ص -15- ... أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد. فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر. وهذه القاعدة: من أن العقود تصح، بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها العامة؛ ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصاً. والمنصف لا يعدل عنه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا وقف إنسان قِدْرا أو رحى، هل ذلك وقف عام ينتفع به، كالمساجد والمقبرة؟
فأجاب: إن ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق، كان ذلك وقفاً عاماً ينتفع به، وإن قيد ذلك على شخص أو جهة، تقيد به.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أنه يصرف فيما يناسب ذلك، مثل أن يشترى به قِدْر ونحوه، من نظيره من الوجه المذكور. فإن كان ذلك وصية لا وقفاً، فيعمر منها الماعون، وما فضل(8/12)
ص -16- ... للورثة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن أوقاف في يد من لا يصرفها في مصارفها؟
فأجاب: والأسبال والأوقاف، يجب صرفها إلى أهلها؛ وإن كانت في يد من لا يصرفها أخذت منه، وصرفت إلى من يستحقها. والأرض المنذورة للمساجد، لعمارتها أو ضيوفها، أو المساكين فيها، فهي على وقفها ولا يغيرها الوارث، ويلزمه أن يؤديها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها، يصرفونها في مصارفها.
وسئل: عن وقف على مسجد لم يبين مصرفه؟
فأجاب: الوقف الذي على المسجد، ولا بين مصرفه، فإنه يصرف إلى إمامه ومؤذنه وعمارته وما ينوبه، ويجعل على الركية منه شيء.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الذي وقف على المسجد بعض أملاكه، فإن عين الصائمين، أو الإمام أو المؤذن، تعين ما عينه الواقف من الجهات؛ فإن لم يعين جهة، فالوقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن، والقيم، وكذا عمارته كتطيين سطحه، وإبدال خشبة تنكسر فيه، ونحو ذلك.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، رحمه الله: عن ريع(8/13)
ص -17- ... عقار وقف، انتقل من طبقة إلى طبقة، أرضاً أو نخلاً من مزارعة، أو مساقاة أو أجرة، بعد ظهور الثمرة، ومتى تستحق الطبقة الثانية لذلك؟ وهل بين من كان يستحقها بوصف، أو مقابلة عمل فرق؟
فأجاب: الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل، في أنه يتجدد حقه من الوقف بوضعه لا قبله، من ثمر وزرع، كتجدد حق المشتري؛ هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنه إذا بيعت أرض وفيها زرع كبر ونحوه، أنه للبائع ما لم يشترطه مشتر، وكذا إذا بيع نخل قد تشقق طلعه، أنه للبائع ما لم يشترطه المشتري. فهكذا حكم الحمل المستحق للوقف بعد وضعه; قال في المغني: ومن وقف على أولاده، أو أولاد غيره وفيهم حمل، لم يستحق شيئاً قبل انفصاله؛ قال أحمد في رواية جعفر بن محمد، فيمن وقف نخلاً على قوم وما توالدوا، ثم ولد مولود: فإن كانت النخل قد أبرت، فليس له فيها شيء، وهو للأول، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم.
وإنما قال ذلك، لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه، فيتبعه حصته من الثمر، كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل، فكانت للأول، لأن الأصل كان كله له فاستحق ثمرته، كما(8/14)
ص -18- ... لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود منها شيئاً كالمشتري; وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئاً، ويستحق مما ظهر بعد ولادته. وإن كان الوقف أرضاً فيها زرع يستحقه البائع، فهو للأول؛ وإن كان مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه، لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل، كتجدد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه.
وهذا التعليل الذي علل به، ظاهر في أن حكم الطبقة الثانية حكم الحمل، وهو واضح - ولله الحمد -؛ قال في الإنصاف: تجدد حق الحمل بوضعه من ثمر وزرع، كمشتر؛ نقله المروذي، وجزم به في المغني والشرح والحارثي، وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد، وقدمه في الفروع، ونقل جعفر: يستحق من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يُؤبَّر، فإن بلغ الزرع الحصاد، وأُبِّر النخل لم يستحق شيئاً - إلى أن قال - قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى ثغر موقوف عليه فيه، أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب، قال: قياسه من نزل في مدرسة ونحوه.
قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة، كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عاماً، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة، من ريع الوقف في السنة،(8/15)
ص -19- ... لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهراً مثلاً، فيأخذ جميع مغل الوقف، ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة، فلا يستحق شيئاً، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. انتهى. قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله، وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ، وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم. انتهى.
قال في القواعد الفقهية: واعلم أن ما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه هاهنا، إنما هو إذا كان استحقاقه بصفة محضة، مثل كونه ولداً أو فقيراً ونحوه؛ أما إن كان استحقاقه الوقف عوضاً عن عمل، وكان المغل كالأجرة، فيقسط على جميع السنة، كالمقاسمة القائمة مقام الأجرة، حتى من مات في أثنائه استحق بقسطه، وإن لم يكن الزرع قد وجد؛ وبنحو ذلك أفتى الشيخ تقي الدين. انتهى.
فظهر من كلامهم: أن من كان استحقاقه بصفة، ككونه ولداً أو فقيراً، أو نحو ذلك، أن حكمه في استحقاقه من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشجر الموقوف حكم المشتري؛ هذا هو المعمول به في المذهب. وأما من كان استحقاقه في مقابلة عمل، ففيه الخلاف كما تقدم; فصاحب الفروع قاس هذه على المسألة التي قبلها، فقال: وقياسه من نزل في مدرسة ونحوه، وتبعه في الإقناع وغيره; وكلام الشيخ تقي الدين، وابن عبد القوي، وابن(8/16)
ص -20- ... رجب، بخلاف ذلك، والعمل به أولى إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان الوقف مؤجراً، فالذي ظهر لنا من كلامهم، أن الأجرة تقسط على جميع السنة. فمن مات من المستحقين في أثناء السنة، فله من الأجرة بقدر ما مضى من السنة، وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب، رحمه الله، في أثناء كلام له، قال: لا نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثاني، ولم تنفسخ إجارته، أنهم يستحقون الأجرة من يوم الانتقال. انتهى.
فهذا على القول بأنها لا تنفسخ بموت المؤجر من الطبقة الأولى، وعلى القول الثاني، الذي هو الصحيح عند ابن رجب، وصححه الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف: أنها تنفسخ; فإن المنافع تنتقل للطبقة الثانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم.
قال ابن رجب أيضاً، في أثناء كلام له: ومن أمثلة ذلك: الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأول، أو من آجروه، ثم انتقل إلى البطن الثاني والزرع قائم، فإن قيل الإجارة لا تنفسخ، وللبطن الثاني حصتهم من الأجرة، فالزرع مبقى لمالكه بالأجرة السابقة. وإن قيل بالانفساخ، وهو المذهب الصحيح، فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدة، إذا كان بقاؤه بغير تفريط من المستأجر، فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه؛ وقد نص عليه الإمام أحمد في(8/17)
ص -21- ... رواية مهنا، في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عن ثمرة وقفت على إمام مسجد، ومات الإمام قبل ظهور الثمرة؟
فأجاب: ذكر ابن رجب، رحمه الله، في قواعده، أن الثمرة تقسط على جميع السنة، فيستحق كل منهما بقسطه; قال: وبه أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقال به ابن عبد القوي; وعند صاحب الفروع: أن حكمه حكم المشتري، في أن الثاني إن كان إماماً قبل ظهور الثمرة، ثم ظهرت في مدته، فهو يستحقها كلها; وإن كان بعد ظهورها فهي للأول دون الثاني، وتبعه في الإقناع وغيره; والعمل بالقول الأول أولى إن شاء الله تعالى، لأن القول الثاني يفضي إلى أنه قد يصلي إمام شهراً، وتخرج الثمرة في مدته، ثم يزول بعد ذلك، فيستحق مغل الوقف، ويصلي غيره سائر العام، ولا يستحق شيئاً من المغل، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن رجل وقف أضحية وقربة، هل يكتفي بجلد الأضحية؟
فأجاب: إذا شرط في غلة الوقف أضحية وقربة، فالذي أرى أنه يلزم شراء قربة، فلا يكتفي بجلد الأضحية.(8/18)
ص -22- ... وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على من يقوم مقامه؟
فأجاب: هو على ظاهره، إن كان مقامه علماً وتدريساً، أو مقامه أنه كهف لأرامل عشيرته، أو أنه في محل ضيف ومقصد، أو نحو ذلك، أو تعليم قرآن، أو غير ذلك من المقامات، مثل نزوله في بيت آبائه وأجداده لمن يقصده، وقيامه بمسألة مثلهم، أو نحو ذلك من المقامات المحمودة التي يجب أن يوجد بعده من يقوم مقامه فيها، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجل وقف على ضيف قصراً فيه أولاده؟
فأجاب: هذا الوقف له سبب ومقتضى: فأما السبب فهو: إعانة ساكن القصر من ذرية الواقف على الضيف، والمقتضى: ورود الضيف. والسبب له ركنان: أحد ركنيه: تعيين المحل، والثاني: القرابة، فإذا تخلف أحد ركنيه وهو خلو المحل من الساكن، تعين الركن الثاني مع وجود المقتضى؛ فإذا كان الضيف يرد على بعض الأولاد دون بعض، تعين الصرف عليه دون من لا يرد عليه الضيف.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتاب وقف في بلد؟(8/19)
ص -23- ... فأجاب: وأما إذا شرط واقف الكتب ونحوها، لا تخرج من بلد سماه، فلا أرى جواز نقلها من تلك البلد، ما دام في البلد من ينتفع بها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: من أحق بولاية الوقف؟
فأجاب: الأحق من أوصى إليه الواقف، وعينه ناظراً على الوقف، فإن لم يعين ناظراً، فإن كان الوقف على عدد محصور، كقرابته مثلاً، فكل إنسان ناظر على حصته. وإن كان الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحو ذلك، فالنظر في ذلك إلى الحاكم، ويستنيب في ذلك من هو أصلح، ولا يجعل نيابة الوقف بيد من لا يصلح للولاية؛ وليس لأحد منهم أن يفعل في الوقف ما يضر به، من أي أنواع الضرر.
وسئل: عن الوقف على المسجد، هل القيام والنظر وما يتعلق به على الإمام؟
فأجاب: هذه المسألة وجوابها يعلم مما تقدم، وذلك إذا عرفت أن ولايته إلى الحاكم: فإن كان الحاكم جعل ولايته إلى إمام المسجد فذلك إليه، وإن جعله الحاكم إلى غير الإمام فليس للإمام الاعتراض على نائب الحاكم، فإن فعل ما لا يجوز رفع أمره إلى الحاكم. ولا ينبغي للإمام ولا(8/20)
ص -24- ... غيره السكوت، إذا رأى من النائب خللاً وتضييعاً للوقف.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: من وقف وقفاً وجعل للناظر وضعه فيما يراه أنفع، والمراد فيما يراه أكثر ثواباً، هل يجوز للناظر أو يجب أو يستحب له صرف شيء من منافع الوقف، في قضاء دين الواقف بعد موته؟
فأجاب: لا يجب صرف شيء من غلة الوقف في قضاء دين الواقف، حياً كان أو ميتاً، بل لا يستحب، بل لا يجوز; قال الخرقي، رحمه الله: ولا يجوز أن يرجع إليه - أي الواقف - شيء من منافعه؛ قال في المغني - بعد ذكره كلام الخرقي -: وجملة ذلك: أن من وقف وقفاً صحيحاً، فقد صارت منافعه للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها، إلا أن يكون وقف شيئاً للمسلمين، فيدخل في جملتهم: مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو شيئاً يعم المسلمين فيكون كأحدهم، لا نعلم في هذا كله خلافاً. ثم قال الخرقي بعد كلامه: إلا أن يشترط الأكل منه، فيكون له ما شرط؛ وصحة هذا الشرط من مفردات المذهب، وأكثر العلماء يقولون بفساد الوقف المشروط فيه ذلك.
وقولهم: لا يجوز للواقف أن ينتفع بشيء منه، عام، وقضاء دين الميت بعد موته فيه نفع له، وأظنه لو كان حياً واستفتاكم، لم تجوزوا له ذلك؛ فما الفرق بين الحياة(8/21)
ص -25- ... والموت؟ وما الفرق بينه وبين الناظر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن عمار الوقف... إلخ؟
فأجاب: عمار الوقف مقدم على مستحقه، ويعمر من الغلة إلا إن كان لأهل البلد، عرف أنه يعمره الفلاح أو شيء سهل، والعادة أنه ما يخصه شيء من ذلك؛ فكذلك إذا صار لرجل نخلة أو نخلتان في نخل، وليستا بسبل، وقال: ما أؤجرهما ولا أسقيهما; وتذكر أنك سألت الشيخ، عفا الله عنه، وقال: ما يجبر مالكهما على إجارتهما ولا سقيهما؛ فهو على ما ذكر، رحمه الله، إلا إن فعل مالكهما مضرة، كدخوله على أهل النخل أو سقيهما وتردده لذلك، لأن هذا يعرف أن ذلك يضر بصاحب النخل الذي فالحه.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن بيت، وقف في رغبته شيء مقدر، وعمر فيه بعض الأولياء من الورثة، وكان ساكناً فيه، ثم نازعه بعض الورثة، هل يرجع بما أنفقه على الوقف؟
فأجاب: يرجع، لأنه في العادة لا ينفق إلا لأجل السكنى.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وإذا احتاج الملْك الذي فيه الصّبْرة إلى تحصيل ماء، أو إصلاح مسيل، أو سد حائط، أو غير ذلك مما يراد لحفظ الأصل، فهو على(8/22)
ص -26- ... المالك، ولا يبخس المستحق شيئاً لذلك، لأن ما كان لحفظ الأصل فمؤنته على المالك، وهذا الأصل مملوك، بدليل جواز بيعه، والشفعة بالشركة فيه إذا بيع منه شقص؛ وقد عرفت أن الوقف لا يجوز بيعه ولا يشفع بشركته. نعم لو كان الوقف نخلات معينة، أو موضعاً من أرض معيناً، خصه من مؤنة تحصيل الماء، وتصليح المسيل ونحوهما بقدر نسبته إلى العقار، لمصادفة الوقف عينه، وهذا الموقوف أصله.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله: عن أرض سبل بعض السنين ما تزرع، وبعض السنين تزرع، هل يجوز غرسها؟ ويجعل فيها قيمتها من العيش، كل سنة إجارة لها؟
فأجاب: يجوز له أن يغرسها، ويجعل فيها كل سنة شيئاً معلوماً من العيش، لأجل السبالة ما دام النخل راكداً فيها، ولو دون الشيء الذي قدره مسبلها الأول، على نظر الولي.
قال الشيخ إبراهيم بن عبيد: لما وقعت الفتنة، وسفكت الدماء، واستحلوا الأموال، حاذر زيد على وقف أبيه أن يؤخذ، أو يقطع نخله، فنظرنا المصلحة في بيع شقص من الوقف، يكافي عن الوقف من أخذ الكل، وأجزنا له ذلك لأجل المصلحة الراجحة، فباع ثمن الوقف، ودفع بالثمن عن الوقف المذكور.(8/23)
ص -27- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قسمة الوقف؟
فأجاب: قسمة الوقف يعمل فيها بما هو أصلح للوقف: فإن كان الأصلح قسمته قسم، وإلا ترك بحاله؛ ولا يجوز تغيير الوقف عن حاله إلا لمصلحة. ولو أراد بعضهم القسمة من غير مصلحة منع من ذلك.
وسئل: عن أرض في غلتها آصع، وتعطلت، وطلب بعض الورثة قسمتها؟
فأجاب: أما الأرض التي جعل في غلتها آصع وهي متعطلة، وطلب أهلها قسمتها، فلا مانع من القسمة والحالة هذه؛ فإذا اتفقوا على القسمة قسمت بينهم، والسبالة قادمة في غلة الأرض المذكورة، فإن حصل في القسمة ضرر، وامتنع بعضهم لم يجبر، وكذا إن كان فيها ضرر على السبل.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الأرض يجعل فيها أصواع... إلخ؟
فأجاب: الأرض التي يجعل فيها أصواع معلومة، إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء؛ وكل سنة لها حكمها.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الوقف إذا كان(8/24)
ص -28- ... جزءاً مشاعاً معلوماً، كالربع أو الخمس مثلاً، جاز أن يقسم؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما إذا كان الوقف مقدماً في غلة هذا النخل، فلا يقسم إلا أن يكون قسم مهايأة غير لازم، كأن يكون لهؤلاء ما فضل بعد الوقف من غلة هذه السنة مثلاً، ويكون للآخرين ما فضل عن غلة السنة بعدها. ولو طلب أحد الشركاء المساقاة عليه أجيبوا، ويقسم ما فضل بعد الوقف على الورثة بحسب سهامهم.
وأجاب أيضاً: وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة ظاهر، وأما عدم جوازها بالتراضي فمشكل; فأقول: نص العلماء على المنع من قسمة مثل هذا، إذا كان الوقف شيئاً مقدراً من الغلة؛ ودليل المنع ظاهر في كلامهم، مما سأشير إليه بعد، إن شاء الله تعالى. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل، حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الوقف متعذر لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة، وباقيه طلق، فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فسيستغرق الأصل.
وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية، فأقول لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت أحداً(8/25)
ص -29- ... من العلماء سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضاً قياس مع الفارق؛ فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين، بخلاف الخراجية فإنه يجب فيها العشر والخراج، ففارقها بذلك; والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه لا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال; فلذلك قال العلماء: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص، إلا إذا تغير السبب؛ ففارقت مسألتنا من هاتين الجهتين أيضاً؛ فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره.
وقولكم: كما منعوا بيع أرض العنوة لموقفها، أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا.
وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة، على ما استظهر صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع، فقال: وقال في القواعد، هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر. والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعاً على الأصح؛ وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما(8/26)
ص -30- ... إذا كان وقفاً على جهتين لا على جهة واحدة؛ صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى.
إذا عرفت أن القول بالجواز، الذي هو خلاف الأصح في هذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضاً من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة نصيب الوقف لهم. وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ، أقول: نعم ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فلأن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل، لتطرق النقصان على الغلة غالباً، من باب أولى.
وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه، فلا يكونوا شركاء متشاكسين، أقول: تقليل الوقف وأتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه. فقد ظهر من هذا الجواب بعض ما أخذ المانعون، فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم. وأما ما ذكرته عن الإقناع، في قسمة المهايأة، فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة شيخ الإسلام، وقال(8/27)
ص -31- ... في الإنصاف: إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزاً على الصحيح من المذهب، قدمه في المغني والشرح، والنظم والرعايتين، والحاوي الصغير والفروع وغيرهم; ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى; وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق.
وأجاب أيضاً: وإذا كان قسم نخل المغارسة أصلح للوقف، قسم.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا اقتسموا وجعلوا للوقف قطعة تفي، ثم تعطلت، فالذي تقتضيه قواعد الفقهاء: أن الإفراز للوقف المذكور الموقوف لا يصح، لوجوب العمل بنص الواقف وتعيينه؛ وهذا تَحيّل على إبطال الوقف، أو تقليله بتحويله عن جميع الملك، إلى جزء يسير منه، يتلف بتلفه، ويضعف بضعفه; ومن المعلوم ضرورة، أن غرض الواقف جعله في غلة جميع الملك، وبقاؤه على الدوام، وعبارة الفقهاء طافحة بمنع التصرف في الوقف، ممن له الولاية عليه، بما لاحظَّ أو مصلحة للوقف فيه، أو بما يقلل الرغبة فيه، ولو مآلاً.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وأما حصر الأضاحي المقدمة في جميع الملك، في جانب منه معين،(8/28)
ص -32- ... أو نخلات معينة، فلا ينبغي هذا، لأن المعين قد ينقطع نفعه وغيره باق.
قال الشيخ علي بن عيسى: هذا صحيح، وهو المفتى به عندنا.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: الذي أوصى في ثلث ماله بثلاث أضاحي، ثم أفرز له الورثة شقصاً قدر عشير الثلث، وهو وقت الإفراز يفي بالأضاحي، والآن لا يفي بواحدة، ثم طلب ولي الأضاحي إكمالها من ثلث مال الموصي، فهذا الإفراز ظلم من الورثة، لا يجوز للورثة حيازتها في بعض الثلث، لأن ظاهر لفظ الموصي تقديم الأضاحي، والخارج من الثلث بعدها، ولا يجوز العدول عن نصه.
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: الدليل على بطلان أوقاف كثير من أهل الوقف على الذين يرثونهم، أمور كثيرة من الأصول والفروع، ويعرف ذلك بمعرفة الوقف المشروع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في أنواع الصدقة: أن يتصدق الإنسان ببعض ماله في الطرق التي أمر الله بها، مريداً بذلك وجه الله والدار الآخرة، ويجعلها صدقة جارية صح الأصل، مع الانتفاع(8/29)
ص -33- ... بالفرع، كما فعل عمر وطلحة وغيرهما.
فإذا عرفت أن الوقف بالإجماع ما قصد به القربة، فهنا قاعدة مجمع عليها، وهي: أنه لا يجوز لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشرع شيئاً من الواجبات، ولا من المستحبات، بل يكون ذلك العمل بدعة وضلالة يضر ولا ينفع؛ والدليل ليس على النافي، بل على المثبت، فإذا لم يرد دليل عن الشارع أن هذا الوقف مشروع، فالأصل مع النافي، وهو أنه لا دين إلا ما شرعه الله ورسوله.
يوضح هذا: أن العباس بن عتبة، أوصى بوصايا عند موته، فسأل الوالي القاسم بن محمد، فقال: انظر ما وافق الحق منها فأمضه، وما لا فرُدَّه، فإن عائشة حدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 1. فإذا كان بعض مشاهير التابعين، يرد من وصاياه كل ما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما حدث بعد ذلك؟ كما لو لم نجد نصاً في المسألة.
وأما النصوص على بطلان هذا الوقف، فمن وجوه: منها ما ثبت أن رجلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق ستة أعبد عن دُبُر، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم، وجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال فيه قولاً شديداً; وفي رواية أنه قال: "لو حضرته، لم يدفن في مقابر المسلمين" 2؛ وفي هذا الحديث عبرة عظيمة، وذلك أن فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/180, 6/240, 6/256).
2 أبو داود: العتق (3958).(8/30)
ص -34- ... هذا خير من أوقافهم بكثير، وأقرب إلى الحق.
ومثله من الأوقاف: أن يكون عند الرجل العقار، الذي لا مال له غيره، فيقفه على مسجد، ووجه بر لله تعالى، ويستثني غلته مدة حياته، وليس فيه من المخالفة إلا الزيادة على الثلث؛ وأوقافنا هذه يقف الرجل عقاراته التي هي غالب أمواله، أو لا مال له غيرها، ويستثني غلتها، ويزيد على فعل ذلك الرجل، بأن مقصده تعدي حدود الله، وعدم الرضى بها؛ فأين هذا من هذا؟ فلو قدرنا أن هذه الأوقاف كوقف طلحة، فهذا الحديث صريح: أنه لا يجوز للحاكم أن يجيز منها ما زاد على الثلث، فكيف وهي باطلة من وجوه كثيرة.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد: "أن بعض الصحابة طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فقال عمر: إني أظن الشيطان قذف في قلبك أنك تموت عن قريب، وأيم الله لتراجعهن، أو لأورثهن من مالك، ثم آمر بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال". فليتدبر المؤمن الخالي عن التعصب والهوى هذا الحديث، ويعرف الفرق بينه وبين مسألتنا.
ومعلوم: أن الطلاق حلال بالإجماع، لكن لما ظن عمر أن مراده حرمان النساء، وحجر المال على بنيه، قال فيه هذا القول الغليظ؛ فكيف يجعل هذا الأمر الذي من(8/31)
ص -35- ... فعله، أمر عمر برجمه كقبر أبي رغال أمراً مشروعاً، ويجوز الوقف فيه، ويثاب على حرمان النساء وغيرهن؟! ويتحيل بهذا بطلب الصدقة والقربة; وإنما هذه الأوقاف تشابه من قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة آية: 49] تحيلاً على ترك الجهاد بالورع؛ وهؤلاء تحيلوا على تعدي الحدود بالوقف، ولا شك أن هذا من أنواع النفاق.
وأما كلام الأئمة: فقال في الشرح الكبير: إن الميموني سأل أحمد عن بعض مسائل الوقف، فقال: ما أعرف الوقف إلا ما ابتغي به وجه الله; وقال أيضاً: قال أحمد أحب إلي أن لا يقف ماله، ويدعه على فرائض الله؛ ومعلوم: أن توقيف المال لو كان صحيحاً عند أحمد على الورثة، لكان أحب إليه من تركه، لكونه قربة مطلوبة للشارع.
وأما كلام المتأخرين: فقال في الشرح أيضاً: إذا وقف ثلثه في مرضه على بعض ورثته، فروي عن أحمد عدم الجواز. والثانية: يجوز، واحتج بأن وقف عمر قال: "تليه حفصة ما عاشت، لا جناح على من وليه إن أكل". ثم رجح الشارح الرواية الأولى، قال: وأما خبر عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، وليس ذلك وقفاً عليها، فلا يكون ذلك وارداً في محل النّزاع.(8/32)
ص -36- ... فعله، أمر عمر برجمه كقبر أبي رغال أمراً مشروعاً، ويجوز الوقف فيه، ويثاب على حرمان النساء وغيرهن؟! ويتحيل بهذا بطلب الصدقة والقربة; وإنما هذه الأوقاف تشابه من قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة آية: 49] تحيلاً على ترك الجهاد بالورع؛ وهؤلاء تحيلوا على تعدي الحدود بالوقف، ولا شك أن هذا من أنواع النفاق.
وأما كلام الأئمة: فقال في الشرح الكبير: إن الميموني سأل أحمد عن بعض مسائل الوقف، فقال: ما أعرف الوقف إلا ما ابتغي به وجه الله; وقال أيضاً: قال أحمد أحب إلي أن لا يقف ماله، ويدعه على فرائض الله؛ ومعلوم: أن توقيف المال لو كان صحيحاً عند أحمد على الورثة، لكان أحب إليه من تركه، لكونه قربة مطلوبة للشارع.
وأما كلام المتأخرين: فقال في الشرح أيضاً: إذا وقف ثلثه في مرضه على بعض ورثته، فروي عن أحمد عدم الجواز. والثانية: يجوز، واحتج بأن وقف عمر قال: "تليه حفصة ما عاشت، لا جناح على من وليه إن أكل". ثم رجح الشارح الرواية الأولى، قال: وأما خبر عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، وليس ذلك وقفاً عليها، فلا يكون ذلك وارداً في محل النّزاع.(8/33)
ص -37- ... وأما مراسيل المتأخرين، فأهل العلم مجمعون على أنه لا يثبت بها حكم. الجواب الثاني: أنهم ذكروا في جملتهم عمر والزبير، وهذا عمر وقفه معروف، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، ومعلوم أن الإنسان إذا وقف على ابن السبيل والأيتام، وجعل ولِيَّهُ المصلح من ذريته، وله على عمله كذا وكذا، ليس مما نحن فيه.
وأما الزبير، فعبارة البخاري في صحيحه: "وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن"؛ ومثال ذلك: أن يقف على بر مثل مسجد، أو الفقراء أو الأضاحي، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فهو مقدم على ذلك، وليس هذا مما نحن فيه، ولعل وقف الصحابة كلهم على هذه الكيفية. وعلى كل حال: من ادعى خلاف ما قلناه، فعليه الدليل بالإسناد الثابت عنهم.
الثالثة: العبارات التي توجد في كلام بعض العلماء: وإن وقف على أولاده، أو قال كذا وكذا وأمثال ذلك، يستدلون به على صحة هذا الوقف؛ وليس في هذا كله ما يدل على ما ذهبوا إليه، وغاية ما يدل كلامهم عليه، أن الرجل إذا وقف بعض ماله يريد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد حرمان أحد، ولا تحريم بيعه عليهم خوف الفقر، بل مقصوده وجه الله، أنه يصح. وهذه المسألة مع كون فيها ما فيها، فليست مسألتنا، والذين قالوا هذه العبارات هم(8/34)
ص -38- ... الذين اشترطوا: أنه لا بد أن يكون على وجه بر. وذكروا أن الوقف على المباح باطل، وهم الذين ذكروا أن الحيل على الحرام لا تحل؛ فإذا جمع الإنسان كلامهم تبين له ما قلنا، ولو قدرنا أنهم أرادوا ذلك، فالواجب عند التنازع الرد إلى الله والرسول، وقد تقدم من نصوص الكتاب والسنة ما يشفي ويكفي.
وإذا كان الشارع قال: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1، فحجر عليه ذلك مع كونه لا يعده ديناً، فكيف إذا قصد التقريب بهذا المنهي عنه، وأقر على نفسه أن هذا مقصده. ومثل من منعه في الوصية وأجازه في الوقف، مثل من حرم نكاح الأخت إذا كان لمجرد الشهوة، ثم يقول: إن قصد بر أخته فهو نكاح صحيح، وعمل ينال به ثواب الأبرار؛ فعسى الله أن يوفقنا وإخواننا لما يحب ويرضى.
وقال أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه: هذه كلمات، جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة، وذلك: أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه، مثل الوقف على الأيتام، وصوام رمضان، والمساكين أو أبناء السبيل، فقال شريح القاضي وأهل الكوفة: لا يصح ذلك الوقف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الوصايا (2870), وابن ماجة: الوصايا (2713).(8/35)
ص -39- ... حكاه عنهم الإمام أحمد; وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة. فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة، مثل قوله: صدقة جارية، ومثل وقف عمر، وأوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله، ليس فيها تغيير لحدود الله.
وأما مسألتنا فهي: إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفَرَّ من قسمة الله، وتمرد عن دين الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار، لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه - البدعة الملعونة - صدقة بر تقرب إلى الله، ويقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله، فهذه مسألتنا؛ فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من الأدلة.
فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر: تغيير شرع الله ودينه، والتحيل على ذلك بالتقرب إليه؛ وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة، أو امرأة ابن، أو نسل بنات، أو غير ذلك، أو يعطي من(8/36)
ص -40- ... حَرَمَه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف، وعوده طلقاً، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر.
ولكن من أوضحها دليل واحد، وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت تدعي أن هذا مما يحب الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده، وإيثاره على غيره، حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [سورة التغابن آية: 15].
فإذا شرع الله لهم أن يقفوا أموالهم على أولادهم، ويزيدوا من شاؤوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أتراهم رغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عش؟ أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة ولم يعلموها، حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه!(8/37)
ص -41- ... فإن ادعى أحد: أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛ والدليل على هذا: أن هذا الذي تتبع الكتب وحرص على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره، ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبي هريرة الذي فيه: "صدقة جارية" 1، فهذا حق؛ وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غير حدود الله، وتقرب بما لم يشرعه الله، ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه.
وأما حديث عمر: أنه "تصدق بالأرض على الفقراء، والرقاب، والضيف، وذوي القربى، وأبناء السبيل"، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد، ليس له حجة إلا هذا الحديث، لأن عمر قال: "لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف"، وإن حفصة وليته، ثم وليه عبد الله ابن عمر؛ فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح، وذكرا أن أكل الولي ليس زيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا. يقول صاحب الضحية: لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من وجهين:
الأول: أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الوصية (1631), والترمذي: الأحكام (1376), والنسائي: الوصايا (3651), وأبو داود: الوصايا (2880), وأحمد (2/372), والدارمي: المقدمة (559).(8/38)
ص -42- ... يقفوا على ورثتهم، ولو كان خيراً لبادروا إليه؛ وهذا المصحح لم يصحح بقوله: "ثم أدناك أدناك" 1. فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله لم يوقف عليهم؟ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظن أنه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله؟
الثاني: أن من احتج على صحة الوقف على أولاده وتفضيل البعض، لم يحتج إلا بقوله: "تليه حفصة، ثم ذو الرأي، وأنه يأكل بالمعروف"؛ وقد بينا معنى ذلك، وأنه لم يبر أحداً، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحابة إلا هذا، تبين لك أن قولهم: تصدق أبو بكر بداره على ولده، وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه: أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار، لأنهم من أبناء السبيل، كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها، وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يقف مسجداً ويصلي فيه.
وعبارة البخاري في صحيحه: "وتصدق أنس بدار، فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن". فتأمل عبارة البخاري يتبين لك ما ذكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/226).(8/39)
ص -43- ... عن الصحابة، مثل من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في المسجد، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجنف والإثم؟ على أن هذه العبارة كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى؛ وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن احتج بها فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا معناه، ولله الحمد.
إذا تبين لك: أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث عمر. وقوله: "ليس على من وليه جناح"، وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به، تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة، على بطلان وقف الجنف والإثم.
وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجنف والإثم؟ وما مثله إلا كمن رأى رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه، فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} [ العلق: 9-10]، ويقول: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، أو يذكرون فضل الصلاة. وكذلك مسألتنا، إذا قلنا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11]، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [سورة النساء آية:(8/40)
ص -44- ... 12].
أو قلنا: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" 2، وادعوا علينا: أن الصحابة وقفوا، هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة، حتى يحتج علينا بذلك؟!
وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق، ومراده: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة، ورد البدعة، واتبع القرآن. وأما قوله: إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل بالمعروف، وإن زيداً وعمراً سكنا داريهما التي وقفا، فيا سبحان الله! من أنكر هذا؟ وهذا كمن وقف مسجداً وصلى فيه وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته; وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعمل صحيح، كمن وقف داره على المسجد، أو أبناء السبيل، أو استثنى سكناه مدة حياته؛ وكل هذا يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم.
وأما قوله: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، وقوله: "صدقتك على رحمك: صدقة وصلة" 3، وقوله: "ثم أدناك أدناك" 4، وأشباه ذلك؛ فكل هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الوصايا (2870), وابن ماجة: الوصايا (2713).
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587), ومسلم: الهبات (1623), وأحمد (4/270).
3 الترمذي: الزكاة (658), والنسائي: الزكاة (2582), وابن ماجة: الزكاة (1844), وأحمد (4/214), والدارمي: الزكاة (1680).
4 أحمد (2/226).(8/41)
ص -45- ... أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11]، ووقف الإنسان على أولاده، ثم أخرج نسل الإناث، محتجاً بقوله: "ثم أدناك أدناك" 1، أو صلة الرحم، فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة، أو عمة فقيرة، فتزوجها يريد الصلة، واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي حدود الله، التي حد في سورة النساء قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14]؛ فإذا قال: الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا مثل قوله: من تزوج خالته، إذا تزوجها لفقرها، ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق، فبينوه.
وأما قول عمر: "إن حدث بي حادث أن "ثمغى" صدقة"، هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط؛ وبعض العلماء يبطله، فاستدلوا به على صحته. وأما قوله: إن عمر وقفه على الورثة، فيا سبحان الله! كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه في "ثمغى" وغيرها، معروفة مشهورة; وأما قول عمر: "إلا سهمي الذي بخيبر، أردت أن أتصدق بها"، فهذا دليل على أهل الكوفة، كما قدمناه، فأي دليل في هذا على صحة هذا الوقف الملعون، الذي بطلانه أظهر من بطلان حيلة أصحاب السبت بكثير.
وأما "وقف حفصة الحلي على آل الخطاب"، فيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/226).(8/42)
ص -46- ... سبحان الله! هل وقفت على ورثتها؟ أو حرمت أحداً أعطاه الله، أو أعطت أحداً حرمه الله، أو استثنت غلة مدة حياتها؟ فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً، على الضعيف من آل مقرن، أو مثل ذلك، هل أنكرنا هذا؟ وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه؟ وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح، وليس مما نحن فيه، وإن كان مراد القائل: أنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه، فهذا كذب ظاهر، ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر.
وأما كون حفصة وقفت على أخ لها يهودي، فهو لا يرثها، ولا ننكر ذلك. وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة: أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة؛ ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية، وكل هذا ظاهر لا خفاء فيه؛ ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على الجهال، كما فعل غيره، فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه، وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام، فالخلف والخليفة على الله؟
وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ(8/43)
ص -47- ... وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7]، فيا لها من كلمة ما أجمعها! ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوقف وجه الله، لأجل من أفتاه بذلك، فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين الله ولو صحت نية فاعلها، فقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 1، وفي لفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 2؛ هذا نص الذي قال الله فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7]، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31].
فمن قبل ما آتاه الرسول وانتهى عما نهى، وأطاعه ليهتدي، واتبعه ليكون محبوباً عند الله، فليوقف كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة، وغيرهم من الصحابة وأهل العلم.
وأما هذا الوقف المحدث الملعون، المغير لحدود الله، فهذا الذي قال الله فيه بعدما حد المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240).
2 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/180, 6/240, 6/256).(8/44)
ص -48- ... وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 13-14]. وقد علمتم ما قال الرسول فيمن أعتق ستة العبيد، وما رد وأبطل من ذلك، فهو شبيه من أوقف ماله كله خالصاً لوجه الله، على مسجد أو صوام أو غير ذلك، فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف؟!
وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77]، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن فعل الخير: اتباع ما شرع الله، وإبطال ما غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله؛ هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح، خصوصاً مع قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة" 1، وقوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"، وقوله: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها" 2. فليتأمل اللبيب الخالي من التعصب والهوى، الذي يعرف أن وراءه جنة وناراً، الذي يعلم أن الله يطلع على خفيات الضمير، هذه النصوص، ويفهمها فهماً جيداً، ثم ينَزلها على مسألة وقف الجنف والإثم، ثم يتبين له الحق إن شاء الله.
وأجاب أيضاً: وأما المسائل التي ذكرت، فاعلم أولاً: أن الحق إذا لاح واتضح، لم يضره كثرة المخالف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4607), وابن ماجة: المقدمة (42), والدارمي: المقدمة (95).
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3460), ومسلم: المساقاة (1582), وابن ماجة: الأشربة (3383), وأحمد (1/25), والدارمي: الأشربة (2104).(8/45)
ص -49- ... ولا قلة الموافق، وقد عرفت بعض غربة التوحيد، الذي هو أوضح من الصلاة والصوم، ولم يضره ذلك. فإذا فهمت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59]، وتحققت أن هذا حتم على المؤمنين، فاعلم: أن مسألة الأوقاف، فيها النزاع معروف في كتب المختصرات; ذكر في شرح الإقناع في أول الوقف: أنهم اتفقوا على صحة الوقف على المساجد والقناطر، يعني نفعهما لا الوقف عليهما، واختلفوا فيما سوى ذلك.
إذا تبين لك، فاعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 1، وفي الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 2، وتقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا، ولو أمر به لكان الصحابة أسبق الناس إليه وأحرصهم عليه، وتقطع أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسد الذرائع، وهو من أعظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله، هذا على تقدير أن العالم المنسوب إليه هذا، يصحح مثل أوقافنا، وأنى ذلك، وحاشا وكلا، بل يبطل الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمر مباح، ويقول: لا بد منه على أمر قربة.
وأما كونه جعل ماله بعد الورثة على بر هذا لم يرد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240).
2 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/180, 6/240, 6/256).(8/46)
ص -50- ... إلا بعد انقراضهم، وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا، ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثاني; وذكر بطلان مثل هذا، في الشرح الكبير، وغيره.
وأما وقف المرأة على ولدها، وليس لها زوج، فكذلك تعرف: أن الوقف على الورثة ليس من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو شرعه لكان أصحابه أسرع الناس إليه، سواء شرط على قسم الله أم لا؛ وهذا في الحقيقة يريد أمرين: الأول: تحريم ما أحل الله لهم، من بيعه وهديته والتصرف فيه. والثاني: يحرم زوجات الذكور وأزواج الإناث، فيشابه مشابهة جيدة ما ذكره الله عن المشركين في سورة الأنعام؛ ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به كاف في فساده، صلحت نية صاحبه أم فسدت. وأما إذا لم يعلم هل هذا على من يرث أم لا، ولكن الاستفاضة أنه على من يرث، فأنا لا أدري عن هذه المسألة؛ لكن أرى التوقف عنها، ولا ينْزع عن يد من يأكله إلا ببينة.
