بل عكس ما يقول، وجرى منه ما جرى من الأفعال والأقوال؛ ولكن الله سبحانه حكيم قادر، من حكمته أن يعرف الناس بأنفسهم، أنه لا حول لهم ولا قوة إلا به وبتوفيقه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا توفيق إلا لمن وفقه الله; وقول الله سبحانه أبلغ :{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [سورة الرعد آية : 11] فلما عكسوا الأمر، أوقع الله بهم ما أوقع، وجعلهم عبرة في مبدأهم ومنتهاهم; والحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وأما القسم الثاني: فهم أتباع كل ناعق، منهم من يريد الحق ولا عرفه، وآخر تدين لقصد، نرجو أن الله يمن على من كان يعلم فيه خيرا، بالهداية والتوفيق، ويكفي المسلمين شر من كان فيه شره.
أما القسم الثالث من الإخوان: فهم الذين من الله عليهم بالثبات، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، والاقتداء بسنة سيد المرسلين، والوثوق بعلمائهم، والالتزام بولايتهم، وجرى منهم من الأفعال الأخيرة ما يحمدون به، ونسأل الله لهم الثبات والهداية، وجزاهم الله أحسن الجزاء.
وحدث من الناس الغوغاء - الذين لا يميزون الحق من الباطل - كلام، كما ذكر المشايخ - جزاهم الله أحسن الجزاء - أجملوا الناس جملة، مثل ما إذا تكلم إنسان، إما(12/206)
ص -204- ... جاهل أحمق، أو صاحب غرض فاسد: "هالإخوان، هالبدو، فعل الله بهم كذا وكذا"، وهذا أمر مناف للدين والعقل، والحق: أن سب هذا العدو، ما يكون إلا على قدر فعله.
والناس الذين مضى فيهم أمر الله قسمان: قسم: خرجوا على المسلمين، وجانبوا العلماء، وقسم: ارتدوا عن الدين، ووالوا أعداء الله، ولا شك أن بعضهم متميز عن بعض؛ ثم بعد ذلك الناس الذين امتازوا، وارتدوا عن الدين، وفعلوا الأفعال التي تخرجهم من الإسلام، كما ذكر المشايخ، فهؤلاء يستعان بالله عليهم، باللسان والسنان.
وأما القسم الذين صار منهم ما صار، من مخالفة الولاية والعلماء: فمن تاب منهم وأقلع عن ذنبه، وأقر به، ووالى المسلمين الذين عادوه في ذلك، وجانب أهل الشبه، فهذا حاله حال إخوانه المسلمين، على شرط أن المسلمين يجعلون بالهم على هذا الصنف: فمن وافق عمله قوله، فنرجو أن الله يثبته على الحق، ومن كان عمله يخالف قوله، ويجانب أهل الخير، ويوالي الذين يعلم فيهم الشر، فهذا حق على كل مسلم ينصحه، فإن أبى فيرفع أمره للعلماء، وولاة الأمور.
وأما إطلاق السب مجملا كما ذكرنا، فهذا مناف للدين والعقل، ولا يفعله إلا من لا معرفة له بالدين، أو صاحب(12/207)
ص -205- ... مقصد يحب شقاق المسلمين، فهذا أنهاكم عنه، وأحرض على جميع ولاة الأمور، لا من العلماء ولا من الأمراء، أن يمنعوا ذلك بالنصائح، والتعليم، ومن أبى فيؤدب بما يستحقه.
فالمرجو من جميع المسلمين أن يعملوا بما قرره المشايخ، وما أمرناهم به، وأن العلماء، والأمراء، والوجوه من المسلمين، يجتهدون في ذلك، لأجل جلب المصلحة، باجتماع قلوب المسلمين، والتآلف بينهم، ودرء المفسدة من نفور بعضهم من بعض.
ولا أبيح أحدا يسمع من ذلك شيئا إلا ويقوم بالواجب، على شرط أن لا يعنف، ولا يؤدب أحد لا بلسان ولا بيد، إلا بتعريف العلماء، واستفتائهم في ذلك، وتنفيذ أمر ما أمر به العلماء. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على محمد.(12/208)
ص -206- ... وقال الشيخ: عبد الله بن فيصل بن سلطان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى كافة أهل المحمل والشعيب، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: هذه نصائح المشايخ والإمام حفظهم الله واصلتكم، فأنتم إن شاء الله تشرفون عليها، وتعملون بما فيها، وفيها لمن تأملها من حال دعوى الإخوان، ومنافرتهم، وإطلاق السب عليهم جملة، وعدم قبول توبتهم من غير تبصر في ذلك، ولا تفريق بين ما يجوز فعله، وما لا يجوز.
وقد أمرني الإمام حفظه الله: أن أقرر عليها; وتعلمون - وفقنا الله وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح - أن هؤلاء الإخوان في مبدإ أمرهم، ودخولهم في الدين، نفع الله بهم أهل الإسلام، وإن كان قد حصل منهم ما حصل في هذا الزمان، من الأمور التي قد حصل بسببها ترويج على من لا بصيرة له ولا علم لديه، فوقع في أعراضهم وسبهم وتأنيبهم جملة، من غير تفصيل ولا نظر فيمن يستحق ذلك، ممن لا يستحقه.(12/209)
ص -207- ... لأنهم قد كانوا طوائف: طائفة قبلت الحق وثبتها الله عليه، وصاروا أعوانا للمسلمين على المارقين المعتدين، فهؤلاء يحمدون على أفعالهم، ويدعى لهم بالقبول والثبات؛ وطائفة الغالب عليهم الجهل، فتبعوا من دعاهم بالقول والفعل، ولا فرق لديهم ولا تمييز، وكل ما مالت إليه أنفسهم عزيز، فاستوى عندهم الغي والرشاد، وعملوا على غير سداد، فيجب على المسلمين الرفق بهم، في التعليم والإرشاد، ويدعون لهم بالهداية والسداد; وطائفة تأولت فأخطأت في تأويلها، فينبغي تنبيهها، وكشف ما يشكل عليها.
فكل هؤلاء يعاملون باللطف واللين، ويوضح لهم ما جهلوه من الدين، ويدعون إلى الحق، ويرغبون فيه، ويوضح لهم الباطل، وينهون عنه، ويحذرون من سوء عاقبة أهله، من غير غلظة ولا تأنيب، لأن ذلك يوجب التنفير وعدم القبول؛ والمطلوب النصح لهم، وتبيين ما يحصل به تأليفهم واستجلابهم، لأن ذلك من المصالح الدينية، التي يجب على أهل الإسلام بذلها، وعدم التعنيف الذي يحصل به الافتراق، ويورث العناد والشقاق؛ فلعل الرفق بهم يصير سببا لردهم إلى ما خرجوا منه، ويتوبون إلى ربهم، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
وقد قال الله جل جلاله:{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ(12/210)
ص -208- ... يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة آية : 104].
والله جل جلاله يقبل توبة عبده ما دامت روحه في جسده، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، ولا يهلك على الله إلا هالك {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات آية : 11].
وأما الطائفة التي حاربت أهل الإسلام، وكابرت، وعاقدت، وصاروا من حزب الشيطان، فهؤلاء يجب بغضهم والبراءة منهم وما ذهبوا إليه، لأنهم اتبعوا غير سبيل المؤمنين، واستفزتهم الشياطين، واختاروا العمى على الهدى، بعد أن استبصروا، ووقعوا في هوة الردى.
وقد قال الله سبحانه وتعالى:{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية : 115] نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد.(12/211)
ص -209- ... [سؤال حول ما يفعله بعض الجهال من الهجرة من مكة إلى الحبشة]
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟
فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "الاختيارات": من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله; فإذا كان هذا في مجرد اللحوق بالمشركين، فكيف بمن اعتقد مع ذلك أن جهادهم، وقتالهم لأهل الإسلام، دين يدان به، هذا أولى بالكفر والردة.
وأما استدلالهم بقصة جعفر وأصحابه، لما هاجروا إلى الحبشة، فباطل؛ فإن جعفرا وأصحابه، لم يهاجروا من(12/212)
ص -210- ... مكة إلا وهي إذ ذلك بلاد كفر، وقد آذاهم المشركون، وامتحنوهم في ذات الله، وقد عذبوا من عذبوا من الصحابة، كصهيب، وبلال، وخباب، من أجل عبادتهم الله وحده لا شريك له، ومجانبتهم عبادة اللات والعزى، وغيرهما من الأوثان؛ فلما اشتدت عليهم الأذية، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على دينهم.
وأما هؤلاء: فقد خرجوا من بين ظهراني المسلمين، وانحازوا إلى الكفار والمشركين، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد كفر، بمنْزلة مكة حين هاجر جعفر وأصحابه منها؛ ولا يستدل بقصة جعفر والحالة هذه، إلا من هو أضل الناس وأعماهم، وأبعدهم عن سواء السبيل.
وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولي أمرهم، وعلماءهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام، بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه، فسبحان من طبع على قلوب أعدائه، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم.(12/213)
ص -211- ... وأما قول السائل: إنهم فعلوا ما فعلوا مع المسلمين، من القتل والنهب، مستحلين لذلك.. إلى آخر السؤال؟.
فجوابه: أن من استحل دماء المسلمين، وأموالهم: كما نص عليه العلماء، في "باب حكم المرتد".
وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقد ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم.
وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذين قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لا شك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة إلى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم.(12/214)
ص -212- ... وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
ورد علينا منك رسالة، تطلب فيها أن نكتب لك قصة الخوارج مستوفاة، من حين خروجهم على علي رضي الله عنه، إلى آخر ما كان من أمرهم؛ فقد ذكر ذلك شيخنا، الشيخ: عبد اللطيف، في رده على داود بن جرجيس، وهذا نص ما ذكر، وبه الكفاية.
قال رحمه الله: إنه لما اشتد القتال يوم صفين، قال عمرو بن العاص، لمعاوية بن أبي سفيان، هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم؛ قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها "هذا حكم بيننا وبينكم" فإن أبى بعضهم أن يقبلها، رأيت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبلها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا، رفعنا القتال عنا إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم؛ من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس، قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
فقال لهم علي: عباد الله، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، أنا أعلم(12/215)
ص -213- ... بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة، ووهنا ومكيدة؛ قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله؛ وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده.
قال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء: يا علي: أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلة القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان؛ فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال.
ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره، ممن يرى عدم التحكيم، فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال علي: ائته.
فأتاه فقال: لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه؛ تبعثون رجلا ترضون به، ونبعث رجلا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، لا يعدوانه، فعاد إلى علي فأخبره، قال الناس قد رضينا.
قال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث، وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي(12/216)
ص -214- ... موسى الأشعري، فراودهم على غيره، وأراد ابن عباس، قالوا: والله لانبالي، أنت كنت حكمها، أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلا منك، ومن معاوية سواء؛ وأبوا غير أبي موسى، فواقهم علي كرها، وكتب كتاب التحكيم.
فلما قرئ على الناس، سمعه عروة بن أمية أخو أبي بلال، قال: تحكمون في أمر الله الرجال، لاحكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهر الحرورية "الخوارج" وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي وقطعوا الطريق في إيابهم، بالتشاتم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله؛ ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا، ومزقتم جماعتنا ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئا، ثم انصرف بغير شيء؛ فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد شعرا:
أخوك الذي أن أجرضتك ملمة ... من الدهر لم يبرح بباك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك الأمور ظل يلحاك لائما
فلما دخل الكوفة، ذهبت الخوارج إلى حروراء، فنزل بها اثنا عشر ألفا على ما ذكره ابن جرير، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن(12/217)
ص -215- ... الكواء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلما سمع علي ذلك وأصحابه، قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ قالت لهم الخوارج؛ استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر، كفرسي رهان – أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب وأنتم بايعتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى - يريدون: أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الطاعة له تعالى.
وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط، إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءت شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه: عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا } [سورة النساء آية: 35] فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: ما جعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فيه، فهو إليهم، وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا فيه، في الزنا مائة جلدة، وفي السرقة قطع،(12/218)
ص -216- ... فليس للعباد أن ينظروا في هذا.
قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } [سورة المائدة آية: 95] قالوا: تجعل الحكم في الصيد، والحرث، وبين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال؛ قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم، فقال: إني نهيتك عن كلامهم حتى آتيك، ثم تكلم رضي الله عنه، فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة؛ وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا حكومتكم يون ضفين؛ قال أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف، وملتم بجنبهم، قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين؟ وذكرهم مقالته.
ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين: أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء،(12/219)
ص -217- ... قالوا: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، إنما هو خط مسطور بين دفتين، وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا عن الأجل، لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة، هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم.
فلما جاء الأجل، وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، زرعة ابن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله؛ فقال علي: لا حكم إلا لله؛ وقالا تب من خطيئتك، واجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم، حتى نلقى الله ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني: قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عهودا، وقد قال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } [سورة النحل آية: 91].
فقال: "حرقوص" ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه؛ قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وقد نهيتكم عنه؛ قال زرعة: يا علي لئن حكمت الرجال، لأقاتلنك أطلب وجه الله؛ فقال له علي: بؤسا لك ما أشقاك، كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح؛ قال: وددت لو كان ذلك؛(12/220)
ص -218- ... وخرجا من عنده، يقولان: لا حكم إلا الله.
وخطب علي ذات يوم، فقالوها في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل؛ فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا، ولا مستغني عنه، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله؛ يا علي: أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم؛ فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا نننتظر فيكم أمر الله؛ ثم عاد إلى مكانه من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم وزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض كهوف(12/221)
ص -219- ... الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة.
فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تكفنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فقال حمزة بن سنان الأسدي، يا قوم: إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها وترجعون إليها.
فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي، وعرضوها على حرقوص بن زهير، فأبياها، وعلى حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي، فأبيا، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرارا من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوال، وكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها، وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق.
قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين تبعوكم، ولكن اخرجوا وحدانا(12/222)
ص -220- ... ومستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولا تسيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكلموا إخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا الرأي؛ فكتب عبد الله بن وهب، إلى من بالبصرة، ليعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللحاق بهم، فأجابوه.
فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } إلى قوله:{ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [سورة القصص آية: 21،22] وخرج معهم طرفة بن عدي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه وأرسل عدي إلى عامل علي على المدائن يحذره، فحذر وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد، وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب، فسار على بغداد، ولحقه ابن مسعود أمير المدائن بالكرخ، في خمسمائة فارس، فانصرف إليه ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب، عبر دجلة، وصار إلى النهروان، ووصل إلى أصحابه، وتفلت رجال من أهل الكوفة، يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة، عاد أصحاب علي وشيعته إليه، فقالوا نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ربيعة بن شداد خثعمي، فقال: أبايع على سنة أبي بكر وعمر، قال علي(12/223)
ص -221- ... ويلك؛ لو أن أبا بكر وعمر، عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله، لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه ونظر إليه علي، فقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج، فقلت، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها؛ فكان ذلك، وقتل يوم النهروان مع الخوارج.
وأما خوارج البصرة، فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، جعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمي، وعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم بالأسود الدؤلي، ولحقهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز دونهم، وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم – وخان عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وصرح عمرو بولاية معاوية، بعد أن عزل أبو موسى عليا، خدعه عمرو بذلك، فهرب أبو موسى إلى مكة – قام علي في الكوفة فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
أما بعد: فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين – يعني أبا موسى، وعمرو بن العاص – وفي هذه الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، ولو كان لقصر رأيي، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوزان:(12/224)
ص -222- ... أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن هذين الرجلين، اللذين أخرجتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، فاتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة قاضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام.
وكتب إلى الخوارج، من عبد الله: علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين، وعبد الله بن وهب، ومن معهما من الناس.
أما بعد: فإن هذين الرجلين، اللذين ارتضيتما حكمين، قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله، والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.
فكتبوا إليه، أما بعد: فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [سورة الأنفال آية: 58] فلما قرأ كتابهم(12/225)
ص -223- ... أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام، فقام في الكوفة فندبهم إلى الخوارج معه، وخرج معه أربعون ألف مقاتل، وسبعة عشر من الأبناء، وثماية آلاف من الموالي والعبيد، وأما أهل البصرة، فتثاقلوا، ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف.
وبلغ عليا: أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، قال لهم علي: دعوا هؤلاء، وسيروا إلى إلى يقاتلونكم، كيفما يكونون جبارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا؛ فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استقر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء، وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه سائرا بامرأته على حمار، فانتهروه، وأفزعوه، ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا: حدثنا عن أبيك الخباب، حديثا سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنفعنا به؟.
فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا" قالوا: لهذا سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي(12/226)
ص -224- ... آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها، وآخرها.
قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم، وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحدهم فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها؛ ثم مر بهم خنزير فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير – وهو من أهل الذمة – فأرضاه.
فلما رأى ذلك ابن الخباب، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي بأس، ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني؛ فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها؛ وقتلوا أم سنان الصيداوية، وثلاثا من النساء، فلما بلغ ذلك عليا، بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر، فلما دنا منهم قتلوه.
فألح الناس على علي في قتالهم، وقالو نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا، فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد(12/227)
ص -225- ... قتالهم، فلقيه منجم في مسيره، فأشار عليه أن يشير في وقت مخصوص، وقال إن سرت في غيره، لقيت وأصحابك ضررا شديدا؛ فخالفه علي في الوقت الذي نهاه عنه.
فلما وصل إليهم، قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم، ونترككم، فلعل الله أن يقبل بقلوبكم، ويردكم إلى خير ما أنتم عليه؛ فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم.
وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمى: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر؟ فقال: ما نعلمه غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم: أبو أيوب الأنصاري، فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا عليه؟ فقالوا: إن تابعناكم اليوم حكمتم الرجال غدا؛ فقال: فإني أنشدكم الله، أن تعجلوا(12/228)
ص -226- ... فتنة العام، مخافة ما يأتي في القابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه، فقال: أيتها العصابة، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم، إنني نذير لكم: أن تصبحوا بلعنكم الأمة غدا صرعى، بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان.
ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، فلما فعلتم: أخذت على الحكمين، واستوثقت أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟.
قالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم دابر؛ بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.(12/229)
ص -227- ... وقيل: كان من كلامه – يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة، ووهنا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم علي عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، رأي معاشر، والله أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فما آتى لا أبالكم هجرا؟!.
والله ما حلت عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوى، ولا أدنيت لكم ضرا، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا فأجمع رأي ملئكم: أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق، ولا يعدوانه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما، حتى خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف.
فبينوا لنا بم تستحون قتالنا؟ والخروج عن جماعتنا، وتصفون سيوفكم على عواتكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا هو الخسران المبين؛ والله لئن قتلتم على هذا دجاجة، لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟! فتنادوا: أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله الرواح، الرواح، إلى الجنة، فرجع علي عنهم.(12/230)
ص -228- ... ثم إنهم قصدوا جسرا النهر، فظن الناس أنهم عبروه، فقال علي: لم يعبروه، وإن مصارعهم لدون النهر، والله لا يقتلون منكم عشرة، ولايسلم منهم، فتعبأ الفريقان للقتال، فنادهم أبو أيوب فقال: من جاء هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي، في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين.
فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمان مائة، فزحفوا إلى علي، وبدؤوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلت الرماة من جيش علي، بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل، من الميمنة والميسرة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال، وتداعى عليهم الناس، ما لبثوا أن أناموهم فماتوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
وقتل ابن وهب، وحرقوص، وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى، والتمس المخدج، الذي وصفه البني صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي الممرأة، وحلته عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى يده الطولى، فلما رآها، قال: الله أكبر، والله ما كذبت، ولا كذبت،(12/231)
ص -229- ... والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم صرعى: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، ونفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
هذا ملخص أمرهم، وقد عرفت شبهتهم، التي جزموا لأجلها بكفر علي، وشيعته، ومعاوية وأصحابه، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين، بعد هذه الوقعة، وصار غلاتهم يكفرون بالذنوب، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة، فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك، انتهى ما ذكره شيخنا.
فتأمل رحمك الله: ما في هذه القصة من الأمور، التي خاطبوا بها أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أجابهم به، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها، فليتأمل ما في كلامهم من إرادة الخير، وطلبه والعمل به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء رضوان الله.
ولكن: لما كان هذا منهم غلوا في الدين، ومجاوزة(12/232)
ص -230- ... للحد الذي أمروا به، حتى كفروا معاوية رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، والتابعين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من أفاضل الصحابة والتابعين، لما وافقهم في تحكيم الحكمين.
ثم زعموا: أن تحكيم الرجال في دين الله كفر يخرج من الملة، وأنهم قد أثموا بذلك وكفروا، فتابوا من هذا الأمر، وقالوا لعلي إن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت، فإنأ منابذوك على سواء.
فإذا تبين لك: أن ما فعلوه إنما هو إحسان ظن بقرائهم، الذين غلوا في الدين، وتجاوزوا الحد في الأوامر والنواهي، وأساؤوا الظن بعلماء الصحابة، الذين هم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه.
فلما لم يعرفوا لهم فضلهم، ولم يهتدوا بهديهم، ضلوا عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنهم داهنوا في الدين، والذي حملهم على ذلك أخذهم بظواهر النصوص في الوعيد، ولم يهتدوا لمعانيها وما دلت عليه، فوضعوها في غير مواضعها، وسلكوا طريقة التشديد، والتعسير والضيق، وتركوا ما وسع الله لهم، من التيسير الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".(12/233)
ص -231- ... ولهذا كان أمير المؤمنين: علي رضي الله عنه، يسيير فيهم بهذه الطريقة، ويناصحهم لله وفي الله، ويتلطف لهم في القول، لعل الله أن يقبل بقلوبهم، وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه أولا؛ ويراجعهم المرة بعد المرة، كما قاله في خطبته إياهم لما خطبهم، فقالوا: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر، على زعمهم.
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا، ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله.
ولما قيل له: يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا؛ فقالوا: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا؛ قالوا: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
فهذه سيرته رضي الله عنه، مع هؤلاء المبتدعة الضلال، مع قوله لأصحابه: والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه، ومع علمه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه" ومع قوله صلى الله عليه وسلم فيهم: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن(12/234)
ص -232- ... أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم إنما تعلموا العلم من الصحابة.
فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها: أن يعرف طريقة هؤلاء القوم، وأن يجتنبها، ولا يغتر بكثرة صلاتهم، وصيامهم وقراءتهم، وزهدهم في الدنيا، وأن يعرف سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الهدى ودين الحق، الذي فضلوا به على من بعدهم، وعدم تكلفهم في الأقوال والأفعال، لعله أن يسلم من ورطات هؤلاء الضلال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[اقتتال طائفتين من المسلمين]
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذ التقى فئتان من المسلمين، وقتل رجل من إحداهما، وعلم قاتله بعينه، ورضوا بالدية، فهل تكون على القاتل؟ أم تكون على جميع الطائفة؟
فأجاب: إذا اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة، ونحو ذلك، فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، صرح بذلك في "الشرح الكبير"، و"الإنصاف"، و"الإقناع"، والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية.
قال في "الإنصاف" - بعد قوله: وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى -: وهذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة تساقطا، كمن(12/235)
ص -233- ... جهل الحرام من ماله، أخرج نصفه، والباقي له.
وقال أيضا: أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة، إن لم يعلم عين المتلف; قال في الإقناع وشرحه: فلو دخل بينهم بصلح، وجهل قاتله، ضمناه; وإن علم قاتله من طائفة، وجهل عينه، ضمنته وحدها; قال ابن عقيل: ويفارق المقتول في زحام الجامع، والطواف، أن الزحام والطواف ليس فيه تعد، بخلاف الأول، انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا، فانكشفوا وبينهم قتيل أو جريح، لا يدرى من فعل ذلك به، إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل، وإن عقله على القوم الذين نازعوه؛ وإن كان القتيل والجريح من غير الفريقين، فعقله على الفريقين جميعا، انتهى.
وقال في "الشرح الكبير": إذا اقتتلت الفئتان، فتفرقوا عن قتيل من إحداهما، فللوارث على الطائفة الأخرى الدية، ذكره القاضي، فإن كانوا بحيث لا يقتله سهام بعضهم بعضا، فللوارث على عاقلة القتيل، وهذا قول الشافعي.
وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم، فيما إذا اقتتلت الفئتان، إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك; وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه; وعن أحمد في قوم اقتتلوا، فقتل(12/236)
ص -234- ... بعضهم وجرح بعض، فدية المقتولين على المجروحين، تقسط منها دية الجراح، انتهى.
وقال في "الإنصاف" - بعد ما ذكر نص أحمد هذا - قال الإمام أحمد: قضى به علي، وحمله على من ليس به جرح، وهل عليهم من دية القتل شيء؟ فيه وجهان; قال ابن حامد: قلت الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية، انتهى; فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل.
وأما إذا علم القاتل، ففيه تعلق الحكم به؛ فإن كان القتل عمدا، فأولياؤه يخيرون، إن شاءوا اقتصوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، فإن قبلوا الدية، فهو من مال القاتل دون العاقلة، ولا شيء على الطائفة التي هو منها، إلا أن يكونوا قطاع الطريق، لأنهم ردؤهم، وردؤهم ومباشرهم سواء.
وكذا: إن تواطئوا على قتله، فقتله بعضهم وأعانه الآخرون، كالمسك مع القاتل عند مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فتكون الدية على المباشر والمعين، لأنهم سواء عند الجمهور، ذكره الشيخ تقي الدين.
وسئل أيضا، الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، إذا اقتتلت طائفتان، وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى، وجاؤوا بالشهود، وادعى المشهود عليهم: بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم، فهل ترد شهادتهم بذلك؟(12/237)
ص -235- ... فأجاب: ينظر في حال الشهود، فإن كانوا عدولا، وادعوا أنهم لم يحضروا القتال، ولم يدخلوا معهم، وعلم صدقهم بقرائن الحال، لم ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم، لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل، لا يقبل قوله فيه إلا ببينة; وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة، أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم، وأنهم من جملتهم، لم يقبلوا، ولم تسمع شهادتهم.
ومن صور المسألة: ما جرى بين الوداعين، وأهل مرات، فإن الوداعين زعموا أن معهم البينة، على أنهم لم يبدؤوا بقتال، وإنما قتلوا دفعا عن أنفسهم، فلما سألنا عن شهودهم، إذا هم من جملتهم الذين غزوا، فقلنا لهم: هؤلاء من جملتكم، وعليهم من الدية بقدر نصيبهم منها، ولا تقبل شهادتهم، لأنهم يدفعون بها عن أنفسهم، والمسألة واضحة في كلام العلماء، لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء، والله أعلم.
سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى:{ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية : 7] ؟
فأجاب: إن هذه الآية نزلت في عهد المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغدرهم، ونقضهم لما عاهدوا عليه، وأعانوا عدوه، قال تعالى:{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا(12/238)
ص -236- ... اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [سورة التوبة آية : 7] الآية. قال البغوي رحمه الله في تفسيره: هذا على وجه التعجب، ومعناه جحد، أي: لا يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى فقال جل وعلا:{ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [سورة التوبة آية : 7].
قال ابن عباس: هم قريش; وقال قتادة: هم أهل مكة الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله تعالى:{ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ } [سورة التوبة آية : 7] أي على العهد{فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } انتهى.
ولا يجوز لأحد يقول: هذه الآية نزلت في حق الراعي والرعية، فإنه لم يقل بهذا أحد من أهل العلم وأئمة التفسير، بل هذا تفسير عبد برأيه وهواه، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار; فإن المسلم مأمور بالسمع والطاعة لولاة الأمور، ولو كانوا غير مستقيمين، إلا في معصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة لأحد.
والأحاديث والآثار الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، لكن تركنا ذكرها خشية الإطالة، ونحن في غاية الاستعجال مع تغير الحال وتشوش البال.
والحاصل: فإن الأمراء إن استقاموا على الحق والعدل، فهو الواجب عليهم، وإن تركوا الاستقامة، فأدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم، وفي الصبر على ما(12/239)
ص -237- ... تكره خيرا كثيرا؛ والكلام على هذا الباب يستدعي طولا وأبوابا وفصولا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فصل في قتال من ترك التوحيد]
فصل قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:
اعلم وفقنا الله وإياك للإيمان بالله ورسوله: أن الله سبحانه قال في كتابه:{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [سورة التوبة آية : 5].
فتأمل هذا الكلام: أن الله أمر بقتلهم وحصرهم، والقعود لهم كل مرصد، إلى أن يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة; وأيضا: فقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى" 1.
فهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع العلماء عليه من كل مذهب، وخالف ذلك من هؤلاء الجهال، الذين يسمون العلماء، فقالوا: من قال لا إله إلا الله، فهو المسلم حرام الدم والمال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل - لما سأله عن الإسلام - فقال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).(12/240)
ص -238- ... إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " 1 فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء يقولون: إن البدو إسلام، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. فمن سمع كلامهم، وسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد له من أحد أمرين، إما أن يصدق الله ورسوله، ويتبرأ منهم ويكذبهم; وإما أن يصدقهم، ويكذب الله ورسوله، فنعوذ بالله من ذلك، والله أعلم.
فتأمل أول أصول الدين:
الأولى: أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لبيان الحق من الباطل.
الثانية: بيان ما اختلف فيه الناس.
الثالثة: أن الواجب عليهم اتباع ما أنزل إليهم من ربهم.
الرابعة: أن من لم يرفع به رأسا، فهو منافق جاهل.
الخامسة: رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنّة.
السادسة: أن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل، لا يضل ولا يشقى.
السابعة: أن من أعرض عن ذلك، حشر أعمى، ضالا شقيا مبعدا.
الثامنة: أن الذين في قلوبهم مرض، يتبعون ما تشابه منه.
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذين أقروا أن التوحيد أكبر كل كبير، واختلفوا هل نقاتل من لم يتركه، وإذا قال لا إله إلا الله وانتسب إلى الملة، فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (8) , والترمذي : الإيمان (2610) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود : السنة (4695) , وابن ماجه : المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51).(12/241)
ص -239- ... لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [سورة الأنفال آية : 39].
وقال الله تعالى:{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [سورة التوبة آية : 5] الآية.
سئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن المشرك إذا قال لا إله إلا الله حال الحرب ؟
فأجابوا: هذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان المشرك لا يتلفظ بها في حال شركه وكفره، كحال المشركين الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إذا قال: لا إله إلا الله، وجب الكف عنه، لأنها دليل على إسلامه وإقراره، لأن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولونها، وإذا قالها أحدهم كانت دالة على إسلامه، وهذا معنى الأحاديث التي جاءت في الكف عمن قال: لا إله إلا الله، كحديث أبي هريرة المتفق عليه: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "1، وكذلك حديث أسامة، لما قتل الرجل في الحرب بعدما قال: لا إله إلا الله، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه، وقال: " أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا "2، وفي رواية " إنما قالها خوفا من السلاح، فقال: أفلا شققت عن قلبه؟ " 3.
قال العلماء: وفي ذلك أنزل الله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394).
2 البخاري : المغازي (4269) , ومسلم : الإيمان (96) , وأحمد (5/200).
3 مسلم : الإيمان (96) , وأبو داود : الجهاد (2643) , وأحمد (5/207).(12/242)
ص -240- ... إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [سورة النساء آية : 94] الآية؛ فدلت الآية على أنه يجب الكف عن المشرك إذا أظهر الإسلام، ولو ظن أنه إنما قال ذلك خوفا من السيف؛ فإن تبين بعد ذلك أنه إنما أظهر الإسلام تعوذا، قتل، ولهذا قال تعالى:{ فَتَبَيَّنُوا} والتبين هو: التثبت، والتأني، حتى يتبين حقيقة الأمر.
وأما إذا كان المشرك يتلفظ بلا إله إلا الله، في حال كفره وردته، ويفعل من الأفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله، فهذا يقتل ويباح دمه وماله، كما قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيهم طائفة يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ولكنهم منعوا الزكاة.
فقال عمر لأبي بكر: "كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".
فقال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق ".
فقاتلهم أبو بكر وسائر(12/243)
ص -241- ... الصحابة، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون.
وأجمع العلماء من أهل المذاهب على كفر من جحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك لأن الدين لا يجوز التفريق فيه، بأن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر ببعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [سورة النساء آية : 150-151].
وقال تعالى:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية : 39] قال العلماء: كل طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام، تقاتل حتى يكون الدين كله لله؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء من أهل المذاهب، والله أعلم.
ولهم أيضا، رحمهم الله تعالى:
وأما قولك: إن المسلمين إذا أمسكوا أحدا يشهد أن لا إله إلا الله، أنهم يقتلونه ويأسرونه، فجواب هذه المسألة، نظير الجواب في التي قبلها، ونحن نقول: لا إله إلا الله قول وعمل؛ فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعلم معناها، ولم(12/244)
ص -242- ... يعمل بمقتضاها، لم ينفعه ذلك؛ فإن المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، يقولون: لا إله إلا الله، ولم ينفعهم ذلك.
وكذلك بنو حنيفة، الذين قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون، وهم كفار بالإجماع. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون ويصلون. وكذلك الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون.
وكذلك عَلِيٌّ حرق الغالية، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وكذلك الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم "، وأخبر أنهم شر قتيل تحت أديم السماء، وقاتلهم علي رضي الله عنه وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويعملون أعمالا شاقة.
وجماع الأمر: أنا نقول: لا إله إلا الله، قول، وعلم، وعمل; وقد ذكر الله ذلك في كتابه بالمعنى، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ الاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ(12/245)
ص -243- ... لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية : 26-28].
أي: إليها، والكلمة: لا إله إلا الله.
وقال تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية : 64] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد آية : 19] فمن أتى بها علما وعملا، لم نكفره ولم نقتله، والمسألة لها بسط طويل، ليس هذا موضعه.
وقال أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ: وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تقتلون، ذا الشيبة، والمرأة، والصغير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر: أن لا يقتل من المشركين لا شيبة عاجز، ولا امرأة، ولا قاصر لم ينبت، فنقول: هذا كذب وزور، وبهتان علينا، فلا نأمر بقتل الشيخ الكبير من المشركين، ولا المرأة، ولا الصغير الذي لم ينبت؛ فإن كان أحد من جهال المسلمين، البعيد عنا، فعل شيئا من ذلك، فهو مخطئ مخالف لشرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بمثل ما تقدم 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي في صفحة 240 - 242 .(12/246)
ص -244- ... وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود; رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن محمد، إلى الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله أن يصلي على حبيبه من خلقه، وخيرته من بريته، محمد عليه أفضل الصلاة، وأزكى السلام والتحيات، ووصل الخط، أوصلك الله إلى رضوانه; وما أشرت إليه من النصيحة، صار عندنا معلوما جزاك الله عنا خيرا، ونسأله المعونة، والتوفيق والتسديد، في جميع الأحوال الظاهرة، والخفية.
وما أشرت إليه في كتابك، من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له.
فإذا جاءنا من يقول: أنا أريد أن أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به(12/247)
ص -245- ... رسوله صلى الله عليه وسلم، ونأمره بذلك، ونحضه على القيام به في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من خالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه.
وأما الطائفة الثانية: وهم الجنود المنتشرة للجهاد، فكثير منهم لا نشعر بهم، ولا نعرفهم، بل إذا دخل أهل بلد في الإسلام، وعاهدوا، ساروا إلى من حولهم، من غير تحقيق ومعرفة بما يقاتل الكفار عليه. وأما الجيوش والأجناد، الذين نجهزهم من الوادي، وأتباعهم، فنأمرهم بقتال كل من بلغته الدعوة، وأبى عن الدخول في الإسلام، والانقياد لتوحيد الله، وأوامره وفرائضه، واستمسك بما هو عليه من الشرك بالله، وترك الفرائض، والأحكام الجاهلية المخالفة لحكم الله ورسوله؛ ومثل هؤلاء لا يحتاجون إلى الدعوة، إذا كانت الدعوة قد بلغتهم قبل ذلك بسنين، وأبوا وأعرضوا عن دين الإسلام، وإخلاص العبادة لله.
وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم ترعى، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية، والنعم والشاء، مع أن الدعوة قبل القتال مستحبة، ولو كانت الدعوة قد بلغتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي ابن أبي طالب، حين بعثه لقتال أهل خيبر: " فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210) , ومسلم : فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(12/248)
ص -246- ... والسلام. وأجاب بعضهم: شرع الله الجهاد، وأمر بالقتال، وبين لنا الحكمة في ذلك، وموجبه، وما يحصل به الكف، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [ سورة الأنفال آية : 39]، قال المفسرون: الفتنة الشرك، والدين: اسم عام لكل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله لا يشرك به شيء " 1، وقال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها " 2 وقد عمل بهذا أبو بكر، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم، في قتال مانعي الزكاة؛ فدل الحديث، وعمل الصحابة، على أن من ترك شيئا من شرائع الدين الظاهرة، وكانوا طائفة مجتمعة على ذلك، أنهم يقاتلون.
[موجب شرع الجهاد]
قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، الظاهرة المعلومة، فإنه يجب قتالها; فلو قالوا: نشهد ولا نصلي، قوتلوا حتى يصلوا; ولو قالوا: نصلي ولا نزكي، قوتلوا حتى يزكوا; ولو قالوا: نزكي ولا نصوم، ولا نحج البيت، قوتلوا حتى يصوموا، ويحجوا البيت.
فلو قالوا: نفعل هذا كله، لكن لا ندع الربا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/50).
2 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).(12/249)
ص -247- ... ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك، قوتلوا حتى يفعلوا ذلك، كما قال تعالى{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية : 39]. انتهى.
فعلم: أن المقاتلين أنواع، منهم من يقاتل على الدخول في الإسلام، وهو الإقرار لله بالوحدانية، والاعتراف له بذلك، والعمل به، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهذا إذا التزم بذلك التزاما ظاهرا، كف عن قتاله على ذلك، ووكلت سريرته إلى الله، إلا إن قام به ناقض ينقض ما التزمه، وأظهر الناقض، وترك شريعة من شرائعه، كالصلاة، والزكاة، وغيرهما من الشرائع؛ فيجب على ولي الأمر، أن يقاتل هذا، وأن يبعث عماله على هذا المنوال، وما كان من نقص، فهو نقص في الراعي والرعية.
نعم: النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يدعو إلى ثلاثة أركان: الشهادتين، والصلاة، والزكاة; وأخذ بهذا خلفاؤه رضي الله عنهم، لأن غالب عامة الناس، إنما خوطبوا بذلك؛ فالحاضرة المظهرة للإسلام في الظاهر، وكذا البادية، وإن صدر من آحادهم ما هو ناقض، كحال آحاد المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم.(12/250)
ص -248- ... فقد يصدر من الحاضرة نوع استهزاء وغير ذلك، وقد يصدر من آحاد البادية نوع استهزاء، ونوع تحاكم إلى غير ما أنزل الله، لا سيما بادية الجنوب، وهؤلاء الآحاد، إذا أقروا بصدور ما هو ناقض، أمروا بالتوبة منه، وخوطبوا بالشرائع الظاهرة، فإن امتنعوا التزام ذلك، قوتلوا عليه حتى يلتزموه، ويؤدوه، وحسابهم على الله.
وأما البلد التي يحكم عليها بأنها بلد كفر، فقال ابن مفلح: وكل دار غلب عليها أحكام المسلمين، فدار إسلام; وإن غلب عليها أحكام الكفر، فدار كفر؛ ولا دار غيرهما.
وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن " ماردين"، هل هي دار حرب أو دار إسلام ؟.
قال: هي مركبة، فيها المعنيان، ليست بمنْزلة دار الإسلام التي تجري فيها أحكام الإسلام، لكون جنودها مسلمين، ولا بمنْزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه؛ والأولى هو الذي ذكره القاضي والأصحاب.(12/251)
ص -249- ... سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، عمن يقول: لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله ودمه، بمجرد قولها، أم لا؟
فأجاب: لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، جعلها كلمة باقية في عقبه; وقد تضمنت ثبوت الإلهية لله تعالى، ونفيها عما سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب، محبة وإنابة وتوكلا، واستعانة ودعاء، وخوفا، ورجاء، ونحو ذلك.
ومعنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله، قال الله تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج آية : 62] وقال جل ذكره:{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [ سورة الرعد آية : 14].
فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة، على إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال الله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية : 26-28] أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة، إلى ما سبق من مدلولها، وهو قوله: {إِنَّنِي(12/252)
ص -250- ... بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية : 26-27].
وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه وتقريره، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية : 56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [سورة الإسراء آية : 23] الآية وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية : 25] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية : 1-2].
وقال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية : 256] والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع، فمن تحقق بمدلول هذه الكلمة العظيمة، من إخلاص العبادة لله تعالى، والبراءة من عبادة ما سواه، بالجنان والأركان، وعمل بما اقتضته من فرائض الإسلام والإيمان، كان معصوم الدم والمال، ومن لا، فلا.
قال الله تعالى:{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [سورة التوبة آية : 5] فدلت هذه الآية الكريمة، على أن عصمة الدم والمال، لا تحصل بدون هذه الثلاث، لترتبها(12/253)
ص -251- ... عليها ترتب الجزاء على الشرط; وفي الصحيح عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى " 1.
فلا بد لتصحيحها من الإخلاص لله تعالى، ونفي الشرك، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً }[سورة النساء آية : 36] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا الاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[سورة البينة آية : 5].
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ الاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }[سورة الزمر آية : 2-3].
ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}[سورة الزمر آية : 3] وفي المتفق عليه، من حديث معاذ " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2 فمن تأله قلبه غير الله، ودعاه من دون الله، فقد أشرك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }[سورة الأحقاف آية : 5] الآية وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ِإنْ تَدْعُوهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(12/254)
2 البخاري : الجهاد والسير (2856) , ومسلم : الإيمان (30) , والترمذي : الإيمان (2643) , وابن ماجه : الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242).(12/255)
ص -252- ... لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[سورة فاطر آية : 13-14].
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية : 65-66] وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود، أنه " قيل: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك"1، وفي رواية لمسلم " أن تدعو لله ندا"2 الحديث. والله المستعان.
سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟
فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام، لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4477 ,4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ,7532) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).(12/256)
2 البخاري : تفسير القرآن (4477 ,4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ,7532) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).(12/257)
ص -253- ... وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره; وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن وتهامة، والحرمين والشام والعراق، قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس، من الإشراك بالله من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات; وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام; وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات; ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال: " انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"1، فهو عند أهل العلم على الاستحباب، وأما إذا قدرنا: أن أناسا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210) , ومسلم : فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(12/258)
ص -254- ... سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا كان في البلدة وثن يدعى من دون الله، ولم ينكر، هل يقال هذه بلدة كفر؟ أو بلدة إسلام؟
فأجاب: لا ينبغي الجزم بأحد الأمرين، لاحتمال أن يكون في البلد جماعة على الإسلام مظهرين ذلك، فإن هذه الدعوة التي ظهرت بنجد، ومكنها الله بالجزيرة، قد قبلها أناس، كما بلغنا عن الأفغان، والصومال، أن في كل منهما طائفة تدين بالتوحيد، وتظهره، وقد يكون غيرهم كذلك، لأن هذه الدعوة قد شاعت في كل بلاد، وقرؤوا مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فيما أجاب من عارضه، وقد بلغنا من ذلك عن بعض أهل الأقاليم، ما يوجب التوقف.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك، والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، مع عدم القيام بحقيقتها، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تسمى دار كفر، أو دار إسلام؟
فهذه المسألة: يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء، في بلدة كل أهلها يهود، أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية،(12/259)
ص -255- ... صارت بلادهم بلاد إسلام; وتسمى دار إسلام، فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام، فبالأولى فيما أرى: أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم، ومع هذا يقاتلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد والعمل به.
بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام، قوتلوا وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين، ودارهم دار إسلام; قال الشيخ تقي الدين: أجمع العلماء على أن كل طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، تقاتل حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين، وأولى; انتهى. وما ذكرناه عن العلماء من أنهم يسمون البلدة التي أهلها يهود، أو نصارى، دار إسلام، يذكرون ذلك في باب اللقيط وغيره.(12/260)
ص -256- ... [قتل المشرك الحربي]
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي.. إلخ. فأجاب:
لا يمنع المسلم من قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة، أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ".
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، لبعض إخوانه: وما ذكرت من فقد الإخوان، فهو وصمة على الدين والإيمان، ويدل على أن ما أخبر به الصادق المصدوق قد آن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويوضع الجهل " 2 في أحاديث كثيرة في هذا المعنى؛ وقد وقع كما أخبر به الصادق المصدوق.
وبعد ذلك: بلغني ما ساءني، وعسى أن يكون كذبا، وهو: أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرا؛ فإن كان صدقا فلا أدري ما عرض لك؛ والذي عندنا أنه لا ينكر مثل هذا، إلا من يعتقد معتقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (100) , ومسلم : العلم (2673) , والترمذي : العلم (2652) , وابن ماجه : المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي : المقدمة (239).
2 البخاري : العلم (80) والحدود (6808) , ومسلم : العلم (2671) , والترمذي : الفتن (2205) , وابن ماجه : الفتن (4045) , وأحمد (3/98).(12/261)
ص -257- ... أهل الضلال، القائلين أن من قال: لا إله إلا الله لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضى بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام.
وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذه البلد، بإظهار المسبة لله ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام.
هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه; وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والعرض، وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء من الكفر والردة، أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك.
فارجع النظر في نصوص الكتاب والسنّة، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا(12/262)
ص -258- ... هالك، ثم فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا يغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات.
فإنه قد بلغني: أن بعض الناس، يقول: في الأحساء من هو مظهر دينه، لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين; وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد، وأهل مَنْبَجْ، وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد.
فيا عباد الله: أين عقولكم؟ فإن النِّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة; وإنما هو في تقرير التوحيد، والأمر به، وتقبيح الشرك، والنهي عنه، والتصريح بذلك، كما قال إمام الدعوة النجدية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله; هذا هو إظهار الدين، يا عبد الله بن حسين.
فتأمل أرشدك الله: مثل قوله تعالى، في السور المكية{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية : 1-2] إلى آخر السورة، فهل وصل إلى قلبك: أن الله أمره أن يخاطبهم، بأنهم كافرون، وأخبر بأنه لا يعبد ما يعبدون، أي أنه بريء(12/263)
ص -259- ... من دينهم، ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي أنهم بريئون من التوحيد، ولهذا ختمها بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية : 6] فهنا يتضمن براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه.
وتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية : 104-105] فهل سمعت الله يأمر نبيه أن يقول لهم: إني بريء من دينهم؟ وأنه أمره أن يكون من المؤمنين الذين هم أعداؤهم؟ ونهاه أن يكون من المشركين، الذين هم أولياؤهم وحزبهم؟.
وفي القرآن آيات كثيرة، مثل ما ذكر الله عن خليله، والذين معه{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [سورة الممتحنة آية : 4] الآية فأمرنا الله بالتأسي بهم قولا وفعلا، وقصدي أنبهك خوفا من المواخاة على غير طائل في الدين، أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن.
[بلاد الكفر وبلاد الإسلام]
وقال أيضا: رحمه الله، لمن ناظره في أهل مكة{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا الاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية : 32] جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر، أم بلد إسلام; فنقول وبالله التوفيق: قد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي هو دين جميع الرسل، وحقيقته هو مضمون(12/264)
ص -260- ... شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أن يكون الله معبود الخلائق فلا يتعبدون لغيره بنوع من أنواع العبادة; ومخ العبادة هو الدعاء، ومنها الخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والفزع، والصلاة، وأنواع العبادة كثير، وهذا الأصل العظيم، الذي هو شرط في صحة كل عمل.
والأصل الثاني: هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره، وتحكيمه في دقيق الأمور وجليلها، وتعظيم شرعه ودينه، والإذعان لأحكامه في أصول الدين وفروعه.
فالأول: ينافي الشرك، ولا يصح مع وجوده.