وأما مسألة آل جمعة، فهي باطلة، لكونها وقفاً على الورثة، وأيضاً يحرم بعضهم، وأيضاً لم يشرع.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: وأما الذي وقف على ذريته الذكور، والأنثى حياة عينها، فهذا وقف الإثم والجنف، لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات ما جعل الله لهم في العاقبة، وهذا(8/47)
ص -51- ... الوقف على هذه الجهة بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ وغايته: تغيير فرائض الله بحيلة الوقف; وقد صنف فيها شيخنا، رحمه الله تعالى، وأبطل شبه المعارضين، ولا يجيزه إلا مرتاب في هذه الدعوة الإسلامية، وقصده مخالفة إمام المسلمين، أو جاهل لا يعرف السنة من البدعة، والهدى من الضلال، جاهل بأصول الشرع ومقاصد الشريعة؛ نعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد اللطيف: الذي أوصى فيما خلف بثلاث حجج، وثلاث أضاحي، وباقي ثلث ماله وقفاً على عياله، وعلى عيال عياله ما تناسلوا، ويخص الضعيف، فإن استووا فهم فيه بالسوية على حسب الميراث... إلخ; ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث" 1، فما أوصى به الميت لورثته من الوقف باطل، وإنما يثبت ما فيها من الوصية بالحجج والأضاحي، والباقي ميراث على ما بينه الله في كتابه.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن أوصى بأن يجعل الثلث من ماله يشتري به ملكاً في الأحساء، ويجعل على الذرية بموجب الشرع، ولم يعين فيه أعمال بر، فهل يكون على ذرية الموصي ذكورهم، وإناثهم بالسوية؟ أو يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؟ وإن مات أحد من الذكور، أو الإناث، فهل أولاده ينَزلون منْزلته في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).(8/48)
ص -52- ... الموصى به؟ وهل أولاد الموجودين الأحياء، يشاركون آباءهم في الموصى به؟
فأجاب: الوقف المذكور على هذه الصفة وقف باطل، كما هو الصحيح عند محققي الحنابلة وغيرهم، إلا إذا اتفقت الورثة، وكانوا كلهم مرشدين، على جعل شيء منه في عمل بر وقربة، صح ذلك، وما فضل من الريع حكمه حكم الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن مات أحد من الورثة الذكور أو الإناث، فنصيبه لورثته، ينَزلون منْزلته، وكذلك الزوجة لها ميراث في الثلث، هذا هو العدل والشرع.
وأجاب أيضاً: الذي وقف الثلث، ثم وقف بقية ملكه على أولاده، على حسب الميراث، وقفه باطل، لأنه مضاد لقسم الله في المواريث، فالذي يطلب تصحيح هذا، مبتلى بالهوى ومعارضة الشرع.
سئل الشيخ حسن بن الشيخ حسين بن علي، رحمهم الله: عن الوقف على أعمال البر، وفاضله على الذرية؟
فأجاب: الوقف على الذرية لا يجوز، سواء كان كله أو فاضلاً، وللشيخ والدنا رحمه الله رسالة في هذا الوقف مبطلاً له، سماها: إبطال وقف الجنف والإثم، فتأملها يزل عنك إن شاء الله الإشكال. فيقسم فاضل هذا الوقف على(8/49)
ص -53- ... ورثة الواقف، وورثتهم من بعدهم: فيكون لهذه البنت نصف أمها، وباقيه على عصبة أمها. هذا الذي ندين الله به، ولا نتوقف لأجل كلام الأصحاب، والحق ضالة المؤمن.
وسئل أيضاً: إذا وقف على عياله، هل يدخل أولاد البنت والبنات، قبل أن ينقرض البطن الأول؟
فأجاب: هذا الوقف هو وقف الجنف والإثم والميل، كما قرره الشيخ محمد، رحمه الله، في رسالته المعروفة، وأقام الأدلة القاطعة على ذلك، فراجعها، وأبطل هذا الوقف، وهو الحق الذي لا شك فيه؛ وعلى قول المتأخرين: لا يدخل ولد البنت والبنات إلا بعد انقراض البطن الأول، وقد أخرجوا ولد البنات من الأولاد؛ فلا تلتفت إلى ما قرروه، وعليك بإبطاله.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: أما حرمان أولاد البنات، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أفتى بفساد هذا الوقف، وأدلة فساده ظاهرة - ولله الحمد - أنها على غير ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وسئل أيضاً: إذا وقف رجل وقفاً، وجعل الفاضل على ذريته، هل يدخل فيه الزوجة وغيرها من الورثة؟ وذرية الولد الذي مات أبوه وهو حي؟(8/50)
ص -54- ... فأجاب: هذا الوقف غير صحيح، على الصحيح، كما هو معروف من كلام الشيخ محمد رحمه الله، وغيره من أهل التحقيق، لأن هذا في حكم الوصية للذرية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1. وأما على قول من صححه، فلا يدخل فيه أحد من الورثة غير الذرية، وأما ذرية الولد فيستحقونه بعد آبائهم مرتباً بطناً بعد بطن، ولا فرق بين من مات أبوه قبل أو بعد.
وسئل: عن لفظ القريب والأقرب.
فأجاب: أما لفظ القريب والأقرب فبينهما فرق، وهو أن القريب يعم الأقارب كلها، والأقرب يخص من كان إلى الميت أقرب من غيره من القرابة.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن وقف نخلاً على جهة من جهات البر أو على أناس معينين، واشترط أن ذريته أولى به إن احتاجوا إليه؟
فأجاب: هذا صحيح عند العلماء، ولا نعلم أحداً منعه، ومما يدل على ذلك وقف الزبير الذي اشترط فيه السكنى للمردودة من بناته.
وأما من وقف على عياله، فهذا إذا لم يكن له ورثة غيرهم، فالظاهر الجواز، ولا نعلم علة توجب المنع، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).(8/51)
ص -55- ... كان له ورثة غيرهم وقف على الإجازة.
وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده.
وسئل أيضاً: عن وقف صورته: وقف زيد ملكه المسمى بكذا، المعروف في البلد الفلاني، على أخيه عمرو، ثم على ذريته من بعده؟
فأجاب: هذا الوقف المذكور صحيح لازم من رأس المال، لا يحسب من الثلث، لكونه منجزاً في الصحة. وقلنا: إنه وقف منجز، لإقراره بذلك إقراراً مطلقاً، غير معلق بموته؛ فبذلك صار وقفا منجزا.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟
فأجاب: يدخل فيه أولاده حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف، فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف: أما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير،(8/52)
ص -56- ... والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب؛ والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلاً بحسبه.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: أما الذي وقف على الضعفاء من ذريته وأقاربه، يدخل فيه الضعيف من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه وإن نزلوا، الأقرب فالأقرب; فإن لم يكن فيهم ضعيف، فالظاهر أن حكمه حكم المنقطع، يكون على أقرب ورثة الواقف نسباً حينئذ وقفاً عليهم ولو أغنياء.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن وقف على أولاده... إلخ؟
فأجاب: الذي تقرر في وقف الذي وقف على أولاده، للذكر مثل حظ الأنثيين، على أن من مات عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد رجع نصيبه إلى أهل الوقف. إنه لما مات ابن الابن عن غير ولد، رجع نصيبه لابن الموصي وبناته الأربع، فلما مات الابن صار نصيبه لابنه وابنته، للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات اثنتان من بنات الموصي عن أختيهما وابن أخيهما وأخته، للذكر مثل حظ الأنثيين. فصحت المسألة من تسعين: للأختين اثنان وأربعون، ولابن الابن اثنان وثلاثون، ولأخته ستة عشر. ثم مات ابن(8/53)
ص -57- ... الابن عن أخته وعمته، فصار لابنة الابن ثلث الوقف إلا تسعه، ولعمتيها ثلثاه وتسع الثلث. هذا ما تحقق في هذه المسألة، وليس فيها انقطاع لا في الوسط ولا في الانتهاء، خلافاً لمن توهم ذلك.
قال في الشرح الكبير: فإن قال: وقفت على أولادي، ثم على أولاد أولادي، على أن من مات من أولادي عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين، فمات أحدهم عن ابنين، انتقل نصيبه إليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد، فنصيبه لأخيه وابن أخيه بالسوية، لأنهم أهل الوقف.
صورة وقف أفتى فيه الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أوقف رجل نصيبه في العقار المسمى... على أولاد أخيه بطناً بعد بطن، للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس للبنت إلا حياتها.
فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: الصورة التي أبطلها الشيخ محمد، رحمه الله، هي: ما إذا وقف شخص على ورثته، واشترط فيه ما لا يحل من حرمان أولاد البنات، فأما هذا فليس فيه حرمان وارث يمنع صحته، والله أعلم.(8/54)
ص -58- ... سئل ابنه: الشيخ عبد اللطيف: عمن وقف على ابني ولده زيد، وهما: عمرو، وبكر، وما تناسلوا بطناً بعد بطن، ومن بعدهم على عيال ولده خالد وما تناسلوا؟
فأجاب: مقتضاه أن عيال خالد، وعيالهم، في الوقف سواء، من غير ترتيب، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وسئل: عمن أوصى بثلث ماله، وقفاً على أولاده ما تعاقبوا وتناسلوا، والوقف المذكور على أولاده لصلبه، وأوصى بأن ابن ابنه داخل في وقف الثلث، له ما لأبيه؟
فأجاب: هذه الوصية صحيحة، يشترك فيها أولاد الموصى لصلبه ذكرهم وأنثاهم، وما ذكر لابن ابنه صحيح، ينَزل منْزلة أبيه وأعمامه، ويقاسمهم حصته كما ذكره الموصى، ولا يحجب الأعلى منهم من دونه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن رجل بيده وقف منصوص، وموقوف على يده وذريته، بطناً بعد بطن، واستولى ابنه عليه بعده، وخلف ثلاث بنات... إلخ؟
فأجاب: ظاهر السؤال أن الذي بيده الوقف ليس وكيلاً، بل موقفاً عليه وذريته، بمعنى: أن غلة الوقف له ولذريته، وإن أوهم قول السائل على يده الوكالة؛ إذا ثبت هذا، فالموقوف عليه إن كان من ورثة الواقف، كولده(8/55)
ص -59- ... ونحوهم فهو باطل، وهو وقف الجنف والإثم، الذي ألف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في إبطاله رسالتين أو أكثر، وذكر على ذلك من الأدلة ما فيه كفاية; وأما الأصحاب فيجيزون مثل هذا الوقف.
وأما إن كان الموقوف عليه ليس من ورثة الواقف، فهو صحيح، ويكون الوقف بين ثلاث البنات المذكورات بالسوية، ومن مات منهن رجع نصيبها لبقية أخواتها؛ فإذا لم يبق من الثلاث أحد، صار الوقف لأولاد الثلاث بالسوية: الذكر والأنثى سواء؛ فإذا لم يبق منهم أحد، انتقل للدرجة التي بعدهم على التفصيل السابق، وهكذا كما هو نص الواقف بقوله: بطناً بعد بطن.
ودخول أولاد البنات هو على رواية عن أحمد، اختارها جمع، منهم صاحب الشرح الكبير، وهي المفتى بها عندنا لقوة دليلها. والرواية الأخرى: لا يدخلون، وهي المذهب، واختارها أكثر الأصحاب؛ فعليها يكون الوقف بعد انقراض البنات الثلاث، حكمه حكم منقطع الآخر، والمذهب: أنه لورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، وفيه خلاف.
وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: عن قول الواقف: هذا وقف على أولادي، ثم على أولادهم، هل هذا ترتيب جملة على مثلها؟ أم ترتيب أفراد؟ وإذا قال: من(8/56)
ص -60- ... مات عن ولد فنصيبه لولده، هل هذا قرينة في دخول أولاد البنات أم لا؟ وما معنى ترتيب الجملة؟ وترتيب الأفراد؟ أفيدونا مأجورين.
فأجاب: إذا قال: هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الجملة على مثلها، ومعناه: أنه إذا مات واحد من الأولاد الموقوف عليهم وله أولاد، لم يستحق أولاده شيئاً، بل يرجع نصيبه إلى من في درجته، وليس للبطن الثاني شيء ما دام موجوداً من البطن الأول أحد؛ هذا هو معنى ترتيب الجملة على مثلها.
وقد ذهب جماعة من محققي أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الأفراد على مثله، منهم الشيخ تقي الدين، والعلامة ابن مفلح صاحب الفروع، وابن قاضي الجبل؛ وقال ابن أبي المجد: هو قوي في المعنى. وقال ابن اللحام - جامع الاختيارات -: هو أظهر. ومعنى هذا الذي ذهب إليه هؤلاء المحققون: أنه من باب ترتيب الأفراد على مثلها: إذا مات واحد من المذكورين في السؤال، انتقل نصيبه إلى أولاده، لا إلى من في درجته، والله أعلم.
وأما إذا قال الموقف: من مات عن ولد فنصيبه لولده، فقد حكى غير واحد من الأصحاب: الإجماع في دخول أولاد البنات والحالة هذه، والله أعلم. وأما معنى:(8/57)
ص -61- ... ترتيب الجملة على مثلها، وترتيب الأفراد، فقد ظهر لك معناهما مما تقدم، والله أعلم.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن رجل وقف على المستضعف من ذريته، والموجود له ابن هو الآن غني وولد ابن، وأولاد بنت، ولابن الموقف الغني أولاد بنت، يريد أن ينْزلوا منْزلته؟
فأجاب: الكلام في المسألة في مقامات: الأول: صحة مثل هذا الوقف أو عدمها. الثاني: من يدخل في هذا الوقف ومن لا يدخل. الثالث: كون استحقاقهم على الترتيب أو الاشتراك. الرابع: التفضيل بين الذكر والأنثى وعدمه.
فأما المقام الأول: فإنه لا ريب في صحة مثل هذا الوقف، وكلام العلماء في ذلك معروف، وقد استدل عليه بوقف الزبير رضي الله عنه حيث جعل للمردودة السكنى.
وأما المقام الثاني: فإنه يدخل في هذا الوقف: المستضعف من أولاد بنيه وإن نزلوا بلا نزاع، كما في الإنصاف.
وأما أولاد البنات، فالمذهب أنهم لا يدخلون، وعن الإمام أحمد رواية أنهم يدخلون. قال في الإقناع وشرحه: وإن وقف إنسان على عقبه، أو عقب غيره أو نسله، أو ولد(8/58)
ص -62- ... ولده أو ذريته، دخل فيه - أي الوقف - ولد البنين وإن نزلوا، لتناول اللفظ لهم، ولا يدخل فيه ولد البنات بغير قرينة، لأنهم لا ينتسبون إليه كما تقدم; وعنه: يدخلون، قدمها في المحرر والرعاية، واختارها أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، وأولادهن أولاده حقيقة، لقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله: {وَعِيسَى} [سورة الأنعام آية: 84-85] وهو ولد بنته، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد" 1 يعني: الحسن، الحديث رواه البخاري; قال في الشرح: والقول بدخولهم أصح وأقوى دليلاً. انتهى من الإقناع وشرحه.
قال في الإنصاف: ونقل عنه في الوصية: يدخلون، وذهب إليه بعض أصحابنا، وهذا مثله. قلت: بل هي هنا رواية منصوصة من رواية حرب; قال في القواعد: ومال إليه صاحب المغني، وهي طريقة ابن أبي موسى والشيرازي; قال الشارح: القول بأنهم يدخلون أصح وأقوى دليلاً، وصححه الناظم، واختاره أبو الخطاب في الهداية في الوصية، وصاحب الفائق، وجزم به في منتخب الآدمي، وقدمه في المحرر والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته. انتهى كلام صاحب الإنصاف.
وهذا هو المفتى به، وأفتى به الشيخ حمد بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2704), والترمذي: المناقب (3773), والنسائي: الجمعة (1410), وأبو داود: السنة (4662), وأحمد (5/37, 5/44, 5/47, 5/49, 5/51).(8/59)
ص -63- ... عبد العزيز، وقال في فتواه: وهذا اختيار ابن القيم، رحمه الله، وأفتى به شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن. ويأتي في المقام الثالث بعض النقول، التي تزيد هذا إيضاحاً، إن شاء الله تعالى.
وأما المقام الثالث: فإن استحقاقهم يكون على الترتيب بطناً بعد بطن؛ هذا هو الذي يدل عليه كلام الأصحاب، فإنهم صرحوا بذلك فيما إذا وقف على أولاده. قال ابن ذهلان: وإذا قال: هذا وقف على الضعيف من أولادي، أو أولاد زيد، فللبطن الأعلى فالأعلى، والذكر كالأنثى، أي كل ضعيف منهم. انتهى.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟
فأجاب: يدخل فيه أولاده، حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء. انتهى، وبمثل ذلك أفتى الشيخ عبد العزيز بن حسن حرفاً بحرف، إلا أنه زاد: الذكر والأنثى سواء.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين - في أثناء جواب له -: وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده(8/60)
ص -64- ... لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده. انتهى. وأفتى بذلك الشيخ حسن بن حسين بن علي في مسألتين، وكلامه موجود عندنا، لولا خشية الإطالة لنقلته لك.
فقد عرفت من هذا: أن أولاد بنت ابن الواقف لا يشاركون أولاد أولاد الواقف، لكونهم أعلى منهم درجة.
وأما المقام الرابع: فكلام الأصحاب ظاهر في أن الذكر والأنثى سواء، إذا وقف على أولاده؛ قال في المغني والشرح والإنصاف: بغير خلاف نعلمه؛ فتحصل مما تقدم: أنه متى وجد مستضعف من البطن الأول، فلا شيء للمستضعف من البطن الثاني، وهكذا، وأن أولاد البنات يدخلون على الراجح.
وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عن معينات وقف بالأحساء؟
فأجاب: أما الأضاحي فهي وقف مطلق، والمفتى به عندنا أنها تصرف إلى ورثة الواقف نسباً، سواء كانوا أغنياء أو فقراء; وأما المنصوص عليه للفقراء والمساكين، وأهل الحاجة، فالذي أرى: أن أقارب الواقف الفقراء الموجودين في المجمعة أولى بذلك، لأنه قد قام بهم وصفان: القرابة والفقر، والواقف قد أطلق ولم يقيد صرفه بمحل، فتعين صرفه إلى أقاربه الفقراء، لترجح جانبهم بالقرابة.(8/61)
ص -65- ... قال أبو العباس ابن تيمية: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة. اهـ.
وقال في الإقناع وشرحه: ويصرف منقطع الآخر، كما لو وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مالاً، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز.
وكذا ما وقفه وسكت، إن قلنا: يصح الوقف حينئذ، فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسباً، لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، لقوله عليه السلام: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" 1، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، فكذا صدقاته المنقولة، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف صحيح صح وصرف إليه؛ وعرف المصرف هنا، أولى الجهات به، فكأنه عينهم لصرفه. انتهى ملخصاً.
يؤيد ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن أبا طلحة لما تصدق ببيرحاء، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها حيث شاء، جعلها صلى الله عليه وسلم في أقارب أبي طلحة" 2، فهذه صدقة مطلقة، وقد صرفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقارب المتصدق; وقد أجبنا في مسألة تشبه هذا.
وكتب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على جوابنا ما أجاب به الأخ عبد الله العنقري، وفقه الله، من أن أقارب الواقف الفقراء أحق بالوقف من غيرهم هو الصواب؛ فليعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوصايا (2742), ومسلم: الوصية (1628), والترمذي: الوصايا (2116), والنسائي: الوصايا (3627), وأبو داود: الوصايا (2864), وأحمد (1/176), ومالك: الأقضية (1495), والدارمي: الوصايا (3196).
2 البخاري: الزكاة (1461), ومسلم: الزكاة (998), والترمذي: تفسير القرآن (2997), والنسائي: الأحباس (3602), وأبو داود: الزكاة (1689), وأحمد (3/141), ومالك: الجامع (1875), والدارمي: الزكاة (1655).(8/62)
ص -66- ... ذلك، والله أعلم بالصواب.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا قال: على أولادي أو على ذريتي... إلخ؟
فأجاب: يختلف: أما إذا قال: على أولادي، فما دام باق من أولاده أحد ذكر أو أنثى، استحق جميع الوقف، فإذا انقرض البطن الأول صار لولدهم؛ وفي دخول أولاد البنات خلاف مشهور. وكذا إذا قال: على أولادي كل على قدر ميراثه، فلا يستحق البطن الثاني شيئاً حتى ينقرض البطن الأول. وأما الوقف على الذرية، فيتناول جميعهم: قريبهم وبعيدهم، ذكورهم وإناثهم سواء؛ وفي دخول أولاد البنات أيضاً، الخلاف المشهور.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الراجح أن أولاد البنات يدخلون في الذرية، وعليه الدليل من الكتاب والسنة، لأن الله ذكر عيسى في جملة ذرية إبراهيم، وهو ابن ابنته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: "إن ابني هذا سيد" 1 وهو ابن ابنته فاطمة. وقول المتأخرين من الحنابلة: إن أولاد البنات لا يدخلون في الذرية والأولاد، قول ضعيف مخالف للدليل، وليس معهم إلا قول الشاعر 2 وهو دليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2704), والترمذي: المناقب (3773), والنسائي: الجمعة (1410), وأبو داود: السنة (4662), وأحمد (5/37, 5/44, 5/47, 5/49, 5/51).
2 هو قوله:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد(8/63)
ص -67- ... ساقط لا يعارض به الكتاب والسنة. وهذا قول شيخ الإسلام، وقدماء الأصحاب، وهو الذي يفتى به شيخنا عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى.
حكم الشيخ عبد الله بن دهيش في وقف نصه على أولاده، ثم من بعدهم أولادهم وأولاد أولادهم، ما تناسلوا بطناً بعد بطن، والآخر أوصى بعقاره على ابنه وابنته، ثم بعدهما على أولادهما، وأولاد أولادهما بطناً بعد بطن: أن تكون غلة الأوقاف بين ابن بنت بنت الموقف، وابن ابن بنته، وابنة ابن ابنته، وابنة ابن ابنه، بينهم أرباعاً، دون البطن الرابع. وفي وقف نصه على ابن له، ولم يذكر له مالاً، فصار منقطع الآخر، ولم يكن له سوى بنت ابنه، وابنة ابن ابنه: بينهم أرباعاً فرضاً ورداً، كما هو المقرر في المذهب، ودفعه إلى الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف يسأله عن صحته؟
فأجاب: ما حكمت به في الأوقاف الثلاثة، من اشتراكهم دون غيرهم، وفي الوقف الرابع من أن حكمه حكم منقطع الآخر، وقسمته من أربعة فرضاً ورداً، هو الصواب، والله أعلم.
سأل الشيخ عبد الله العنقري، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن دخول أولاد البنات في الوقف على(8/64)
ص -68- ... الأولاد، إذا كان مطلقاً بلا نص، ولا قرينة؟
فأجاب: أنت فاهم مسائل الخلاف؛ ومسألة دخول أولاد البنات في عموم الأولاد في الدخول في الوقف من غير قرينة، مسألة خلافية، في مذهب أحمد، رحمه الله: وبعض الأصحاب من المتأخرين يرون المنع مع عدم القرينة، وبعض الأصحاب من المتقدمين، وهو الذي اختاره في الشرح الكبير - لما ذكر الخلاف - دخول أولاد البنات ولو مع الإطلاق. فإذا عرفت هذا، فالأمر الذي قد سبقك من مفاتي نجد، لا تلتفت إليه، ولا يسوغ معارضته، والأمر الجديد الذي يرجع إليك عند أول حدوثه، قوة الدليل: ما ذهب إليه صاحب الشرح، والمفتى به قريب من الصواب، والله أعلم.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن بيع نخلة وقف تعطلت... الخ؟
فأجاب: أما بيع ذلك لما ذكر فلا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث" 1. وقد تنازع العلماء في جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه: فأجازه أحمد وغيره، ومنعه الشافعي وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشروط (2737), ومسلم: الوصية (1633), والترمذي: الأحكام (1375), وأبو داود: الوصايا (2878), وأحمد (2/55).(8/65)
ص -69- ... والبيت الذي للغرباء، فالذي أرى: - إذا لم يمكن إصلاحه على نحو حالته الأولى - أنه يباع ويجعل في شيء يختص به الغرباء.
وسئل الشيخ محمد بن محمود: عن وقف خرب وتعطل نفعه... إلخ؟
فأجاب: إذا بلغ الحد المذكور الذي هو قريب تعطل المنفعة، جاز بيعه وصرف ثمنه في مغل يصرف في مستحق الوقف المذكور.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن إبدال الوقف... إلخ؟
فأجاب: إذا أبدل صاحب الملك صاحب الوقف، فإن كان ذلك لمصلحة الوقف، بحيث يكون بالياً، أو كثير الخراب، وأراد إبداله بعامر، فهذا يجوز على القول الراجح؛ وهو القول بجواز المناقلة بالوقف للمصلحة، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين، وابن القيم، رحمهما الله، بشرط أن يكون ذلك صادراً ممن له ولاية على الوقف، من جهة الواقف، أو من جهة الحاكم.
وأما على كلام الحنابلة، وكثير من الفقهاء: فلا يجوز إلا أن تتعطل منافع الوقف، وحينئذ فمتى صدر المناقلة على غير الوجه المأذون فيه، فالوقف بحاله، لا تتغير(8/66)
ص -70- ... وقفيته، ولا يملك بالمبادلة.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: النخل الوقف الذي تعطل سنتين مثلاً، ولا وجد من يعمره، وخيف هلاكه، ووجد أرض طيبة هل ينقل فيها؟
فأجاب: ينقل في الأرض الطيبة، لأنها أصلح للوقف من النخل المذكور.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن أوصى بثلث ماله من عقار، ودار، وأثاث، جعل الوصية في قطع متعددة، والمصلحة تقتضي بجعلها في عقار متحد؟ فإن كان تعلمون أن لفظ الموصي يجعل القطع المذكورة وقفاً لازماً لا يجوز العدول عنه، فتبقى على وقفيتها، وإن رأيتم جواز جمعها في العقار الذي يكون أصلح للوقف وللموقوف عليهم، فبينوا لنا ذلك جزيتم عنا وعن المسلمين خيراً؟
فأجاب: الذي يظهر لي: جواز جعلها في عقار متحد، لأن ذلك مصلحة ظاهرة للوقف وللورثة؛ وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: أنه يجوز مخالفة نص الواقف إلى ما هو أنفع وأحب إلى الله. وقد ذكر الحافظ ابن رجب، رحمه الله، في شرح الأربعين، في الكلام على حديث عائشة، رضي الله عنها: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/180, 6/240, 6/256).(8/67)
ص -71- ... قال: وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد، لما سئل عن رجل له مساكن، فأوصى بثلث ثلاث مساكن، هل يجمع له في مسكن واحد؟ حدثتني عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 1"، خرجه مسلم؛ ومراده: أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز، وقد حكي هذا عن عطاء، وابن جريج. انتهى. والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا كان ولد المسبل فقيراً... إلخ؟
فأجاب: إذا كان ولد المسبل فقيراً، فهو أولى بالسبالة.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها؟
فأجاب: تصرف على المساجد وأبواب البر. وأما إذا انتقل أهل بلد عن بلادهم، وفيها مسجد عامر وفيه خشب، فإن كان يصلى فيه فلا يجوز نقضه، وإن كان متعطلاً فلا بأس أن يؤخذ خشبه، ويجعل في مسجد غيره.
وأجاب أيضاً: وأما خشب المسجد المتعطل، فتؤخذ وتجعل في نظيره وهو مسجد آخر، ولو كان ببيع أو غيره، ولا تترك تعطل بلا نفع. وأما أرض المسجد المتعطلة، فلا بأس أنها تزرع بأجرة، وتصرف أجرتها في عمارة مسجد آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/180, 6/240, 6/256).(8/68)
ص -72- ... وأجاب أيضاً: وأما ما فضل عن حاجة مسجد، صرف إلى مسجد محتاج.
وله أيضاً: أما صرف الفاضل من تمر الصوام، فإذا استغنى أهل المسجد الذين جعل الوقف عليهم، فقال الشيخ تقي الدين: ما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر، لأن الواقف له غرض في الجنس والجنس واحد. وقال في موضع آخر: يجوز صرفه في سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه، وإن علم أن وقفه يبقى وجب صرفه، لأن بقاءه فساد. انتهى.
فعلى كلامه الأول: يصرف في نظيره في مسجد آخر، وعلى كلامه الثاني: يجوز للناظر صرفه إلى جهة وإن لم تكن نظير الجهة الأولى، إذا رأى المصلحة في ذلك. وإذا كان في النخل الموقوف فسيل، وغرس في وقف آخر، فلا أرى به بأساً، إذا كان النخل الموقف غنياً عن ذلك؛ وصرف الوقف من جهة إلى جهة جائز له إذا كان لمصلحة. وأما تبديل ولي الوقف تمراً بعيش أو عيشاً بتمر، فإذا كان فعله للمصلحة فلا أعلم فيه بأساً، إذا كان أصلح للموقف عليها. وأما كونه يسلم في الوقف قبل حصول الثمرة فلا يجوز، ويدعه إلى السنة المقبلة.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا وقف(8/69)
ص -73- ... على جهة معينة، ثم أراد الواقف أو غيره صرفه إلى جهة أخرى... إلخ؟
فأجاب: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة، على الصحيح من المذهب، نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند. انتهى من الإنصاف.
فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه، ووجه الأول وقوع الوقف لازماً، وانتقال الملك فيه بمجرد عقده إلى الله تعالى، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين. قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والواقف وغيره في هذا سواء، لزوال الملك عنه بالوقف.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن وقف نخلة أو نخلتين مثلاً، يشترى من غلتها أضحية، واحتاج أولاد الواقف حاجة شديدة، ربما من مثله يموت جوعاً إذا لم يبع الأصل، هل يجوز صرف الغلة إلى من احتاج من أولاد الواقف... إلخ؟
فأجاب: وأما صرف غلة ذلك إلى المحتاج من أولاد(8/70)
ص -74- ... الواقف، فقال: الأصحاب: يتعين صرف غلة الوقف إلى الجهة المعينة إلا ما فضل عنها; ونص على ذلك الإمام أحمد، ولم يفرق أحمد والأصحاب بين حالة الحاجة وغيرها. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند.
فعلى اختيار الشيخ، رحمه الله: يجوز صرف ثمن الأضحية إلى من اشتدت حاجته من ولد الواقف. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قال رجل لعطاء: رجل جعل ذوداً في سبيل الله، قال: له ذو قرابة محتاجين؟ قال: نعم، قال: فادفعها إليهم؛ فكانت هذه فتياه في هذا وأشباهه.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على مسجد محبس على ذرية الواقف، وفيهم من يصلح للإمامة، ولكن أقل أحوالهم أشاعرة... الخ؟
فأجاب: لا يجوز تقديم مبتدع إماماً في الصلاة، وإن كان نص الواقف وشرطه كما ذكرت؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وغير خاف عليك إمامة الفاسق، فكيف بالمبتدع؟(8/71)
ص -75- ... وسئل أيضاً: عمن أوصى بثلثه في حجة وأضحية، وأوقف باقيه على ذريته وذريتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وماتت واحدة من البنات قبل الموصي، فهل يستحق ورثتها كورثة من ماتت بعده؟
فأجاب: نعم يستحق كغيره.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة، أو سراج مسجد، هل يصرف إلى مدرسة أو مسجد آخر... إلخ؟
فأجاب: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة... إلخ، فقد صرح الفقهاء بأن هذا شرط يجب العمل به، وإنما تنازعوا فيما فضل عن الجهة المعينة: فنص أحمد: أن ما فضل من وقف المسجد من حصره وزيته عن حاجته، يجوز صرفه إلى مسجد آخر، ويجوز الصدقة به على فقراء المسلمين؛ وعنه رواية أخرى: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به. وقيل: إن علم أن ريعه يفضل عنه دائماً وجب صرفه وإلا فلا، قاله الشيخ تقي الدين. وأما الأرض التي يجعل فيها آصع معلومة، فالذي نرى: أنها إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء، وكل سنة لها حكمها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصح له(8/72)
ص -76- ... الإفطار في المسجد؟ هل هو الفقير؟ أو من أراده؟
فأجاب: إن كان الواقف خصه بالفقراء، فلا يأكل منه إلا الفقراء، ولا يجوز للغني الأكل منه، وإن كان جعله لمن أفطر في المسجد، فمن حضر فليفطر، الغني والفقير.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله: أن الوقف المذكور على الصورة المسؤول عنها، يجب صرفه إلى إمام المسجد المعين الراتب، ولا يجوز الاجتهاد فيه وصرفه إلى غير مستحقه الراتب فيه.
وقال الشيخ عبد الله أيضاً: وأما الريع إذا لم يكف أضحية، أرصد حتى تكمل الأضحية، ولا يسلف.
وقال الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: إن كان إذا أخرها سنة أو سنتين حصل من الغلة ثمن أضحية، فيؤخرها، وإن كان الريع قليلاً وتأخذ مدة ما حصل أضحية، فيجتهد: إما أن يؤخرها، أو يضمها مع غيرها. والشيخ حسن بن حسين أفتى أنه يرصد الريع قل أو كثر حتى يكمل ثمن أضحية؛ هذا في الوصايا خاصة، وأما التبرع فأمره واسع.(8/73)
ص -77- ... وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن فرش المسجد، هل يجوز أخذ شيء منه أو يبقى في موضعه؟ أو يصرف في مصلحة أخرى للمسجد أو لغيره؟
فأجاب: لا يجوز أخذ شيء منه، بل ترصد لمصالح المسجد.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: أنقل كلام العلماء وأشير إلى ما هو الراجح عندنا: قال في المقنع وشرحه الإنصاف للمحقق المرداوي، رحمه الله: وما فضل من حصره وزيته، جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين؛ هذا هو المذهب نص عليه، وجزم به في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع وغيره.
وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين. وقال أيضاً: يجوز صرفه في سائر المصالح وبناء المساكن، لمستحق ريعه القائم بمصلحته. انتهى. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام هو الصواب، لأنه أسعد بالدليل من غيره.(8/74)
ص -78- ... سئل بعضهم: إذا سبل إنسان في أرض نقداً معلوماً، ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟
فأجاب: هذه المسألة نظيرة ما لو أقرضه فلوساً فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم أن له القيمة وقت القرض، حتى إن الشيخ تقي الدين، رحمه الله، طرد ذلك في الديون، كالصداق وعوض الخلع، والغصب والصلح؛ فإذا أقرضه فلوساً أو باعه بها ونحو ذلك، ثم حرمها السلطان، وتركت المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه؛ فهذه المسألة مثلها، فإذا جعل الواقف نقداً معلوماً في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله قيمة تلك الفلوس قبل كسادها.
وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم آل الشيخ: إذا تعطلت منافع الوقف وبيع، ولم يأت ثمنه بمثله؟
فأجاب: إذا كان لبيع الوقف مسوغ، وبيع ولم يأت ثمنه بمثله، فإنه يشتري به من جنسه أنقص منه، والله أعلم.(8/75)
ص -79- ... باب الهبة والعطية
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا بلغ الغلام خمس عشرة سنة، هل تصح عطيته؟
فأجاب: قال في المغني: فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح، سواء أذن الولي فيها أو لم يأذن، لأنه محجور عليه لحظ نفسه، فلا يصح تبرعه كالسفيه. انتهى. فقد صرح بأن السفيه لا تصح هبته. وقال في الإنصاف: سئل أحمد: متى تجوز هبة الغلام؟ قال ليس فيه اختلاف، إذا احتلم أو صار ابن خمس عشرة سنة. وقال في التوضيح: ويعتبر أن تكون الهبة من جائز التصرف. انتهى. وقال في المبدع: ويعتبر أن تكون - يعني الهبة - من جائز التصرف. انتهى. فقد علمت: أنه لا بد فيمن بلغ خمس عشرة سنة أن يكون رشيداً، والرشد: الصلاح في المال، في قول أكثر العلماء، قاله في الشرح والمبدع، وكلام أحمد يحتمل أنه رشيد.
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن وهب مجهولاً؟
فأجاب: الهبة تصح مع الجهالة، لأن الشيخ(8/76)
ص -80- ... تقي الدين وجمعاً من أهل العلم صححوا هبة المجهول المشاع، واستدلوا على ذلك بأدلة ظاهرة، وجهالة العين أخف من جهالة العدد؛ فالظاهر صحة الهبة في الصورة المذكورة، والوارث يقوم مقام الواهب في التعيين. وقول بعض أهل العلم: لا تملك إلا بالقبض، معناه: أن الواهب له الرجوع في الهبة قبل القبض، ولا رجوع في مسألتنا.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن امرأة دفعت حليها إلى ابنتها، تجمل به لزوجها وهم في بيت واحد، فكانت تستعمله في حياة أمها، فلما ماتت ادعت البنت استحقاقه بذلك؟
فأجاب: الذي يظهر لنا أن البنت لما لم تدع الهبة، لا تملك بمجرد الإذن في الاستعمال، والظاهر أن ذلك إعارة لا تمليك؛ ومفهوم كلام الأصحاب الذي أشرتم إليه، دليل على هذا، لأن الأم لم تجهزها به إلى بيت زوجها، فلم يوجد ما هو تمليك. وأما الصورة التي سئل عنها الشيخ سليمان بن علي، فالفرق بينها وبين مسألتنا ظاهر، وذلك أن الأم ادعت أن ذلك الحلي الذي اشترته وألبسته البنت أنه ليس للبنت، والظاهر أن ما كان عليها، فهو لها بحكم اليد، وليس هنا أصل يعارض هذا الظاهر. وأما مسألتنا فالأصل فيها قوي، ولم يوجد ما ينقل عن ذلك الأصل القوي، فيبقى(8/77)
ص -81- ... حكم الأصل. هذا ما ظهر لي في حكم المسألة، والله أعلم.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا جهزها أبوها بجهاز إلى بيت زوجها، هل تملكه بنقله... الخ؟
فأجاب: تملكه بذلك، قال في المغني: فرع: ما جهزت به المرأة إلى بيت زوجها من مالها، أو مال أمها، أو مال أبيها، ليس لواحد منهما ولا غيرهما أخذه، ولا شيء منه; وقال في الإقناع: وتنعقد بإيجاب وقبول، وبمعاطاة بفعل يقترن بما يدل عليها؛ فتجهيز ابنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لها. انتهى. فعلى هذا، إذا أرادت أمها أن تأخذ منه شيئاً، لم يكن لها ذلك.
وإن أراد الأب الرجوع لأجل التسوية بين أولاده - كما ذكرت في السؤال - فلا مانع له بشرطه، وهو: أن لا يتعلق به حق غير، أو رغبة، نحو أن يتزوج الولد أو يفلس، أو يفعل ما يمنع التصرف مؤبداً أو مؤقتاً، فإن تعلق به شيء مما ذكر فإنه لا يرجع؛ اختاره المصنف وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وهو مذهب مالك، لأن في رجوعه إبطال حقه، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1، كذا عللوه، هذا الذي يظهر لنا.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما إذا ألبست الأم ابنتها حلياً... إلخ، فقد رأيت في ذلك جواباً لأحمد بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الأحكام (2340), وأحمد (5/326).(8/78)
ص -82- ... يحيى بن عطوة، فإنه سئل: عما إذا وجد على البنت الصغيرة حلي، وثياب فاخرة، فما حكم ذلك؟ وهل تسمع دعوى الأم أن ذلك لها وإنما ألبسته إياها تجميلاً؟ أو دعوى الورثة أنه لمورثهم، وإنما جملها به؟ وهل بين الصغيرة والكبيرة فرق في ذلك؟ وهل ذلك عامٌّ الأب والأم.
فأجاب: الظاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرة، أن تجميل الأبوين بنتهما بكل ما يعد تجميلاً، أنه تخصيص لها بذلك، دون سائر من يرثهما، إذا لم تجر عادتهما بأنه عارية تجري عليها أحكامها. إذا عرف ذلك، فلا كلام لسائر الورثة في ذلك، بعد موت المخصِّص المعطي للزوم ذلك بموته، كما صرح به الأصحاب؛ والتخصيص سائغ أيضاً في مسائل، كفقر وعلم ونحوهما. وأما الأم، فإن أقامت بينة شرعية أن ذلك لها، وأنه عارية، ساغت دعواها بذلك، وإلا فلا. ولا فرق بين الصغيرة المميزة والكبيرة في ذلك; وأما غير المميزة فمحل نظر وتأمل.
والذي يظهر لي: أن ذلك عام الأب والأم، وإنما يعد الأب لأنه الغالب، والشيء إذا خرج مخرج الغالب، لا مفهوم له - إلى أن قال - فحيث ثبت إمكان ملك البنت، في المسألة المذكورة بما ذكر، فلا يجوز انتزاع ما صار إليها إلا بدليل راجح، يسوغ المصير إليه شرعاً. انتهى.(8/79)
ص -83- ... ومن جواب للشيخ سليمان بن علي - وقد سئل عن هذه المسألة -: إذا كان الحلي على البنت، ولو لم تذهب به إلى بيت زوج، وادعته الأم، لم تقبل إلا بينة أنه للأم، وأنه على البنت عارية؛ ولو أقامت الأم بينة أنها التي اشترته لم تقبل، حتى تقول: وهو عارية على البنت. انتهى.
سئل بعضهم: هل يجوز لإمام المسلمين قبول هدية المشركين أم لا؟ والمستدل على منعها بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [سورة الأنفال آية: 36] مصيب أم لا؟ فبينوا لنا، رحمكم الله بالدليل.
فأجاب: قبول هدية المشركين للأئمة جائز عند جميع علماء الإسلام، والإمام مخير بين قبولها وردها، وبين قبولها والمكافأة عليها؛ ولا ينكر هذا إلا رجل جاهل بهديه صلى الله عليه وسلم. وقد "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملك أيلة من ملوك الروم بغلة، فكساه برداً. وقد أهدى له المقوقس هدايا كثيرة منها جبة سندس، فعجب الناس منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا. وأهدى له صلى الله عليه وسلم أكيدر دومة هدايا، منها سلاح، ومنها بغال، ومنها حماره "يعفور" وأهدت له صلى الله عليه وسلم اليهودية شاة مشوية وقبلها وأكل منها، وأهدى له صلى الله عليه وسلم بالطائف عتبة وشيبة، طبق رطب مع عداس غلام عتبة،(8/80)
ص -84- ... وقبله وأكل منه، ومعه زيد بن حارثة".