والثاني: ينافي البدع، ولا يستقيم مع حدوثها; فإذا تحقق وجود هذين الأصلين، علما وعملا ودعوة، وكان هذا دين أهل البلد، أي بلد كان، بأن عملوا به، ودعوا إليه، وكانوا أولياء لمن دان به، ومُعادين لمن خالفه، فهم موحدون.
وأما إذا كان الشرك فاشيا، مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك، مثل الزنى والربا، وأنواع الظلم، ونبذت السنة وراء الظهر، وفشت البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة، ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوما في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم: أن هذه البلاد، محكوم عليها بأنها بلاد كفر، وشرك; لا سيما إذا كانوا معادين لأهل التوحيد، وساعين في(12/265)
ص -261- ... إزالة دينهم، ومعينين في تخريب بلاد الإسلام; وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك، وجدت القرآن كله فيه، وقد أجمع عليه العلماء، فهو معلوم بالضرورة عند كل عالم.
وأما قول القائل: ما ذكرتم من الشرك، إنما هو من أفقية لا من أهل البلد; فيقال: أوّلاً: هذه إما مكابرة، أو عدم علم بالواقع، فمن المقرر: أن أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد، في دعاء الكعبة والمقام والحطيم، كما يسمعه كل سامع، ويعرفه كل موحد. ويقال ثانيا: إذا تقرر، وصار هذا معلوما، فذلك كاف في المسألة، ومن الذي فرق في ذلك؟!
فيالله العجب، إذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادهم، ولا تقدرون أن تصرحوا بدينكم، وتخافتون بصلاتكم، لأنكم علمتم عداوتهم لهذا الدين، وبغضهم لمن دان به، فكيف يقع لعاقل إشكال؟ أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة، أو المقام، أو الحطيم، أو يدعو الرسول، أو الصحابة: يا هذا لا تدع غير الله! أو أنت مشرك، هل تراهم يسامحونه؟ أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنهم ليسوا على توحيد الله; فوالله ما عرف التوحيد، ولا تحقق بدين الرسول صلى الله عليه وسلم.
أرأيت لو أن رجلا عندهم، وقال: يا هؤلاء راجعوا دينكم، واهدموا البنايات التي على القبور، ولا يحل دعاء(12/266)
ص -262- ... غير الله، هل يكفيهم فيه فعل قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لا والله لا والله; وإذا كانت الدار دار إسلام، لأي شيء لم تدعوهم إلى الإسلام؟ وتأمروهم بهدم القباب، واجتناب الشرك وتوابعه؟ فإن يكن قد غركم أنهم يصلون، أو يحجون، فتأملوا الأمر من أوله; وهو: أن التوحيد قد تقرر في مكة، بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم إنه فشا فيهم الشرك، بسبب عمرو بن لحي، فصاروا مشركين، وصارت البلاد بلاد شرك، مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، كما كانوا يحجون، ويتصدقون على الحاج.
وقد بلغكم شعر عبد المطلب، الذي أخلص فيه في قصة الفيل، وغير ذلك من البقايا، ولم يمنع ذلك الزمان من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظاهر عندنا وعند غيرنا: أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان، بل قبل هذا كله، أنه مكث أهل الأرض عشرة قرون على التوحيد، حتى حدث فيهم الغلو في الصالحين، فدعوهم مع الله فكفروا، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد; فتأمل ما قص الله عنهم; وكذلك ما ذكر الله عن هود: أنه دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، لأنهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك إبراهيم، دعا قومه إلى إخلاص التوحيد; وإلا فقد أقروا لله بالإلهية.(12/267)
ص -263- ... وجماع الأمر: أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه، وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد، وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون; من أهل مكة أو غيرهم، مع مسبتهم لأهل التوحيد، وتخطيئتهم لمن دان به، والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة.
وأما القضايا الجزئية، فنقول: قد دل القرآن والسنّة، على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك، والانقياد لهم، ارتد بذلك عن دينه، تأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية : 25] مع قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [سورة المائدة آية : 51] وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [سورة النساء آية : 140] وأدلته كثيرة.
ولا تنس ما ذكر الله، في سورة التوبة{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية : 66] وقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } [سورة التوبة آية : 74] واذكر قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ(12/268)
ص -264- ... مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية : 80].
وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [سورة الحج آية : 72] وقد علمت حالهم، إذا دعوا إلى التوحيد، انقهروا، والله أعلم.
[الآيات الدالة على عبادة الله وحده]
وقال الإمام: سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليه أتوكل ولا قوة إلا بالله. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ الاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا الاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة الأنعام آية : 1-7].(12/269)
ص -265- ... وقال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية : 1-3].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً الاَّ غُرُوراً} [سورة فاطر آية : 40] وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية : 4-6].(12/270)
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة العنكبوت آية : 41-42] وقال تعالى(12/271)
ص -266- ... حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ الاَّ لِلَّهِ أَمَرَ الاَّ تَعْبُدُوا الاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية : 39-40].
وقال تعالى مثلا لمن دعا غيره: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ الاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ الاَّ فِي ضَلال } [سورة الرعد آية : 14] وقال تعالى: { ٍقُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ الاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سورة سبأ آية : 22-23].
وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [سورة سبأ آية : 40-41].
وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا(12/272)
ص -267- ... يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [سورة المائدة آية : 116].
وقال تعالى: { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [سورة الحج آية : 12-13].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [سورة المؤمنون آية : 117] وقال تعالى: { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ الاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء آية : 117-118] وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن عبدوني هذا صراط مستقيم ، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون} [سورة يس آية : 60-62].
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية : 48] وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [سورة المائدة آية : 72] وقال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [سورة الحج آية : 31] وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ(12/273)
ص -268- ... لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [سورة النور آية : 39-40].
وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [سورة إبراهيم آية : 18] وقال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [سورة الفرقان آية : 23] وأمثال هذا في القرآن كثير، كل ذلك في النهي عن الشرك وتقبيحه، وبيان بطلانه; والتبرؤ منه واجب قبل التوحيد.
وهو معنى قوله تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [سورة البقرة آية : 256] وهو معنى قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [سورة الذاريات آية : 56] وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [سورة الجن آية : 18] وقال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } [سورة الرعد آية : 14] وقال تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ(12/274)
ص -269- ... خَبِيرٍ } [سورة فاطر آية : 35-36].
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [سورة النحل آية : 36].
وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [سورة الزخرف آية : 45] وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [سورة الأنبياء آية : 25] وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [سورة الإسراء آية : 23] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [سورة البقرة آية : 21] وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [سورة البينة آية : 5].
وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [سورة التوبة آية: 31] وقال تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [سورة غافر آية : 14] وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [سورة محمد آية : 19] وأكثر القرآن يدل على هذا، ويقرر عبادة الله وحده لا شريك له، ويحذر من عبادة ما سواه.(12/275)
ص -270- ... والعبادة: هي أفعال العباد، وهي اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فهو مشرك، سواء كان عابدا أو فاسقا، وسواء كان مقصوده صالحا أو فاسدا، ولا يعمي عن هذا إلا طاعة الشيطان، واتباع الهوى، والتكبر عن اتباع الحق، والمجادلة بالباطل، كما قال تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [سورة النجم آية : 23] وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [سورة القصص آية : 50].
وقال تعالى لعبده داود عليه السلام: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [سورة ص آية : 26ب] وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [سورة الأنعام آية : 153].
وقال تعالى حكاية عن المشركين: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [سورة الزخرف آية : 23] وفي الآية الأخرى: { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية : 74] وقال تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا(12/276)
ص -271- ... فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } [سورة غافر آية : 4]. إلى قوله: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } [سورة غافر آية : 5-6].
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [سورة الشورى آية : 16] وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [سورة لقمان آية : 7] وقال تعالى: { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } [سورة الجاثية آية : 9-11].
وقال تعالى في حق القرآن: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [سورة فصلت آية : 44] وقال تعالى:{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [سورة البقرة آية : 26] وقال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [سورة الزمر آية : 45] وقال تعالى{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ(12/277)
ص -272- ... عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً }: [سورة الجن آية : 19-21].
وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [سورة طه آية : 123-124].
والهدى الذي وعد الله به خلقه: محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما تحصى ولا تعد.
فمن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ عشر سنين، وبعض الحادية، قبل أن تفرض الفرائض: يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وترك عبادة ما سواه، يوافي الناس بالمواسم صلى الله عليه وسلم بعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، يقول: " يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " فلما قال لعمه أبي طالب، حين حضرته الوفاة "يا عم قل لا إله إلا الله"، قال أبو جهل، وعبد الله ابن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
ولما قال لقومه: " قولوا لا إله إلا الله " 1 قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية : 5] فعرف كفار قريش: أن قول لا إله إلا الله، ليس مجرد اللفظ، وإنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/227).(12/278)
ص -273- ... معناها نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله تعالى وحده لا شريك له; فلا خير فيمن كفار قريش، أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
وفي الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 1 وفي الحديث الثاني: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل " 2 قال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا، وفي رواية عناقا، كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقاتلتهم على منعها ".
وفي الحديث الثالث: " أُمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به"3، وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " 4.
وفي الحديث أيضا: " حين سأله جبرائيل عليه السلام، بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم، قال: يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1400) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) والاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , ومسلم : الإيمان (20 ,21) , والترمذي : الإيمان (2607) , والنسائي : الجهاد (3094) , وأبو داود : الزكاة (1556) , وابن ماجه : المقدمة (71) والفتن (3927) , وأحمد (1/11 ,1/19 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528).
2 الترمذي : تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394).
3 مسلم : الإيمان (21).
4 أحمد (2/92).(12/279)
ص -274- ... وتحج البيت. قال: صدقت; قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إلى آخر الحديث: " فلما ولَّى، قال لعمر: أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ".
ومن ذلك: مما يرد قولكم، ويبطل أعمالكم، قوله صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"1، وفي الحديث الآخر: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا" وما هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"3 قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [سورة آل عمران آية : 31] وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [سورة النساء آية : 80] وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [سورة الحشر آية : 7].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
2 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270).(12/280)
3 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم : الحج (1337) , وابن ماجه : المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/258 ,2/313 ,2/428).(12/281)
ص -275- ... وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1.
فالناصح لنفسه، الطالب نجاتها، المتبع للحق، يأخذ دينه من أصله، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ } [سورة آل عمران آية : 19ب] { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [سورة آل عمران آية : 85] وهذا كتاب الله بين أيديكم، وتفاسيره موجودة، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وشروح العلماء الربانيين، وما فسروا به القرآن، والأحاديث.
والقول الذي لا حقيقة له، لا يجدي على قائله شيئا، فدعواك أنك على حق، فمعاذ الله، ووعودك باطلة، ومن أكذب الكذب، وكل من له عقل صحيح، يشهد ببطلان قولك، وافترائك، وكذبك; فإن قلت: إن الله أمر بعبادة غيره، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها، فهذا عين الباطل، وأكذب الكذب، الذي ترده الفطرة، وكتاب الله وسنة رسوله.
وإن قلت: إنكم لم تعبدوا غير الله، ولم ترضوا بذلك، ولم تأمروا به الناس، فأفعالكم تبطل أقوالكم ظاهرا وباطنا، فإذا كان هذه الحضرات الباطلة، والمشاهد الملعونة، والبنايات على القبور، وصرف حق الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4607).(12/282)
ص -276- ... لها، من دعاء وذبح ونذر، وخوف ورجاء، وسؤال ما لا يسأل إلا من الله تعالى، والصلاة عندها، والتمسح بها، والهدايا إليها، وما أشبه ذلك من الأمور الشنيعة القبيحة، كل ذلك موجود عندكم ظاهرا، والذي لم يفعل ذلك فهو راض بفعله، وذاب عن أهله بالمال واللسان واليد.
وكذلك الصلوات الخمس متروكة، وكثير من الناس عندكم لم يصلوا جمعة ولا جماعة، ولا منفردين، والذي يصلي منكم، الكثير منهم يصلي في بيته منفردا، والذي يصلي جماعة قليل الناس، فإذا صلى خرج على الناس وهم في الأسواق، تاركين الصلاة، مقيمين على الفسوق، واللهو، والفجور، والبغي، ولا ينكر عليهم.
وكذلك الزكاة متروكة، لا تخرج من الأموال، ولا تخرص الثمار، ولا يعمل فيها عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجبي زكاتها، ولا تصرف في مصارفها التي صرفها الله من فوق سبع سماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يرض في الزكاة بقسم نبي ولا غيره، بل جزأها بنفسه، وتولى قسمها، بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية : 60] ".
وجميع أعمال البر غير الفرائض، لم تكن لكم شعارا،(12/283)
ص -277- ... ولم تأمروا بها، وجميع القبائح عندكم ظاهرة، وهي سجية كثيركم، الشرك بالله، والزنا، واللواط فعل قوم لوط، أهل المؤتفكات، الذين قال الله فيهم: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [سورة النجم آية : 53-54] نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، من سخطه وعقابه.
وكذلك الربا والسحر، والادعاء يعني ادعاء علم المغيبات، وجميع الآثام، كالخمر وأنواعه من المسكر، كالتنباك وأشباهه، والبغي والظلم والعدوان، وأخذ أموال الضعفاء والفقراء، وأرباب الأموال، وأهل الحرث، تأخذون أموالهم قهرا وظلما وعدوانا، وأشباه ذلك مما يطول عده، ويكثر ذكره، كل ذلك وأمثاله عندكم لم تنكروه.
والذي يدعي أنه لم يفعل من ذلك شيئا، فهو كما قدمنا لم ينكر، ولم يفارق أهله، بل هو قائم بنصرتهم بماله ولسانه، فهو وإن لم يفعل ذلك، فهو وهم سواء، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [سورة النساء آية : 140].
وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [سورة المجادلة آية : 22] الآية وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا(12/284)
ص -278- ... إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية : 113]. وفي الحديث: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1 وفي الحديث الثاني: " لا تراءى ناراهما " 2 وها أنتم تعوفون فعلكم، وتعرفون ما عندكم من الشرك والقبائح، وتعرفون أنفسكم، كما قال تعالى: {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [سورة القيامة آية : 14-15].
وإن قلت أيها المبطل: إن الذي أنتم عليه، هو الذي أمر الله به ورسوله، فقد كذبت وافتريت على الله ورسوله، وكابرت بالكفر والضلال، ونسبت إلى الله ما لا يليق به، ونسبت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بحقه، ويكذبك في ذلك كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وخلفها، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة الزمر آية : 32].
واعتمدت في ذلك على قول إخوانك الكفرة، الذين من قبلك، بما ذكر الله عنهم في كتابه، بقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : السير (1604) , والنسائي : القسامة (4780) , وأبو داود : الجهاد (2645).
2 الترمذي : السير (1604) , وأبو داود : الجهاد (2645).(12/285)
ص -279- ... الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية : 28-29].
وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية : 30]. وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك فرعون، حيث قال لما دعاه موسى عليه السلام، قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية : 29] فزعم عدو الله أنه وأعظ مذكر، قبحه الله من واعظ ومذكر.
وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك أبو جهل، حين قنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة" 1 قال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } [سورة الأنفال آية : 19] فأحانه الله الغداة، ولله الحمد والمنة، وطأ على رقبته عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المعركة، وقال عدو الله: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: " لله ورسوله، يا عدو الله، جعلك الله كذلك"; ونقول: جعلك الله كذلك، إن شاء الله تعالى.
وأما إنكارك: علينا تحليق الرؤوس، وتقول: إنا نحرم إسبال الشعر، ولم تلق علينا غير ذلك; فنقول: إنك كاذب علينا، ولا نقول إنه حرام إسبال الشعر، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، يسبلون الشعر؛ وها أنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق الشوارب، وإرخاء اللحى، وخالفتموه، حلقتم اللحى، وعقدتم الشوارب، وشابهتم النصارى في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/431).(12/286)
ص -280- ... فإن كنت تزعم أن كل من حلق رأسه خارجي، فانظر في رعاياك، وتراك ما تلقى في بغداد إلا محلوقا رأسه، وربما أنك محلوق رأسك.
فالذي نفعل ولا ننكر: أنه لما رزقنا الله الإسلام، وقام القتال بيننا وبين أعدائنا، وقع مقاتلة عظيمة ومعركة، واختلط المسلمون والكفار، فحاذر المسلمون على بعضهم من بعض، وكثير منهم اختار التحليق، وبعض منهم ما يحبون الشعر، والشعر إما يحسَّن أو يحلق، ومن شاء التحليق حلق; ومن شاء الإسبال أسبل، ولم نمنع أحدا من ذلك; وأما الذي يسبل الشعر، ويجعله وسيلة إلى الكفر والردة، فنحلق رأسه غما له، وإخلافا لعقيدته الفاسدة، إذا ظننا به الشر.
وأما ما ذكرت: إنا نقتل الكفار، فهذا أمر ما نتعذر عنه، ولم نستخف فيه، ونزيد في ذلك إن شاء الله، ونوصي به أبناءنا من بعدنا، وأبناؤنا يوصون به أبناءهم من بعدهم، كما قال الصحابي: على الجهاد ما بقينا أبدا.
ونرغم أنوف الكفار، ونسفك دماءهم، ونغنم أموالهم بحول الله وقوته، ونفعل ذلك اتباعا لا ابتداعا، طاعة لله ولرسوله، وقربة نتقرب بها إلى الله تعالى، ونرجو بها جزيل الثواب، بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا(12/287)
ص -281- ... الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية : 5]. وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الأنفال آية : 40] وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [سورة محمد آية : 4] الآية وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } [سورة التوبة آية : 14] الآية.
ونرغب فيما عند الله من جزيل الثواب، حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية : 111] وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة الصف آية : 10-11] والآيات والأحاديث ما تحصى في الجهاد، والترغيب فيه.(12/288)
ولا لنا دأب إلا الجهاد، ولا لنا مأكل إلا من أموال(12/289)
ص -282- ... الكفار، فيكون عندكم معلوما: أن الدين مبناه وقواعده، على أصل العبادة لله وحده لا شريك له، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية : 110].
وأما ما ذكرت من مسكننا في أوطان مسيلمة الكذاب، فالأماكن لا تقدس أحدا، ولا تكفره، وأحب البقاع إلى الله وأشرفها عنده مكة، خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي فيها إخوانك أبو جهل، وأبو لهب، ولم يكونوا مسلمين. والله جل ثناؤه جرت عادته بالمداولة، ولو في الأرض، بدّل دين مسيلمة بدين محمد صلى الله عليه وسلم وبدّل تصديق مسيلمة بتكذيبه، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نرجو أن الله يبدّل ذلك في أوطانكم سريعا، ونحن نزيل منها الباطل، ونثبت فيها الحق، إن شاء الله بحول الله وقوته.
وأما ما ذكرتم أنكم مشيتم على الأحساء، فنقول: الحمد لله على ذلك الممشى، فإنه ولله الحمد والمنة، هتك أستاركم به، ونزع به مهابتكم من قلوب المسلمين، وأخزاكم الله به الخزي العظيم الظاهر والباطن، الذي ما عليه مزيد، وقبله الممشى الذي أخذت به مدافعكم، وقتلت فيه عساكركم، يهلكون في كل منهل، ولكن كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية :(12/290)
ص -283- ... 101].
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة الرعد آية : 31].
فلما أتيتم الأحساء، وارتد معكم أهلها، ولم يبق إلا قصران من المسلمين، في كل واحد منهما خمسون رجلا، فيهم أطراف الناس، ما يعرفون من المسلمين، وأعجزكم الله تبارك وتعالى عنهم، وكدتموهم بكل كيد تقدرون عليه، مع وجه الأرض وباطنها، ونحن في ذلك نجمع لكم الجموع، ولا لنا همة غير ذلك، فلما تهيأنا للهجوم عليكم، ولم يبق بيننا وبينكم إلا مسيرة خمس مراحل، قذف الله الرعب في قلوبكم، ووليتم هاربين منهزمين، لا يلوي أحد على أحد، وأشعلتم النار في علف حصنكم، وثقل حملكم وخيامكم، كما قال تعالى:{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية : 2].
فلما علمنا بانهزامكم مدبرين، أخذنا لوجهكم طالبين، ورجع من المسلمين قريب ثلثي العسكر، لما عرفوا أن الله أوقع بكم بأسه، ولحقناكم، وأتيناكم من عند وجوهكم، ونوخنا مناخ سوء لكم، ورجونا أن الله قد أمكننا منكم، وأن يمنحنا أكتافكم، ويورثنا أرضكم ودياركم.
فلما حل بكم العطب، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، واستسلمتم لزهوق نفوسكم، توسلتم بابن ثامر،(12/291)
ص -284- ... وأمرته يبدي لنا الرقة والوجاهة، جاءنا، ثم جاءنا ركبك، وكتابك، وتوجهك، وجنحنا لقوله تعالى:{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنفال آية : 61] وأنت في تلك الساعة متحير برهانك، ضائع رأيك، تتأكى في وسط الناس على المراغة، وتقول: أحطكم في جحر عيني، ولح علينا حمود بن ثامر، ومحمد بيك، بالوجاهة ; وفي حال الحرب وأنت متق عنا بالعربان، جاعلهم بيننا وبينك، ولا خير فيمن جعل الأعراب ذراه. وقولك: إنا أخذنا كربلاء، وذبحنا أهلها، وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نتعذر من ذلك، ونقول:{ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [سورة محمد آية : 10].
وقولك: إنك طلبتنا أنت وباشتك، فالكذب عيب في أمر الدين والدنيا، قال تعالى:{ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية : 105]. وجميع الناس يفهمون: أنا لما نزلنا الأخيضر فوق القصر، على ثغبان، أقمنا بها سوق الحراج، على أموال الكفرة عبدة الأوثان، وأقمنا إحدى عشرة ليلة على منْزل واحد، وركابنا كلها عزيب ليست عندنا، وربما عندك من العربان من هو معنا في ذلك المنْزل، اسألهم يخبرونك إن كنت لا تدري.
ونحن ننتظركم في تلك المدة أنكم تظهرون علينا،(12/292)
ص -285- ... ونكر عليكم، ونستأصل عساكركم، ونتغلب على بلدانكم، فلما أيسنا منكم، وفرغ المسلمون من بيع ما أفاء الله عليهم، رحلنا بالعز والسلامة، والمغنم والأجر إن شاء الله تعالى. ثم بعد ذلك مشينا ونزلنا على بلدك البصرة، وأقمنا بها عشرة أيام، وذبحنا ودمرنا ما بلغك علمه.
والممشى الثالث: نحرناك في رأس الهندية، فلم نجدك، وقدمنا إلى المشهد، قواسة يقوسون حفره، فلما قصر الخشب، رجعنا ونزلنا الهندية، وقعدت جموع المسلمين حتى وصلت قريبا من خان ذبلة، وكل من لقوه وضعوا عليه السيف، ومن خان ذبلة إلى البصرة، أقمنا بها قريبا من عشرين ليلة، نأخذ ونقتل من رعاياك الحاضر والبادي، والأثر يدل على المؤثر; انظر ديارك الفلاحين والبوادي، من بغداد إلى البصرة، كم دمرت من الديار، ولم يبق فيها أثر - ولله الحمد والمنة - كل جميع هذه الجهة.
وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير استحلال لحرمتهما.(12/293)
ص -286- ... ونحن - ولله الحمد - أهل احترام لحرمه وتعظيمه، لا أنتم، كما قال الله تعالى:{ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية : 34]. فلما ضاق بهم الحال، وقطعنا عليهم السبل، ثم بعد ذلك فاؤوا ورجعوا، وانقادوا إلى أمر الله ورسوله، وأذعنوا للإسلام وأقروا به، وهدمنا الأوثان، وأثبتنا فيها عبادة الرحمن، وأقمنا فيها الفرائض، ونفينا عنها كل قبيح مما حرم الله ورسوله، ولم نكن - ولله الحمد - نسفك فيها دما، ولا نأخذ مالا، ولا ننفر منها صيدا، ولا نعضد شجرا.
فإذا كنت تزعم أنها من ولايتك، فما منعك أن تفك ولايتك، أو تنفع أهلها بِميْرة حين ضاق بهم الحال، بل كنت إلى الآن لم تؤد فريضة حجك، وأرجو أن تموت على ملتك النصرانية، وتكون من خنازير النار، إن شاء الله.
وما ذكرت من افتخارك أنك وزير بغداد، فنعوذ بالله من هذه الوزارة، بل تحملت وزرك، وأوزار من اتبعك، كما قال تعالى{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية : 25]. وإنما افتخر بمثل ذلك أخوك فرعون، بقوله:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف آية : 51] إلى قوله:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(12/294)
ص -287- ... فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [سورة هود آية : 99].
فلما ولاك الله رعيتك، فما بالك لم تتولها بخير؟ بل توليتها بشر; فعلت بهم من الظلم، وسفك الدماء والعدوان، ما لا يوصف، ولا يفعله من يؤمن بالله واليوم الآخر، وخنت في أمانتك التي استأمنك عليها سيدك سليمان باشا، الذي اشتراك من حر ماله، وجمعك أنت رابع أربعة، حين حضرته الوفاة، يوصيكم على عياله، وأخذ عليكم العهد والميثاق، وخنت بالعهد، وذبحت الثلاثة، ونفيت عيال سيدك من مملكتهم، وتوليت أموالهم.
والعجب كل العجب من رعيتك، الذين يزعمون أنهم أهل ذكاء وفطنة، يرضون أنهم يولون عليهم رجلا، أصله نصراني على غير ملتهم، وفرعه مملوك، وهذا أعظم ما دلنا على ذهابهم إن شاء الله، وتدمير أمرهم بحول الله وقوته.
فإن أردت النجاة وسلام الملك، فأنا أدعوك إلى الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم " أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً(12/295)
ص -288- ... مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية : 64] وقوله:{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية : 14] وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية : 33].
[المهادنة والمسابلة على غير الإسلام أمر محال]
وأما المهادنة: والمسابلة على غير الإسلام، فهذا أمر محال بحول الله وقوته، وأنت تفهم أن هذا أمر طلبتموه منا مرة بعد مرة، وأرسلتم لنا عبد العزيز القديمي، ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك وطلبتم المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزية، وفرضتم على أنفسكم كل سنة، ثلاثين ألف مثقال ذهبا، فلم نقبل ذلك منكم، ولم نجبكم للمهادنة. فإن قبلتم الإسلام فخيرتها لكم وهو مطلوبنا، وإن أبيتم فنقول لكم، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية : 137] ونقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران آية : 173] ونقول: يا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية : 3] ونقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية : 81] ونقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سورة سبأ آية : 49] ونقول كما قال الله(12/296)
ص -289- ... لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية : 129].
وما ذكرته من المواعدة، فالزمط ليس للرجال، ونشيم أنفسنا عن الزمط والكذب، ومتى وصلنا الله وصلناكم عن قريب إن شاء الله تعالى، فإذا سمعت ضرب المدافع والبارود، ورأيت الحريق في بلدانك إن شاء الله، فلا تذخر، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[ما يوجب الجهاد]
وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون.
أما بعد:
فإنه قد بلغني أن بعض الناس قد أشكل عليه جهاد المسلمين لأهل حايل، هل هو شرعي أم لا؟ فأقول وبالله التوفيق: الجهاد مشروع لأحد أمور: منها: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، فمن خرج عن(12/297)
ص -290- ... طاعته، وجب جهاده على جميع الأمة، ولو كان الخارج مسلما، كما " جاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج، وهو يعتقد إسلامهم; فإنه سئل عن كفرهم، فقال: من الكفر فروا; " وقال مرة أخرى لما سئل عنهم: "إخواننا بغوا علينا".
والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم " من أتاكم وأمركم جميع على رجل، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه كائنا من كان " 1. وما زال الأئمة في كل زمان ومكان، يجاهدون من خرج عن طاعة إمام المسلمين، والعلماء يجاهدون معهم ويحضونهم على ذلك، ويصنفون التصانيف في فضل ذلك، وفي فضل من قام فيه، لا يشك أحد منهم في ذلك، إلا أن يأمر الإمام بمعصية الله، فلا تحل طاعته لأحد، بل تحرم طاعة مخلوق في معصية الخالق.
وأهل حائل أمرهم الإمام بالدخول في الطاعة، ولزوم السنّة والجماعة، ومنابذة أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فأبوا ذلك وتبرؤوا منه; والإمام يقول - من أول الأمر إلى يومنا هذا - لهم الشريعة، مقدمة بيني وبينكم، نمشي على ما حكمت به، على العين والرأس، فلم يقبلوا ولم ينقادوا، فوجب قتالهم على جميع المسلمين، لخروجهم عن الطاعة، حتى يلتزموا ما أمرهم به الإمام من طاعة الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1852).(12/298)
ص -291- ... الأمر الثاني: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به:عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحل دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه"1،علق عصمة المال والدم بأمرين:
الأمر الأول: قول: لا إله إلا الله;.
الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله.
فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين:
الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة.
الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين ; فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(12/299)
ص -292- ... نواقض الإسلام: الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر.
الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام: لثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [سورة المائدة آية : 51] فمن اتصف بشيء من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منع شيئا من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه.
وبهذا يتبين لك: أن جهاد أهل حائل، من أفضل الجهاد، ولكن لا يرى ذلك إلا أهل البصائر، وأما من لا بصيرة عنده، فهو لا يرى الجهاد إلا لأهل الأوثان خاصة، وأما من أقر بالشهادتين، فلا يرى جهاده، بل ذلك قد أشكل(12/300)
ص -293- ... على من هو أجل من أهل زماننا، كما قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: " كيف تقاتل الناس؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها فقال أبو بكر رضي الله عنه إن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها " 1.
فدل هذا على أن من منع حقا من حقوق الإسلام، أنه يجب جهاده، وأنه من أفضل الأعمال، وأن الذي يرى ذلك حقا هو من أبصر الناس، فيحمد الله على ذلك، والدليل على أنه من أبصر الناس، قصة أبي بكر مع عمر رضي الله عنهما، فإنه فهم أن قتالهم حق، وقد أقروا بالشهادتين، وتركوا الشرك ; وعمر رضي الله عنه لم يفهم ذلك، حتى بين له أبو بكر رضي الله عنه.
وكان العلماء رحمهم الله يعدون فهم أبي بكر لهذا من فضائله، وهذا كاف لمن قصده الحق، وأما من أعمى قلبه الهوى عن الهدى، فلا حيلة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
[الاستعانة بالمشرك]
وتقدم قول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في شبهة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394).(12/301)
ص -294- ... قال بالاستعانة بالمشرك عند الضرورة، والتتمة في ذلك 1.
وقال في موضع آخر: وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " 2 وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم; وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة وزلة ذميمة، كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله؟ ويهدّ ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس؟
وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر والنصيرية ونحوهم، كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله; وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهلها.
وأما مسألة: الاستنصار، فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون، منع ذلك مطلقا، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن عوف، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في صفحة: 373 و374/ج/8 .
2 مسلم : الجهاد والسير (1817) , والترمذي : السير (1558) , وأبو داود : الجهاد (2732) , وابن ماجه : الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي : السير (2496).(12/302)
ص -295- ... عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتابا أو سنّة.
ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وأن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وأن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.
وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان، وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ما ... لم يفد نظرا وحسن تبصر
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهما الله في أثناء كلام له:
فلو وفق الإمام للاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم، وأحبهم، وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل; فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم:(12/303)
ص -296- ... " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"1. فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله، نظر في أولئك القوم، وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة، أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا ؟ فإذا أرشدوه إلى من كان يصلح في ذلك، قدمه فيهم، ويستعين عليه بأن يسأل عنهم من لا يخفاه أحوالهم، من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك.
وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم، يزول الملك، ويضعف الدين، ويسود القبيلة شرارها، ويصير على ولاة الأمر كفعل من فعل ذلك; فالسعيد من وعظ بغيره، وبما جرى له وعليه، وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا قلعت وكسرت، مادت وتقلبت، كما قال العلامة ابن القيم: ولكن رواسيها وأوتادها هم.
قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.
وسئل أيضا: هو، والشيخ حسين، وإبراهيم وعلي، عن السبي؟
فأجابوا: أما سبي مشركي العرب، فاختلف العلماء في ذلك: فبعضهم لا يرى سبي مشركي العرب جائزا، وبعضهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي : الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي : البيوع (2532).(12/304)
ص -297- ... يرى جواز ذلك، وهو الصواب الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما ثبت ذلك، من فعله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، وغيرهم.
[الغل من الغنيمة]
وقال أيضا: ابنا الشيخ محمد، وحمد بن ناصر بن معمر، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله، وعلي، وحمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية : 55]، فالمؤمن إذا ذكر تذكر، وإذا وُعظ انتفع بالموعظة، وعمل بمقتضاها، وأميركم جزاه الله خيرا: نصحكم، ووعظكم، وأبدى وأعاد، ومع ذلك لم ينتفع بالموعظة إلا القليل، والله تعالى قد ذكر عن الكفار، أنهم لا ينتفعون بالذكر، قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [سورة الصافات آية : 13] ومن سمع المواعظ ولم ينتفع بها، فقد شابه الكفار في بعض أحوالهم، وذلك دليل على عدم معرفة الله وخشيته، لأن المؤمن إذا ذكر انتفع، كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية : 10].
والغلول: قد عظم الله أمره، وأخبر في كتابه: أن صاحب الغلول، يأتي به يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَنْ(12/305)
ص -298- ... يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة آل عمران آية : 161]. وجاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد، والوعيد الأكيد، على من غل شيئا من المغنم، قليلا كان أو كثيرا.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك ; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رقاع تخفق، يقول، يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " وعن عبد الله بن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن(12/306)
ص -299- ... الحجر يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به، فذلك قوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين: "أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة " 1.
وعن أبي هريرة، قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله عليه، ثم انطلقنا إلى الوادي- يعني وادي القرى - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، فلما نزلنا قام يحل من رحله، فرمي بسهم كان فيه حتفه، فقلنا هنيئا له الشهادة، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا، التي أخذها من المغانم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم. قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار " 2.
وعن أبي حازم، قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنطع من الغنيمة، فقيل: يا رسول الله، هذا لك تستظل به من الشمس، فقال: أتحبون أن يستظل نبيكم بظل من نار"، وعن عبد الله بن عمرو، قال: "كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار. فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها"3. فالأحاديث في النهي عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الجهاد (2850).
2 البخاري : المغازي (4234) , ومسلم : الإيمان (115) , والنسائي : الأيمان والنذور (3827) , وأبو داود : الجهاد (2711) , ومالك : الجهاد (997).
3 البخاري : الجهاد والسير (3074) , وابن ماجه : الجهاد (2849) , وأحمد (2/160).(12/307)
ص -300- ... الغلول، والتشديد على من فعله، كثيرة جدا.
فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وتناصحوا فيما بينكم، واذكروا زوال الدنيا وسرعة انقضائها; وليحذر الناصح لنفسه، أن يلقى الله وقد غذي جسمه بالحرام; ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما لحم نبت على السحت، كانت النار أولى به " 1 والله سبحانه فرض على عباده الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذم من لا يفعل ذلك، فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية : 79].
فمن علم عند أحد شيئا من المغنم، فلينصحه وليأمره بأدائه، فإن لم يفعل فليرفع حاله إلى الأمير، فإذا سكت عن الغال، كان شريكا له في الإثم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كتم غالًّا فإنه مثله"2. ولا عذر لأحد - ولله الحمد - في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; والغلول قد فشا في الناس واشتهر؛ والمعصية إذا خفيت صار وبالها على من فعلها، فإذا ظهرت ولم تنكر ضرت العامة؛ نعوذ بالله وإياكم من زوال نعمه، وحلول نقمه.
والله تعالى - وله الحمد - قد أعطاكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، فكونوا ممن يحدث عند النعم شكرا، فإن الله وعد الشاكرين المزيد من فضله، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الجمعة (614).
2 أبو داود : الجهاد (2716).(12/308)
ص -301- ... عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية : 7]. والمعاصي سبب لتغيير النعم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [سورة الرعد آية : 11] وكثير من الناس، يتأول في الغنيمة تأويلات فاسدة، منها استرخاص الإمام، أو طلبه منها، ويظن أن الإمام إذا رخص له، أو طلبه فأعطاه، أن الغنيمة تحل له بذلك والأمير لا يحلل الحرام وربما يجوز للإمام أن يعطي، ولا تحل العطية لمن أخذها، فقد جاء في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني لأعطي الرجل العطية، فيخرج بها يتأبط بها نارا " أو كما قال.
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض على من قدر عليه من جميع الرعية؛ وهو في حق الإمام أعظم، فلا يجوز للإمام ترك الإنكار على أحد من المسلمين، بل يجب عليه القيام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القريب والبعيد، ويؤدب الغال بما يردعه وأمثاله، عن الغلول من أموال المسلمين.
وقد روى أبو داود، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا وجدتم الرجل قد غل، فاحرقوا متاعه واضربوه"1، وعن عمرو بن شعيب، قال: " إذا وجد عند الرجل الغلول، أخذ وجلد مائة جلدة، وحلق رأسه ولحيته، وأخذ ما كان في رحله من شيء، إلا الحيوان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الجهاد (2713) , والدارمي : السير (2490).(12/309)
ص -302- ... وأحرق رحله، ولم يأخذ سهما في المسلمين أبدا. قال: وبلغنا أن أبا بكر وعمر كانا يفعلانه". فالواجب على الإمام: القيام على الناس بالآداب البليغة التي تزجر عن المعاصي، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ومن سمع المواعظ والزواجر، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يرتدع، ولم ينْزجر، استحق العقوبة البليغة التي تزجره، على فعل المنكرات، وتعاطي المحرمات والغلول قد فشا وظهر، واشتهر، وكثير من الناس لا يعده ذنبا، ولا ينقص الغال عند من لا يغل، ولا يسقط من أعين الناس، مثل سقوط السارق ونحوه، ممن يفعل الكبائر. والغلول من الكبائر المحرمة، التي حرمها الله ورسوله.
وقال أيضا الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ بعد كلام سبق: ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول؛ منهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية : 161] وفي الحديث " إن الغلول عار، ونار وشنار " 1.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وكل من أخذ ما لا يستحقه، من الولاة والأمراء والعمال، فهو غال، كما في الصحيحين، عن أبي هريرة، قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، حتى قال: " لا ألفين أحدكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك : الجهاد (994).(12/310)
ص -303- ... يجيء يوم القيامة على رقبته.."1 الحديث، وأخبرنا أن هدايا العمال غلول، فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري.
وكذلك ما يتبع الزكاة، من النائبة، قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غنى عما منع وحرم. ومن الواجب على ولي الأمر: ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه، إن حصل تسديد من الله، ومن بتوفيق من عنده وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف، من الأعشار، لا يلي، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين، ويلزم ولي الأمر أيده الله أن يلزم التجار الزكاة الشرعيه قهرا، ويدع ما لا يحل.
[مصرف خمس المغنم]
سئل الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله، عن خمس المغنم، هل مصرفه من تضمنته آية الأنفال، ومن المراد بذوي القربى؟ وهل اليتامى والمساكين في الآية منهم؟ أم لا؟ وهل ورد لها ناسخ فللإمام صرفه في نفسه وفيمن شاء؟
فأجاب: أجمع العلماء على أن الآية محكمة غير منسوخة، وإنما اختلفوا في المراد بذوي القربى، فقال كثير فهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قرابة الإمام معهم. وأما اليتامى والمساكين المذكورون في الآية فقال كثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (3073).(12/311)
ص -304- ... من أهل العلم. إن المراد بهم: فقراء المسلمين ومساكينهم.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأما ما ذكرت من جهة " الزر " الذي يأخذه ابن سعود على من ظهر من عندكم، فإن ابن سعود لم يأخذ على أهل نجد وبواديهم شيئا، وأخذه على أهل الأحساء، لأنه لم يثبت عنده إسلامهم على عادته، حال كونهم محاربين، فإذا نفوا الشرك، وهدموا الأوثان، وكفوا عن عداوة الإسلام وأهله، وعملوا بالإسلام لم يأخذ عليهم شيئا.
[المكوس الموضوعة على الناس]
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله: وقد ذكرنا لك فيما مضى، من جهة هذه المكوس التي وضعت على الناس، وأنها من أعظم المحرمات، لأن الله حرم الظلم على نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: " إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا "1، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الحج الأكبر، وهو واقف بعرفة " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب " واذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية : 41] ومن المعروف الذي أوجبه الله على عباده: اجتناب أسباب الظلم وتحرى العدل في الأقوال والأعمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160).(12/312)
ص -305- ... ومن المنكر الذي حذر الله عنه: تعاطي ما حرمه الله، من الظلم وغيره واذكر قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة النحل آية : 90] قال شيخ الإسلام: هذه الآية جمعت فعل ما أوجبه الله، واجتناب جميع ما حرمه الله، فإنه لا يستقيم للولاة أمر إلا بالعمل بما دلت عليه هذه الآية، ونظيرها قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية : 58] فالعدل مطلوب شرعا، في الأقوال والأعمال والأخلاق.
والإحسان شامل للإحسان للناس في معاملتهم، وفي الولاية عليهم، وترك الظلم والتعدي عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، لما أمره بأخذ الصدقة، قال له: " واتق دعوة المظلوم " 1.
وقال في "الاقتضاء": وعامة الأمراء، إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة، من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة لأنفسهم، وأقاموا الحدود المشروعة، على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم، للعدل الذي شرعه الله، لما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1496) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).(12/313)
ص -306- ... احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم، انتهى.
واذكر أيضا: الديوان الثالث، الذي لا يترك الله منه شيئا، فالحذر الحذر، من أسباب الشر وموجباته! ومن أعظم الأسباب الجالبة للنصر، وخذلان العدو قريبا أو بعيدا: تقوى الله، ورفض هذه المكوس المحرمة، التي لم تعهد في أسلافكم، لأن المعهود عنهم رحمهم الله، رفع المظالم، والمكوس، في كل بلد يتولون عليها، فشكرهم على ذلك أهل الإسلام، وجعلوا ذلك من مآثرهم الحميدة.
وفي الحديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عملها" 1. وهذه المكوس هي والله من السيئات المذمومة، فإن من أعظم ما أساء المسلمين: وضع هذه المحرمات. وقد رأيت لبعض العلماء " فائدة " يحسن ذكرها، لعظم نفعها، ومطابقتها للواقع.
قال رحمه الله: العدل إذا كان شاملا، فهو أحد قواعد الدنيا والدين، الذي لا انتظام لهما إلا به، ولا صلاح فيهما إلا معه، وهو الداعي إلى الألفة، والباعث على الطاعة، وبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الزكاة (1017) , والنسائي : الزكاة (2554) , وابن ماجه : المقدمة (203) , وأحمد (4/357 ,4/358).(12/314)
ص -307- ... تعمر البلاد، وبه تنمو الأموال، ومعه يكثر النسل، وبه يأمن السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق، من الظلم والجور، لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد، حتى يستكمل.
والعرب لما استناروا بنور الدين المبين، وجمعت متبدد شملهم كلمة الحق، ودان لهم من دان من الأمم، شملوا الناس بالعدل في أحكامهم، وأعمالهم وأقوالهم، إذ كان من أهم مقاصد الشريعة الغراء، وأعظم مطالبها وأجل قضاياها، وبذلك تعلقت آيات التنْزيل، فمنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [سورة النساء آية : 58] وفي الحديث " بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد " إلى غير ذلك من النصوص، التي يضيق عنها الحصر.
ومن وقف على سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم، من أمراء العدل من العرب تبين له: أن ما كان من استقامة ملكهم، واتساع مملكتهم، إنما هو بالعدل التام، ووضع الأمور في مواضعها والعدل باب واسع، يجري في أمور كثيرة، ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه، ثم عدله في غيره.
فأما عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح،(12/315)
ص -308- ... وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف على أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها، فهو على غيره أجور.
وأما عدله في غيره، فهو على أقسام منها: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، ويدخل فيه الرجل مع أهل بيته، والأستاذ مع تلامذته، والسيد مع خدمه وأرقائه، ففي الحديث " كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته " والعدل هاهنا يكون باتباع الميسور، وخوف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في الميسور، فإن اتباع الميسور أدوم، وترك المعسور أسلم، وعدم التسلط عطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة، وهذه أمور إن لم تسلم للزعيم المدبر، كان الفساد بنظره أكثر، والاختلاف بتدبيره أظهر.
وفي الحديث: " أشد الناس عذابا يوم القيامة، من أشركه الله في سلطانه، فجار في حكمه " وعن بعضهم: ليس للجائر جار، ولا تعمر له دار وقال: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
ومنها: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانها، والصحابة مع رئيسها، وعائلة الرجل معه وغير ذلك، فقد يكون بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق(12/316)
ص -309- ... الولاء فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء، تسلط عليه من كان يدفع عنه، واضطر إلى اتقاء من يتقي به، قال البحتري:
متى أحوجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئام
وفي استمرار هذا حل نظام جامع، وفساد صلاح شامل؛ قال بعض الأكابر: أطع من فوقك، يطعك من دونك.
ومنها: عدل الإنسان مع أكفائه، وذلك بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص الأكفاء، أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا، انتهى مخلصا.
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، وعبد العزيز، وعمر ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ محمد بن عثمان، والشيخ عبد العزيز الشثري.(12/317)
ص -310- ... وأما المكوس: فأفتينا الإمام بأنها من المحرمات الظاهرة، فإن تركها فهو الواجب عليه، فإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين، والخروج عن طاعته من أجلها وأما الجهاد: فهو موكول إلى نظر الإمام، وعليه أن ينظر ما هو الأصلح للإسلام والمسلمين، على حسب ما تقتضيه الشريعة.
[نصيحة إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل]
وقال بعضهم أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى وهداه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الكتاب: السلام، والنصيحة، والمعذرة إلى الله تبارك وتعالى، والإعذار إليك وإلى عباد الله المؤمنين، وأداء ما استؤمنا عليه، والخشية أن نكب على وجوهنا في نار جهنم، ونكون من الغاشين للإسلام والمسلمين. إذا عرفت هذا، فاعلم: أن حقك علينا كبير(12/318)
ص -311- ... وحق رب العالمين علينا أعظم وأكبر، وإذا تعارضا، فالمتعين هو تقديم حق الرب على ما سواه، فنرجوه تعالى أن يعيننا على ذلك، ويحسن لنا الختام وقد ولاك الله على المسلمين، واسترعاك عليهم، فإن قمت بحق تلك الرعاية فهي من أعظم نعم الله عليك، وإن ضيعت وأهملت - أعاذك الله من ذلك - صارت عليك نقمة ووبالا.
واعلم: أن مقصود الولاية، هو إصلاح دين الناس ودنياهم، التي يتوصلون بها إلى إقامة دينهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، انتهى.
وأنت عارف بما كان عليه أهل نجد، قبل هذه الدعوة المباركة، من الشر، في دينهم ودنياهم، ثم إن الله تعالى أنقذهم من ذلك بهذه الدعوة الدينية، قدس الله أرواح من قام بنصرها، وجزاهم عن أهل نجد خصوصا، وعن المسلمين عموما، خير ما جزى به من قام بنصرة دينه، وجاهد في الله حق جهاده. ولم تقم دعوتهم، ولا استقامت ولايتهم، إلا على أمرين: القيام بحق الله تعالى، والقيام بحقوق عباده، ورعاية مصالحهم؛ يعرف ذلك من سيرتهم، كل من له أدنى إلمام بشيء، من العلم بأحوالهم.(12/319)
ص -312- ... ثم لما وقع التقصير منهم، في أشياء دون ما نحن فيه اليوم، حل بهم ما حل، مما نرجو أنه كفارة لهم، وتمحيص، ومحق لأعدائهم، فعاد نجد إلى قريب من حالته الأولى، بسبب ارتكاب بعض المحرمات.
ثم إن الله تعالى من بتجديد الدعوة، وقام بنصرها جدك تركي، وجدك فيصل، جزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خيرا؛ ولهما من السيرة المحمودة، وتقديم الشرع، وترك الظلم والتعدي، وإقامة العدل ما لا يحتاج إلى شرح.
ثم لما توفي جدك فيصل رحمه الله تعالى، وحصل ما حصل، انحلت عرى هذه الولاية، ووقع بأهل نجد ما لا يخفى عليك.