وقال البخاري في صحيحه: باب قبول هدية المشركين، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة، فدخل قرية فيها ملك أو جبار، فقال: أعطوها آجر"، ثم ذكر البخاري أحاديث لا نطول بذكرها، فمن أراد يراجعها فليراجعها في مكانها.
وقد "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه إلى بني النضير، يكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين العامريين اللذيْن قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك"، ذكره البخاري.
فتأمل أيها المسترشد، رحمك الله تعالى، هديه وسيرته، يغنك عن هدي غيره، وعن تحكمات من لا يعلم؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلم بالقرآن ومعانيه ومضمونه وأوامره ونواهيه، ولو كان معنى الآية الكريمة ما ذكره هذا المعترض، لفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به، وبينه لأمته، كما بين أنواع المنهيات؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أمراء السرايا والمغازي عن قبول الهدايا، وأخبر أنها غلول، وهذا منه سد للذريعة، وإبعاد لهم عن التهمة؛ والكلام على هذا يطول جداً.
وأما معنى الآية الكريمة، فقال البغوي، رحمه الله، في معالم التنْزيل، في تفسير قوله تعالى: {لِيَصُدُّوا عَنْ(8/81)
ص -85- ... سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنفال آية: 36]: أي: ليصرفوا عن دين الله؛ قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثنا عشر رجلاً: أبو جهل بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبيّ بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث ابن عامر بن نوفل، والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر.
وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية... إلى آخر ما ذكر، رحمه الله.
فحكمها باق إلى يوم القيامة فيمن عمل عملهم؛ ولا ينبغي لمن يخشى الله والدار الآخرة أن يستدل بالقرآن على مراده وهواه، فإنه يجني على الشريعة أعظم جناية، ويكون من المفترين.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن وهب للثواب هل يرجع؟
فأجاب: الواهب إذا كان مراده الثواب، فإنه يرجع فيها إذا لم يُثَب، وأما الصدقة فليس حكمها حكم الهبة، لأن الصدقة أن يتصدق على إنسان لفقره، والهبة أن يهب لآخر شيئاً ولو مع غناه، تارة يريد بها المكافأة، وتارة على(8/82)
ص -86- ... وجه الكرم والتفضل.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: الهبة للثواب أو إرادته، الحكم فيها ظاهر، سواء اشترط ثواباً مجهولاً أو لا؛ وقد ذكر الموفق فيها روايتين: إحداهما: لا تصح. وعنه: يرضيه بشيء فتصح; وذكرها الشيخ تقي الدين ظاهر المذهب، قال الحارثي: هذا المذهب. فعلى هذا، عليه أن يعطيه حتى يرضيه، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع؛ وقد قال عمر رضي الله عنه: "من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها ما لم يُرض منها"، وروى معناه عن علي وفضالة بن عبيد، رضي الله عنهم. وأما الفرق بين بذل الثواب قبل النّزاع، أو بعده فلم يتبين لي فيه شيء.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: للواهب الرجوع في هبته، إذا لم يحصل له مقصوده الذي وهب لأجله.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا كان لرجل أرض ووهبها لابنه الصغير؟
فأجاب: إن قبضها له وأشهد، أو جعلها في يد رجل آخر، وجعله وكيلاً في قبضها منه لابنه، لزمه ذلك وقبضه من شرطه؛ وإن لم تقبض فلا لزوم. وعلى كل حال، فللوالد أن يرجع في هبته للولد، وأما إذا مات وصح القبض فلا رجوع، على ما ذهب إليه الأكثرون من العلماء.(8/83)
ص -87- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الهبة، هل تلزم بمجرد العقد؟
فأجاب: الهبة تلزم بمجرد العقد.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين، فلما برئ من المرض أراد الرجوع فيما زاد على الثلث... إلخ؟
فأجاب: هذا لا رجوع فيه، بل سقط الدين بمجرد إسقاطه؛ وإنما التفصيل فيما إذا أبرأ من الدين، ومات في ذلك المرض. وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول، بأن شرط عليه ذلولاً في الجهاد دائماً، ومتى ماتت اشترى أخرى، أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام، فهذا لا يصح، والبراءة والحالة هذه لا تصح.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الولد يبرئ من دين أبيه... إلخ؟
فأجاب: الولد لا يجوز له أن يبرئ من دين أبيه من غير رضاه.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أبرأت أباها من شيء في ذمته لها، ولم يذكر الكاتب أنه سمعها تقر بذلك، ولا شهد على لفظها، هل يثبت الإبراء شرعاً والحال أنها منكرة صدور ذلك؟
فأجاب: أرى أنه لا يثبت بذلك براءة والحالة هذه،(8/84)
ص -88- ... لأن الكاتب لم يذكر سماعه لكلامها، ولا ذكر شهادة منه بذلك.
فصل
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يجوز للوالد أن يفضل أحداً من أولاده في العطية؟
فأجاب: لا يجوز أن يفضل أحداً من أولاده على أحد منهم في العطية.
وأجاب أيضاً: الوالد إذا أعطى بعض بنيه عطية وحازها، لم يرجعوا عليه.
وأجاب ابناه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: لا يجوز للوالد التفضيل بين أولاده في العطية، بل يحرم عليه ذلك، ويجب عليه ردها أو التسوية بينهم، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة النعمان بن بشير، لما نحله أبوه نحلة، فقالت أمه: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فأخبره فقال: "كل أولادك أعطيت مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" 1، وفي لفظ آخر: "لا تشهدني على جور" قال النعمان: فرد أبي تلك العطية 2؛ وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، وهو الصواب.
وسئل أيضاً الشيخ عبد الله: عمن أعطى بعض بنيه، فلما مرض أراد الرجوع، هل يجوز له؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2586, 2587) والشهادات (2650), ومسلم: الهبات (1623), والترمذي: الأحكام (1367), والنسائي: النحل (3672, 3673, 3674, 3675, 3676, 3677, 3678, 3679, 3680, 3681, 3682, 3683, 3684, 3685, 3686), وأبو داود: البيوع (3542، 3543، وابن ماجة: الأحكام (2375, 2376), وأحمد (4/268, 4/269, 4/270, 4/273, 4/276), ومالك: الأقضية (1473).
2 البخاري: الشهادات (2650), ومسلم: الهبات (1623).(8/85)
ص -89- ... فأجاب: يجوز له، بل هو الواجب عليه، الذي إن تركه أثم بارتكاب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" 1؛ بل عند الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم: أنه لو مات ولم يعدل، ولم يرجع في الهبة، صار للباقين مشاركته في تلك الهبة.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن الجمع بين حديث النعمان بن بشير: "اتقوا الله واعدلوا..." 2، وحديث عائشة: "إن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً..." 3... إلخ؟
فأجاب: لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ولا قول غيره، ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها لحاجتها، وعجزها عن الكسب والتسبب مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من فضائلها; ويحتمل: أن يكون نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك؛ ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن حمله على مثل محل النّزاع منهي عنه، وأقل أحواله: الكراهة.
والظاهر من حال أبي بكر رضي الله عنه اجتناب المكروهات؛ هذا معنى ما في الشرح الكبير، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله: عمن أعطت أولادها الذكور،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587), ومسلم: الهبات (1623), وأحمد (4/270).
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587), ومسلم: الهبات (1623), وأحمد (4/270).
3 مالك: الأقضية (1474).(8/86)
ص -90- ... وهل الأم كالأب؟
فأجاب: كلام الشارع صلى الله عليه وسلم في وجوب التسوية شامل للأم، فإن كانت المرأة تزعم أنها أعطت البنات مثل ما أعطت الأولاد، وأمكن صدقها فحسن. فإن ثبت عندكم بأمارة أنها بارة الأولاد وقاطعة البنات، لزمكم أن تلزموها أن تعطي البنات مثل ما أعطت الأولاد على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على ظاهر كلام أحمد وغيره من أهل العلم. فإن ادعت غير ذلك، وزعمت أنها ما أعطتهم هذا العطاء الجزيل، إلا لأجل أن عندها لهم شيئاً أو غير ذلك من الأعذار التي يمكن معها صدقها، تركت.
وسئل: عن رجل جهز بناته الكبار، وله أولاد صغار، وأشهد في صحته بأن ثلاثين نخلة لأولاده الصغار، في مقابلة ما أعطى البنات... الخ؟
فأجاب: هذا عندي صحيح لازم، لأنه فعل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من التسوية بين الأولاد، والعدل بينهم; والراجح في عطية الوالد ولده عند الموت لأجل العدل بينهم أنها صحيحة لازمة، حتى إن الشيخ، رحمه الله، يختار أن الولد يرجع به على إخوانه، ولو ما أوصى به.
وسئل: إذا فضل الوالد بعض أولاده بإذن... إلخ؟
فأجاب: إذا فضل الوالد بعض الأولاد، بإذن الذين(8/87)
ص -91- ... لم يفضلوا، فالذي يظهر لي صحة ذلك، إذا أذنوا بطيب نفس ورضى، لأن الحق لهم في ذلك، كما أنه لا يجوز الوصية بزيادة على الثلث، إلا بإذن الورثة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما مسألة العطية، فلا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بين الأولاد، وكراهة التفضيل، لكن اختلفوا في صفة التسوية: فالمشهور عن أحمد: إن المستحب أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله في الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي: أنه يعطي الأنثى مثل ما يعطي الذكر.
وسئل أيضاً: إذا فضل الوالد بعض أولاده لمعنى فيه، كفقر أو عمى أو زمانة، فهذه المسألة فيها خلاف، واختار الموفق الجواز، وقواه في الإنصاف. واستدل الموفق لذلك بقصة عائشة، حيث نحلها أبو بكر جذاذ عشرين وسقاً، الحديث بطوله.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الذي أعطى أحد أولاده لضعفه، فالولد الضعيف يلزم أباه الغني أن ينفق عليه، فيكون من باب الواجب الذي سبب وجوبه حاجة الابن؛ فإن كان من الأولاد من هو مثله، وجب له مثل ما يجب لأخيه الماضي لفقره.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عمن أعطى(8/88)
ص -92- ... بعض أولاده وحازها، ومات ولم يعط الآخرين؟
فأجاب: الوالد إذا أعطى بعض بنيه عطية وحازها، ولم يعط الآخرين لم يرجعوا عليه.
وأجاب ابناه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: إذا أعطى بعض أولاده في حال الصحة، وفضلهم على الآخرين، وقبض المعطى العطية، ومات الوالد ولم يرجع في عطيته، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فالأكثرون قالوا: تمضي العطية لمن أعطيها، والإثم على الوالد المفضل بينهم، ولا تحسب من الميراث. ومن العلماء من قال: إما أن ترد، وإما أن تحسب عليه من الميراث، ولا يأخذ زيادة على إخوته؛ وهذا القول أقرب إلى الدليل وأحوط.
وأجاب الشيخ عبد الله أيضاً: الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الراجح عند كثير من الحنابلة وغيرهم، أنها تثبت للمعطى، ولا يرجع عليه الذين لم يعطَوْا شيئاً، ويكون الإثم على الوالد؛ وهذا هو الذي يفتي به شيخنا. والقول الثاني: أنهم يرجعون على المعطى ويكونون فيها سواء؛ وهذا اختيار الشيخ تقي الدين، وهو أقرب إلى ظواهر الأدلة.
وسئل أيضاً: عن الذي يحيف في عطيته لأولاده، هل يجب الإنكار عليه؟(8/89)
ص -93- ... فأجاب: هذا من المنكر الذي يجب على المسلمين إنكاره ورده.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: إذا أعطى بعض أولاده عطية في حال الصحة، وفضلهم على الآخرين، أو خصهم وقبض المعطى العطية، ومات الوالد ولم يرجع في عطيته، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وأكثر العلماء إلى أنه ليس لهم الرجوع، لأنها صارت لازمة في حق المعطَى بانتقالها إليه في حياة المعطي، واتصل بها القبول والقبض، قالوا: والإثم على الوالد المفضل بينهم.
وعن أحمد رواية ثانية: أنها لا تثبت، وللباقين الرجوع; اختارها ابن بطة وأبو الوفاء ابن عقيل، والشيخ تقي الدين، ذكره عنهم صاحب الإنصاف، وروى عن عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه. فعلى هذه الرواية الأخيرة: إما أن ترد، وإما أن تحسب عليه من ميراثه. قال الوالد والعم عبد الله في جوابهما: هذا القول أقرب إلى الدليل وأحوط. انتهى. لكن الذي أفتى به شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، واستمرت عليه الفتوى: مذهب الجمهور. انتهى.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: ليس لهم الرجوع،(8/90)
ص -94- ... قال في المغني والشرح: إذا مات - يعني الأب - قبل أن يسترده، ثبت ذلك للموهوب له ولزم، وليس لبقية الورثة الرجوع؛ هذا المنصوص عن أحمد، وبه قال مالك وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم، لكن بشرط صحة العطية، وأن لا تكون في مرض الموت. وأجاب بعضهم: إذا فضل بعض أولاده بعطية مال، فمات قبل المساواة، فالكلام في هذه المسألة في مقامين: المقام الأول: في جواز التفضيل وعدمه; فمذهب الإمام أحمد، رحمه الله: أن ذلك لا يجوز إذا كان على سبيل الأثرة. فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم أثم، إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل، ووجب عليه المساواة، إما برد الفاضل أو إعطاء الآخر حتى يتم نصيبه؛ وبهذا قال ابن مبارك، وروى معناه عن مجاهد وعروة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين.
وذهب الإمام مالك والثوري والليث، والشافعي وأصحاب الرأي إلى جواز التفضيل، وروى معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح، لأن أبا بكر نحل عائشة جذاذ عشرين وسقاً دون سائر أولاده، واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان: "أشهد على هذا غيري" 1، فأمره بتأكيدها دون الرجوع.
واحتج من ذهب إلى تحريم التفضيل، بما في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الهبات (1623), وأبو داود: البيوع (3542), وابن ماجة: الأحكام (2375), وأحمد (4/270).(8/91)
ص -95- ... الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: "تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أكُلَّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي، فردّ تلك الصدقة" 1، وفي لفظ: "قال: فاردده"، وفي لفظ: "فارجعه"، وفي لفظ: "فلا تشهدني على جور" 2، وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري" 3، وفي لفظ: "سوِّ بينهم"، متفق عليه، وهو دليل على التحريم، لأنه سماه جوراً وأمره برده، وامتنع من الشهادة عليه؛ والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها وخالتها.
وقول أبي بكر: لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن الكسب والتسبب مع اختصاصها بفضلها، ولكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من خصائصها. ويحتمل أن يكون نحلها ونحل غيرها من ولده، أو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك. ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن التفضيل منهي عنه، وأبو بكر لا يفعل المنهي عنه مع علمه بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587), ومسلم: الهبات (1623).
2 البخاري: الشهادات (2650), ومسلم: الهبات (1623), والنسائي: النحل (3681, 3682, 3683), وأحمد (4/273).
3 مسلم: الهبات (1623), وأبو داود: البيوع (3542), وابن ماجة: الأحكام (2375), وأحمد (4/270).(8/92)
ص -96- ... وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد على هذا غيري" 1 فليس بأمر، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده، مع أمره برده وتسميته إياه جوراً؟ ولو أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل ولم يرده؛ لكن قوله: "أشهد على هذا غيري" 2 تهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت آية: 40]. فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، من حاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عياله، أو لاشتغاله بالعلم، ومنع بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه، ونحوه، فاختار الموفق جواز ذلك، واستدل له بحديث أبي بكر، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها، كما لو اختص بالقرابة.
وأجاب عن حديث النعمان بأنه قضية عين لا عموم لها; وقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنه قال في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة; والعطية بمعنى الوقف. قال في الإنصاف: قلت وهذا قوي جداً، ويحتمل أن يمنع من التفضيل بكل حال، لحديث النعمان لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً في عطيته.
وأما المقام الثاني: وهو إذا فضل أو خص بعضهم، ثم مات قبل الرجوع والمساواة، فهل تثبت العطية للمعطى أو للباقين؟ فقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فروي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الهبات (1623), وأبو داود: البيوع (3542), وابن ماجة: الأحكام (2375), وأحمد (4/270).
2 مسلم: الهبات (1623), وأبو داود: البيوع (3542), وابن ماجة: الأحكام (2375), وأحمد (4/270).(8/93)
ص -97- ... عنه: أنها تثبت للمعطَى وليس لبقية الورثة الرجوع، نص على ذلك في رواية محمد بن الحكم والميموني، واختاره الخلال وصاحبه أبو بكر. قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم: لقول أبي بكر لعائشة لما نحلها: "وددت لو أنك حزتيه"، فيدل على أنها لو حازته لم يكن لهم الرجوع. وقال عمر: "لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد، دون الوالد".
والرواية الأخرى: لباقي الورثة أن يرجعوا ما وهبه، اختاره أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفصة العكبريان، وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق. قال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها، وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جوراً بقوله لبشير: "لا تشهدني على جور" 1، والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطي تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جوراً حراماً، فيجب رده.
ولأن "أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما: أمرا قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له"، ولم يكن علم به ولا أعطاه شيئاً، وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد بإسناده: أن "سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام فمات بها. ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشهادات (2650), ومسلم: الهبات (1623).(8/94)
ص -98- ... بكر وعمر، رضي الله عنهما، إلى قيس بن سعد، فقالا: إن سعداً قسم ماله ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال: لم أكن أغير شيئاً صنعه سعد، ولكن نصيبي له".
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن أخذ الأب من مال ابنه... إلخ؟
فأجاب: وأما الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه؟ سواء كانت الأم موجودة أو لم تكن، ولا يجوز له أن يعطي منه، ولا يهب، ولا يتصدق.
وأجاب أيضاً: وأما الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه، صغيراً كان أو كبيراً، بالشروط المذكورة في كتب الفقه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: ما قولكم، وفقكم الله للصواب: إذا كان زيد أباً لعمرو، وأخذ زيد قسماً من مال عمرو، هل يحل له ذلك؟ وإذا طلب عمرو وأولاده بعده، استرجاع ما أخذ زيد، فهل لهم ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: الحمد لله، يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 1، وقوله: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: التجارات (2291).
2 الترمذي: الأحكام (1358), وابن ماجة: التجارات (2290), وأحمد (6/162).(8/95)
ص -99- ... ويشترط لأخذه من ماله ستة شروط: أحدها: أن يأخذ ما لا يضر الولد، ولا يحتاجه. الثاني: أن لا يعطيه لولد آخر. الثالث: أن لا يكون في مرض موت أحدهما. الرابع: أن لا يكون الأب كافراً، والابن مسلماً. الخامس: أن يكون عيناً موجودة. السادس: تملكه ما يأخذه من مال الولد، بقبض مع قول أو نية. هذا معنى كلام فقهائنا، رحمهم الله، وعليه الفتوى. ومنه يعلم: أنه ليس للولد استرجاع ما أخذه الأب بهذه الشروط الستة المذكورة; وأما مع فقدها أو فقد بعضها، فللولد استرجاعه، لعدم ثبوت ملك الأب عليه. هذا إن كان عيناً موجودة؛ وإن لم يكن كذلك، ثبت المثل في ذمة الأب، إن كان مثلياً، والقيمة إن كان متقوماً.
وحكم أولاد عمرو، حكم أبيهم، إن استمر عدم ثبوت ملك زيد لذلك إلى وفاة عمرو، لأنه حينئذ يكون من جملة مخلفات عمرو.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن امرأة ماتت عن زوجها وابنها وبنات، وخلفت شيئاً من الحلي وصار تحت يد الزوج جميعه، فمات ولم يوص به لعياله، ولم يشهد أنه تملكه أبوهم؟
فأجاب: قال في المقنع: وإن تصرف يعني الأب في مال ولده قبل تملكه ببيع أو عتق أو إبراء من دين، لم(8/96)
ص -100- ... يصح تصرفه. انتهى. وهذا المذهب. وله تملكه بالقبض، نص عليه، مع القول أو النية، قاله الفقهاء، رحمهم الله، من أصحاب أحمد. فقد عرفت: أنه لا يصح التصرف قبل التملك، لأن مجرد قبض الوالد لمال ولده لا يكتفى به في ثبوت الملك، بل لا بد معه من القول المصرح بتملك مع القبض ومع الإشهاد عليه، مع أن مذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي: أن الأب لا يتملك من مال ولده إلا ما احتاج إليه فقط، ذكره عنهم في المغني وغيره، خلافاً لأحمد.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: هل للوالد أن يتملك جميع مال ولده الصغير، أو بعض ماله الذي يضر به؟ أم حكم الصغير كالكبير والغني كالفقير... إلخ؟
فأجاب: للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، صغيراً كان الولد أو كبيراً، غنياً كان الأب أو فقيراً، بشروط ستة مقررة في محلها: منها: أن لا يضر بالولد ضرراً يلحقه في الحاجات الضروريات، كتملك سريته ونحو ذلك، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يعطيه ولداً آخر، وأن تكون عيناً موجودة، وله الرجوع في الهبة إذا كانت عيناً باقية في ملك الابن، لم يتعلق بها حق أجنبي ولا رغبة، كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة.(8/97)
ص -101- ... وعنه: الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء، كما توهمه السائل؛ بل ذلك من التصرفات في الهبة. وقد نص فقهاؤنا: على أن كل تصرف للابن لا يمنعه من التصرف في العين، ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته والتصرف فيها. والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية لا يمنع الرجوع.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: للأب أن يتملك من مال ولده، مع حضوره وغيبته، ورضاه وسخطه، وصغره وكبره؛ فإذا ملكه فله التصرف فيه، بأي نوع من أنواع التصرفات. ولا بد من قول الأب: تملكت هذه العين من مال ابني. وأما ما تصرف فيه الولد من أعيان ماله، من بيع أو هبة أو غير ذلك، فلا يملك الأب إبطال تصرفه، لتعلق حق الغير به.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا قال: وهبتك عمرك أو عشر سنين... إلخ؟
فأجاب: إذا وهبه وقال: وهبتك عمرك، أو عشر سنين، فمثل هذا يجوز.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: أما العمرى والرقبى، ففيها خلاف بين الفقهاء، ولا يتبين لي الآن وجه كونها لمن أَعمَرها أو لمن أُعمِرها. وأما الذي يشبه لفظ العمرى(8/98)
ص -102- ... عندنا، هو أن يقول: هي لك حياة عينك، أو ما عشت، أو حياة عيني، وأشباه ذلك.
وأجاب أيضاً: وأما العمرى والرقبى، ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة؛ والذي نختاره: أنه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها. وإذا أعطى عطية وقبضها المعطَى، فلا يجوز للمعطي الرجوع; فإن أعطاه أرضاً يستغلها سنة أو سنتين أو ثلاثاً، فإذا مضت المدة جاز له إرجاعها.
وسئل أيضاً: عن كلام الشيخ في الهبة، إذا اشترط رجوعها إلى المعمِّر؟ - بالكسر - أو قال: لآخرنا موتا، هل ترون شيئاً يمنعه؟
فأجاب: الذي نرى أن الأحاديث تمنعه، وأخذ بظاهرها كثير من الفقهاء؛ وكلام الشيخ هو الموافق للأصول والقواعد.
وأجاب الشيخ محمد بن محمود: وأما مسألة العطية، فإن كان على وجه المنيحة، كأن يقول: ولك غلته أو لك سكناه أو لك خدمته، فحكمه حكم العارية متى شاء استردها، وإن قال: هي لك حياتك أو عمرك أو حياتي، فهذه العمرى تكون للذي أعطيها ولورثته، ولا ترجع للذي أعطاها.(8/99)
ص -103- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن حضرتها الوفاة، وأحضرت شاهد عدل، وأشهدت على نفسها: أنها أبرأت زوجها من صداقها؟
فأجاب: إن كان الصداق ثابتاً عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة بقية الورثة، وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد، ويثبت أيضاً بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها: أنها أبرأته في الصحة، لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن إبراء المريض في مرض الموت، ورجوعه... إلخ؟
فأجاب: إبراء المريض في مرض موته من الثلث، ولا يصح رجوعه عن الإبراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الوصايا (2870), وابن ماجة: الوصايا (2713).(8/100)
ص -104- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الفرق بين العطية والوصية...إلخ؟
فأجاب: أما الفرق بين العطية والوصية، فالفرق بينهما ظاهر كما ذكر في الشرح: أنها تفارقها في أربعة أشياء; وأما كون أهل بلدك لا يفرقون بينهما، فالألفاظ لا يعتبر بها. فإذا كان عندهم أن الوصية بمعنى العطية والهبة، فهي كذلك، وكذلك اللفظ؛ فكل هذا ينظر إلى مقصود المتكلم بذلك وعرفه في بلده، فإن كان مراده أنه يمضيها له في حياته وبعد موته، صارت بمعنى العطية والهبة، وإن كان العرف عندهم أن مراده بذلك إن مات، فهي بمعنى الوصية، ثبتت لها أحكامها.(8/101)
ص -105- ... كتاب الوصايا
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أوصى في الجاهلية، هل هو كمن أوصى في الإسلام؟ وهل يفرق بين صحيحها وفاسدها؟
فأجاب: الذي يوصي بوصايا في الجاهلية لا تجوز في الإسلام، فما أدركه الإسلام قبل قبضه بطل، ولا ينفذ على الوجه الصحيح الشرعي. وأما إذا مات الموصي، وقبض الموصَى له المال، ثم أسلم بعد ذلك، فهذا يقر في يده ما كان قد تملكه قبل الإسلام، ولو كان بغير وجه صحيح؛ والإسلام يجُبُّ ما قبله، وسواء في ذلك الوصية والمواريث، والعقود الفاسدة.
وأجاب أيضاً: الذي أوصى في الجاهلية بأعمال البر، فالعادة ندعه على ما أوصى به، ولا نتعرضه.
وسئل، رحمه الله: عمن لا يملك إلا عشرين ريالاً، أو خمسة عشر، ويوصي بحجة، أو لا يوصي، هل تقدم الحجة على الميراث والحالة هذه؟
فأجاب: كلام أهل العلم لا يخفى عليك، ولكن مشكل علي كون مثل هذا يؤخذ من ماله، أو تصح الوصية(8/102)
ص -106- ... به والحالة هذه؛ والذي ذكر أهل العلم: أن من شروط الحج أن يملك زاداً وراحلة، وما يحتاج إليه في سفره، بشرط أن يكون ذلك فاضلاً عن قوته وقوت عياله، حتى قال أكثر الحنابلة على الدوام، وفاضلاً عن وفاء دينه، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، أو لغيره. وأتحرى أن مثل هذا الذي تذكر، ما توجد فيهم هذه الشروط، وعلى هذه الحال، لا يؤخذ من مالهم شيء، ولو وصى به أحد منهم، لم تصح وصيته.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن شخص أوصى في ثلث ماله بثلاث أضاحي، وأفرز الورثة شقصاً قدر عشر الثلث، وهو وقت الإفراز يفي بالأضاحي، والآن ما يفي بواحدة، فطلب ولي الأضاحي إكمالها من ثلث مال الموصي، فهل له ذلك؟
فأجاب: إذا عين الموصي الأضاحي في ثلث ماله، لم يجز للورثة حيازتها في بعض الثلث، لأن ظاهر لفظ الموصي تقديم الأضاحي، والخارج من الثلث بعدها، ولا يجوز العدول عن نصه؛ وهذا الإفراز ظلم من الورثة، والله أعلم.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: متى تصح وصية الصبي؟
فأجاب: أما وصيته، فقال في المغني: من جاوز عشر سنين، فوصيته جائزة إذا وافق الحق؛ قال أبو بكر: لا(8/103)
ص -107- ... يختلف المذهب أن من له عشر سنين تصح وصيته، ومن له دون سبع سنين فلا تصح وصيته؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. وما بين السبع والعشر فعلى روايتين. انتهى. وقال في الشرح الكبير نحو ذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن وصية الجارية التي لم تبلغ؟
فأجاب: قد ذكر العلماء أنها تصح وصية الصبي العاقل في ماله بقدر الثلث.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن اعتقل لسانه عن بعض الكلام وهو مريض، وقيل له: أوص لفلان بكذا، وكرر عليه، ثم قال: فلاناً يسميه، ويشير برأسه إشارة ولم يتكلم به.
فأجاب: العلماء اختلفوا في وصية من اعتقل لسانه: فقال في الشرح لما ذكر صحة وصية الأخرس: فأما الناطق إذا اعتقل لسانه فعرضت عليه وصية، فأشار بها وفهمت إشارته، فلا تصح وصيته إذا لم يكن ميؤوساً من نطقه؛ ذكره القاضي وابن عقيل، وبه قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة. ويحتمل أن تصح؛ وهو قول الشافعي وابن المنذر. وقال في الإنصاف: لا تصح وصية من اعتقل لسانه، وهو المذهب، وعنه التوقف. ويحتمل أن تصح إذا اتصل(8/104)
ص -108- ... بالموت وفهمت إشارته؛ اختاره في الفائق؛ قلت: وهو الصواب. قال الحارثي: وهو الأولى، واستدل له بحديث رَضِّ اليهودي رأس الجارية وإيمائها. انتهى. وهذا الاختلاف فيما إذا اعتقل لسانه واتصل به الموت. وهذا المسؤول عنه قد تكلم باسم الرجل، فالظاهر من حاله أنه يقدر على التلفظ بالوصية فلم يلفظ بها، فلا يدخل تحت الصورة المختلف فيها، والأقرب عندي عدم الصحة.
وأجاب أيضاً: إذا أوصى رجل في مرض موته، فقال الورثة: أوصى وهو لا يعقل، وقال بعضهم: بل أوصى وهو عاقل. هل تصح وصيته أو لا؟ فالذي يظهر لي صحة الوصية; لأن الأصل ثبوت العقل وصحة الوصية؛ ومن ادعى خلاف ذلك فعليه البينة.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: وجدت على ظهر وثيقة أوصى بها عبد الرحمن بن محمد القاضي: إن كانت هذه الوثيقة بيد ورثة الموصي، وسبق عمل بها من وارثه أو وارث وارثه، ولم ينازع أحد من الورثة في صدورها عن مورثهم، فهذا منهم إقرار بالوصية وتسليم لمقتضاها؛ فيثبت الحكم الشرعي والتقرير لمضمون الوصية، وهو حجة شرعية. وإذا كان بخط من يوثق به من طلبة العلم المعروفين بالدين والأمانة، فهو مما يقوي ثبوت هذه الوصية والعمل بها.(8/105)
ص -109- ... [ الوصية بالأضاحي ووصية افقير ]
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الوصية بالأضاحي ووصية الفقير؟
فأجاب: أما الوصية بالأضحية فلا أرى بها بأساً، ولكن إنما تستحب الوصية لمن ترك خيراً؛ قال العلماء: المراد بالخير المال الكثير عرفاً، وأما الفقير فتكره الوصية في حقه، لا سيما إن كان ورثته فقراء، وكذلك من عليه دين لا ينبغي له ذلك، بل يبدأ بإبراء ذمته. لكن من طلب منك أن تكتب له فاذكر له المشروع، فإن عرفت أنه فقير ووارثه فقير، فلا أرى أنك تكتب له، وكذلك من عليه دين ربما يستغرق ملكه أو يقارب، فلا أرى الكتابة له.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عمن قال: الوصية بالحجة والأضحية بدعة؟
فأجاب: القائل هو المبتدع بهذا القول، لأنه لم يسبق لذلك، وإذا كان الحج فرضاً من فرائض الإسلام، والتطوع به من أفضل القرب، كيف ينهى عن الوصية بالتطوع به، أو يقال هو بدعة؟ والقائل جاهل لا يعرف أصول السنة. غاية ما يقال: قد تكون الوصية للأقارب أفضل من ذلك، لا سيما حين فشا أخذ الجعالة على ذلك، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة حين تصدق بحديقته "بيرحاء"، ولم يعين جهة، قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلها في الأقربين" 1؛ لكن القائل لا يحسن، أراد أن يجعل ترك الأولى بدعة ينهى عنه. كذلك الأضحية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1461), ومسلم: الزكاة (998), والترمذي: تفسير القرآن (2997), والنسائي: الأحباس (3602), وأبو داود: الزكاة (1689), وأحمد (3/141), ومالك: الجامع (1875), والدارمي: الزكاة (1655).(8/106)
ص -110- ... مشروعة بالإجماع ومرغب فيها، ولا نهى أحد من الأئمة المقتدى بهم عنها في حق الميت، وإن كانت من الحي أولى وأفضل، لكن تسمية ترك الأولى بدعة، والنهي عنه جهل وضلال.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عمن أوصى بوصية ثم أوصى بعد بثلث ماله؟
فأجاب: أما إذا أوصى بوصية وعلقها على الموت، ثم أوصى بعد ذلك بثلث ماله، فإن الوصية تكون من الثلث، إلا إن كان منجزها.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: أما الوصايا، فإنها من الثلث بلا إشكال، وأما الوقف، فإن كان ذلك صادراً في حال الصحة فهو من رأس المال، وإن كان لم يصدر إلا في حال المرض فهو من الثلث. وإذا قال في أوقافه أو وصاياه: هذا قادم في جميع مالي، فقوله هذا لا عبرة به؛ فلو وصى بزيادة على الثلث لم يصح إلا برضى الورثة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الذي أوصى في مرض موته، بأن بستانه وقف على بناته دون غيرهن من الورثة، فالوقف والحال ما ذكر غير صحيح، ولو خرج من الثلث، كما اختاره أبو حفص العكبري، والشيخ أبو محمد، وأبو الوفاء ابن عقيل؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، خلافاً للمنصوص الثاني المعتمد عند المتأخرين، لأن الواقف قد(8/107)
ص -111- ... خصص بعض ورثته بالمال دون الباقين، والقرينة مشعرة بالحرمان، فمنع منه كالوصية في المرض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" 1، ويكون البستان المذكور بين الورثة على قدر ميراثهم إرثاً.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: عن رجل أوصى فيما خلف بثلاث حجج، وثلاث أضاح، وأوصى بثلث ماله وقفاً على عياله وعيال عياله ما تناسلوا، ويخص الضعيف، فإن استووا، فهم فيه بالسوية على حسب الميراث؟
فكتب على الوصية المذكورة: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث" 2؛ فما أوصى به الميت لورثته من الوقف باطل، وإنما يثبت ما فيها من الحجج والأضاحي، والباقي ميراث على ما بيّنه الله في كتابه.
أوصى رجل: بثلث ماله في ثلاث حجج، وثلاث أضاح ومسقاة ومسجد، وعلى المسجد ثلاثين وزنة، وأوجب على نفسه في حياته لابنيه علي وأحمد، كل واحد خمسة عشر ريالاً يتزوج بها، وذلولاً في الجهاد في سبيل الله، وما فضل عما ذكر فعلى الضعيف القريب. وللقائم في الوصية خمسون وزنة، والولي الأصلح من العيال يختاره أهل المعرفة من القرابات. والزوجة إن لم تتزوج فتأكل مع القرابة من الوصية. كاتب الوصية: الشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).
2 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).(8/108)
ص -112- ... محمد بن مقرن، وكتب عليها الشيخ عبد الرحمن بن حسن: هذا صحيح ثابت، والوقف ما فيه نائبة ولا زكاة.
سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن أوصى لبعض أولاده؟
فأجابا: إذا أوصى الرجل لبعض أولاده أو بعض ورثته، لم تصح الوصية، ولا يجوز إنفاذها بعد موته؛ وقد اتفق العلماء: أن لا وصية لوارث. فإذا أوصى بذلك فالوصية باطلة، إلا إذا أجاز ذلك الورثة، بشرط أن يكونوا رشيدين ليس فيهم سفيه ولا صغير.
أوصى لبعض ولده بقصد التعديل
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن أوصى لبعض ولده بقصد التعديل... إلخ؟
فأجاب: مقتضى ما اعتمده علماؤنا وصححوه، أن على الوالد التسوية بين أولاده، إما بالرجوع أو الإعطاء للآخر حتى يستويان، ولو في مرضه. فظاهره: حصرهم التسوية في هذين الأمرين، ولو جاز له الإيصاء بالتسوية لكان أمراً ثالثاً، ولو كان جائزاً لما أهملوه، وليس على الأب واحد منهما بعينه، حتى يقال يجب أو يجوز الإيصاء; فإذا انتفى وجوب الإعطاء بعينه، انتفى موجب تخصيص عموم حديث: "لا وصية لوارث" 1، يوضحه قول الفقهاء: فإن مات قبل التعديل ثبت للمعطَى، ولم يرجع الباقون على الأصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).(8/109)
ص -113- ... وعنه: يثبت للباقين الرجوع؛ اختاره ابن بطة وأبو حفص وابن عقيل، والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، فلم يقيدوا واحداً من القولين بعدم الإيصاء، فعدم تقييدهم به يدل على عدم جوازه; ومن المعلوم أن الوصية تبرع بعد الموت، وهو غير مأذون فيه للوارث، ونصهم في الوصايا: ولا تجوز لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة; وقال بعض الأصحاب: الوصية باطلة، يؤخذ من عمومه المنع في صورة السؤال، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن وارث أجاز الوصية فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع... إلى آخر السؤال؟
فأجاب: ليس له ذلك بل متى أجازه لزمه، وكذا لو أقر بدين على مورثه ثم رجع، أخذ بإقراره في قدر نصيبه، وأما إذا أجاز الوارث الوصية، لظنه أن الموصَى به قليل، فكان كثيراً، فالقول قوله مع يمينه، وله الرجوع فيما زاد على ظنه، إلا أن يكون لا يخفى عليه قدره. وكذا لو أوصى بثلث التركة لبعض الورثة، فأجازه بعضهم لظنه أن مال الميت قليل فبان كثيراً، فله الرجوع فيما زاد على ظنه، إلا أن يكون المال ظاهراً لا يخفى. انتهى.
[ الوصية لبعض الورثة دون بعض ]
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الوصية لبعض الورثة دون بعض؟(8/110)
ص -114- ... فأجاب: الحمد لله، الوصية للوارث لا تجوز، لما ثبث في السنن والمسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث" 1، كما رواه أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجة والنسائي وغيرهم، عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: "إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية" 2. وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع في خطبته: "إن الله قد أعطى كل ذي حظ حظه، فلا وصية لوارث" 3، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد روى حديثه عن الشاميين جماعة، منهم الإمام أحمد والبخاري؛ وهذا من روايته عن الشاميين، فإنه رواه عن شرحبيل بن مسلم الشامي وهو ثقة، وقد صرح في روايته بالتحديث عنه الترمذي. وفي الباب عن أنس عند ابن ماجة، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وجابر، كلاهما عند الدارقطني، وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منهما من مقال؛ لكن بمجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل احتج الشافعي أن متنه متواتر.
وترجم البخاري في الصحيح: باب لا وصية لوارث: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ورقى، عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال: "كان المال للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).
2 النسائي: الوصايا (3642), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/186).
3 أبو داود: البيوع (3565), وأحمد (5/267).(8/111)
ص -115- ... فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن أو الربع، وجعل للزوج الشطر أو الربع"، رواه ابن جرير. وروى أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [سورة البقرة آية: 180]: نسختها هذه الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء آية: 7]، وبما قال ابن عباس، روي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وسعيد بن جبير وشريح، ومجاهد ومحمد بن سيرين والضحاك وعكرمة وقتادة، وزيد بن أسلم والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان والسدي وإبراهيم النخعي ومسروق، ومسلم بن يسار والزهري والعلاء بن زياد وغيرهم; هذا إذا قلنا إن الوصية واجبة في أول الأمر، كما هو الظاهر من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.
وقيل: إنها غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية الميراث، ومعناه: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين، من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [سورة النساء آية: 11]. والصحيح: قول ابن عباس وابن عمر وأبي موسى وغيرهم كما تقدم؛ وبمقتضى هذه(8/112)
ص -116- ... الأحاديث قال فقهاء الأمصار في القديم والحديث.
وأما إذا أوصى لبعض الورثة دون بعض، مع إجازة الورثة، فاختلف العلماء في ذلك: فالجمهور يقولون: تصح الوصية إذا أجاز الورثة. وقال المزني وداود: لا تجوز الوصية وإن أجاز الورثة، واحتجوا بما تقدم من الأحاديث. واحتج الجمهور بحديث ابن عباس مرفوعاً: "لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة"، رواه الدارقطني والبيهقي عن عطاء عن ابن عباس، ورجاله ثقات، لكنه معلول؛ فقد قيل: إن عطاء هو الخراساني، وقد تكلم فيه الحفاظ، وقال الذهبي: إنه صالح الإسناد.
وأجابوا عن حديث: "لا وصية لوارث" 1 بأن المراد: إذا لم يجز الورثة، لأن المنع في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوا لم يمتنع; فتبين بما ذكرنا: أن الوصية لبعض الورثة دون بعض موقوفة على إجازة بقية الورثة، على قول الجمهور، وأنهم إذا لم يجيزوا ذلك فهي باطلة بالإجماع. وأما إن أجاز بعضهم دون بعض، فتجوز في حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عمن أوصى لآخر بوصية، فماتا بحادث؟
فأجاب: الذي يظهر أنها لا تنفذ ولا تصح من وجهين: الأول: أن الوصية هي التمليك بالتصرف بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الوصايا (2121), والنسائي: الوصايا (3641, 3643), وابن ماجة: الوصايا (2712), وأحمد (4/187), والدارمي: الوصايا (3260).(8/113)
ص -117- ... الموت، فهي جارية مجرى الميراث، من حيث كونها انتقال مال من إنسان بغير عوض؛ فلا تُسْتَحَق إلا بتحقق حياة الموصَى له بعد موت الموصي. الوجه الثاني: أن الذي عليه جمهور الفقهاء: أن الملك لا يثبت للموصَى له إلا بالقبول بعد الموت، إذا كان الموصَى له واحداً، أو جمعاً محصوراً. قال أحمد: الهبة والوصية واحد. وقد عرفت أن الوصية المذكورة لا تنفذ ولا تصح.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عمن أوصى في الجاهلية لإناث، وجاء الإسلام والمال في أيديهن؟
فأجاب: وأما إذا أوصى لإناث بوصية مدة حياتهن، وجاء الإسلام والمال في يد الإناث، فإنه يكون لهم ولورثتهم. وإذا أوصى الميت أن يصرف ماله في ختمة، وقصده التقرب إلى الله، فصرفت في محاويج يقرؤون القرآن ختمة وأكثر، كان ذلك أفضل وأحسن.
أوصى عند موته بعشاء لجيرانه، فهل ترده على الورثة؟
وسئل أبوه: عن الذي يوصي عند موته بعشاء لجيرانه، فهل ترده على الورثة، أو تصرفه في قرابة الميت؟
فأجاب: يصير على ما قال الموصي، لأنه لا يخالف الشرع. وأما الذي أوصى من ثلث ماله بحجة دراهم معلومة(8/114)
ص -118- ... وهو ميت قبل هذا الدين وورثته فقراء، هل تصرف عليهم أو يحج عنه؟ فيقول: إن وجدوا من يحج لوجه الله لا لأجل الدراهم لكن يتعاون بها، فهي على وصيته، وإن كان ما حصل أحد يحج عنه على هذا الوجه، فهي تصرف على قرابته. انتهى.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: عمن أوصى بحجة ولم يبين قدرها وكذلك الأضحية؟
فأجاب: الحجة الموصى بها المرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أوصى بحجة أخرج من ثلثه ما يكفي الحاج، سواء قيل القدر عشرة أو أكثر. وكذلك الأضحية الموصى بها، يجزي فيها الجذع من الضأن، والثني من المعز. فإذا أوصى بغلّة نخلة في أضحية صرفت في ذلك، فإن فضل منها شيء اشترى به ثانية، لأن التعدد في الأضحية جائز. فإن أراد الولي صرف الفاضل إلى قريب محتاج، فهو حسن ولا يمنع من ذلك.
وقد ذكر الشيخ تقي الدين، وغيره من أهل العلم: إن صرف الوقف من جهة إلى جهة جائز للمصلحة، فإذا كان يجوز صرفه عن الفقراء إلى الجهاد ونحوه للمصلحة، فالفاضل عن الجهة أولى وأحرى.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا دَبَّرَ عبده وأوصى بثلث ماله... إلخ؟
فأجاب: إذا دبر عبده وأوصى بثلث ماله في بر، فإن(8/115)
ص -119- ... الجميع يخرج من الثلث، لأن التدبير وصية على المشهور، وله الرجوع في الوصية وبيع المدبر على اختلاف في ذلك. والذي أوصى بوصية لمن أذّن في هذه المنارة المعينة جميع الأوقات، واشترط في استحقاق الوصية المذكورة: أن لا يخل بذلك وقتاً من الأوقات، فإذا لم يلتزم المؤذن ذلك الشرط لم يستحق شيئاً، فإن رأوا صرفه إلى المؤذن وإن لم يلتزم ذلك الشرط فحسن، وإلا صارت الوصية المذكورة ميراثاً.
وسئل: عمن أوصى بدراهم يحج عنه بها، فاشترى بها نخلات وحصل من ريعها ما يفي بحجة... إلخ؟
فأجاب: النخلات وما حصل منها يصرف كله في حجج عن الموصي. ونص أحمد فيمن أوصى بدراهم في وجه بر، أو ليشترى بها ما يوقف، فاتجر بها الوصي، فربحه مع أصل المال فيما أوصى فيه ولا زكاة فيه، وإن خسر ضمن النقص؛ هذا نص أحمد نقله عنه جماعة من أصحابه.
وذكر الشيخ تقي الدين وغيره في الموصى به ليوقف، أنه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه، أن نماءه يصرف مع الوقف.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أوصى بثلث ماله على أعمال بر وذريته ضعفاء؟
فأجاب: إن كانت الوصية على أعمال البر، جاز(8/116)
ص -120- ... لمتوليها أن يدفع إليهم من الوصية ما يستعينون به في حاجاتهم، وإن كانت الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصى به، فإن كانت على حجج غير حجة الإسلام، فتصرف على المحتاج من ذريته، وكذلك ما كان على الأضحية صرف على فقراء ذريته، لأن الصدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا لها، فلا بد من تنفيذ الوصية ابتداء، ثم يكون النظر للمتولى عليها.
[ الوصية على الأقارب ]
وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن الوصية على الأقارب... إلخ؟
فأجاب: الوصية على الأقارب يدخل أولاد الموصي فيها، لأنهم أقرب القرابة ولا يختصون بها.
سئل الشيخ علي بن عيسى: إذا قدر الموصي الأضحية بريال... إلخ؟
فأجاب: الظاهر أن تقدير الموصي الأضحية بريال قصده الأعلى، لأن الريال في ذلك الوقت قيمة أعلى أضحية، وأما الريال اليوم فلا يحصل به شيء، ولا أدنى مجز، فلا يصار إلى التقدير المذكور، وتكون الأضحية في أعلى الموجود.
سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عمن أوصى لأمه بأضحية في حياتها، ولا أجاز الورثة... إلخ؟(8/117)
ص -121- ... فأجاب: الوصية المذكورة ظاهرها الصحة، والوصية للوارث الممنوعة شرعاً هي التي يقصد بها الموصي التمليك، بحيث أن الموصى له يتصرف فيها تصرف الملاك بالبيع وغيره، وأما إذا أوصى الإنسان لبعض ورثته كوالده، بأضحية دائمة في ملك معين، فهو في الحقيقة لم يوص له إلا بالثواب؛ وهذا من البر الذي يحبه الله. وهذا الموصى له لا يملك إبطال الوصية، ولا التصرف فيها، والموصي ما قصد إلا تولي أضحيتها في حياتها، ولا مانع لولايتها عليها.
وأما قول بعض الورثة: ما نجيز الأضحية لها إلا أن يقسم لحمها على الورثة، فهذا خطأ من وجهين: الأول: أن الأضحية لها بلا إجازة. والثاني: أن الأضحية قربة إلى الله ما يقسم لحمها على الورثة، والذي يليها إن أحسن أحسن لنفسه، وإن أساء فعليها.
قال الشيخ علي بن عيسى: هذا صحيح، وهو المفتى به عندنا.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما وصية الرجل لأمه أو أبيه، بأضحية أو حجة وهم أحياء، فلا يمنع من ذلك، لأنه ليس بتمليك، وإنما هو من باب البر والإحسان إليهما بالثواب. انتهى.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما(8/118)
ص -122- ... إذا أوصى الإنسان بشيء من ماله يحج به لبعض ورثته أو يضحى به عنه؟
فأجاب: الذي يظهر صحة هذه الوصية ولزومها في الثلث بدون إجازة، لأن الموصى له لا يملكها ولا ينتفع بها، وإنما يرجو ثوابها في الآخرة؛ فهي كصدقة في مرضه وجعل ثوابها للوارث. وقد قال الأصحاب في تعليل صحة وقف المريض ثلثه أو وصيته بوقفه على بعض الورثة، بأنهم لا يبيعون ذلك ولا يهبونه، وإنما ينتفعون به.
ومسألة السؤال أولى بالجواز، لأن الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به، ولا ينتفع به في الدنيا، والموقوف عليه ينتفع بالوقف، ويملكه على المشهور. ولما ذكر الزركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة، قال: قلت فكأنه عتق الوارث. انتهى. يشير - والله أعلم - إلى ما ذكروه في تصرف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه. وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى، والله أعلم.
وبعد ختم الكتاب، عثرت على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي، أنه سئل: عمن أوصى بأنه يحج عن أمه من ماله، وأمه حية، فأفتى: بأن ذلك يقف على إجازة الورثة، والله أعلم.
والذي يترجح عندي: ما ذكرته في جوابي لك، ولكن(8/119)
ص -123- ... حصل بعض التردد، وأحببت تشريفك على ذلك لتنظر وتأمل. ومن كلام لأحمد المذكور، قال: وأما الحجة، فليست بمال ولا يقصد بها المال، وإنما هي قربة، فلا يملك الموصى له بها لو كان حياً تصرفاً، فلا تثبت بدون رجلين.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما يوصي به الميت... إلخ؟
فأجاب: والصدقة التي يوصي بها الميت، فيلزم إخراجها - ولو كثرت - منها، إلى الثلث.
وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: عن رجل أوصى في غلة نخله بعد مماته بشيء معلوم، هل يعم النخل كله إذا لم يكن له نخل غيره؟ أم يحصر في ثلثه؟
فأجاب: أمر الصبرة وما يتفرع عليها مشكل علي من قديم، وهذا كلام الشيخ محمد بن محمود وإملاؤه بحروفه: قال: فهذا كلام الشيخ فيها، وأنها من المشكلات لمن نظر في أصولهم، وباقي الإخوان يقولون: تحاز في جميع ثلث ماله، ولكن جعل الثلث محصوراً في النخل أولى.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن ماله مائة وخمسون، وقد أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بعشرة؟
فأجاب: إذا لم يجز الورثة ما زاد على الثلث،(8/120)
ص -124- ... فيجعل الثلث وهو خمسون، ستة أسهم: لصاحب الثلث خمسة أسهم، كل سهم ثمانية وثلث، ولصاحب العشرة واحد منها: ثمانية وثلث.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن أوصى بشيء من ماله وقال: وكيلي فلان؟
فأجاب: العامة يسمونه وكيلاً، والعلماء يسمونه وصياً، فالمأمور بالتصرف بعد الموت: وصي لا وكيل، بخلاف الحياة. فإذا قال الموصي: وكيلي فلان، أو وصيي فلان، فمراده تفويض التصرف إليه، فما أوصى إليه فيه فهو منفذ للوصية. فالموصي بشيء من ماله في جهة، وقال: وصيي فلان، فمراده تنفيذ وصيته، ولا يصح أن يحج بنفسه، وعبارة الفقهاء فيمن أوصى بحجة: أنه لا يصح حج وصي ولا وارث.
قال في الشرح الكبير: لا يصح حج وارث إذا كان فيها فضل، إلا بإذن الورثة. وفي الإنصاف وغيره: من أوصى أن يحج الوارث بالنفقة جاز، وإذا أوصى الميت بشيء معين في حجة، دفع إلى من يحج عنه، وإن كان أكثر من أجرة المثل أو نفقة المثل، إذا لم يكن من الورثة، ما لم يزد على الثلث.(8/121)
ص -125- ... سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها؟
فأجاب: الوصي على صدقة الميت أحق بالولاية من الورثة والعصبة، لأن الميت اختاره ورضيه، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا مات الوصي، أقام الحاكم في ذلك عدلاً من العصبة أو غيرهم، وليس للعصبة ولاية إلا مع عدم حاكم ووصي، على قول غير مشهور، لكنه متوجه مع عدم الحاكم.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: واليتيم إذا كان له مال، يتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي، يجب على الحاكم الشرعي - وهو قاضي البلد أو الأمير - أن يولي على ماله من يحفظه، من أهل الأمانة والديانة. والوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها، أحق بالولاية من الورثة والعصبة، لأن الميت اختاره ورضيه.
وأجاب ابنه الشيخ إبراهيم: الذي مات وعليه دين وبعض الورثة غائب، فإن كان المدين قد عين وكيلاً لقضاء الدين، نفذ تصرفه بغير إذن الورثة، وإن لم يكن عين وكيلاً، فلا ينفذ تصرف بعضهم بقضاء الدين إلا بإذن الحاكم، لأن له الولاية العامة.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الوكيل على(8/122)
ص -126- ... القاصرين، هل يمضي تصرفه بكل حال... إلخ؟
فأجاب: الوصي على القاصرين، إنما يملك التصرف فيما وُصي عليه به، فإذا أوصاه أبو الصغار عليهم، بالنظر في مالهم وما يصلح لهم، ملك التصرف فيما فيه مصلحة، وكذلك إذا كان لهم شريك في شيء، وطلب قسمه فالولي عليهم يقسم لهم وتمضي قسمته. ولا يملك الوصي تزويج صغير، إلا إن نص له الأب على التزويج، بأن يقول: وصيت إليك بتزويج بناتي، ونحو هذا.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا أوصى الرجل لأخيه أو عمه بأضحية... إلخ؟
فأجاب: إن كان الميت وكل عليها وكيلاً، فهو أحق بولايتها، وارثاً أو غير وارث، وإن لم يوكل فالنظر للحاكم لا للوارث. والأضحية يذبحها الوكيل في بلد الموصي، ليكون الخارج منها لأقارب الموصي. وإذا لم يجعل الموصي الأضحية للوكيل أثلاثاً، فله قدر عمله منها، والباقي يخرجه في أقارب الميت والجيران والفقراء، وليس للورثة منازعة الوكيل. وقد يكون الميت نفع الوكيل بتوكيله مع حفظها. انتهى.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن أوصى عند موته بأضحية، هل للموصى إليه أو غيره من ورثة الميت الأكل منها؟(8/123)
ص -127- ... فأجاب: الذي يظهر لي من كلام العلماء أنه لا بأس بذلك، وإنما اختلفوا في أضحية اليتيم.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: ما ذكرت من قول ابن ذهلان: أن ولي الأضحية لا يأكل منها ولا من تلزمه مؤنته، فرأيت كلاماً لبعض الأصحاب في الوكيل في التضحية: أن لا يأكل من أضحية موكله بلا نص من الموكل لوكيله على الأكل منها، كما لو قال: تصدق عني بهذا أو بكذا على الفقراء، والوكيل فقير لم يأخذ منها بلا نص من الموكل عليه. انتهى. والوصي وكيل، فقاسوه على الوكيل في التصدق كما ترى، وأباحوا له الأكل إذا أذن الموكل، ويمكن أن يقال: إن دلالة الحال من الموصي تدل على الإذن العرفي للموصى إليه في الأكل منها.
وأجاب أيضاً: وأما الوصي في الأضحية، فقاسوه على من أوصي إليه بتفرقة شيء مثلاً على الفقراء وهو فقير؛ والمشهور في المذهب أنه لا يأخذ شيئاً; وأجاز جماعة له الأخذ; وفيه قول: يجوز له الأخذ، إن دلت قرينة على الإذن وإلا فلا، وتعليلهم يدل على أنه يجوز مع الإذن; فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأكل من الأضحية جاز، وصرح ابن عبد الهادي بجواز الأكل له كغيره.
وأما ما أفهمه كلام أحمد بن محمد، من أنه لا يجوز(8/124)
ص -128- ... له الأكل حتى مع الإذن، فالظاهر أنه ليس بصواب، لأن كلام الأصحاب قد دل على جواز الأخذ لمن أوصي إليه بتفرقة شيء، أو وكل فيه إذا أذن له في الأخذ، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأخذ من لحم الأضحية، وأي فرق؟! وأما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية: لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك، أو على طريق العوض، فالظاهر عدم جواز ذلك. وأما إذا قال: أذنت لك في الأكل من لحمها، فلا مانع منه.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن قسمة الولي إلى آخره؟
فأجاب: قسمة الولي الشرعي، وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده، قسمة شرعية تثبت بالإقرار والتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص بمستحقه من القسمة الصادرة من الولي، وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي قبل قسمته بين الثلث والكبار المرشدين; والحيف والإضرار يعتبر حال القسمة، ويرجع إلى العدل والتسوية، وأما بالنظر والتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة، فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه.
...
كتاب الفرائض
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن حديث زينب؟
فأجاب: اعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه: على أن امرأة عثمان بن عفان، ونساء من المهاجرات، اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق المنازل وإخراجهن منها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تُوَرَّث دور المهاجرين النساء المهاجرات، وتورث بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء، معناه: أن تجعل الدور لهن ميراثاً. فمات عبد الله بن مسعود، فورثت امرأته داره في المدينة أخذاً بهذا الحديث. هذا معناه.(8/125)
والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك: فقال بعضهم: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فحاز لهن الدور لما رأى من المصلحة؛ وهذا مختص بالمهاجرات، لاختصاصهن بعلة الحكم على هذا الوجه. وقد ألغز في ذلك بعض الأفاضل فقال:
سلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهمُ
قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تقسمُ(8/126)
ص -130- ...
وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجرى على أهل التوارث منهمُ
وقيل: هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور أزواجهن مدة حياتهن، على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده، لا على سبيل الميراث، لقوله عليه السلام: "نحن لا نورث، ما تركناه صدقة" 1؛ لكن يحكى عن سفيان بن عيينة، أنه قال: "نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات، لأنهن لا ينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن لا تملكها". ويشبه أن يكون أمره بذلك، قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [سورة الأنفال آية: 75، والأحزاب:6]؛ وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه.
وأما استدلال أبي داود، في باب إحياء الموات، فتأوله على وجهين: أحدهما: أنه إنما أقطعهم العرصة ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة؛ وهذا الذي يظهر من صنع أبي داود. الوجه الثاني: أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق المروزي؛ ويرجح ذلك أن إقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار، وهي يرتفق بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: فرض الخمس (3094), ومسلم: الجهاد والسير (1757), والترمذي: السير (1610), والنسائي: قسم الفيء (4148), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2963), وأحمد (1/48).(8/127)
ص -131- ... ولا تملك؛ ومن هنا يحصل احتمال رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة.
وتقريره على هذا الوجه، أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع، بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم أمرها إلى الإمام، يسكنها من شاء بحسب المصلحة، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات، دون سائر الورثة. وقول بعضهم: إن الميراث لا يجرى إلا فيما كان المورث مالكاً له، فيه نظر ظاهر، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن الميت إذا تنازع عصبته في ميراثه، وكل واحد يدعي أنه أقرب، ولا بينة مع أحدهم على دعواه، إلا قول الميت قبل وفاته: إن الأقرب إليه فلان؟
فأجاب: اعلم أن قول المورث هذا لا يصير إقرارا بوجه، وإنما هو من باب الشهادة؛ وإذا كان كذلك، فإنه لا يظهر لي أنه يشترط في مثل تلك الشهادة بيان الدرجة، هل هي الثانية أو الثالثة مثلاً، أو لا يشترط شيء من ذلك، بل يكتفى بمجرد شهادته أنه أقرب من غير تفصيل. ومثل هذه ينبغي التأني فيها، إذ ربما يثبت مدع آخر، أو يوجد بينة مع أحد الطرفين.
وقال الشيخ محمد بن محمود: سألني عبد العزيز بن(8/128)
ص -132- ... جماز عن مسألة أخت عثمان السليمان، وقد كنت كتبت سابقاً - تحت فتيا الشيخ عبد العزيز بن حسن، نسأ الله في أجله - من كلامهم ما ظهر لي في المسألة، وحاصله: أن النسب لا يثبت بمجرد الدعوى، ولا يثبت إلا ببينة تعين الأحق بالإرث، إما بشهادة قاطعة، أو استفاضة تقرب من القطع، وأما مجرد دعوى بني فلان مع كثرة المدعي، وتكاثر شعوب المُدَّعَى، فلا يثبت بذلك التوارث. يبقى الإرث بعد فروض الزوج لذوي الأرحام، إذا لم يثبت عصبة النسب، فيكون لولد البنت نصف الباقي، ولبنات الإخوة نصفه، ويستوي ذكرهم وأنثاهم، إلا أن يكونوا أولاد إخوة لأم، فيسقطون، ويكون الباقي لولد البنت، لأن أمه تحجبهم حتى لا يخفى.
قال الشيخ علي بن عبد الله بن عيسى: الحمد لله، ما ذكره الشيخ محمد بن محمود جار على قواعد المذهب. ويشترط في البينة الشاهدة لمدعي قرابة شخص: أن تجمع بينه وبين المدعي قرابته في جد واحد، فتقول: فلان بن فلان بن فلان، وفلان بن فلان بن فلان، حتى يجتمعا في شخص واحد. هذا ما ظهر لي من كلامهم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن العصبة إذا كانوا من رجلين، وهم في درجة واحدة من(8/129)
ص -133- ... الميت، وأبناء واحد أكثر من واحد، هل كل في منْزلة أبيه؟ أم كلهم في الميراث سواء... إلخ؟
فأجاب: العصبة سواء، ولو كان أبناء واحد أكثر من واحد، وأما الأخ للأم فلا يعصب.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل يرث العاصب بالتعصيب ولو بَعُدَ؟
فأجاب: العاصب للميت من كان أقرب من غيره، بَعُدَ العاصب أو قرب، فمتى ثبت النسب بأن هذا ابن عم الميت ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب - ولو بعد عن الميت -. فإن عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة، ولم يعرف له عاصب معين، وأشكل الأمر، دفع إلى أكبرهم سناً. فإن كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه، وإن لم يوجد عاصب. فالرد إلى ذوي الفروض أولى من دفعه إلى بيت المال؛ ويرث على أهل الفروض على حسب ميراثهم، إلا الزوج أو الزوجة، فلا يرد عليهما.
وسئل أيضاً رحمه الله تعالى: عن معنى بيت الجعبري، حيث قال:
فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
فأجاب: اعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا: فإن استووا فيما ذكرنا اشتركوا(8/130)
ص -134- ... في المال، أو فيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضاً. والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة، عند من يقول إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم الولاء، ثم بيت المال 1.
إذا فهمت ذلك، فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بعد على من كانت جهته مؤخرة؛ فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب، فهو مقدم على ابن العم؛ وهذا معنى قول الجعبري، رحمه الله: فبالجهة التقديم. فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم، كالابن يقدم على ابن الابن، وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ لأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع، لأن الأول أقرب.
ومعنى قول الجعبري: ثم بقربه: إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثلته لك. فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى، وهو الذي يدلي بقرابتين، فهو المقدم على المدلي بقرابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عدُّ بيت المال جهة, جرياً على مذهب الموالك والشوافع, وعند الحنابلة ليس من التعصب, بل ولا من الإرث في شيء, وإنما هو مصرف للأموال المجهول أربابها ونحوها؛ ومن ذلك من مات ولم يخلف ورثة, فإن ماله يصرف إلى بيت المال.(8/131)
ص -135- ... واحدة. مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب، فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم. وهذا معنى قول الجعبري: وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا; يعني: ذا القرابتين يقدم على ذي القرابة الواحدة، إذا استويا في الجهة والدرجة.
وحاصل الأمر: أن الابن يقدم على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقاً، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، وابن الأخ للأب مقدم على ابن ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ، سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم لأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم لأب لأنه أقوى.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يعصب بنو الإخوة أخواتهم في الميراث كالإخوة؟
فأجاب: قال في المغني: أربعة من الذكور يعصبون أخواتهم فيمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما ورثوا، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهم: الابن وابن الابن وإن نزل، والأخ من(8/132)
ص -136- ... الأبوين، والأخ من الأب. وسائر العصبات ينفرد الذكور بالميراث دون الإناث، وهم: بنو الاخوة، والأعمام، وبنوهم. ثم ذكر الدليل والتعليل - إلى أن قال - وهذا لا خلاف فيه بحمد الله. انتهى. فتبين: أن بني الإخوة المسؤول عنهم، ينفردون بالميراث دون أخواتهم.
وسئل: إذا كانت الأخوات عصبة مع الغير، هل يحجبن الأخ للأب، ومن أبعد منه من العصبة؟
فأجاب: الأخوات مع البنات عصبات، لهن ما فضل بعد الفرض؛ والمراد بالأخوات: الأخوات من الأبوين، ومن الأب. ولهذا ذهب عامة الفقهاء؛ فإن ابن مسعود قال في بنت وبنت ابن وأخت: "لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي فلِلأخت"، رواه البخاري وغيره. وما تأخذه مع البنت ليس بفرض، وإنما هو تعصيب، كميراث الأخ. وأجمع أهل العلم على أن بنات الابن بمنْزلة البنات عند عدمهن في إرثهن، وفي جعل الأخوات معهن عصبات وغير ذلك. انتهى ملخصاً من المغني.
قال الشنشوري: تتمة: حيث صارت الأخت الشقيقة عصبة مع الغير، صارت كالأخ الشقيق، فتحجب الإخوة لأب ذكوراً كانوا أو إناثاً، ومن بعدهم من العصبات. وحيث صارت الأخت للأب عصبة مع الغير، صارت كالأخ للأب،(8/133)
ص -137- ... فتحجب بني الإخوة ومن بعدهم من العصبات.
[ هل الجد أب ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل الجد أب... إلخ؟
فأجاب: أما كون الجد أباً، فرجح بأمور: الأول: العموم، واستدلال ابن عباس، رضي الله عنهما على ذلك بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ}. الثاني: محض القياس، كما قال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبا الأب أباً. الثالث: أنه مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو، هو.
الرابع: أن الذين ورثوا الإخوة معه، اختلفوا في كيفية ذلك، كما قال البخاري - لما ذكر قول الصديق -: ويذكر عن علي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة. الخامس: أن الذين ورثوهم، لم يجزموا، بل معهم شك، وأقروا أنهم لم يجدوه في النص، لا بعموم ولا غيره. السادس، وهو أبينها كلها: أن هذا التوريث وكيفياته، لو كان من الله لم يتصور أن يهمله النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية من صعوبته والاختلاف فيه. وأما حجة المخالف، فهم مقرون أنه محض رأي، لا حجة فيه إلا قياساً، فيما زعموا.
وقال ابنه: الشيخ عبد الله: إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة، غير منسوخ ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به وتركنا المذهب،(8/134)
ص -138- ... كإرث الجد والإخوة؛ فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالفه مذهب الحنابلة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما مسألة الجد والإخوة، فذكر في الاختيارات: أن الجد يحجب الإخوة، وهو قول أبي بكر، وقال به غيره من الصحابة، وهو رواية عن أحمد، وهو الذي يختاره أشياخنا.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذوي الأرحام مع عدم العصبة أحق أم بيت المال؟
فأجاب: ذوو الأرحام أولى بالميراث من بيت المال.
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، والشيخ حمد بن ناصر: إذا هلك هالك، عن ابن أخت شقيقة، وابني خالين؟
فأجابا: العمل على مذهب المنَزلين، فينَزل كل منْزلة من أدلى به: فيكون لابن الأخت النصف: ثلاثة من ستة، ويكون لابني الخالين اثنان، ويبقى واحد يرد عليهم على قدر سهامهم؛ فيجعل المال خمسة أسهم: لصاحب النصف ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث خمسان. لكن انظر في ابني الخالين، هل هما وارثان؟ أو أحدهما محجوب بالآخر؟ كما نص الفقهاء على ذلك. مثال ذلك: ابن الخال لأب، مع ابن الخال لأبوين، فالمال لابن الخال الشقيق، ولا شيء لابن الخال لأب، نبه عليه صاحب الشرح الكبير.(8/135)
ص -139- ... وسئل الشيخ عبد الله: عمن لا وارث له... إلخ؟
فأجاب: من مات لا وارث له، فماله لبيت المال.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن معنى التماثل، والتناسب؟
فأجاب: اعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرؤوس والرؤوس، فإنه لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن تجد بين الرؤوس والرؤوس مماثلة، ومعنى المماثلة هي: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذه المماثلة، وحكمها كما قال الناظم: 1
فخذ من المماثلين واحدَا
فإذا وجدت رؤوساً متماثلة في العدد، فخذ رؤوس أحدهما واكتف به. فإن لم تجد بين الرؤوس والرؤوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي: المداخلة، ومعناها: أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناه من غير زيادة ولا نقصان; وذلك: كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم:
وخذ من المناسبين الزائدَا يعني:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ناظم الرحبية في علم الفرائض: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن حسين الرحبي, المعروف بابن موفق الدين الشافعي.(8/136)
ص -140- ... العدد الأكبر خذه، واكتف به عن الأصغر. فإن لم تجد بينهما مماثلة ولا مناسبة، فانظر هل تجد بينهما موافقة، وهي: أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء، كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة; وحكم هذا النوع، هو ما قال الناظم:
واضرب جميع الوفق في الموافق
فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقتا بالأنصاف، فخذ نصف أحدهما واضربه في كامل الأخرى، فتبلغ اثنا عشر؛ وهكذا تفعل في الباقي، تأخذ الوفق وتضربه في كامل الآخر. فإن لم تجد بينهما مماثلة ولا مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم:
وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن
وذلك كثلاثة وخمسة، وخمسة وتسعة.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عمن أخذ الحمل في بطنها سنة، وقد صلح قبل وفاة مورثه: أخيه من أمه، بثلاثة أشهر.
فأجاب: المسألة ما ظهر لي فيها إشكال، بل هي واضحة، لأن الحمل متحقق قبل موت مورثه، فعلى هذا يرث الحمل، ويوقف له سدس؛ فإن ولد حياً ورث، وإن خرج ميتاً لم يرث.(8/137)
ص -141- ... وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن امرأة لها ابن، وله إخوة من غيرها لأبيه، ولها زوج، فتوفي الابن، فادعت بعد موته أنها حامل؟
فأجاب: أما الحمل قبل الموت إذا ثبت وخرج حياً، فهو يرث.
سئل أيضاً، رحمه الله: عن قسمتهم الميراث في الشرك، أو إسلامهم قبل؟
فأجاب: أما مواريث الشرك، فإذا كان الوارث في الجاهلية قد منع شريكه من نصيبه من الإرث، وأسلم والمال في يده، فالمال له دون شريكه، سواء كان الممنوع رجالاً أو نساء، وإن كان مزبوراً لم يقسم حتى جاء الإسلام، فإنه يقسم على فرائض الله، ويعطى كلٌّ نصيبه من المال.
وأجاب أيضاً: وأما الناس إذا ورثوا أهلهم في الشرك، وهم رجال ونساء، وتزوجت النساء، وأعطاهن إخوانهن ما يسر الله من المال، وجاء الإسلام قبل أن يقتسموا، فإن كانوا منعوهن وطردوهن عن حقهن، فلا يقسم لهن في الإسلام، وأما إن كانوا لم يطردوهن، بل تركوهن على شركتهن، ومعروف عند جماعتهم أن كلاً على حقه، فهن على حقهن، ويقسم للنساء إن طلبن.
وأجاب أيضاً: المواريث التي قسمت في حال الشرك(8/138)
ص -142- ... والجهل، تقر على ما هي عليه، ولا تعاد القسمة في الإسلام.
وأجاب أيضاً: المواريث التي قسمت في الشرك، وتملكها أهلها، ثم أسلموا، لا تعاد قسمتها. ومن أسلم على شيء أقر في يده، إذا كان قد تملكه في جاهليته. وأما إذا لم تقسم التركة، وأسلم أهلها وهي موقوفة، فإنها لا تقسم إلا على قسمة الله في كتابه العزيز، التي يعرفها أهل العلم.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: وأما كون الناس قبل الإسلام، منهم من لا يورث المرأة، ومنهم من يصالحها، ويسلمون وبينهم عقار ونحوه من الإرث، شيء باعه الرجال ولم يعطوا النساء منه شيئاً قبل الإسلام، فالذي عليه الفتوى في هذه المسائل، أعني: عقود الجاهلية، من نكاح وبياعات، وعقود الربا والغصوب، ومنع المواريث أهلها ونحو ذلك: من أسلم على شيء من ذلك لم نتعرض له؛ فلا نتعرض لكيفية عقد النكاح هل وقع بشروطه، كالولي والشهود ونحو ذلك. وكذلك البياعات، لا ينقض إذا أسلم المتعاقدان، ولا ينظر كيف وقع العقد. وكذلك عقود الربا إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التقابض، فليس لصاحب الدين إلا رأس ماله، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [سورة البقرة آية:(8/139)
ص -143- ... 279].
وأما المال المقبوض، فلا يطالب به القابض إذا أسلم، لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275]. وكذلك المواريث والغصوب، إذا استولى الإنسان على حق غيره، وتملكه في جاهليته ومنع مالكه بحيث أيس منه، ثم أسلم وهو في يده، لا ينازعه فيه؛ فهذا لا نتعرض له، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجُبُّ ما قبله" 1، ولأن الناس أسلموا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ولم يبلغنا أنهم نظروا في أنكحة الجاهلية، ولا في عقودهم ومعاملاتهم، ولا في غصوبهم ومظالمهم التي تملكوها في حال كفرهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل الجاهلية على ما كانوا عليه؟ قال: "لم يبلغنا إلا ذلك"، وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: من أسلم على شيء فهو عليه.
وقال الشيخ تقي الدين: ولو تزوج المرتد كافرة أو غيرها ثم أسلما، فالذي ينبغي أن يقال هنا أن نقرهم على مناكحهم، كالحربي إذا نكح نكاحاً فاسداً ثم أسلم، فإن المعنى واحد؛ وهذا جيد في القياس إذا قلنا: إن المرتد لا يؤمر بقضاء ما ترك في الردة من العبادات، فأما إذا قلنا: إنه يؤمر بقضاء ما ترك من العبادات، ويضمن ويعاقب على ما فعله، ففيه نظر؛ ومما يدخل في هذا كل عقود المرتدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/205).(8/140)
ص -144- ... إذا أسلموا قبل التقابض، وبعده. وهذا باب واسع، يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه، والأموال وتوابعها، أو استولوا على مال مسلم، أو تقاسموا ميراثاً ثم أسلموا بعد ذلك، وكذا الدماء وتوابعها. انتهى كلام الشيخ.
وقال، رحمه الله، في موضع آخر: ولو تقاسموا ميراثاً جهلاً، فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حياً، لا يضمنون ما أتلفوه، لأنهم معذورون، وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر، فإن الكافر لا يرد باقياً ولا يضمن تالفاً. انتهى.
وأما قولك: وأيضاً ذكر الفقهاء أن المرتد لا يرث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟ فنقول: أما من دخل منهم في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح. وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول: الأصل إسلامهم والكفر طارئ عليهم، بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" 1. فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول: الأصل الإسلام والكفر طارئ عليهم، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1358), ومسلم: القدر (2658), وأحمد (2/233, 2/275).(8/141)
ص -145- ... نقول: هم الكفار الأصليون؛ ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم، بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام تاركاً للشرك فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله تعالى، لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15]. وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 134-141]: فمن كان منهم مسلماً أدخله الله الجنة، ومن كان كافراً أدخله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.
وأيضاً، فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد، أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال: لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئاً لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال،(8/142)
ص -146- ... لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث. وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا أسلموا، فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها.
وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام" 1. وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة، وابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم على شيء فهو له"، ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنا.
واعلم: أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، هو أحد الأقوال في المسألة، وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي وأهل العراق. والقول الثالث: أنه لأهل دينه الذي اختاره إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل مات في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الفرائض (2914), وابن ماجة: الأحكام (2485).(8/143)
ص -147- ... الشرك وله بنات؟
فأجاب: من مات في الشرك وله بنات، لا يصير لهن في الإسلام إرث. والتي تزوجت في الشرك ثم أسلمت ومات أبوها، فلها نصيبها في الميراث، وكذلك نصيبها في أبيها وأخيها وزوجها.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا مات مسلم وله أولاد، منهم مسلم وكافر، فأسلم الكافر بعد مدة طويلة أو غير طويلة، وبعض التركة بحاله... إلخ؟
فأجاب: في هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما - وهي المذهب -: أن من أسلم من الورثة قبل قسمة التركة ورث، وكذلك إن أسلم وقد قسم بعضها، ورث مما لم يقسم؛ واحتجوا بما روى أبو داود، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام" 1، وبما روى سعيد بن منصور في سننه، عن عروة وابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلم على شيء فهو له". ويروى أن عمر وعثمان قضيا بذلك. وعلى هذه الرواية: إن كان الوارث واحداً، فتصرفه في التركة وحيازتها بمنْزلة قسمها؛ ذكر ذلك الموفق وغيره.
والرواية الثانية: لا شيء له، لحديث: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" 2. وهذا حين الموت كان كافراً، فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الفرائض (2914), وابن ماجة: الأحكام (2485).
2 البخاري: الفرائض (6764), ومسلم: الفرائض (1614), والترمذي: الفرائض (2107), وأبو داود: الفرائض (2909), وابن ماجة: الفرائض (2729, 2730), وأحمد (5/200, 5/201, 5/202, 5/208, 5/209), والدارمي: الفرائض (2998, 3000, 3001).(8/144)
ص -148- ... يرث بمقتضى هذا الحديث؛ وهذا قول أكثر العلماء; والقول الأول من مفردات المذهب.
وقال الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهما الله: اعلم: أن الذي علمناه من حال أهل هذه الدعوة الإسلامية، وعلمائهم، رحمهم الله: أنهم لم يقطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان ممن وصفنا، يعني من انتقل من بلاد المسلمين إلى بلاد المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام. وقد حدثني أبي، رحمه الله، أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأتباعهم، رحمهم الله، ما قطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان: هل يستدل بالحديث: "لا يرث كافر مسلماً" 1 على من مات من النازلين من باديتنا اليوم، على من لم ينْزل منهم، أو من هو مع بادية ولايتهم في يد كافر مثلاً، أو من هو بين أظهر المشركين، هل يحرم إرثه إذا كان مورثه مات مسلماً بين أظهر المسلمين؟
فأجاب: من مات من المهاجرين النازلين في بلاد المسلمين، وله وارث كافر من أهل البادية أو الحاضرة، فلا يحل له إرثه لكفره، بنص الحديث. ومن كان وارثه مسلماً وكان مسكنه في البادية، أو في بلد من بلدان المسلمين، أو كان في بلد كفر، أو في بادية ولايتها في يد كافر، فلا مانع من إرثه لأنه مسلم ورث مسلماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الفرائض (6764), ومسلم: الفرائض (1614), والترمذي: الفرائض (2107), وأبو داود: الفرائض (2909), وابن ماجة: الفرائض (2729), وأحمد (5/200, 5/209), والدارمي: الفرائض (3000).(8/145)
ص -149- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن طلبت من زوجها المريض الطلاق، وهل ترثه؟
فأجاب: إذا طلبت المرأة من زوجها المريض طلاقها، فطلقها ثلاثاً، صح طلاقه؛ والظاهر أنها لا ترث لعدم التهمة.
وسئل هو وأخوه الشيخ حسين: إذا قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر، ومراده حرمانها من الميراث.
فأجابا: إذا عرف أن قصده بكلامه ذلك حرمانها من الميراث، فإنها ترثه ولو خرجت من العدة، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء؛ وهذا الذي تدل عليه قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غيلان بن سلمة، لما طلق زوجاته وقسم الميراث بين أولاده.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن طلق زوجته في مرض موته وأبانها؟
فأجاب: الذي عليه العمل أنها ترثه ما دامت في العدة، في قول جمهور العلماء، وكذلك ترثه بعد العدة ما لم تتزوج، كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد في رواية؛ بل مذهب مالك أنها ترثه ولو تزوجت، والراجح الأول.
وأجاب بعضهم: إذا طلقها بالثلاث في صحته أو في المرض، ومات وهي في العدة، فإن كان في المرض فهي ترثه، وإن كان في الصحة ثم مات بعد ذلك، فلا يبين لي(8/146)
ص -150- ... أنها ترثه.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن ادعت أن زوجها أبانها، وأقامت معه حتى مات... إلخ؟
فأجاب: وأما الزوجة إن ادعت أن زوجها أبانها ثلاثاً وأنكر دعواها، وأقامت معه حتى مات، فإن كانت في مدة إقامتها معه رجعت عن دعواها وأقرت بكذبها، ورثت، وإلا لم ترث؛ قال في المنتهى وشرحه: ومن جحد إبانة امرأة ادعت عليه إبانة تقطع التوارث ثم مات، لم ترثه إن دامت المرأة على قولها أنه أبانها إلى موته، لإقرارها أنها مقيمة تحته بلا نكاح. فإن أكذبت نفسها قبل موته، ورثت، لتصادقها على بقاء النكاح، ولا أثر لتكذيب نفسها بعد موته، لأنها متهمة فيه إذًا، وفيه رجوع عن إقراره لباقي الورثة. انتهى. وكذا قال في الإقناع وشرحه وغيرهما.