ثم إن الله تعالى من بولايتك، وحصل بها من الإقبال والنصر للمسلمين، وقمع عدوهم، ما هو من أعظم نعم الله عليهم وعليك ولم يزل الله بفضله يرقيك من حالة إلى حالة، وإمامك في هذا كله: الكتاب والسنة، والعدل في الرعية؛ فاستتب لك الأمر، وأعلاك الله، ونصرك على من ناوأك.
ثم آلت بك الحال - هداك الله، وأخذ بناصيتك - إلى الوقوع في أمور كثيرة، هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ(12/320)
ص -313- ... حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [سورة الرعد آية : 11].
منها: إلزام الناس أن يظلم بعضهم بعضا، وأن ترفض الطريقة النبوية، الجارية في أسواق المسلمين، وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار، الجارية في أسواقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك هو إلزامكم بحجر الناس، على مقدار من السعر في الصرف، لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في الأرض، والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض بالباطل، والحجة في ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس، وحديث أبي هريرة، وغيرهما من الأحاديث.
قال مجد الدين ابن تيمية في كتابه "منتقى الأخبار"، باب النهي عن التسعير: عن أنس قال: " غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال " رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، انتهى. قال شارحه: وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، قال: " جاء رجل، فقال: يا رسول الله سعر، فقال: بل أدعو الله ثم جاء آخر، فقال: يا رسول الله(12/321)
ص -314- ... سعر، فقال: " بل الله يخفض ويرفع"1، قال الحافظ: وإسناده حسن، وعن أبي سعيد، عند ابن ماجه، والبزار، والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح، وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه وعن ابن عباس عند الطبراني في الصغير، وعن أبي جحيفة عنده في الكبير، انتهى.
وهذا هو قول أهل العلم، كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم رحمهم الله تعالى؛ قال الوزير أبو المظفر ابن هبيرة، في كتابه "الإفصاح": باب التسعير والاحتكار اتفقوا على كراهة التسعير، وأنه لا يجوز، انتهى.
فيا عبد العزيز اتق الله، تتم لك النعمة، وحكم كتاب الله، وسنة نبيه، واتق الظلم فإنه سبب لحلول النقم وزوال النعم، وحقوق الخلق أمرها عظيم وفي الحديث " الدواوين ثلاثة، ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وهو الشرك بالله، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وهو حقوق الخلق، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه " 2.
وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة فصلت آية : 46] وقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية : 49].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : البيوع (3450) , وأحمد (2/337).
2 أحمد (6/240).(12/322)
ص -315- ... وقال تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الشعراء آية : 209] وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [سورة الشورى آية : 42] وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته، في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" 2، وروي عنه: أنه خطب بذلك في يوم النحر، وفي يوم عرفة، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية: ثم قال: " اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظالموا! إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " 3 وفي الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الظلم ظلمات يوم القيامة " والأحاديث في ذلك كثيرة.
ومنها: أمر الطويل في الأحساء وتوابعها، هو وأعوانه الذين استجلبهم من الخارج، وسومهم الناس سوء العذاب، مع ما اشتهر من أنواع الفواحش. وقد مضى أزمان والناس يرفعون أكفهم بالدعاء لكم، في السر والعلانية، ولا نأمن الآن أنهم يرفعونها بالدعاء عليكم وفي الحديث " واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160).
2 البخاري : العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447) , ومسلم : القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/40 ,5/49) , والدارمي : المناسك (1916).
3 أحمد (5/72).(12/323)
4 البخاري : الزكاة (1496) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).(12/324)
ص -316- ... ولا يملك الناس إلا أمران: العمل فيهم بالشرع، والتحبب إليهم بالإحسان، أو بترك الظلم ولا تظهر ضغائن الناس، إلا عند سؤالهم أموالهم، قال تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [سورة محمد آية : 37] ونسأل الله أن يأخذ بناصيتك، ويهديك صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[الرافضة]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عمر، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الله، وعبد الله بن حسن بن إبراهيم، ومحمد بن عثمان، وعبد العزيز الشثري، وفقهم الله تعالى:
أما الرافضة: فأفتينا الإمام، أن يلزموا بالبيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل. وعلى الإمام أيده الله أن يأمر نائبه على الأحساء، يحضرهم عند الشيخ ابن بشر، ويبايعونه على دين الله ورسوله، وترك الشرك، من دعاء الصالحين من أهل البيت، وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع، من اجتماعهم على مآتمهم وغيرها،(12/325)
ص -317- ... مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويمنعون من زيارة المشاهد.
وكذلك يلزمون بالاجتماع للصلوات الخمس، هم وغيرهم في المساجد ويرتب فيهم أئمة ومؤذنين، ونوابا من أهل السنة، ويلزمون تعلم ثلاثة الأصول؛ وكذلك إن كان لهم محال بنيت لإقامة البدع فيها، فتهدم، ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها؛ ومن أبى قبول ما ذكر فينفى عن بلاد المسلمين.
وأما الرافضة من أهل القطيف، فيأمر الإمام أيده الله الشيخ يسافر إليهم، ويلزمهم ما ذكرنا.
وأما البوادي والقرى التي دخلت في ولاية المسلمين، فأفتينا الإمام يبعث لهم دعاة ومعلمين، ويلزم نوابه من الأمراء في كل ناحية، بمساعدة الدعاة المذكورين، على إلزامهم شرائع الإسلام، ومنعهم من المحرمات.
وأما رافضة العراق، الذين انتشروا، وخالطوا بادية المسلمين، فأفتينا الإمام بكفهم عن مراتع المسلمين، وأرضهم.
[المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، إلى آخره.
فأجاب: المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، يصرف(12/326)
ص -318- ... لمصالح المسلمين: يصرفها الإمام، إما في الجهاد، أو في تأليف بعض الناس على الإسلام، أو الفقراء، أو المساكين.
وأجاب في موضع آخر: إن كان ذلك في البلد التي تحت ولاية إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام، كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي على بيت اللات حيث هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المنذور في موضع ليس حكمه تحت حكم إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده، لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه.
[مصارف خمس الغنيمة]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله عن الخمس.. إلخ.
فأجاب: وما ذكرت من مسألة الخمس، فاعلم: أن الأمر أمران: أمر نأمر به، وأمر: يفعله الغير، ومحتاج إلى الإنكار فيه والثاني فتوسع فيه، إلى أن ترى منكرا صريحا، إذا ثبت هذا، فمسألة الخمس لا أكره إذا أخذ من الخمس، وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم وذوي القربى، ففيه كلام طويل؛ وقد ذكر: أن أبا بكر وعمر، لم يعطيا بني هاشم، ثم فالذي أرى أنه يجرى في المصالح، حتى يتبين فيه حكم.
وأما مصرف المصالح عندكم، فهذا الذي تذكر أنهم يفعلونه، ما علمت فيه خلافا لكن لا يقتصر عليه، بل من(12/327)
ص -319- ... المصالح ما هو أعم منه وأما الغنيمة إذا أخذت قبل الخمس، فإذا لم يفوض فخمسها فيها معها.
سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا قتل مسلم كافرا، وأخذ سلبه، فأصاب فيه دراهم.. إلخ؟. فأجاب: الذي نفهم أن حكمه حكم سلبه يصير له؛ والذي نفهم أنه ما فيه خمس.
[مال المسلم الذي استرده المسلمون مع الغنيمة]
سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إذا أخذ الكفار مال مسلم، ثم استولى عليه المسلمون قهرا، ولم تقع فيه قسمة، كما لو قتل مسلم كافرا وأخذ سلاحه، وعرفه مسلم، أو أخذه بعض المسلمين من الكفار، واختص به من غير قسمة.
فأجاب: في هذه الصورتين، يأخذه المسلم ممن غنمه بغير شيء، لعدم وقوع القسمة المانعة، وذلك: لما روى مسلم عن عمران بن حصين، " أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأصيبت العضباء، وأسرت امرأة من الأنصار، فكانت المرأة في وثاق، وأقامت عندهم أياما. ثم انفلتت من الوثاق، فأتت الإبل فركبت العضباء، ونذرت إن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة، أخبرت أنها نذرت لتنحرنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ".(12/328)
ص -320- ... [ما يؤخذ منه أجرة الأجراء في الجيش]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن سبور الغزو، والأجراء، هل أجرتهم من رأس الغنيمة ؟ أو في أربعة الأخماس؟
فأجاب الظاهر أنها من رأس الغنيمة، من الخمس وغيره. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر؛ فإن الله ميزها وقسمها، فلا يحل تعدي ذلك وخلطها، بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا، ولهذا مصرفا, ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه: أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء؛ ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى، ويعطون ما فرض الله ورسوله من الحق من الفيء والغنيمة، فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بهم: من عرف التوحيد، والتزمه. وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا(12/329)
ص -321- ... الدين، وهذا الأمر يعرفه كل عالم وفي الحديث: " إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار". عافانا الله وإياكم من النار، ومن عمل أهل النار.
وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله بعد كلام له: إذا عرف هذا: فلو سلم تسليما صناعيا، أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال، لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك الشافعية وغيرهم من أهل العلم؛ بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته: أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يقتدى به من أهل العلم.
وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك:
قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء ... أنت من جهلك بمحل السفهاء
فإن الاقتداء بالسلف الماضي هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكى عنه تركها، كأحمد وابن المبارك، وسفيان وأمثالهم، فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم - إلى أن قال - وقد قال عثمان رضي الله عنه " جوائز السلطان لحم ضبى ذكي ".(12/330)
ص -322- ... وقال ابن مسعود - لما سئل عن طعام، من لا يجتنب الربا في مكسبه –: "لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما " وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن؟ قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير المختار، حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث: " إذا دخل أحدكم بيت أخيه، فأطعمه من طعامه، وسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه " 1، والحديث معروف في السنن.
قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كان معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان ونيل السلطان؛ وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه - لما ترك الأكل مما بيد ولده، من أموال الخلفاء -: أحرام هي يا أبت؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟!
وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه، هو ما لا يعلم حله ولا تحريمه؛ وأما إذا امتاز الحلال وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه.
وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه، بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/399).(12/331)
ص -323- ... وحسنت في المسلمين عقيدته؛ والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه.
وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا؛ وأموال الكفار لا يبيحها الغصب، لمثل المقوقس، وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة، والاستيلاء للمسلمين.
[رد من الشيخ عبد الرحمن على أحد خصومه]
وقال والده الشيخ عبد الرحمن، أعلى الله منازله في فسيح الجنان:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. وبعد: فأقول وبالله التوفيق، والهداية إلى أقوم طريق: إنه ورد علي رسالة من الأخ.. بعيد عن منهج الصدق والتحقيق، فنحوت نحو الجواب، متحريا الصواب، عسى أن يتنبه أو يفيق، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [سورة النحل آية : 116] الآية، وحديث: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " 1.
ورسالته مشعرة باشتغاله هو، ويصغي جليس إليه بما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2589) , والترمذي : البر والصلة (1934) , وأبو داود : الأدب (4874) , وأحمد (2/384) , والدارمي : الرقاق (2714).(12/332)
ص -324- ... هو منه قبيل البهتان، والله المستعان. وهذا زمان تناكرت فيه القلوب، وعظمت الذنوب، وطفيت فيه أنوار البصائر، وقل العلم والإيمان، وكثر الجهل والطغيان، فإلى الله أشكو ما ألقاه من أهل هذا الزمان، من البغي والعدوان، وأعوذ بالله من شر اليد والقلم واللسان ; فحق لأهل الإنصاف أن يتأملوا كلامه وملامه، والجواب عنه، فإن كان الجواب حقا فعليهم أن ينصروه، وما فيه من خلل فليصلحوه ويستروه.
قال في رسالته: ويذكر عنك غفلة عظيمة عن الله، وما يقرب إليه من العلم النافع، والدعوة إليه؛ فأقول: عياذا بك اللهم مما قال، أيجوز لأحد من المسلمين أن يقول هذا القول في رجل من عوام المسلمين، يصلي الجمعة والجماعة؟ وما أظن أحدا يقول هذا في أحد، إلا أن يثبت أنه يصر على الكبائر، ويضيع الفرائض؛ اللهم لا تجعلنا من الغافلين.
ثم كيف يتسجيز سني أو بدعي أن يسمع هذا يقال، فيمن يعلمه الخير سابقا ولاحقا؛ فلو قاله ظالم، أما كان يلزمه الذب عن عرض أخيه، بتكذيب الظالم، والإنكار عليه.
ثم إنه ترك ما وجب، وارتكب ما حرم، فصدق وحق، وجلل ودقق، وورق وعمق، فأشهد من يراه أو قرأه: إني خصمه فيما ادعاه. اللهم إنك تعلم أني(12/333)
ص -325- ... لا أستجيز، بأن أقول مثل هذا القول فيه، ولا فيمن لا يقاربه ولا يوازنه، من عاقل وسفيه؛ وما قلت فيه قط إلا ما يسره ويرضيه، فاغفر لي وكن لي ظهيرا وهاديا ونصيرا، فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى عليهم، وهل إلا عليك المعول.
اللهم إنك تعلم أني لو شئت لعرضت بعيوبه، ولوحت بذنوبه، وإنما أعرضت عن ذلك ابتغاء وجهك، فاغفر لي ما لا يعلمون، وارحم عبيدك، فإن الأكثر لا يرحمون، وإنك قلت في كتابك العزيز {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } [سورة الفرقان آية : 20] اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أذنبوا تابوا واستغفروا، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
ثم قال معللا لما تقدم: لأنك استبدلت بهذا الاشتغال بالدنيا وجمعها، وهذا بحمد الله دعوى بلا برهان، ولا يمكنه الخروج مما قال، والله عند لسان كل قائل وقلبه؛ وأنى له إقامة الدليل، والخروج مما قال من التعليل.
ما صادف الحكم المحل ولا هو ... استوفى الشروط فصار ذا بطلان
وفي الحديث "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (5976) , ومسلم : الإيمان (87) , والترمذي : البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36).(12/334)
ص -326- ... ولا أجد لي ولهم مثلا، إلا قول يعقوب عليه السلام {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة يوسف آية : 18] وما قلت ذلك شكوى إلى الخلق، ولكن الشكوى إلى الله، ولكني أطالبهم بإقامة البرهان على هذا العدوان، وما كنت مشتغلا بالدنيا ولا جمعها وما هذا المال الذي جمعته؟ وأين وضعته؟!
وأما جمع المال: فلا يعاب مطلقا بل قد يكون قربة إلى الله تعالى، إما واجبا أو مستحبا، وقد يكون مباحا؛ إنما يعاب التلهف على الدنيا، والحسد على النعمة، والحرص عليها؛ وقد جمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكثير منهم أهل ثروة.
" وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين "، " وقسم أبو بكر رضي الله عنه أموال بيت المال بالسوية " " ودون عمر الديوان، وفاضل بينهم بالقرابة والسابقة "، فما كره أحد منهم نصيبه من بيت المال، إلا ما كان من حكيم بن حزام، لأمر خصه، سببه معروف.
" وأوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لمن بقي من شهداء بدر، بأربعمائة دينار، لكل رجل، وكانوا مائة، فأخذوها وأخذ عثمان رضي الله عنه فيمن أخذ، وهو خليفة " وأوصى بألف فرس في سبيل الله عز وجل؛ فهذا من(12/335)
ص -327- ... ثلث ماله، وما نقص من فضله شيئا، وقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
فأين ذهب جمعكم للكتب ؟ وحرصكم على جمعها؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. أما علمتم أن العلامة ابن القيم رحمه الله عقد المناظرة بين الفقراء والأغنياء، في كتابه " عدة الصابرين " وذكر أدلة كل فريق على أنه أفضل من الآخر، فما عاب الفقراء أهل الغنى بغناهم، ولا الأغنياء أهل الفقر بفقرهم. وفصل الخطاب: أن أفضلهم أتقاهم لله، وأنفعهم لعباده، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده، وأكثر الناس سعيا في وجوه الخير.
وأما قوله: واشتغلت بالحراثات، أقول: ما صدقت ولا صدقت، لم أشغل بها قلبا ولا قالبا، قد جعلت فيها من يكفي. أخبرني: ما الذي أثار هذا الضغن؟ وأنت تعلم أني أحرث من حين عرفتني إلى يومي هذا، فما أنكرت حراثتي قبل اليوم؟ وقد كنت أطعمك منها، وأمشي بك فيها، وقد كنت أحتسبها قربة إلى الله تعالى، أستغني بها عن أموال الناس التي بيد السلطان تعففا.
وقد ورد في فضلها أحاديث، منها الحديث المرفوع: " ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فما أكل منه طير أو بهيمة أو إنسان، إلا كان له صدقة " 1 فإذا كنت لا بد محتاجا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المزارعة (2320) , ومسلم : المساقاة (1553) , والترمذي : الأحكام (1382) , وأحمد (3/147 ,3/192 ,3/228 ,3/243).(12/336)
ص -328- ... إلى التكسب لنفسي، ولمن أعول، فالحراثة أحسن شيء من أسباب الرزق، لما فيها من الفضل، وكثرة ما يخرج منها؛ فهي أفضل من التجارة وأسلم، فكيف يذم فاعل شيء يصلح، أن يكون قربة إلى الله من وجوه؟ هذا لا يصدر من عاقل.
وخذ مني " فائدة " في هذا لا تعرفها، أنت ولا قومك: أورد في كتاب "الجليس والأنيس" حديثا، أبو القاسم البجلي، قال: سألت أحمد بن حنبل، ما تقول في رجل جلس في بيته، أو في مسجده، وقال لا أعمل شيئا، يأتيني رزقي؟ فقال أحمد رحمه الله: هذا رجل جهل العلم، أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي" 1 يعني الغنائم، وحديثه الآخر، حين ذكر الطير، فقال: " تغدو خماصا وتروح بطانا " فذكر أنها تغدو في طلب الرزق، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [سورة المزمل آية : 20] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } [سورة البقرة آية : 198] وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم، انتهى.
وأقول: ويحك! قلبت لي ظهر المجن! وأما قوله: وأخذت من الزكاة، ولست من الأصناف الثمانية، أقول: من أخبرك أني لست منهم، فلو تثبت وسألت من يخبر حالي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/50).(12/337)
ص -329- ... كان خيرا لك، وقد غرك مني تعففي وشيمتي، والحمد لله على ذلك، وأظنك لا تجهل حالي، ولكن هاجت الفتنة، وعظمت المحنة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
وأقول: ما بالك أعرضت عن معاتبة نفسك، أما علم أنك من أجلد الرجال، وأقواهم، قليل العائلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين سألاه من الصدقة " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب"1 شعرا:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من ... اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا
وأما قوله: وتأخذ مالا فيه ظلم، ولا تسأل، أقول: عجبا لك، كيف تنصب نفسك للإفتاء، وهذا مبلغ علمك وفهمك؟ فإذا لم تفهم هذه المسألة، ولا علمت حكمها، فكيف تفتي الناس؟ لا تدري، ولا تدري بأنك لا تدري.
وأقول أيضا: من أين لك، أني أخذت من مال فيه ظلم؟ ومن هذا الثقة العدل الذي وقف على حقيقته؟ وأوجب لك القطع بما زعمت؟ ولا بد في مثل هذه الدعوى، من شهادة عدلين فأكثر، وقفوا على أن هذا الذي أخذت بعينه، دخل فيه ظلم لو كان، ويلزمهم أيضا أن يخبروني من غير تحدث منهم به، فإن ثبت ما قالوا، فقد أدوا ما عليهم من النصيحة؛ وأما طعنهم، وأكلهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الزكاة (2598) , وأبو داود : الزكاة (1633) , وأحمد (4/224 ,5/362).(12/338)
ص -330- ... لحوم الغافلين، فلا يحل لهم بحال، وهذه كلها مغالطة في الحقائق، وتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه؛ والخطاب بيننا في موقف الحساب.
وكنت سألت قبل هذا، من تولى إخراج بيت المال، فأخبرني بأن الذي أوصل إلى وكيل منه لم يشب بشيء من الظلم، وأنه تحرى لنا ما يحل، فحمدت الله على ذلك، ولم يتبين لي خلاف ما قال.
وأما حكم ما بأيدي الملوك من الأموال، فلا يخفى أن أكثر ملوك بني أمية، فشا فيهم الظلم للرعية في الدماء والأموال، وكذا ملوك بني العباس، مع سعة ملكهم وكثرة عمالهم وأمرائهم، فما قال أحد من العلماء، إن ما يجبى إليهم من ذلك المال الذي أخذوه، لا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئا، بل النص المنصور جوازه، والحكم عليه بأنه حلال لآخذه.
قال في الفروع: وما جاء من مال بلا مسألة، ولا إشراف نفس، وجب أخذه ; ونقل الأثرم: عليه أخذه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذ) وينبغي أخذه ; ونقل عن ابن حزم: وجوب الأخذ، قال في الشرح، الصحيح: إن غلب الحرام فيما بيد السلطان حرم، وإلا أبيح، إن لم يكن في الأخذ مانع من الاستحقاق؛ وأوجب طائفة الأخذ من السلطان وغيره، واستحبه آخرون، انتهى.(12/339)
ص -331- ... قلت: وحاصل هذا، أن الأخذ إما واجب، وهو المنصوص عن الإمام وابن حزم وغيرهما، أو مستحب، أو جائز إن لم يكن الحرام غالبا؛ وعن أحمد أنه قال: دعنا نكون أعزة، نقله في الفروع، وقال: جائزة السلطان أحب إلينا من صلة الإخوان؛ فيكون رد الإمام أحمد رحمه الله من باب الزهد والورع، حتى لا يناقض قوله.
وأما إذا كان الأكثر الحرام، فنقل ابن رجب رحمه الله، عن الإمام أحمد: ينبغي أن يجتنبه، إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، قال: واختلف أصحابنا، هل هو مكروه، أو محرم؟ على وجهين. وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته، والأكل من ماله؛ وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، الورع تركه. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يأكل منه، ما لم يعرف الحرام بعينه؛ فإن لم يعرف مالا حراما بعينه، ولكن علم أن فيه شبهة، فلا بأس أن يأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل.
وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان: "لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال، أكثر مما يعطيكم من الحرام" وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين، وأهل الكتاب، مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، كما تقدم عن الزهري ومكحول؛ ويروى في ذلك آثار كثيرة عن السلف.(12/340)
ص -332- ... قال ابن مسعود، في إجابة دعوة من يعامل في الربا: "أجيبوه، فإنما الهنا لكم، والوزر عليهم " وعن سلمان مثل قول ابن مسعود، وعن سعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم التيمي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك في " كتاب الأدب " لحميد بن زنجويه و " كتاب الجامع " للخلال و " مصنف " عبد الرزاق، وابن أبى شيبة وغيرهم، انتهى من شرح الأربعين. والأدلة على جواز الأخذ من هذه الأموال، لا يتسع لها هذا الجواب. فلا يحل لمسلم: أن يطعن على مسلم، بأخذ ما هو حلال، إما واجب الأخذ، أو مستحب، وهكذا حال من يتكلم في أعراض المسلمين بلا علم، وما فطن لنفسه أنه يحكم بالشيء على غيره، ولا يحكم به على نفسه، وغايته أنه أطلعنا على مقدار ما معه من العلم والمعرفة؛ والله المستعان على أهل الزمان، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. وأما ما ذكره في أثناء مسألته من الإزراء، فلا أرى الاشتغال بالجواب عنه، احتسابا للصبر عليه عند الله تعالى، يغفر الله لنا وله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله، وصحبه وسلم.(12/341)
ص -333- ... [إدخال النصارى إلى بلاد المسلمين]
وفي حدود سنة سبع وأربعين، أرسل علماء نجد إلى الإمام، لما بلغهم أنه يحصل شركة للأجانب، في معادن بنجد، بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، وصالح بن عبد العزيز، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المبجل: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وألهمه رشده وتقواه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: سلمك الله، بلغنا أنه يصير شركة في المعادن، ولا تحققنا خبرها إلا في هذه الأيام، وتفهم أن مشاركة الأجانب الذين تحت ولاية النصارى وإدخالهم في الديار العربية، والولاية الإسلامية، أمر محرم، لا تبيحه الشريعة، مع ما يترتب عليه من المفاسد، الدينية والدنيوية، في العاجل والآجل، وإن كان في بادئ الرأي، أنه يحصل منه مصلحة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وولايتكم ولاية إسلامية دينية، لا تستقيم إلا بالسياسة(12/342)
ص -334- ... الدينية، والوقوف مع الشريعة المحمدية، وفي الحديث: " ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " ونحن: وإن كانت عقولنا قاصرة، عن الأفكار الدنيوية، فهي إن شاء الله ما تقصر عن الأمور الدينية، وما فيه صلاح للراعي والرعية، وسعادة الدارين وفي المثل المشهور:
وأكيس الناس من لم يرتكب عملا ... حتى يميز ما تجني عواقبه
هذا الذي أوجب الله لك علينا، من النصيحة والبيان، خروجا من معرة السكوت والكتمان؛ ونرجو أن الله يأخذ بناصيتك، ويسلك بك الصراط المستقيم، ويعيذك من أسباب الغواية والتأثيم، والسلام.(12/343)
ص -335- ... [الحلف على التعاون]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوم اجتمعوا وعقدوا بينهم العهود، في الموازرة والمناصرة والمدافعة، وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطأها، فهل يجب الوفاء بها، إذا كان في ذلك صلاح؟ فإذا كان قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم؟ لقوله: "كل حلف في الجاهلية.." الحديث، وهل يجوز إحداثه في الإسلام.. إلخ؟.
فأجاب: الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع، لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، كما ثبت في الصحيحين، في حديث بريرة: " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط " 1. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه، يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي: أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا الأمر لا خلاف فيه بين العلماء، فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي، بحلف الجاهلية وعقودهم وعهودهم؟
وأما قوله عليه السلام: " كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " 2 فهذا فيما وافق الشرع، ولم يخالفه، كالتحالف على فعل البر والتقوى، وكالتحالف على دفع الظلم ونحو ذلك.
وأما إحداث التحالف بعد الإسلام، فلا يجوز، لقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الشروط (2729) , ومسلم : العتق (1504) , وأبو داود : العتق (3929) , ومالك : العتق والولاء (1519).
2 مسلم : فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود : الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).(12/344)
ص -336- ... عليه السلام: " لا حلف في الإسلام" 1 وذلك لأن الإسلام، يوجب على المسلمين التعاون والتناصر بلا حلف، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه، ولا يخذله " 2 وقال: " المؤمنون كالبنيان، يشد بعضه بعضا" 3 هذا إذا كان الناس مجتمعين، على إمام واحد.
وأما إذا حصل التفرق والاختلاف - والعياذ بالله - ولا يمكن التعاون والتناصر إلا بالحلف، فهذا لا بأس به إذا لم يخالف أحكام الشرع وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله، وما أشرت إليه من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له، فإذا جاءنا من يقول أنا أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ونأمره بذلك، ونحضه على القيام في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من حالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الحوالات (2294) , ومسلم : فضائل الصحابة (2529) , وأبو داود : الفرائض (2926) , وأحمد (3/281).
2 مسلم : البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277).
3 البخاري : الصلاة (481) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي : البر والصلة (1928) , والنسائي : الزكاة (2560) , وأحمد (4/404).
4 وتقدم في صفحة: 244 , و 245 .(12/345)
ص -337- ... وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: اعلم: أنه لا حلف في الإسلام، كما وردت بذلك السنة، ولأن الدخول فيه يتضمن التزام أمور تخالف الشرع؛ لكن من أراد أن يعامل بإخاوة ونحوها، كما يفعله بعض أهل البلدان مع البدو، دفعا لشرهم، فلا بأس بذلك، انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ما روي عن ابن عباس، أنه قال في الآية: "لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه"، فيحتمل أن مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر، مال إنسان ظالم، وعاهده أنه يأتيه به، أو عاهد لصا أنه لا يخبر به، ونحو ذلك، انتهى.
وقال الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله ومنها: التجاسر على إخفار ذمة المسلم، فإذا صح إعطاء أحد من المسلمين أمير أو غيره، أحدا من الكفار ذمة، لم يجز لأحد من المسلمين أن يخفره، لا في ذمته ولا ماله، كما في الحديث: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " 1.
ومن العجب: أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أن معاداة الكفار، واستحلال المحرم، أعظم من ارتكابه، مع معرفته وتحريمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/398).(12/346)
ص -338- ... [أمان الأعراب بعضهم لبعض]
وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وبعد: فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب، الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟
فنقول - وبالله التوفيق -: يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم، بالكتاب والسنة والاعتبار.
أما الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [سورة النحل آية : 91] الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [سورة المائدة آية : 48] قال المفسرون: على ملة(12/347)
ص -339- ... واحدة وهي الإسلام{وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [سورة النحل آية : 93] فدل على أن هذا الخطاب، شامل للمهديين وغيرهم.
وقال تعالى في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [سورة البقرة آية : 84] إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [سورة البقرة آية : 85] قال أهل التفسير: يقول تعالى منكرا على اليهود، ما كانوا يعانون مع الأوس والخزرج، فكان يهود المدينة ثلاث قبائل، بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه. وقد يقتل الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [سورة البقرة آية : 85] فهذه الآية تدل: على أن الله تعالى حرم قتال بعضهم بعضا وإن كان لكل كتاب وقت النّزول، لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان.
وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي، عن عمرو بن عبسة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(12/348)
ص -340- ... يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عهدا ولا يشدنه، حتى يمضي أمره، أو ينبذ إليهم على سواء"1، وهذا الحديث عام ورواه الإمام أحمد والترمذي، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام"2 قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف، الذي كانوا يفعلونه أهل الجاهلية، فإن التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه ; وما كانوا منه على نصرة الإسلام، وصلة الأرحام، كحلف " المطيبين " وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة " 3.
وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان"4، وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام المسلم وغيره.
وروى البخاري وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة؛ وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا"5، قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها، على الفاعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : السير (1580) , وأبو داود : الجهاد (2759) , وأحمد (4/111 ,4/113).
2 الترمذي : السير (1585) , وأحمد (2/207).
3 مسلم : فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود : الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).
4 مسلم : الجهاد والسير (1735) , وأحمد (2/29 ,2/142).
5 البخاري : الجزية (3166) , والنسائي : القسامة (4750) , وابن ماجه : الديات (2686) , وأحمد (2/186).(12/349)
ص -341- ... والمفعول ; والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار، إذا صولحوا على ترك الحرب مدة؛ وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " 1، وهي من مسلمة الفتح.
وسئل بعضهم: عن أخذ بعض المسلمين، ممن لم يكن له أمان؟
فأجاب: إذا لم يكن بين الإمام وبينهم عقد أمان، أو كان بينه وبينهم ذلك، والأخذ غير داخل في العقد، جاز الأخذ والحالة هذه.
قال في "الإقناع وشرحه": وله، أي: لمن جاءنا منهم مسلما، ولمن أسلم معه، أن يتحيزوا ناحية، ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار، ويأخذوا أموالهم، ولا يدخلون في الصلح؛ فإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار، دخلوا في الصلح، وحرم عليهم قتال الكفار وأخذ أموالهم؛ لأن أبا بصير، لما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله: قد أوفى الله ذمتك، فقد رددتني إليهم، وأنجاني الله منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه، بل قال: " ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال"2، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر، وانحاز إليه أبو جندل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (357) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (336) , ومالك : النداء للصلاة (359) , والدارمي : الصلاة (1453).
2 البخاري : الشروط (2734) , وأبو داود : الجهاد (2765).(12/350)
ص -342- ... ابن سهيل، ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا يمر عليهم عير لقريش، إلا عرضوا لها، وأخذوها، وقتلوا من معها، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاءه، ففعل، رواه البخاري مختصرا، انتهى.
قال في "المنتهى وشرحه": فإن تحيز من أسلم منهم، وقتلوا من قدروا عليه منهم، وأخذوا أموالهم جاز، ولا يدخلون في الصلح، حتى يضمهم إليه بإذن الكفار، للخبر، انتهى.
وقال في "مختصر الشرح"، وقولهم: إنهم في أمان منا، قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام، الذين هم في قبضة الإمام، بدليل ما لو خرج العبد، قُبل إسلامه ; ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل، لم ينكر عليه ولم يضمنه، ولما انفرد هو وأصحابه، فقطعوا الطريق عليهم، لم ينكر ذلك، ولم يأمرهم برد ما أخذوه، انتهى.
فعلم بهذا جواز أخذ أموال من لم يكن له عهد ولا أمان؛ وكلامهم هذا في الكافر الأصلي، وأما المرتد فقتله وأخذ ماله، إذا لم يكن له أمان أو عهد، من باب الأولى، والله أعلم.(12/351)
ص -343- ... [قتل الحربي ومن له ذمة]
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي ؟.
فأجاب: لا يمنع المسلم عن قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ".
[الاعتداء على الحجاج المسلمين من اليمن]
وقال المشايخ، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والكتاب المكرم وصل، تسأل فيه عما جرى من بعض السرية، على حاج اليمن، من أخذ أموالهم، وسفك دمائهم؟ فاعلم - أطال الله بقاءك - أن الذي فعل هذا الأمر، أناس من جهال العوام، الذين ليس لهم عناية بمدارك الأحكام، ولا معرفة لهم بالحلال والحرام، وهذا لا يحل في(12/352)
ص -344- ... دين الله وشرعه فالواجب عليك: أداء ما أخذوا من أموالهم، وتأديبهم على ما فعلوه من الأمور التي يعود ضررها على الإسلام والمسلمين.
ومعلوم: أنك قد أعدت وأبديت، وبالغت في نصيحتهم، وتحذيرهم من الأمور التي تخالف الشرع، ولكن المقدر كائن لا محالة، ويلزمك المبادرة بالقيام في ذلك، لأن هذا من أهم الأمور، وفيها صيانة لعرضك وأعراض المسلمين،وبراءة لذمتك؛ نرجو أن الله يوفقك، ويسددك ويعينك، والسلام.(12/353)
ص -345- ... [الحث على الوفاء بذمة ولي الأمر]
وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، وفقهما الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى كافة إخواننا أهل الأرطاوية، أصلح الله لنا ولهم الطوية، وحمانا وإياهم من كل محنة وبلية، وجعل أعمالنا وأعمالهم مقبولة مرضية؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذا الكتاب، محض النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومعذرة إلى الله من معرة الكتمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة.." 1 الحديث. ومما يلزم بيانه لكم: تذكيركم ما من الله به علينا وعليكم، من معرفة دين الإسلام الذي خفي على أكثر الناس، وهو الذي أظهره الله في آخر هذا الزمان، على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقام بنصره أئمة المسلمين من آل سعود، فحصل بهم من اجتماع الكلمة، وظهور الحق، واضمحلال الباطل، ما تنشرح به صدور أهل الإيمان، وتكمد به صدور أهل النفاق والطغيان.
فالواجب علينا وعليكم: مراعاة هذه النعمة، والقيام بشكرها ; واذكروا ما أنتم عليه سابقا، من الظلم والعدوان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(12/354)
ص -346- ... وسفك الدماء، ونهب الأموال، والتحاكم إلى الطاغوت، واختلاف الكلمة، ثم من الله عليكم بترك ذلك، والإقبال على تعلم أصول الإسلام.
فلما رأى الشيطان منكم ذلك، وأحزنه: أعمل الحيلة في صدكم عما عرفتم من الخير، ودنتم به في فتح أبواب اختلاف الكلمة، وإساءة الظن من بعضكم لبعض، وحملكم على التهاجر والتقاطع، في أمور ما توجب ذلك في أمر الشرع المطهر ; فالواجب عليكم: رد ما تنازعتم فيه إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ولا يعرف ذلك وتفاصيله إلا العلماء، الذين تلقوا العلم عمن لهم قدم راسخ في معرفة أصول الشريعة ; واحذروا أن يقتدي جاهل بجاهل! فإن اقتداء الجاهل بالجاهل، كاقتداء الأعمى بالأعمى.
ومما نبين لكم، وننصحكم به أيضا: بذل الجهد في الوفاء بذمة إمامكم، من جهة نقيصة ابن صباح، التي وقع أخذها باجتهاد منكم، وطلب للخير لكن حملكم على ذلك: ظنكم أنه ليس له ذمة مع الإمام، ولا عماله، والآن بان لكم - وفقكم الله - أن ذمة الأمان لم تزل معقودة له؛ فعلى هذا يكون عندكم معلوما، أن المال المأخوذ على هذا الوجه حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أيما جسد نبت من مال حرام، فالنار أولى به".
ومن أراد الدليل على أن العهد يجب الوفاء به، ولو(12/355)
ص -347- ... مع كافر، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، حين عاقدهم بعقد الصلح، فإنه وقع الشرط بينهم على أنه من جاء من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما يرده عليهم، ومن جاءهم من المسلمين مرتدا، لا يرد إلى المسلمين، حتى أشكل ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا: كيف نرد عليهم من جاءنا منهم مسلما، ولا يردون علينا من جاءهم منا مرتدا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من جاءنا منهم مسلما، فسيجعل الله له فرجا، وأما من ذهب إليهم مرتدا فأبعده الله"، فجاء نفر مسلمون، منهم أبو جندل ابن سهيل بن عمرو، فقيدهم النبي صلى الله عليه وسلم وردهم عليهم، محافظة على الوفاء بالذمة، هذا معنى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [سورة النحل آية : 91] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً } [سورة النحل آية : 92] وهذا حكم عام مع المسلمين والكفار. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [سورة المائدة آية : 1] يعني بالعهود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوهم " 1 أعاذنا الله وإياكم من عقوبات الذنوب.
وأما الأدلة الواردة في الأمر بقتال الكفار، فالمراد بها من لا ذمة له منهم ولا عهد، وهم المحاربون، وأما من له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك : الجهاد (998).(12/356)
ص -348- ... ذمة أو عهد من الكفار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " 1 ومقصودنا ببيان هذا: أنه ربما استدل بالأدلة الواردة، في قتال الكفار، من يضعها في غير موضعها الذي وضعت فيه، وهذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه كائنا من كان ; نرجو أن الله يمن علينا وعليكم، بقبول الحق والعمل به، والبصيرة فيه، والثبات عليه، وصلى الله على محمد.
[نصيحة إلى الإمام عبد العزيز]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الجناب العالي، الإمام عبد العزيز، حفظه الله تعالى، وتولاه آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالذي نوصيك به وأنفسنا: تقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، وتدبر كتاب الله العزيز، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ به تداوى أمراض القلوب، ويستعين به من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجزية (3166) , والنسائي : القسامة (4750) , وابن ماجه : الديات (2686) , وأحمد (2/186).(12/357)
ص -349- ... عمل به على كبت عدوه، والاستعانة على حوائجه، وعندك من ذلك ما فيه الكفاية.
ثم إنك تعلم: أن تعرضنا لمثل ما سنبديه لك يشكل علينا، لكن اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " 1، كتبنا هذه الأحرف، فإنك تعلم: أنه لا قوام للدين إلا بالله، ثم بالجهاد في سبيل الله، ولا حفظ لوطن ورعية إلا بالله ثم بذلك، ولا نكاية لعدو إلا به واذكر قول الشاعر:
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل ينجو الناس من آفة القتل
والدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ } [سورة البقرة آية : 179] وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [سورة النحل آية : 126] ولا شك أن الصبر كله خير، إذا كان وراءه مصلحة، وأما إذا كان آخره شرا فلا يجوز.
وأنت اليوم ولاك الله أمر المسلمين، وأعطاك الله قوة ما أعطاها غيرك؛ ومن أعظمها وأهمها: أن الله أعطاك رعية متمسكة بهذا الدين، باذلة نفسها في الجهاد في سبيل الله، ومفدية نفسها دونك، ودون ما ولاك الله إياه، سامعة مطيعة.
فما عذرك يا عبد العزيز عند الله؟ إذا كان المسلمون في كل زمان، تظهر عليهم نابغة شر، ثم تثبط المسلمين عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).(12/358)
ص -350- ... دفعها، وتقول: هذه مصلحة وسياسة، أما المصلحة والسياسة فلا شك أنك مقدم فيها، ومسؤول عنها، ونحن ساعدناك فيها.
ذكرت لنا حين مجلس الإخوان في الرياض: أن في دخول المحمل مصلحة وسياسة، وقنعنا الناس أن الرأي رأيك في السياسة، ثم حصل ما حصل من الأمر الذي كاد يذهب بحجاج بيت الله الحرام، ورأيت ما قتل من النفوس، وهلك من الأموال، وسدد الله بك، وكفى الله بفضله ثم بك المسألة الحاضرة، وكفيتنا شر المقبل.
ثم صارت مسألة أهل العراق مع الإخوان، وقلت: وجهي وأمانتي ولزمي، وساعدناك فيما هو لازم علينا شرعا وعقلا. ولما تعصب المتعصبون من أهل نجد، الذين يدعون الدين، وأبوا إلا تتميم أمرهم، جاهدناهم، وأمرنا بقتالهم، حتى استراح الناس، ومضى الأمر الذي أنت قمت فيه.
أما الآن، فقد أخذوا يدخلون الدسائس، على أهل النفاق والأوباش، من أطراف نجد، بعمل القلاقل إليه، وفي الحجاز الذي حرم الإلحاد فيه، وهذا كان له دوي من زمن، وقد سار أطما لتشويق الناس للفتن، وتجهيزهم عليها، ومن توليتك الحجاز، وأعداء الله مثخنين أطراف المسلمين، بالغارات، والأخذ والدسائس الخبيثة؛ وأنت تراوز الأمور،(12/359)
ص -351- ... والصبر، وهذا لا يسوغ لك دينا ولا عقلا.
والذي نشير به عليك: أنه لما وقع الغدر منهم، وبان الأمر للبار والفاجر، واضطراب أهل نجد، فتوكل على الله، ومر المسلمين كل من قبله بالسير، وما هي إلا إحدى الحسنيين، فهذا أمر تؤجر به؛ وبحول الله وقوته أن النصر مقرون برايتك، وأن ضدكم مخذول ; ولا يجل في عينيك إلا أمر الله، وأصلح نيتك، وخل عملك طبقا لأمر الله، وأبشر بالخير؛ هذا الذي نشير به عليك، ولا لك عذر فيه عند الله، ولا يمكننا السكوت عليه.
وتعرف أن الذي بذمتنا إذا سئلنا عنه سنؤديه، والذي ندين الله به، ونعاهد الله عليه، أنك عندنا أغلى من أنفسنا وعيالنا وأموالنا، لكن ربنا وديننا أغلى من كل شيء؛ ويأبى الله أن نتكلم في أمر يخالف أمرك، لكن نطيعك فيما أطعت الله فيه.
قد تقول: إن الأمر فيه سياسة ومصلحة، فهذا الأمر عرفناك به سابقا، وعرفناك فيه أول الكتاب؛ ولكن السياسة الغبية ما تسوغ لك، وافطن لقول الصحابي: (فإن عرض بلاء فافد بمالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فافد بنفسك دون دينك).
فإن كان الأمر سياسي، وظاهر يبين للمسلمين عاجلا غير آجل، يكف المنافق الذي فيه شر، ويكف الأذى عن(12/360)
ص -352- ... المسلمين، فبرهن به، وقم بالواجب، وهذا أمر لك حق فيه، وأنت أعلم بالمصالح؛ فإن كان الأمر خدعة ورجاء فرصة، فهذا لا يجوز شرعا، ونحن لا نوافق عليه، فهذا الذي ندين الله به، وننصحك به، تبرئة لذمتنا، والله يوفقك للصواب، وصلى الله على محمد.
وقال الشيخ: عبد الله بن بليهد، والشيخ عبد الله بن حسن، نوافق على ذلك، وهذا الذي ندين الله به، وصلى الله على محمد.(12/361)
ص -353- ... كتاب حكم المرتد [معرفة الدين وما قص الله من قصص الأنبياء ]
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن أفرض ما فرض الله عليك، معرفة دينك: الذي معرفته والعمل به، سبب لدخول الجنة ; والجهل به وإضاعته، سبب لدخول النار. ومن أوضح ما يكون لرديء الفهم: قصص الأولين والآخرين، قصص من أطاعه، وما فعل بهم، وقصص من عصاه، وما فعل بهم ; ومن لم يفهم ذلك، ولم ينتفع به، فلا حيلة فيه، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية : 36].
وقال بعض السلف: القصص جنود الله، يعني أن المعاند لا يقدر يردها: فأول ذلك ما قص الله عن آدم وإبليس، إلى أن قال: اهبطوا في الأرض؛ ففيها من إيضاح المشكلات، ما هو واضح لمن تأمله، كما قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ(12/362)
ص -354- ... هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية : 38].
وفي الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [سورة طه آية: 123-124] إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [سورة طه آية: 127].
وهداه الذي وعدنا به: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقد وفى بما وعد سبحانه؛ فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ فأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فاحرص يا عبد الله، على معرفة هذا الحبل الذي بين الله وبين عباده، الذي من استمسك به سلم، ومن ضيعه عطب. فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم، وعدوه إبليس، وما جرى لنوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وعيسى وقومه، وموسى وقومه، ومحمد صلى الله عليه وسلم وقومه.
واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه، وما جرى له معهم في مكة، وما جرى له في المدينة ; واعرف ما قص العلماء عن أصحابه، وأحوالهم وأعمالهم، لعلك أن تعرف الإسلام والكفر؛ فإن الإسلام(12/363)
ص -355- ... اليوم غريب، وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.
[قصة آدم وإبليس وسبب الكفر ]
فأما قصة آدم وإبليس، فلا زيادة على ما ذكر الله عز وجل في كتابه، ولكن قصة ذريته، فأول ذلك: أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر، وأخذ عليهم العهود أن لا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } [سورة الأعراف آية : 172] ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج.
ورأى رجلا من أنورهم، فسأله عنه، فأعلمه الله أنه داود، فقال: كم عمره؟ قيل ستون ; قال: وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة ; ورأى فيهم الأعمى، والأبرص، والمبتلى، فقال يا رب: لم لا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن أشكر; فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين، أتاه ملك الموت، فقال: إنه بقي من عمري أربعين سنة، فقال: التي وهبتها لابنك داود، فنسي فنسيت ذريته، وجحد فجحدت ذريته.
فلما مات آدم، بقيت ذريته من بعده عشرة قرون، على دين أبيهم، دين الإسلام، ثم كفروا بعد ذلك.
وسبب كفرهم هو الغلو في حب الصالحين، كما ذكر الله تعالى في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ(12/364)
ص -356- ... وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً } [سورة نوح آية : 23]. وذلك: أن هؤلاء الخمسة، قوم صالحون، يأمرونهم وينهونهم، فماتوا في شهر، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم، فصوروا صورهم، فصوروا صورة لكل رجل في مجلسه، لأجل التذكرة بأقوالهم، وأعمالهم إذا رأوا صورهم، ولم يعبدوهم.
ثم حدث قرن آخر، فعظموهم أشد تعظيما من الذين قبلهم ولم يعبدوهم. ثم طال الزمان ومات أهل العلم؛ فلما خلت الأرض من العلماء، ألقى الشيطان في قلوب الجهال: أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم، إلا ليشفعوا لهم إلى الله عز وجل، فعبدوهم.
فلما فعلوا ذلك؛ أرسل الله إليهم نوحا عليه السلام، ليردهم على دين أبيهم آدم عليه السلام، وذريته الذين مضوا قبل التبديل، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه.
ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض، وبارك الله فيهم، وانتشروا في الأرض أمما، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها. ثم حدث الشرك، فأرسل الله الرسل، وما من أمة إلا ويبعث الله فيهم رسولا، يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [سورة النحل آية : 36] وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً(12/365)
ص -357- ... رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية : 44].
وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ } [سورة غافر آية : 78].
ولما ذكر الله القصص في سورة الشعراء، ختم كل قصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية : 8] فقص الله ما قص في القرآن من القصص لأجلنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة يوسف آية : 111].
ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها، قال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } [سورة التوبة آية : 70] الآية وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.
وكذلك أهل العلم، في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له ; وكذلك نقلهم سيرة أصحابه، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوالهم وأقوالهم، وأحوال العلماء بعدهم، كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر.(12/366)
ص -358- ... إذا فهمت هذا، فاعلم: أن كثيرا من الرسل وأممهم، لا نعرفهم، لأن الله لم يخبرنا عنهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [سورة غافر آية : 78] لكن أخبرنا عن عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فبعث الله إليهم هودا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه، ثم بعدهم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فبعث الله إليهم صالحا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه، وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة لا ندري ما هي، وبقي في أصحاب صالح، ثم عدم بعد مدة لا ندري كم هي.
ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم إلا هو، فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة، ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس.
ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام، لم يعدم التوحيد في ذريته كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية : 28] فإذا كان هو الإمام، فنذكر شيئا من أحواله، لا يستغنى مسلم عن معرفتها، فنقول: في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ(12/367)
ص -359- ... كَبِيرُهُمْ هَذَا }
وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم إنك امراتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه، رآها بعض أهل الجبار، فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها الجبار، فأتى بها فقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، قال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت، فعاد فقبضت قبضة أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطاها هاجر، فأقبلت، فلما رآها إبراهيم انصرف، وقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا، كفى الله كيد الفاجر، وأخدم خادما" قال أبو هريرة: "تلك أمكم يا بني ماء السماء".
وللبخاري: " أن إبراهيم لما سئل عنها، قال: هي أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبين حديثي، فإني(12/368)
ص -360- ... أخبرتهم أنك أختي، فوالله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك. فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي يد هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله الأرض، فقالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية، والثالثة، وكلما غط قامت إلى الصلاة والدعاء. ثم بعد ذلك، قال: والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانه، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت يد الفاجر، وأخدم وليدة ".
وكان إبراهيم عليه السلام بأرض العراق، وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى، هاجر إلى الشام واستوطنها إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار، فواقعها، فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة من الجارية التي أعطتها إبراهيم، فأمره الله بإبعادها عنها، فذهب بها وابنها فأسكنهما مكة ; ثم بعد ذلك وهب الله له، ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله سبحانه بشارة الملائكة له ولها {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود آية : 71].
وفي الصحيح: عن ابن عباس، قال: " لما كان بين إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه(12/369)
ص -361- ... شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فلما بلغ كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم ; قالت: إذاً لا يضيعنا، وفي لفظ: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله ; قالت: رضيت بالله، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. وجعلت أم إسماعيل ترضعه، وتشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليه واستقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت(12/370)
ص -362- ... طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت بعيني ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت، فإذا هو على حاله، كأنه ينشغ للموت، فلم تقر نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت، لعلي أحس أحدا، حتى تمت سبعا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبرائيل عليه السلام، قال: فقال بعقبه على الأرض، فانبث الماء، فدهشت أم إسماعيل. فقال أبو القاسم: فجعلت تحفر، فقال صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال لو لم تغرف من الماء، لكانت زمزم عينا معينا. وفي حديثه: فجعلت تغرف من الماء في سقائها، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام، وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول وتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، مقبلين من كداء، فرأوا طيرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر يدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء.(12/371)
ص -363- ... فأرسلوا جريا أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم. فأقبلوا، فقالوا لأم إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننْزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء ; قال: نعم ; قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنيس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنْزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حيث شب؛ فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل. فجاء إبراهيم: بعدما تزوج إسماعيل، يطلع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن حالهم وعيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر، ونحن بضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا فأخبرته أنا في ضيق وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك ; قال: ذلك أبي، وأمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها.
وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم ما شاء الله، فقال(12/372)
ص -364- ... لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد لنا ; فقالت: ألا تنْزل وتطعم وتشرب ; قال: وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء; قال: اللهم بارك لهم في طعامهم، وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه. وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله ; قال: إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عن عيشنا، فأخبرته أنا بخير ; قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وأنت العتبة، وأمرني أمسكك. ثم لبث ما شاء الله، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل، وهو يبري نبلا له، تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده، والولد بالوالد ; ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع أمر ربك ; قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.(12/373)
ص -365- ... قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} " هذا آخر حديث ابن عباس.
فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل، ثم لذريته من بعده، وانتشرت ذريته في الحجاز، وكثروا. وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة، ولم يزالوا على ذلك، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، فابتدع الشرك، وغير دين إبراهيم عليه السلام، وتأتي قصته إن شاء الله تعالى.
وأما إسحاق عليه السلام، فإنه نشأ في الشام وذريته، وهم بنو إسرائيل والروم؛ فأما بنو إسرائيل فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل ; وأما الروم فأبوهم عيص بن إسحاق. ومما أكرم الله به نبيه إبراهيم عليه السلام: أن الله ما بعث بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [سورة العنكبوت آية : 27] وكل الأنبياء والرسل، من ذرية إسحاق.
وأما إسماعيل: فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى العالمين كافة، فكان من قبله من الأنبياء(12/374)
ص -366- ... كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وفضله على جميع الأنبياء.
وأما قصة عمرو بن لحي، وتغييره دين إبراهيم: فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة، والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس حبا عظيما، ودانوا له لأجل ذلك، وملكوه عليهم حتى صار ملك مكة له، وولاية البيت بيده، وظنوا أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء.
ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقا، لأن الشام محل الرسل والكتب، فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم، فرجع إلى مكة وقدم معه بهبل، وجعله في جوف الكعبة. ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم؛ فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم، وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي؛ وكانت الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله.
وأيضا يظنون أنهم على دين إبراهيم، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة، لا تغير دين إبراهيم، وكانت تلبية نزار: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله عز وجل {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا(12/375)
ص -367- ... رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة الروم آية : 28].
ومن أقدم أصنامهم " مناة " وكان منصوبا على ساحل البحر بقديد، تعظمه العرب كلها، لكن الأوس والخزرج، أشد تعظيما له من غيرهم، وبسبب ذلك أنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [سورة البقرة آية : 158] ثم اتخذوا اللات بالطائف، قيل إن أصله رجل صالح، يلت السويق للحجاج، فمات فعكفوا على قبره، ثم اتخذوا " العزى " بوادي نخلة، بين مكة والطائف، فهذه الثلاثة أكبر أوثانهم.
ثم كثر الشرك، وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز ; وكان لهم أيضا بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا كما قال الله عز وجل{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [سورة آل عمران آية : 164].
ولما دعا إلى الله، كان أشد الناس إنكارا له: علماؤهم، وعبادهم، وملوكهم، وعامتهم، حتى إنه لما دعا رجلا إلى الإسلام، قال له: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد)، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال.
وأعظم فائدة لك أيها الطالب، وأكبر العلم، وأجل المحصول: إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام(12/376)
ص -368- ... غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" 2. وقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". فهذه المسألة هي أجل المسائل، ومن فهمها فهو الفقيه، ومن عمل بها فهو المسلم. نسأل الله الكريم المنان، أن يتفضل علينا بفهمها، والعمل بها.
[قصة البيت وجرهم وبني بكر وغبشان]
وأما قصة البيت : فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لما بنياه صارت ولايته في إسماعيل وذريته، ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم، ولم ينازعهم بنو إسماعيل لقرابتهم، وإعظاما لحرمتها أن يكون بها قتال.
ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من دخلها، فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربهم؛ فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، ونفوهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر، وقريش إذ ذاك حلول، وصرم، وبيوتات، متفرقون في بني كنانة، فوليت خزاعة البيت يتوارثونه؛ وكان آخرهم خليل بن حبيشة، فتزوج ابنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89).(12/377)
ص -369- ... قصي بن كلاب. فلما عظم شرف قصي وكثر بنوه وماله، وهلك خليل، ورأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة، من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا رأس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وكنانة، في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان الغوث بن مرة بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر، يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، لأن أمه جرهمية لا تلد، فنذرت لله نذرا إن ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة يخدمها، فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وكان إذا دفع يقول:
اللهم إني تابع تباعة ... إن كان إثم فعلى قضاعة
وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي، فكان المعجلون يأتونه يقولون: ارم حتى نرم، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فإذا زالت رمى ورمى الناس معه، فإذا فرغوا من الرمي، وأرادوا النفر من منى، أخذت صوفة بالجانبين، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلوا سبيل الناس.
فلما انقرضوا، ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم، وكانت الإفاضة من مزدلفة، في "عدوان" يتوارثونها، حتى(12/378)
ص -370- ... كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة 1 فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة ما كانت تفعل، وقد عرفت العرب ذلك لها وهو دين لهم، من عهد جرهم وولاية خزاعة، فأتاهم قصي ومن معه من قريش، وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه؛ فاقتتل الناس قتالا شديدا، فانهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما بأيديهم.
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا، أجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تداعوا إلى الصلح، فحكموا عمرو بن عوف، أحد بني بكر، فقضى بينهم: بأن قصيا أولى بالكعبة ومكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع، يشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر، ففيه الدية، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يومئذ الشداخ.
فوليها قصي وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك عليهم فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لأنه يراه دينا لهم، فأقر النسأة وآل صفوان، وعدوان ومرة بن عوف، على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم ذلك كله، وفيه يقول الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عميلة بن الأعزل, كما في السيرة لابن هشام.(12/379)
ص -371- ... فكان أولى بني لؤي، أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، وقطع مكة أرباعا بين قومه، فأنزل لكل قوم منهم منازلهم؛ وقيل إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم، فقطعها بيده وأعوانه، فسمته قريش مجمعا لما جمع أمرهم، وتيمنت بأمره، فلا تنكح امرأة منهم، ولا يتزوج رجل إلا بأمره، ولا يتشاورون فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، فكان أمره في حياته وبعد موته، عندهم، كالدين المتبع، واتخذ لنفسه دار الندوة.
فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى، وعبد - قال لعبد الدار: لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، لا يدخل منهم أحد الكعبة حتى تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك.
فأعطاه دار الندوة، والحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة وهي خراج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن له سعة، لأنه فرضه عليهم، أي على قريش، فقال: أنتم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله، وهم أحق الضيف(12/380)
ص -372- ... بالكرامة، فاجعلوا له طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، فلما هلك أقام بنوه أمره، لا نزاع بينهم.
ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار، ورأوا أنهم أولى بذلك، فتفرقت قريش، بعضهم معهم، وبعضهم مع بني عبد الدار، فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس، لأنه أسنهم، وصاحب بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. فعقد كل قوم حلفا مؤكدا؛ فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فغمسوا أيديهم فيها، فمسحوا بها الكعبة، فسموا المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار، وحلفاؤهم، فسموا الأحلاف.
ثم تداعوا إلى الصلح، على أن لبني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار؛ فرضوا، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل حلف في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة " 1.
[قصة حلف الفضول وأمر الحمس]
وأما حلف الفضول، فاجتمعوا له في دار ابن جدعان لشرفه وسنه، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، تعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، أو ممن دخلها إلا قاموا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود : الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).(12/381)
ص -373- ... معه، حتى يردوا إليه مظلمته، فقال الزبير بن عبد المطلب عند ذلك شعرا:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظال
أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف، لأن عبد شمس كان سفارا، قل ما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وكان هو أول من سن الرحلتين، وأول من أطعم الثريد بمكة، فقال بعضهم فيه كلاما منه:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ولما مات، ولي ذلك عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان ذا شرف فيهم، يسمونه الفياض لسماحته؛ وكان هاشم قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو، من بني النجار، فولدت له عبد المطلب، فلما ترعرع، خرج إليه المطلب ليأتي به، فأبت أمه، فقال: إنه يلي ملك أبيه، فأذنت له. فرحل به وسلم إليه ملك أبيه، فولي عبد المطلب ما كان من آبائه، وأحبوه وعظم خطره فيهم. ثم ذكر قصة حفر زمزم، وما فيها من العجائب، ثم ذكر نذره ذبح ولده، وما جرى فيها من العجائب، ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وبعدها، وما جرى له وقت رضاعه، وبعد ذلك ذكر كفالة أمه له، ثم ذكر كفالة جده، ثم ذكر كفالة أبي طالب، ثم ذكر قصة بحيرى الراهب، وغيرها من الآيات،(12/382)
ص -374- ... ثم ذكر تزوجه خديجة، وما ذكر لها غلامها، وما ذكرته لورقة بن نوفل، وقوله: لججت وكنت في الذكرى لجوجا.... إلى آخرها.
ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش عند بناء الكعبة من الحجر، وذكر قصة بنائها، وذكر أمر الحمس، قال: إن قريشا ابتدعته رأيا رأوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم وولاة البيت، فليس لأحد من العرب مثال حقنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، لئلا تستخف العرب بحرمتكم؛ فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، مع معرفتهم أنها من المشاعر، ومن دين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها ويفيضوا منها، لأنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لنا أن نخرج منه، ونحن الحمس والحمس، أهل الحرم.
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب أهل الحل، مثل ما لهم بولايتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم؛ فكانت كنانة وخزاعة دخلت معهم في ذلك. ثم ابتدعوا أمورا، فقالوا لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون في بيوت الأدم ما داموا حرما.
[بدء الوحي]
ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحرم أن يأكلوا من طعام، جاؤوا به من الحل إلى الحرم، إذا جاؤوا به حجاجا أو(12/383)
ص -375- ... عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم، إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا ما، طافوا بالبيت عراة، فإن لم يجد ثياب أحمس وطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ، ولم ينتفع بها ولا غيره، فكانت العرب تسميها "اللقى". فحملوا على ذلك العرب، فدانت به؛ أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها، إلا درعها مفرجا، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة وهي تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فأنزل الله عز وجل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [سورة البقرة آية : 199] وأنزل الله فيما حرموا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [سورة الأعراف آية : 31] إلى قوله: {تعلمون} وذكر حدوث الرجوم، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم، ونزول سورة الجن، وقصتهم.
ثم ذكر إنذار اليهود به، وأنه سبب إسلام الأنصار، وما نزل في ذلك من القرآن، وقصة ابن الهيبان، وقوله: ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس، والجوع، ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي، ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو.(12/384)
ص -376- ... ثم ذكر وصية عيسى عليه السلام، باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به، والنصر له، وأن يؤدوه إلى قومهم، فأدوا ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [سورة آل عمران آية : 81] الآية.
ثم ذكر بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والقصة في الصحيحين، وفيها: أن أول ما أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق آية : 2] إلى قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق آية : 5] ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [سورة المدثر آية : 5] فمن فهم: أن هذه أول آية أرسله الله بها، أمره سبحانه أن ينذر عن الشرك، الذي يعتقدون أنه عبادة تقرب إلى الله عز وجل قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات، وعرف أن قوله: { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } [سورة المدثر آية : 3] أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها، عرف قدر الشرك عند الله، وقدر التوحيد. فلما أنذر استجاب له قليل، وأما الأكثر فلم يتبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم، فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه، وعذبوهم عذابا شديدا، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. فمن فهم هذا، عرف أن الإسلام لا يستقيم(12/385)
ص -377- ... إلا بالعداوة لمن تركه وسب دينه، وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا. وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه، وقص الله سبحانه بعضه في كتابه.
[قصة أبي طالب وقراءة سورة النجم]
ومن أشهر ذلك: قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته، وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة وصبر عليها، ومع ذلك أنه مصدق له داع إلى دينه، محب لمن اتبعه معاديا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دين آبائه، ويتعذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه، وإلا لولا ذلك لاتبعه.
ولما مات، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له، أنزل الله سبحانه: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [سورة التوبة آية : 113] فيا لها من عبرة ما أبينها! وما أبلغها من موعظة، وبيان ما أوضحه، لما يظن كثير من يدعي اتباع الحق، فيمن أحب الحق وأهله، من غير اتباع، لأجل غرض من أغراض الدنيا.
ومما وقع أيضا: قصته معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم، فلما وصل إلى قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [سورة النجم آية : 19] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحا(12/386)
ص -378- ... شديدا، وتلقاه الصغير والكبير منهم، وقالوا كلاما معناه: هذا الذي نريد، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور، ولكن نريد شفاعتهم عنده، فإذا أقر بذلك فلا بيننا وبينه اختلاف. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه.
وشاع الخبر أنهم صافوه، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة، فركبوا في البحر راجعين، ظانين أن ذلك صدق، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون قاله، فخاف من الله خوفا شديدا عظيما، حتى أنزل الله عز وجل عليه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [سورة الحج آية : 52] إلى قوله: { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [سورة الحج آية : 55] فمن عرف هذه القصة، وعرف ما عليه المشركون اليوم، وما قاله علماؤهم، ولم يميز بين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين دين قريش، الذي أرسله الله ينذرهم عنه، وهو الشرك الأكبر، فأبعده الله.
فإن هذه القصة في غاية الوضوح، إلا من طبع الله على قلبه، فذلك لا حيلة فيه، ولو كان من أفهم الناس، كما قال الله تعالى في أهل الفهم، الذين لم يوفقوا { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا(12/387)
ص -379- ... يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [سورة الأحقاف آية : 26].
ثم لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز المسلمين، أسلم الأنصار أهل المدينة، بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود، وذكرهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وأن هذا زمانه، وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء، الذين يتمنون ظهوره، ويتوعدونهم به، لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه، يكفرون به، ويعادونه؛ فهو قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة آية : 89].
فلما أسلم الأنصار، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا إليها، وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة؛ فهو قوله تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [سورة الأنفال آية : 26].
[الهجرة ووقوع بدر الكبرى]
وفوائد الهجرة، والمسائل التي فيها كثيرة، لكن نذكر منها مسألة واحدة، وهي: أن أناسا من المسلمين لم يهاجروا، كراهة مفارقة الوطن، والأهل والأقارب؛ فهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ(12/388)
ص -380- ... وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية : 24].
فلما خرجت قريش إلى بدر، خرجوا معهم كرها، فقتل بعضهم بالرمي، فلما علموا أن فلانا قتل، وفلانا قتل، وفلانا قتل، تأسفوا على ذلك، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية : 97].
فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر، أو فعلوا كفرا يرضون به قومهم، لم يتأسف الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة، لما عذبوا بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ } [سورة النحل آية : 106].
فلو سمعوا عنهم كلاما، أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، ويوضحه قوله(12/389)
ص -381- ... تعالى: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا } [سورة النساء آية : 97] ولم يقولوا: كيف عقيدتكم؟ أو كيف فعلكم؟ بل قالوا: في أي الفريقين أنتم؟ فاعتذروا لهم: كنا مستضعفين في الأرض، فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا، بل {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [سورة النساء آية : 97] يوضحه إيضاحا تاما قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية : 98-99].
فهذا في غاية الوضوح; فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة، فكيف بغيرهم؟ ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا.
فإن فهمت ما أنزل الله فهما جيدا، وفهمت ما عند من يدعي الدين، تبين لك أمور: منها: أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم، فإن هذه وأمثالها لا تعرف إلا بالتنبيه، فإذا أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية، فكيف بغيرهم؟
ومنها: أن تعرف أن الإيمان ليس كما ظنه غالب الناس اليوم، بل كما قال الحسن البصري: " ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال". نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وأن يعيذنا من علم لا ينفع.
قال عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: "يا بني، ليس(12/390)
ص -382- ... الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير: أن تعقل عن الله، ثم تطيعه ".
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، واجتمع المهاجرون والأنصار، شرع الله لهم الجهاد، وقبل ذلك نهوا عنه و{قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } [سورة النساء آية : 77] فأنزل الله عز وجل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية : 216] فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، رضي الله عنهم، فشكر الله لهم ذلك، ونصرهم على من عاداهم، مع قلتهم وضعفهم، وكثرة عدوهم وقوتهم.
فمن الوقائع المشهورة، التي أنزل الله فيها القرآن: وقعة بدر، أنزل الله فيها سورة الأنفال، وبعدها وقعة بني قينقاع، ثم وقعة أحد بعد سنة، وفيها الآيات التي في آل عمران، وبعدها وقعة بني النضير، وفيها الآيات التي في سورة الحشر، ثم وقعة الخندق وبني قريظة، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب، ثم وقعة الحديبية، وفتح خيبر وأنزل الله فيها سورة الفتح، ثم فتح مكة ووقعة حنين، وأنزل الله فيها سورة النصر، وذكر حنين في براءة، ثم غزوة تبوك، وذكرها الله في سورة براءة.
ولما دانت له العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا،(12/391)
ص -383- ... وابتدأ في قتال العجم، اختار الله له ما عنده، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أقام بالمدينة عشر سنين. فوقعت الردة المشهورة، وذلك أنه لما مات صلى الله عليه وسلم ارتد غالب من أسلم، وحصلت فتنة عظيمة، ثبت الله فيها من ثبت، وأنعم الله عليه بالثبات بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فإنه قام فيها قياما لم يدانه أحد من الصحابة، ذكرهم ما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وشجعهم لما جبنوا، فثبت الله به دين الإسلام، جعلنا الله من أتباعه، وأتباع أصحابه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية : 54] قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه.
[وقوع الردة]
وصورة الردة: أن العرب افترقت في ردتها ; فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات ; وفرقة قالوا: نؤمن بالله ولا نصلي ; وطائفة أقروا بالإسلام، وصلوا، ولكن منعوا الزكاة ; وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لكن صدقوا لمسيلمة أن النبي أشركه في النبوة ; وذلك أنه أقام شهودا شهدوا معه بذلك، وفيهم رجل من الصحابة معروف بالعلم والعبادة، يقال له "الرجّال" فصدقوه لما عرفوا فيه من العلم(12/392)
ص -384- ... والعبادة، وفيه يقول بعضهم، أي بعض من ثبت منهم على دينه، وهو ابن عمرو اليشكري، كلاما، منه:
يا سعاد الفؤاد بنت أثا ... طال ليلي بفتنة الرجال
إنها يا سعاد من أحدث الدهـ ... ـر عليكم كفتنة الدجال
فتن القوم بالشهادة والله ... عزيز ذو قوة ومحال
وقوم من أهل اليمن صدقوا الأسود العنسي في دعوى النبوة وقوم صدقوا طليحة الأسدي. ولم يشك أحد من الصحابة، في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة، لما عزم أبو بكر على قتالهم، قيل له: كيف تقاتلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها" 1.
قال أبو بكر: "الزكاة من حق لا إله إلا الله، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، ثم زالت الشبهة عن الصحابة، وعرفوا أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، وعرفوا وجوب قتالهم، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم، فقتلوا من قتلوا، وسبوا نساءهم وعيالهم.
فمن أهم ما على المسلم اليوم: تأمل هذه القصة، التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة; فمن تأمل هذه تأملا جيدا، خصوصا إذا عرف أن الله شهرها على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2946) , ومسلم : الإيمان (21) , والترمذي : الإيمان (2606) , والنسائي : الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود : الجهاد (2640) , وابن ماجه : المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394).(12/393)
ص -385- ... ألسنة العامة؛ وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك، وجعلوا من أكبر فضائله وعلمه: أنه لم يتوقف عن قتالهم أول وهلة; وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم، بالدليل الذي أشكل عليهم فرد عليهم بدليلهم بعينه، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة. أما القرآن، فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [سورة التوبة آية : 5].
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " 1.
فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء الذي ذكرت لك، فمن بعدهم تريد؟ فما بعد هذا إلا الضلال البعيد، أو تسويل كل شيطان مريد. والذي يعرفك هذا: معرفة ضده، وهو أن العلماء في زماننا، يقولون: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، حرام المال والدم، لا يكفر، ولا يقاتل، حتى إنهم يصرحون بذلك في البدو، الذين يكذبون بالبعث، وينكرون الشرائع كلها، ويزعمون أن شرعهم الباطل هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).(12/394)
ص -386- ... حق الله ; ولو يطلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله، لعدوه من أكبر المنكرات.
ومن حيث الجملة: إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره، ويكفرون بدين الرسول كله، مع إقرارهم بذلك، وإقرارهم أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم، كفر بشرع الله؛ وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله، ويقولون: ما فيهم من الإسلام شعرة، لكن من قال: لا إله إلا الله، فهو المسلم، حرام المال والدم، ولو كان ما معه من الإسلام شعرة.
وهذا القول، تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا ما بينه الله ورسوله، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كفر مسلما فقد كفر; والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة، إلا أنه يقول لا إله إلا الله.
فاعلم رحمك الله: أن هذه المسألة أهم الأشياء عليك، لأنها هي الكفر والإسلام؛ فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله، كما ذكرنا لك من القرآن والسنة والإجماع، وإن صدقت الله ورسوله، عادوك وكفروك؛ وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول.
فهذه المسألة، قد انتشرت في الأرض، مشرقها ومغربها، ولم يسلم منهم إلا القليل؛ فإن رجوت الجنة، وخفت النار، فاطلب هذه المسألة وحررها، ولا تقصر في(12/395)
ص -387- ... طلبها، لأجل شدة الحاجة إليها، لأنها الإسلام والكفر، وقل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني شر نفسي، وفهمني عنك، وعلمني منك، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني.
وأكثر الدعاء بالذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعو به في الصلاة، وهو " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
ونزيد هذه المسألة إيضاحا ودلائل، لشدة الحاجة إليها، فنقول: يتفطن العاقل لقصة واحدة، وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة؛ وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة، وهم عند الناس من أقبح أهل الردة، وأعظمهم كفرا، وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون.
ومع هذا، فإن أكثرهم، يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لأجل الشهود الذين معهم "الرجّال". والذي يعرف هذا ولا يشك فيه، يقول: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة، بل تركه واستهزأ به متعمدا.
فسبحان مقلب القلوب والأبصار كيف يشاء! كيف(12/396)
ص -388- ... يجتمع في قلب من له عقل - ولو كان أجهل الناس - أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا، مع أن حالهم ما ذكرنا، وأن البدو إسلام ولو تركوا الإسلام كله، وأنكروه واستهزؤوا به على عمد، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، لكن أشهد أن الله على كل شيء قدير. نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
الدليل الثاني: قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي: أن بقايا من بنى حنيفة، لما رجعوا إلى الإسلام، وتبرؤوا من مسيلمة، وأقروا بكذبه، كبر ذنبهم في أنفسهم، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر، لأجل الجهاد في سبيل الله، لعل ذلك يمحو عنهم تلك الردة، لأن الله تعالى يقول: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [سورة الفرقان آية : 70] وقوله:{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه آية : 82].
فنَزلوا الكوفة، وصار لهم بها محلة معروفة، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة، فمر بعض المسلمين على مسجدهم، ما بين المغرب والعشاء، فسمع منهم كلاما، معناه: أن مسيلمة على حق، وهم جماعة كثيرون؛ لكن الذي لم يقل لم ينكر على من قال، فرفعوا أمرهم إلى(12/397)
ص -389- ... ابن مسعود، فجمع من عنده من الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم: هل يقتلهم وإن تابوا؟ أو يستتيب؟ فأشار بعض بقتلهم من غير استتابة، وأشار بعضهم باستتابتهم. فاستتاب بعضهم، وقتل بعضهم ولم يستتبه، وقتل عالمهم ابن النواحة. فتأمل رحمك الله: إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا، لما تبرؤوا من الكفر، وعادوا إلى الإسلام، ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة، لكن سمعها بعض المسلمين، ومع هذا لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم، المتكلم والحاضر الذي لم ينكر، لكن اختلفوا: هل تقبل توبتهم أم لا؟ والقصة في صحيح البخاري. فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء، ويقول: البدو ما معهم من الإسلام شعرة، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وحكم بإسلامهم بذلك؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة فيمن قال تلك الكلمة، أو حضرها ولم ينكر؟ هيهات ما بين الفريقين، وبعد مسافة ما بين الطريقين:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
صم وبكم عن حقيقة دينهم ... ع عن القول المصيب الطيب
قد أغرقوا في بحر شرك لجة ... في ظلمة فيها صواعق صيب(12/398)
ص -390- ... ربنا إننا نعوذ بك أن نكون ممن قلت فيهم: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [سورة البقرة آية : 17] ولا ممن قلت فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة الأنفال آية : 22].
الدليل الثالث: ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين، من قصة أصحاب علي رضي الله عنه لما اعتقدوا فيه الإلهية - التي تعتقد اليوم في أناس من أكفر بني آدم، وأفسقهم - فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخد لهم الأخاديد، وملأها حطبا، وأضرم فيها النار، وقذفهم فيها وهم أحياء. ومعلوم: أن الكافر، مثل اليهودي والنصراني، إذا أمر الله بقتله، لا يجوز إحراقه بالنار. فاعلم: أنهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، هذا وهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويقرؤون القرآن، آخذين له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما غلوا في علي أنكر الغلو، وحرقهم بالنار وهم أحياء، وأجمع الصحابة والعلماء كلهم على كفرهم. فأين هذا ممن يقول في البدو تلك المقالة مع اعترافه بهذه القصة وأمثالها، واعترافه أن البدو كفروا بالإسلام كله، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله؟ واعلم أن جناية هؤلاء على الإلهية، ولا علمنا فيهم جناية على النبوة،(12/399)
ص -391- ... والذين قبلهم جنايتهم على النبوة، ولا علمنا لهم جناية على الإلهية ; وهذا مما يبين لك شيئا من معنى الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام.
الدليل الرابع: ما وقع في زمن الصحابة، وهي قصة المختار بن أبي عبيد، وهو رجل من التابعين، مصاهر لعبد الله بن عمر، ومظهر للصلاح؛ فظهر في العراق، يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل ابن زياد ومال إليه من مال لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم. فاستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة، والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجماعة والجمعة؛ لكن في آخر أمره، زعم أنه يوحى إليه. فسير عليه عبد الله بن الزبير جيشا، فهزم جيشه وقتلوه، وأمير الجيش مصعب بن الزبير، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت، فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها، فكتب إليه إن لم تبرأ منه فاقتلها، فامتنعت فقتلها مصعب.
وأجمع العلماء كلهم على كفر المختار، مع إقامته شعائر الإسلام، لما جنى على النبوة ; فإذا كان الصحابة قتلوا المرأة، التي هي من بنات الصحابة، لما امتنعت من تكفيره، فكيف بمن لم يكفر البدو، مع إقراره بحالهم؟ فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام؟ من دعاهم إلى(12/400)
ص -392- ... الإسلام أنه هو الكافر؟! يا ربنا نسألك العفو والعافية.
الدليل الخامس: ما وقع في زمن التابعين، وذلك قصة الجعد بن درهم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد شيئا من صفات الله عز وجل مع كونها مقالة خفية عند الأكثر، ضحى به خالد القسري يوم عيد الأضحى، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله منكم ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. ثم نزل فذبحه، ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر ذلك عليه، بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه، فقال:
شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان
فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة، وأخذ العلم عن الصحابة، أجمعوا على استحسان قتله، فأين هذا من اعتقاد أعداء الله في البدو؟.
الدليل السادس: قصة بني عبيد القداح، فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة، فادعى عبيد الله أنه من آل علي، من ذرية فاطمة، وتزيا بزي الطاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من أهل المغرب؛ وصار له دولة كبيرة في المغرب، ولأولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشام، وأظهروا شرائع الإسلام، وإقامة الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين.(12/401)
ص -393- ... لكن أظهروا أشياء من الشرك، ومخالفة الشرع، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم ; فأجمع أهل العلم على أنهم كفار، وأن دارهم دار حرب، مع إظهارهم شعائر الإسلام وشرائعه. وفي مصر من العلماء والعباد ناس كثير، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوه، ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرنا، حتى إن بعض أكابر العلماء المعروفين بالصلاح، قال: لو أن معي عشرة أسهم، لرميت بواحد النصارى المحاربين، ورميت بالتسعة في بني عبيد.
ولما كان في زمن السلطان محمود بن زنكي، أرسل إليهم جيشا عظيما، فأخذوا مصر من أيديهم، ولم يتركوا جهادهم لأجل من فيها من الصالحين. فلما فتحها السلطان، فرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، وصنف ابن الجوزي كتابا في ذلك سماه "النصر على مصر"، وأكثر العلماء التصنيف والكلام في كفرهم، مع ما ذكرنا من إظهار شرائع الإسلام الظاهرة.
فانظر ما بين هذا، وبين ديننا الأول: البدو إسلام، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كله، إلا قول لا إله إلا الله، ولا نظن أن أحدا منهم يكفر، إلا إذا انتقل يهوديا أو نصرانيا.
فإذا آمنت بما ذكر الله ورسوله، وأجمع عليه العلماء، وبرئت من دين آبائك في هذه المسألة، وقلت: آمنت بالله،(12/402)
ص -394- ... وبما أنزل الله، وتبرأت مما خالفه باطنا وظاهرا، مخلصا لله الدين في ذلك، وعرف الله ذلك من قلبك، فأبشر، ولكن سل الله سبحانه التثبيت، واعرف أنه مقلب القلوب:
إن القلوب يد الباري تقلبها ... فسل من الله توفيقا وتثبيتا
سل الهداية منه أن يمن بها ... فإن هداك فللخيرات أوتيتا
فهذه غربة الإسلام أنت بها ... فكن صبورا ولو في الله أوذيتا
الدليل السابع: قصة التتار، وذلك أنهم لما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلدان المسلمين، وعرفوا دين الإسلام، واستحسنوه، وأسلموا، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة، لكن يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ليسوا كالبدو، ومع هذا كفرهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين.
وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله سبحانه، وأما من أراد الله فتنته، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك، ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة، من قتل من يظهر شعائر الإسلام، إذا تكلم بكلام الكفر، وقامت عليه البينة، أنه يقتل، مع أن في هؤلاء المقتولين، من هو من أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم، مثل الحلاج وأمثاله، ومن هو من الفقهاء المصنفين، كالفقيه عمارة، فلو ذكرنا قصص هؤلاء، لاحتمل مجلدات، ولا نعرف(12/403)
ص -395- ... فيهم رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو، أو الذي يقول من يزعم إسلامهم: إنه ليس معهم من الإسلام شعرة، إلا قول لا إله إلا الله، ولكن (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية : 17].
والعجب: أن الكتب التي بأيديهم، ويزعمون أنهم يعرفونها، ويعملون بها، فيها مسائل الردة ; وتمام العجب أنهم يعرفون بعض ذلك، ويقرون به، ويقولون: من أنكر البعث كفر، ومن شك فيه كفر، ومن سب الشرع كفر، ومن أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، كل هذا يقولونه بألسنتهم.
فإذا كان من أنكر الأكل باليمين، أو أنكر النهي عن إسبال الثياب، أو أنكر سنة الفجر، أو أنكر الوتر، فهو كافر، ويصرحون: أن من أنكر الإسلام كله وكذب به، واستهزأ به، أو استهزأ بمن صدق به، فهو أخوك المسلم، حرام المال والدم، مع أنه ما معه من الإسلام إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، ثم يكفروننا ويستحلون دماءنا وأموالنا، مع أنا نقول: لا إله إلا الله. إذا سئلوا عن ذلك، قالوا: من كفر مسلما فقد كفر، ثم لم يكفهم ذلك، حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله، أن ينقض العهد، وله في ذلك ثواب عظيم ; ويفتون أن الذي عنده لنا أمانة أو مال يتيم، أنه يجوز له أكل أمانته، ولو كان(12/404)
ص -396- ... مال يتيم بضاعة عنده، أو وديعة.
بل يرسلون الرسائل لمن حارب التوحيد، ونصر عبادة الاوثان، مثل دهام بن دواس وغيره، يقولون: أنت يا فلان، قمت مقام الأنبياء، مع إقرارهم أن التوحيد الذي قلنا، وكفروا به، وصدوا الناس عنه، هو دين الأنبياء، وأن الشرك الذي نهينا عنه الناس، ورغبوهم فيه، وأمروهم بالصبر على آلهتهم، أنه الشرك الذي نهى عنه الأنبياء، ولكن هذه من أكبر آيات الله.
فمن لم يفهمها فليبك على نفسه، فإنها قد ماتت، ولينتبه قبل حلول رمسه؛ فإن دنياه وأخراه قد فاتت، وليتدارك ما بقي من يومه بعد أمسه، فإن ركائب الموت بفنائه قد باتت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ويا مزيل العقول والأفكار، ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من القانتين لك في الأسحار، وأن تتوفانا مسلمين لك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى على سيدنا محمد وآل محمد وأصحابه، بالعشي والإبكار، آمين والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما.
[بداية كتاب "مفيد المستفيد" في أحكام الردة]
وسئل أيضا: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ارتد(12/405)
ص -397- ... طائفة من أهل العيينة، ولما ارتد أهل حريملاء أن يكتب كلاما ينفع الله به.
فأجاب، رحمه الله تعالى: روى مسلم في صحيحة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: " كنت في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت رجلا بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة. فقلت له: وما أنت؟ قال: نبي قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له: ومن معك على هذا؟ قال: حر وعبد قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت: إني متبعك، قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني".
قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسال الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب، فقلت: ما فعل هذا الرجل، الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد(12/406)
ص -398- ... أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: أنت الذي لقيتني بمكة قال: فقلت: يا نبي الله، علمني مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: " صل صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وحتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة، فإنها حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " وذكر الحديث.
قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها، وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار تسجد لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت، حسما لمادة المشابهة.
ومن هذا الباب: أنه إذا صلى إلى عود، أو عمود،(12/407)
ص -399- ... جعله على حاجبه الأيمن، ولم يصمد له صمدا، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، ولهذا نهى عن السجود بين يدي الرجل، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، انتهى كلامه.
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه، ما في هذا الحديث من العبر، فإن الله سبحانه يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم، ليكون للمؤمن من المتأخرين عبرة، فيقيس حاله بحالهم; وقص قصص الكفار والمنافقين، لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا.
فمما فيه من الاعتبار: أن هذا الأعرابي الجاهلي، لما ذكر له أن رجلا بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس، لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه، وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير، وهذا فسر به قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً } [سورة الأنفال آية : 23] أي حرصا على تعلم الدين {لأسمعهم} أي: لأفهمهم؛ فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم، عدل منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين.
فتبين: أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب، هو عدم الحرص على التعلم، فإذا كان هذا الجاهل يطلب هذا الطلب، فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء، وبلغه عنهم ما بلغه، وعنده من يعرض عليه التعليم،(12/408)
ص -400- ... ولا يرفع بذلك رأسا، فإن حضر أو سمع فكما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } [سورة الأنبياء آية : 2].
وفيه من العبر أيضا: أنه لما قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا، فتبين: أن زبدة الرسالة الإلهية، والدعوة النبوية، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وكسر الأوثان، ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة، وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة.
وفيه أيضا: أنه فهم المراد من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب، ولأجل هذا قال: من معك؟ قال: (حر وعبد) فأجابه: أنه جميع العلماء والعباد والملوك والعامة، مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض، ولله در الفضيل بن عياض، حيث يقول: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.
وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة سبأ آية : 20] وفي الصحيحين " أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون " 1 ولما بكوا من هذا لما سمعوه، قال صلى الله عليه وسلم " إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فيؤخذ العدد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3348) , ومسلم : الإيمان (222) , وأحمد (3/32).(12/409)
ص -401- ... الجاهلية، فإن تمت وإلا تم من المنافقين " 1. قال الترمذي: حسن صحيح.
فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث، من صفة بدو الإسلام، ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2، تبين له الأمر إن هداه الله، وانزاحت عنه الحجة الفرعونية: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [سورة طه آية : 51] والحجة القرشية {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ } [سورة ص آية : 7] الآية.
وقال أبو العباس، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }: ظاهره: أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ حرام، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور.
والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3168).
2 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).(12/410)
ص -402- ... هذا ما يفعل بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلام الشيخ، وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين، أنه لا يكفر المعين. فانظر أرشدك الله إلى تكفيره، من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا لذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.
وقال أيضا في الكتاب المذكور: وكانت الطواغيت الكبار، التي تشد إليها الرحال ثلاثة، اللات والعزى ومناة، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة، قريبا من عرفات؛ وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء.
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: " الله أكبر إنها(12/411)
ص -403- ... السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم " 1.
فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار، في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها أسلحتهم. فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق، مثل مسجد يقال له: "مسجد الكف"، فيه تمثال كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة، موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع.
[تكفير المعين]
ثم ذكر كلاما طويلا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور، فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد، كأبي بكر الأثرم، عللوا بهذه العلة، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية : 23] الآية ذكر ابن عباس وغيره من السلف: أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; ذكر هذا البخاري في صحيحه، وأهل التفسير، كابن جرير وغيره.
ومما يبين صحة هذه العلة: أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا، وقال عن نفسه: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).
2 أحمد (2/246).(12/412)
ص -404- ... فعلم: أن نهيه عن ذلك، كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، فسد الذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها، والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع:
فإن من الناس من يسجد للشمس، وغيرها من الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية، وهذا من أعظم أسباب الشرك، الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام؛ وصنف بعض المشهورين فيه كتابا، على مذهب المشركين، مثل: أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالطاغوت والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [ سورة النساء آية : 51]. انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام، الذي ينسب عنه - من أزاغ الله قلبه - عدم تكفير المعين، كيف ذكر مثل الفخر الرازي، وهو من أكابر أئمة الشافعية، ومثل أبي معشر، وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهم، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام، والفخر هو الذي ذكره الشيخ، في الرد على المتكلمين، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا، قال: وهذه(12/413)
ص -405- ... ردة صريحة باتفاق المسلمين، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
وتأمل أيضا: ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها، هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط؛ هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لك لفظه، الذي احتجوا به على زيغهم.
قال رحمه الله: أنا من أعظم الناس نهيا، عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، انتهى كلامه.
وهذا صفة كلامه في المسألة، في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة، من تكفير أو تفسيق أو معصية.
وصرح رضي الله عنه أيضا: أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم(12/414)
ص -406- ... تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلامـ ومثل إيجابه للصلوات الخمس، وتعظيم شأنها; ومثل تحريم الفواحش، والزنى والخمر والميسر; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها، فكانوا مرتدين; وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين، انتهى كلامه.
فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة، التي يذكر أعداء الله، لكن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } [سورة المائدة آية : 41]، على أن الذي نعتقده وندين الله به، ونرجو أن يثبتا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة: المسلم إذا أشرك بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، وغير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف والحمد لله، ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ(12/415)
ص -407- ... الأُولَى} أو حجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ } [سورة ص آية : 7] الآية.
[المنتسب إلى الإسلام قد يمرق]
وقال الشيخ رحمه الله، في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم.
فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان، وذلك بأسباب; منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } [سورة المائدة آية : 77] وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس، كان مذهبه: أن يقتلوا بالسيف بلا تحريف، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.
وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا(12/416)
ص -408- ... شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر; والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [سورة الزمر آية : 3]، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دونة، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية : 56] الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة.
[عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين]
ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات، ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [سورة النحل آية : 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية : 25]، وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له(12/417)
ص -409- ... رجل: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "، ونهى عن الحلف بغير الله، فقال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " 1 وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 يحذر ما صنعوا; وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 3.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأنه من أكبر أسباب عبادة الأوثان، وتعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء، على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية : 48] الآية.
ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام، وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [سورة البقرة آية : 255]. وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 4 والإله هو الذي تألهه القلوب، عبادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).
2 البخاري : الجنائز (1330) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي : الصلاة (1403).
3 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(12/418)
4 أبو داود : الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247).(12/419)
ص -410- ... له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان; وتأمل كلامه في اللات والعزّى ومناة، وما ذكر بعده، يتبين لك الأمر، إن شاء الله تعالى.
[أنواع الشرك]
وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك: فهو نوعان، أكبر وأصغر; فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون إذا انتقص معبودهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين.
وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وأن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر.
قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ(12/420)
ص -411- ... دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [سورة الزمر آية : 3]. الآية. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله، فصلا طويلا، في تقرير هذا الشرك الأكبر، ولكن تأمل قوله: وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره; يتبين لك بطلان الشبهة، التي أدلى بها الملحد، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
وذكر في آخر هذا الفصل، أعني الفصل الأول، في الشرك الأكبر، الآية التي في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [سورة سبأ آية : 22] إلى قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ، وتكلم عليها ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ".(12/421)
ص -412- ... وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عيانا، فالله المستعان.
فصل: وأما الشرك الأصغر، فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا؛ وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال الشيخ رحمه الله - بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر -: ومن أنواع هذا الشرك: السجود للشيخ، ومن أنواعه: التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه: النذر لغير الله والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غيره.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا(12/422)
ص -413- ... لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.
والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم.
ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ } [سورة إبراهيم آية : 35]، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، انتهى كلامه.
والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن(12/423)
ص -414- ... هذا شرك أصغر، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني، الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره، في الفصل الأول، والثاني، صريحا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة: منها: أن دعاء الموتى، والنذر لهم، ليشفعوا له عند الله، هو الشرك الأكبر، الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه، وقاتله وعاداه.
وآخر ما صرح به، قوله آنفا: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره، فهل بعد هذا البيان بيان، إلا العناد، بل الإلحاد؟ ولكن تأمل قوله أرشدك الله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعله.
وقد ذكر في "الإقناع"، عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر، فإذا كان هذا حال من شك في كفره، مع عداوته له ومقته، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم، ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته؟ وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } [سورة القصص آية : 57]. فإذا كان هذا قول الله تعالى، فيمن تعذر عن التبين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله(12/424)
ص -415- ... وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر: " إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " فلهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا: { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } [سورة القصص آية : 57] الآية.
ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق، والصواب كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده، يقول: بيني وبينكم أهل الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا؛ فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضا يصفهم بالشرك، ومخالطتهم للحاجة! وما أحسن قول أصدق القائلين: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [سورة الذاريات آية : 7] { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } [سورة ق آية : 5].
فرحم الله امرأ نظر في نفسه، وتفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، من معاداة من أشرك بالله، من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم، حتى يكون الدين كله لله، وعلم ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فيمن أشرك بالله، مع ادعائه الإسلام، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، لما حرقهم بالنار، مع أن(12/425)
ص -416- ... غيرهم من أهل الأوثان، الذين لم يدخلوا في الإسلام، لا يقتلون بالتحريف، والله الموفق.
وقال أبو العباس ابن تيمية، في الرد على المتكلمين، لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: وكل شرك في العالم، إنما حدث برأي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك، فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا، فإنه نافع جدا.
ولهذا كان رؤساؤهم المتقدمون والمتأخرون، يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد، وقد رأيت من مصنفاتهم، في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة، وأنفس الأنبياء، وغيرهم، ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد، إنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل.
والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه، فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلها دون ما سواه،(12/426)
ص -417- ... وهذا معنى قول لا إله إلا الله; انتهى كلام الشيخ.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، فإنه مثل ما قال الشيخ فيه، نافع جدا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد: أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضا له أو عدم محبته، كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا.
وأما إيثار الدنيا، مثل تجارة أو غيرها، فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } الآية وقال تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ } إلى قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } [سورة النحل آية : 107]. فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، وأن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله، غر هذا الكلام ضعيف البصيرة.
وأعظم من هذا وأطم: أن أهل حريملا ومن والاهم، يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، ويستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها.
فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضا لم يحدثوا في بلدهم أوثانا، جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم،(12/427)
ص -418- ... عنده ما هم عليه، من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال واليد واللسان، فالله المستعان.
[كفر مانعي الزكاة]
وقال أبو العباس أيضا - في الكلام على كفر مانعي الزكاة -: والصحابة لم يقولوا: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقد روى: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم: أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، انتهى.
فتأمل كلامه في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار، وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين، عدم تكفير المعين.
قال رحمه الله بعد ذلك: وكفر هؤلاء، وإدخالهم في(12/428)
ص -419- ... أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة، المستند إلى نصوص الكتاب والسنة; انتهى كلامه.
ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصده اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم، وهو أول قتال وقع في الإسلام، على من ادعى أنه من المسلمين، فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام، على هذا النوع، أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الواقعات، التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة إلى وقتنا هذا.
وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال الطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، فإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه، والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع.
وقال أيضا في كتاب "الفنون": لقد عظم الله الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك،(12/429)
ص -420- ... بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته.
وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل، إشفاقا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدا لرمقك، وحفظا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك.