وأما الذي تزوج أخته أو ابنته ونحوهما من الرضاع، ولم يعلم بالرضاع حتى مات الزوج، فالنكاح باطل من أصله، إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة مرضية بالرضاع، وعدد الرضعات المحرمة، ولم يثبت فيه شيء من أحكام النكاح الصحيح. وإن اتهمت من شهدت، أو لم تكن ثقة مرضية، أو لم تشهد بعدد الرضعات المحرمة، فالنكاح صحيح، وتثبت أحكامه.
وأجاب أيضاً: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة ثقة غير(8/147)
ص -151- ... متهمة، تبين بطلان العقد، كما ورد بذلك النص، ولم ينقلب العقد صحيحاً بعد بطلانه، وسواء علم بطلانه قبل الفرقة أو بعدها، وترتب على العقد مقتضاه من صحة وبطلان.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن طلق زوجته، وأقر أنها خرجت من العدة قبل موته... إلخ؟
فأجاب: يقبل قوله، ولا يقبل قولها أنه واقعها بعد ذلك إلا ببينة.
وسئل: عمن طلق زوجته ومات، والشهود لا يعلمون وقت طلاقه؟
فأجاب: يحكم للمرأة بالإرث، ما لم يعلم انقضاء عدتها قبل موته.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل ترث بالنكاح الفاسد... إلخ؟
فأجاب: إذا زوج غير الولي، فالنكاح فاسد ولا ترث.(8/148)
ص -152- ... كتاب العتق
سئل الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: إذا قال لغلامه: أنت حر لوجه الله قبل موتي بشهر، وأعطاه جميع ماله، ومراد هذا الرجل حرمان ورثته، فهل الغلام حر... إلخ؟
فأجاب: العتق صحيح، فإذا مات السيد تبين أن العتق وقع قبل موته بما قدر به، وأما المال، فلا يصح تمليكه إياه ولا هبته له، لأنه حين تمليكه المال رقيق؛ والعبد لا يملك بالتمليك في أصح قولي العلماء.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا دبر الرجل جاريته، كقوله: أنت عتيقة عند موتي، أو إذا مت فأنت حرة... إلخ، هل بين هذه الألفاظ فرق؟
فأجاب: لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علق صريح العتق بالموت، فقال: أنت حرة أو محررة أو عتيقة بعد موتي، صارت مدبرة، بغير خلاف علمته.
وأما قوله: إذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التدبير، فما الحكم في ولدها؟ فنقول: أما إذا دبرها وهي حامل، فإن ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه، لأنه(8/149)
ص -153- ... بمنْزلة عضو من أعضائها; وأما إذا حملت بعد التدبير ففيه خلاف بين العلماء: فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير، ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم، ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري، ومالك والثوري وأصحاب الرأي.
وذكر القاضي: أن حنبلاً نقل عن أحمد، أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشرطه المولى، قال: فظاهره أنه لا يتبعها، ولا يعتق بموت سيدها؛ وهذا قول جابر بن زيد، وهو اختيار المزني من أصحاب الشافعي، قال جابر بن زيد: إنما هو بمنْزلة الحائط تصدقت به إذا مت، فإن ثمرته لك ما عشت. وللشافعي قولان كالمذهبين.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن قيل له: لِم ضربت غلامك ولِم أدميته؟ فقال: إن كان ظهر منه دم فهو حر، هل يعتق بذلك التعليق إذا وجد الشرط، وهو ظهور الدم... إلخ؟
فأجاب: الظاهر أنه يعتق إذا كان قد وجد الشرط، وهو ظهور الدم. والتعليق على الماضي معلوم من الكتاب والسنة، وسائر الكلام؛ ونحو هذا التعليق يسمى حلفاً، لأن التعليق الذي يقصد به الحث على فعل أو المنع منه، أو(8/150)
ص -154- ... يراد به تصديق خبر أو تكذيبه يسمى حلفاً. وأما التعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك، فلا يسمى حلفاً على الصحيح من المذهب; فلو قال: إن كنت فعلت كذا فزوجتي طالق أو عبدي حر، كما ذكروه في باب التأويل في الحلف.
وما ذكرتموه من كلام منصور، بأن المعلق عليه لا يكون ماضياً، فلعل مراده إذا تجرد الشرط من لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد، في رجل قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته، قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث، قال القاضي: هذا محمول على أنه قال: إن كنت قد وهبتيه، وإلا فلا يحنث حتى تبتدي هبة. انتهى. فإذا اتصلت "كان" بأداة الشرط، جاز كون المعلق عليه ماضياً وحالاً; وقول المصنف: وقد يكون المعلق عليه موجوداً في الحال، وقد يكون مستقبلاً ولا يكون ماضياً، ولذلك تقلب أدوات الشرط الماضي إلى الاستقبال.
فدل قوله: لذلك... إلخ، على أن مراده بقوله: ولا يكون ماضياً إذا تجرد من "كان"، لأن الماضي إذا اقترنت به "كان"، لا يكون مستقبلاً بل يبقى على مضيه، وهي إنما تقلب الماضي إلى الاستقبال، إذا لم تقترن بـ"كان" أو "يكون" أو مضارعها، فدل قوله: لذلك... إلخ: تقلب أدوات(8/151)
ص -155- ... الشرط. وفي شرح المتممة للفاكهي، في الكلام على الجوازم، ويسمى الفعل الأول من الفعلين المجزومين بإحدى هذه الأدوات شرطاً، لتعليق الحكم عليه، ولا يكون ماضي المعنى، لأنه مفروض حصوله في المستقبل، فيمتنع مضيه، فلا تقول إن قام زيد أمس.
وأما قوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [سورة المائدة آية: 116]، فالمعنى: إن تبين إن كنت قلته، ويسمى الثاني منهما جواباً، يترتب على الأول ترتب الجواب على السؤال، وجزاء لأن مضمونه جزاء المضمون الأول، وهو كالشرط لا يكون ماضي المعنى، لأن حصوله معلق على حصول الشرط في المستقبل، ويمتنع تعليق الحاصل الثابت على حصول ما يحصل في المستقبل. وأما قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [سورة يوسف آية: 26]، فالمعنى: إن ثبت ذلك ثبت صدقها 1.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل المفتى به عندكم التفرقة بين المملوكة وولدها بعد البلوغ، أو لا؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وأنا أذكر لك المسألة وكلامهم فيها، حتى يتبين لك وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آخر الموجود من الجواب.(8/152)
ص -156- ... الصواب، إن شاء الله تعالى. قال في الشرح الكبير: ولا يفرق في البيع بين ذي رحم محرم إلا بعد البلوغ، على إحدى الروايتين، أجمع أهل العلم على أن التفرقة بين الأم وولدها الطفل غير جائز. ثم ذكر الدليل والتعليل، ثم قال: ولا فرق بين أن يكون الولد بالغاً، أو طفلاً في ظاهر كلام الخرقي، وإحدى الروايتين، ولعموم الخبر، ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد إلا بإذنها، قال في الإنصاف: وهو المذهب، وجزم به في المنور، وناظم المفردات وهو منها، واختاره ابن عبدوس، وقدمه في المحرر وغيرهم.
قال الشارح: والرواية الثانية: يختص تحريم التفريق بالصغر، وهو قول الأكثرين، منهم مالك والأوزاعي، والليث وأبو ثور، وهو قول الشافعي، لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها، فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهب منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له، ولم ينكر التفريق بينهما، لأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر، فإن المرأة تزوج ابنتها وتفارقها، فالعبد أولى. قال في الإنصاف: والثانية: يجوز التفريق ويصح البيع؛ جزم به في العمدة والوجيز، قال الناظم: وهو أولى. انتهى.
وهذا الذي احتجوا به، نص في جواز التفرقة بينهما بالهبة بعد البلوغ، والبيع مثله إن شاء الله تعالى، وهو(8/153)
ص -157- ... حديث ثابت صحيح، رواه مسلم وغيره، وهو الأصح عندنا. قال في الإنصاف: حكم التفرقة في القسمة وغيرها، كأخذ بجناية، والهبة والوصية، والصدقة وغيرها: حكم البيع على ما تقدم، وعليه أكثر الأصحاب; قال الخطابي: لا أعلمهم يختلفون في العتق، لأنه لا يمنع من الحضانة.
وقولك: هل يختص بالأم أم يعم ذلك كل ذي رحم محرم، كالأب والأخ ونحوهم؟ فالجواب: قال في الشرح: ولا يجوز التفريق بين الأب وولده، وبه قال أصحاب الرأي والشافعي. وقال مالك والليث: يجوز، وبه قال بعض الشافعية، لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص، لأن الأم أشفق; ولنا أنه أحد الأبوين أَشْبَهَ الأم، ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة. انتهى. قال في الإنصاف: لا يجوز التفريق بين ذي محرم، هذا المذهب وعليه الأصحاب، قال في المغني، وتبعه في الشرح: قاله أصحابنا غير الخرقي، وجزم به في الفروع والرعايتين والحاويين وغيرهم، فيدخل في ذلك العمة مع ابن أخيها، والخالة مع ابن أختها. وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بالأبوين، والجدين، والأخوين، ونصره في المغني والشرح. وظاهر كلام المصنف تحريم التفريق ولو رضي به،(8/154)
ص -158- ... وهو صحيح نص عليه أحمد. انتهى.
واحتج في الشرح على تحريم ذلك بين الإخوة، لحديث علي في الغلامين الأخوين، فلما باع أحدهما، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُدَّهُ" 1، رواه الترمذي وحسنه، وبما روي أن عمر كتب إلى عماله:? "لا تفرقوا بين الأخوين، ولا بين الأم وولدها". وإنما يحرم التفريق بينهم في الصغر، وما بعده فيه الروايتان كالأصل، والأولى الجواز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت".
وأجاب أيضاً: وأما التفرقة بين الوالدة وولدها، وكذلك الإخوة، فالحد في ذلك البلوغ؛ فإذا بلغ واحد منهم جاز أن يفرق بينهما.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التفريق بين الوالدة وولدها قبل البلوغ، وكذلك بين الإخوة في البيع: فأما قبل البلوغ فلا يجوز التفريق، وأما بعد البلوغ ففيه خلاف؛ والمشهور عن أحمد وكثير من الفقهاء أنه لا يجوز، لحديث: "من فرق بين الوالدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 2، وكذلك حديث علي في التفرقة بين الإخوة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُدَّهُ، رُدَّهُ".
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا وطئ الأب مملوكة ولده؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1284), وابن ماجة: التجارات (2249), وأحمد (1/102).
2 الترمذي: البيوع (1283), وأحمد (5/412, 5/414), والدارمي: السير (2479).(8/155)
ص -159- ... فأجاب: هو حرام يوجب التعزير. فإن حملت من الأب صارت أم ولد له، وولده حر ولا مهر عليه. فإن كان الابن قد وطئها ولو لم تلد منه، لم يملكها الأب بالإحبال، ولم تصر أم ولد له، وحرمت عليهما؛ هكذا ذكر الفقهاء.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا وطئ جارية ابنته، ولم يتملكها قبل ذلك، وابنته محتاجة إليها، وهي قد ملكتها بالميراث من زوجها؟
فأجاب: لا يجوز له أن يطأ مملوكة ولده، ما دامت في ملك الولد، وأما إذا تملكها تملكاً شرعياً، بشرط أن لا يضر بولده، ولا تتعلق بها حاجة الولد، ولا يقصد إعطاءها لولد آخر؛ فإذا تمت هذه الشروط وقبضها، جاز له بعد الاستبراء أن يطأها، والله أعلم.
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهم الله: وأما إذا وطئ الرجل أمة أبيه فولدت منه، فإن كلام أهل المذهب ظاهر في أنه يكون الولد رقيقاً، وأنه المنصوص عن أحمد، وهو أيضاً مذهب مالك والشافعي.
وقد سئل شيخ الإسلام: عن هذه المسألة، وهذا نص السؤال والجواب:
مسألة: فيمن له والدة ولها جارية، فواقعها بغير إذن والدته، فحملت منه وولدت غلاماً،(8/156)
ص -160- ... وملكها، ويريد أن يبيع ولده من الزنى؟
الجواب: هذا ينبغي له أن يعتقه، باتفاق العلماء، بل قد تنازع العلماء: هل يعتق عليه من غير إعتاق؟ على قولي:; أحدهما: أنه يعتق عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول القاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد؛ ولكن مع هذا لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا. والقول الثاني: لا يعتق عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المنصوص عنه. انتهى.
فجواب شيخ الإسلام، رحمه الله، هذا، ظاهر في أن ولد جارية أم ذلك الواطئ، لا يلحقه نسبه عند أحد من الأئمة الأربعة، وأن النّزاع بينهم في العتق، عتق ذلك المولود بمجرد انتقاله إلى الواطئ بالإرث: فقال به أبو حنيفة، رحمه الله، والقاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد، ومنعه الجمهور أحمد ومالك والشافعي. وأما عدم لحوق النسب فلم يختلفوا فيه، فإن عند أبي حنيفة والقاضي أبي يعلى: أنه لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا، مع قوله بعتقه بمجرد انتقاله إلى الواطئ بالإرث.
وقوله، رحمه الله: ينبغي أن يعتقه، يفيد تأكد الاستحباب عند الشيخ; وقال في الفروع: ويحدّ على الأصح، بوطئه أمة أبيه وأمه عالماً تحريمه، ولا يلحقه ولد، نقله حنبل وغيره. انتهى. وكونه لا يلحقه، لأنه(8/157)
ص -161- ... زان، وفي الحديث: "وللعاهر الحجر" 1، وكونه لا يلحقه هو السبب في كونه لا يعتق بملكه إياه، لأنه حينئذ لا يصير ذا رحم محرم؛ هذا هو وجه ما ذهب إليه جمهور الأئمة، كما تقدم.
وأما إذا أولد الأب أمة ابنه، التي لم يكن الابن وطئها، فإنها تصير أم ولد له، ويصير ولده منها حراً، لأن له فيها شبهة ملك، فصار ولده منها كولده من سائر إمائه؛ قال في الإقناع وشرحه: أو ولدت من أبي مالكها، لأنها حملت منه بحر، لأجل شبهة الملك، فصارت أم ولد له كالجارية المشتركة. انتهى. وشبهة الملك هي أن للأب أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه، كما استدل عليه العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 2، فظهر أن التعليل في حرية الولد، هي شبهة الملك فقط، فعلم افتراقها هي والمسألة التي قبلها، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن دبر عبده أو أمته، ثم بدا له أن ينجز عتقه، فأعتق المدبر واشترط خدمته مدة حياته؟
فأجاب: يصح العتق والحالة هذه، ويلزم الشرط، كما نص عليه الأصحاب في كتبهم؛ ونصهم: على أن تخدمني سنة يعتق بلا قبول، وتلزم الخدمة، وكذا لو استثنى خدمته مدة حياته، وللسيد بيعها للعبد أو غيره. انتهى ملخصاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2053), ومسلم: الرضاع (1457), والنسائي: الطلاق (3484), وأبو داود: الطلاق (2273), وأحمد (6/129, 6/200, 6/237, 6/246), ومالك: الأقضية (1449).
2 ابن ماجة: التجارات (2291).(8/158)
ص -162- ... وبعد العتق يكون حراً بلا ريب، وإن كانت منافعه مملوكة كالأجير، وله ما للحر وعليه ما عليه، من وجوب صلاة الجمعة، وغير ذلك من العبادات والكفارات، والجناية منه وعليه، بخلاف المدبر، فإنه قِنٌّ ما لم يعتق.
وأما حديث المنتقى المعزو لأحمد وابن ماجة، عن سفينة أبي عبد الرحمن، قال: "أعتقتني أم سلمة، واشترطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش"، فهذا هو حجة الأصحاب، لقولهم بصحة هذا الشرط.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن اشترى مملوكاً بمال حرام وأعتقه... إلخ؟
فأجاب: وأما عتق المملوك إن كان اشتراه بعين المال الحرام، لم يصح شراؤه ولا عتقه. وإن كان اشتراه في الذمة، فله أجر عتقه، وعليه إثم ثمنه؛ فإنه لا يجوز للمشتري التصرف في المال الحرام، بل يجب عليه دفعه إلى صاحبه; قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن رجل اكتسب مالاً من شبهة، يعني ويتصرف فيه، صلاته وتسبيحه يحط عنه من إثم ذلك؟ قال: إن صلى وسبح يريد بذلك، قال: أرجو، قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [سورة التوبة آية: 102].(8/159)
ص -163- ... كتاب النكاح
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن قولهم: النكاح حقيقة لغة في الوطء... إلخ؟
فأجاب: صورتها أنهم اختلفوا هل النكاح إذا أطلق في الكتاب والسنة يراد به الوطء حقيقة، ويكون مجازاً في العقد، أم بالعكس؟ فبعضهم قال: إنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء; وبعضهم قال: حقيقة في الوطء، مجاز في العقد; والأصح عند المحققين أنه مشترك. قال الشيخ تقي الدين: النكاح في الإثبات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما. انتهى. وبيان ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 22] يراد به النهي عن العقد والوطء جميعاً، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"، وقوله: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح"1، وغير ذلك من الأحاديث، يراد بذلك النهي عن العقد والوطء جميعاً.
فإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة، تبين لك أن المراد بالنكاح لفظ مشترك، يعم العقد والوطء، إلا قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230]، فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النكاح (1409), والترمذي: الحج (840), والنسائي: مناسك الحج (2842)، والنكاح (3275, 3276), وأبو داود: المناسك (1841), وابن ماجة: النكاح (1966), وأحمد (1/57, 1/64, 1/65, 1/73), ومالك: الحج (780), والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198).(8/160)
ص -164- ... المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء بعد العقد الصحيح؛ فلا تحل بوطء من غير عقد، ولا يكفي العقد وحده، لا بد من الوطء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوق عسيلته" 1 الحديث.
وسئل: عن المرأة تمشي من غير عباءة، أو مكشوفة الوجه... إلخ؟
فأجاب: وأما المرأة التي تمشي من غير عباءة، أو مكشوفة الوجه، فإذا سترت وجهها وصدرها وشعرها، فليس عليها في ذلك، إذا كان ذلك عادتهم، لكن لا تخالط الرجال الأجانب، فإن بدنها كله عورة شعرها وبشرتها.
وأجاب أيضاً: والمرأة يلزمها تغطية شعرها وصدرها ويديها، وجميع بدنها، إلا وجهها في الصلاة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: والمرأة التي لا تستر عورتها، تؤدب إلى أن تستر عورتها.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: وجه الأمة لا يلزمها ستره، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء عن التقنع، فاشتهر ولم ينكر، فكان إجماعاً؛ لكن إن كانت الأمة جميلة يخشى بها الفتنة، لم يجز النظر إليها بشهوة. وأما الحرة فلا يجوز كشف وجهها في غير الصلاة، والأمة إذا أعتقت فهي حرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطلاق (3414), وابن ماجة: النكاح (1933).(8/161)
ص -165- ... سئل الشيخ عبد الله: عن الخلوة بالأجنبية؟
فأجاب: الذي يخلو بالمرأة الأجنبية، يؤدب عن مثل هذا الفعل بما يراه الأمير.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الرجل لا يجوز له أن يدخل على أخت زوجته إلا متغطية عنه، ولا يجوز له أن يخلو بها، ولا يصير محرما لها، وإن كان ليس له أن يتزوجها ما دامت أختها معه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل جدي من قبل الأم تغطي عنه زوجتي أم لا؟
فأجاب: لا تغطي عنه، لأنه أبوك، ولو كان ليس أباك حقيقة فإنك ابن ابنته، وكذلك زوجته لا تغطي عنك، سواء كان بعيداً، أو قريباً.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحنَّاء للرجل؟
فأجاب: الحناء لا بأس به إذا اختضب به الرجل في يديه ورجليه، غير قاصد للتشبه بالنساء، ولا يريد به الزينة.
وأجاب أيضاً: وأما الحناء إذا كان ليس قصده التشبه بالنساء، وإنما قصده إزالة أثر العمل والتبرد والتداوي، فلا بأس به.
وسئل: إذا خطب أخت زوجته ليسخطها؟(8/162)
ص -166- ... فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها، ومنصوص كلامهم وظاهر عباراتهم جواز ذلك، لأنهم لم يذكروا إلا المنع من العقد خاصة، وأما الخطبة فلم يتعرضوا لها بمنع، ولم يمنع إلا من خطبة المعتدة من غيره، فقالوا: لا يجوز التعريض بخطبة الرجعية، ولا يجوز التصريح بخطبة البائن، والمتوفى عنها زوجها؛ فإن فعل بأن عرض في موضع لا يجوز فيه التعريض، أو صرح في موضع لا يجوز فيه التصريح، ولم يعقد عليها إلا بعد انقضاء العدة، فالعقد صحيح مع الإثم.
وأما خطبة المرأة في عدة أختها، أو خالتها أو عمتها، فلا علمت فيه منعاً، ولكن الأحسن تركه، أو ترك إظهاره، لما فيه من حصول العداوة وقطيعة الرحم، التي عللوا بها في عدم جواز الجمع بينهما. فإن أراد الخطبة فلتكن سراً بحيث لا تعلم زوجته، مع أن ذلك لا يفيده شيئاً، لأنها ربما وعدته، فإذا انقضت عدة أختها ربما بدا لها.
وسئل: عن رجل زوج ابنته، وقد وعد آخر قبله؟
فأجاب: وأما الذي زوج ابنته على رجل، وقد وعد آخر قبله أن يزوجه إياها، وأخلف وعده، فإخلاف الوعد من أخلاق المنافقين، ولا يجوز إخلاف الوعد. والإثم على الأب، وأما الزوج فلا إثم عليه إذا كان لم يعلم.(8/163)
ص -167- ... وسئل: عن الصدقة عند العقد؟
فأجاب: والصدقة عند الختان والزواج، والصدقة للميت عند موته، فهذا لا بأس به.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن التحجير... إلخ؟
فأجاب: وما يفعله بعض الأعراب، من تحجير الرجل بنت عمه - وهو منعها من التزوج بغيره - وما يأخذه من العوض منها، أو من غيرها بغير إذنها، لا يجوز ذلك، ولا يجوز اشتراط شيء من صداقها لبعض أقاربها غير الأب بغير إذنها، لأنه في مقابلة بذل البضع للزوج، فتكون هي المستحقة له دون غيرها. والعقد على المرأة في الحيض جائز ولا بأس به.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن عمل العقد عند العقد؟
فأجاب: وأما عقد بعض الناس عقداً عند عقد النكاح، فهذا لا يجوز؛ فإن كان المقصود حيلولة ذلك بين الرجل وامرأته، فهذا من السحر المحرم.
[ كيف عقد النكاح ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: كيف عقد النكاح؟
فأجاب: أما عقد النكاح، فلا بد من الولي، ورضى(8/164)
ص -168- ... الزوجين، وشاهدي عدل يحضران العقد، ويقول الولي للزوج: زوجتك فلانة على مهر كذا وكذا، ويقول الزوج قبلت ذلك. ويستحب أن يخطب عند العقد بخطبة النكاح المعروفة في كتب أهل العلم.
وسئل: عمن تزوجت بغير عقد... إلخ؟
فأجاب: وأما الذي يتزوج برضاها ورضى أوليائها على مهر مفروض، لكن بغير عقد ولا شهود، فمثل هذا يعذر بالجهل ولا يصير عليه أدب؛ والذي فعل هذا في الجاهلية فلا يطالب بنكثه في الإسلام.
وسئل أيضاً: هل يجوز أن يتزوج امرأة بغير عقد، مع حصول الشهود والمهر.
فأجاب: لا يجوز للرجل أن يتزوج المرأة إلا بعقد، وشاهدين؛ هذا المفتى به عندنا.
وسئل: عن تزويج اليتيمة إذا طلبت النكاح؟
فأجاب: اليتيمة إذا طلبت النكاح، فيجوز لوليها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كان لها تسع سنين؛ لكن لا يجبرها، ولا يزوجها إلا برضاها، إذا كانت يتيمة. والأب يجوز له إجبار الصغيرة التي لم تبلغ. والبلوغ يحصل بالحيض، وبإنبات الشعر الخشن حول القبل.
وأجاب أيضاً: والأب يجوز له إجبار ابنته الصغيرة بلا(8/165)
ص -169- ... إذنها، ولا يجوز لغير الأب إجبارها.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عمن زَوّج نفسه بحضور الشاهدين؟
فأجاب: إذا كان برضى المرأة وهو أقرب الأولياء، صح النكاح، وإن كان مراد السائل: زَوّج نفسه، أنه هو الذي خطب خطبة النكاح، فهو جائز ولا بأس به.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال ولي البكر: استأمرتها فلم تتكلم، وشاهد الحال قد قرر ذلك، وعملوا له عمله، فهل يكفي، أم لا بد من الإشهاد؟
فأجاب: لا يشترط للبكر النطق، لحديث: "وإذنها صماتها" 1، والإشهاد على الاستئذان لا يشترط بل مستحب؛ لكن لو أنكرته قبل الدخول فقولها، وبعده لا يقبل.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما إذن المرأة لوليها بعد العقد، لا أرى ذلك يكفي بل يعاد، وأما كونها عالمة بالذي أراد تزوجها، وتتهيأ له بالطيب وغيره، فهذا لا يكفي عن الإذن.
[ إشهاد ولي المرأة على إذنها في التزويج ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن إشهاد ولي المرأة على إذنها في التزويج؟
فأجاب: لا يشترط الإشهاد على إذنها له، وصرح بذلك الفقهاء، ولو كان الولي غير الأب؛ فإذا قال وليها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النكاح (1421), والترمذي: النكاح (1108), والنسائي: النكاح (3260, 3261, 3262, 3264), وأبو داود: النكاح (2098), وأحمد (1/219, 1/241, 1/261), ومالك: النكاح (1114), والدارمي: النكاح (2188, 2189).(8/166)
ص -170- ... استأذنتها فأذنت، أو سكتت وكانت بكراً، جاز العقد عليها من غير طلب شاهدين على إذنها. وكذا إذا خطب المرأة من نفسها، وعلم أبوها أنها راضية بمن خطبها، وتيقن ذلك منها بخبر أمها له بذلك ونحوه، ورآها تتأهب أهبة التزوج من التجمل باللباس والطيب ونحوهما، وانضم إلى ذلك إخبار أمها ونحوها لأبيها برضاها، جاز له تزويجها بغير استئذان، ولا يشترط رضى وقد تيقن ذلك.
وسئل: عمن ادعت عدم الإذن بعد الدخول؟
فأجاب: ذكر أصحابنا أنها لا تصدق، قالوا: لأنها لو كانت صادقة لم تمكن من نفسها، فتمكينها من الوطء دليل على الإذن؛ فكان القول قول الزوج، لأن الظاهر معه؛ هذا إذا كان اختلافها مع الزوج، وأما إذا اختلفت هي ووليها في الإذن وعدمه، بعد دخول الزوج بها، فقال في الفروع: يتوجه في دعوى الولي إذنها كذلك، وذكر شيخنا قولها. انتهى.
وأما إن شهدت البينة أنها زوجت مكرهة، أو بغير إذنها وهي ممن يعتبر إذنه، تبيناً بطلان العقد بشهادة البينة لا تصديقاً للمرأة، ولأنهم عللوا قبول قول الزوج بأن الظاهر معه، وهذا مما يقدم فيه الظاهر على الأصل؛ فإذا شهدت البينة بما يخالف الظاهر عمل بها، كما أن القاعدة في الدعاوى: أن القول قول مَن الأصلُ أو الظاهر معه، فإذا(8/167)
ص -171- ... وجدت بينة تخالف ذلك قدمت، ووجب العمل بها.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: إذا ثبت عند الحاكم رضى المرأة حال العقد وعدم إجبارها، وشهد الشهود على ذلك، وحكم الحاكم بصحة العقد، فلا يجوز لأحد نقضه، ولا اعتراضه إلا إن طلق الزوج المعقود له من غير إكراه، وإلا فهي باقية في ذمته، ولا يتشوف أحد لإبطال العقد بمجرد الحيل، إلا من يستحل الزنى، عياذاً بالله.
وأجاب أيضاً: وأما اليتيمة التي ذكرت، فأنت عارف أن المرأة من طبعها الميل إلى الرجل، ولا بد لها منه، فإن كان الخاطب كفواً وهي مشتهية فزوِّجْها، فإن كان أنها لم ترد الزوج فلا تلزمها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الولي؟
فأجاب: وأما المرأة فوليها الأقرب من أهلها الرجال خاصة بإذنها، وبحضور شاهدين على الإملاك، وسواء الليل والنهار. وأما إذا غاب وليها قدر مسافة القصر، فلا يجوز لها أن توكل من يزوجها. وهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان لا يمكن الإرسال إليه ومشاورته إلا بمشقة شديدة، جاز لولي الأمر أن يوكل من يزوجها، أو يزوجها بنفسه على كفو مثلها. وأخو المرأة أو وليها، إذا أبى أن يزوجها من أجل أنها تخدمه، يزوجها الأمير.(8/168)
ص -172- ... وأجاب الشيخ علي بن الشيخ محمد، رحمهما الله: إذا كانت المرأة لا ولي لها يزوجها، أو كان وليها غائباً غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، فإنه يزوجها الأمير. وحد المسافة التي يزوج فيها البعيد، المشهور أنها لا تقطع إلا بكلفة ومشقة. وإذا زوج الأبعد من غير عذر للأقرب، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: منهم من يقول: إنه لا يصح النكاح; ومنهم من يقول: يصح إذا أجازه الولي؛ والأحوط في مثل هذا تجديد العقد، لأنه ليس في المسألة نص قاطع.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا امتنع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي، فهو عاضل، تنتقل الولاية منه إلى أقرب عصبتها بعده، ويزوجها من هو أقرب منه. والصغير قبل البلوغ لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج فيعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد.
وسئل: إذا زوج ولي الأمر، والأولياء حاضرون بغير إذنهم؟
فأجاب: لا يصح العقد لحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". وأما إذا امتنع الولي، ولم يكن سواه من الأولياء إلا ولي الأمر، فيزوج إذا كان القريب عاضلاً يمنع الكفو، ويطلب دراهم لنفسه.(8/169)
ص -173- ... وسئل: هل للمشرك ولاية على المسلمة؟
فأجاب: ليس للمشرك على المسلمة ولاية، فإن لم يكن لها ولي مسلم، فأمرها إلى الأمير.
وأجاب أيضاً: وأما الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر: تقديم المكلف الرشيد في تزويج موليته، على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح.
سئل بعضهم: عن رجل تزوج امرأة بلا ولي مع وجود القاضي، ولها ولي في بلد آخر، لكنها وكلت من يزوجها؟
فأجاب: هذا نكاح فاسد، فيزوجها وليها إن كان حاضراً، فإن لم يكن أو كان في مسافة بعيدة، فيزوجها القاضي من زوجها المذكور. وليس عليها عدة، لأن الماء واحد، ولا يحتاج لطلاق ولا فسخ، بل يكفي عقد صحيح من غير فسخ للعقد الفاسد. وسواء كانت حاملاً أم لا، فلا تجب عليها العدة، بل يعقد له عليها عقداً جديداً، إما وليها إن أمكن، أو الحاكم.
قال في الإقناع وشرحه: ولا يصح تزويج من نكاحها فاسد قبل طلاق أو فسخ، فإن أبى الزوج الطلاق، فسخه - أي النكاح الفاسد – حاكم. انتهى. وعلى هامشه بخط الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله، قوله: ولا يصح تزويج(8/170)
ص -174- ... من نكاحها فاسد... إلخ، يعني لغير صاحب النكاح الفاسد؛ أما صاحب النكاح الفاسد، فلا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، بل يكفيه عقد صحيح من غير فسخ للعقد الفاسد، صرح به في حاشية المنتهى.
سئل بعضهم: عن بنت تسع ولا ولي لها حاضر، هل تزوج أم لا؟
فأجاب: إن كانت تطيق الزوج والولي غائب، والزوج كفو، وهي محتاجة، زوّج الأبعد، فإن عدم زوج الأمير.
سئل بعضهم: عن يتيمة ليس لها إلا أخ لأم؟
فأجاب: إذا لم يكن للمرأة إلا أخ من الأم، ولا قرابة لها من جهة الأب، ولّى عليها الحاكم من يزوجها.
سئل بعضهم: إذا كان سيد العبد أو الأمة غائباً مسيرة يوم، هل يزوجان بغير إذنه؟
فأجاب: لا يزوجان إلا بإذنه والحالة هذه.(8/171)
ص -175- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عمن أراد أن يزوج وليس معه إلا شاهد؟
فأجاب: وأما ولي المرأة الذي يريد أن يزوجها، وليس معه إلا شاهد واحد، فلا يجوز ذلك إلا بشاهدين عدلين. وأما من أراد تزويج أخته، وليس معه إلا شاهد ويمين، فمثل هذا يشترط له كثير من أهل العلم شاهدين، وليس لليمين مدخل في مثل هذا؛ إنما ذلك في المال وما يقصد به المال.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما الإشهاد على العقد فيشترط لصحة النكاح، وأدلة ذلك معروفة في كتب الأحاديث والفقه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل تزوج الهاشميات من ليس منهم؟
فأجاب: وأما الذي يدعي أنه من الأشراف وعنده أخوات له، فلا بأس أن يزوجهن من المسلمين الطيبين، ولو لم يكونوا من الأشراف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته بعض الصحابة الذين ليسوا من بني هاشم، مثل عثمان بن عفان، وأبي العاص بن الربيع، رضي الله عنهم.
وقال أيضاً: ورد سؤال على علماء الدرعية، في تزويج الهاشمية غير الهاشمي، فكان الجواب ما نصه: وأما(8/172)
ص -176- ... نكاح الفاطمية غير الفاطمي، فجائز إجماعاً، بل ولا كراهة في ذلك؛ وقد زوج علي عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكفى بهما قدوة. وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي. ولم يزل عمل السلف على ذلك من غير إنكار، إلا أنا لا نجبر أحداً على تزويج موليته ما لم تطلب هي، وتمنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض؛ فما اعتيد في بعض البلاد من المنع، دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بذلك فساد كبير، كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي قرشية؛ والمسألة معروفة عند أهل المذاهب.(8/173)
ص -177- ... باب المحرمات في النكاح
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وتزوجت ثلاثة بعده، ثم تزوج بها ولد الأول.
فأجاب: الذي تزوج امرأة وطلقها قبل أن يمسها، وأراد ولده أن يتزوجها فلا يجوز ذلك، سواء كان أبوه دخل بها أو لم يدخل.
وسئل: عن الربيبة؟
فأجاب: وأما الربيبة فلا تحرم إلا على زوج أمها، وأما ابنه وأخوه فلا بأس أن يتزوج بها.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن نكاح المرأة في عدة أختها وخالتها، ونكاح خامسة في عدة رابعة؟
فأجاب: إن كان الطلاق رجعياً فهذا النكاح باطل عند جميع العلماء، وإن كانت العدة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور؛ والمذهب التحريم. قال في الشرح الكبير: إذا تزوج الرجل امرأة، حرمت عليه أختها وعمتها وخالتها، وبنت أخيها وبنت أختها، تحريم جمع، وكذلك إذا تزوج(8/174)
ص -178- ... الحر أربعاً حرمت عليه الخامسة تحريم جمع بلا خلاف؛ فإذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً، فالتحريم باق بحاله في قولهم جميعاً، وإن كان الطلاق بائناً أو فسخاً فكذلك حتى تنقضي عدتها؛ روي ذلك عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت; وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد والنخعي، والثوري وأصحاب الرأي. وقال القاسم بن محمد وعروة ومالك والشافعي، وأبو عبيد وابن المنذر: له نكاح جميع من سميناه من غير تحريم. انتهى.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: من معه أربع نسوة، فأبان واحدة، وأراد أن يتزوج مكانها أخرى ولم تعتد المطلقة، فالذي نص عليه العلماء أن ذلك لا يجوز؛ بل لا بد من انقضاء العدة، وليس له أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: مذهب أحمد وأبي حنيفة: لا يجوز حتى تنقضي عدة المطلقة، ولأنه لا يجوز أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة؛ وهذا هو المفتى به عندنا.
وسئل بعضهم: إذا تزوج الرجل امرأة ومعه من لا يجوز الجمع بينها وبين الثانية؟
فأجاب: قد ثبت بالكتاب والسنة، أن الجمع بين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها، حرام في(8/175)
ص -179- ... دين الله كما هو معلوم عند السائل، وفقه الله لحسن الفهم وصلاح القصد. فإن جمع بينهما في عقد واحد لم يصح العقد، وإن تزوجهما في عقدين، أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى - سواء كانت بائناً أو رجعية - فنكاح الثانية باطل. فإن لم يعلم أولاهما فعليه فراقهما معاً. قال أحمد في رجل تزوج أختين لا يدري أيهما تزوج أولا: يفرق بينه وبينهما، لأن إحداهما محرمة عليه ونكاحها باطل، ولا تعرف المحللة له، فقد اشتبه عليه، ونكاح إحداهما صحيح، ولا نتيقن بينونتها منه إلا بطلاقهما جميعاً، أو فسخ نكاحهما، فوجب ذلك. وإن أحب أن يفارق إحداهما ثم يجدد نكاح الأخرى ويمسكها، فلا بأس. ولا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن لا يكون دخل بواحدة منهما، فله أن يعقد على إحداهما في الحال، بعد فراق الأخرى.
الثاني: إذا دخل بإحداهما، فإن أراد نكاحها فارق التي لم يصبها بطلقة، ثم ترك التي أصابها حتى تنقضي عدتها، ثم ينكحها، لأننا لا نأمن أن تكون هي الثانية، فيكون قد أصابها في نكاح فاسد، فلهذا اعتبرنا انقضاء عدتها، ويحتمل جواز العقد عليها في الحال، لأن النسب لاحق به فلا يصان ذلك عن مائه؛ اختاره الموفق. ومذهب الشافعي: أنه أجاز للواطئ نكاحها في عدتها منه، وعلله بأنه وطء يلحق به النسب كما لو وطئ في نكاح،(8/176)
ص -180- ... ولأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب وصيانة للماء، والنسب لاحق به. وإن أحب نكاح الأخرى فارق المصابة بطلقة، ثم انتظرها حتى تنقضي عدتها، ثم تزوج أختها؛ ولا يجوز أن يتزوجها في عدة المصابة، لئلا يجمع بين أختين.
القسم الثالث: إذا دخل بهما فليس له نكاح واحدة منهما، حتى يفارق الأخرى وتنقضي عدتها من حين فُرْقَتها، وتنقضي عدة الأخرى من حين إصابتها؛ وإن لم يرد نكاحهما فارقهما بطلقة. فأما إن تزوج امرأة ودخل بها، ثم تزوج أختها كما هو ظاهر سؤال السائل، فنكاح الثانية باطل كما تقدم، ويجب عليه أن يعتزل زوجته حتى تنقضي عدة الثانية، لئلا يجمع ماءه في رحم أختين، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجمع ماءه في رحم أختين". قال أحمد، رحمه الله: إذا تزوج أختها ودخل بها، اعتزل زوجته حتى تنقضي عدة الثانية، وذلك أنه لو أراد العقد على أختها في الحال لم يجز له حتى تنقضي عدة الموطوءة؛ فكذلك لا يجوز له وطء امرأته حتى تنقضي عدة أختها التي أصابها، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن تزوج في العدة أو بعقد فاسد؟(8/177)
ص -181- ... فأجاب: إذا تزوج المرأة في العدة، أو بعقد فاسد وفسخ النكاح، فإن كان الفاعل لذلك جاهلاً، فإنه يجوز له نكاحها إذا انقضت عدتها بعقد جديد برضى المرأة والولي، وإن كان فاعل ذلك عارفاً بالتحريم، فإنه يفرق بينهما ولا تحل له أبداً، كما ذكر ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأجاب أيضاً: وأما حكم من تزوج في عدة الطلاق وهو جاهل من البوادي، فلا يصير حكمه حكم الزاني، بل يعذر بالجهل، ويفرق بينهما حتى تنقضي العدة الأولى من الطلاق الأول، ثم تعتد من وطء الثاني الذي وطئها في عدتها، فإذا انقضت العدتان حلت للأزواج وهو أحدهم.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن تزوجت قبل الحيضة الثالثة؟
فأجاب: إذا حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق، وتزوجت قبل الثالثة، فالنكاح باطل وتعتد من الأول والثاني.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المرأة إذا كانت حاملاً وتوفي زوجها، هل تزوج؟
فأجاب: المرأة إذا كانت حاملاً وتوفي زوجها، فلا تتزوج حتى تضع حملها. وكذا المطلقة تكون في عدة حتى(8/178)
ص -182- ... تضع حملها، ولا تزوج إلا بعد وضع الحمل.
وسئل أيضاً: عمن توفي عنها حين الوضع؟
فأجاب: إن كان أنها وضعته بعد موته ولو بساعة انقضت عدتها، وليس عليها إحداد، وتتزوج إن أرادت، ولكن لا يدخل بها إلا إذا طهرت من النفاس. وإن كانت وضعته قبل موته بقليل أو كثير، فإحدادها أربعة أشهر وعشر، ولا تعتد بالحيض. فإذا مضت الأشهر الأربعة والعشر، ظهرت من الإحداد، وحلت للأزواج، ولو لم تحض.