أيحسن لك مع هذا الإكرام، أن يراك على ما نهاك عنه منهمكا، ولما أمرك تاركا، وعلى ما زجرك مرتكبا، وعن داعيه معرضا، ولداعي عدوه فيك مطيعا؟ يعظ وهو هو; وتهمل أمره، وأنت أنت; حط رتبة عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك.
هل عاديت خادما طالت خدمته لك، لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي؟ فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للخالق سبحانه، اقتضاء المكافي المساوي; ما أفحش تلاعب الشيطان بالإنسان! بينا هو بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، إلى أن يوجد ساجدا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر،ما(12/430)
ص -421- ... أوحش زوال النعم، وتغير الأحوال، والحور بعد الكور! لا يليق بهذا الحي الكريم، الفاضل على جميع الحيوانات، أن يرى إلا عابدا لله في دار التكليف، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف؛ وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها، انتهى كلامه.
والمراد منه: أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان، أن يشرك بالله، ومثله بأنواع، منها: السجود للشمس أو للقمر، ومنها: السجود لصورة، كما يسجد للصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض، كما فسر به قوله تعالى: { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } قال ابن عباس: (أي: ركعا).
[إنكار تعظيم القبور]
وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين، إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا، سماه: "مناسك المشاهد"، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام; انتهى، وهذا الذي ذكره ابن القيم، رجل من المصنفين، يقال له ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين؟!
وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير، فنذكر منه قليلا من كثير، أما كلام الحنفية، فكلامهم في هذا من أغلظ(12/431)
ص -422- ... الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين، إذا قال: مصيحف، أو مسيجد، أو صلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك.
وقال في "النهر الفائق": واعلم: أن الشيخ قاسما، قال في "شرح درر البحار": إن النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، فلك من الذهب والفضة، أو الشمع أو الزيت، كذا، باطل إجماعا، لوجوه، إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال - وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى كلامه; فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته.
وقال القرطبي رحمه الله، لما ذكر سماع الفقراء وصورته، قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام، جمال الملة: أن مستحل هذا كافر; ولما علم أن حرمته بالإجماع، لزم أن يكفر مستحله، فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه، في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير كثير.
وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري، إمام الحنفية في(12/432)
ص -423- ... زمنه، قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرا ذكيا، فهذا إمام الحنفية في زمنه، حكى عن فقهاء بخارى جملة كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف، يتظاهر بالإسلام.
وأما كلام المالكية في هذا: فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس; وقد ذكر القاضي عياض - في آخر كتاب الشفاء - من ذلك طرفا، ومما ذكر: أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه، بما لا نسبة بينه وبينه.
وأما كلام الشافعية: فقال "صاحب الروض"، رحمه الله: إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر، وقال أيضا: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر، وكان هذا دون ما نحن فيه.
[دعاء غير الله]
وقال ابن حجر: في "شرح الأربعين"، على حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله)، ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" ذكر فيه أنواعا كثيرة، من الأقوال والأفعال، كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام، ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشر معشار ما نحن فيه.(12/433)
ص -424- ... وتمام الكلام في هذا، أن يقال: الكلام هنا في مسألتين:
الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم، إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله؟ أم هذا شرك أصغر؟ وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه، إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل، وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك، واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة.
وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم في "المدارج"، كما تقدم، وتارة لا يذكرون شيئا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند(12/434)
ص -425- ... التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة. وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع; ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر; وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدا من الإقرار به لوضوحه.
المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن، واتبع يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات، وإلا المسألة الأولى قل الجدال فيها - ولله الحمد - لما وقع من إقرار علماء المشركين بها. فاعلم: أن تصور هذه المسألة تصورا حسنا، يكفي في إبطالها من غير دليل خاص، لوجهين:
الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام، لا تأثير لها في التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن، فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان، كاليهود.
فإذا كان من انتسب إلى الإسلام، لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر، لأنه مسلم بقول: لا إله إلا الله، ويصلي،(12/435)
ص -426- ... ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، والعمى والعرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر؛ وهذه فضيحة عظيمة، كافية في رد هذا القول الفظيع.
الوجه الثاني: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان، بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفطر والعقول، والعلوم الضرورية؛ فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس، وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك، ممن يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية، إلى القول: بأن هذا كافر، من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء.
ولكن لغلبة الجهل، وغرابة العلم، وكثرة من يتكلم في هذه المسألة، من الملحدين، اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين، الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية، لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت، ويجعلك أيضا من الأئمة الذين يهدون بأمره.
فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينا، ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء بعدهم،(12/436)
ص -427- ... فيمن انتسب إلى الإسلام، كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله، ويأخذ ماله; ومثل، همه بغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، ومثل: قتال الصديق والصحابة، لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين، ومثل: إجماع الصحابة في زمن عمر، على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [سورة المائدة آية : 93] حل الخمر لبعض الخواص.
ومثل: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في زمن عثمان على تكفير أهل المسجد، الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة الكذاب، مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم، ومثل: تحريق علي رضي الله عنه أصحابه، لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين، مع بقية الصحابة، على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطلب دم الحسين وأهل البيت.
ومثل: إجماع التابعين ومن بعدهم، على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين؛ وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى، ولم يقل أحد من الأولين والآخرين، لأبي بكر الصديق أو غيره، كيف تقاتل بني(12/437)
ص -428- ... حنيفة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون؟ وكذلك: لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه، لو لم يتوبوا، وهلم جرا، إلى زمن بني عبيد، الذين ملكوا المغرب، ومصر، والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقف فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابا لما أخذت مصر منهم، سماه "النصر على مصر"، ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين، أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله، لأجل ادعائهم الملة، ولأجل قول لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان، مع إقرارهم أن هذا هو الشرك، ولكن من فعله أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله، أنه لا يكفر، لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام. هذا لم يسمع قط، إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق، فليذكروه؛(12/438)
ص -429- ... ولكن الأمر، كما قال اليمني في قصيدته:
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوى فليسا إن رجعت إلى النقد
ولنختم الكلام في هذا النوع، بما ذكره البخاري في صحيحه، حيث قال: باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ثم ذكر بإسناده: قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة " 1 وذو الخلصة: صنم لدوس يعبدونه، فقال صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله: " ألا تريحني من ذي الخلصة "2، فركب إليه بمن معه، فأحرقه وهدمه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال فبَرّك على خيل أحمس، ورجالها خمسا.
وعادة البخاري رحمه الله، إذا لم يكن الحديث على شرطه، ذكره في الترجمة، ثم أتى بما يدل على معناه، مما هو على شرطه، ولفظ الترجمة، وهو قوله: " يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان " لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة; والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة العلم، جملا في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك، فنقول: باب وجوب عداوة أعداء الله، من الكفار والمرتدين والمنافقين، وقول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7116) , ومسلم : الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/271).
2 البخاري : الجهاد والسير (3020) والدعوات (6333) , ومسلم : فضائل الصحابة (2476) , وأبو داود : الجهاد (2772).(12/439)
ص -430- ... تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [سورة النساء آية : 140] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [سورة المائدة آية : 51] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [سورة الممتحنة آية : 1] إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [سورة الممتحنة آية : 4] وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [سورة المجادلة آية : 22] الآية.
وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي، أن ما حملني على الكتاب إليك، إلا ما ذكر أهل بلدك، من صالح ما أعطاك الله، من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين.
فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك، من الصلاة والصيام، والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال، من إقامة كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم(12/440)
ص -431- ... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"، وضم بين أصبعيه، وقال: " أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه، كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة"1. فمن يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟
واذكر أيضا: أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا لله يذب عنها، وينطق بعلامتها؛ فاغتنم يا أخي هذا الفضل، وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، وأوصاه، وقال: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من كذا وكذا"، وأعظم القول فيه. فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة، حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر.
فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع، المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلقى الله بعمل شبهه؛ وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب، فإنه جاء في الأثر " من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام"، وجاء: " ما من إله يعبد من دون الله، أبغض إلى الله، من صاحب هوى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : العلم (2674) , والترمذي : العلم (2674) , وأبو داود : السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي : المقدمة (513).(12/441)
ص -432- ... [البدع وما تجر إليه]
وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا، ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا وصوما وصلاة، ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده، انتهى كلام أسد رحمه الله.
واعلم رحمك الله: أن كلامه، وما يأتي من كلام أمثاله من السلف، في معاداة أهل البدع والضلالة، ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك، وحذروا منه لأمرين.
الأمر الأول: غلظ البدعة في الدين، في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم، ولو كان عالما عابدا، أبغض وأشد ذنبا من السني المجاهر بالكبائر.
الأمر الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد من كثير من أهل البدع؛ فمثال البدعة التي شدودا فيها، مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، خوفا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدا، فمن فهم هذا، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله.(12/442)
ص -433- ... وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [سورة المائدة آية : 54] الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } [سورة التوبة آية: 73-74].
قال ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها" بعد حديث ذكره، أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة، قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال؛ وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلالة، لا يحل فيها السبي ولا الأموال.
قال رحمه الله أيضا: أخبرنا أسد، أخبرنا رجل، عن ابن المبارك، قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه " إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا من أوليائه، يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلا "، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال: " لأن أرد رجلا عن رأي سيئ، أحب إلي من اعتكافي شهرا ".
أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي،(12/443)
ص -434- ... قال: " كان بعض أهل العلم يقولون، لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صياما ولا صدقة، ولا جهادا، ولا حجا ولا عمرة، ولا صرفا ولا عدلا، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم ".
قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم بها على مصر ملحد.
ثم روى بإسناده، قال: " جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد، فقال: أرأيت رجلا ضرب بسيفه غضبا لله حتى قتل، أفي الجنه أم في النار؟ فقال: أبو موسى في الجنة; فقال حذيفة: استفهم الرجل، وأفهمه ما تقول، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فلما كان في الثالثة، قال والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة، فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق، فهو في النار; ثم قال: والذي نفسي بيده، ليدخلن النار في مثل هذا الذي سألت عنه، أكثر من كذا وكذا ".
ثم ذكر بإسناده عن الحسن، قال: " لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، ثم ذكر بإسناده عن سفيان(12/444)
ص -435- ... الثوري، قال: " من جالس صاحب بدعة، لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ".
ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال: " من أتى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام ". أخبرنا أسد، قال حدثنا كثير أبو سعيد، قال: " من جلس إلى صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه ". أخبرنا أسد بن موسى، قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال أبو قلابة: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنى لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ما تعرفون"، قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.
أخبرنا أسد بن موسى، أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة، قال: قال إبراهيم: " لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". أخبرنا أسد، بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " 1.
أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الزهد (2378) , وأبو داود : الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334).(12/445)
ص -436- ... زيد، عن أيوب، قال: " دخل على محمد بن سيرين يوما رجل، فقال: يا أبا بكر، أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أزيد على أن أقراها، ثم أخرج. فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلما، لما خرجت من بيتي; قال: فقال: يا أبا بكر، لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج; قال: فقال بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام. قال: فأقبلنا على الرجل، فقلنا: قد حرج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته؟ قال: فخرج. فقلنا: يا أبا بكر، ما عليك لو قرأ آية ثم خرج; قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه، ما باليت أن يقرأ، ولكني خفت أن يلقي في قلبي شيئا، أجهد أن أخرجه من قلبي، فلا أستطيع".
أخبرنا أسد، أخبرنا ضمرة عن سودة، قال: سمعت عبد الله بن القاسم، وهو يقول: "ما كان عبد على هوى فتركه، إلا إلى ما هو أشر منه"، قال: فذكرت هذا لبعض أصحابنا، فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، ثم لايرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه " 1.
أخبرنا أسد، قال أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كان عندنا رجل يرى رأيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6932).(12/446)
ص -437- ... فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: "انظروا إلى ماذا تحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه ".
ثم روى بإسناده عن حذيفة: أنه " أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئين أقوام يدفنون هذا الدين، كما دفنت هذه الحصاة ".
أخبرنا: محمد بن سعيد، بإسناده عن أبي الدرداء قال: " لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه، إلا الصلاة" قال الأوزاعي، فكيف لو كان اليوم؟ قال: عيسى - يعني: الراوي عن الأوزاعي: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟
وأخبرنا: محمد بن سليمان، بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: " تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان، ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم". أخبرنا يحيى بن يحيى، بإسناده عن أبي سهيل ابن مالك، عن أبيه، أنه قال: " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة ".
حدثني إبراهيم بن محمد، بإسناده عن أنس رضي الله(12/447)
ص -438- ... عنه، قال: " ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله " أخبر أسد، بإسناده عن الحسن، قال: " لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم، ما عرف من الإسلام شيئا. قال: ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرى، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوض أجرا عظيما؛ فكذلك كونوا إن شاء الله ".
وحدثني: عبد الله بن محمد، بإسناده عن ميمون بن مهران، قال: " لو أن رجلا نشر فيكم من السلف، ما عرف فيكم غير هذه القبلة " أخبرنا: محمد بن قدامة، بإسناده عن أم الدرداء، قالت: " دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا " وفي لفظ: " لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمله، ثم تفقده ما عرف منه شيئا ".
حدثني إبراهيم، باسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: " لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة، خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية، لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئا(12/448)
ص -439- ... مما كانا عليه " قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال: " والذي نفس بيده: إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا".
قف تأمل! رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين، بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو يشكل عليه، ولا يستدل بها على الباطل.
ثم روى ابن وضاح، بإسناده عن أبي أمية، قال: "أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }1 قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العوام; فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون مثل عمله. قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم".
ثم روى بإسناده، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه : الفتن (4014).(12/449)
ص -440- ... عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء، ثلاثا. قالوا: يا رسول الله، وما الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل، في أناس كثير؛ من يبغضهم أكثر ممن يحبهم"1. أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده، عن المعافري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى للغرباء، الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسنة حين تطفأ ".
أخبرنا أسد، بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بدأ الإسلام غريبا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا؛ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس"2. أخبرنا أسد بإسناده، عن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوباء للغرباء. قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس"3. هذا آخر ما نقلته من كتاب "البدع والنهي عنها" للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله.
فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة، وبعضها في الصحيح، مع كثرتها وشهرتها; وتأمل إجماع العلماء كلهم، أن هذا قد وقع في زمن طويل، حتى قال ابن القيم: الإسلام في زماننا أغرب منه في ظهوره؛ فتأمل هذا تأملا جيدا، لعلك أن تسلم من الهوة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/177).
2 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
3 مسلم : الإيمان (146).(12/450)
ص -441- ... الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله! ما أقله! ما أقله!
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح، الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره"1، وفي رواية: " يهتدون بهديه، ويستنون بسنته. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". انتهى ما نقلته، والحمد لله رب العالمين.
[رسالة الشيخ تقي الدين وهو في السجن]
وقد رأيت للشيخ تقي الدين، رسالة كتبها وهو في السجن، إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه، يشيرون عليه بالرفق بخصومه، ليتخلص من السجن؛ أحببت أن أنقل أولها، لعظم منفعته.
قال رحمه الله تعالى: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا; وصلى الله على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461).(12/451)
ص -442- ... محمد، وعلى آله وصحيه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد وصلت الورقة، التي فيها رسالة الشيخين، الناسكين، القدوتين، أيدهما الله، وسائر الإخوان، بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان، سلطان العلم والحجة، بالبيان والبرهان، وسلطان القدوة والنصرة، باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهما من الأقران، ومن الأئمة الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن.
لكن بما اقتضته حكمته، ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان، من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل الكتاب على أنه لا بد من الفتنة، لكل من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي الإساءة والطغيان ، فقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [سورة العنكبوت آية : 13]. فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب(12/452)
ص -443- ... الغالب، أو أن مدعي الإيمان، يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب. وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله، فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا } إلى قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } [سورة الحجرات آية : 15] الآية.
وأخبر سبحانه: بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة، الذي يعبد الله على حرف، وهو الجانب والطرف، الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان، إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، فقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [سورة الحج آية : 11] إلى قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية : 142] وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد آية : 31].
وأخبر سبحانه: أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين، المحبوبين المجاهدين، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } [سورة المائدة آية :(12/453)
ص -444- ... 54].
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [سورة آل عمران آية : 144] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر، كان جميع ما يقضي له من القضاء خيرا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له"1. والصابر الشكور، هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر، فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه، يفضي به إلى قبيح المآل.
فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة، التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وبها تثبت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن، من كيد أهل النفاق، والإلحاد والبهتان؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (6/15).(12/454)
ص -445- ... الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، على الكافرين، والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس، رحمه الله.
[حكم أكل الحشيشة]
ومن جواب له رحمه الله، لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز ؟ فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرا أو قليلا، لكن الكثير المسكر منها، حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين; وحكم المرتد أشر من اليهود والنصارى، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق.
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } [سورة المائدة آية : 93] الآية، فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة، رضي الله عنهم، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ.
فتأمل: كلام هذا الذي ينسب عنه عدم تكفير المعين،(12/455)
ص -446- ... إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين، لأجل انتسابه إلى الإسلام؟ انظر كيف كفر المعين، ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة، الذين تعينهم على الفكرة.
واستدل بإجماع الصحابة، على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين؛ فكيف بما نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة، جزءاً من ألف جزء منه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
آخر الجزء التاسع ويلبه الجزء العاشر،
وهو بقية كتاب حكم المرتد.(12/456)
الدرر السنية - المجلد العاشر
القسم الأخير من كتاب حكم المرتد(13/1)
ص -5- ... القسم الأخير من كتاب حكم المرتد
وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين بآيات الله، المصدقين لرسول الله، التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله، والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان، المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب، قد خرجوا عن ملة إبراهيم، وأقبلوا على الشرك بالله، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ فلما دعا إلى الله، ارتاع أهل الأرض من دعوته، وعادَوْه كلهم، جهالهم وأهل الكتاب، عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق، وبلال وأهل بيته صلى الله عليه وسلم خديجة وأولادها، ومولاه زيد بن حارثة،(13/2)
ص -6- ... وعلي رضي الله عنه.
"قال عمرو بن عبسة: لما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلت: ما أنت؟ قال: نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئ. قلت: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد"، ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال.
فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له، وكونه في غاية الغربة; ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 1. فمن تأمل هذا وفهمه، زالت عنه شبهات شياطين الإنس، الذين يجلبون على من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل الشيطان ورجله.
فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثرُ الناس منكر لها; واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما، وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون، الذين أثنى الله عليهم في كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389).(13/3)
ص -7- ... واعلموا أن الله سبحانه، قد جعل للهداية والثبات أسبابا، كما جعل للضلال والزيغ أسبابا؛ فمن ذلك: أن الله سبحانه أنزل الكتاب، وأرسل الرسول، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل آية: 64] فبإنزال الكتب، وإرسال الرسول، قطع العذر، وأقام الحجة، كما قال تعالى: {ئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165]
فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه، واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه; وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم: نحن موحدون، نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا، لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه، في جواب هذا، وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم; وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله.
وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم(13/4)
ص -8- ... السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك.
وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه، وفي قتل أهله وحبسهم، أنه دين الله ورسوله؛ وهذا الإقرار منهم على أنفسهم، من أعظم آيات الله، ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت، الذي طبع الله عليه، وذلك لا حيلة فيه.
ولكنهم يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة، فأصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون: كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير، والقتال; والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا! إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره، وقتل من أمر به وحبسهم، كيف لا يكفر من أمر بحبسهم؟! كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك، يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم؟! ويحثهم على قتل الموحدين، وأخذ مالهم، كيف لا يكفر، وهو يشهد أن هذا الذي يحث عليه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره ونهى عنه؟! وسماه الشرك بالله، ويشهد أن هذا الذي يبغضه، ويبغض أهله، ويأمر المشركين بقتلهم، هو دين الله ورسوله!.
واعلموا: أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله،(13/5)
ص -9- ... وكلام أهل العلم كلهم.
وأنا أذكر لكم آية من كتاب الله، أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] إلى آخر الآية وفيها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [سورة الأنفال آية: 23]؛ فإذا كان العلماء، ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة; وذكروا: أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه، مع بغضه لذلك وعداوة أهله، لكن خوفا منهم، أنه كافر بعد إيمانه; فكيف بالموحد في زماننا، إذا تكلم في البصرة، أو الإحساء، أو مكة، أو غير ذلك خوفا منهم، لكن قبل الإكراه; وإذا كان هذا يكفر، فكيف بمن صار معهم، وسكن معهم، وصار من جملتهم؟! فكيف بمن أعانهم على شركهم، وزينه لهم؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين، وحثهم على لزوم دينهم؟
فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله، نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم، في مسألة التكفير والقتال، فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم; والله أسأل أن يوفقكم(13/6)
ص -10- ... لدينه القيم، ويرزقكم الثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد:
الأولى: كون الشرك يعرف قبحه بالفطرة، لقوله: كنت أظن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان. الثانية: الحرص على طلب العلم، لأنه سبب للخير، وفسر به قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23]، لقوله: فسمعت أن رجلا بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي، فوجدته مختفيا، فتلطفت حتى دخلت عليه.
الثالثة: قوله فقلت له: ما أنت؟ قال: "نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله عز وجل" 1. فهذه المسألة هي أصل العلوم كلها، وهي فهم القلب فهما جيدا أن الله أرسل إليك رسولا، فإذا عرفتها هان عليك ما بعدها. الرابعة: قوله: بأي شيء أرسلك؟ قال: "بكذا وكذا" وهذه توضح ما قبلها بالفعل.
الخامسة: قوله: "بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيء" 2. الأول: حق الخلق، والثاني حق الخالق، وذكر هذه مع هذه، تفسير سياسة المدعو والرفق به، والتلطف في إدخال الخير إلى قلبه;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112).
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112).(13/7)
ص -11- ... والثاني فيها تعريف الأمر قبل الدخول فيه، لأن الداخل لا يستقيم له الدخول إلا بمعرفته ولو صعب. السادسة: حسن فهم عمرو، لقوله: من معك على هذا؟ السابعة: قوله حر وعبد، والله أعلم.
[أربعة وعشرون مسألة شنع بها الأعداء]
وله أيضا أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم، وبعد: أتانا مكتوبك، وما ذكرت فيه من ذكرك، وما بلغك؛ ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم، في كتاب من العارض، جملتها أربع وعشرون مسألة، بعضها حق، وبعضها بهتان وكذب.
وقبل الكلام فيها، لا بد من تقديم أصل; وذلك: أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا، ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة، هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله، وأهل العلم؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان، الذي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم؟
وإنما ذكرت هذا - ولو كان واضحا - لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها، لكن هي موافقة لما ذكره(13/8)
ص -12- ... العلماء في كتبهم، الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشؤوا عليها، فأنكرها علي من أنكرها، لأجل مخالفة العادة، وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عيانا، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق، لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] وهذا هو ما نحن فيه بعينه؛ فإن الذي راسلكم، هو عدو الله ابن سحيم وقد بينت ذلك له فأقر به؛ وعندنا كتبه بيده في رسائل متعددة، أن هذا هو الحق وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر، لأسباب أعظمها: البغي أن ينْزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله؟ فتعذروا: إنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم، كيف نشرك بالله عندكم، ولا تنصحونا؟ وظنوا أنه يأتيهم في هذا غضاضة، وأن فيه شرفا لغيره.
وأيضا: لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا، إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان، والله ناصر دينه ولو كره المشركون، وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام; وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة، وهي: مسألة(13/9)
ص -13- ... الاستجمار ثلاثا فصاعدا، من غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة، لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد، لصار هذا عند الناس أمرا عظيما، ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدعوه، مع إقرارهم بذلك، ولكن لأجل العادة.
إذا تبين هذا، فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أدعي الاجتهاد، وقوله: إني خارج عن التقليد، وقوله: إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفّر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفّر البوصيري، لقوله يا أكرم الخلق، وقوله: إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة، لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من حلف بغير الله؛ فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولكن قبله من بهت النبى محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله في(13/10)
ص -14- ... ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية [سورة الأنبياء آية: 101]
وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان، حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها; ومنها: أني أقول الإله هو الذي فيه السر، ومنها: تكفير الناذر، إذا أراد به التقرب لغير الله، وأخذ النذر كذلك، ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام، ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق، وأنا قلتها، ونبدأ بالكلام عليها، لأنها أم المسائل وقبل ذلك ذكر معنى لا إله إلا الله.
فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة والأنبياء وغيرهم؛ وهذا حق لا بد منه، لكن لا يُدخل الرجل في الإسلام، لأن أكثر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}.
وإنما الذي يُدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا،(13/11)
ص -15- ... وأخبرهم: أن الله أرسله ليوحَّد، ولا يدعى أحد من دونه، لا الملائكة ولا الأنبياء.
فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله؛ وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء. ولما جرى في هذه الأمة، ما أخبر نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 1، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2.
فصار ناس من الضالين، يدعون أناسا من الصالحين، في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار، من جميع المذاهب الأربعة، في سائر الأقطار والأمصار، فلم يحصل منهم انزجار، بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار.
أما الصالحون الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89).
2 سورة التوبة آية: 31.(13/12)
ص -16- ... ذلك; وبين أهل العلم أن مثل هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك: ما تقول يا أخي؟ ما لنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم; وأنا أقول: كلام أهل العلم رضى، وأنا أنقله لك، وأنبهك عليه، فتفكر فيه، وقم لله ساعة ناظرا ومناظرا مع نفسك، ومع غيرك.
فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء - أعني دين الإسلام الصرف، الذي لا يمزج بالشرك والبدع، وأما الإسلام الذي ضده الكفر، فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم، وعليها تقوم الساعة - فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك؛ واعلم أن الأمر عظيم، والخطب جسيم، فإن أشكل عليك شيء، فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث كتبت لي فيما مضى، أن هذا هو الحق الذي لا شك فيه، لكن لا نقدر على التغيير، وتكلمت بكلام حسن.
فلما غربلك الله بولد المويس، ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان، ويسب دين الله ورسوله، لم تفطن لجهله وعظم ذنبه، وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس؛ وكلامي هذا لا يغيرك، فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم، وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا،(13/13)
ص -17- ... ويغلطون فيه فضلا عنا وعن أمثالنا، فلعله إن أشكل عليك تواجهني، هذا إن عرفت أنه حق.
وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء، عرفت أني لم أفهم معناها، وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطؤوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم، فنبهني على الحق، وأرجع إليه إن شاء الله تعالى.
فنقول: قال الشيخ تقي الدين: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته: فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية.
ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 الآيات؛ وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله، فلا يعبد إلا الله، فيكون دينه لله; والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب; وأطال رحمه الله الكلام.
وقال أيضا في "الرسالة السنية" التي أرسلها إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية: 84.(13/14)
ص -18- ... طائفة من أهل العبادة، ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج، ثم قال: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ممن ينتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله، مثل الغلو في عدي بن مسافر أو غيره، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو صحابي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده ولا يُدعى معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة; وأطال الكلام رحمه الله. فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر، الذين يدّعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدّعون الصلاح.(13/15)
ص -19- ... وقال في "الاقناع" - في باب حكم المرتد، في أوله -: فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، إلى أن قال: أو استهزأ بالله أو رسله، قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، إلى أن قال: أو أنكر الشهادتين أو إحداهما... فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل: هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم واشتد نكيرهم على أهلها، أو قالوها ولم تقع؟ وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية، والبغض لما جاء به الرسول.
وقال أيضا في أثناء الباب: ومن اعتقد أن لأحد طريقا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجا عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، كفر في هذا كله. ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه، وجزم بكفرهم، وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة، وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء، لقضيت العجب.
وقال أيضا في الباب: ومن سب الصحابة، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا(13/16)
ص -20- ... شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره؛ فتأمل هذا؛ إذا كان كلامه هذا في علي، فكيف بمن ادعى أن ابن عربي، أو عبد القادر إلها؟! وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب.
واعلم: أن المشركين في زماننا، قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين، في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرّون بأن الأمر لله؛ فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 1 الآية.
وقال أيضا في الإقناع، في الباب: ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، فيمنعه وطأها، ومنه ما يبغّض أحدهما للآخر، ويحبب بين اثنين.
ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه، أو إباحته; فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 67.(13/17)
ص -21- ... خصوصا الصرف، والعطف، تعرف أن الكفر ليس ببعيد. وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه، تأملا جيدا، وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجارة، يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم.
وأما الحنفية، فقال الشيخ قاسم، في "شرح درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك كذا، وكذا، باطل إجماعا لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز.
ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال: إذا عرف هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع، والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، فحرام بإجماع المسلمين; وقد ابتلي الناس، لا سيما في مولد أحمد البدوي; فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر، ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟
وأما المالكية، فقال الطرطوشي، في كتاب "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي، قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها(13/18)
ص -22- ... أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من قبلكم". فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
وقال صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس" 1، ومعنى هذا: أن الله لما جاء بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته، غريبا مستخفيا بإسلامه، قد جفاه العشيرة، فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا، لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.
وروى البخاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: (والله ما أعرف فيهم من أمر محمد، إلا أنهم يصلون جميعا); وذلك: أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره وقال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف فيهم شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت". انتهى كلام الطرطوشي.
فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389).(13/19)
ص -23- ... وفي أي مكان، وهل أنكرها أحد من أهل العلم؟ والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة، وقول الصادق المصدوق، إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم: اجعل لنا إلها.
يا عجبا إذا جرى هذا من أولئك السادة، كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله: يا أكرم الخلق; كيف تعجبون من كلامي فيه، وتظنونه خيرا وأعلم منهم؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركا أو كفرا، أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة. ولكن أين كلامك هذا من كتابك، الذي أرسلت إلي قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام؟ وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق، وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار؛ ومرادي أبين لك كلام "الطرطوشي" ما وقع في زمانه من الشرك بالشجر، مع كونه في زمن القاضي أبي يعلى، أتظن الزمان صلح بعده؟!
وأما كلام الشافعية، فقال الإمام محدث الشام أبو شامة، في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان: وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام، المنتمين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، فهم داخلون تحت قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء(13/20)
ص -24- ... شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛وبهذا الطريق وأمثالها، كان مبادي ظهور الكفر، من عبادة الأصنام وغيرها.
ومن هذا القسم، ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع في كل بلد، يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه أحدا ممن شهر بالصلاح؛ فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط وحجر.
وفي دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر، سهل الله قطعها، فما أشبهها بذات أنواط; ثم ذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه. فتأمل ذكره في هذا النوع، أنه نبذ لشريعة الإسلام، وأنه خروج عن الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء به في الشام.
فأنت قل لصاحبكم: هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة، ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية: 21.(13/21)
ص -25- ... بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريبا؛ فهو بين اثنين: إما أن يقول كل هؤلاء العلماء جاهلون، ضالون مضلون، خارجون; وإما أن يدعي أن زمانه، وزمان مشايخه صلح بعد ذلك.
ولا يخفاك: أني عثرت على أوراق، عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه، رجل يقال له: عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي، الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر.
فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه، هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟! ولكن أعظم من هذا كله، ما تقدم عن أبي الدرداء وأنس، وهما بالشام، ذلك الكلام فيه العظيم، واحتج به أهل العلم، على أن زمانهم أعظم؛ فكيف بزماننا؟
وقال ابن القيم رحمه الله، في الهدي النبوي، في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولما تكلم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة، قال: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا؛ فإنها شعائر الشرك(13/22)
ص -26- ... والكفر، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل؛ لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته؛ وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم، وسلكوا سبيلهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة.
وغلب الشرك على أكثر النفوس، لغلبة الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، انتهى كلامه.(13/23)
ص -27- ... وقال أيضا في الكلام على هذه القصة، لما ذكر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ مال اللات وصرفه في المصالح": ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه الطواغيت في الجهاد، ومصالح المسلمين؛ فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تصرف إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات.
وكذا الحكم في وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين؛ فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ولرسوله، فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه، ويعظم وينذر له، ويعبد من دون الله؛وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم، انتهى كلامه.
فتأمل كلام هذا الرجل الذي هو من أهل العلم، وهو أيضا من أهل الشام، كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره، عبادة القبور، والمشاهد، والأشجار، والأحجار، التي هي أعظم من عبادة اللات، والعزى، أو مثلها، وأن ذلك ظهر ظهورا عظيما، حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريبا، بل اشتدت غربته.(13/24)
ص -28- ... أين هذا من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه - لما ذكروا له: إن في بلدانكم شيئا من الشرك -: يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين؟ وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة، أعظم وأعظم وأطم، مما قال ابن عبدان وصاحبه، في أهل زمانهما، أفترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة، ومقالة جسيمة؟ فهذا ما يسر الله نقله، من كلام أهل العلم، على سبيل العجلة.
فأنت تأمله تأملا جيدا، واجعل تأملك لله، مستعيذا بالله من اتباع الهوى، ولا تفعل فعلك أولا، ولما ذكرت لك: أنك تأمل كلامي وكلامه، فإن كان كلامي صحيحا لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الذين ضربوه، فاعرف قدره، فهو بغيره أجهل; واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلا، ونسبت رجلا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة، بالكذب والبهتان، فالأمر أيضا عظيم، فأعرضت عن ذلك كله، وكتبت لي كتابا في شيء آخر.
فإن كان مرادك اتباع الهوى - أعاذنا الله منه -، وأنك مع ولد المويس كيف كان، فاترك الجواب، فإن بعض الناس يذكرون عنك، أنك صرت معه، لأجل شيء من أمور الدنيا؛ وإن كنت مع الحق، فلا أعذرك من تأمل(13/25)
ص -29- ... كلامي هذا، وكلامي الأول، وتعرضهما على كلام أهل العلم، وتحرره تحريرا جيدا، ثم تتكلم بالحق.
إذا تقرر هذا، فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء، وأضيف إليها مسألة سادسة، وهي: إفتائي بكفر شمسان وأولاده، ومن شابههم، وسميتهم طواغيت; وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله، عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة، بل هو الحق، لأن عبادة اللات والعزى، يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة، وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم، في شدائد البر والبحر.
فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق، والانقياد له، والكفر بالطاغوت، والتبرؤ ممن خالف هذه الأصول، ولو كان أباك أو أخاك، فاكتب لي وبشرني، لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع; بل ليس الجهل بهذا، فضلا عن إنكاره، مثل الزنى والسرقة، بل والله ثم والله ثم والله، إن الأمر أعظم؛ وإن وقع في قلبك إشكال، فاضرع إلى مقلب القلوب، أن يهديك لدينه ودين نبيه.
وأما بقية المسائل، فالجواب عنها ممكن، إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله، وبيننا وبينكم كلام أهل العلم; لكن العجب من قولك: إني هادم قبور الصحابة; وعبارة "الإقناع" في الجنائز: يجب هدم القباب التي على القبور،(13/26)
ص -30- ... لأنها أسست على معصية الرسول،؛ والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: أنه بعث عليا لهدم القبور; ومثل صاحب كتابكم، لو كتب لكم: أن ابن عبد الوهاب ابتدع، لأنه أنكر على رجل تزوج أخته، فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه؟!
وأما قولي: إن الإله الذي فيه السر; فمعلوم: أن اللغات تختلف، فالمعبود عند العرب، والإله الذي يسمونه عوامنا السيد، والشيخ، والذي فيه السر; والعرب الأولون: يسمون الألوهية ما يسمون عوامنا السر، لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يدعى ويرجى، ويخاف ويتوكل عليه.
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 1، وسئل بعض العامة: ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرت له إلا بلغة بلده; فتارة تقول: هي فاتحة الكتاب، وتارة تقول: هي أم القرآن، وتارة تقول: هي الحمد; وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم، فهذا وجه الإنكار، فبينوا لنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910 ,911) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/316 ,5/321) , والدارمي: الصلاة (1242).(13/27)
ص -31- ... [تصريح الشيخ ابن عبد الوهاب بكفر ابن سحيم]
وله أيضا، أعلى الله منازله في عليين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب؛ فإن كان هذا قدر فهمك، فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال، فلا أنت برابح. وقبل الجواب، نذكر لك أنك أنت وأباك، مصرحون بالكفر، والشرك، والنفاق، ولكن صائر لكم عند "خمامة" في معكال، قصاصيب وأشباههم، يعتقدون أنكم علماء؛ ونداريكم نود أن الله يهديكم ويهديهم; وأنت إلى الآن أنت وأبوك، لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله، أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة، أنك لا تعرفها إلى الآن، ولا أبوك.
ونكشف لك هذا كشفا بينا، لعلك تتوب إلى الله، وتدخل في دين الإسلام، إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر، حالكما، والصلاة وراءكما، وقبول شهادتكما، وخطؤكما، ووجوب عداوتكما، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1. وأكشف ذلك بوجوه:
الأول: أنكم تقرون، أن الذي يأتيكم من عندنا هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية: 22.(13/28)
ص -32- ... الحق، وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا، شهد عليك الرجال والنساء; ثم هذه الشهادة "أن هذا دين الله"، أنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين، ليلا ونهارا، ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار؛ فكيف تشهد أن هذا دين الله، ثم تتبين في عداوة من تبعه؟!
الوجه الثاني: أنك تقول إني أعرف التوحيد، وتقر أن من جعل الصالحين وسائط، فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد، وتقرؤه لهم، وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك؛ فإذا كنت تقر: أن هذا كفر، فكيف تروح لهم، وتعاونهم عليه، وتحضر كفرهم؟!
الوجه الثالث: أن تعليقهم التمائم، من الشرك، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد ذكر تعليق التمائم صاحب الإقناع، في أول الجنائز؛ وأنت تكتب الحجب، وتأخذ عليها شرطا، حتى إنك تكتب لامرأة حجابا، لعلها تحبل، وشرطت لك أحمرين، وطالبتها تريد الأحمرين، فكيف تقول: إني أعرف التوحيد، وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وإن أنكرت، فالناس يشهدون عليك بهذا.
الوجه الرابع: أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر في الإقناع أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه؛ فكيف تفهم التوحيد، وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت(13/29)
ص -33- ... فهذا خط يدك موجود.
الوجه الخامس: أن الناس فيما مضى، عبدوا الطواغيت، عبادة ملأت الأرض، بهذا الذي تقر أنه من الشرك، ينخونهم ويندبونهم، ويجعلونها وسائط، وأنت وأبوك تقولان: نعرف هذا، ولكن ما سألونا؛ فإذا كنتما تعرفانه، كيف يحل لكما أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو ما سألوكما؟
الوجه السادس: أنا لما أنكرنا عبادة غير الله، بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس، وأنه باطل؛ وإن أنكرتم فالناس يشهدون عليكم بذلك، وأنتم مجاهرون به؛ فكيف تقولون هذا كفر، ولكن ما سألونا عنه؟ فإذا قام من يبين للناس التوحيد، قلتم إنه مغير الدين، وآت بمذهب خامس؛ فإذا كنت تعرف التوحيد، وتقر أن كلامي هذا حق، فكيف تجعله تغييرا لدين الله، وتشكونا عند أهل الحرمين؟
والأمور التي تدل على أنك أنت وأباك، لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر، لكن ذكرنا الأمور التي لا تقدر أن تنكرها؛ وليتك تفعل فعل المنافقين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1 لأنهم يخفون نفاقهم، وأنت وأبوك، تظهران للخاص والعام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 145.(13/30)
ص -34- ... وأما الدليل على أنك رجل معاند ضال على علم، مختار الكفر على الإسلام، فمن وجوه:
الأول: أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين، فيها تكفير الطواغيت، شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله، وبينت الأدلة، فلما جاءتك، نسختها بيدك لموسى بن سليم، ثم سجلت عليها، وقلت: ما ينكر هذا إلا أعمى القلب. وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة، وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة. فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم، وتقول: ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته، فالعلم الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار، بينه لنا.
الوجه الثاني: أني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين، التي يذكر فيها أن من دعا نبيا، أو صحابيا، أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أنه كافر بالإجماع؛ فلما أتتك استحسنتها، وشهدت أنها حق، وأنت تشهد به الآن، فما الموجب لهذه العداوة؟
الوجه الثالث: أنه إذا أتاك أحد من أهل المعرفة، أقررت ان هذا دين الله، وأنه الحق، وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك "قصاصيبك" فلك كلام(13/31)
ص -35- ... آخر.
الوجه الرابع: أن عبد الرحمن الشنيفي ومن معه، لما أتوك وذاكروك، أقررت بحضرة شياطينك، أن هذا هو الحق، وشهدت أن الطواغيت كفار، وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح؛ فأي شيء بان لك بعد هذا، أن هذا باطل؟ وأن الذي تبرأت منهم، وعاديتهم أنهم على حق؟
الوجه الخامس: أنك لما خرجت من عند الشيوخ، وأتيت عند الشنيفي، جحدت الكلام الذي قلت في المجلس؛ فإن كان الكلام حقا، فلأي شيء تجحده؟ وأنت وأبوك: مقران أنكما لا تعرفان كلام الله ورسوله، لكن تقولان نعرف كلام صاحب "الإقناع" وأمثاله. وأنا أذكر لك كلام صاحب الإقناع، أنه مكفرك، ومكفر أباك، في غير موضع من كتابه.
الأول: أنه ذكر في أول سطر من أحكام المرتد، أن الهازل بالدين يكفر، وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح، الاستهزاء بكلام الله ورسوله، وهذا كتابكم كفركم.
الثاني: أنه ذكر في أوله، أن المبغض لما جاء به الرسول، كافر بالإجماع، ولو عمل به؛ وأنت مقر أن هذا الذي أقول في التوحيد، أمر الله ورسوله; والنساء والرجال(13/32)
ص -36- ... يشهدون عليكم: أنكم مبغضون لهذا الدين، مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله؛ فهذا كتابكم كفركم.
الثالث: أنه ذكر من أنواع الردة، إسقاط حرمة القرآن؛ وأنتم كذلك، تستهزئون بمن يعمل به، وتزعمون أنهم جهال، وأنكم علماء.
الرابع: أنه ذكر أن من ادعى في علي بن أبي طالب ألوهية، أنه كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، وهذه مسألتك التي جادلت بها في مجلس الشيوخ، وقد صرح في "الإقناع": أن من شك في كفرهم فهو كافر؛ فكيف بمن جادل عنهم، وادعى أنهم مسلمون؟ وجعلنا كفارا لما أنكرنا عليهم؟
الخامس: أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه؛ والطلاسم من جملة السحر. فهذه خمسة مواضع في "الإقناع". في باب واحد، أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك؛ فإما أن تبرؤوا من دينكم هذا، وإلا أجيبوا عن كلام صاحب "الإقناع"، وكلامنا هذا لغيرك الذين عليهم الشرهة، مثل الشيوخ، أو من يصلي وراءك، لعل الله أن يهديهم، ويعزلوك أنت وأباك عن الصلاة بالناس، لئلا تفسد عليهم دينهم، وإلا فأنا أظنك لا تقبل، ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفرا.(13/33)
ص -37- ... وأما الكلام الذي لبست به على الناس، فأنا أبينه إن شاء الله كلمة كلمة، وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربع:
الأولى: النذر لغير الله، تقول إنه حرام ليس بشرك.
الثانية: أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر، أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون.
الثالثة: عبارة العلماء، أن المسلم لا يجوز تكفيره بالذنوب.
الرابعة: التذكير ليلة الجمعة، لا ينبغي الأمر بتركه. هذه المسائل التي ذكرت.
فأما المسألة الأولى: فدليلك قولهم: إن النذر لغير الله حرام بالإجماع; فاستدللت بقولهم حرام، على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك! ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر، يا هذا الجاهل الجهل المركب!
ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 2، هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك! في أي كتاب وجدته، إذا قيل لك هذا حرام أنه ليس بكفر؟ فقولك: إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الأعراف آية: 33.(13/34)
ص -38- ... بل يقال: ذكر أنه حرام، وأما كونه كفرا، فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه: أنه صرح في الإقناع، أن النذر عبادة، ومعلوم: أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة، وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركا؟
وأيضا: مسألة الوسائط تدل على ذلك، والناس يشهدون: أن هؤلاء الناذرين يجعلونهم وسائط، وهم مقرون بذلك; وأما استدلالك بقوله: من قال: انذروا لي، أنه إذا رضي وسكت لا يكفر، فبأي دليل؟ غاية ما يقال: إنه سكت عن الآخذ الراضي، وعلم من دليل آخر.
والدليل الآخر: أن الرضاء بالكفر، كفر صرح به العلماء; وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك. هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه، فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون، ويبالغون فيه، ويقصون على الناس الحكايات، التي ترسخ الشرك في قلوبهم، وتبغض إليهم التوحيد، ويكفرون أهل العارض، لما قالوا: لا يعبد إلا الله; وأما قولك: ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء، فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء؟!.
وأما الثانية: وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر، فهذا كلام تلبيس(13/35)
ص -39- ... وجهالة; ومن قال: إن عيسى، وعزيرا، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن الخطاب، وغيرهم من الصالحين، يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط، حاشا وكلا {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
وإنا كفّرنا هؤلاء الطواغيت، أهل الخرج وغيرهم، بالأمور التي يفعلونها هم; منها: أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها: أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها: أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون: أن أهل العارض كفروا لما قالوا: لا يعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر؛ وهذا أمر أوضح من الشمس، لا يحتاج إلى تقرير.
ولكن أنت رجل جاهل مشرك، مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم; وإلا فهؤلاء الجهال، لو مرادهم اتباع الحق، عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون.
وأما المسألة الثالثة: وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام، أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، ولكن ليس هذا ما نحن فيه; وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى، أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر; وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 164.(13/36)
ص -40- ... ونحن ما كفّرنا الطواغيت وأتباعهم، إلا بالشرك; وأنت رجل من أجهل الناس، تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر؛ فإذا كنت تعتقد ذلك، فما تقول في المنافقين، الذين يصلون ويصومون ويجاهدون، قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1.
وما تقول في الخوارج، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوهم" 2؟ أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره، فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه نارا، فأحرقهم بها؟ وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال: يُقتلون بالسيف; أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟
أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة، قال أبو بكر: لا نقبل توبتكم، حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار؛ أتظن أن أبا بكر وأصحابه، لا يفهمون، وأنت وأبوك الذين تفهمون؟ يا ويلك أيها الجاهل المركب! إذا كنت تعتقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 145.
2 البخاري: التوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/68 ,3/73).(13/37)
ص -41- ... هذا، أن من أم القبلة لا يكفر، فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة، التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، التي كثير منها في أناس، أهل زهد وعبادة عظيمة؟ ومنهم طوائف، ذكر العلماء: أن من شك في كفرهم، فهو كافر.
ولو كان الأمر على زعمك، بطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة، وهي: الذي يصرح بتكذيب الرسول، وينتقل يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا ونحوهم، هذا هو الكفر عندك، يا ويلك! ما تصنع بقوله:صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة، حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" ؟ وكيف تقول هذا، وأنت تقر: أن من جعل الوسائط كفر؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم، حكموا على كثير من أهل زمانهم، بالكفر والشرك، أتظن أنكم صلحتم بعدهم؟ يا ويلك!
وأما مسألة التذكير، فكلامك فيها من أعجب العجاب، أنت تقول بدعة حسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1، ولم يستثن شيئا. تشير علينا نصدقك أنت وأباك، لأنكم علماء! ونكذب رسول الله! والعجب من نقلك الإجماع، فتجمع مع الجهالة المركبة، الكذب الصريح والبهتان؛ فإذا كان في "الإقناع" في باب الأذان، قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة، أتظن أنك أعلم من صاحب "الإقناع"؟ أم تظنه مخالفا للإجماع؟ وأيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206).(13/38)
ص -42- ... لما جاءك عبد الرحمن الشنيفي، أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة، فمتى هذا العلم جاءك؟!
وأما قولك: أمر الله بالصلاة على نبيه على الإطلاق، فأيضا أمر الله بالسجود على الإطلاق، في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1، أفيدل هذا على السجود للأصنام؟ أو يدل على الصلاة في أوقات النهي؟ فإن قلت ذاك قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكذلك هذا، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع، وذكر أن "كل بدعة ضلالة" 2؛ ومعلوم أن هذا حادث من زمن طويل، وأنكره أهل العلم، منهم صاحب "الإقناع". وقد ذكر السيوطي في كتاب "الأوائل" أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة، ليتهيأ الناس لصلاتها، بعد السبعمائة، في زمن الناصر بن قلاوون؛ فأرنا كلام واحد من العلماء أرخص فيه، وجعله بدعة حسنة؛ فليس عندك إلا الجهل المركب، والبهتان والكذب.
وأما استدلالك بالأحايث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم، وقول: "من شذ شذ في النار" 3 و "يد الله على الجماعة" 4 وأمثال هذا، فهذا أيضا من أعظم ما تلبس به على الجهال، وليس هذا معنى الأحاديث، بإجماع أهل العلم كلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريبا، فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس؟! وكذلك الأحاديث الكثيرة، منها قوله: "يأتي على الناس زمان، لا يبقى من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية: 77.
2 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206).
3 الترمذي: الفتن (2167).
4 النسائي: تحريم الدم (4020).(13/39)
ص -43- ... الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه".
وأحاديث عظيمة كثيرة، يبين صلى الله عليه وسلم أن الباطل يصير أكثر من الحق، وأن الدين يصير غريبا، ولو لم يكن في ذلك، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". هل بعد هذا البيان بيان؟ يا ويلك! كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس؟!
ومعلوم: أن أهل أرضنا، وأرض الحجاز، الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقر به، والذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلاة أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها؛ فإن كان الصواب عندك: اتباع هؤلاء، فبين لنا، وإن كان عنزة، وآل ظفير، وأشباههم من البوادي، هو السواد الأعظم، ولقيت في علمك وعلم أبيك: أن اتباعهم حسن، فاذكروا لنا، ونحن نذكر كلام أهل العلم، في معنى تلك الأحاديث، ليتبين للجهال الذين موهت عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله، في "إعلام الموقعين" واعلم أن الإجماع والحجة، والسواد الأعظم، هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض; وقال عمرو بن ميمون، سمعت ابن مسعود، يقول: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة،" وسمعته يقول: "سيلي عليكم ولاة، يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصل الصلاة(13/40)
ص -44- ... وحدك، وهي الفريضة، ثم صل معهم، فإنها لك نافلة. قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، ثم تقول صل الصلاة وحدك; قال: يا عمرو بن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة: ما وافق الحق، وإن كنت وحدك".
وقال نعيم بن حماد: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كان عليه الجماعة، قبل أن تفسد الجماعة; وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" وقال بعض الأئمة - وقد ذكر له السواد الأعظم -: أتدري ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه، الذين جعلوا السواد الأعظم، والحجة والجمهور والجماعة؛ فجعلوهم عيارا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكرا، لقلة أهله، وتفردهم في الأقطار والأمصار، وقالوا: من شذ شذ في النار; وعرف المتخلفون: أن الشاذ ما خالف الحق، وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدا، فهم الشاذون.
وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفرا يسيرا، فكانوا هم الجماعة؛ وكان القضاة يومئذ، والمفتون والخليفة وأتباعهم، كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد(13/41)
ص -45- ... وحده، هو الجماعة؛ ولما لم تحمل ذلك عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين، أتكون أنت وقضاتك، وولاتك، والفقهاء والمفتون، على الباطل؟ وأحمد وحده على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة، بعد الحبس الطويل; فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله تعالى.
يا سلامة ولد أم سلامة، هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف، وكلام المتأخرين، حتى ابن مسعود ذكر في زمانه: أن أكثر الناس فارقوا الجماعة; وأبلغ من هذه: الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الدين، وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ فإن كنت وجدت في علمك، وعلم أبيك، ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء، وأن عنزة، وآل ظفير، والبوادي، يجب علينا اتباعهم، فأخبرونا؛ وصلى الله على محمد.(13/42)
ص -46- ... [رد ما صنفه ابن سحيم من الكفر والسب والتهورات]
وله أيضا، حشره الله في زمرة النبيين والصديقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة.
فأما تناقض كلامه، فمن وجوه:
الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني. ثم رجع في أوراقه يكذب نفسه، ويوافقنا، ويقول: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف كفر، ومن قال كذا كفر; تارة يقول: ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر، أعجب لبانيه يخربه؟
الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك; ثم ذكر فيها كفر القدرية،(13/43)
ص -47- ... والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.
الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه: (إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب).
الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية; ويقول: إن الشيخ بين ذلك; ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية; ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية.
الخامس: أنه ذكر في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإخلاص آية: 1.(13/44)
ص -48- ... علينا; فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام; والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر.
السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.
السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات.
الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإخلاص آية: 1.(13/45)
ص -49- ... يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل ذلك في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك; وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك.
العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات.
الحادي عشر: بعد أربعة أسطر، كذب نفسه في كلامه هذا، فقال: من ذبح لمخلوق يقصد به التقرب، أو لرجاء نفع، أو دفع ضر من دون الله، فهذا كفر; فتارة يرد علينا إذا قلنا إنه عبادة، وتارة يكفّر من فعله.
الثاني عشر: أنه قرر أن من ذبح لمخلوق، لدفع ضر، أنه يكفر، ثم قرر أن الذبح للجن ليس بكفر.
الثالث عشر: أنه رد علينا في الاستدلال، بقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 79.
2 سورة الأنعام آية: 79.(13/46)
ص -50- ... {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1،ثم رجع يقرر ما قلنا بكلام البغوي: كان ناس يذبحون لغير الله، فنَزلت فيهم الآية; فياسبحان الله! ما من عقول تفهم أن هذا الرجل من البقر التي لا تميز بين التين والعنب! والحمد لله رب العالمين.
[التحذير من شياطين الإنس الذين يصدون عن سبيل الله]
وله أيضا قدس الله سره:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} 2،وذلك أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحق من الباطل، فبين صلى الله عليه وسلم للناس جميع ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، بيانا تاما، وما مات صلى الله عليه وسلم حتى ترك الناس على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.
فإذا عرفت ذلك، فهؤلاء الشياطين، من مردة الإنس، الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له، إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمدا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وما نهاهم عنه، مثل الاعتقاد في المخلوقين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 سورة الشورى آية: 16.(13/47)
ص -51- ... الصالحين، وغيرهم، قاموا يجادلون، ويلبسون على الناس; ويقولون: كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات؟ آل فلان، أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا.
ومرادهم بهذا، لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين: أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر، ودعاءهم، كفر ينقل عن الملة; فيقول الناس لهم: إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟!
وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو، لقد طلبت العلم، واعتقد من عرفني أن لي معرفة، وأنا ذلك الوقت، لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام، قبل هذا الخير الذي من الله به؛ وكذلك مشايخي، ما منهم رجل عرف ذلك.
فمن زعم من علماء العارض: أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم من مشايخه أن أحدا عرف ذلك، فقد كذب وافترى، ولبس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه; وشاهد هذا: أن عبد الله بن عيسى، ما نعرف في علماء نجد، لا علماء العارض، ولا غيره، أجل منه، وهذا كلامه يصل إليكم إن شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تكبروا على ربكم، ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه، الذي من عليكم، ويسر لكم من(13/48)
ص -52- ... يعرفكم، بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم،ولا تكونوا من {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} 1 .
إذا عرفتم ذلك، فاعلموا: أن قول الرجل لا إله إلا الله، نفي وإثبات: إثبات الألوهية كلها لله وحده، ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم؛ وليس معنى الألوهية أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يدبر، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، فإن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بهذا، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2 . فتفكروا عباد الله، فيما ذكر الله عن الكفار، أنهم مقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وإنما كان شركهم: أنهم يدعون الأنبياء والصالحين، ويندبونهم، وينذرون لهم، ويتوكلون عليهم، يريدون منهم أنهم يقربونهم إلى الله، كما ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.
إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم، من أهل الخرج وغيرهم، مشهورون عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 28.
2 سورة يونس آية: 31.
3 سورة الزمر آية: 3.(13/49)
ص -53- ... الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس، كلهم كفار مرتدون عن الإسلام؛ ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا، لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل، أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه.
بل لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1.ومصداق هذا: أنكم إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام، وينكره، فلا يخلو، إما أن يدعى أنه عارف; فقولوا له: هذا الأمر العظيم لا يغفل عنه، فبين لنا ما يصدقك من كلام العلماء، إذا لم تعرف كلام الله ورسوله؛ فإن زعم أن عنده دليلا فقولوا له يكتبه، حتى نعرضه على أهل المعرفة، ويتبين لنا أنك على الصواب، ونتبعك، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الحق من الباطل.
وإن كان المجادل يقر بالجهل، ولا يدعي المعرفة، فيا عباد الله: كيف ترضون بالأفعال والأقوال التي تغضب الله ورسوله، وتخرجكم عن الإسلام؟ اتباعا لرجل يقول: إني عارف؛ فإذا طالبتموه بالدليل، عرفتم أنه لا علم عنده، أو اتباعا لرجل جاهل، وتعرضون عن طاعة ربكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 256.(13/50)
ص -54- ... وما بينه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعده.
واذكروا ما قص الله عليكم في كتابه، لعلكم تعتبرون، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 1. وهؤلاء أهلكهم الله بالصيحة، وأنتم الآن، إذا جاءكم من يخبركم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون، أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم؟
والحاصل: أن مسائل التوحيد، ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها وتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل، والذكر والأنثى؛ وأنا لا أقول لكم: أطيعوني، ولكن الذي أقول: إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم، وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعلماء بعده، فلا ينبغي لكم معاندة محمد صلى الله عليه وسلم، وقول: تكفّرون المسلمين، كيف تفعلون كذا؟ كيف تفعلون كذا؟ فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين.
وكذلك أيضا: من أعظم الناس ضلالا، متصوفة في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع وغيرهما، يتبعون مذهب ابن عربي، وابن الفارض؛ وقد ذكر أهل العلم: أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، فكل من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 45.(13/51)
ص -55- ... لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية، فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته.
والعجب، العجب: أن الذي يدعي المعرفة، يزعم أنه لا يعرف كلام الله ولا كلام رسوله، بل يدعي أنه عرف كلام المتأخرين، مثل "الإقناع" وغيره، وصاحب "الإقناع"، قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة، والمشايخ فهو كافر، سبحان الله! كيف يفعلون أشياء في كتابهم، أن من فعلها كفر؟ ومع هذا يقولون: نحن أهل المعرفة، وأهل الصواب، وغيرنا صبيان جهال; والصبيان يقولون: أظهروا لنا كتابكم، ويأبون عن إظهاره.
أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم، إذا رأوا من يعلم الشيوخ، وصبيانهم أو البدو، شهادة أن لا إله إلا الله، قالوا: لو قالوا لهم يتركون الحرام; وهذا من أعظم جهلهم، فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1.
وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت، أو جادل عنهم، خرج من الإسلام، ولو كان صائما قائما؟ من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام؟ بل: إما أن يؤدي إلى صاحبه بالقصاص، وإما أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة لقمان آية: 13.(13/52)
ص -56- ... يغفره الله، فبين الموضعين فرق عظيم.
وبالجملة - رحمكم الله - إذا عرفتم ما تقدم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله، فاعلموا: أن هؤلاء الشياطين، قد أحلوا كثيرا من الحرام، في الربا والبيع، وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيرا من الحلال، وضيقوا ما وسعه الله; فإذا رأيتم الاختلاف، فاسألوا عما أمركم الله به ورسوله، ولا تطيعوني ولا غيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[بيان الإشكال في الفتيا بكفر أولاد شمسان وأولاد إدريس]
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن عيسى، وابنه عبد الوهاب، وعبد الله بن عبد الرحمن، حفظهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ذكر لي أحمد، أنه مشكل عليكم الفتيا بكفر هؤلاء الطواغيت، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، والذين يعبدونهم، مثل طالب وأمثاله، فيقال: أولا: دين الله تعالى، ليس لي دونكم، فإذا أفتيت، أو عملت بشيء، وعلمتم أني مخطئ، وجب عليلكم تبيين الحق لأخيكم المسلم.(13/53)
ص -57- ... وإن لم تعلموا وكانت المسألة من الواجبات، مثل التوحيد، فالواجب عليكم: أن تطلبوا وتحرصوا، حتى تفهموا حكم الله ورسوله في تلك المسألة، وما ذكر أهل العلم قبلكم؛ فإذا تبين حكم الله ورسوله بيانا كالشمس، فلا ينبغي لرجل يومن بالله واليوم الآخر، أن يرده، لكونه مخالفا لهواه، أو لما عليه أهل وقته ومشايخه، فإن الكفر كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما ... جاء الرسول به لقول فلان
فانظر لعلك هكذا دون التي ... قد قالها فتبوء بالخسران
ومتى لم تتبين لكم المسألة، لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل، حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف؛ فإذا تحققتم الخطأ، بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن، لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين، أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة.
وأنتم تقرون: أن الكلام الذي بينته، في معنى لا إله إلا الله، هو الحق الذي لا ريب فيه، فيا سبحان الله! إذا كنتم تقرون بهذا، فرجل بين الله به دين الإسلام، وأنتم ومشايخكم ومشايخهم لم يفهموه، ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين عمرو بن لحي، الذي وضعه للعرب، بل دين عمرو عندهم دين صحيح، ويسمونه رقة القلب،(13/54)
ص -58- ... والاعتقاد في الأولياء، ومن لم يفعل فهو متوقف لا يدري ما هذا، ولا يفرق بينه وبين دين محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرجل الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين، لو يكون أحب إليكم من أموالكم وأولادكم، لم يكن كثيرا، فكيف يقال: أفتى في مسألة الوقف، أفتى في كذا، أفتى في كذا؟! كلها - ولله الحمد - على الحق، إلا أنها مخالفة لعادة الزمان، ودين الآباء.
وأنا إلى الآن: أطلب الدليل من كل من خالفني؛ فإذا قيل له: استدل، أو اكتب، أو ذاكر، حاد عن ذلك، وتبين عجزه، لكن يجتهدون الليل والنهار، في صد الجهال عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، اللهم إلا إن كنتم تعتقدون، أن كلامي باطل وبدعة، مثل ما قال غيركم، وأن الاعتقاد، في الزاهد، وشمسان، والمطيوية، والاعتماد عليهم، هو الدين الصحيح، وكل ما خالفه بدعة وضلالة، فتلك مسألة أخرى.
إذا ثبت هذا، فتكفير هؤلاء المرتدين، انظروا في كتاب الله من أوله إلى آخره، والمرجع في ذلك إلى ما قاله المفسرون والأئمة، فإن جادل منافق، بكون الآية نزلت في الكفار، فقولوا له: هل قال أحد من أهل العلم، أولهم وآخرهم: إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين؟ من قال هذا قبلك؟!(13/55)
ص -59- ... وأيضا فقولوا له: هذا رد على إجماع الأمة؛ فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار، على من عمل بها، ممن انتسب إلى الإسلام، أكثر من أن تذكر.
وهذا أيضا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل مثل هذه الأفاعيل، مثل الخوارج العباد الزهاد، الذين يحقر الإنسان الصحابة عندهم؛ وهم بالإجماع لم يفعلوا ما فعلوا، إلا باجتهاد، وتقرب إلى الله.
وهذه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خالف الدين، ممن له عبادة واجتهاد، مثل: "تحريق علي رضي الله عنه من اعتقد فيه بالنار، وأجمع الصحابة على قتلهم وتحريقهم، إلا ابن عباس رضي الله عنهما، خالفهم في التحريق، فقال: يقتلون بالسيف".
وهؤلاء الفقهاء، من أولهم إلى آخرهم، عقدوا باب: حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب، الذي يقول المخالف: جمعوا فيها الثمر، وهم أعلم منا، وهم، وهم; انظروا في متن "الإقناع"، في باب حكم المرتد، هل صرح أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر بإجماع الأمة؟ وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب، دون ما يعتقد طالب، في حسين وإدريس، أنه لا شك في كفره.(13/56)
ص -60- ... وأنا ألزم عليكم: أنكم تحققون النظر، في عبارات "الإقناع"، وتقرؤونها قراءة تفهم، وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء؛ وإذا عرفتم ذلك، عرفتم شيئا من مذاهب الآباء، وفتنة الأهواء، وإذا تحققتم ذلك، وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا أنا لم أفهمه، وله معنى آخر، فأرشدوني؛ وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا، لما يحب ويرضى؛ ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به، والسلام.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة في معنى التوحيد]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الرحمن بن ربيعة، سلمه الله تعالى.
وبعد: وصل كتابك، تسأل عن مسائل كثيرة، وتذكر أن مرادك اتباع الحق; منها: مسألة التوحيد، ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: "إن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات" 1 إلى آخره، فإذا كان الرجل لا يدعى إلى الصلوات الخمس، إلا بعدما يعرف التوحيد، وينقاد له، فكيف بمسائل جزئية، اختلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7372).(13/57)
ص -61- ... فيها العلماء؟
فاعلم: أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم: إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهم، فمن ذلك لا يدعي إلا إياه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1.
فمن عبد الله ليلا ونهارا، ثم دعا نبيا، أو وليا عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير، أو عبد القادر، أو غيرهما، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره.
ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد جعل إلهين اثنين، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 الآيتين، والنسك هو الذبح؛ وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله.
ومن جعل فيها مع الله غيره، فهو المشرك الجاحد لقوله لا إله إلا الله؛ وهذا الشرك الذي ذكره الله، قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 18.
2 سورة الأنعام آية: 162.(13/58)
ص -62- ... الحديث، وقليل ما هم؛ وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم، من كل المذاهب.
فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل "باب حكم المرتد" في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله; منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في "الإقناع" على ردته; ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب.
فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني; وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه.
فإن استقمت على التوحيد، وتبينت فيه، ودعوت الناس إليه بعداوة هؤلاء، خصوصا ابن يحيى، لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفرا، وصبرت على الأذى في ذلك، فأنت أخونا وحبيبنا؛ وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت، فإن بان الصواب معك، وجب علينا الرجوع إليك، وإن لم تستقم على التوحيد، علما وعملا ومجاهدة، فليس هذا محل المراجعة في المسائل، والله أعلم.(13/59)
ص -63- ... [بيان غلط من زعم أن من عبد الأوثان لا يكفر بعينه]
وله أيضا عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام.
وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه.
بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها.(13/60)
ص -64- ... وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم؛ ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 1.
والشبهة التي دخلت عليك، هذه البضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك، إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضا قرناء السوء، أضلوك كما هي عادتهم.
وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم، والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين، من غير إكراه، لكن خوفا ومداراة.
وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه.
والإكراه لا يكون على العقيدة، بل على القول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المنافقون آية: 3.
2 سورة النحل آية: 106.
3 سورة النحل آية: 107.(13/61)
ص -65- ... والفعل، فقد صرح بأن من قال المكفر، أو فعله، فقد كفر، إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك: أن ذلك بسبب إيثار الدنيا، لا بسبب العقيدة. فتفكر في نفسك، هل أكرهوك، وعرضوك على السيف، مثل عمار، أم لا؟ وتفكر: هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت، أم بسبب إيثار الدنيا؟
ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة، وهي: أنك تصرح مثل ابن رفيع، تصريحا بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس، وأبي حديدة، وأمثالهما؛ ولكن الأمر بيد مقلب القلوب.
فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم، هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟
فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله.(13/62)
ص -66- ... فتفكر، هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة؟ التي ذكرها أهل العلم في الردة؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت، كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر.
أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، تكفير المنافقين وقتلهم، فقد صرح الخاص والعام ببديهة العقل لو يظهرون كلمة واحدة، أو فعلا واحدا من عبادة الأوثان، أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أنهم يقتلون أشر قتلة.
فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرؤوا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية، تظهر على صفحات الوجه أو فلتات اللسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة، فقل لي.
وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من هذا، فقل لي.
وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر، ولو أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض، وأفتى بقتل(13/63)
ص -67- ... من أخلص لله الدين، وإحراقه، وحل ماله؛ فهذه مسألتك وقد قررتها، وذكرت: أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لم يقتلوا أحدا، ولم يكفروه من أهل الملة.
أما ذكرت: قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 1 إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} 2،واذكر قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا} 3 إلى قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} 4 الآية ؛ واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5.
واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شخص رجلا معه الراية، إلى من تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله; فأي هذين أعظم؟ تزوج امرأة الأب؟ أو سب دين الأنبياء بحد معرفته؟ واذكر أنه قد هم بغزو بني المصطلق، لما قيل إنهم منعوا الزكاة، حتى كذب الله من نقل ذلك.
واذكر قوله في أعبد هذه الأمة، وأشدهم اجتهادا: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد؛أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة".واذكر قتال الصديق وأصحابه، مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية: 60.
2 سورة الأحزاب آية: 61.
3 سورة النساء آية: 91.
4 سورة النساء آية: 89.
5 سورة آل عمران آية: 80.(13/64)
ص -68- ... واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم وردتهم، لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا؛والمسألة في صحيح البخاري وشرحه، في الكفالة.
واذكر إجماع الصحابة لما "استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص، مستدلا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1"مع كونه من أهل بدر. وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي، مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم، وقتلهم، "فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق، وقال: يقتلون بالسيف"، مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة; واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم، على قتل الجعد بن درهم، وأمثاله، قال ابن القيم:
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء، مع ادعائه الإسلام، وأفتوا بردته وقتله، لطال الكلام؛ لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد، ملوك مصر وطائفتهم، وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 93.(13/65)
ص -69- ... والمفتين، وأجمع العلماء على كفرهم، وردتهم، وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين، مبغضين لهم.
واذكر كلامه في "الإقناع" وشرحه، في الردة، كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية؛ هذا لفظه بحروفه; ثم ذكر قتل الواحد منهم، وحكم ماله، هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة إلى زمن منصور: إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟
وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة.
فإن كان المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكنةأن يفقهوه } الأنعام 25وقوله: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ(13/66)
ص -70- ... لا يَعْقِلُونَ} 1.
وإذا كان كلام الشيخ، ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات، أو مسألة القرآن، أو مسألة الاستواء، أو غير ذلك، مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه، ويسبون من خالفه.
فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين، مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفروا النوع، وأما المعين، فإن عرف الحق وخالف، كفر بعينه، وإلا لم يكفر.
وأنا أذكر لك من كلامه ما يصدق هذا، لعلك تنتفع إن هداك الله، وتقوم عليك الحجة قياما بعد قيام، وإلا فقد قامت عليك، وعلى غيرك قبل هذا.
قال رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم، في الكلام على قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2: ظاهره: أن ما ذبح لغير الله حرم، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وهذا أظهر من تحريم ما ذبح للّحم، وقال فيه باسم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 22.
2 سورة البقرة آية: 173.(13/67)
ص -71- ... المسيح ونحوه، فإن عبادة الله والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور؛ فكذلك الشرك بالنسك لغيره، أعظم من الاستعانة باسمه.
وعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرب إليه، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; ومن هذا الباب، ما قد يفعله الجاهلون بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلامه بحروفه.
فانظر كلامه فيمن ذبح لغير الله، وسمى الله عليه عند الذبح، أنه مرتد تحرم ذبيحته، ولو ذبحها للأكل، لكن هذه الذبيحة تحرم من جهتين: من جهة أنها مما أهل به لغير الله، وتحرم أيضا لأنها ذبيحة مرتد؛ يوضح ذلك ما ذكرته: أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم، صاروا مرتدين؛ فأين هذا من نسبتك عنه، أنه لا يكفر أحدا بعينه؟
وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة، والكفر، قال رحمه الله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى، أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها،(13/68)
ص -72- ... مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من النبيين والملائكة وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شرائع الإسلام.
ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين؛ وكثير منهم، تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، والحكاية عنهم في ذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول مختلف الحديث؛ وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في الردة، كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه.
فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلانا وفلانا بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة؛ هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديدة، ولو أبغضك واستنجسك، مع أنك أقرب الناس إليه، لما رآك ملتفتا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء(13/69)
ص -73- ... من شركهم، وكفرهم؟!
وقال الشيخ أيضا في رده على بعض المتكلمين وأشباههم: والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا لا يوجب السعادة إلا بالإيمان بالله وحده؛ وإنما قوة الذكاء بمنْزلة قوة البدن، وأهل الرأي والعلم، بمنْزلة الملك والإمارة.
فكل منهم لا ينفعه ذلك، إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ وهذا ليس في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة المخلوقات.
بل كل شرك في العالم، إنما حدث بزي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك لم ينه عنه؛ بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيرهم من المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا؛ فتدبر هذا فإنه نافع جدا.
وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، ويأمرون به؛ وهم إذا ادعوا التوحيد، فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل؛ والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين كله لله، وعبادته وحده(13/70)
ص -74- ... لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
والتوحيد الذي يدعونه، إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات؛ فلو كانوا موحدين بالكلام، وهو: أن يصفوا الله بما وصفته به رسله، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في النجاة، بل لا بد أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلها دون ما سواه؛ وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ فكيف وهم في القول معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟ انتهى.
فتأمل كلامه، واعرضه على ما غرك به الشيطان من الفهم الفاسد، الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطواغيت؛ فإن فهمت هذا، وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء، إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم؛ فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة، ما يسوى بضيعة تربح تومان أو نصف تومان.
وعندنا ناس، يجيئون بعيالهم بلا مال، ولا جاعوا ولا شحذوا، وقد قال الله تعالى في هذه المسألة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1 إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2 والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية: 56.
2 سورة العنكبوت آية: 60.(13/71)
ص -75- ... [مسألة التكفير والتصريح به للمعين]
وله أيضا: أعتقه الله من النار:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن إبراهيم، هدانا الله وإياه.
وبعد: ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها، فلو بيننا اختلاف، أمكنني أبسط الكلام أو أمتنع; وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي، لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهى عنه في الحرمين، والبصرة، والأحساء، هو الشرك بالله.
ولكن هؤلاء المعينون، هل تركوا التوحيد بعد معرفته، وصدوا الناس عنه؟ أم فرحوا به وأحبوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك وأهله؟ فهذا ليس مرجعه إلى طالب العلم، مرجعه إلى علم الخاص والعام.
مثال ذلك: إذا صح أن أهل الأحساء والبصرة، يشهدون: أن التوحيد الذي تقول، دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات، هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة.
والمرجع في المسألة، إلى الحضر والبدو والنساء(13/72)
ص -76- ... والرجال؛ هل أهل "قبة الزبير" و "قبة الكواز" تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أم هم على دينهم؟ ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد، فسلامته على أخذ ماله؟
فإن كنت تزعم: أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم، وعادَوْا من لم يتب، فتبعوا ما أقروا به، وعادَوْا من خالفه، هذا مكابرة.
وإن أقررتم: أنهم بعد الإقرار، أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات، كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في اتباع المويس، وصالح بن عبد الله، هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع أهل الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم، وهم حربة العدو، وحاملو الراية؛ فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام.
فأود أنك تسرع بالنفور، فتتوجه إلى الله، وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها، ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم.
هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة، سنة الحبس، لما شكونا عند أهل "قبة أبي طالب" أن يكسيه صاية، وجميع من معك، من خاص أو عام، معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس، وأتباعه لأهل "قبة الكواز" و "سية طالب" يوم يكسيه صاية،(13/73)
ص -77- ... ويقول لهم: طالع أناس ينكرون قببكم، وقد كفروا، وحل دمهم ومالهم.
وصائر هذا عندك، وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير، والقصيم، من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن، مع أن المكاتب التي أرسلها علماء الحرمين، مع المزيودي سنة الحبس، عندنا إلى الآن، وقد صرحوا فيها: أن من أقر بالتوحيد كفر، وحل ماله ودمه، وقتل في الحل والحرم، ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1.
فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في أشيقر، ولسيف العتيقي، ويرسلونها إليك، ويجيبون عن قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 2 أنهم يدعون على أنهم المعطون، المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم.
وأيضا: جاءنا بعض المجلد الذي صنف القباني، واستكتبه أهل الأحساء، وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع، على تحسين "قبة الكواز" وأمثالها، وعبادتها، وعبادة "سية طالب"؛ ويقول في تصنيفه: إنه لم يخالف في تصنيفه إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 34.
2 سورة الإسراء آية: 57.(13/74)
ص -78- ... ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم، الجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة، اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة، وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل.
وأيضا: مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه ... ووامصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال،(13/75)
ص -79- ... خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1.
وأما قولك: أبغي أشاور إبراهيم، فلا أود أن تصير ثالثا لابن عباد، يقول: أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح، ونصحتهم وبينت لهم، وابن عيد أنت خابره، حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر الناس أن إبراهيم ممتنع، يا سبحان الله! إذا كان أهل الوشم، وأهل سدير وغيرهم، يقطعون: أن كل مطوع في قرية، لو ينقاد شيخها، ما منهم من أحد يتوقف، كيف يكون قدر الدين عندكم؟ كيف قدر رضى الله والجنة؟ كيف قدر النار وغضب الله؟
ولكن أود أن تفكر فيما تعلم، لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم: أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم؛ ومعلوم أن كلا من الطائفتين، أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم، وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف.
أترى أهل الشام، لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أترى أحدا من الصحابة، يشك في كفر من التجأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 39.(13/76)
ص -80- ... إليهم؟ ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ فتفكر في هذه القضية، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته.
وغير ذلك قولك: أريد أمانا على كذا وكذا; فأنت مخالف، والخاص والعام يفرحون بمجيئك، مثلما فرحوا بمجيء ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب، مع أن ابن عضيب أكثر الناس سبا لهذا الدين إلى الآن، وراحوا موقرين محشومين، كيف لو تجيء أنت؟ كيف تظن أن يجيئك ما تكره؟ فإن أردت تجديد الأمان على ما بغيت، فاكتب لي، وإن لم تأتنا فكما قال ابن القيم في النونية:
يا فرقة جهلت نصوص نبيها ... وقصوده وحقائق الإيمان
فسطوا على أتباعه وجنوده ... بالبغي والتكفير والطغيان
لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان
المراد تعريفك، لما صدقتك أن لك نظرا في الحق، أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء، إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بزمانك هذا؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم، فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما؟ يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة، ونشره، وقراءته على جماعتهم، ودعوتهم إليه.(13/77)
ص -81- ... وذكر ابن عبد الهادي، في مناقب الشيخ، لما ذكر المحنة التي نالته، بسبب الجواب في شد الرحل، فالجواب الذي كفروه بسببه، ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه؛ فالعجب إذا كان الكتاب عندك، وعلماء في زمن الشيخ كفروه بكلام دونه، فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد؟!
وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام، لما قالوا له: إنك مثل الخوارج، رد عليهم بقوله:
من لي بمثل خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا حسبان
ثم ذكر في البيت الثاني: ان هؤلاء يكفروننا بمحض الإيمان، والخوارج يكفرون بالذنوب، وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التكفير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه، وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب "الاستغاثة" مجلدا، وجاءنا من الشام مع مربد.
وسببه: أن رجلا من فقهاء الشافعية، يقال له ابن البكري، عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى في الشدائد، فأنكر ذلك، وصنف مصنفا في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ(13/78)
ص -82- ... في ذلك الكتاب، وجعله مستنقصا للأنبياء، وأورد فيه آيات وأحاديث.
فصنف الشيخ كتاب "الاستغاثة"، ردا على ابن البكري، وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا، بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا، ونسوا ما يشركون.
والمقصود: أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف، من أنكر التوحيد، وجعله سبا للأنبياء والأولياء، وكفر من ذهب إليه؛ فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز، وأمثالها، ما أنكروه؟! بل تزعم أنهم قبلوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر.
وأعظم وأطم: أنكم تعرفون أن البادية، قد كفروا بالكتاب كله، وتبرؤوا من الدين كله، واستهزؤوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله، واستهزؤوا بها، مع إقرارهم بأن محمدا رسول الله، وأن كتاب الله عند الحضر، لكن كذبوا وكفروا، واستهزؤوا، عنادا؛ ومع هذا تنكرون علينا كفرهم، وتصرحون بأن من قال لا إله إلا الله لا يكفر.
ثم تذكر في كتابك: أنك تشهد بكفر العالم العابد(13/79)
ص -83- ... الذي ينكر التوحيد، ولا يكفر المشركين، ويقول هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون؛ فإن قلتم إن الأولين وإن كانوا علماء، فلم يقصدوا مخالفة الرسول بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلا ونهارا، أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد، وإنكار الشرك، أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا: التكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل، فأنتم مصرحون بالعلم; والله أعلم.
[بيان الشرك]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى الأخ فايز، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: مسألة الشرك بالله، بينها الله سبحانه، وأكثر الكلام فيها، وضرب لها الأمثال; ومن أعظم ما ذكر فيها، قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، مع أن الذي طلبوا منه، ليس شرك القلب.
وأما كونك تعرفه، مثل معرفة الفواحش، وتكرهه كما تكرهها، فهذا له سببان: أحدهما: اللجأ إلى الله، وكثرة الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، بحضور قلب. الثاني: الفكرة في المثل الذي ضربه الله في سورة الروم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 65.(13/80)
ص -84- ... بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية.
فإذا أمعنت النظر وتأملت لو أن رجلا يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة في الرسالة، أنها أكبر قبحا من الفواحش؛ فكيف لو يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين امرأة زانية؟!
وأنت تعرف أن أهل بلد، لو يصلون على شيخهم أو إمامهم كما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، لعد هذا من أعظم الفواحش بكثير؛ فإذا وازنت بين هذا، وبين ما يفعله أكثر الناس اليوم، من دعوة الله، ودعوة أبي طالب، أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة، أو حجر، أو غير ذلك، تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير كثير.
لكن الذي غير القلوب، أن هذا تعودته وألفته، وتلك الأنواع لم تعودها القلوب، فلذلك تكرهها، لأن القلوب على الفطرة، إلا أن تتغير إذا كبرت بالعادات، والسلام.
[نواقض الإسلام]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، بعد كلام له في الإسلام:
هذا كلام حسن، لكن إذا عرفه المسلم، وجب عليه أن يعرف نواقضه. فإذا كان نواقض الوضوء ثمانية، فالذي(13/81)
ص -85- ... ذكر في "الإقناع" أن نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة.
ولكن من أشهرها اثنتان:
الأولى: الشرك، وهي أول النواقض التي ذكرها؛ وقد عرفتم الشرك وأنواعه، وكل إنسان يحتاج إلى تعلمه.
الثانية: أنه ذكر من النواقض: من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به -،كفر إجماعا; وقد علمتم ما جرى من المطاوعة، ومن العامة، من بعض الذين عرفوا التوحيد، والبراءة من الشرك، حتى إنهم أبغضوا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأبغضوا التحية بالسلام، مع أنهم يعرفون ذلك.
الثالثة: من استهزأ بشيء من دين الله إذا ذكر له؛ واذكر قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1.
الرابعة: إذا ذكر له ثواب الله أو عقابه، استهزأ، وهو قوله: أو سخر بوعد الله أو وعيده.
الخامسة: في آخر الباب: ويحرم تعلم السحر؛ وذكر أن من فعله أو رضي به كفر، وذكر أن منه ما يحبب بين اثنين، وهو الذي يسمى في زماننا العطف.
السادسة: وهي من أهمها وأكثرها خطرا -:الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 65-66.(13/82)
ص -86- ... مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ} 1 الآية؛ ويوجد هذا فيمن هو من أورع الناس، وأكثرهم عبادة. وكل هذه الست من أوقع الأشياء.
وكثير منها يقع فيها الإنسان، ولا يدري أنه كفر، بل يظنه خفيفا؛ ومرادنا الإنسان الذي يدعي معرفة التوحيد، والبراءة من الشرك; ولكن من أنفع ما يكون: القراءة عليهم فيما جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، في ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وتعريفهم أنه عند هذه المسألة التي وقعت بيننا بعينها.
فالدين الذي أرسله الله به، هو الذي يسميه مطاوعتكم... وفعلوا في عداوته أشياء، ما فعلها أبو جهل وأمثاله; والدين الذي يزينونه للناس، هو دين أهل مكة، الذي أرسل الله رسوله ينذر عنه؛ وفعل مطاوعتكم في نصرته الفرية، وتزيينه لمن سمع منهم، أشياء ما فعلتها قريش في نصرة دينهم.
فأنفع العلم وأهمه وأكبره - مع أنه أوضحه -:معرفة ما جرى من قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ومعرفة أنها مسألتنا بعينها، ومعرفة ما جرى من الناس من عداوة الدين، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبغضه وبغض من عمل به، واستحلال دمه وماله، ونصرة دين عريعر وأمثاله، والنجراني وأمثاله، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 57.(13/83)
ص -87- ... [ الدين يكون على القلب واللسان والجوارح ]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر؛ فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتد.
مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس، من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يتكلم بلسانه، ولم يعمل إلا بالتوحيد. وكذلك إذا شك، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذَب فهو لم يصدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو يقول عسى الله أن يبين الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلم إلا بالتوحيد.
ومثل اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفا من شرهم; وإما أن يكتب لهم كلاما يصرح لهم بمدح ما هم عليه، أو يذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضا لغروره.(13/84)
ص -88- ... وهو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} 1 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 2 فقط لا لتغير عقائدهم.
فمن عرف هذا، عرف أن الخطر خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في "الإقناع" في الردة: نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، والله أعلم.
[باب حكم المرتد]
وقال أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
باب حكم المرتد، الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا أو شكا أو اعتقادا أو فعلا، ولو مميزا، أو كان هازلا، لقوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 3. فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه، ولو مكرها بحق كفر، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر، أو جحد صفة من صفاته، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالله أو رسله، أو هزل بشيء فيه ذكر الله تعالى.
قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو لما جاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 106.
2 سورة النحل آية: 107.
3 سورة التوبة آية: 65.(13/85)
ص -89- ... به الرسول اتفاقا، كفر،أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1،
أو سجد لصنم أو شمس أو قمر، أو أتى بقول أو فعل صريح، في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله تعالى، أو وجد منه امتهان القرآن، أو أنكر الإسلام كفر، لأن الدين عند الله الإسلام، أو سحر أو أتى عرافا فصدقه، أو جحد البعث كفر،
أو أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني أو مجوسي، أو برئ من الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعبد الصليب. وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية.
أقول: يتأمل المسلم الذي قصده اتباع أمر الله ورسوله، ما ذكره هؤلاء العلماء، وحكوا عليه إجماع المذاهب كلها، في أناس يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، وأهل عبادة، لكنهم يعتقدون في بعض الأولياء، مثل عبد القادر، ومعروف الكرخي وغيرهما، ويتعلقون عليهم، يقولون: لهم جاه عند الله، كيف حكى العلماء إجماع المذاهب، على أن من فعل ذلك فهو كافر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.(13/86)
ص -90- ... ولو كان زاهدا. هذا الذي أنا طالب منهم، وأعظم من أن الرافضي إذا سب الشيخين، فقد توقف الإمام أحمد في تكفيره.
وأما إذا اعتقد في علي أو الحسين فهو كافر، مع كونه يشهد أن لا إله إلا الله. أتظنون أن هذا في قوم مضوا؟ أتقولون الصحابة أراهم يكفرون أهل الإسلام؟ أم تظنون أن الذين يعتقدون في علي لا يشهدون أن لا إله إلا الله؟
فرحم الله امرأ نصح نفسه، ونصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم.
[نواقض الإسلام العشرة]
وقال عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن فارس، سلام عليكم.
وبعد: الواصل إليكم مسألة التكفير، من كلام العلماء، وذكر في "الإقناع" إجماع المذاهب كلها على ذلك؛ فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب، فيذكرها وجزاه الله خيرا؛ وإن كان يبغي يعاند كلام الله، وكلام رسوله، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبدا، فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطلاب حق، وقد(13/87)
ص -91- ... قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.
والذي يدلكم على هذا: أن هؤلاء الذين يعتذرون بالتكفير، إذا تأملتهم إذا أن الموحدين أعداؤهم، يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم؛ ولكن هذه قد جرت من رجال عندنا في الدرعية، وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى: اعلم: أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2؛ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن، أو القباب.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعا
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعا
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 80.
2 سورة النساء آية: 48.(13/88)
ص -92- ... الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر إجماعا، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2.
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3.
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) 4
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية: 9.
2 سورة آية: 65-66.
3 سورة البقرة آية: 102.
4 سورة المائدة: 51.
5 سورة السجدة آية: 22.(13/89)
ص -93- ... ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد، والخائف، إلا المكره؛ وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا؛ فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد.
[الشك في تكفير المعين الذي قامت عليه الحجة]
وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من(13/90)
ص -94- ... المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1.
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" 2،وقوله: "شر قتلى تحت أديم السماء" 3، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق.
وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا.إذا علمتم ذلك،فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية: 44.
2 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131).
3 الترمذي: تفسير القرآن (3000) , وابن ماجه: المقدمة (176).(13/91)
ص -95- ... ، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.
وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام.
[ الدليل على كفر من يأخذ النذور ]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن سلطان، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفاك أنه ذكر لنا عنك كلام حسن، ويذكر أيضا كلام ما هو بزين، وننتظر قدومك إلينا ونبين لك، عسى الله أن يهدينا وإياك الصراط المستقيم.
وجاءنا عنك أنك تقول: أبغيكم تكتبون لي الدليل، من قول الله، وقول رسوله، وكلام العلماء، على كفر الذين ينصبون أنفسهم للنذور، والنخي في الشدائد، ويرضون بذلك، وينكرون على من زعم أنه شرك.
ويذكرون عنك أنك تقول: أبغي أعرضه على العلماء في الخرج، وفي الأحساء، ولكم علي أني ما أقبل منهم(13/92)
ص -96- ... الطفايس والكلام الفاسد؛ فإن بينوا حجة صحيحة عن الله ورسوله، أو عن العلماء تفسد كلامكم، وإلا تبعت أمر الله ورسوله، واعتقدت كفر الطاغوت ومن عبدهم، وتبرأت منهم. فإن كنت قلت هذا، فهو كلام حسن، وفقك الله لطاعته.
ولا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الأحساء وغيرهم، وأقول: كل إنسان أجادله بمذهبه، إن كان شافعيا فبكلام الشافعية، وإن كان مالكيا فبكلام المالكية، أو حنبليا أو حنفيا فكذلك، فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب، لأنهم يعرفون أني على الحق وهم على الباطل، وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} 1.
وأنا أذكر لك الدليل على هذا الأمر، وأوصيك بالبحث عنه والحرص عليه، وأحذرك عن الهوى والتعصب؛ بل اقصد وجه الله واطلب منه، وتضرع إليه أن يهديك للحق، وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة، أو يشبهوا عليك بكلام باطل، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية: 56.(13/93)
ص -97- ... مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.
وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين؛ ولكن هيهات أن يقدر أحد أن يدفع حجج الله وبيناته.
واعلم أرشدك الله: أن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب، لمسألة واحدة، وهي: توحيد الله وحده، والكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
والطاغوت هو الذي يسمى السيد، الذي ينخى وينذر له، ويطلب منه تفريج الكربات، غير الله تعالى؛ وهذا يتبين بأمرين عظيمين:الأول: توحيد الربوبية، وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمور إلا هو، وهذا حق.
ولكن أعظم الكفار كفرا، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به، ولم يدخلهم في الإسلام، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 78.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة يونس آية: 31.(13/94)
ص -98- ... فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم، وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1،وفي الآية الأخرى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2،
فإذا تبين لك هذا، وعرفته معرفة جيدة، بقي للمشركين حجة أخرى، وهي أنهم يقولون: هذا حق، ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام; فالجواب القاطع، أن يقال لهم: إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح، مثل اللات، ومنهم من يعتقد في الصالحين، وهم الذين ذكر الله في قوله : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3، يقول تعالى: هؤلاء الذين يدعونهم الكفار، ويدعون محبتهم، قوم صالحون يفعلون طاعة الله، ومع هذا راجون خائفون.
فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى، ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله، والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة الإسراء آية: 57.(13/95)
ص -99- ... وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام، ومن اعتقد في الصالحين، بل قاتلهم كلهم، وحكم بكفرهم، تبين لك حقيقة دين الإسلام.
وعرفت الأمر الثاني وهو توحيد الآلهية وهو أنه لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى في الرخاء والشدائد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له، وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، فقد أشرك بالله; وذلك النبي، أو الرجل الصالح، بريء ممن أشرك به، كتبرؤ عيسى من النصارى، وموسى من اليهود، وعلي من الرافضة، وعبد القادر من الفقراء.
وعرفت أن الألوهية، هي التي تسمى في زماننا "السيد"، لقوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1.فتأمل قول بني إسرائيل - مع كونهم إذ ذاك أفضل العالمين – لنبيهم: اجعل لنا إلها، يتبين لك معنى الإله، ويزيدك بصيرة قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 2.
فيا سبحان الله! إذا كان الله يذكر عن أولئك الكفار أنهم يخلصون لله في الشدائد، لا يدعون نبيا ولا وليا;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 138.
2 سورة الإسراء آية: 67.(13/96)
ص -100- ... وأنت تعلم ما في زمانك أن أكثر ما بهم الكفر والشرك، ودعاء غير الله عند الشدائد، فهل بعد هذا البيان بيان؟!
وأما كلام أهل العلم: فقد ذكر في "الإقناع" في باب حكم المرتد، إجماع المذاهب كلهم، على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر مرتد، حلال المال والدم; وذكر فيه أن الرافضي إذا شتم الصحابة، فقد توقف الإمام في تكفيره، فإن ادعى أن عليا يدعى في الشدائد والرخاء، فلا شك في كفره؛ هذا معنى كلامه في "الإقناع".
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما اعتقد فيه النفع والضر أناس في زمانه، حرقهم بالنار، مع عبادتهم؛ فكذلك الذين يدعون شمسان وأمثاله وأجناسه، لا شك في كفرهم. واعلم: أن هذه المسألة، مسألة عظيمة جدا، وهي التي خلق الله الجن والإنس لأجلها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فأنت؛ اعرض هذا الكلام على كل من يدعي العلم، وأنا أعيذك بالله وجميع المسلمين، من التكبر والعناد، الذي يرد صاحبه الحق بعدما تبين؛ واعلم أن أكثر القرآن في هذه المسألة، وتقريرها وضرب الأمثال لها، والله أعلم.(13/97)
ص -101-
[معنى قوله تعالى لنبيه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)]
وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى ثنيان بن سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: سألتم عن معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1، وكونها نزلت بعد الهجرة، فهذا مصداق كلامي لكم مرارا عديدة، أن الفهم الذي يقع في القلب، غير فهم اللسان، وذلك: أن هذه المسألة من أكثر ما يكون تكرارا عليكم، وهى التي بوب لها الباب الثاني، في كتاب التوحيد، وذلك: أن العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } 2، وكما قال عن يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 3.والكلام في تقرير هذا ظاهر.
والعلم هو الذي يستلزم العمل، ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال تفاضلا لا ينضبط، وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم؛ فيكفيك في هذا استدلال الصديق على عمر، في قصة أبي جندل، مع كونها من أشكل المسائل التي وقعت، في الأولين والآخرين، شهادة أن محمدا رسول الله.
وسر المسألة: العلم بلا إله إلا الله ; ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية: 19.
2 سورة فاطر آية: 28.
3 سورة يوسف آية: 68.(13/98)
ص -102-
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1. فإن العلم بهذه الأصول الكبار، يتفاضل فيه الأنبياء فضلا عن غيرهم; ولما نهى نوح بنيه عن الشرك، أمرهم بلا إله إلا الله، فليس هذا تكرارا.