وسئل: عمن أبرأته من صداقها وطلقها... إلخ؟
فأجاب: الذي أبرأته زوجته من صداقها، وقال: أنت طالق، ثم بعد ذلك أراد مراجعتها وهي تريده، فإن كان ما طلقها إلا بشرط البراءة من الصداق، فهي تصير مطلقة واحدة، فإن كان ما طلقها إلا مرة واحدة، جاز له أن يتملك عليها بعقد جديد ومهر جديد برضاها، فإن كان طلقها قبل هذا مرتين لم تجز له إلا أن تنكح زوجاً غيره.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر: عن العقد على المطلقة؟
فأجاب: أما المطلقة فلا يجوز العقد عليها في العدة بإجماع أهل العلم، بل لا يجوز التصريح بخطبتها. فإن(8/179)
ص -183- ... كانت رجعية حرم التعريض أيضاً، لأنها زوجة ما دامت في العدة؛ فإن عقد عليها فالنكاح باطل، ولا يحتاج إلى طلاق، لأنه باطل إجماعاً، بل يفرق بينهما، فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب. وعند مالك أنها تحرم عليه أبداً، وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه، والأول قول علي، وهو المشهور عن أحمد، والجديد من قولي الشافعي.
وسئل أيضاً: عمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات؟
فأجاب: إن كان طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة حرمت عليه، ولم تحل له إلا بعد الزوج الثاني بعد أن يجامعها، ولا تحل للأول قبل جماع الزوج الثاني.
وأما إن كان طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة، فإنها تَبِين بالأولى ولا يلحقها بقية الطلاق، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، ولا يلحقها الطلاق، فإذا بانت بالأولى حلَّت لزوجها بعقد ثان وإن لم تتزوج غيره، وتبقى معه على طلقتين.
ومن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس، ثم تزوجت زوجاً ثانياً، وطلقها قبل أن يمسها، هل ترجع إلى الأول؟ فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد، لأنها حلال لزوجها قبله؛ فإذا اعتدت حلت لزوجها الأول بعقد جديد. فإن لم يكن خلا بها فلا عدة عليها، ويعقد عليها الثاني في الحال. والذي تزوج امرأة وادعت أن عدتها انقضت، ثم بعد العقد أنكرت انقضاء العدة، فهذه مسألة ينظر فيها: فإن كانت أقرت بانقضاء العدة ثم أنكرت قبل العقد، لم يعقد عليها،(8/180)
ص -184- ... فإن كان إنكارها بعد العقد لم تقبل دعواها.
سئل بعضهم: عمن خالع امرأته على عوض... إلخ؟
فأجاب: الذي خالع امرأته على عوض وطلقها، وأقامت قريب سنتين ما نكحت، فإن كان طلاقه بالثلاث كلمة واحدة، فلا تجوز له إلا بعد زوج، وإن كان غير ذلك فتجوز له بعقد جديد ورضى الزوجة؛ لكن يشترط أن هذا الطلاق الذي مع الخلع ما تقدمه طلاق سابق. وكذلك من طلق زوجته على براءة، ورجعت إليه برضاها حتى جامعها من غير عقد، فلا يحل، ويؤدب على جراءته إذا كان جاهلاً؛ فإن كان عالماً بأنه لا يجوز فاذكر لنا، وإن أرادته الزوجة فيعقد عقد جديد.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الذي طلق زوجته واحدة، ثم بعد ما انقضت عدتها تزوجهاوطلقها بالثلاث بلفظة واحدة، ثم استرجعها؟
فأجاب: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، عند جمهور العلماء.(8/181)
ص -185- ... سئل بعضهم: إذا تزوج رجل امرأة في العدة بجهالة، هل يجب عليها أن تعتد من وطئه الفاسد... إلخ؟
فأجاب: قد ثبت بإجماع المسلمين أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها، أي عدة كانت، لقول الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235]، قال ابن عباس وجمهور المفسرين: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: حتى تنقضي العدة؛ وإن تزوجت فالنكاح باطل. قال ابن كثير في تفسيره: أجمع العلماء أنه لا يصح العقد في مدة العدة، ويجب أن يفرق بينه وبينها، فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها، ولا تنقطع بالعقد الثاني، لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشاً، ولا تستحق عليه بالعقد شيئاً، وإن وطئها انقطعت العدة، سواء علم التحريم أو جهله.
وقال أبو حنيفة: لا تنقطع، لأن كونها فراشاً لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة، فإنها تعتد وإن كانت فراشاً للزوج. وقال الشافعي: وإن وطئها عالماً بأنها معتدة وأنه يحرم، فهو زان، فلا تنقطع العدة بالوطء، لأنها تصير به فراشاً، والعدة تراد للاستبراء، وكونها فراشاً ينافي ذلك، فوجب أن يقطعها. ومن نصر الأول قال: هذا وطء بشبهة نكاح، فتنقطع به العدة كما لو جهل.(8/182)
ص -186- ... وقولهم: إنها تصير به فراشاً، قلنا: لكنه لا يلحق نسب الولد الحادث بوطئه بالزوج، وإلا فهما شيئان، فإذا فارقها الثاني، أو فرق بينهما، وجب عليها أن تكمل عدة الأول، لأن حقه أسبق، ولأن عدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح. وقال في المبدع: ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني في الأصح، فإذا كملت عدة الأول وجب عليها أن تستأنف العدة من الثاني، ولا تداخل العدتان لأنهما من رجلين؛ وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: يتداخلان، فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني، تكون عن بقية عدة الأول وعدة الثاني، لأن القصد معرفة براءة الرحم، وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعاً.
واحتج من قال: إنها تستأنف العدة للثاني، بعد انقضاء عدتها من الأول، بما رواه مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن رشيداً الثقفي طلق امرأته ونكحت في عدتها، "فضربها عمر ابن الخطاب، وضرب زوجها ضربات مخففة، وفرق بينهما. ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطباً من الخطاب. وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولا ينكحها أبداً".(8/183)
ص -187- ... وروى بإسناده عن علي، في التي تزوجت في عدتها "أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما فسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر"، وهكذا روى الشافعي والبيهقي بسند جيد عن عمر وعلي، ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة، قالوا: لأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا، كالدينين واليمينين، ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء، فلم يجز أن تكون المرأة في حبس رجلين، كحبس الزوجة.
وأما قول عمر: "ثم لا ينكحها أبداً"، فهذا مما قد اختلف فيه أهل العلم: فذهب الإمام مالك إلى القول بهذا اتباعاً لعمر، وهو القديم للشافعي، ورواية عن أحمد، لقول عمر: "ولا ينكحها أبداً"، قالوا: ولأنه استعجل الحق قبل وقته، فحرمه في وقته، كالوارث إذا قتل مورثه، ولأنه يفسد النسب، فيوقع التحريم المؤبد كاللعان. والقول الثاني: أنها لا تحرم على التأبيد، بل له أن ينكحها بعد انقضاء العدتين.
وقال الشافعي في الجديد: له نكاحها بعد انقضاء عدة الأول، ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه، لأنه وطء يلحق به النسب كالوطء في النكاح، ولأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب وصيانة للماء، والنسب لاحق به هاهنا، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها. قال الموفق: وهذا(8/184)
ص -188- ... حسن موافق للنظر. وقال ابن كثير: اختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما. وهل تحرم عليه على التأبيد؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. انتهى.
واستدل الجمهور على إباحتها بعد انقضاء العدتين للزوج الثاني، بأن آيات الإباحة عامة، كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء آية: 24]، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 24]، فلا يجوز تخصيصها بغير دليل، ولأن التحريم إما أن يكون بالعقد، أو بالوطء في النكاح الفاسد، أو بهما جميعاً، وجميع ذلك لا يقتضي التحريم، بدليل ما لو نكحها بغير ولي ووطئها، ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه على التأبيد، وهذا أولى.
وما روي عن عمر في تحريمها، فقد خالفه علي، وروي عن عمر أنه رجع إلى قول علي، فإن علياً قال: ?"إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب"، فقال عمر: "ردوا الجهالات إلى السنة"، ورجع إلى قول علي. قال في المبدع: ورواه البيهقي بإسناد جيد، قال ابن كثير: قلت هو منقطع عن عمر، وقد روى الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق: "أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان".(8/185)
ص -189- ... وإن أتت المرأة بولد من أحدهما عينا، انقضت عدتها بوضعه، لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 4]. فإن أتت به لدون ستة أشهر من وطء الثاني، وعاش أربع سنين فما فوقها من فراق الأول، فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها منه بوضعه، ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني، لأن عدة الموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد عدة المطلقة. قال في المبدع: ذكره في الانتصار إجماعاً، لأن الوطء في ذلك من شغل الرحم، ولحقوق النسب، كالوطء في النكاح.
وعند الشيخ تقي الدين: أن الموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد لا عدة عليها، بل تستبرأ بحيضة، لأن المقصود معرفة البراءة من الحمل كأمة مزوجة. وإن كان الولد من الثاني وحده دون الأول، وهو أن يأتي لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول، فهو ملحق بالثاني دون الأول، فتنقضي به عدتها من الثاني، ثم تتم عدة الأول؛ وتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول، لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره.
وإن أمكن أن يكون منهما، وهو: أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول، أُرِيَ القافة، فإن ألحقته بالأول لحق(8/186)
ص -190- ... به، كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني، وإن ألحقته بالثاني لحق به، وكان الحكم كما لو أمكنه كونه من الثاني دون الأول. وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما، وانقضت عدتها منهما، لأن الولد محكوم به لهما، فتكون قد وضعت حملها منهما. وإن أشكل أمره على القافة، أو لم يكن لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، لأنه إن كان من الأول فقد قامت بما عليها من عدة الثاني، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول، ليسقط الفرض بيقين.
فأما إن ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول، لم يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي به عدتها، لأنا نعلم أنه من وطء آخر، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر عند مالك والشافعي وأحمد، وأقصاها أربع سنين على المشهور من مذاهبهم، فإذا ولدته انقضت به عدتها من ذلك الوطء، ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني، لأنه وجد ما يقتضي عدة ثانية وهو الوطء الذي حملت منه؛ فيجب عليها عدتان وإتمام العدة الأولى.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن طلقها آخر الثلاث فمضى عليها ثلاثة أشهر فتزوجت، فلما أخذت مع الثاني عشرة أيام إذا هي حبلى من الأول؟
فأجاب: لا يحل لهما لأنه نكاح باطل، قال في(8/187)
ص -191- ... الإقناع وشرحه: وإن تزوجت امرأة في عدتها فنكاحها باطل، لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235]، ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم، لئلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب؛ وذكر غيره نحو ذلك. وإنما تحل المطلقة ثلاثاً بشرطين: أحدهما: نكاح زوجٍ غيره للآية، ولا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً. الثاني: أن يطأها الزوج في الفرج. وأما عدتها فإنها تعتد من الأول بوضع هذا الحمل، ثم تعتد من الثاني بثلاثة قروء.
وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: المرأة التي تزوجت في عدتها، وجاءت بولد بعد الزوج الثاني بستة أشهر إلا عشرة أيام، فالذي ذكر العلماء: أن المرأة إذا تزوجت في عدتها فنكاحها باطل، والقرآن يدل على ذلك، لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235]، فيجب التفريق بينها وبين الزوج. وعليها أن تعتد للأول، وللثاني على الخلاف والتفصيل في عدتها من الثاني. وإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، ولأقل من أربع سنين من إبانة الأول، فالولد للزوج الأول، فتنقضي عدتها من الأول بوضع ذلك الحمل، ثم تعتد للثاني، وتحل للثاني بعد انقضاء العدتين. وهذه هي مسألتكم التي سألتم عنها، فالولد للزوج الأول.(8/188)
ص -192- ... وإذا اعتدت عدة ثانية بعد الوضع، حلت للثاني إن أراد ورضيت بعقد جديد. ولزوم العدة للثاني فيه خلاف بين العلماء، وكذلك حلها للثاني بعد مضي العدة فيه خلاف؛ والقول الراجح: الحل، وهو المذهب. والقول بعدم عدتها للثاني في هذه الصورة قول حسن قوي، لأن براءة الرحم معلومة، وليس هناك محذور. والذي يظهر لي عدم وجوب العدة للثاني في هذه الصورة، فإن تزوج على هذه الحال فلا بأس به.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: إذا انقضت أربع سنين، هل تزوج ولو ارتابت في انتفاء الحمل؟
فأجاب: قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في تحفة المودود: إنه قد وجد لخمس سنين وأكثر منها إلى سبع، فعليه لا تمكن من التزوج إلا بعد تيقن براءة رحمها.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن طلق ثلاثاً ثم نظر، فإذا عقد نكاحه فاسد؟
فأجاب: لا يجوز ردها عليه بعقد ثان لأمرين: إن كان العقد مختلف في صحته فلا يجوز، لأنه قد يكون العقد صحيحاً فيكون الطلاق صحيحاً. وإن كان فاسداً فأبعد له، لأنه قد يكون عالماً بفساده مصراً عليه، فلا ينبغي فتح هذا الباب للناس.(8/189)
ص -193- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن زوج ابنته مشركاً... إلخ؟
فأجاب: الذي زوج ابنته مشركاً يؤدب، ويمنع المشرك من قربان المرأة.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن نكاح المسلم الكتابية؟
فأجاب: وأما نكاح المسلم الكتابية، فأهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل. وأما الإنكليز فالظاهر أنهم نصارى، فإن كانوا ينتسبون إلى عيسى، واتباع الإنجيل فهم كذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المعتق هل يتزوج الأمة؟
فأجاب: العبد إذا أعتق فلا يجوز أن يتزوج الأمة، ولو شرط سيدها أن أولاده أحرار، إلا بالشرطين المذكورين في كتاب الله:
أحدهما: أن لا يجد طولاً يتزوج به الحرة.
الثاني: أن يخاف العنت على نفسه؛ وصبره مع ذلك خير له من تزوج الأمة.
وسئل: عمن أعتق وتحته أمة؟
فأجاب: إذا أعتق وتحته أمة، فالذي يظهر من كلامهم أنه لا بأس باستدامة نكاح الأمة، لأنهم نصوا في(8/190)
ص -194- ... الحر المسلم، إذا وجد فيه الشرطان المبيحان للنكاح، وهما: عدم وجود الطول لنكاح الحرة المسلمة، وخوف العنت، فتزوج الأمة، ثم أيسر أو زال خوف العنت، أنه يجوز استدامة نكاح الأمة، قالوا: لأن الاستدامة ليست كابتداء النكاح، قالوا: واستدامة النكاح تخالف ابتداءه، بدليل أن العدة والردة وأمن العنت، يمنع ابتداءه دون استدامته.
قالوا: وكذلك لا يبطل النكاح بتزوج حرة عليها على الأصح، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة". ثم رأيت بعض فقهاء الشافعية صرح بذلك في المسألة التي سألت عنها، فقال: والصحيح أن العبد إذا عتق وتحته أمة، أنه لا خيار له; قلت: وظاهر هذا يقتضي جواز استدامة العبد - إذا أعتق - نكاح الأمة.
سئل بعضهم: إذا كان الحر معه حرة، أو يملك صداق حرة، وأراد أن أعقد له على أمة... إلخ؟
فأجاب: لا تعقد له والحالة هذه، إلا إن أمرك عالم نظر في أمره.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن زنى بامرأة ثم تابا؟(8/191)
ص -195- ... فأجاب: لا يجوز للزاني ولا لغيره أن يتزوج الزانية حتى تعتد، وتظهر توبتها بأن تراود فتأبى; وعند الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: أنه لا يجوز مراودتها على الزنى، وإنما توبتها بإظهار الندم، والإكثار من الاستغفار.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل خبب امرأة على زوجها وتزوجها؟
فأجاب: نكاح الثاني الذي خببها على زوجها باطل، ويجب أن يفارقها، لأنه عاص لله في فعله ذلك.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن تزوج بعقد فاسد؟
فأجاب: المفتى به عندنا، أنه لا يحل تزوج من نكاحها فاسد لغير من تزوجها، حتى يطلقها أو يفسخ نكاحها، فإن أبى، فسخه الحاكم؛ وهذا المنصوص عن الإمام أحمد، وهو المذهب المقرر عند أصحابه خلافاً للشافعي. قال في المغني والشرح: لأنه نكاح يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى التفريق، ولأن تزويجها من غير فرقة يسلط زوجين عليها، كل منهما يعتقد صحة نكاحه وفساد نكاح الآخر، ويفارق النكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى.
فافهم الفرق بين الفاسد والباطل، فالباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يجب به طلاق؛ فهو بخلاف الفاسد.(8/192)
ص -196- ... سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن نكاح المحلل، هل فيه خلاف أم هو باطل؟
فأجاب: قال في المغني، لما ذكر الشروط التي يبطل بها النكاح: وكذلك إن شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله؛ وجملته: أن نكاح المحلل حرام باطل في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن وقتادة ومالك والشعبي، وسواء قال: زوجتكها إلى أن تطأها، أو شرط أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، أو أنه إذا أحلها للأول طلقها. وحكي عن أبي حنيفة أنه يصح النكاح، ويبطل الشرط.
ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" 1، رواه أبو داود وابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر وعثمان وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين. قال ابن مسعود: "المحلل والمحلل له ملعونان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى ابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل. لعن الله المحلل والمحلل له" 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النكاح (1119), وأبو داود: النكاح (2076), وابن ماجة: النكاح (1935).
2 ابن ماجة: النكاح (1936).(8/193)
ص -197- ... فصل
فإن شرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، ونواه في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضاً. سئل أحمد عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول، ولم يعلم المرأة بذلك؟
قال: هو محلل، إذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون.
وهذا ظاهر قول الصحابة، رضي الله عنهم، روى نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، ولم يأمرني ولم يعلم؟ قال:? "لا، إلا النكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها; قال: وإن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً، وقال: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم أنه يريد أن يحللها". وجاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، أيحلها له رجل؟ قال:? "من يخادع الله يخدعه"، وهذا قول الحسن والليث ومالك; وقال أبو حنيفة والشافعي: العقد صحيح.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الله المحلل والمحلل له" 1، وهو قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم، فيكون إجماعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النكاح (1119), وأبو داود: النكاح (2076), وابن ماجة: النكاح (1935).(8/194)
ص -198- ... فصل
فإن شرط عليه أن يحلها قبل العقد، فنوى بالعقد غير ما شرطوا عليه وقصد نكاح رغبة، صح العقد، لأنه خلا عن نية التحليل. وإن نوى وليها دون الزوج، لم يؤثر ذلك في العقد. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هَمَّ أحد الثلاثة فسد النكاح، ونية المرأة ليس بشيء، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" 1، ولأن العقد إنما يبطل بنية الزوج، لأنه الذي إليه المفارقة والإمساك، فأما المرأة فلا تملك رفع العقد، فوجود نيتها وعدمها سواء. وكذا الزوج الأول، لا يملك شيئاً من العقد ولا من رفعه فهو أجنبي، فإن قيل: كيف لعنه صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إنما لعنه إذا رجع إليها بذلك التحلل، لأنه لم تحل له فكان زانياً، فاستحق اللعنة لذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النكاح (1119), وأبو داود: النكاح (2076), وابن ماجة: النكاح (1935).(8/195)
ص -199- ... فصل
ونكاح المحلل لا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول; فإن قيل: فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: محللا، وسمى الزوج: محللا له، ولو لم يحصل الحل لم يكن محللا ولا محللا له، قلنا: إنما سماه محللا لأنه قصد التحليل في موضع لا يحصل فيه الحل، كما قال: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه" 1، وقال تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [سورة التوبة آية: 37]، ولو كان محللاً في الحقيقة والآخر محللاً له، لم يكونا ملعونين. انتهى ملخصاً.
فقد علمت ألهمك الله: أن المحلل إذا شرط عليه أن يحلها للزوج قبله، أن نكاحه باطل، وأنه إن شرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضاً، وأنه إن شرط عليه أن يحلها قبل العقد، فنوى بالعقد غير ما شرطوا عليه، وقصد نكاح رغبة، أن العقد صحيح; وإن قصدت المرأة التحليل أو وليها دون الزوج، لم يؤثر ذلك في العقد، وأن نكاح المحلل لا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج، والله أعلم.
النكاح الباطل
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن النكاح الباطل... إلخ؟
فأجاب: أسلفنا لكم في الجواب المتقدم، أن النكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: فضائل القرآن (2918).(8/196)
ص -200- ... الباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يوجب مهراً بدون الوطء، بخلاف الفاسد؛ ونحن نذكر لكم هنا من عبارات الفقهاء، ما تبدو معه وجوه الفرق مسفرة ضاحكة:
قال في الإقناع: ويقع الطلاق في النكاح المختلف في صحته، كالنكاح بولاية فاسق، أو بشهادة فاسقين، أو نكاح الأخت في عدة أختها، أو نكاح الشغار، أو المحلل، أو بلا شهود، أو بلا ولي، وما أشبه ذلك، كعقد حكم بصحته، ويثبت به النسب والعدة والمهر، ولا يقع في نكاح باطل إجماعاً، ولا في نكاح فضولي قبل إجازته، وإن نفذناه بها. انتهى ملخصاً.
وقال في المنتهى وشرحه - لتقي الدين الفتوحي -: ولا فرق في عدة وجبت بدون وطء، بين نكاح فاسد وصحيح، نص عليه. والمراد بالفاسد: المختلف فيه، كالحنفي يتزوج بلا ولي ونحو ذلك; ولا عدة في نكاح باطل، أي: مجمع على بطلانه إلا بوطء، لأن وجود صورته كعدمه. انتهى ملخصاً.
وقال في الروض المربع: تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو خلع، حتى في نكاح فاسد فيه خلاف، كنكاح بلا ولي إلحاقاً له بالصحيح، ولذلك وقع فيه الطلاق، وإن كان النكاح باطلاً وفاقاً، أي: إجماعاً، كنكاح خامسة أو معتدة لم تعتد للوفاة إذا مات عنها، ولا(8/197)
ص -201- ... إذا فارقها في الحياة قبل الوطء، لأن وجود هذا العقد كعدمه. انتهى.
وبنحو ما ذكره من نقلنا كلامهم، قاله غيرهم، فلا نطيل بنقله، وقد أسلفنا لك في الجواب السابق قول المغنى والشرح، لأنه أي النكاح الفاسد يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى التفريق، ولأن تزويجها من غير فرقة يفضي إلى تسلط زوجين عليها، كل منهما يعتقد صحة نكاحه وفساد نكاح الآخر، ويفارق النكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى كلامه في المغنى والشرح.
فظهر مما نقلناه الفرق بين الفاسد والباطل، فالباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يجب به عدة ولا مهر بدون الوطء. ومن صور الباطل أيضاً: نكاح الخامسة، ونكاح المعتدة كما مثل به صاحب الروض. ومنها أيضاً: نكاح الموطوءة بشبهة، ونكاح زوجة الغير، وذات المحرم من نسب ورضاع، والله أعلم. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله: الفاسد هنا هو ما اختلف في صحته، لأن كلاً من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه. فإذا قال الإمام أحمد: إن النكاح لا يصح لحديث كذا، وقال به أصحابه ومن تبعهم لقوة دليله عندهم، ورأينا غيرهم يقول بالصحة ويقدح في إسناد حديثه مثلاً، فإنا لا(8/198)
ص -202- ... نحكم والحالة هذه بأن النكاح لم ينعقد، فنقول: هو فاسد، لا يخرج من ذلك إلا بالطلاق، خروجاً من خلاف العلماء.
وأما الباطل: فهو ما أجمع على بطلانه، لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله، فلا يحتاج إلى طلاق لكونه لم ينعقد بيقين.
وأجاب أيضاً: الصحيح أن الباطل والفاسد مترادفان عند أهل الأصول والفقهاء من الحنابلة، والشافعية، كالفرض والواجب; وذهب بعض العلماء إلى أن الباطل: ما أجمع على بطلانه، والفاسد: ما اختلف في صحته وفساده، لأن هذا قد تترتب عليه أحكام غالباً بخلاف الأول; والقول الأول هو الصحيح، لكن بعض الفقهاء من أهل المذهب، يعبر عن المختلف فيه بالفاسد، والمجمع عليه بالباطل لتجري العبارة على القولين، ولعلهم لا يمنعون من تسمية ما عبروا عنه بالباطل فاسداً، وما عبروا عنه بالفاسد باطلاً، وبعضهم سمى المختلف فيه باطلاً أيضاً.
وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان، فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد: ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعندنا: كل ما كان منهياً عنه إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل؛ ومثل ذلك: خلاف الحنفية في الفرض والواجب، فالفرض عندهم: ما دل عليه دليل قطعي، كآية وحديث(8/199)
ص -203- ... متواتر، والواجب: ما دل عليه دليل ظني، كالأحاديث غير المتواترة.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الفرق بين الباطل والفاسد، فقال في مختصر التحرير وشرحه: وباطل وفاسد مترادفان، يقابلان الصحة الشرعية، أي: فيقال لكل ما ليس بصحيح باطل وفاسد، سواء كان عبادة أو عقداً. قال: وفرق أبو حنيفة بين البطلان والفساد، وفرق أصحابنا وأصحاب الشافعي بين الفاسد والباطل في الفقه، في مسائل كثيرة. قال في شرح التحرير: قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد، إذا كانت مختلفاً فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعاً عليها، أو الخلاف فيها شاذ; قال: ثم وجدت بعض أصحابنا قال: الفاسد من النكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد، والباطل ما كان مجمعاً على بطلانه.
وأما صور النكاح الباطل، فمنها: نكاح خامسة، ومعتدة، وكذا نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ونكاح مطلقته ثلاثاً قبل أن تنكح زوجاً غيره، ونكاح الوثنية، والنكاح الخالي من الولي والشاهدين جميعاً.(8/200)
ص -204- ... باب الشروط والعيوب في النكاح
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما إذا شرطت طلاق ضرتها، أو طلاق نفسها بعد شهرين؟
فأجاب: أما شرطها طلاق نفسها بعد شهرين، فهذا لا يجوز اشتراطه، وهو شرط باطل; وأما اشتراط طلاق ضرتها، ففيه خلاف مشهور بين العلماء، والصحيح: أنه شرط باطل بما ثبت في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها، ولتنكح فإنه يأتيها ما قدر لها" 1.
سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ما الفرق بين كون المرأة تشترط أن لا يتزوج عليها، وبين قولها: إن تزوجتَ علي فهو طلاقي؟
فأجاب: الظاهر أن الكل شرط صحيح، تملك به الفسخ إذا تزوج. وأما وقوع الطلاق، فشرطه: أن يكون حال التعليق صادراً من زوج؛ فلو علقه قبل العقد عليها على شرط لم يكن طلاقاً، لأن الزوجة لم تكن حال التعليق في نكاحه. فإن كان قد عقد عليها، وعلق طلاقها على شرط، صح التعليق، ووقع عند وجود شرطه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: القدر (6601), ومسلم: النكاح (1413), والترمذي: الطلاق (1190), والنسائي: النكاح (3239), وأحمد (2/238).(8/201)
ص -205- ... وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: إذا شرطت عند العقد طلاق ضرتها، فهذا الشرط اختلف العلماء فيه: هل هو صحيح أم فاسد؟ فذهب الحنابلة إلى صحته، فعندهم يجب الوفاء به، أو خيار الفسخ له إذا لم يف; وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه شرط باطل، للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد. وعلى هذا، يبطل الشرط ويصح النكاح، لأن هذا ليس من الشروط المبطلة للعقد، كنكاح الشغار، والتحليل، والمتعة.
وأما من شرطت على الزوج عند العقد شرطاً صحيحاً، ورضي بذلك الزوج، وقالت: إن فعلت كذا فهو طلاقي، ثم لم يف لها، بل خالف ما شرطت عليه، فهذا الشرط إن كان من الشروط الصحيحة فلها الفسخ إذا لم يف به، وإن لم تقل: فهو طلاقي، ولها إلغاؤه وإبطاله. فإذا أسقطته بعد البينونة سقط، وجاز له أن يرجع إليها بنكاح جديد، فإن كان الإسقاط قبل البينونة سقط والنكاح بحاله، وليس لها مطالبته بذلك بعد إسقاطه.
وسئل: عمن تشاجر هو وزوجته ثم تراضيا على شروط صحيحة، كقوله: إن تزوجت عليك فهو طلاقك، ثم قالت له: أعد اللفظ، فأعاده مرتين أو ثلاثاً، هل يثبت هذا الشرط؟ وإن كان بعد عقد النكاح؟ وهل يقع عليها(8/202)
ص -206- ... الطلاق؟ وهل يفرق بين الحرفين فيما إذا قال: إن تزوجت فأنت طالق، أو إذا تزوجت؟
فأجاب: هذا الشرط - وهو تعليق الطلاق على التزوج - شرط لازم، وتعليقه صحيح؛ فمتى تزوج طلقت. ثم ننظر في نيته حال تكراره لفظ الطلاق، فإن قصد بالتكرار إفهامها، أو التأكيد، لم تطلق إلا واحدة، وله أن يراجعها بعد التزوج بالأخرى، لأن هذا الشرط لم يوجد عند العقد، بل حدث بعد ذلك. فإن لم يقصد بالتكرار الإفهام ولا التأكيد، طلقت ما نواه. فإن لم يكن له نية، ففيه خلاف، والأشهر: أنها تطلق بعدد التكرار; وبعضهم يقول: لا تطلق إلا واحدة. وأما التفرقة بين "إن" الشرطية و"إذا"، فالعامة لا يفرقون بينهما، فيحكم عليهم بلغتهم على قصدهم ونيتهم، مع أن في مثل هذه الصورة يقع الطلاق بكل حال.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا شرطت عليه طلاق ضرتها، فأكثر أهل العلم يصححون هذا الشرط، بمعنى أن لها الفسخ إذا لم يف; واختار الموفق وجماعة من الأصحاب عدم صحة هذا الشرط، وأنها لا تملك الفسخ إذا لم يف، للنهي عنه في الحديث الصحيح؛ وأرجو أن هذا القول أقرب.
سئل بعضهم: إذا شرط النفقة عليها؟
فأجاب: وأما إذا تزوج المرأة بشرط أن النفقة عليها،(8/203)
ص -207- ... فهو صحيح إذا تراضوا عليه.
سئل بعضهم: إذا شرطت عليه أن لا تحول من منْزلها؟
فأجاب: إذا شرطت على زوجها عند العقد أن لا تحول من مسكنها، وتدعى المرأة بشهود نساء، فالمسألة خلافية، والحنابلة يجوزون هذا الشرط، إذا شهد للزوجة شاهدان عدلان، بالغان حران، غير متهمين؛ فأما النساء فلا تجوز شهادتهن في ذلك ولو كثرن.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل أمة، ولآخر عبد، وأراد تزويج واحد منهما الآخر، وشرطا أن الأولاد بينهما؟
فأجاب: هذا الشرط فاسد لا يصح، بل الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرق.
وسئل: عمن تزوج امرأة ولم يقدر على وطئها، وقد بذل لها صداقاً؟
فأجاب: لا يعود إليه شيء من الصداق، بل يصير كل الصداق للمرأة، ويؤجل حولاً، فإن قدر على الوطء لم يلزمه أن يطلقها، وإن مضت السنة ولم يقدر على الوطء، لزمه أن يطلقها، وإن أبى فسخها الأمير.
وأما العيوب التي في المرأة توجب فسخ النكاح، فمثل: البرص، والجذام، والرتق، والعمى.(8/204)
ص -208- ... باب نكاح الكفار
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل نكاح الشرك يحتاج لتجديد في الإسلام؟
فأجاب: نكاح الشرك لا يحتاج لتجديد في الإسلام.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن زوجة الكافر إذا كانت مسلمة ومات، هل عليها عدة؟
فأجاب: إن كان قد تزوجها في حال كفره، فالنكاح باطل، لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [سورة البقرة آية: 221]، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10]، وإن كان كفره طارئاً على النكاح، أو كانا كافرين فأسلمت قبله، فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحها، وإن كان بعد الدخول، وقف على انقضاء العدة، على الصحيح عند متأخري الأصحاب، واستدلوا بحديث مالك في إسلام صفوان بن أمية، بعد إسلام زوجته بنحو شهر، والحديث مشهور عند أهل العلم، قالوا: فإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة، فهما على نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ أسلم الأول، والمرتد كغيره.
والذي اختاره ابن القيم، رحمه الله: عدم مراعاة زمن(8/205)
ص -209- ... العدة، واستدل بأحاديث وآثار، منها: ما روى أبو داود في سننه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته، على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئاً بعد ست سنين" 1، وفي لفظ لأحمد: ولم يحدث شهادة ولا صداقاً، ولم يحدث نكاحاً. وقال في حديث عمرو بن شعيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بنكاح جديد": إن الإمام أحمد قال: هذا حديث ضعيف; والصحيح: أنه أقرهما على النكاح الأول. وقال الترمذي: في إسناد هذا الحديث مقال; وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منْزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. فكان إذا هاجرت امرأة من دار الحرب، لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه". وذكر ابن أبي شيبة عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري قال: إذا أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما، إلا أن يفرق بينهما سلطان; قال: ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة: هل انقضت عدتك أم لا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النكاح (1143), وأبو داود: الطلاق (2240).(8/206)
ص -210- ... ولا ريب، أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة، لم يكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا أثر لعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير؛ فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما، لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكح من شاءت. ولا نعلم أن أحداً جدد للإسلام عقداً غير عقده الأول البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإلا بقاؤها عليه، وإن تأخر إسلامها وإسلامه. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، وبين إسلامها وإسلامه أكثر من ثمانية عشر سنة.
وأما قوله: في الحديث: كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين، فوهم؛ إنما أراد بين هجرتها وإسلامه. ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما - وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح - لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة، لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10]، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [سورة الممتحنة آية: 10]، وإن الإسلام سبب الفرقة، وكلما كان سبباً للفرقة تعقبته الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق؛ وهذا اختيار الخلال، وأبي بكر صاحبه، وابن(8/207)
ص -211- ... المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس، وعكرمة وقتادة والحاكم. قال ابن حزم: وهو قول عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد، والحكم بن عتبة، وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، وعدي بن عدي الكندي، والشعبي وغيرهم. قلت: وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، لكن الذي نزل عليه قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [سورة الممتحنة آية: 10]، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10] لم يحكم بتعجيل الفرقة، وما حكاه ابن حزم عن عمر، فما أدري من أين حكاه، والمعروف عنه خلافه. ثم ساق الرواية عن عمر بخلاف ما حكاه ابن حزم. انتهى ملخصاً.
وأما: إذا مات الزوج قبل انقضاء العدة، فصحيح المذهب: أنها تستأنف العدة للوفاة، ويلغو ما مضى. وإن كان موته بعد انقضائها فلا عدة، والذي يتمشى عليه ما اختاره ابن القيم: أنها إن لم يفسخ نكاحها حاكم بطلبها، أنها تعتد منه أيضاً.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجل له امرأة ارتدت إلى بلد الحرب، فلما تم لها عشر سنين بلغ زوجها عنها كلام أغضبه، فظاهر منها، ثم بعد ذلك أسلمت... إلخ؟(8/208)
ص -212- ... فأجاب: الفرقة تكون بنفس الردة، وقيل تتوقف على انقضاء العدة، وهذا المشهور عن أحمد، رواه عنه خمسون رجلاً، والمختار لعامة الأصحاب. وعن أحمد رواية أخرى: الوقف في هذه المسألة. واختار الشيخ تقي الدين: فيما إذا أسلمت قبله بقي نكاحه، قبل الدخول وبعده، ما لم تنكح غيره، والأمر إليها ولا حكم ولا حق عليه، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، وأنها متى أسلمت ولو قبل دخوله أو بعده بمدة، فهي امرأته إن اختار. انتهى.
فإن قلنا: إن النكاح ينفسخ بنفس الردة، أو انقضاء العدة، فهي أجنبية يجري فيها من الخلاف ما يجري في المظاهر من الأجنبية، وإن قلنا: إن الأمر في ذلك إليه كما اختاره الشيخ تقي الدين، ولم يرد زوجها انفساخ نكاحها، فهي امرأته يلحقها ظهاره، وعليه كفارة الظهار المذكورة في القرآن، من قبل أن يمسها؛ وكلامهم في الظهار من الأجنبية أنه يصح، ولا يطؤها حتى يكفّر. قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، نص عليه. وقيل: لا يصح كالطلاق؛ قال في الانتصار: هذا قياس المذهب كالطلاق، وذكره الشيخ تقي الدين رواية; والفرق بينهما: أن الظهار يمين، والطلاق حل عقد ولم يوجد. انتهى ما ذكره في الإنصاف. وبما ذكرناه يتبين لك الجواب في المسألة، إن شاء الله تعالى.(8/209)
ص -213- ... كتاب الصداق
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن تزوج امرأة، وأصدقها أربع نخلات من نخل مسمى، هل يصح؟ وإن صح فهل يكون من خيار النخل، أو من أوساطه؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: بعضهم يقول: يصح ذلك، ولها أربع نخلات من أوساط النخل، وهذا المذهب. وبعضهم يقول: لا يصح، وهذا اختيار الموفق والشارح؛ فعلى هذا القول يكون لها مهر المثل.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تعليم شيء من القرآن، هل يجوز أن يكون صداقاً؟ والحديث الذي فيه: "لا تكون لأحد بعدك مهراً" هل هو صحيح؟
فأجاب: اختلف العلماء في جواز جعل تعليم القرآن صداقاً، وفي ذلك روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يجوز، اختارها أكثر أصحابه، وفاقاً لمالك وأبي حنيفة. والرواية الثانية: يجوز، وفاقاً للشافعي. وأما حديث: "لا تكون لأحد بعدك مهراً"، فالظاهر عدم صحته.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عما يعطى أبو(8/210)
ص -214- ... المرأة؟
فأجاب: وأما من زوج ابنته على رجل، فأعطاه الزوج مقدار عشرين ريالاً، أو أكثر، فلا بأس به.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما اشتراط الرجل على زوج ابنته عند العقد، فهذا جائز، بخلاف غير الأب فلا يجوز.
وأجاب أيضاً: وأما أخذ الأب من صداق ابنته، فالمشهور عن أحمد جوازه، وهو قول إسحاق، وقد روى عن مسروق:? "أنه زوج ابنته، واشترط لنفسه عشرة آلاف، يجعلها في الحج والمساكين، ثم قال للزوج: جهز امرأتك"، وروى ذلك عن علي بن الحسين أيضاً; واستدلوا على ذلك بما حكى الله عن شعيب: {اِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [سورة القصص آية: 27]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 1، وقوله: "إن أولادكم من كسبكم، فكلوا من أموالهم" 2؛ فإذا شرط لنفسه شيئاً من الصداق، كان آخذاً من مال ابنته، وله ذلك.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: نعم له ذلك بشروط، واستدل الفقهاء على جوازه بقصة شعيب مع موسى، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"3، وبقوله عليه السلام: "أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" 4،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: التجارات (2291).
2 الترمذي: الأحكام (1358), والنسائي: البيوع (4450), وأبو داود: البيوع (3529), وابن ماجة: التجارات (2290), وأحمد (6/41), والدارمي: البيوع (2537).
3 ابن ماجة: التجارات (2291).
4 الترمذي: الأحكام (1358), والنسائي: البيوع (4449, 4452) , وأبو داود: البيوع (3528), وابن ماجة: التجارات (2290), وأحمد (6/162), والدارمي: البيوع (2537).(8/211)
ص -215- ... رواه أبو داود والترمذي وحسنه، هذا إذا كان ممن يصح تملكه من مال ولده، على ما تقدم في الهبة؛ ومن شرطه، أن لا يجحف بمال البنت، قاله في المحرر، وابن عقيل، والموفق والشارح; وهذا مذهب المتأخرين. وقال الثوري وأبو عبيد: يكون كله للمرأة، وكلام الحنابلة أقرب على شروط تملك الأب من مال الولد في الهبة، فليراجع.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال لآخر: زوجتك ابنتي وهو يضحك؟
فأجاب: النكاح يلزمه، وإن كان الرجل يهزل به، كما في الحديث: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة" 1.
وسئل: إذا عقد ومات عنها قبل الوطء؟
فأجاب: وأما المرأة التي يعقد عليها الرجل، ثم يموت ولم يكن وطئها، فيجب لها نصيبها من الميراث، ويدفع باقي الصداق لها، وتلزمها العدة.
وأجاب أيضاً: وإذا عقد عليها ثم طلقها قبل الدخول، فلها نصف الصداق المسمى، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [سورة البقرة آية: 237].
وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: والرجل الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطلاق (1184), وأبو داود: الطلاق (2194), وابن ماجة: الطلاق (2039).(8/212)
ص -216- ... طلق امرأته بعد العقد عليها، قبل أن يدخل بها، فلها نصف جهاز مثلها.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: اعلم أن هذه المسألة تكثر الفكرة فيها، ولم نقف على نص صريح فيها، ولكن الذي يستقر في القلب، ويغلب عليه في الاعتقاد، وهو أقرب إلى أصول الشرع: أن التنصيف فيما يسمى جهازاً، وهو الذي يبذل قبل الدخول في العادة. ثم وجدنا في الاختيارات ما يقرر ذلك ويوافقه، ولفظه: والشرط المتقدم كالمقارن، والاطراد العرفي كاللفظي؛ قال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا، وقيل: ما مهر مثل هذه؟ فقلت: ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج، فقالوا: إنما يؤخذ المعجل قبل الدخول، فقلت: هذا مهر مثلها. انتهى. وهذا واضح لا غبار عليه، ويغلب على ظني أني قد أفتيت بها سابقاً.
وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف، عما تعطاه الزوجة صبيحة الدخول... إلخ؟
فأجاب: ما تعطاه الزوجة صبيحة الدخول، لا يحتسب به من صداقها عند المفارقة والمطالبة بالصداق، ولو نوى ذلك، لعدم الإعلام والإشهاد عند القبض.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هل بين النكاح الفاسد والباطل، بعد الدخول(8/213)
ص -217- ... فرق، في وجوب المهر؟
فأجاب: نعم، بينهما فرق في الجملة: فيستقر المهر بالخلوة في النكاح الفاسد، بخلاف الباطل، فيجب للجهالة بالتحريم فيه مهر المثل بالوطء فقط، ويجب في الفاسد المسمى، لا مهر المثل على الصحيح من المذهب. قال في الإنصاف - فيمن نكاحها فاسد -: وإن دخل بها استقر المسمى، هذا المذهب نص عليه؛ قال في القواعد الفقهية: وهي المشهورة عند أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى، واختارها القاضي وأكثر أصحابه; وعنه: يجب مهر المثل; قال المصنف هنا: وهي أصح، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره الشارح.
وقال في الإنصاف أيضاً: ويستقر بالخلوة في النكاح الفاسد، هذا المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من مفردات المذهب، لكن هل الواجب المسمى، أو مهر المثل؟ مبني على الذي قبله. انتهى.
وقال أيضاً: إذا كان نكاحها باطلاً فهي كمكرهة على الزنى، في وجوب المهر وعدمه، على الصحيح من المذهب، وقدمه في الفروع وغيره، وجزم به في الكافي والرعاية وغيرهما. وفي الترغيب رواية: يلزم المسمى. انتهى. ومراده بوجوب المهر: إذا لم تكن عالمة بالتحريم. والواجب للمكرهة على الزنى مهر المثل؛ قال في الإنصاف:(8/214)
ص -218- ... هذا المذهب مطلقاً، وعليه جماهير الأصحاب; قال المصنف والشارح: هذا ظاهر المذهب; وعنه: يجب للبكر خاصة، اختاره أبو بكر.
وعنه: لا يجب مطلقاً، ذكرها واختارها الشيخ تقي الدين، وقال: هو خبيث، وقال في الشرح: فأما من نكاحها باطل كالمزوجة والمعتدة، إذا نكحها رجل فوطئها عالماً بالتحريم، وتحريم الوطء، وهي مطاوعة عالمة، فلا مهر، لأنه زنى يوجب الحد، وهي مطاوعة عليه. وإن جهلت تحريم ذلك، أو جهلت كونها في العدة، فلها المهر، لأنه وطء شبهة. وفيه أيضاً: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة، بغير خلاف علمناه.
وقال في الإقناع وشرحه: وإذا تزوج معتدة من غيره، وهما، أي: العاقد والمعقود عليها، عالمان بالعدة، قلت: ولم تكن من زنى، وعالمان بتحريم النكاح فيها، أي: العدة، وطئها فيها، أي: العدة، فهما زانيان، عليهما حد الزنى ولا مهر لها، لأنها زانية مطاوعة؛ ولا نظر لشبهة العقد، لأنه باطل مجمع على بطلانه، فلا أثر له، بخلاف المعتدة من زنى فإن نكاحها فاسد، والوطء فيه حكمه حكم وطء الشبهة، للاختلاف في وجوبها؛ ومحل سقوط مهرها إن لم تكن أمة، فإن كانت أمة لم يسقط، لأنه لسيدها فلا يسقط(8/215)
ص -219- ... بمطاوعتها له، ولا يلحقه النسب لأنه من زنى.
وإن كانا، أي: الناكح والمنكوحة جاهلين بالعدة، أو جاهلي التحريم، ثبت النسب وانتفى الحد، ووجب المهر، لأنه وطء شبهة. وإن علم هو دونها فعليه الحد للزنى، وعليه المهر بما نال من فرجها، ولا يلحقه النسب، لأنه زان. وإن علمت هي دونه، فعليها الحد ولا مهر لها إن كانت حرة، لأنها زانية مطاوعة، ويلحقه النسب، لأنه وطء شبهة. انتهى. وما صرح به: من أن النسب لا يلحقه بالوطء في النكاح الباطل، مصرح به في كلام جميع الفقهاء، ولا يذكرون فيه خلافاً.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أعسر بالصداق والنفقة؟
فأجاب: وأما المرأة إذا طلبت من زوجها صداقها، وادعى العسرة ولم يقدر أن ينفق عليها، فلا تكره عليه إلا إذا أدى حقها وصداقها.
وسئل: إذا دفع زوج إلى امرأته خمسة حمران 1 ثم بعد ذلك اختلفا، فقال الزوج: الخمسة من المهر، والمهر قدر عشرة حمران، ولم يذكر الزوج يوم العطاء أنه من المهر، فهل القول قول الزوج؟ لأنه أعلم بنيته أو لا؟ وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقود مستعملة في عصر الشيخ.(8/216)
ص -220- ... قلتم: القول قوله، فهل يلزمه يمين؟
فأجاب: الذي يظهر من كلام الفقهاء في جنس هذه الصورة، أن القول قوله بلا يمين، لأنه أعلم بنيته؛ هذا الذي يظهر لي في هذه المسألة، والله أعلم.
نكاح المتعة
وسئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن نكاح المتعة، الوارد في حله قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية [سورة النساء آية: 24]، هل ورد له ناسخ؟
فأجاب: ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه، كما ثبت في الصحيحين، من حديث علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
وأما الآية: فليس فيها تصريح بحل المتعة، وإنما فيها الأمر بإيتاء المستمتَع به من النساء أجورهن، وهذا يعم كل من دخل بها من النساء؛ فإنه أمر بأن يعطي جميع الصداق، بخلاف المطلقة قبل الدخول، التي لم يستمتع بها، فإنها لا تستحق إلا نصفه.
وأما ما ورد في بعض القراءات: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، فقيل: ليست هذه متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد; ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، ثم حرمت، فيكون هذا الحرف منسوخاً بما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء يوم خيبر.(8/217)
ص -221- ... باب وليمة العرس
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن وليمة العرس.
فأجاب: وليمة العرس سنة.
سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن: عن الوليمة من الأب، هل تسن أو تباح أو تكره؟
فأجاب: الأولى أن تكون من الزوج، للحديث المعروف.
وسأل شيخه حسين بن محسن الأنصاري: هل لإباحتها من جهة الأب مستند؟
فأجابه: ومن جملته حديث رواه الحافظ الآجري، في إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بعلي، أنه "أمر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة، وبذبح جزور...." الحديث.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: هل يجوز ستر الجدر في وسط المنزل ليلة العرس بالبسط ونحوها، التي تسمى الحجبة؟ وهل ينهى عن ذلك؟
فأجاب: الحمد لله. هذا مكروه وينهى عنه، لأن أبا أيوب أنكره على ابن عمر، ورجع عن دعوته.
[ آداب الطعام والشراب ]
سئل بعضهم، رحمه الله تعالى: عن قول ابن(8/218)
ص -222- ... عبد القوي، رحمه الله:
وكن رافعاً قبل القيام الطعام قد ... نهي عن قيام قبل رفع المميد
هل سمعت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيام قبل رفع الطعام؟
فأجاب: قد ورد في حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها الغراء، يحملها أربعة، فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة وقد ثرد فيها، فالتقوا عليها. فلما كثروا جثا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة يا رسول الله؟ قال: إن الله جعلني عبداً، ولم يجعلني جباراً عنيداً. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا من حواليها، ودعوا ذروتها، يبارك فيها. فلما فرغ القوم أمر برفع الطعام قبلهم"، رواه أبو داود بإسناد جيد.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: ما قولكم فيمن يقول لمن شرب: هنيئاً، ويدعي جواز ذلك؟ وقد يستدل بقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [سورة الطور آية: 19]، وبقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [سورة النساء آية: 4].
فأجاب: ليس في الآيتين ما يدل على مشروعية ذلك في حق كل من شرب. أما الآية الأولى: فإن ذلك يقال لأهل الجنة إذا دخلوها، نسأل الله الجنة برحمته، وليس في الآية ما يدل على أنه يقال لهم كلما أكلوا منها أو شربوا. وأما آية(8/219)
ص -223- ... النساء: فإنها في أمر خاص، يبين تعالى للأزواج: أنه لا يحل لهم أن يأكلوا من مال المرأة إلا ما طابت نفسها به، وليس فيها أن هذا القول يقال عند كل أكل وشرب.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة أنهم كانوا يستعملون ذلك فيما بينهم؛ فاتخاذ ذلك عادة يخالف ما كان عليه السلف والأئمة، ولو كان مشروعاً لسبق إليه من سلف من الأئمة، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك شعاراً في حق من شرب.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول الإنسان لمن شرب: هنيئاً، وأن بعض الناس يستدل بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [سورة الطور آية: 19]، فلو كان في الآية دليل لذلك، لفعله السلف الصالح.
وسئل: عما روي عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة، كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا يشرب في الليل من إناء حتى يحركه، إلا أن يكون مخمراً، ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد التواضع، كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم عليه السلام؟
فأجاب: ما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلاً. وأما الشرب على البطن - يراد به الكرع في الماء -(8/220)
ص -224- ... فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع، ففي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل علي رجل من الأنصار، فقال له: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة، وإلا كرعنا" 1، والكرع: هو الشرب من النهر ونحوه بالفم، من غير إناء ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجة بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح، على ما إذا انبطح الشارب على بطنه; وحديث البخاري، إذا لم ينبطح; ويحمل النهي على التنزيه، وحديث البخاري على الجواز.
[ آداب الاستئذان ]
سئل الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: عن الإذن لزيد وعمرو، هل يكون إذناً لغيرهما... إلخ؟
فأجاب: نص الاستئذان عام، يدخل فيه هذه الصورة المسؤول عنها، وإدخال زيد وعمرو، ليس فيه دلالة على الإذن لبكر وخالد، فكل قادم يشرع له أن يستأذن إذا أراد دخول بيت غيره، إلا أن يأذن رب البيت، إذناً عاماً صريحاً لكل من دخل؛ والمعروف من كلام أهل العلم: أن فتح الباب ليس صريحاً في الإذن، كما في الحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2
[ آداب السلام والتحية ]
وسئل: عن بداءة الكافر بالسلام؟
فأجاب: وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام؛ لكن إن خاف مفسدة راجحة، أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة، لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأشربة (5613), وأبو داود: الأشربة (3724), وابن ماجة: الأشربة (3432), وأحمد (3/328, 3/343, 3/344, 3/355), والدارمي: الأشربة (2123).
2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518), والنسائي: الأشربة (5711), وأحمد (1/200), والدارمي: البيوع (2532).(8/221)
ص -225- ... سيما من ينتسب إلى الإسلام، لكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه، مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والتباعد؛ والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع، ومن تأمل السيرة النبوية، والآثار السلفية، يعرف ذلك ويتحققه.
وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78]؛ والجهاد بالحجة والبيان، يقدم على الجهاد بالسيف والسنان، وقد مر صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأسُ المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس،(8/222)
ص -226- ... لكنه يكون مباركاً أينما كان، داعياً إلى الله مذكراً به هادياً إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] أي: داعياً إلى الله مذكراً به معلماً بحقوقه؛ فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عُدِمَها محقت بركة عمره وساعاته، وخلطته ومجالسته، نسأل الله لنا ولكم علماً نافعاً، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن بداءة بعض الناس بالسلام؟
فأجاب: بداءة بعض الناس بالسلام، أرجو أنك ما تأثم بذلك إذا بدأتهم بالسلام; قال أبو الدرداء: "إنا لنكشر في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم"; وإنما يخاف من الانبساط مع مثل من ذكرت والملاطفة، وأما مجرد السلام فأرجو أن لا إثم في ذلك، نسأل الله لنا ولكم الهدى والسداد; وأما من بدأ بتحية قبل السلام، فلا يرد عليه إلا مثل تحيته، أو يترك، لحديث: "من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه".
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الرجل هل يسلم على المرأة في الإحداد أو غيره؟
فأجاب: المرأة المحادة وغيرها في ذلك سواء، فأما المرأة مع الرجل، فإن كانت زوجته أو أمته، أو محرماً من محارمه كأمه وابنته وأخته ونحوها، فهي معه كالرجل، يستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على(8/223)
ص -227- ... الآخر رد السلام عليه.
وإن كانت المرأة أجنبية، وكانت جميلة يخاف الافتتان بها، لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كره له. وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها، جاز لها أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل رد السلام عليها.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: والذي أظن في قوله: بقيتم، وعشتم، أنه كلام لا تقصد حقيقته، لكن يجري لغواً بسبب العادة، كما ذكروا في قولهم: لعمرى، وأمثالها.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما يستعمله بعض الناس، من قوله في التحية: الله بالخير؟
فقال: هكذا كلام فاسد، خلاف التحية التي شرعها الله ورضيها، وهو السلام، فلو قال: صبحك الله بالخير، أو قال: الله يصبحك بالخير، بعد السلام، فلا ينكر.
وسئل الشيخ سليمان بن سحمان، عن قولهم: صبحك الله بالخير، وكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ هل بين هذه الألفاظ فرق؟ وهل فيها مسنون وغير مسنون؟ وما الفرق بين الدعاء والاستفصال؟
فأجاب: قد كان من المعلوم عند ذوي المعارف(8/224)
ص -228- ... والفهوم، أن قول الرجل لأخيه المسلم: صبحك الله بالخير، مساك الله بالخير، دعاء له بالخير، وأما قوله: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فهو سؤال عن حاله، وعن حقيقة ما هو عليه؛ وقد أمر الله بدعاء المؤمنين لإخوانهم المؤمنين، خصوصاً وعموماً، في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم مشهور لا ينكره إلا جاهل.
وكان من المعلوم أيضاً: أن دعاء المسلم لأخيه المسلم، أفضل وأحب إلى الله من السؤال عن حاله، هذا لا يشك فيه من كان له أدنى ممارسة وإلمام بالعلوم الشرعية، والفرق بينهما ظاهر، ليس به - ولله الحمد - خفاء على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لأن دعاء المسلم لأخيه المسلم مما أمر الله به؛ فذنب الناهي عن ذلك خطره عظيم، نعوذ بالله من القول على الله بلا علم.
وأما قوله: هل فيهما مسنون وغير مسنون؟ فنقول: كل من اللفظين جائز مسنون، ونحن نذكر ما ذكره العلماء في ذلك، وما ورد فيه من الأحاديث: قال في غذاء الألباب: فوائد: الأولى: لا بأس أن يقول لصاحبه: كيف أمسيت؟ وكيف أصبحت؟ قال الإمام أحمد، رحمه الله، لصدقة - وهم في جنازة -: يا أبا محمد، كيف أمسيت؟ فقال: مساك الله بالخير; وقال أيضاً للمروذي: كيف أصبحت يا أبا بكر؟ فقال: صبحك الله بالخير يا أبا عبد الله.(8/225)
ص -229- ... وروى أيضاً عبد الله بن الإمام أحمد، رحمه الله، عن الحسن مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الصفة: "كيف أصبحتم؟"، وروى ابن ماجة بإسناد لين من حديث أبي سعيد الساعدي، أنه عليه السلام دخل على العباس، فقال: "السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير، نحمد الله، كيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله؟ قال: أصبحت بخير، أحمد الله" 1. وروى أيضاً عن جابر قلت: "كيف أصبحت يا رسول الله؟ قال: بخير من رجل لم يصبح صائماً، ولم يعد سقيماً" 2، وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز ضعيف.
وفي حواشي تعليق القاضي الكبير، عند كتاب النذور، روى أبو بكر البرقاني بإسناده عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "لو لقيت رجلاً، فقال: بارك الله فيك، لقلت: وفيك"، قال في الآداب الكبرى: فقد ظهر من ذلك: الاكتفاء بنحو كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ بدلاً من السلام، وأنه يرد على المبتدئ بذاك، وإن كان السلام وجوابه أفضل وأكمل. انتهى.
قلت: ما ذكره في الآداب الكبرى، من الاكتفاء بكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ خطأ، لمعارضته لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من لفظ السلام؛ وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الأدب (3711).
2 ابن ماجة: الأدب (3710).(8/226)
ص -230- ... بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [سورة النور آية: 61].
سئل أبناء الشيخ وحمد بن ناصر: عن المصافحة بالأيدي، والمعانقة، وتقبيل اليد؟
فأجابوا: المصافحة سنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها، وأما تقبيل اليد فورد فيه أحاديث تدل على ذلك، واعتياده في حق البعض، وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة، فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك.
ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد، على الوجه الوارد في الأحاديث، بل الواقع خلاف ذلك؛ فيقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم "السر" ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله، والشرع قد ورد بسد الذرائع.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله وحسين: لا يجوز تقبيل أيدي الأمراء والعلماء والسادة، والانحناء في التحية، ويتخذ ذلك عادة وسنة، بل ذلك من البدع المحدثة، فينبغي للمسلمين إزالتها، والنهي عنها. وأما تقبيل اليد في بعض الأحيان، كتقبيل يد العالم لعلمه، أو من كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف نسبه، فلا بأس بذلك إذا لم يجعل عادة مستمرة، كما صح في الحديث: "أن أبا عبيدة قبل يد عمر"؛(8/227)
ص -231- ... والفرق بين ما يفعل بعض الأحيان فيجوز، وما يجعل عادة وسنة فلا يجوز، وهذا ظاهر عند أهل العلم.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: تقبيل يد السادة المنسوبين لأهل البيت، لم يكن الصحابة، رضي الله عنهم، يعتادونه، لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع أهل بيته؛ ولا شك أنهم أعظم الناس محبة له وتوقيراً، وإنما كانوا يعتادون السلام والمصافحة، اتباعاً لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره وفعله، فقال: "أفشوا السلام بينكم" 1، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: "الرجل يلقى أخاه، أينحني له؟ قال: لا، قيل: أيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قيل: أيصافحه؟ قال: نعم" 2.
وأما ما ورد: أنه "لما قدم عليه أصحابه من غزوة مؤتة قبلوا يده، قالوا: نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون" 3، وأما ما ورد في معنى هذا، فإنما وقع نادراً، وقد جوزه بعض الأئمة، كالإمام أحمد، رحمه الله، إذا وقع كذلك لا على وجه التعظيم للدنيا. واشترط الأئمة في ذلك: أن لا يمد إليه يده يقبلها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله; وذهب بعضهم: إلى كراهة تقبيل اليد مطلقاً، كالإمام مالك، رحمه الله.
وقال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى، هذا إذا لم يفض إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة، أما إذا اقترن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (54), والترمذي: الاستئذان والآداب (2688), وأبو داود: الأدب (5193), وابن ماجة: المقدمة (68) والأدب (3692), وأحمد (2/391, 2/442, 2/477, 2/495, 2/512).
2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2728), وابن ماجة: الأدب (3702).
3 الترمذي: الجهاد (1716), وأبو داود: الجهاد (2647).(8/228)
ص -232- ... بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه. قال في زاد المعاد: وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ، يعني: من المتصوفة، والمتشبهين بالعلماء، والجبابرة; فأخذ الشيوخ أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منها القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم - عبودية لهم - وهم جلوس. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له.
فنهى عن السجود لغير الله تعالى، فقال: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد"، وأنكر على معاذ لما سجد له، وقال: "مه!"؛ فتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله، مراغمة لله ولرسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز عبودية غير الله; وأيضاً، فإن الانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [سورة البقرة آية: 58] أي: منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه.
وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن قبلة اليد والرجل وهل هي جائزة؟
فأجاب: بعض أهل العلم منعها مطلقاً، وبعضهم(8/229)
ص -233- ... أجازها لمثل الوالد، والإمام العادل على سبيل التكرمة، ولا يتخذ ذلك دائما، بل في بعض الأحوال على ما ورد.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن معانقة الناس بعضهم بعضاً يوم العيد، بعد الصلاة بالمصلى، وسلام بعضهم على بعض، وتخصيص الوقت والمكان بذلك، هل ذلك سنة يثاب على فعله، أم بدعة؟
فأجاب: لا أعلم أن ذلك سنة مشروعة مطلوبة، ولو كان ذلك سنة مأثورة مشروعة، لكان أسبق الناس إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، ولنقل ذلك أهل العلم ورغبوا فيه، كما نقلوا سائر السنن والمستحبات؛ فإذا لم يكن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله الصحابة، رضوان الله عليهم، كان هذا محرماً مبتدعاً إن كان على وجه القربة، لكن الظاهر أن ما يفعله الناس اليوم، لا يفعلونه على وجه القربة والعبادة، فيكون ذلك من البدع في الدين، وإنما يفعلونه فيما يظهر لي على سبيل العادة، والعادات لا مدخل لها في العبادات.
فهذه العادة التي يفعلها الناس، من السلام في العيدين في المصلى، وفي البيوت، كانوا يفعلونها عند أئمة أهل هذه الدعوة، وفي وقتهم، ولا ينكرونها عليهم؛ فلو كان هذا الصنيع من البدع المنكرة المحدثة في الدين، لأنكر ذلك بعضهم أو كلهم، فدلنا على أن هذا من العادات، لا من(8/230)
ص -234- ... البدع المحدثة في العبادات. فما تقرب به العبد إلى الله وكان مشروعاً، فهو من العبادة المطلوبة المحبوبة لله، وما لم يكن كذلك، وكان الناس يعتادونه، فإن جر إلى مفسدة كان ذلك محرماً، والوسيلة إلى المحرم حرام، كما أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة وقربة; والظاهر: أن هذه العادة التي يعتادها الناس تجر إلى مصلحة، فربما يلتقي المتهاجران فيسلم بعضهم على بعض، وربما انقطعت المهاجرة بينهما، أو زال بعض الشر وخف؛ وتقليل الشر محبوب مطلوب مندوب إليه، كما قيل: بعض الشر أهون من بعض.
وأما المعانقة فهي: أن يلتزم الرجل الرجل، ويضمه إليه; وقد كنت أظن أن المعانقة كما يفعله الناس، من وضع عنق الرجل على عنق صاحبه، لكني لم أجد ذلك في شيء من كتب اللغة، ولا من كلام الشراح، فالله أعلم؛ وإن وجدتم ذلك، فأفيدونا به.
وأما سعي الناس يوم العيد إلى أهل البيوت، للسلام والدخول عليهم وتخصيصهم يوم العيد بذلك، مع أنه يحصل بدخول بعض الجهال إثم، ومخالفة للسنة، من النظر إلى زينة صاحبة الدار، والتطلع على العورات، فالجواب عن هذه المسألة، هو الجواب عن التي قبلها، إلا ما كان من النظر إلى زينة صاحبة الدار، والتطلع على العورات، فهذا لا يجوز، لأن دخول الجهال على النساء غير ذوات المحارم لا(8/231)
ص -235- ... يجوز. فلو كان سلام العيد مسنوناً مشروعاً، كان في حق الجهال محظوراً ممنوعاً; وقد علمتم كلام أهل العلم، في المنع من سلام الرجال الأجانب على النساء غير ذوات المحارم، والعجوز التي لا تشتهى ولا يرغب فيها؛ فتبرج النساء بالزينة، والجلوس للسلام عليهن، لا يجوز والحالة هذه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت على أمتي فتنة، أضر على الرجال من النساء" 1.
سئل الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله: عن القيام في وجوه الأمراء والعلماء، وأهل الفضل... إلخ؟
فأجابا: لا يجوز القيام للعلماء، ولا الأمراء، بحيث يتخذ ذلك عادة وسنة، بل ذلك من فعل أهل الجاهلية والجبابرة، كملوك فارس والروم وغيرهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك مع عظمائهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار" 2، وفي حديث آخر، عن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الصحابة - وكانوا لا يقومون له، لما يعلمون من كراهيته لذلك"، وثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود، عن جابر قال:?"اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه قياماً وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمِعنا تكبيره، فالتفت إلينا، فإذا نحن قيام، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: النكاح (5096), ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740, 2741), والترمذي: الأدب (2780), وابن ماجة: الفتن (3998), وأحمد (5/200, 5/210).
2 الترمذي: الأدب (2755), وأبو داود: الأدب (5229).(8/232)
ص -236- ... قعود، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا. ائتموا بأئمتكم، وإن صلوا قياماً فصلوا قياماً، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً" 1.
وأجاب بعضهم، رحمه الله: قال شيخ الإسلام في الجواب عن هذه المسألة: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أنهم يعتادون القيام للداخل المسلم، كما يردون السلام عليه، كما يعتاد كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك؛ ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة; وقال للأنصار لما قدم سعد: "قوموا إلى سيدكم" 2، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان عليه السلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يعدل أحد عن هدى خير الخلق، وهدى خير القرون إلى ما دونه. وينبغي للمطاع أن يقر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوا لم يقوموا له، ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد; فأما القيام لمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصلاة (413), والنسائي: السهو (1200), وأبو داود: الصلاة (602), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240), وأحمد (3/334).
2 البخاري: الجهاد والسير (3043), ومسلم: الجهاد والسير (1768), وأبو داود: الأدب (5215), وأحمد (3/22, 3/71).(8/233)
ص -237- ... قدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام القادم بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس من حقه، أو قصد لخفضه، ولم تعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له لأن في ذلك إصلاح ذات البين، وإزالة التباغض والشحناء.
وأما من عرف أن عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار" 1، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له; فالقيام للقادم قد سواه في القيام، بخلاف القيام للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم في مرضه قاعداً وصلوا قياماً، أمرهم بالقعود، وقال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً" 2، فقد نهاهم من القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
وجماع ذلك: أن الذي يصلح، اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك، أو لم يعرف العادة، وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس مفسدة راجحة، فإنه تدفع إحدى المفسدتين بالتزام أدناهما، كما تحصل على المصلحتين بتفويت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأدب (2755), وأبو داود: الأدب (5229).
2 أبو داود: الأدب (5230), وأحمد (5/253 ,5/256).(8/234)
ص -238- ... أدناهما. انتهى كلامه، رحمه الله.
وقال ابن مفلح في الآداب الكبرى - لما تكلم على هذه المسألة، وذكر الفرق بين القيام له والقيام إليه – قال: وأما القيام عنه لإيثاره بمجلسه، فقد ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قام صلى الله عليه وسلم عن فاطمة فأجلسها مكانه، ذكره ابن عبد البر في المجالس. انتهى.
فتبين بهذا الكلام الذي حكيناه عن هذين الإمامين الجليلين، رحمة الله عليهما: أن من القيام ما هو محرم، كقيام بعض الناس لمن يعظمونه من الملوك ونحوهم، يقومون لهم تعظيماً وهم قعود، وهو مثل ما يفعله الأعاجم من قيام بعضهم لبعض; ومن القيام ما هو جائز، كالقيام على رأس بعض الأمراء خوفاً عليه، فهذا جائز لذلك السبب; وقد ورد مثل ذلك من بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في صلح الحديبية، وهو مذكور في كتاب الهدي النبوي، في موضعه من الكتاب، فليرجع إليه.
ومن ذلك: ما هو مستحب، كالقيام إلى القادم من سفر، والقيام عن الداخل لإيثاره بمجلسه، وكالقيام للذي لا يعرف عادة السلف في كراهة القيام، ويعتقد أن ترك القيام إليه بخس في حقه، أو قصد لخفضه، لأن القيام إليه في هذه الحال مصلحة راجحة، وهي إصلاح ذات البين، وإزالة الشحناء والتباغض؛ فهذا تفصيل الكلام في هذه(8/235)
ص -239- ... المسألة.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: قال في الفتح: وقال ابن القيم في حاشية السنن: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. وفي الفتح أيضاً: عن أبي الوليد بن رشد، أن القيام يقع على أربعة أوجه:
الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبراً وتعاظماً على القائمين إليه.
والثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
والثالث: جائز وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام، لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
والرابع. مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر، فرحاً بقدومه يسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنيه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها. انتهى. وقال الخطابي: في حديث الباب: جواز إطلاق السيد على الخير الفاضل، وفيه: أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل، والإمام العادل، والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات.(8/236)
ص -240- ... وقال أيضاً: ذكر ابن القيم، رحمه الله، في الإغاثة، على قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [سورة البقرة آية: 58] ما نصه: قال السدي: هو باب من أبواب بيت المقدس، وكذلك قال ابن عباس، قال: والسجود بمعنى الركوع، وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه؛ فكل منحن لشيء تعظيماً له فهو ساجد له، قاله ابن جرير وغيره؛ قلت: وعلى هذا، فانحناء المتلاقيين عند سلام أحدهما لصاحبه، من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ما ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى.
وقد أشكل هذا على كثير من الناس، ممن لم يكن له معرفة بمدارك الأحكام، ومعاني الألفاظ، فزعموا: أن ما يفعله المسلمون الآن من المعانقة، من هذا القبيل، وأنه هو هذا الانحناء المحرم الذي ذكره ابن القيم؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا على ما فهموا، لوجوه:
أحدها: أن المسلمين لا يقصدون بهذه المعانقة، الانحناء لمن يسلمون عليه تعظيماً له بذلك، وإنما يقصدون المعانقة المشروعة; وحملهم على ما هو الحق، وما يقصدونه ويتعارفونه، أحسن وأوفق من حملهم على الأمر المحرم، الذي لا يقصدونه ولا يعرفونه، إذ حملهم على هذا من العنت والتحكم.
الوجه الثاني: أن هذا من باب التحية والملاطفة والمحبة والشفقة، بعد الالتقاء من البعد والسفر وغير(8/237)
ص -241- ... ذلك، لا من باب التعظيم.
الوجه الثالث: أن الانحناء المحرم الذي عناه ابن القيم، وتكلم فيه أهل العلم، هو: الانحناء للمعظَّم من الناس تعظيماً له بذلك، من غير مصافحة ولا معانقة، كما يفعله أهل الأمصار اليوم للمعظم عندهم، فيقومون له وينحنون له ويعظمونه بذلك، وهذا لا يفعلونه غالبا إلا للرؤساء. وأعظم من ذلك وأبلغ في التحريم: ما قد يفعله بعضهم غالباً مع الانحناء أو بدونه، من رفع يده والإشارة بها إلى محل السجود منه من أنفه وجبهته، وهذا فيه إشارة إلى السجود له، كما يفعله أهل الأمصار اليوم، من الانحناء والإشارة إلى الأنف والجبهة، وهو الانحناء المذموم المحرم، الذي عناه ابن القيم، رحمه الله، لا ما يفعله المسلمون الآن من المصافحة والمعانقة; ولا يقول هذا إلا جاهل متنطع متشدد، سمع لفظ الانحناء وأنه محرم، وأنه من السجود والتعظيم للمخلوق، فقاس عليه سلام أهل الإسلام، أو ظن أنه هو الذي عناه ابن القيم، وجعل إكبابه عليه للمعانقة انحناء له وتعظيماً، وهذا باطل كما تقدم بيانه، والله أعلم.
ألفاظ منهي عنها
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قول بعض الناس: نتبرك بالله ثم بك، نتبرك بدخولكم،(8/238)
ص -242- ... نتبرك بحضرتكم؟
فأجاب: ما علمت فيه شيئاً، ولا أحبه، خاصة إذا قيل ذلك لمن لا يظن به خير. وقولهم: الله يسأل عن حالك، هذا كلام قبيح، ينصح من تلفظ به. ومتعنا الله بحياة فلان، مرادهم: أن الله يبقيه ما دمت حياً، ولا يبين لي فيه بأس. وقولهم: الله يخلي عنا، ما علمت فيها بأساً، لأن معناها: الله يتسامح عنا.
وسئل أيضاً: عن قول بعض العوام: مالك صفاتي، ماذا يترتب عليه؟
فأجاب: هذا اللفظ قبيح، ولو قصد به نفي الوصف، مع أنه مراده فيما يظهر، ولو اعتقد معناه في نفي الصفات كان كفراً. وقول بعضهم: فلان ما يلقى في قبره إلا الدواب ونحو ذلك، لا يجوز ذلك، لأنه اعتراض على الله. وقول بعض الناس: يا عضدي، الظاهر: أن المراد بمثل هذه: المعاونة على ما ينوبه من أموره، مثل الانتصار به على عدوه ونحوه، لا بأس به. ومثل قولهم: فلان المرحوم، بل يقول: الله يرحمه، لأنه لا يدرى.
وسئل عن قول بعض الناس: يحق من الله كذا، إذا كان أمر نعمة؟(8/239)
ص -243- ... فأجاب: إن قول بعض الناس الجهال: يحق من الله أن يكون كذا، فهذه كلمة قبيحة يخاف أن يكون كفراً؛ فينهى من قال ذلك وينصح.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، هل ينكر على من قال: الحمد لله حمد الشاكرين؟
فأجاب: لو قال: رب العالمين، لكان أولى.
وسئل: إذا حمد الله على جشائه، هل هو سنة؟ وإذا لم يكن سنة فهل ينكر عليه؟
فأجاب: ليس بسنة.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله: عما يستعمله الناس من قولهم: أنا صبي التوحيد، هل هو من دعوى الجاهلية؟
فأجاب: الجاهلية ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نسب الأمر في السنة إلى الجاهلية، فالمراد ذمه والنهي عنه؛ وقد ذكر العلماء عبارات كثيرة في بيان دعوى الجاهلية، فقال بعضهم: هو قولهم: يا آل فلان، كأن يدعو بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث الشديد. وقال بعضهم: دعوى الجاهلية أن ينادي من غلب عليه خصمه: يا آل فلان، فيبتدرون إلى نصره ظالماً أو مظلوماً، جهلاً منهم وعصبية.
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، على قوله صلى الله عليه وسلم:(8/240)
ص -244- ... "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 1: هو ندب الميت; وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى: الدعوى بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه ويعادي عليه؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية. انتهى. وبما ذكرناه من كلام العلماء، يعلم أن كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من دعوى الجاهلية، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، في شرح كتاب التوحيد.
وأما ما استعمله الناس من قولهم: أنا صبي التوحيد، فالجواب: أن هذا إن كان المتكلم به ينصر حقاً، أو يدعو إلى حق، أو يدفع باطلاً فلا بأس به، وإن كان المتكلم به يدعو إلى باطل، أو ينصر باطلاً، أو كان مراده تزكية النفس أو الترفع بذلك والتعاظم، فذلك لا يجوز. ومثل ذلك قول: أنا ابن فلان، أو أبو فلان، إذا كان المتكلم به قصده إظهار الحق، أو الدعوة إلى الحق ونصرته، لا سيما إذا كان ذلك حال مناهضة العدو، ومكابدة أعداء الدين، فهذا لا بأس به؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" 2، ومن ذلك قول سلمة بن الأكوع: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1297), ومسلم: الإيمان (103), والترمذي: الجنائز (999), والنسائي: الجنائز (1860, 1862, 1864), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1584), وأحمد (1/386, 1/432, 1/442, 1/456, 1/465).
2 البخاري: الجهاد والسير (2864), ومسلم: الجهاد والسير (1776), والترمذي: الجهاد (1688), وأحمد (4/280, 4/281, 4/289, 4/304).(8/241)
ص -245- ... الرضع، ومثل ذلك قول الصحابة:
نحن الذين بايعوا محمدَا ... على الجهاد ما بقينا أبدَا
حكم النرد
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن النرد... إلخ؟
فأجاب: وأما النرد المنهي عنه، فهو لعبة ما أعرف صفتها، ولفظ الحديث الذي ذكرتم: "من لعب بالنردشير"، والنردشير هو: النرد، وأضيف في الحديث إلى: أشي،" يقال: إنه اسم ملك من ملوك فارس صنع له هذا اللعب، فنسب إليه.
[ الدف والغناء في العرس ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الدف والغناء في العرس؟
فأجاب: يستحب الدف والغناء في العرس للنساء، فإن حضرهن رجال أو سفهاء أدبوا.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله: ويباح كل لعب مباح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: وأما الدف فيحصل الإعلان بضربه في النهار قبل الدخول في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم فقد(8/242)
ص -246- ... ظلم نفسه.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل يجوز الغناء على رؤوس النخل، وبين السواني... إلخ؟
فأجاب: رفع الصوت بالغناء من الباطل، ولا يجوز؛ وأما الأدب عليه فلا يؤدب عليه إلا إن كان معه منكر، كاجتماع النساء والرجال والرقص ونحوهما، لترتب المفاسد، فأدبوا عليه بما يردع صاحبه.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: الغناء خلف السواني، وفي رؤوس النخل مباح، إذا لم يشتمل على لفظ محرم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: ما يجري في بعض البلدان من التوسع في الغناء والملاهي، وما يترتب على ذلك من المفاسد الدينية، لا يخفى أنه محرم ولا يجوز، خصوصاً إذا جر إلى ما هو أعظم ضرراً منه.
ولبعضهم ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه.
أما بعد، فالنصيحة واجبة لأهل الإسلام، لأنها الدين(8/243)
ص -247- ... في الحقيقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" 1، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 2؛ فهذه نصيحة لمن ولاه الله أمر الأمة، لما رأينا بعض الأمور المنكرة المحرمة في الشرع، فاشية في أهل الزمان، ولم يصر لها مُنكِر من أهل الإيمان، وجب علينا النصح للعباد والإرشاد إلى سبيل الرشاد.
فنقول، وبالله التوفيق، ونسأله الهداية إلى سواء الطريق: قد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم وتفاقم الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى إن طائفة من المسلمين، وفقنا الله وإياهم، استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم، في حب الأغاني واللهو، والسماع والنقير والطقطقة، واعتقدته من الدين الذي يقربهم من الله، وجاهرت به جماعة من المسلمين، وخالفت العلماء والفقهاء وأهل الدين؛ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115]، قال الإمام ابن القيم، رحمه الله، في كتابه: إغاثة اللهفان في مكائد الشيطان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (55), والنسائي: البيعة (4197, 4198), وأبو داود: الأدب (4944), وأحمد (4/102).
2 مسلم: الإيمان (55), والنسائي: البيعة (4197, 4198), وأبو داود: الأدب (4944), وأحمد (4/102).(8/244)
ص -248- ... فصل
ومن مكائد عدو الله ومصائده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء، والآلات المحرمة من ضرب الدف وغيره، التي تصد القلوب عن القرآن، وتجعلها عاكفة على الفسق والعصيان؛ فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنى، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى.
فلو رأيتهم عند ذياك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، لرأيت تكسر المخانيث والنسوان. فلغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق. حتى إذا عمل فيهم السكر عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وَخَزَ في صدورهم وخزاً، وأَزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أَزّاً، فَطَوْراً يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الديار.
فيا رحمتاه للسقوف والأرض من تلك الأقدام! ويا(8/245)
ص -249- ... سوأتاه من أشباه الحمير والأنعام! ويا شماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام! قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعح له قاطناً، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً; حتى إذا تلا عليهم قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه، فَجَرَت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت.
فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله; ولقد أحسن القائل:
تلا الكتاب فأطرقوا لا خيفةً ... لكنه إطراق ساهٍ لاهِ
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهِ
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهِ
وهذا السماع الشيطاني، له في الشرع بضعة عشر(8/246)
ص -250- ... اسماً: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنى، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود.
أسماؤه دلت على أوصافه ... تَبًّا لذي الأسماء والأوصافِ
فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء وضرب الدفوف، نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وخرج به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك؛ فاستحسن ما كان قبل السماع مُستقبِحه، وأبدى من شره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والهزهزة والفرقعة بالأصابع؛ فيميل برأسه ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وَثَبات الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران; وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعاق المجانين.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب ورنة؛ قال ابن عباس، رضي الله(8/247)
ص -251- ... عنه، على قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64]: قال:? "كل داع إلى معصية"، وقال مجاهد: صوته الغناء والباطل; وقال الحسن البصري: ?"هو الدف، فكل متكلم بغير طاعة الله، أو مصوت بِيَراع أو مزمار، أو دف أو طبل، فذلك صوت الشيطان، وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصية الله فهو من خيله".
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنه يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير، قيل: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: ويصومون ويصلون ويحجون. قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. ويبعث على حي من أحيائهم ريح، فتنسفهم كما تنسف من كان قبلكم، باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف" 1.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "يبيت قوم من هذه الأمة، على طعم وشرب ولهو ولعب، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير؛ وليصيبنهم قذف وخسف، حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة بدار فلان، وخسف الليلة ببني فلان، وليرسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/259).(8/248)
ص -252- ... قبائل فيها، ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً لشربهم الخمر، وأكلهم الربا وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم"، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني الطبول والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية" 1.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة، حل بها البلاء. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: إذا كان الفيء دُوَلا، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك رجماً وخسفاً ومسخاً" 2.