بل هذان أصلان مستقلان كبيران، وإن كانا متلازمين، فالنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت، ولا إله إلا الله الإيمان بالله، وهذا وإن كان متلازما، فنوضح لكم الواقع، وهو: أن كثيرا من الناس يقول: لا أعبد إلا الله، وأنا أشهد بكذا، وأقر بكذا، ويكثر الكلام، فإذا قيل له: ما تقول في فلان وفلان، إذا عبدا أو عبدا من دون الله؟ قال: ما علي من الناس، الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه.
فمن أحسن الاقتران: أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت، فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله، وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مع أن في الوصية بلا إله إلا الله ملازمة الذكر بهذه اللفظة، والإكثار منها، ويتبين عظم قدرها، كما بين صلى الله عليه وسلم فضل سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 على غيرها من السور، ذكر أنها تعدل ثلث القرآن مع قصرها، وكذلك حديث موسى عليه السلام، فإن في ذكره ما يقتضي كثرة الذكر بهذه الكلمة، كما في الحديث "أفضل الذكر: لا إله إلا الله" 3 والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: 106، 107.
2 سورة الإخلاص آية: 1.
3 الترمذي: الدعوات (3383) , وابن ماجه: الأدب (3800).(13/99)
ص -103-
[ معنى قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات) ]
وسئل رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى آخر السؤال.
فقال: الجواب والله الموفق للصواب، قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 1 الآية، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2، الآيتان لا اختلاف في حكمهن بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم، فيدخل حكمه في حكم الآية إذا ذبح وسمى الله عليها؟ فلو ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمدا، فلا تحل ذبيحته.
وكذلك أهل الكتاب، أعني اليهود والنصارى، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 الآية، وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها بسم الله، لأن المانع لذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه:
أحدها: أن ذبيحته من الخبائث. الثانية. أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب. الثالثة. أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها.
الرابعة: أن حكمه يضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 4،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 5.
2 سورة الأنعام آية: 118.
3 سورة المائدة آية: 5.
4 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).(13/100)
ص -104-
بخلاف أهل الكتاب.
فإذا تقرر هذا عندك، فاعرف أن الكلام في تحريم ذبيحة المرتد، لا في أن الله أمر بأكل ما سمي عليه، ولا تحليل طعام أهل الكتاب; وقولكم: لم تكفّرون من يعمل بفرائض الإسلام الخمس؟ فقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام ثم مرق من الدين، كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث البراء بن عازب معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله، وقد انتسب إلى الإسلام وعمل به.
ومثل: قتال الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين بعدما عملوا بشرائع الإسلام; ومثل إجماع التابعين على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين، إلى غير ذلك، جرى وقائع لا تعد ولا تحصى.
ومثل: بني عبيد الذين ملكوا مصر والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، ولم يتوقف أحد من أهل العلم والدين عن قتالهم، مع ادعائهم الملة، ومع قولهم لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا منكم.(13/101)
ص -105-
فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب؟ وهو: "باب حكم المرتد"، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، حتى ذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفّر الإنسان، ويحل دمه وماله؛حتى ذكروا أشياء يسيرة مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
والذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} 1 الآية، أسمعت الله كفّرهم بكلمة؟ مع كونهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه، ويصلون ويزكون، ويصومون ويحجون، ويوحدون الله سبحانه، وكذلك الذين قال الله فيهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2 الآية؛ قالوا كلمة على وجه المزح واللعب، فصرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
فتأمل أرشدك الله، من انتسب إلى الإسلام، مرق من الإسلام لما أظهر خلاف ذلك، فكيف بما هو أطم من ذلك; فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق من الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 74.
2 سورة التوبة آية: 65.(13/102)
ص -106-
وقولكم: هل تعلمون للنبي صلى الله عليه وسلم دينا إلا الإسلام الذي جاء به جبرائيل؟ فمعلوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يدعو الناس إلى التوحيد سنين عديدة، قبل أن يدعوهم إلى أركان الإسلام; ومعلوم: أن التوحيد الذي جاء به جبرائيل، أعظم فريضة، وهو أعظم من الصلاة والزكاة، والصوم والحج.
فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من أركان الإسلام كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم،لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله، أو لأنه يفعل كذا وكذا؟!
فما الذي فرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟ هل هو عند الممالك والرياسة والتطاول، أو عند لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فتفرقوا عند ذلك، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1.
أتظن أن قريشا لو يعلمون أن هذا الكلام مجرد قول بلا عمل، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وينشؤون على دينهم، ولا يضرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى منهم بذلك، وأنه ما يحاربهم، ولا يكفرهم، ولا يقاتلهم، أتراهم يتركون التلفظ بلا إله إلا الله، كما هو اعتقادكم، أو دين الإسلام لفظ لا إله إلا الله، وأن من قالها فهو المسلم؟ وتؤثرون عليها حديث جبرائيل، وحديث: "بني الإسلام على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ص آية: 5.(13/103)
ص -107-
خمسة أركان" 1‘ وحديث "أمرت أن أقاتل الناس"‘ وحديث أسامة، وحديث: "من صلى صلاتنا"،وحديث أنه إذا أغار كمن عند القرية، فإن سمع أذانا وإلا أثار الغارة عليها.
ولكن الأمر كما قال عمر رضي الله عنه:(إنها لا تنقض عرى الإسلام عروة عروة، حتى ينشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، فذلك أنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن، وما ذمه، وقع فيه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو فوقه، أو دونه، أو آثر منه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإن كان سؤالك مسترشدا، فاسأل عن قول الله في إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 2. قال شيخ الإسلام: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله; فتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم، ولو لم يفعله.
وأسأل عن معنى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 4،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143).
2 سورة إبراهيم آية: 35.
3 سورة المائدة آية: 78.
4 سورة المائدة آية: 81.(13/104)
ص -108-
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 إلى قوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2 الآية. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3، الآية وما أشبه ذلك; واسأل عن سبب نزول الآية، وما معناها، وإن كان غير ذلك فلا آسى على الهالكين، وصلى الله على محمد.
[ من رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لمطوع ثرمدا ]
وقال أيضا قدس الله روحه، في رسالته لمطوع ثرمدا العاشرة 4: قولك: إن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، ثم أوردت الأدلة الواضحة على ذلك؛ وإنما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند توحيد الألوهية، ولم يدخل الرجل في الإسلام بتوحيد الربوبية، إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية. فهذا كلام من أحسن الكلام وأبينه تفصيلا.
ولكن عام أول، لما واجهنا إبراهيم، كتب له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا، وهي عندنا الآن، ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية؛ فإذا كنت تعرف هذا، فلأي شيء ما أخبرت إبراهيم ونصحته أن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وأنهم منكرون دين الإسلام؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الممتحنة آية: 1.
2 سورة الممتحنة آية: 4.
3 سورة المجادلة آية: 22.
4 وأخرناها لمناسبتها هنا, وأول الرسالة في /ج/1/ صفحة 105.(13/105)
ص -109-
وكذلك أحمد بن يحيى ساكن رغبة، عداوته لتوحيد الألوهية، والاستهزاء بأهل العارض، لما عرفوه - وإن كان يقرئه أحيانا - عداوة ظاهرة، لا يمكن أنها لا تبلغك; وكذلك ابن إسماعيل أنه نقض ما أبرمت في التوحيد.
وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة، كله من أوله إلى آخره، في إنكار توحيد الإلهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان ساكن أثيثية، وقرأه عندكم، وجادل به جماعتنا; وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه، مثل ابن سحيم وابن عبيد، يحتجون به علينا، ويدعون الناس إليه، ويقولون: هذا كلام العلماء.
فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا، ودخلوا وخرجوا، وجاهدوا ليلا ونهارا، في صد الناس عن التوحيد، يقرؤون عليهم مصنفات أهل الشرك، لأي شيء لم تظهر عداوتهم، وأنهم كفار مرتدون؟
فإن كان ظاهر لكأن أحدا من العلماء، لا يكفر من أنكر التوحيد، أو أنه يشك في كفره، فاذكره لنا وأفدنا; وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بهذا الدين، وأحبوه، ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد كفروه، وكفروا من عمل به.(13/106)
ص -110-
وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق، الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام الماضي، وقرأه على جماعتكم، يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية، وأنه لما أفتى به كفره العلماء، وقامت عليه القيامة; إن كنت تقول: ما جرى من هذا شيء، فهذا مكابرة، وإن كنت تعرف أن هذا هو الكفر الصراح، والردة الواضحة، ولكن تقول: أخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه.
ولا تظن أن كلامي هذا معاتبة وكلام عليك، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه نصيحة، لأن كثيرا ممن واجهناه، وقرأ علينا، يتعلم هذا ويعرفه بلسانه، فإذا وقعت المسألة لم يعرفها، بل إذا قال له بعض المشركين: نحن نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فإن النافع الضار هو الله، يقول: جزاك الله خيرا، ويظن أن هذا هو التوحيد، ونحن نعلمه أكثر من سنة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة، فإنها الفارقة بين الكفر والإسلام!
ولو أن رجلا قال: شروط الصلاة تسعة، ثم سردها كلها، فإذا رأى رجلا يصلي عريانا بلا حاجة، أو على غير وضوء، أو لغير القبلة، لم يدر أن صلاته فاسدة، لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها بلسانه; ولو قال: الأركان أربعة عشر، ثم سردها كلها، ثم رأى من لا يقرأ الفاتحة،(13/107)
ص -111-
ومن لا يركع، ومن لا يجلس للتشهد، ولم يفطن أن صلاته باطلة، لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة!
ولكن أشير عليك بعزيمة: أنك تصل إلينا،ونتذاكر معك; وكذلك من جهة البدع، قيل لي: إنك تقول فيها شيئا ما يقوله الذي عرف مسألة البدع; وصلى الله على محمد.
[المسائل التي عرَّف بها الشيخ ابن عبد الوهاب]
وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عيد، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه.
وبعد: وصل الكراس، وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتموه، وفيه كلام غير هذا، سر الخاطر من جهتك خاصة، بسبب أن لك عقلا، والثانية أن لك عرضا تشح به، والثالثة: أن الظن فيك إن بان لك الحق، أنك ما تبيعه بالزهائد.
فأما تقريركم أول الكلام: أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء، وأنكم تعرفون كلام الله، وكلام رسوله، وإجماع العلماء أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية; منها:(13/108)
ص -112-
اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم، يعني إذا اعتقد خلاف ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بعدما تبين له، ومنها: كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها: عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم.
ولكن من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض، لا نكفره بالظن، لأن اليقين لا يرفعه الظن; وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر، بسبب ناقض ذكر عنه، ونحن لم نتحققه; وما قررتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه.
ولكن قبل الكلام، اعلم: أني عَرَّفْتُ بأربع مسائل:
الأولى: بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس.
الثانية: بيان الشرك، ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم أو العبادة، من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله، مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات، كما ذكرتم عن العلماء، أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم.
الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره، وأقر بذلك ليلا ونهارا، ثم مدحه وحسنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون، لأنهم السواد الأعظم.(13/109)
ص -113-
وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
الرابعة: الأمر بقتال هؤلاء خاصة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفي الشرك، وردوا علي التكفير والقتال.
إذا تحققت ما ذكرت لك، انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق، من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء، بشرط أنكم لا تكفّرون بالظن ولا من لا تعرفون.
فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام، ما عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول: إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم، مشاهيرهم والأتباع، إنهم مقرون بالبعث، ولا يشكون فيه; ولا يقدر أن يقول: إنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر، وإنهم عائفوه، ومتبعو ما أحدث آباؤهم، مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله، فإن كان للوضوء ثمانية نواقض، ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من مائة ناقض.(13/110)
ص -114-
فلما بينت ما صرحت به آيات التنْزيل، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، وأجمع عليه العلماء: أن من أنكر البعث، أو شك فيه، أو سب الشرع، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث، أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه، أنه كافر مرتد; قال علماؤكم: معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهي تحميهم من الكفر، ولو فعلوا كل ذلك; ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم.
فلما أظهرت تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفّر أهل الإسلام، وأستحل أموالهم، وصرحوا: أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقض، مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم; وأنتم تذكرون: أن من رد شيئا مما جاء به الرسول بعد معرفته، أنه كافر.
فإذا كان المويس، وابن إسماعيل، والعديلي، وابن عباد، وجميع أتباعهم، كلهم على هذا، فقد صرحتم غاية التصريح: أنهم كفار مرتدون; وإن ادعى مدع: أنهم يكفرونهم، أو ادعى أن جميع البادية لم تتحقق من أحد منهم من النواقض شيئا، أو ادعى أنهم لا يعرفون أن دين(13/111)
ص -115-
الرسول خلاف ما هم عليه، فهذا كمن ادعى أن ابن سليمان، وسويد، وابن دوّاس، وأمثالهم، عباد زهاد فقراء، ما شاخوا في بلد قط، ومن ادعى هذا، فأسقط الكلام معه.
ونقول ثانيا: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة، يقرون ليلا ونهارا، سرا وجهارا: أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل، هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال، كان على الحق؛ هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد، ثم مع هذا يعادون التوحيد ومن مال إليه، العداوة التي تعرف، ولو لم يكفر ويقاتل.
وينصرون الشرك نصر الذي تعرف، مع إقرارهم بأنه مشرك، مثل كون المويس وخواص أصحابه، ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز، وقبة رجب، سنة، يقولون: إنه قد خرج من ينكر قببكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم؛ وكذلك ابن إسماعيل، وابن ربيعة، والمويس أيضا بعدهم بسنة، رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب، وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأحلوا دماءنا وأموالنا، حتى جرى على الناس ما تعرف، مع أن كثيرا منهم لم يكفر ولم يقاتل.
وقررتم: أن من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم في عشر معشار(13/112)
ص -116-
هذا، ولو بكلمة، أو عقيدة قلب، أو فعل، فهو كافر، فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله ومن أطاعه في عداوة التوحيد، وتقرير الشرك، مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن لم تكفروا هؤلاء ومن اتبعهم، ممن عرف أن التوحيد حق، وأن ضده الشرك، فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من نزغ منه مثل رأس الإبرة من البول، وزعم أن من يتغوط ليلا ونهارا، وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض، وتبعوه على ذلك حتى يموت، أنه لا ينقض وضوءه.
وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا; ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله، كما قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 الآيتين.
وأنا أمثل لك مثالا لعل الله أن ينفعك به، لعلمي أن الفتنة كبيرة، وأنهم يحتجون بما تعرفون; منها: ما ذكروا في الأوراق، أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد، وإحياء الشرك، وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم، خوف البغي عليهم.
فنقول: لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلما عظيما في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 8.(13/113)
ص -117-
بلادهم ظلما وعدوانا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم، إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق، ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلا ونهارا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج، ولم يتركوا الإسلام بالفعل،
لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون، في أكبر ما يكون من الكفر والردة؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون، لأنهم أكثر من المسلمين، ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئا كثيرا، ولأنهم أهل الزهد والرهبانية.
فتأمل هذا تأملا جيدا، وتأمل ما صدرتم به الأوراق، من موافقتهم فيما ينقض به الإسلام، ومعرفتكم بالناقض؛ فإذا تحققتموه وأنه يكون بكلمة، ولو لم تعتقد، ويكون بفعل ولو لم يتكلم، ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل، تبين لك الأمر، اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق، وأنتم تعتقدون خلافه، فذاك أمر آخر.
وأما ما ذكرتم من كلام العلماء، فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان أحدهما: أنكم لو لم تنقلوا(13/114)
ص -118-
كلام ابن عقيل في الفنون، وكلام الشيخ في "اقتضاء الصراط المستقيم" وكلام ابن القيم، لقلت لعلهم مخطئون قائلون بمبلغ علمهم، هذا كله عندنا في هذه الكتب، كما هو عندكم، وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل - أعني دعوة صاحب التربة، ودس الرقاع - وأنتم تعلمون ذلك; وأصرح منه كلام الشيخ، في قوله: ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة.
يا سبحان الله! كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها: أن هذا من فعله كان مرتدا، وأن المسلم إذا ذبح للزهرة، أو الجن أو لغير الله، فهو مما أهل لغير الله به; وهي أيضا: ذبيحة مرتد، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; فصرح: أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة، صار كافرا مرتدا، وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل، لأنه ذبيحة مرتد.
وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة، بكفر من فعل شيئا من الذبح والدعوة، حتى ذكر ثابت بن قرة، وأبا معشر البلخي، وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم، مع كونهم من أهل التصانيف.
وأصرح من الجميع: كلام ابن القيم في كثير من كتبه، فلما نقلتم بعض العبارة، وتركتم بعضها، علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الذي عليك: لو أنك فاعل كما فعل(13/115)
ص -119-
بعض أهل الأحساء، لما صنف بعضهم كتابا في الرد علينا، يريد أن يبعثه، تكلم رجل منهم، وقال: أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه، أنتم ما تستحون، فتركوا الرسالة.
الجواب الثاني: أن الشرك لا يكفر من فعله، وأنه شرك أصغر، وأنه معصية غير الكفر، مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك، فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة، معاني هذه العبارات من الأدلة، من كلام كل رجل، كما بينته لك من كلام الشيخ، لكن أنتم مسلِّمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله، لكنه زينه للناس ورغبهم فيه، أليس هذا كافرا مرتدا؟
ولو قدرنا: أن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه، ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أمر استحباب، كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنْزيه، كالأكل بالشمال، والنوم للجنُب من غير وضوء; ولو أن رجلا عرف نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم لأجل غرض من الأغراض: أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضي عند الله، وأن الأكل باليمين يضر عند الله، وأن الوضوء للجنُب إذا أراد النوم يضر عند الله، وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله، مع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس هذا كلام كافر مرتد؟(13/116)
ص -120-
فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع أنبيائه ؟ مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين، الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره، ودعا الناس إليه، مع معرفته; ولكن أرى لك أن تقوم في السَّحَر، وتدعو بقلب حاضر بالأدعية المأثورة، وتطرح نفسك بين يدي الله تعالى أن يهديك لدينه، ودين نبيه عليه السلام، وصلى الله على محمد.
[ بعض المسائل التي سئل فيها الشيخ في باب المرتد ]
وسئل أيضا: شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن مسائل:الأولى: قوله في باب حكم المرتد: أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر; فما وصف هذا الاستهزاء... إلى آخر المسائل.
فأجاب، رحمه الله بقوله - بعد السلام -: سرني ما ذكرت ألهمك الله التقوى، ولا تتعذر من السؤال، فإن هذا هو الواجب عليك، وعلى غيرك، كما قالوا: مفتاح العلم السؤال; ولكن اعلم: أن المسائل والعلوم المهجورة، ما يفهمها الإنسان إلا بعد المراجعة، وكثرة المذاكرة، ولو كانت واضحة.
وهذه المسائل: من العلوم المهجورة، كما ذكرت، فعل الطلبَة في باب حكم المرتد، مع أن معرفة الله ومعرفة حقه، أجلّ العلوم وأشرفها، فلا تستح من المراجعة وكثرة السؤال، ما بقي في نفسك شيء من الإشكال، وقولك:(13/117)
ص -121-
إن أهل العلم لم يشرحوها، فكثير من الكتب لم يوجد عندكم، وإلا جميع ما ذكرت قد شرحوه.
فأما المسألة الأولى: فالعلماء استدلوا عليها بقوله تعالى، في حق بعض المسلمين المجاهدين، في غزوة تبوك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1 الآية، فذكر السلف والخلف: أن معناها عام إلى يوم القيامة، فيمن استهزأ بالله، أو القرآن، أو الرسول؛ وصفة كلامهم أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء من أصحابه.
فلما نقل الكلام عوف بن مالك، أتى القائل يعتذر أنه قال ذلك على وجه اللعب، كما يفعل المسافرون، فنَزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان، ولو كان على وجه المزح واللعب، والذي يعتذر، يظن أن الكفر إذا قاله جادا لا لاعبا; إذا فهمت أن هذا هو الاستهزاء، فكثير من الناس يتكلم في الله عز وجلبالكلام الفاحش، عند وقوع المصائب على وجه الجد، وأنه لا يستحق هذا، وأنه ليس بأكبر الناس ذنبا.
وكذلك من يدعي العلم والفقه، إذا استدل الناس عليه بآيات الله أظهر الاستهزاء، وهذه المسألة لعلك لا تحررها تحريرا تاما إلا من الرأس، إذا أوقفناك على نصوص أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 65.(13/118)
ص -122-
العلم، وذكروا أشياء لعل كثيرا من الناس لا ينكرها إذا سمعها.
الثانية: قوله: أو كان مبغضا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه، ودعوة الناس إليه، كما هو حال من يدعي العلم، يقرون أنه دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحكام.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالإنذار عن الشرك، بل هو أول ما أنذر عنه، وأعظم ما أنذر عنه؛ ويقرون أنه أتى بهذا، ويقولون: خلق الله ما ينهون، وينصرون بالقلب واللسان واليد; والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عنه، وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم ولم ينصر، فكيف إذا فعل ما فعل؟
وكذلك من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا; وذكروا: أن هذا بعينه، هو الذي يفعل أهل زمانهم عند القبور، فكيف بزماننا؟ وبينه لك قول الشارح، لما ذكر هذا، وذكر بعده أنواعا من الكفر المخرج من الملة؛وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد. نسأل الله العفو والعافية، انتهى كلامه في شرح "الإقناع".(13/119)
ص -123-
فإذا كان هذا في زمانه، لم يذكره عن عشرة أو مائة، بل عمت به البلوى في مصر والشام، في زمن الشارح، فأظنك تقطع أن أهل القصيم ليسوا بخير من أهل مصر والشام، في زمن الشارح؛ فتفطن لهذه المعاني، وتدبرها تدبرا جيدا.
واعلم: أن هذه المسألة أم المسائل، ولها ما بعدها؛ فمن عرفها معرفة تامة، تبين له الأمر، خصوصا إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم.
ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها؟ أم هم اليوم على ما كانوا عليه بالأمس؟ والمويس، وابن إسماعيل، وأضرابهما إلى اليوم، علماء يعظمون ويترحم عليهم!! ومن دعا الناس إلى التوحيد، وترك الشرك، هم الخوارج، الذين خرجوا من الدين!!
فالله الله الله استعن بالله، في فهم هذه المسألة،(13/120)
ص -124-
واحرص على ذلك، لعلك أن تخلص من هذه الشبكة؛ فلو يسافر المسلم إلى أقصى المشرق، أو المغرب، في تحرير هذه المسألة، لم يكن كثيرا؛ والفكرة فيها في أمرين:
أحدهما: في صورة المسألة، وما قال الله ورسوله، وما قال العلماء.
والفكرة الثانية: إذا عرفت التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم،وأقر به من أقر به، كيف فعلوا؟ هل أحبوه ودخلوا فيه؟ أم عادوه وصدوا الناس عنه؟ وكذلك لما عرفوا ما جاء به من إنكار الشرك والوسائط، وعرفوا أقوال العلماء: أنه الذي عمت به البلوى في زمانهم، هل فرحوا بالسلامة منه؟ ونهوا الناس؟ أم زينوه للناس وزعموا أن أهله السواد الأعظم؟ وثبتوه بما قدروا عليه من الأقوال والأعمال، وجاهدوا في تثبيته كجهاد الصحابة في زواله؟!
فالله الله الله الله! بادر ثم بادر ثم بادر! فقد قال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" 1. فأنت تعرف بدوه يوم يقال له صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد"، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال; وقد قال الفضيل بن عياض - في زمانه، وهو قبل الإمام أحمد -: لا تترك طريق الحق لقلة السالكين، ولا يضرك الباطل لكثرة الهالكين.
ومع هذا وأمثاله من البيان، أضعاف أضعافه
{مَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389).(13/121)
ص -125-
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1. وما أشكل عليك من هذا، فراجعني فيه، فإن كلام العلماء في أنه الشرك الأكبر، وأنه اشتهر عند كثير أهل زمانهم، أكثر من أن يحصر.
وأماالثالثة: فالقول الصريح في الاستهزاء بالدين، مثل ما قدمت لك; وأما الفعل: فمثل مدّ الشفة، وإخراج اللسان، ورمز العين، مما يفعله كثير من الناس، عندما يؤمر بالصلاة، والزكاة، فكيف بالتوحيد؟
الرابعة: إذا نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، صريحا واضحا أنه نطق بما لا يعرف معناه؛ وأما كونه لا يعرف أنها لا تكفره، فيكفي فيه قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2،فهم يعتذرون من النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم.
والعجب ممن يحملها على هذا، وهو يسمع قوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4،{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، أيظن هؤلاء ليسوا كفارا؟ ولا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل، لأجل غربتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 17.
2 سورة التوبة آية: 66.
3 سورة الكهف آية: 104.
4 سورة الأعراف آية: 30.
5 سورة آية: 37.(13/122)
ص -126-
ومما يكشف لك الإشكال: ما قدمت لك، إجماع العلماء أن هذا كثر في زمانهم، وأيضا: بلدانهم أكثر علماء من بلدانكم.
الخامسة: من أطلق الشارع كفره بالذنوب، فالراجح فيها قولان:
أحدهما: ما عليه الجمهور من أنه أنه لا يخرج من الملة.
الثاني: الوقف، كما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت، يعني: لا يقال يخرج، ولا ما يخرج; وما سوى هذين القولين غير صحيح.
السادسة: قوله: الذبح للجن منهي عنه; فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم، والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنْزيه، التي دون الحرام.
مثل استعمالها في المحرمات، قوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له; وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} 1. ولفظ التحريم، مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر.
وقوله: يكره; كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية: 92.
2 سورة الأنعام آية: 151.(13/123)
ص -127-
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1. إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 2. وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم.
إذا فهمت هذا، فهم صرحوا، أن الذبح للجن ردة تخرج، وقالوا: الذبيحة حرام، ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أُهلّ به لغير الله، والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل، وسمى الله عليها; وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه.
[بيان الشيخ ابن عبد الوهاب للأشياء التي يكفر مرتكبها]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ: حمد التويجري، ألهمه الله رشده، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل الخط، أوصلك الله ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة؛ وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته رسالته، من الكلام في الصفات، مخالف لعقيدة الإمام أحمد، وما تضمنته من الشبه الباطلة، في تهوين أمر الشرك، بل في إباحته، فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 23.
2 سورة الإسراء آية: 38.(13/124)
ص -128-
أبين الأمور بطلانه، لمن سلم من الهوى والتعصب.
وكذلك تمويهه على الطغام: بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا، بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان، وأي مكان.
وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها؛ والله المستعان، والسلام.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة.
وبعد: وصل إلينا حميدان وإخوانه، والذي عليهم من الإشكال زال، فالله الله عن مقدَّم بلاد، أو خاص، أو عام، يعترض عليهم، أو يستهزئ بهم، فإن الاستهزاء بالدين كفر صريح، وافهموا ست مسائل في "الإقناع"، في باب حكم المرتد.
الأولى: أنه ذكر الردة مهما تكن اعتقادا، أو شكا، أو نطقا، أو فعلا، فأول ما ذكر الشرك بالله، بسبب أن(13/125)
ص -129-
الجاهل يقول: الشرك ما هو عندنا، فإذا اعتقد بقلبه، أو شك، أو تكلم ولو عرف بقلبه، أو فعل ولو لم يتكلم.
الثانية: أن من أبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يشرك، كفر.
الثالثة: أن الرافضي إذا سب الصحابة، فاختلف العلماء في كفره، وأما إذا اعتقد في علي، أو الحسين، فهو كافر إجماعا، والسني الذي يشك في كفره، كافر.
الرابعة:أنه يحرم تعلم السحر، ثم إنه يكفر إن تعلمه أو فعله؛ ثم ذكر أنواعه، وذكر منها العطف، والصرف، والطلاسم، التي يظنها أكثر المطاوعة حسنة.
الخامسة: أن كون الشيء حراما، لا يناقض كونه كفرا.
السادسة: المسألة العظيمة، استدلال العلماء بقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.والله أعلم.
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب: والمسألة الأخرى: يذكر لنا من أعداء الإسلام، من يذكر أنا نكفر بالذنوب، مثل التتن، وشرب الخمر، والزنى أو غير ذلك من كبائر الذنوب، فنبرأ إلى الله من هذه المقالة، بل الذي نحن نقول: الذنوب فيها الحدود، ومعلقة بالمشيئة، إن شاء الله عفا، وإن شاء عذب عليها.
وأما الذي نكفر به: فالشرك بالله، كما قال تعالى:(13/126)
ص -130-
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1،وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3.
ونكفّر أيضا: المستهزئين بالدين، مثل ما قال الله في الصحابي، الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 4، وغيرهم مثل ما حكى الله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، وفي الآية الأخرى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة آية: 65.
3 سورة المائدة آية: 72.
4 سورة آية: 65-66.
5 سورة النساء آية: 140.(13/127)
ص -131-
[نفي الشيخ ابن عبد الوهاب أنه يكفِّر بالعموم]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ما ذكر لكم عني: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول من تبع دين الله ورسوله، وهو ساكن في بلده، أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضا من البهتان؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله، في أي أرض كانت.
ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه ; وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس، فهذا الذي أكفره؛ وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجل معاند، أو جاهل؛ والله أعلم، والسلام.
وسئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، رحمهم الله: هل تعتقدون كفر أهل الأرض على الإطلاق؟ أم لا؟
فأجابوا: الذي نعتقده دينا، ونرضاه لإخواننا مذهبا، أن من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر بذلك، ولو ادعى الإسلام؛ وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء.(13/128)
ص -132-
ويكفر أيضا: من أنكر وجوب الصلاة، ودُعي إليها وأبى عن فعلها جحدا، يُقتل عندنا كفرا؛ وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما من السلف والخلف، وهو الذي تدل عليه الأدلة، من الكتاب والسنة; وفي المسألة قول آخر: أنه يقتل حدا، وهو القول المشهور في مذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبي حنيفة.
ونكفر أيضا: من أنكر وجوب الزكاة، وامتنع من أدائها، وقاتل الإمام عليها; ونكفر أيضا: من أبغض شيئا من دين الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه.
وقد ذكر بعض العلماء، رحمهم الله: أن الكفر والردة أنواع كثيرة: فمن ذلك ما هو شك، ومنه ما هو اعتقاد، ومنه ما هو نطق؛ فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو إلهيته، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1،وذكروا أنواعا كثيرة من أنواع الردة، كل نوع يكفر به المسلم، ويحل دمه وماله.
وأما تكفير أهل الأرض كلهم، فنحن نبرأ إلى الله من هذا، بل نعتقد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، بل قد أجارها الله عن ذلك، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تزال طائفة منها على الحق منصورين، لا يضرهم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.(13/129)
ص -133-
خالفهم ولا من خذلهم، إلى أن تقوم الساعة، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع إخباره بأن أمته تأخذ ما أخذت الأمم قبلها، وتتبع سنتهم، وتسلك مسالكهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد دل الكتاب العزيز على ذلك أيضا، فقال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.
ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية عن ابن عباس، قال:( ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم )، قال ابن جريج: ولا أعلم إلا أن فيه "والذي نفسي بيده لتتبعنهم" وعن أبي هريرة، قال:( الخلاق كذلك)، رواه ابن أبي حاتم.
وعن زيد بن أسلم، قال: (الخوض مما يتكلمون به من الباطل، وما يخوضون فيه من أذى الله ورسوله، وتكذيبهم إياه)، رواه ابن أبي حاتم; وروي عن ابن عباس: ( نصيبهم من الآخرة في الدنيا).
وقال آخرون: نصيبهم من الدين; قال أهل اللغة: الخلاق هو النصيب، والحظ، كأنه مخلوق للإنسان إلى ما قدر له، كما يقال القسم لما قسم له، والنصيب لما نصب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 69.(13/130)
ص -134-
له، أي: ما ثبت; ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}1 أي من نصيب، والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم.
فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} 2، فتلك القوة التي كانت لهم، كانوا مستطيعين أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد، هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم، وأموالهم، وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة، والأموال هي نصيبهم؛ وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله والدار الآخرة، لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ منهم العاجل بها؛ فدخل بهذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها.
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدنيا إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق إلا البدع ونحوها، والثاني من جهة الشهوات؛ ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه; وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، وتتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 200.
2 سورة التوبة آية: 69.(13/131)
ص -135-
وقد أخرج أبو عيسى الترمذي في جامعه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية، كان من أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفترق على اثنتين وسبعين ملة، فستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله الناجية؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1.قال أبو عيسى: هذا حديت غريب منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه; وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد، ومعاوية، وعمرو بن عدي.
فانظر رحمك الله إلى ما تضمن هذا الحديث وغيره من الأحاديث، من إخباره بسلوك أمته سلوك الأمم قبلها، وتفرقها على ثلاث وسبعين ملة، وأن الناجية ملة واحدة، ثم وصفها لما سألوه عنها، بأنها ما كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه؛ فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. وما أحسن ما قال بعضهم:
يا باغي الإحسان يطلب ربه
ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدي الصحابة والذي
كانوا عليه في الزمان الخالي
فصل: [هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك]
وأما قولكم: هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك أم لا ؟ فالذي عليه أكثر أهل العلم: أن المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل; وعند بعضهم: أن المرتد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الإيمان (2641).(13/132)
ص -136-
يقتل من غير استتابة; والصحيح: الأول، لحديث أم مروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستتابتها.
وفي الموطأ: أن "عمر رضي الله عنه لما بلغه أن رجلا كفر بعد إسلامه، فقتل من غير استتابة، فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب، ويراجع أمر الله. اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني". والله أعلم.
فصل: [معنى حديث "الإسلام يهدم ما قبله"]
وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: "الإسلام يهدم ما قبله" 1،وفي رواية "يجُبُّ ما قبله"، وفي حديث حجة الوداع: "ألا إن دم الجاهلية كله موضوع" 2 إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا، جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أم لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة؛ ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص، لعدم قيام الحجة عليه؛ لا يقال: إن لم يكن كافرا، فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية. وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (121) , وأحمد (4/204).
2 الترمذي: تفسير القرآن (3087) , وابن ماجه: المناسك (3055).(13/133)
ص -137-
ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.
وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجُبّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كلام أسعد، على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1، أنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك؛ وقد ذكر المفسرون: أن معنى قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم: إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم هم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية، مشركون بالله في العبادة.
ومعلوم: أن مشركي العرب وغيرهم، يؤمنون بأن الله رب كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات، حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه؛ بل تجد الرجل يؤمن بالله ورسوله، وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات، حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 106.
2 سورة يوسف آية: 106.(13/134)
ص -138-
وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، من فعل واحدا منها كفر؛ وإذا تأملت ما ذكرناه، تبين لك أن الإيمان الشرعي، لا يجامع الكفر، بخلاف الإيمان اللغوي، والله أعلم.
وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟
فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلا عن الإيمان; بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام؛ فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين.(13/135)
ص -139-
وأما ما ذكرته عن السيوطي: أن الردة لا تتبعض إذا لم تتصل بالموت، فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب، لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته، لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها.
[ إذا أحب الدين ولم يُعادِ المشركين ]
وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، في أثناء جواب لهما 1: المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم، ولكن لا أقدر أن أكفّر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها،ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها.
الجواب: أن الرجل لا يكون مسلما، إلا إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وأمر به، وآمن به وبما جاء به; فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في مجموعة الرسائل النجدية صفحة: 38/ك/1.(13/136)
ص -140-
الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلما، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 1. والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2، الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3 الآيات؛ والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: رجل دخل الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، ويعتذر أن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم، فهل يكون مسلما أو كافرا؟ وهل يعذر بعدم الهجرة؟
الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه، وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ مما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 150-151.
2 سورة المجادلة آية: 22.
3 سورة الممتحنة آية: 1.(13/137)
ص -141-
هم عليه من الكفر والشرك، ويظهر لهم كفرهم وعداوتهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرته أو ماله، أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره.
ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهر المشركين، فيخاف عليه أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 الآية؛ فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولا يهتدي سبيلا؛ ولكن قل أن يوجد اليوم من هو كذلك، إلا أن يشاء الله; بل الغالب: أن المشركين لا يدعونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وأما إن لم يكن له عذر، وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه، فدخل في قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 97.
2 سورة النحل آية: 106.(13/138)
ص -142-
المسألة الثالثة عشرة: فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب، أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها ومات معاديا لهذا الدين وأهله؟
الجواب: من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، ولا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه؛ وأما حقيقة أمره، فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى.
وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا، كما في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" 1، إلا إن كان أحدا من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم.
المسألة الرابعة عشرة: فيمن أنكر الصفات التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1393) والرقاق (6516) , والنسائي: الجنائز (1936) , وأحمد (6/180) , والدارمي: السير (2511).(13/139)
ص -143-
وصف الله بها نفسه في كتابه، مثل {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1، ثم يقول: يد الله قدرته، أو يؤوِّل الاستواء بالاستيلاء، أو يقول: الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فهل هذا كافر أم لا؟
الجواب: أن من اعتقد هذا الاعتقاد، فهو مبتدع ضال جاهل، قد خالف العقيدة السلفية، التي درج عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، كالأئمة الأربعة، ومن اتبعهم من العلماء; وأما التكفير بذلك، فلا يحكم بكفره إلا إذا عرف أن عقيدته هذه، مخالفة لما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، والله أعلم.
المسألة الخامسة عشرة: فيمن عاهد على الإسلام والسمع والطاعة والمعاداة والموالاة، ولم يف بما عاهد عليه من الموالاة والمعاداة، ولا تبرأ من دينه الأول، ويدعي أن آباءه ماتوا على الإسلام، فهل يكون مرتدا؟ وهل يحل أخذ ماله وسبيه إن لم يرجع؟
الجواب: إن هذا الرجل، إن اعتقد أن آباءه ماتوا على الإسلام، ولم يفعلوا الشرك الذي نهينا الناس عنه، فإنه لا يحكم بكفره؛ وإن كان مراده أن هذا الشرك الذي نهينا الناس عنه، هو دين الإسلام، فهذا كافر؛ فإن كان قد أسلم فهو مرتد، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية: 10.(13/140)
ص -144-
وصار ماله فيئا للمسلمين، وإن تاب قبل موته أحرز ماله، والله أعلم.
وقالا: المسألة الثامنة عشرة: في بلد بلغتهم هذه الدعوة، وبعضهم يقول: هذا الأمر حق ولا أغير منكرا، ولا آمر بمعروف، ولا أعادي، ولا أوالي، ولا أقر أنه قبل هذه الدعوة على ضلال، وينكر على الموحدين، إذا قالوا: تبرأنا من دين الآباء والأجداد; وبعضهم يكفر المسلمين جهارا، أو يسب هذا الدين، ويقول: دين مسيلمة; والذي يقول: هذا أمر زين، لا يمكنه أن يقوله جهارا؛ فما تقولون في هذه البلدة، على هذه الحالة، مسلمون أم كفار؟ وما معنى قول الشيخ وغيره: إنا لا نكفّر بالعموم؟ وما معنى العموم من الخصوص إلخ؟
الجواب: إن أهل هذه البلدة المذكورين، إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة، التي يكفر من خالفها، حكمهم حكم الكفار، والمسلم الذي بين أظهرهم، ولا يمكنه إظهار دينه، تجب عليه الهجرة، إذا لم يكن ممن عذر الله، فإن لم يهاجر فحكمه حكمهم، في القتل وأخذ المال؛ والسامعون كلام الشيخ، في قوله: إنا لا نكفر بالعموم، فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر.
فالتكفير بالعموم: أن يكفر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه; وأما(13/141)
ص -145-
التكفير بالخصوص، فهو: أن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة، التي يكفر من خالفها؛ وقد يحكم بأن أهل هذه القرية كفار، حكمهم حكم الكفار، ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه، لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام، معذور في ترك الهجرة، أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون، كما قال تعالى في أهل مكة، في حال كفرهم: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 الآية، وقال تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 2 الآية. وفي الصحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين).
وأما أهل القرية الذين عاهدوا على الإسلام، ولم يهدموا القباب، ولم يعادوا، ولم يوالوا، وفيهم رجلان أو ثلاثة يدعون التوحيد.
فاعلم رحمك الله: أن مجرد العهد على الإسلام، لا يكون الرجل به مسلما، حتى يعمل بما عاهد عليه، من توحيد الله، والتبري من الشرك وأهله، وإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بشروطها وأركانها، وأداء الزكاة المفروضة، والإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية: 25.
2 سورة النساء آية: 75.(13/142)
ص -146-
عاهد على الإسلام ولم يعمل به، واستمر على الشرك بالله، فإنه يكون مرتدا عن الإسلام، وذنبه أعظم من ذنب الكافر الأصلي، الذي لم يعاهد قط، ولم يظهر الإسلام.
ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه" 1 وفي الصحيح: أن معاذا لما قدم من اليمن، وجد رجلا عند أبي موسى، موثقا في الحديد، فقال: ما هذا؟ قال: رجع بعد إسلامه; فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله; فأمر به فقتل.
المسألة التاسعة عشرة: ما قولكم في قول: سيدي فلان؟ ومخدومنا فلان؟ وكما في "الدلائل": سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل يكون شركا؟ وبعض المطاوعة جوزوا هذه الألفاظ، وتركوا كتاب رب العالمين، وجعلوا درسهم "دلائل الخيرات".
الجواب: إن قول: سيدي ونحوه، إن قصد به أن ذلك الرجل معبوده، الذي يدعوه عند الشدائد، لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فإن ذلك شرك أكبر; وأما إن كان مراده غير ذلك، كما يقول التلميذ لشيخه: سيدي، ويقال للأمير والشريف، أو لمن كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيد، فهذا لا بأس به، ولكن لا يجعل عادة وسنة، بحيث لا يتكلم إلا به؛ وثبت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم" 2،وقال في الحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
2 مسلم: الفضائل (2278) , وأحمد (2/540).(13/143)
ص -147-
"إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1. وأما قول صاحب "دلائل الخيرات": اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، فلا ينبغي جعل ذلك عادة وسنة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أمته، كيف يصلون عليه، ولم يذكر ذلك الكلام فيه 2.
وقالا أيضا: المسألة الثانية والعشرون، في رجل أظهر الإسلام في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير البلد ما خالف عليه، وأيده وصدقه، فهل يكون هذا مسلم أم لا؟ ولا بقي في بلده وثن أبدا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حد الاستطاعة؟
الجواب: هذا الرجل، إذا أظهر إسلامه في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير بلده لم يخالف عليه، بل أيده وصدقه، فهذا مسلم، لأنه قد عمل بدين الإسلام، وفعل ما يقدر عليه.
المسألة الثالثة والعشرون: إن صاحب البردة وغيره، ممن يوجد الشرك في كلامه، والغلو في الدين، وماتوا، لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ,3746) والفتن (7109) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأحمد (5/44).
2 وتقدمت: المسألة العشرون والحادية والعشرون, في الجزء الخامس صفحة 141 وصفحة 410 لمناسبتهما هناك.(13/144)
ص -148-
أن من اعتقد هذا على الظاهر، فهو مشرك كافر; وأما القائل: فيرد أمره إلى الله سبحانه، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تابوا أم لا.
وأما شعر ابن الفارض: فإنه كفر صريح، لأنه شاعر الاتحادية، الذين لا يفرقون بين العابد والمعبود، والرب والمربوب، بل يقول بوحدة الوجود، وهو من طائفة ابن عربي، الذي قال فيهم ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
وسئلا أيضا: عن الحلف بغير الله، مثل الحلف بالنبي والولي، أو رأس فلان، أو تربة فلان، هل يكون شركا؟ أو مكروها؟
فأجابا: الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر، وقد يكون شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده; والكفر والشرك أنواع، منها ما لا يخرج عن الملة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق).
فإذا حلف بغير الله جاهلا أو ناسيا، فليستغفر الله، وليقل: لا إله إلا الله، كما ثبت في صحيح البخاري: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 44.(13/145)
ص -149-
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله" 1.
[ الفصول النافعة في المكفرات الواقعة ]
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنهما الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على المعاندين، الذي أكمل الله به الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه فصول وكلمات، نقلتها من كلام العلماء المجتهدين، أصحاب الأئمة الأربعة، الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم، المخرجة له من الدين، وأن تلفظه بالشهادتين، وانتسابه إلى الإسلام، وعمله ببعض شرائع الدين، لا يمنع من تكفيره وقتله، وإلحاقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4860) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309).(13/146)
ص -150-
بالمرتدين. 1.
والسبب الحامل على ذلك: أن بعض من ينتسب إلى العلم والفقه، من أهل هذا الزمان، غلط في ذلك غلطا فاحشا قبيحا، وأنكر على من أفتى به، من أهل العلم والدين، إنكارا شنيعا؛ ولم يكن لهم بإنكار ذلك مستند صحيح، لا من كلام الله ولا من كلام رسوله، ولا من كلام أئمة العلم والدين، إلا أنه خلاف عاداتهم وأسلافهم؛ عياذا بالله من الجهل والخذلان، والتعصب.
وأذكر من ذلك ما مست إليه الحاجة، وغلط فيه من غلط، من المنسوبين إلى العلم في هذا الزمان، الذين غلبت عليهم الشقاوة، والجهل والتعصب والخذلان، لما جبلوا عليه من مخالفة الكتاب والسنة، وعمل السلف، والأئمة المهديين، وحب الرياسة، وشهوات الدنيا، والطمع فيما في أيدي الناس، والفسقة المعاندين؛ نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه، من العمل، ويجنبنا لما يسخطه من الزلل، إنه لا يخيب من رجاه، ولا يرد سؤال من دعاه.
فنقول - وبالله التوفيق -: اعلم أن هذه المسائل من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويلاحظ القارئ توافق بعض ما فيها, مع ما في رسالة الشيخ محمد المتقدمة في الجزء التاسع, وكذلك بعض ما في رسالة الشيخ عبد اللطيف في الجزء الأول من النقول, فيستدل به على الاتفاق في المنهج وحسن الاختيار وغير ذلك.(13/147)
ص -151-
أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، وليتبين له الإسلام والكفر، حتى يتبين له الخطأ من الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله، ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب؛ وإن كانوا هم الأكثرين عددا، فهم الأقلون عند الله، وعند رسوله والمؤمنين قدرا.
وقد اعتنى العلماء رضي الله عنهم بذلك في كتبهم، وبوبوا لذلك في كتب الفقه، في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وهو: باب حكم المرتد وهو: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به المسلم، ويبيح دمه وماله.
وسأذكر - إن شاء الله تعالى - من ذلك ما يكفي ويشفي، لمن هداه الله وألهمه رشده، وأجعل كلام كل طائفة من أتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - على حدة، ليسهل ذلك على من أراد الاطلاع عليه. ونبدأ بكلام في الشرك الأكبر، وتكفيرهم لأهله، حين وقع في زمانهم، من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة، لأنه هو المهم.
فنقول: أما كلام الشافعية، فقال ابن حجر، في كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر": الكبيرة الأولى: الكفر والشرك، أعاذنا الله منه; ولما كان الكفر أعظم الذنوب، كان أحق أن يبسط الكلام عليه، وعلى أحكامه، قال الله(13/148)
ص -152-
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1،وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" 4 ثم ذكر أحاديث كثيرة.
ثم قال: تنبيهات، منها: بيان الشرك، وذكر جملة من أنواعه، لكثرة وقوعها في الناس، وعلى ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك؛ فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها، لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العذاب; ومعرفة ذلك أمر مهم جدا.
فإن من ارتكب مكفرا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها، عند جماعة من الأئمة، كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسع أصحابه في المكفرات، وعدوا منها جملا مستكثرة جدا، وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب؛ هذا مع قولهم: إن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته، وحرمت عليه، فمع هذا التشديد، بالغوا في الاتساع في المكفرات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة لقمان آية: 13.
3 سورة المائدة آية: 72.
4 البخاري: الشهادات (2654) والأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38).(13/149)
ص -153-
فتعين على كل ذي مسكة في دينه: أن يعرف ما قالوه، حتى يجتنبه، ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة؛ بل عند الشافعي رحمه الله: أن الردة وإن لم تحبط العمل، لكنها تحبط ثوابه، فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره، إلا في القضاء فقط; ثم ذكر أنواع الكفر نوعا نوعا؛ وسيأتي بقية كلامه إن شاء الله تعالى في ذلك.
لكن تأمل - رحمك الله - قوله: لكثرة وقوعها في الناس على ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك، وأن الشرك والردة قد وقع فيه كثير من أهل زمانه، يتبين لك مصداق ما قلنا، إن شاء الله تعالى.
وقال النووي في شرح مسلم: وأما الذبح لغير الله، فالمراد به: أن يذبح باسم غير الله، كمن ذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى، أو عيسى، أو للكعبة ونحو ذلك؛ وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما، أو نصرانيا، أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا؛ فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما، صار بالذبح مرتدا، انتهى.
فتأمل قوله: فإن قصد مع ذلك... إلخ، تجده صريحا: في أن المسلم إذا قصد بالذبح لغير الله تعظيم(13/150)
ص -154-
المذبوح له غير الله والعبادة، أنه يصير كافرا مرتدا، والله أعلم.
وأما كلام الحنفية: فقال في كتاب "تبيين المحارم"، المذكورة في القرآن: "باب الكفر" وهو الستر وجحود الحق، وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1.
وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه، ونوع يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنَزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام.
فأما ما يتعلق بالله سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو كفر باسم من أسمائه، أو أمر من أمره، أو وعيده أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 6.(13/151)
ص -155-
أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولدا، أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعاء الإلهية أو الرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه، وقال: ليس لي ربا، أو قال لذرة من الذرات: هذه خلقت عبثا وهملا، وما أشبه ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا؛ ويقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب، تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه.
فتأمل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره، أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصر على ذلك.
والعبادة التي لا تصلح إلا لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيها غيره، أنواع: منها: الدعاء لجلب خير، أو دفع ضر، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1، وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2، وقال {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 3، الآية وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 18.
2 سورة غافر آية: 60.
3 سورة الرعد آية: 14.
4 سورة الشرح آية: 7.(13/152)
ص -156-
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 1.
ومن أنواع العبادة: الصلاة، فلا يصلى إلا لله، ولا يسجد ولا يركع إلا لله وحده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2، الآية وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3.
ومن أنواع العبادة: النسك وهو الذبح، فلا يجوز أن يتقرب العبد بالذبح لأحد سوى الله تعالى، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 4 الآية، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 5 أي: أخلص لربك الصلاة والنحر، بلا شريك له في ذلك، وقال النبي: صلى الله عليه وسلم "لعن الله من ذبح لغير الله" 6.
وقد قرن الله بين هاتين العبادتين: الصلاة والنسك، في هاتين الآيتين؛فإذا كان من صلى لغير الله، أو ركع لغير الله، أو سجد لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره، فكذلك من ذبح القربان لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة أيضا: الخشية؛ فلا تجوز الخشية إلا لله وحده، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 7،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307).
2 سورة آية: 162.
3 سورة الكوثر آية: 2.
4 سورة آية: 162.
5 سورة الكوثر آية: 2.
6 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152).
7 سورة المائدة آية: 44.(13/153)
ص -157-
وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2، فجعل الطاعة لله ولرسوله، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.
ومن أنواع العبادة: التوكل، وهو إسناد العبد أمره إلى الله تعالى وحده لا شريك له، في جميع أموره الدينية والدنيوية، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4؛ فمن توكل على غير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة: الاستعانة، قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 6 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا استعنت فاستعن بالله" 7؛ فمن استعان بغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة: النذر، فلا ينذر إلا لله وحده، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 8،وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 9 وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 175.
2 سورة النور آية: 52.
3 سورة آل عمران آية: 122.
4 سورة المائدة آية: 23.
5 سورة الفاتحة آية: 5.
6 سورة هود آية: 123.
7 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307).
8 سورة البقرة آية: 270.
9 سورة الإنسان آية: 7.(13/154)
ص -158-
يعصي الله فلا يعصه" 1.
والحاصل: أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من أقوال العباد وأفعالهم، مما أمرهم الله به في كتابه، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صرح هذا الحنفي في كتابه الذي قدمته لك: أن من أشرك في عبادة الله غيره، فهو كافر بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا، وأنه يقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل؛ والله أعلم.
وذكر أيضا: أن ما يكون فعله كفرا بالاتفاق، إذا فعله مسلم تحبط جميع أعماله، ويلزمه إعادة الحج، ولا يلزمه إعادة الصلاة والصوم، لأنهما يسقطان عن المرتد، ويكون وطؤه امرأته حراما وزنى، وإن أتى بكلمة الشهادة بحكم العادة، ولم يرجع عما قاله، لا يرتفع الكفر؛ والله أعلم.
وقال الشيخ قاسم، في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: أن ذلك كفر، إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى؛ فصرح بأن هذا النذر كفر، يكفر به المسلم؛ والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338).(13/155)
ص -159-
أعلم.
ومن كلام الشافعية أيضا: ما قاله الإمام المحقق، ناصر السنة، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، محدث الشام، المعروف بأبي شامة، في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا: ما قد عم به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، ومواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك، أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك.
ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي: ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. وفي مدينة دمشق - صانها الله تعالى - مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها.
فما أشبهها بذات أنواط، الواردة في الحديث، الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه ‘(13/156)
ص -160-
قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها.
وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله; وفي الرواية الأولى: وكانت تسمى ذات أنواط، فمررنا بسدرة، وفي رواية: بشجرة عظيمة خضراء، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم".وأخرجه الترمذي بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله، في كتابه: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها أسلحتهم، ويضربون عليها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218).(13/157)
ص -161-
قلت: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله، أحد الصالحين ببلاد أفريقية، في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح: أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان إلى جانبه عين تسمى "عين العافية"، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت: امضوا بي إلى "عين العافية"؛ فتعرف بها الفتنة.
قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.
قلت: وأدهى من ذلك وأمر: إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين; وقيل فيها غير ذلك، ما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب تاريخ مدينة دمشق - حرسها الله تعالى - وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في أحد شهور سنة ست وثلاثين وستمائة: أنه رأى مناما، يقتضي أن ذلك المكان، دفن فيه بعض أهل البيت، رضي الله عنهم.(13/158)
ص -162-
وقد أخبرني عنه ثقة: أنه اعترف له، أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب؛ وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج؛ ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالته وإعدامه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار.
قلت: فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به السوء والردى، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 1. أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه، انتهى.
فتأمل رحمك الله: كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن الذي تفعله العامة في زمانه، في العمد، والشجر، والمواضع المخصوصة، أنه مثل فعل المشركين بذات أنواط، وكذلك تصريح أبي بكر الطرطوشي، وكان من أئمة المالكية، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، فهي ذات أنواط.
وكذلك تأمل قوله: ولقد أعجبني ما فعل الشيخ أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 108.(13/159)
ص -163-
إسحاق، ببلاد إفريقية في المائة الرابعة، في هدمه تلك العين، التي تسمى "عين العافية" لما رأى الناس يقصدونها، ويتبركون بها، يتبين لك أن الشرك قد حدث في هذه الأمة، من زمان قديم، وأن أهل العلم رضي الله عنهم، ينكرون ذلك أشد الإنكار، ويهدمون ما قدروا عليه مما يفتتن به الناس، وأن هذا مما حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأن ذلك ليس من الدين بإجماع أهل العلم، ويجب على من قدر على ذلك إزالته، فويل للأمراء والقضاة، القادرين على إزالته والنهي عنه.
وتأمل أيضا: كلام أبي شامة، في المسجد الذي بني على قارعة الطريق، وتمنيه هدمه وإزالته، وتشبيهه إياه بمسجد الضرار؛ وكان أبو شامة رحمه الله في أوائل القرن السابع، ومعلوم أن الأمر لا يزيد إلا شدة، والله أعلم؛ فهذا ما وقفنا عليه من كلام الشافعية، والحنفية، في هذه المسألة.
فصل: [كلام الحنابلة في تعظيم القبور]
وأما كلام الحنابلة: فقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم؛ وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي(13/160)
ص -164-
كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه; فتأمل قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى.
وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 الآية.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها; واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء; وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 171.(13/161)
ص -165-
ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فنَزلت فيهم، إلى أن قال: وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2،وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 56-57.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة الأنبياء آية: 25.(13/162)
ص -166-
وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 1،وقال في مرض موته "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2 يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 3.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، والصلاة عندها; وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4.
ولهذا: كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، 5 وقال صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة" 6. والإله هو الذي يألهه القلب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).
2 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403).
3 أحمد (2/246).
4 سورة النساء آية: 48.
5 سورة البقرة آية: 255.
6 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247).(13/163)
ص -167-
عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية منه، وإجلالا، انتهى كلامه.
فتامل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب، أي: يقصده بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال، والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، ويستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات، والله أعلم.
وقال رحمه الله، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب؛ فكانت "اللات" لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا، يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره؛ وأما "العزى" فكانت لأهل مكة قريب من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون; وأما "مناة"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 19.(13/164)
ص -168-
فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعرف كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء.
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها "ذات أنواط"، فقال بعض الناس: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1 فأنكر صلى الله عليه وسلم، مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم؛ فكيف بما هو أطم من ذلك الشرك بعينه ؟ إلى أن قال: فمن ذلك أمكنة بدمشق مثل: مسجد يقال له "مسجد الكف" فيه تمثال كف، يقال إنه كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، في اللات والعزى ومناة، وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق، وغيرها من البلاد من ذلك; وتأمل قوله على حديث ذات أنواط، وتدبره، فإنه نافع جدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218).(13/165)
ص -169-
وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1: ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ؛ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور; والعبادة لغير الله، أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن؛ انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2.وتأمل قوله: ومن هذا ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 173.
2 سورة الأنعام آية: 145.(13/166)
ص -170-
يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن، والله أعلم.
فصل: [أنواع الشرك]
وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر; فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن منهم جهرة.
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش؛ وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1.
فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.(13/167)
ص -171-
وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابة وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1 ؛والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب: "إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع؛ ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 23.(13/168)
ص -172-
لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن؛ والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات.
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله؛ انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 35.(13/169)
ص -173-
دعا الموتى وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
وتأمل قوله أيضا: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله. وكذلك تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين لله إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله، والله أعلم.
وقال رحمه الله في كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال: وفيها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء(13/170)
ص -174-
شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته; وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق أو ترزق، أو تحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر، بما كسبت أيدي الناس; ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ومنها جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير الى هذه المشاهد والطواغيت، في الجهاد ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها أبا سفيان يتألفه بها،(13/171)
ص -175-
وقضى منها دين عروة والأسود; وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل، ومال ضائع، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة؛ وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم، والله أعلم، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وما فيه من التصريح بأن هذا الذي يفعل عند المشاهد والقباب التي على القبور في كثير من البلدان، أنه هو الشرك الأكبر، الذي فعله المشركون، وأن كثيرا منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة، بل أعظم شركا من شرك أهل اللات والعزى ومناة، وتصريحه بأنهم فعلوا فعل المشركين، واتبعوا سبيلهم حذو القذة بالقذة; وتأمل قوله: وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، والله أعلم،
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لما سئل عن قتال التتار، مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، المتواترة، من هؤلاء القوم، أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله(13/172)
ص -176-
عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه، الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال؛ فالقتال واجب.
فأيما طائفة ممتنعة، امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو الزنى، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، وهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/56 ,3/60 ,3/65).(13/173)
ص -177-
والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون، فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، وبمنْزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه. ولهذا افترقت سيرته في قتاله لأهل البصرة، وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين، سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى، بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين(13/174)
ص -178-
بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه العلماء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عملا بالكتاب والسنة.
فتبين لك: أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر، وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى، بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين عن الإمام، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة، والله أعلم.
وقال الشيخ رحمه الله، في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: (والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد وجوبها; وقد روي: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها.
ومع هذا، فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة، وهي: قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم: أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله.(13/175)
ص -179-
وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم؛ وهذه حجة من قال: إن قاتلوا الإمام عليها كفروا، وإلا فلا؛ فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: منع ابن جميل; فقال: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله" 1، فلم يأمر بقتله، ولا حكم بكفره; وفي السنن من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله" 2 الحديث. انتهى.
فتأمل كلامه وتصريحه: بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام، أنهم يقاتلون ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم.
[ حكم من سب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ]
وقال الشيخ: رحمه الله تعالى في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول": قال الإمام إسحاق بن راهويه، أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1468) , ومسلم: الزكاة (983) , والنسائي: الزكاة (2464) , وأبو داود: الزكاة (1623) , وأحمد (2/322).
2 النسائي: الزكاة (2449) , وأبو داود: الزكاة (1575) , وأحمد (5/4) , والدارمي: الزكاة (1677).(13/176)
ص -180-
من سب الله أو رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله.
وقال محمد بن سحنون - أحد الأئمة من أصحاب مالك -: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر; قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن على من سبه القتل.
وقال الإمام أحمد فيمن سبّه يقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم; منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة; وقول ابن عمر: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل. وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل; وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه" انتهى.
فتأمل رحمك الله: كلام إسحاق بن راهويه، ونقله الإجماع على أن من سب الله، أو سب رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، يتبين لك: أن من تلفظ بلسانه بسب الله تعالى، أو سب رسوله، فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلا بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؟(13/177)
ص -181-
ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم، من سب الله تعالى كفر، مازحا أو جادا، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، الآية قال: وهذا هو الصواب المقطوع به، انتهى.
ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: أو دفع شيئا مما أنزل الله، أن يدفع أو يرد شيئا مما أنزل الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الفرائض، أو الواجبات، أو المسنونات، أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابة، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه، ثم دفعه بعد ذلك، فهو كافر مرتد، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله في كتابه من الشرع، إلا ما دفعه وأنكره لمخالفته لهواه أو عادته، أو عادة أهل بلده.
وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال، أو النهي عن إسبال الثياب، بعد معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فهو كافر مرتد، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف بمن أنكر إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الدعوة والاستغاثة، والنذر والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ولا يصلح منها شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 65-66.(13/178)
ص -182-
لملك مقرب، ولا نبي مرسل، التي أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه لأجل معرفتها والعمل بها، التي هي أعظم شعائر الإسلام، الذي هو معنى لا إله إلا الله؟ فمن أنكر ذلك وأبغضه، وسبه وسب أهله، وسماهم الخوارج، فهو الكافر حقا، الذي يجب قتاله، حتى يكون الدين كله لله، بإجماع المسلمين كلهم؛ والله سبحانه أعلم.
فصل: [قول ابن القيم في اتخاذ القبور أعياداً]
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الإغاثة": قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" 1، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2؛ وفي اتخاذها عيدا من أعيادهم من المفاسد العظيمة، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام.
منها: الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه.
وإذا لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها؟ ومن جمع بين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
2 أحمد (2/246).(13/179)
ص -183-
أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر.
فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تشريفها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه، وهؤلاء يرفعونها، ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر.
ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي عن جابر وصححه، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر والأحجار.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين، إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعضهم كتابا سماه "مناسك حج المشاهد"؛ ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور،(13/180)
ص -184-
لأنها تذكّر الآخرة، وأمر الزائرين أن يدعوا لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟!
وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك؛ ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جنابه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا؛ وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له؛ ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي؛ ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له، والدعاء له، وكان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن، فيقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" فبدل أهل الشرك والبدع قولا غير الذي قيل لهم: فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا للميت وإلى الزائر، بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ(13/181)
ص -185-
العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد. وذكر ابن إسحاق، عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا، عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فحملنا المصحف إلى عمر، فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه؛ قرأته مثلما أقرأ القرآن، فيه سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد; قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس أن لا ينبشوه.
قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل: قال: دانيال; قلت: منذ كم مات؟ قال: من ثلاثمائة سنة; قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة: ما فعله المهاجرون والأنصار، من تعمية قبره، لئلا يفتتن به؛ ولو ظفر به المتأخرون، لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانيه، وجعلوا لها سدنة.
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، "فقطع(13/182)
ص -186-
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها،" "ولما رأى عمر الناس يذهبون، فسأل عن ذلك فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس، وبيعا؛ فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد، فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".
وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة، لما سألوه شجرة يعلقون عليها أسلحتهم بخصوصها، ثم ذكر حديث ذات أنواط؛ فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه والدعاء عنده، والدعاء به؟ وأين نسبة الفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبينه، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا.
وفي صحيح البخاري، عن أم الدرداء، قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا" انتهى.(13/183)
ص -187-
فتأمل رحمك الله كلام الشيخ، وتصريحه بأن عبادة الأوثان قد وقعت في زمانه، وتصريحه بعد ذكره لقصة دانيال، بأن أهل زمانه المتأخرين، قد اتخذوا من قبور من لا يدانيه في المرتبة والفضل والصلاح، أوثانا، وأنهم لو وجدوه لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه من دون الله، يتبين لك ما أصبح غالب الناس فيه، من عبادة غير الله، ودعائهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والإخلاص لهم في العبادة، في أوقات الشدائد، عند ركوبهم في البحر وغيره، الذي لم يفعله المشركون الأولون،
كما أخبر الله عنهم، بقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1،وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2.
فتأمل رحمك الله: ما ذكر الإله عن هؤلاء المشركين، من إخلاص الدعوة له أوقات الشدائد، ثم تأمل ما يفعله المشركون في زماننا، مما ذكرت لك، يتبين لك غربة الإسلام، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأزمان. فإذا كان هذا كلام أهل العلم، وتصريحهم بأن الشرك غلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية: 65.
2 سورة آية: 41.(13/184)
ص -188-
على أكثر النفوس، وأن القليل الذي تخلص منه، بل القليل من لا يعادي من أنكر الشرك، فما ظنك بزمانك هذا؟ ومعلوم: أن الأمر لا يزداد إلا شدة، وغربة; وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه" أخرجه البخاري في صحيحه، عن أنس.
ولكن الأمر كما قال الشيخ رحمه الله: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهذه هي الفتنة التي قال فيها ابن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة، يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، يتخذها الناس سنة، إذا غيرت قيل غيرت السنة"؛ والله أعلم.
فصل: [ابتلاء الناس بالأنصاب والأزلام]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك، والأزلام لطلب علم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله مضاد لهذا، وهذا; "وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر"، "ولما بلغه: أن الناس ينتابون الشجرة، التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل فقطعها"، قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عون عن نافع؛ فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا حكمه فيما عداها؟(13/185)
ص -189-
وأبلغ من ذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار" ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها؛ فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه.
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين; وكانوا يقولون - أي العامة - لشيء منها: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة من دون الله، فالنذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له.
ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه؛ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق.
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكره الله في سورة نوح، في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية؛ ذكر السلف في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة نوح آية: 23.(13/186)
ص -190-
فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع الصالحين، واتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلام الله وتفهمه، أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله، وخشيته والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته والتوكل عليه؛ فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن اتباع السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عابد الصور شاء أم أبى.
وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن المشروع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير؛ وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للمشركين وأهل الكتاب، وكذلك السجود للقبر، وتقبيله والتمسح به. والنوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك؛ فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين،(13/187)
ص -191-
وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة: فأكثر أهل الأرض مفتتنون بعبادة الأوثان، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء أتباع إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها، وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} 2، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 4، وقال: { وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 5. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم، وأموالهم، وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 35.
2 سورة الإسراء آية: 89.
3 سورة الأنعام آية: 116.
4 سورة يوسف آية: 103.
5 سورة الأعراف آية: 102.(13/188)
ص -192-
فتأمل رحمك الله تعالى: كلام الشيخ في الأنصاب، والأزلام، والقباب المبنية على القبور، وأنه يجب المبادرة إلى هدمها، وأنها أعظم ضررا من مسجد الضرار الذي قال الله في أهله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 1، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه وتحريقه، ونهى الله نبيه عن الصلاة فيه.
وقوله: والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه؛ وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين، ومراده بذلك: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه هدم مواضع كثيرة بدمشق، مما يعبده العامة من دون الله، وينذرون له، ويقولون: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة.
وذلك لأن النذر عبادة، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 2، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 3، فإذا عرفت أن النذر عبادة، وصرفته لغير الله، فقد أشركت في عبادة الله غيره.
وقد أقام الله في زماننا هذا - وهو آخر القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية - من بعث به دين الإسلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 107.
2 سورة الإنسان آية: 7.
3 سورة البقرة آية: 270.(13/189)
ص -193-
وإخلاص العبادة لله وحده بعد اندراسه، وهو: الشيخ، الإمام العالم، ذو الفضائل والمكارم، والأخلاق السنية، والأعمال المرضية السنية، محيي السنة النبوية، وقامع البدعة الشركية: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة التي هي أحسن المآب، وبرد مضجعه، وأجزل له الثواب.
فنصر الله به الدين القويم، وبين بسببه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأزال الله به الشرك، وعبادة الأوثان من أرض نجد، من الكفر والطغيان، ويسر الله كسر تلك الأوثان على يده، وأيدي أتباعه من الموحدين، وحزب الله المفلحين.
وكان قبل ذلك في كل أرض وبلد من أرض نجد، أوثان وأشجار تعبد من دون الله، وينذر لها ويذبح لها القربان، ويعظمونها أعظم من تعظيم الله، كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه في "الجبيلة" وكشجرة في "قريوة" في بلد الدرعية، وشجرة أخرى لأهل "الطرفية"، وغار يقال له "غار بنت الأمير" في أسفل بلد الدرعية، وقبر يقال له قبر المغربي.
وأعظم من ذلك: عبادتهم تاجا، وشمسان، مع شهادتهم عليهم بالفجور، لكن يزعمون أنهم أولياء، لا تضرهم الذنوب، ويهابونهم أعظم مما يهابون الله؛ ومنهم(13/190)
ص -194-
من يدعو الجن ويذبح لهم، وفي كل بلد من ذلك شيء عظيم; فأزال الله ذلك كله، بشيخ الإسلام، وأقام الله به الحجة على أهل زمانه، وعرف التوحيد جميع عدوانه، وأقروا أنه دين الله ورسوله، وأن الذي هم عليه الشرك بالله تعالى، ولم يردهم ذلك إلا بغضا له وعداوة.
وسعوا في إزالته وعداوته، بكل ممكن حسدا له، لما أظهر الله الدين على يده، حتى أظهره الله عليهم، ونصره، ونصر أتباعه على من خذلهم وخالفهم، مع ضعفهم وقلة عددهم، وقوة عدوهم وكثرتهم، وأدخل الله جميع أهل نجد في الإسلام، ودانوا به، واجتمعوا عليه، حاضرتهم وباديتهم؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله; ونسأل الله العظيم المنان أن يثبتنا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذنا من التفرق والاختلاف، إنه على كل شيء قدير.
فصل: [ رد الشيخ ابن تيمية على ابن البكري في مسألة الاستغاثة ]
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - في رده على ابن البكري، في مسألة الاستغاثة -: العبادة مبناها على الاتباع، لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية: 21.(13/191)
ص -195-
النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" 1، وفي لفظ في الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 2.
وفي الصحيح وغيره يقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" 3؛ ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
والله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته وموالاته ومحبته، وضمن لنا بطاعته ومحبته وكرامته، محبته لنا ومغفرته وهدايته، وإدخالنا الجنة، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 4، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 6؛ وأمثال ذلك في القرآن كثير، ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا الباب عما مضت به السنة، وكان عليه سلف الأمة.
وبالجملة: فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده(13/192)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240).
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
3 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
4 سورة آل عمران آية: 31.
5 سورة النور آية: 54.
6 سورة النساء آية: 13.(13/193)
ص -196-
بعبادة مبتدعة; وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1، قال الفضيل بن عياض: أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2.
وجاءت السنة: أن يسأل الله بأسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وكذلك قوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، مع أن هذا الدعاء الثاني، في جواز الدعاء به قولان للعلماء; وقال الشيخ أبو الحسين القدوري:
قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 7.
2 سورة الكهف آية: 110.(13/194)
ص -197-
وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام; قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، يعني: فلا تجوز وفاقا; وقال البلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الإله إلا به، فلا يقول أسألك بحق فلان، وبملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، ويقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك; وعن أبي يوسف أنه يجوز; قلت: وهذا عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما، يقتضي المنع; أن يسأل الله تعالى بغيره.
وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، فهو من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول - إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة - لميت: يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن(13/195)
ص -198-
يدعونهم من الموتى والغائبين؛ ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها.
ولما قحط الناس في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، فيسقون، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي؛ فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، ودعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، فقالوا: يستحب أن يستسقي بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل.
وقد كره العلماء، كمالك وغيره: أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع، التي لم يفعلها السلف; وقد قال تعالى. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1، قال: عيسى ابن مريم، وعزير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 56.(13/196)
ص -199-
والملائكة.
وكذلك عن إبراهيم النخعي، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 1:(هو عزير، والمسيح، والشمس، والقمر); وكذلك شعبة روى عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: (عيسى وأمه والعزير)، وعن عبد الله بن مسعود قال: (نزلت في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم، لا يشعرون بإسلامهم، فنَزلت هذه الآية)، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري.
وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر; والسلف في تفسيرهم، يذكرون جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى لفظ "الخبز"؟ فيريه: رغيفا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع، مع شمول الآية للنوعين؛ فالآية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه.
فكل من دعا ميتا أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها، فقد تناولته هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 57.(13/197)
ص -200-
الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن؛ ومعلوم أن هؤلاء كلهم وسائط، فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله تعالى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويلا، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلَا تَحْوِيلًا}، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.
فكل من دعا ميتا، أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيث، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويلا; وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1؛ وقد نص الأئمة أحمد وغيره، على أنه لا يجوز الاستغاثة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعازيم، والتعاويذ التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شرك.
ومما يبين حكمة الشريعة، وعظم قدرها، وأنها كما قيل: كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، وطائفة من هؤلاء، يصلون إلى الميت، ويستدبر أحدهم القبلة، ويسجد للقبر;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 6.(13/198)
ص -201-
ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله من أمثل أتباع شيخه، يقوله في شيخه.
وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يذهب يتوب: أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها؛ وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور، يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله، التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وآخرون يحجون للقبور، وطائفة صنفوا مناسك حج المشاهد، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، أحد شيوخ الإمامية، كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت، ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشائخ، وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا، فالمعنى واحد؛ ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله (، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج، قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت.
وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح،(13/199)
ص -202-
صنف كتابا أسماه "الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه؛ فإن كان هذا مستحبا، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة، مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس، ممن يقصده الملوك، والقضاة، والعلماء، والعامة، على طريق ابن سبعين، قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين بالهند، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق ودين النصارى حق.
وجاء بعض إخواننا العارفين- قبل أن يعرف حقيقتة- فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال علي دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ فقال اليهود والنصارى ليسوا كفارا فقال: لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل.
ومن هؤلاء: من قدم الحج إلى المقابر، على الحج إلى البيت ; ومنهم من يرجح الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا، كان(13/200)
ص -203-
كحجة ; ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنْزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا بالمشرق والمغرب.
ومنهم: من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه، أفضل من الحج؛ ويقول أحد المريدين، للآخر- وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق-:أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقالوا: لو بعته كنت مغلوبا. ومنهم من يقول: من طاف بقبر الشيخ سبعا، كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت، أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم القيامة لا أبيع بحجة؛ وأنكر بعض الناس ذلك. فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه، وزجره على إنكار ذلك، وهؤلاء وأمثالهم: صلاتهم، ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة الحنفاء.
وليسوا من عمار مساجد الله، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 1، فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 18.(13/201)
ص -204-
وعمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر، الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا، خوفوا مناظرهم، كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 إلى قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وآخرون قد جعلوا الميت بمنْزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمة، وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 80.
2 سورة آية: 81.(13/202)
ص -205-
وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، أو التابع لهم، الحسن الظن بهم أو غيره، يطلب من الشيخ الميت: إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان; فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى، وفيه من الكذب والجهل، ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني، ولا يروج عليه.
ويأكلون من النذور، والمنذور، وما يؤتى به إلى قبورهم، ما يدخلون به في قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1، يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك من الدين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
والله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة له، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 الآية،
وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4 الآية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 34.
2 سورة الأعراف آية: 29.
3 سورة التوبة آية: 18.
4 سورة النور آية: 36.(13/203)
ص -206-
وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 1، ولم يذكر بيوت الشرك، كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب؛ فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الصالحات.
فبيوت الأوثان، وبيوت النيران، وبيوت الكواكب، وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 2 فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف، كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3،وفي رواية:?" والصالحين".
ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك، وقد قدم بعض شيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور"؟ فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية: 40.
2 سورة الكهف آية: 21.
3 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403).(13/204)
ص -207-
العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث.
وبسبب هذا وأمثاله، ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟". وهؤلاء الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلوبه، ولو من كافر، لم يقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى.
فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر، أو منافق، ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى كنيسة، أو إلى موضع، يقال لهم: إنها تقبل النذر؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم.
حتى إن بعض أصحابنا، المباشرين لقضاء القضاة، لما بلغه أني أنهى عن ذلك، صار عنده من ذلك شبهة ووسواس، لما يعتقده من الحق فيما أذكره، ولما عنده من المعارضة، لذلك قال لبعض أصحابنا سرا: أنا جربت إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا أذهب معك إليه، لنعرف من هو قبره، فذهب إليه، فوجد مكتوبا عليه "عبد علي" فعرفوا: أنه إما رافضي، أو إسماعيلي.(13/205)
ص -208-
وكان بالبلد جماعة كثيرون، يظنون فى العبيديين أنهم أولياء الله الصالحون، فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي فيها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم.
وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر، إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بها؟ فقالوا: في الشام نذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا بأرض الشمال، نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية، كالعليقة والمنيقة ونحوهما، وأما في مصر، فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون: أن العبيديين أشراف، لما أظهروا أنهم من أهل البيت.
فقلت: هلا تذهبون إلى قبور صالحي المسلمين، مثل الليث بن سعد، والشافعي، وابن القاسم، ونفيسة، وغير هؤلاء، فقالوا: لا; فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار، والمنافقين، وبينت لهم سبب ذلك، فقلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت؛ فبسبب الرعب الذي يحصل لها،(13/206)
ص -209-
تنحل بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، فتعجبوا من ذلك؛ وهذا المعنى كثيرا ما كنت أذكره للناس، ولم أعلم أن أحدا قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء.
والمقصود هنا: أن كثيرا من الناس، يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به.
وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب، بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب، ومنهم من قال: هما قبران لنصرانيين؛ وكثير من المشاهد متنازع فيها، وعندها شياطين تضل بسببها من تضل.
ومنهم: من يرى في المنام شخصا، يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته، أو بغير صورته، كالشياطين التي تكون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام، والموتى والغائبين؛ وهذا كثير في زماننا وغيره.(13/207)
ص -210-
مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبرابي بديار مصر، بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة، لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه.
وقد يمكنه من فعل الفاحشة، حتى يقضي حوائجه، ومثل هذا كثير في شيوخ الترك الكفار، يسمونه "البوشت"، وهو: "المخنث"، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا له من ينكحه، وينصبون له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا، أو ميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله.
ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب، وكذلك الطعام، فيرونه وقد نقل إلى بيت "البوشت"، وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم؛ ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد، من جنس ما يجري عند الأصنام.(13/208)
ص -211-
وقد ثبت بطرق متعددة: أن ما يشرك به من دون الله، من صنم وقبر وغير ذلك، قد يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان: فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمر الله به، من التوحيد والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن ونحو ذلك.
والشياطين تغوي الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق أو معصية؛ وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعلم أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب وافر، من الدين، والزهد، والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة.
وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ قد جاء في اليقظة، حتى قضى ذلك المطلوب؛ وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين، الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس،(13/209)
ص -212-
فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل، وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس، يتبعونهم فيما أمر الله تعالى به ورسوله.
وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشيخ- يعني ابن البكري، الذي جوز في كتابه الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث بالله- أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس لا يعلمها إلا الله" 1،{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 2، وأظنه ذكر عنه أنه قال: علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.
وآخر من جنسه، يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا، كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع.
وكان شيخ آخر، معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنْزلة، ويقول: إنه "المهدي" الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1039) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/122).
2 سورة لقمان آية: 34.(13/210)
ص -213-
وقد عزرته تعزيرا بليغا، في يوم مشهود، بحضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة.
ومن هؤلاء: من يقول قول الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، 1 أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودا.
ومنهم من يأتي إلى قبر الميت- الرجل أو المرأة- الذي يحسن الظن لنفسه، فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا توقفني على زلة، ونحو هذا الكلام، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها.
ولما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثم إلا الله، لما استقر في نفوسهم: أنهم يجعلون مع الله إلها آخر، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وآخر يقول- معظما لمن يدعو إلى التوحيد-: قد جعل الآلهة إلها واحدا.
وهؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات؛ فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 9.(13/211)
ص -214-
بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} 1 الآية، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك.
وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3، وذكر رحمه الله آيات كثيرة.
وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4، فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه، هو التوحيد.
وهكذا تجد من فيه شبه هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك؛ وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس، معطلا مخربا، ليس له كسوة إلا من الناس، كأنه خان من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية: 41.
2 سورة آية: 36-37.
3 سورة آية: 4-5.
4 سورة الأعراف آية: 70.(13/212)
ص -215-
الخانات، والمشهد الذي بني على الميت، فعليه الستور وزينة الذهب والفضة، والرخام، والنذور تغدو، وتروح إليه.
فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟ فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به، في البيت الذي بني لله عز وجلففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لله .
وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم منه، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1 الآية، كما يجعلون لله زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم، أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني، وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله، على ما يجعل لله.
وهكذا هؤلاء الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد، أعظم مما تبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد، والجهاد في سبيل الله؛ وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 136.(13/213)
ص -216-
ويحصل له من الرقة والتواضع، والعبودية، وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس، والجمعة، وقيام الليل، وقراءة القرآن؛ فهل هذا إلا من حال المشركين المبتدعين، لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، يحصل له من الحضور، والخشوع، والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المشركين المبتدعين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين؛ بل إذا سمعوا آيات الله اشتغلوا عنها، وكرهوها، واستهزؤوا بها، وبمن يقرؤها، ما يحصل لهم به أعظم نصيب، من قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1.
وإذا سمعوا القرآن، سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، كأنهم صم وعمي، وإذا سمعوا الأبيات، حضرت قلوبهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشوب العطشان منهم ماء.
ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن، قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب.
وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 65.(13/214)
ص -217-
الضلاّل، فقلت: كذب، كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها من حضور الشيطان، ما قد فصل في غير هذا الموضع.
والذين يجعلون دعاء الموتى، من الأنبياء والأئمة والشيوخ، أفضل من دعاء الله، أنواع متعددة، منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات، حكاية: أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية: أن بعض المأسورين في بلاد العدو، دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشائخ الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية: أن بعض الشيوخ، قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة، فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب.
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء يتمثل لكثير منهم، صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيستنصر به أحدهم، فيقول: يا فلان؛ وقد قال الله تعالى للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ(13/215)
ص -218-
ذِكْراً} 1
ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه ويصدق، ولا يكذب؛ فيكون شيخه عنده في صدره أعظم من الله.
فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء، بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته في كل ما جاء به؟
وأيضا: فإن هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه، من الصحيح والضعيف، والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2.
وأما أولئك الضلاّل، أشباه المشركين والنصارى، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذب عليه، وإما أن يكون غلطا منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 200.
2 سورة الأعراف آية: 3.(13/216)
ص -219-
معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه كما يفعل النصارى.
وكما فعل هذا الضال، أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وبالميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحدا، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك، حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله، لا منه، فالمستغيث به مستغيثا بالله، ثم جعل الاستغاثة بالله بكل ميت، من نبي وصالح جائزة.
واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية، التي أدخل فيها من الشرك والضلال، ما لا يعلمه إلا ذو الجلال، بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة أن يدعو الله، وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته؛ ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة، حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك، ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة، وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية، لا تثبت بمثال جزئي، لا سيما عند الاختلاف والتباين.
وهذا كمن يريد أن يثبت جميع الملاهي لكل أحد، والتقرب بها إلى الله، بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها، في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، مع كون وجهه(13/217)
ص -220-
كان مصروفا إلى الحائط، لا إليهما، ويحتج على استماع كل قول، بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1، ولا يدري أن القول هنا، هو القرآن، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} 2، وإلا فمسلم لا يسوغ استماع كل قول.
وقد نهى الله عز وجلعن الجلوس مع الخائضين في آياتة، وخوضهم نوع من القول، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 3 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 4،وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} 5 الآية.
وهذا الضال يجوز عنده أن يستغاث بالرسول، في كل ما يستغاث بالله، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله، في طلب الغوث؛ وهذا عنده ثابت للصالحين، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته، ثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم، لا ينقص جاهه.
فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته بالدعاء، مستغيثا به؛ وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازا، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث هو المسؤول المطلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 17.
2 سورة المؤمنون آية: 68.
3 سورة الأنعام آية: 68.
4 سورة الفرقان آية: 72.
5 سورة القصص آية: 55.(13/218)
ص -221-
منه، لا المسؤول به.
الثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته، كان توسلا بذاته، لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك؛ وهذا غلط، لكنه يوافقه طائفة من الناس، بخلاف الأول، فإني ما علمت أحدا وافقه عليه.
الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته؛ وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكن أخطأ في التسوية، بين المحيا والممات.
وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه; والشيخ محمد بن النعمان، له كتاب المستغيثين بالنبي عليه السلام، في اليقظة والمنام، وهذا الرجل قد نقل منه، فيما يغلب على ظني.
وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكنهم ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم، في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه(13/219)
ص -222-
في الشدائد، ويدعوه.
وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم فضل وعلم وزهد، إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغات به، وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه، ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام.
لكن هؤلاء كلهم، ليس منهم من يعد نفي هذا والنهي عنه كفرا، إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال؛ فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول، ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه، لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين، الأولين، ولا الآخرين.
وقد طاف بجوابه على علماء مصر، ليوافقه واحد منهم، فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته، فما خالفوه؛ وقد كان بعض الناس يوافقه، على جواز التوسل بالنبي الميت، لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به، ولا جعل هذا من السب؛ بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به، بمعنى أنه يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.(13/220)
ص -223-
وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المخلوقينبهذا المعنى لا تجوز، مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع، قاموا في ذلك قياما عظيما، واستغاثوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس وعقدوا مجلسا عظيما، ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيه قصدهم، وظهر فيه الحق لمن يعاونهم من الأعيان، وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببا لظهور الحق، مع الذي عادوه، وقاموا عليه، وسببا لانقلاب الخلق إليه، وكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكائد شيطانهم.
وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله، هي طريقة أهل البدع الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين، وكذلك الروافض الذين كفروا من خالفهم من الصحابة وجمهور المؤمنين، حتى كفروا أبا بكر وعمر وعثمان، ومن والاهم، وأئمة السنة والجماعة.
وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون فيمن خرج عنها ولو ظلمهم، كما قال(13/221)
ص -224-
تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 1 الآية، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2 الآية.
فلهذا كان أهل العلم والسنة، لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الكذب والزنى حرام لحق الله، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.
وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها؛ فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ولهذا لما استحل طائفة، من الصحابة والتابعين- كقدامة بن مظعون وأصحابه- الخمر، وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة، كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة التي عرضت لهم، حتى يتبين لهم الحق، فإذا أصروا على الجحود كفروا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 135.
2 سورة المائدة آية: 8.(13/222)
ص -225-
وقد ثبت في الصحيحين، حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر فرد ما أخذه منه، وأمر البحر فرد ما أخذه منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له". فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك، لن يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلا، لم يتبين له الحق، بيانا لا يعذر بمخالفته، فغفر الله له.
ولهذا كنت أقول للجهمية، من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم، وقضاتهم، وشيوخهم، وأمرائهم.
وهو قد احتج بحديث الأعمى، الذي قال: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة" 1، وهذا الحديث لا حجة فيه، لوجهين: أحدهما: أنه ليس هو استغاثة، بل توجه به. والثاني: أنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقال في آخره: اللهم فشفعه في، فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).(13/223)
ص -226-
وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وكل ذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله تعالى، وأن يسأله قبول شفاعته، وقوله: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، خطاب لما ظهر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه في قلبه، ويخاطبه، وهذا كثير.
وما ذكره من توسل آدم وحكاية المنصور، فجوابها من وجهين: أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك. والثاني: أنه لو دل على التوسل بذاته، لا يدل على الاستغاثة به. وأما اشتكاء البعير إليه، فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس يستغيثون به في حياته، كما يستغيثون به يوم القيامة؛ وقد قلنا إنه إذا طلب ما يليق بمنصبه، فهذا لا نزاع فيه؛ والطلب منه في حياته، والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه، لم ينازع فيه أحد. فما ذكره لا يدل على مورد النِّزاع.
ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة، ومعناها العام، فجعل يشبه به، وهذا إنما يليق بمن: قال لا يستغيث به أحد حيا،(13/224)
ص -227-
ولا ميتا في شيء من الأشياء، ومعلوم أن العاقل لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلا عن الصالحين، فضلا عن الأنبياء والمرسلين، فضلا عن سيد الأولين والآخرين؛ فإنه ما من أحد إلا يمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء، فكيف أفضل الخلق، وأكرمهم على الله.
ولكن النفي عاد إلى شيئين، إلى الاستغاثة به بعد الموت، وأن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ وأما قول هؤلاء الجهال، فهو يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين؛ ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو من باب الشرك بالله، الذي هو الكفر، الذي لا يغفره الله تعالى.
فإن الله سبحانه قال في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية، وقد قال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم.
وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة، في كتب الحديث، والتفسير، وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه، وجماعة من أهل الحديث، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} 2 الآية؛ فيقول أهل الضلال: هذا يقوله هو نفسه، وأما نحن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة نوح آية: 23.
2 سورة الكهف آية: 110.(13/225)
ص -228-
فليس لنا أن نقول: هذا بشر، بل نقول كما قال فلان وفلان، ومن زعم أن محمدا بشر كله، فقد كفر.
وهذا يقوله قوم منهم، وهو تشبه بقول النصارى في المسيح، يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم: اسم يتناول اللاهوت والناسوت، الإلهية والبشرية جميعا؛ وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة، يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت، في الأنبياء والصالحين، كما تقول النصارى في المسيح.
ونحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته، أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، بلفظ الاستغاثة، ولا غيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك؛ بل نعلم: أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه.
ولهذا ما بينت هذه المسألة قط، لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام؛ وكان بعض أكابر الشيوخ- العارفين- من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين.(13/226)
ص -229-
وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدّعون الإسلام، ويدعون الأموات، ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويفزعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، والدعاء به عند قبره، بخلاف عبادتهم لله، ودعائهم إياه، فإنهم يفعلون ذلك في كثير من الأوقات، على وجه التكلف والعادة.
حتى إن العدو الخارج من الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكمو من الضرر
فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، والحكمة كانت لله في ذلك؛ ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله.
فلما كان بعد ذلك، جعلنا نأمر الناس بإخلاص(13/227)
ص -230-
الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم، نصرا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن قبل ذلك.
فإن الله ينصر رسله، والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان يقول: "يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث"،وفي لفظ "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 2.
وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك؛ ومن لم يقل من عقلائهم، فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، أو غير ذلك.
فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده بالشكوى: أن يشكيه، فيزيل ذلك الضرر عنه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 9.
2 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/42).(13/228)
ص -231-
وقد يقول مع ذلك: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت، أو الحي الغائب، عالما بذنوب العباد وجزئياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت. ثم منهم من يطلق سؤاله والشكوى، ظانا أنه يقضي حاجته، كما يخاطب بذلك ربه، بناء على أنه يمكنه ذلك بطريق من الطرق، وأنه وسيلة وسبب، وإن كان السائل لا يعلم وجه ذلك.
وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته، أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما يسأل ويشفع لما سأله الصحابة رضي الله عنهم الاستسسقاء وغير ذلك، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة؛ ولا يعلمون أن سؤال الميت أو الغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب منه بعد موته من الأمور، ما كان يطلب منه في حياته، والله أعلم، انتهى ملخصا.
فتأمل رحمك الله، كلامه ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف دين الإسلام، الذي بعث الله به جميع رسله، وأنزل به جميع كتبه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً(13/229)
ص -232-
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3.
ثم تأمل ما ذكره الشيخ، من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، لمن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ على ذلك، وبين لهم أن هذا هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبهوا وعرفوا أن ما هم عليه شرك وضلال، وانقادوا للحق، وأن بعضهم لما بين له ذلك، قال: هذا أحسن ما بينته لنا، يتبين لك غربة الإسلام؛ وهذا مصداق ما تواترت به الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 4 الحديث.
وتأمل أيضا: ما وقع من هذا الرجل، وتجويزه الاستغاثة بغير الله، وأنه يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث به الله، واحتجاجه على ذلك بمتشابه القرآن والسنة، وتكفير من قال: إنه لا يستغاث إلا بالله في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، من كشف الشدائد وإنزال الفوائد.
ثم تأمل رد الشيخ رحمه الله عليه، بالآيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1سورة النحل آية: 36.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 سورة الزخرف آية: 45.
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89).(13/230)
ص -233-
المحكمات، والبراهين القاطعات، من الأحاديث الصريحات، يتبين لك الأمر إن هداك الله، وتنْزاح عنك الشبهة التي أدخلت كثيرا من الناس النار، وهي الاغترار بما عليه الآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد.
ومن أعجب ما ذكره الشيخ رحمه الله، عن هؤلاء المشركين في زمانه: أن أحدهم يسجد للقبر ويستدبر القبلة، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة؛ قال رحمه الله في هذا: يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع. قلت: كما يشاهد اليوم في زماننا، يفعل في مشهد علي، وغيره من المشاهد، والمساجد، المبنية على القبور، ويجدون عند عبادة القبور، من الرقة، والخشوع، والبكاء، أعظم مما يجدون في بيوت الله.
بل إذا قام أحدهم في الصلاة بين يدي الله، نقرها نقر الغراب، ومنهم من يحلف بالله اليمين الغموس كاذبا، فإذا قيل له: احلف بتربة فلان، أو بفلان، أبى أن يحلف كاذبا، فيكون فلان، أو تربته، والشيخ فلان، أعظم في صدره من الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظمها من مصيبة ! تالله إنها فتنة عمت فأعمت، وربت على القلوب والأسماع، فأصمت.(13/231)
ص -234-
وتأمل أيضا رحمك الله، قول الشيخ رحمه الله: وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، والشيخ محمد بن النعمان، وأن هؤلاء وأشباههم، ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام.
فإن الشيخ يحيى الصرصري الحنبلي، في شعره قطعة من دعوة الرسل، والاستغاثة بهم، وكذلك غيره من المصنفين في الزيارة؛ فإياك أن تغتر بذلك، وتقلدهم في ذلك، فإنه ليس لهم في ذلك مستند صحيح، لا من كتاب ولا سنة، ولا نقل عن عالم مرضي، بل قال الشيخ رحمه الله: عادة جروا عليها، فلا يقتدى بهم في ذلك؛ إنما يقتدى في الدين بكلام رب العالمين، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين.
فهل تجد أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، واستغاث به، أو استشفع به إلى ربه، أو قال: يا رسول الله اشفع لي إلى ربك، أو اقض ديني، أو فرج كربتي، أو انصرني، أو اغفر لي ذنبي؟ بل جردوا التوحيد لله تعالى، وحموا جانبه، ولهذا كان "عبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف، فيقول: السلام عليك يا رسول الله. ثم(13/232)