وسئلت عائشة، رضي الله عنها، عن الزلزلة، فقالت:? "إذا استباحوا الربا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف - وهي الدفوف وغيرها، مما يضرب به من آلات اللعب واللهو -، غار الله في سمائه، فيقول: تزلزلي بهم، فإن تابوا وفزعوا، وإلا هدمتها عليهم".
فاتق الله وأزل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالته، واعلم بأنك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/257).
2 الترمذي: الفتن (2210).(8/249)
ص -253- ... مسؤول عن ذلك، فاستعد وأعد للسؤال جواباً، وللبلاء والمحنة جلباباً، ولا تكن كمن قال الله في حقه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة البقرة آية: 206]. ولولا الشفقة عليك مع عدم من ينصحك، لم أبين لك هذا، ولكن تعين علينا ذلك؛ فإياك أن يكون حجة عليك، والسلام.
من نظر في كتاب غيره بغير إذنه
سئل الشيح محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن قوله: من نظر في كتاب غيره بغير إذنه... إلخ؟
فأجاب: أظن الذي أورده إنما عنى الرسالة، لأن هذا يكون من جنس استماع سر قوم وهم له كارهون، هذا بأذنه وذاك بعينه؛ ومما يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في زمنه كتاب مكتوب مستقل، بل ولا زمن الخلفاء، حتى المصحف لم يكتب إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر. وأما الحديث، فأول من أمر بكتابته عمر بن عبد العزيز، لما خشي اندراس العلم بموت العلماء واشتغال الناس بالدنيا.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما يقول بعض الناس: ضرني فلان، أو قتل دابتي فلان، يريد العائن، واعتقاد أنه يضر، ويتلفظون بذلك ويصرحون به؟
فأجاب: وأما قول الإنسان: ضرني فلان، أو قتل دابتي، يعني إنساناً حياً مباشراً للفعل، فلا بأس بذلك، وليس في هذا إشكال.(8/250)
ص -254- ... باب عشرة النساء
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: عن وطء المرأة المجدورة... إلخ؟
فأجاب: أما وطء المرأة المجدورة فلا بأس به، وأما الضرر، فإن كان على المرأة ضرر في ذلك، لم يكن للزوج أن يضر بها.
وسئل: عن وطء المرأة من دبرها في قبلها؟
فأجاب: وطء المرأة من دبرها في قبلها حلال، كما فسر به قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سورة البقرة آية: 223]، أي: مقبلة أو مدبرة، في صمام واحد.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الكلام حال الجماع... إلخ؟
فأجاب: أما الكلام حال الجماع، فيكره كثرة الكلام حال الوطء، قيل إنه يكون منه الخرس والفأفأة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل تزوج بثانية، فقالت له امرأته الأولى: إن تزوجت(8/251)
ص -255- ... فلانة فلا بد من رضوة تدفعها إلي، وإلا فلا تزوج... إلخ؟
فأجاب: الرجل الذي عنده زوجة أخرى، فالله سبحانه قد أباح له أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وليس لزوجته الأولى منعه من ذلك؛ ولكن يجب عليه العدل بين زوجاته بالعطية والقسم، إلا إذا رضيت المرأة بترك العدل، فلا بأس بذلك برضاها، وليس لها عليه رضوة إلا بطيب نفس منه.
وسئل: عن القسم للحائض أو المريضة أو النفساء... إلخ؟
فأجاب: عليه أن يبيت عندها، لأن القسم يراد للأنس والإيواء، إلا إن أذنت له؛ ولكن لا يجامع الحائض والنفساء حتى تطهر وتغتسل بعده.
وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: الرجل الذي معه امرأتان، فالتي يأتيها الحيض يقسم لها في وقت الحيض; والنفساء في عرفنا لا تطلب القسم أيام نفاسها.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الرجل المتزوج اثنتين، فإنه يجب عليه المساواة في القسم بينهما، ولا يجب عليه أن يساوي بينهما في الجماع.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن خروج(8/252)
ص -256- ... النساء بالزينة... إلخ؟
فأجاب: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم، مخافة الفتنه بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر بن معمر: عمن قال لزوجته: ما حصل من الكسب فهو لي، ومؤنتك علي، فقالت: ما حصل فهو لي، وأقوم في بيتك مع صنعتي؟
فأجابا: اختلف الفقهاء في مسألة الخدمة، وهل يلزمها أن تخدمه، من طبخ وعجن وخبز ونحوه، أم لا؟ فمذهب الحنابلة: أنه لا يلزمها، وهو الذي نصره في الشرح. ومذهب مالك والشيخ تقي الدين: أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه يلزمها عادة أمثالها لمثله. وكذلك اختلفوا هل يجب عليها أن ترضع ولدها منه؟ فذهب الحنابلة إلى أنه لا يلزمها، ومذهب مالك أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه إن كان مثلها ترضع ولدها، وجب عليها أن ترضعه.
وأما مسألة التكسب المسؤول عنها، فظاهر كلامهم أنه لا يلزمها، وليس له أن يجبرها عليه، ولكن ليس لها أن تكتسب إلا بإذنه، فإن أذن لها فظاهر كلامهم أنها تختص بالأجرة؛ ولهذا صرح الموفق في المقنع، في باب الإجارة: أنه يصح أن يستأجرها على رضاع ولده منها.(8/253)
ص -257- ... وصرح في كتاب النفقات: أنها أحق برضاع ولدها بأجرة مثلها، سواء كانت في عصمة الزوج أو مطلقة. وصرح أيضاً في النفقات: أنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمته فيما يختص به.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله: ما يجب للزوجة على زوجها من المؤونة، فكلام الشيخ في هذا من أحسن الكلام: أنه يجب عليه لمثلها من مثله، فإذا كان المعروف أنها تطبخ وتعجن لزوجها ولنفسها وجب عليها ذلك; فإن كان المعروف عند أهل بلدها أن مثلها لا تخدم نفسها، وجب على الزوج إخدامها، وأن يفعل بها ما يليق لمثلها من مثله; واستدل الشيخ، رحمه الله، وغيره على ذلك بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء آية: 19]، والمعروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، وهو المفتى به عندنا.
وأجاب أيضاً: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء آية: 3]، ولا بأس أن يولي إحداهما على الأخرى، إذا كانت أوثق وأصلح لحاله، إذا كان لم يرد في ذلك مضارة، ولا يلحق به ضرر من الزوجة الأخرى.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن المرأة(8/254)
ص -258- ... الناشز... إلخ؟
فأجاب: وما ذكرت من حال المرأة الناشز، فقد قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إلى قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [سورة النساء آية:34 -35]؛ فالذي عليه جمهور العلماء في معنى الآية: أن الحاكم يبعث حكماً ثقة من أهلها، وثقة من قوم الرجل، فإن حصل بينهما التوفيق، وإلا صارا إلى التفريق، إذا اتفقا عليه، ففرقا بطلقة أو طلقتين أو ثلاث، على حسب ما يريان؛ فهما حَكَمان من جهة الحاكم ووكيلان من جهة الزوجين، إذا تراضيا على توكيلهما فلهما التفريق. وعن الإمام أحمد: أنهما حكمان يفعلان ما يريانه، من جمع وتفريق وغيره، ولو لم يرضيا ولا وكلا، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يذكر العلماء فيما وقفت عليه بذل العوض.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن حال المرأة مع زوجها، فلا يظهر لي في شأنها سوى ما تضمنه حديث ثابت بن قيس وامرأته جميلة، ولا تأل جهدا في نصيحة زوجها، والمشورة عليه بعدم المضارة.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: لم أذكر لك بالفسخ، وإنما ذكرت أن حديث ثابت ظاهر، وأهل العلم(8/255)
ص -259- ... اختلفوا: هل الأمر فيه بالطلاق أمر إيجاب أو إرشاد؟ وأما إذا امتنع الزوج في مثل هذه الصورة، هل يؤمر بفسخ أو يؤذن فيه للمرأة؟ فلم أر من ذكره فيما أشرفت عليه من كلام الشراح والفقهاء، ولا أظن الفسخ الصادر صار صحيحاً، وأولى ما يصار إليه إذا كان الحال هكذا: بعث حكمين كما ذكر الله، وتفويض الأمر إليهما. ولا يخفاك الخلاف: هل هما وكيلان فلا ينفذ طلاقهما إلا بإذن الزوج، أو حكمان فلا يحتاج إلى الإذن؛ ورجح هذا الثاني جمع، لظاهر القرآن من تسميتهما حكمين، والحاكم من ينفذ حكمه على غيره.(8/256)
ص -260- ... باب الخلع
سئل الشيح حسين بن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها، هل يجبر على الخلع؟
فأجاب: إذا كرهت زوجها، فالذي نفتي به أنه مستحب، ولا يجبر الزوج على الخلع؛ وإذا طلبته الطلاق وتبرئه من النفقة، وطلقها ثم طلبت النفقة، فإن كانت مبغضة له البغضاء المعروفة، فليس لها طريق في النفقة، وإن كان حين ضيق عليها طلبته الطلاق ومسيء عشرتها، فنفقتها تلزمه إلى أن تعتد، وإن كانت حاملاً إلى أن تضع.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا طلق امرأته على عوض، ثم بعد ذلك ألحقها طلاق البت؟
فأجاب: الذي عليه أكثر الحنابلة، أن الخلع طلاق بائن إلا أن يقع بلفظ الخلع، أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوي به طلاقاً، فيكون فسخاً لا ينقص به عدد الطلاق، وهو من مفردات المذهب. والرواية الثانية عن أحمد: أنه طلاق بائن بكل حال. والرواية الثالثة: أنه فسخ ولو نوى به الطلاق، اختاره الشيخ تقي الدين.
ومن شرط وقوع الخلع فسخاً، أن لا يوقعه بصريح(8/257)
ص -261- ... الطلاق، فإن أوقعه بصريح الطلاق كان طلاقاً على الصحيح من المذهب; وقيل: هو فسخ ولو أتى بصريح الطلاق أيضاً إذا كان بعوض، واختاره الشيخ تقي الدين أيضاً، وقال: عليه دل كلام الإمام أحمد وقدماء الأصحاب، وابن عباس، صح عنه أنه قال: ما أجازه المال فليس بطلاق، قاله في الإنصاف. فعلى القول الأول، لا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به، قال في الإنصاف: لا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق، هذا المذهب وعليه الأصحاب. انتهى.
وعلى الرواية التي اختارها الشيخ تقي الدين: لا يلحقها الطلاق أيضاً، سواء كان بلفظ الطلاق أو لم يكن، لكن المراد بهذا الخلع الصحيح، وهو إذا كانت المرأة مبغضة للرجل، وتخشى أن لا تقيم حدود الله في حقه، كما قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} الآية [سورة البقرة آية: 229].
وأكثر الخلع في وقتنا لا يوجد منه هذه الشروط، بل الغالب أنه لسوء عشرة الرجل; فلهذا كان شيخنا، رحمه الله، يفتي بأنه طلاق بائن، ينقص به عدد الطلاق، ولا يجوز له الرجعة إلا بعقد جديد ومهر، لكون الخلع في هذه الأزمنة، على غير الخلع الصحيح المذكور في القرآن.(8/258)
ص -262- ... وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن طلبت من زوجها طلاقها... إلخ؟
فأجاب: إذا طلبت المرأة طلاقها، فطلقها ثلاثاً، صح طلاقه وطلقت; وأما كلام ابن عباس في الخلع، وقوله: "ليس الخلع بطلاق"، فالظاهر أن مراده: الخلع الصحيح، وهو المستكمل للشروط المذكورة في القرآن، بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [سورة البقرة آية: 229]، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو مروي عن طاووس وعكرمة وإسحاق وأبي ثور، وهو أحد قولي الشافعي.
وأما في مثل كثير من خلع الناس اليوم، فليس الخلع صحيحاً، والذي نفتي به لمثلهم أن الخلع طلاق بائن؛ وهذا هو المشهور في مذهب أحمد، سواء نوى به الطلاق أم لا، روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ومالك وأصحاب الرأي.
وأجاب أيضاً: الذي خلع زوجته، وقال: أنت طالق عدد الخوص، فإن كان الخلع صحيحاً فليس بطلاق وإن قال ذلك، وإن كان الخلع كخلع أكثر الناس اليوم، فهو طلاق بائن.(8/259)
ص -263- ... وأجاب أيضاً: الخلع الصحيح الموجود فيه الشروط التي ذكرها الله، ليس من عدد الطلاق، ولا يلحقها بعد الخلع طلاق؛ ولكن أكثر خلع الناس اليوم فاسد، والذي نفتي به: أنه يعد من الطلاق.
وأجاب بعضهم: وأما الحلف بطلاق المختلعة، فينبني على صحة الخلع وعدمه: فإن كان غير صحيح، كما إذا ضارها الزوج لتفتدي منه، فالخلع غير صحيح; فإن كان بلفظ الطلاق أو نيته، مع اللفظ الصريح للخلع لحقها الطلاق، فإن كان بلفظ الخلع من غير نية الطلاق، فالزوجة بحالها، ولا يقع الطلاق على المختار عند الأصحاب؛ وهذا مذهب أحمد، وقول ابن عباس وابن الزبير وجمع من التابعين، وبه يقول مالك والشافعي. وحكي عن أبي حنيفة أنه يلحقها الطلاق الصريح دون الكناية، يروى عن سعيد بن المسيب وجماعة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة"، ولم يمكن آخر هذا اليوم البحث عن هذا الحديث وسنده، وإن صح فهو الحجة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً على عوض، هل يجوز أن يتراجعا بملاك جديد؟ فهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: فإن كانت المرأة أعطت زوجها عوضاً على طلاقها، بأن كرهته وخافت أن لا(8/260)
ص -264- ... تقيم ما أوجبه الله عليها من القيام بحقوق الزوج، من المعاشرة بالمعروف، وتمكينه من الاستمتاع منها، وخدمته كما ينبغي من مثلها لمثله، فلا بأس بذلك، ولا على الزوج حرج في أخذ العوض منها، إذا كانت الحال كما وصفنا؛ ويسمى هذا: الخلع الصحيح، كما قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 229].
وقد اختلف العلماء: هل يكون هذا الخلع طلاقاً يعد من الطلقات الثلاث، أم لا يكون طلاقاً ولو خالعها أكثر من ثلاث؟ فمذهب ابن عباس، رضي الله عنهما، كما روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس، عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: "نعم; ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 229]، وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية:230]"؛ وبهذا قال أحمد بن حنبل وجمهور أصحابه، وإسحاق وأبو ثور(8/261)
ص -265- ... وداود، واختار هذا القول طوائف من العلماء، منهم الشيخ تقي الدين، وهو اختيار شيخنا، رحمه الله.
وقال أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم: هو طلاق يعد من الطلقات الثلاث، وهو طلاق بائن لا رجعة فيه للزوج إلا برضاء الزوجة؛ فعلى هذا القول: لو خالعها ثلاث مرات، أو طلقها طلقتين وخالعها مرة، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، سواء تلفظ بلفظ الطلاق أو غيره.
واختلف العلماء: هل يلحق المختلعة طلاق، ما دامت في العدة؟ فقال مالك: إن طلقها بعد الخلع من غير سكوت طلقت، وإن كان بينهما سكوت لم تطلق; وقال الشافعي: لا يلحقها طلاق وإن كانت في العدة، وهو قول ابن عباس وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور؛ وهذا هو المفتى به عندنا، وهو أظهر الأقوال، وعكس قول أبي حنيفة وكثير من التابعين.
واختلف أيضاً: في قدر عدتها، فقال أكثر العلماء: عدة المطلقة. وقال عثمان وابن عباس، رضي الله عنهم: عدتها حيضة واحدة، وبه قال عكرمة وإسحاق بن راهويه، وحجتهم: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه جعل عدة جميلة بنت أبي بن سلول حيضة، حين اختلعت من زوجها ثابت بن قيس بن شماس"، وأصل القصة في الصحيحين. فالذين قالوا: إن الخلع الصحيح، المجتمع فيه الشروط التي(8/262)
ص -266- ... ذكرها الله، ليس من الطلاق، يقولون: إنه إذا خالعها ولم يذكر الطلاق لفظاً ولا نواه بقلبه، فإنه لا يقع به شيء من الطلاق.
قال العسقلاني: واستدل لمن قال: إنه فسخ، بما وقع في بعض طرق حديث امرأة ثابت بن قيس، عند أبي داود والترمذي، والنسائي وابن ماجة، وحديث الربيع بنت معوذ: "أن عثمان رضي الله عنه أمرها أن تعتد بحيضة"; قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس؛ قال الخطابي: في هذا أقوى دليل لمن قال إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقاً لم تعتد بحيضة. انتهى.
وأما إذا تلفظ بالطلاق عند الخلع، أو نواه بقلبه، فالذي عليه الجمهور من التابعين، وفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام، أنه يقع طلاقاً بائناً، لا تجوز الرجعة إلا بعد عقد جديد، ورضاء الزوجة، إلا أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، فلا يجوز له مراجعتها إلا بعد زوج، كالمطلقة ثلاثاً بغير عوض.
وقيل: إنه فسخ، سواء تلفظ بالطلاق أو نواه، أو لم يكن؛ وهو قول ابن عباس، فإنه صح عنه أنه قال: "ما أجازه المال فليس بطلاق"، وصح عنه أنه قال: "الخلع يفرق وليس بطلاق"، وصح عن ابن الزبير; وروي ذلك عن غير(8/263)
ص -267- ... واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين، رحمهم الله؛ واختاره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، وعليه دل كلام أحمد رحمه الله، وقدماء أصحابه. قال صاحب الفروع: ومراده ما قال عبد الله: رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس.
وأما إذا كان حال الزوجين مستقيمة، ولم يوجد ما ذكر الله من الخوف أن لا يقيما حدود الله، ثم خالعها زوجها على ما بذلته له الزوجة أو غيرها، فالذي عليه جمهور الفقهاء أنه يكره، ويصح الخلع; وعن أحمد: أن ذلك لا يجوز ولا يصح.
وأما إن عضلها وأساء عشرتها لتفتدي منه، ففعلت، فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إلا أن يذكر الطلاق فيقع رجعياً، وقيل يقع طلاقاً بائنا، إن قيل: إن الخلع يصح بلا عوض. قال العسقلاني في شرح البخاري: أخرج عبد الرزاق بسند صحيح، عن سعيد بن المسيب قال: ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئاً; وقال: لم أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر، لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [سورة البقرة آية: 229]، ولحديث حبيبة بنت سهل؛ فإذا كان الخلع من قِبَلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قِبَله لم يحل، ويرد عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة. انتهى.
قلت: وهذا القول كان يفتي به شيخنا، رحمه الله،(8/264)
ص -268- ... لكثرة الظلم للنساء في هذا الزمان، لأن كثيراً من الذين لا يخافون الله، إذا أراد أن يطلق امرأته بعد أن تستقيم حالها مدة، عضلها وأضر بها، ومنهم من يضربها، فإذا فعل ذلك اشترت نفسها بمال تبذله له على طلاقها فيطلقها، فكان شيخنا - رحمه الله - يفتي: إذا كان الأمر ما وصفنا، أن العوض الذي بذلت له المرأة على الطلاق مردود، وتبين منه المرأة، فلا يمكن من مراجعتها إلا برضاها.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا طلق على عوض، هل رجعتها بيده؟
فأجاب: الطلاق بائن إذا كان على عوض، لا رجعة فيه، بل لا بد من عقد جديد إن لم يكمل ثلاث طلقات للحر واثنتان للعبد.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن بذلت له عوضاً على أن يطلقها فقبل، ثم قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاثاً; هل تبين منه بالأولى ولا تلحقها البواقي؟
فأجاب: الذي ذكر الفقهاء، رحمهم الله، أنها تبين بالأولى ولا يلحقها ما بعدها، لأنها بانت بالجملة الأولى، فإذا لحقها جملة ثانية وثالثة لم يصادف ذلك محلاً; وأما عند من يقول: إن المختلعة يلحقها الطلاق، كما ذهب إليه كثير من التابعين، فالطلاق عندهم لاحق.(8/265)
ص -269- ... وسئل أيضاً: عمن خلع زوجته، بأن بذلت له العوض وقبله، ولم يتلفظ بخلع ولا طلاق ولا فسخ، هل تبين بمجرد أخذ العوض؟
فأجاب: الذي عليه الجمهور: أنه لا بد من اللفظ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة" 1.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما إذا طلق ثلاثاً في الخلع، فالأكثر على أنه طلاق إذا كان بلفظ الطلاق; والشيخ تقي الدين يقول: الخلع فسخ ولو كان بلفظ الطلاق. فعلى هذا: إن قيل بقول الجمهور حرمت عليه في الصورتين، وإن قيل بقول الشيخ تقي الدين، فله الرجوع في الصورتين بعقد جديد.
وأجاب أيضاً: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً، فإنها تقع الثلاث ولو كان على عوض.
وأجاب أيضاً: إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع على عوض بذلته وقبله الزوج، وقال: الله يرزقك، ونحو ذلك من ألفاظ العامة، فهذه مسألة مشكلة جداً، لأن فقهاء أصحابنا وغيرهم ذكروا كنايات الخلع، ولم يذكروا فيها شيئاً نحو هذه الألفاظ، وقالوا: إن ما لا يدل على الطلاق، من نحو: كلي واشربي، وبارك الله عليك، ونحو ذلك، لا يقع به طلاق ولو نواه، لأنه لا يحتمل الطلاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطلاق (5273), والنسائي: الطلاق (3463).(8/266)
ص -270- ... فلو وقع به الطلاق وقع لمجرد النية.
وكذا كنايات الخلع، فمقتضى قولهم هذا أن قائل: الله يرزقك ونحوه، ناوياً به طلاقاً أو خلعاً، لا يقع به شيء من ذلك، لأن هذا اللفظ ونحوه ليس من الكنايات المذكورة، فلو أوقعنا به طلاقاً أو خلعاً، لكنا قد أوقعناه بالنية؛ ولكنهم قد ذكروا من كنايات الطلاق: أغناك الله، بلفظ الماضي، ولم يذكروه بلفظ المضارع، كالله يغنيك، مثله: الله يرزقك ونحوه، ولم يذكروا في ألفاظ الكنايات لفظ المضارع، والله أعلم.
ولو ذهب ذاهب بوقوع الخلع، بقول العامي: الله يغنيك ونحوه، ولم يذكر طلاقاً أو فسخاً، مع بذل العوض وقبوله، لم يبعد، لقول الشيخ تقي الدين المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه، ألفاظهم كلها صريحة في أن الخلع بلفظ البيع فسخ، وبأي لفظ كان.
وقال أيضاً، بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي. والمضارع، واسم الفاعل واسم المفعول، وأنها لا تنعقد بالمضارع، قال: وما كان من هذه الألفاظ محتملاً، فإنه يكون كناية حيث تصح الكناية، كالطلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال; قال: وهذا الباب عظيم المنفعة، خصوصاً في الخلع وبابه. انتهى.
وأفتى بعض متأخري الأصحاب النجديين، بأن(8/267)
ص -271- ... الزوجة إذا طلبت الفرقة على عوض بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك، صح; قال: لأن ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك، ومثله بلغة المتكلمين به. انتهى.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الخلع يصح بمجرد بذل المال وقبوله من غير لفظ من الزوج، وإلى ذلك ذهب أبو حفص، وابن شهاب العكبريان من أصحابنا، واحتجا بما رواه ابن منصور عن أحمد، قال: قلت لأحمد، كيف الخلع؟ قال إذا أخذ المال فهي فرقة. وقال إبراهيم النخعي: أخذ المال تطليقة بائنة; وروي عن الحسن نحوه; وروي عن علي رضي الله عنه: "من قبل مالاً على فراق، فهي مطلقة بائنة". وبكل حال، ففي المسألة إشكال، وعدم إيقاع الطلاق أو الفسخ بنحو هذا اللفظ أسلم.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الخلع يقع بائناً لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها، كما نص عليه أهل العلم.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن طلق زوجته طلقة على عوض منها، ثم بعد ذلك طلقها ثلاثاً؟
فأجاب: إذا صدقته الزوجة على قوله أنه طلقها الأولى على عوض منها، فلا يلحقها الطلاق الذي بعد ذلك، وتجوز له بعقد جديد.(8/268)
ص -272- ... وسئل: هل للزوج أخذ أكثر من المهر؟ وهل الهدية منه؟
فأجاب: أما هدية الزوج فليست من المهر، والزوجة إذا نشزت لم يلزم الزوج أخذ شيء، لكن إن طلبت العوض ولا رضي بالمهر بل طلب غيره، فإن أحبوا أعطوه ما طلب، قليلاً كان أو كثيراً، ولا يجبر أحدهما على دفع شيء أو أخذ شيء مقدر.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا خالعته، وشرطت أن لا تعطيه إلا إذا تزوجت؟
فأجاب: إذا خالعت المرأة زوجها على شيء مسمى، وشرطت عليه أنها لا تعطيه إلا إذا تزوجت، وطلقها على ذلك، فإنها تعطيه إياه إذا تزوجت.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا خالعت على نفقة الحمل، ثم تبين عدمه؟
فأجاب: وأما الخلع على نفقة الحامل ورضاع الولد، ثم تبين عدمه، فالموافق للقاعدة المشهورة من المذهب: صحة الخلع، ويرجع عليها بقدر النفقة المشترطة، وهي نفقة الحامل، وقدر أجرة المرتضع حولين، إذا كان الخلع على نفقتها ورضاع ولدها.
وأجاب أيضاً: إن كانت الزوجة قالت: إني حامل،(8/269)
ص -273- ... وطلبت من الزوج أن يطلقها على البراءة من الحمل وتوابعه، وصار ليس فيها حمل، فالذي يبين لي من كلام العلماء: أن الزوج يرجع عليها بقيمة ما غرته به; فإن كانت المرأة ما ادعت الحمل، لكن الزوج خاف أنها حامل، وطلب البراءة، فلا أرى له عليها شيئاً; وأما الطلاق فيقع بكل حال، وليس له منعها من نكاح غيره، إذا كانت قد انقضت عدتها، وهو يطالبها بالغرامة في صورة الغرر منها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: إذا قال لزوجته: إذا أعطيتيني كذا وكذا فأنت طالق، وإذا نزلت إلى أهلك فأنت طالق، ونيته وقتاً معلوماً كيومين.
فأجاب: لا تطلق إلا إذا مضى الوقت الذي نواه، والظاهر أنه يحلف أن هذا مراده; وأما إذا علق الطلاق على شرط، فأراد الرجوع عن ذلك التعليق قبل وجود الشرط، فالذي صححه في الإنصاف وغيره، أنه ليس له الرجوع عن ذلك.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال لزوجته: أنت طالق بالثلاث، إن لم تعطيني كذا؟
فأجاب: إن كان نيته الفورية، أو مع قرينة تقتضي الفورية، وقع الطلاق بفوات الفورية، وإن لم ينو فورية ولا قرينة تدل على الفورية، فهو للتراخي؛ لكن لو تلف الشيء المعلق عليه الطلاق، والحالة هذه، وقع الطلاق.(8/270)
ص -274- ... سئل الشيخ حسين بن الشيخ: إذا قال: إن أبريتيني من صداقك طلقتك، فأبرأته فطلقها ثلاثاً؟
فأجاب: في هذه المسألة نظر، فإن كان الباعث على الإبراء أنها مبغضة للزوج، وهو قائم بحقها، فالإبراء صحيح، وإن كان غير ذلك، وأن الخلاف جاء من جهة الزوج، إما لعدم نفقة، أو لسوء عشرة، فالطلاق يتم، والصداق ما يبرأ منه لها.
وسئل ابنه: الشيخ حسن: إذا وقع الطلاق في الخلع بلفظ الثلاث؟
فأجاب: قال في الإنصاف بعد كلام سبق: وأنت طالق ثلاثاً بألف، فقالت: قبلت واحدة بألف، أو بألفين، وقع الثلاث واستحق الألف; وقال في المنتهى وشرحه: ومن قالت له زوجته: طلقني واحدة بألف، فطلقها بأكثر، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، استحقه – أي: الألف - لأنه أوقع ما استدعته وزيادة. انتهى. وقال في تصحيح الفروع، عند قول المصنف: إن قالت: طلقني واحدة بألف، ونحوه، فقال: أنت طالق، وطالق، وطالق، بانت بالأولى، وقيل بالكل. انتهى.
والصحيح أنها تطلق ثلاثاً، ولا فرق بين قوله: أنت طالق، وطالق وطالق، وبين قوله: ثلاثاً، نبه على ذلك في(8/271)
ص -275- ... القواعد الأصولية. انتهى. وقد صرحوا أيضاً بوقوعه ثلاثاً، فيما إذا قالت زوجة المريض له: طلقني ثلاثاً بعوض، فطلقها ثلاثاً، أنها تعود إليه بالطلاق الثلاث.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن خالعت زوجها على شيء من مالها، وشرطت عليه أن يقف ذلك الشيء على ولدها منه، دون سائر أولاده؟
فأجاب: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: شرط وقف ذلك الشيء المخالع عليه؛ فهذا الشرط فاسد، لأن الفقهاء قد ذكروا من الشروط الفاسدة في البيع، أن يشترط البائع على المشتري: أن يقف المبيع، ونحوه من الشروط؛ والخلع مثله، لأن كليهما معاوضة بمال. والثاني: شرطها تخصيص ولدها به، فهذا لا يجوز إلا بإجازة سائر الورثة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" 1.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عما إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها على عوض سألها إياه، فأنكر ذلك، وأقامت شاهداً، والعوض تحت يد الزوج من نحو سنة منذ فارقها، هل قبض الزوج للعوض مع الشاهد يوجب صحة دعواها عليه، أم لا؟
فأجاب: القول في هذه المسألة قول الزوج مع يمينه، فإن نكل قضي عليه؛ قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في كتابه: الطرق الحكمية: الطريق التاسع: الحكم بالنكول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587), ومسلم: الهبات (1623), وأحمد (4/270).(8/272)
ص -276- ... مع الشاهد الواحد، لا بالنكول المجرد، ذكر ابن وضاح عن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ادعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل، استحلف زوجها، فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنْزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه" 1. اهـ. وتمام المسألة مبسوط في الطرق. وقبض الزوج العوض، وكونه عنده سنة، لا أثر له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الطلاق (2038).(8/273)
ص -277- ... كتاب الطلاق
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عن طلاق الصبي الذي لم يبلغ؟
فأجاب: قد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وطائفة من العلماء: إلى أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، والشافعي وطائفة من العلماء: إلى أنه إذا عقل الطلاق، وعلم أن زوجته تبين منه بذلك، خصوصاً إذا تجاوز العشر، فإنه يقع الطلاق.
وسئل: عمن طلق زوجته واختل عقله؟
فأجاب: إن كان حال الطلاق ثابت العقل، وطلق مختاراً، فالطلاق واقع؛ فإن كانت آخر ثلاث تطليقات، لم تحل له إلا بعد زوج وإصابة، ولو اختل عقله بعد ذلك، ولو آل به الأمر إلى الجنون. وإن كان الطلاق الذي وقع بكلمة واحدة، جمع فيها الطلاق ثلاثاً، فكذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الذي يفتى به عندنا. وعند الشيخ تقي الدين، وابن القيم: أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة، تحسب طلقة واحدة، وحينئذ فله رجعتها، والعمل على كلام الجمهور.(8/274)
ص -278- ... سئل الشيخ محمد، رحمه الله: عمن طلق من غير إكراه؟
فأجاب: إذا طلقها من غير إكراه، لزمه الطلاق.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: إذا هدده ظالم قادر على قتله، أو أخذ ماله، أو آلمه بالضرب ونحوه، فهل يتخلص منه بحلف بالطلاق أو غيره؟
فأجاب: إن أمكن التأول في حلفه تأول، وإن لم يمكن فلا حنث عليه، سواء حلف بالطلاق أو غيره.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قولهم: يقع في النكاح الفاسد، ولا يقع في الباطل إجماعاً؟
فأجاب: الفاسد هنا، هو ما اختلف في صحته، لأن كلاً من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه; فإذا قال الإمام أحمد، رحمه الله: إن النكاح لا يصح، لحديث كذا، وقاله أصحابه لقوة دليله عندهم، ورأينا غيره يقول بالصحة، ويقدح في إسناد حديثه مثلاً، فإنا لا نحكم والحالة هذه بأن النكاح لم ينعقد، فنقول: هو فاسد، لا يخرج من ذلك إلا بالطلاق، خروجاً من خلاف العلماء. وأما الباطل: فهو ما أجمع على بطلانه، لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله، فلا يحتاج إلى طلاق، لكونه لم ينعقد بيقين.(8/275)
ص -279- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الطلاق في النكاح الفاسد، فقال في الإنصاف: يقع الطلاق في النكاح المختلف فيه، كالنكاح بلا ولي عند أصحابنا؛ ونص عليه أحمد، رحمه الله، وهو المذهب. ثم ذكر وجهاً بعدم الوقوع، ثم قال: حيث قلنا بالوقوع فيه، فإنه يكون طلاقاً بائناً، قاله في الرعاية والفروع والنظم وغيرهم، قال: فَيُعابا بها. انتهى. فعلى هذا، يحسب من الطلقات الثلاث.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن طلاق الغضبان؟
فأجاب: وأما طلاق الغضبان فهو يقع إذا لم يغب عقله.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا أقر بطلاق امرأته، وادعى أنه لا يشعر من شدة الغضب، فهذه الدعوى لا تقبل منه إلا ببينة تشهد أنه حال الطلاق لا شعور له، قد بلغ حد الإغماء والسكر؛ فإن شهدت بذلك لم يقع، وإن كان مجرد غضب وقع، أو لم يحضر بينة وقع أيضاً.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن وكل وكيلاً في طلاق زوجته، هل للوكيل أن يزيد على طلقة، إذا كان الموكل لم يأمره بكثير ولا قليل؟ وهل إذا طلق ثلاثاً تقع أم لا؟ وهل يعتبر إنكار الموكل؟(8/276)
ص -280- ... فأجاب: هذه المسألة، الراجح فيها أن الوكيل لا يزيد على واحدة، لأن الزيادة خلاف السنة؛ فإن زاد لم يقع إلا واحدة، إلا أن يأمره الموكل بذلك، فإن لم يأمره بذلك ولم يثبت ببينة ولا بإقرار الموكل، لم يثبت إلا طلاق السنة، وهي الطلقة الواحدة.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تطليق المرأة نفسها؟
فأجاب: والمرأة إذا طلقت نفسها لم تطلق. انتهى.
قال أبناء الشيخ محمد: حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، رحمهم الله: ومنها - أي من البدع -: ما يفعله بعض الناس من مخالفة أمر الله، وارتكاب ما نهى عنه في كتابه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1].
أمر الله من أراد أن يطلق: أن يطلق طلاق السنة، وذلك: بأن تكون المرأة طاهرة طهراً لم يجامعها فيه، ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها الذي كانت فيه قبل الطلاق، وأوجب عليها أن تعتد في بيتها، ونهاها أن(8/277)
ص -281- ... تخرج؛ فلا يجوز لزوجها أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[سورة الطلاق آية: 1]؛ وكثير من الناس يتهاون بهذا مع هذا التغليظ الشديد فيه، وصار هذا عادة عند الأكثرين، إذا أراد الزوج الطلاق، خرجت المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها. فالواجب عليكم تقوى الله بامتثال ما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16].
وأجابوا أيضاً، والشيخ حمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى: وأما الطلاق، فله عدد؛ وقد ذكر العلماء، رضي الله عنهم: أن الناس كانوا يطلقون متى شاؤوا، ويراجعون متى شاؤوا، حتى أضر ذلك بالنساء، فقصرهم الله على ثلاث تطليقات، كما قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية:229-230]، فنسخ الله بهذه الآية الكريمة ما كانوا يفعلونه في أول الإسلام، فإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً واحدة بعد واحدة، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره.(8/278)
ص -282- ... والسنة لمن أراد الطلاق: أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه، طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن بدا له أن يراجعها في العدة جاز له ذلك بغير رضاها ورضى وليها، فإن أراد بعد ذلك أن يطلقها جاز له ذلك، إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه. ثم إن شاء أن يراجعها بعد الطلقة الثانية، جاز له ذلك بغير رضاها ما دامت في العدة. ثم إذا طلقها بعد ذلك حرمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً بلا تحليل.
وأما جمع الثلاث بكلمة واحدة، فهذا عند جمهور العلماء طلاق بدعة، ويقع الطلاق، وتبين منه المرأة بذلك، ولا يجوز له ارتجاعها، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ هذا الذي عليه الجمهور من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم، وهو الذي عليه الفتوى عندنا. وهذه المسألة ليست من مسائل الإجماع، فقد خالف في ذلك بعض العلماء، وقال: إن جمع الثلاث بكلمة واحدة تكون طلقة واحدة، واستدل بحديث طاووس عن ابن عباس، الذي رواه مسلم في صحيحه، وقد أجاب العلماء عنه بأجوبة كثيرة، ليس هذا موضع بسطها.
مسألة الطلاق في الحيض
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن محمد: عمن طلق امرأته وهي حائض ثلاثاً؟
فأجاب: أما مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور(8/279)
ص -283- ... والمفتى به عند علماء الأمصار، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، أن الطلاق في الحيض طلاق بدعة، ومعصية لله ولرسوله؛ ولكنه لازم ويحسب من الطلقات الثلاث؛ وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائل ذلك كثيرة مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما.
ومن أشهر ذلك: "أن ابن عمر، رضي الله عنهما، طلق امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بمراجعتها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك"، وفي البخاري عن ابن عمر أنها حسبت عليه طلقة.
وأجاب أيضاً: وأما الطلاق في الحيض، فهو يقع.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: وأما مسألة الطلاق في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها، ويرون أنه طلاق بدعة محرم، فاعله مستهزئ بآيات الله.
طلاق الثلاث
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجل تزوج امرأة وطلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها؟
فأجاب: تبين منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ ولا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء. ثم قال: واعلم أن مرادي(8/280)
ص -284- ... بذلك: إذا أوقع كل واحدة بعد الأخرى. ثم الأخ حمد بن ناصر بن معمر ذكر لي، أن فيها نزاعاً مشهوراً بين السلف، فراجعت المسألة، ورأيت فيها خلافاً بين الصحابة فمن بعدهم، وأما الأئمة الأربعة، فالمشهور عنهم هو ما ذكرته لك، وهو المفتى به والمعمول به عندنا.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن طلاق الثلاث... إلخ؟
فأجاب: المسألة التي ذكرتها مروية عن الصحابة في مسلم، ويكفي في ذلك ما ورد فيها عن المحدَّث الملهَم، الذي أُمِرْنا باتباع سنته، ثاني الخلفاء، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا ما يرد القول الآخر. وأما الحديث: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟" 1، فهذا يدل على أن جمع الثلاث لا يجوز; وأما كونه ألزم بها فلم يذكر في الحديث؛ والذي يقول: إنها واحدة، لا يقول: إن التلفظ بها يجوز، بل يقول: هو منكر من القول وزور، كما في الحديث.
وأما رد الإمام أحمد ذلك بمخالفة راويه له، فهذا مبني على مسألة أصولية، وهي: أن الصحابي إذا أفتى بخلاف ما روى، هل يقدح في روايته؟ والصحيح أنه لا يقدح فيها، فإن الحجة في روايته لا في رأيه; وبالجملة: فالمسألة مسألة طويلة، لعل المذاكرة تقع فيها مشافهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطلاق (3401).(8/281)
ص -285- ... وقال ابنه: الشيخ عبد الله: وأما قولكم إنه يحكى لنا أنكم أحللتم المرأة بعد طلاق الثلاث، فنقول: هذا كذب وزور وبهتان علينا، بل نقول إن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثاً، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
وقال أيضاً: وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه، إماما حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها: طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعاً للأئمة الأربعة.
وأجاب أيضاً: وأما الثلاث المجموعة، ففيها خلاف مشهور بين العلماء في جوازها، وفي كونها تقع ثلاثاً؛ والذي عليه الأكثر: أن التلفظ بها بكلمة واحدة بدعة ومعصية، لأن الله تعالى إنما أباح الطلاق للعدة، وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 229]، والمرتان لا تكون إلا مرة بعد مرة، كما قال في سورة البقرة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229]، ولا تكون إلا مرة بعد أخرى، ولما أخرجه النسائي وغيره، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب، وقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟" 1 الحديث، وأنها تقع ثلاثاً كما أمضاه عمر رضي الله عنه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطلاق (3401).(8/282)
ص -286- ... خلافته، وتبعه على ذلك جمهور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من الأئمة الأربعة وغيرهم؛ والأدلة على ذلك مذكورة في كتب الفقه، وشروح الحديث. وأجابوا عن حجج القائلين بعدم الوقوع، وأنها لا تقع إلا واحدة بأجوبة كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها.
وأجاب أيضاً: وأما الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث طلقات، كما ألزم عمر رضي الله عنه، وتابعه الصحابة على ذلك.
وأجاب أيضاً: والرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد، لم يجز له مراجعتها إلا بعد زوج؛ وإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذا إن نوى بالتكرار التأكيد، أو إفهامها، لم يقع به إلا واحدة، فإن نوى به طلاق ثلاث، وقعت ثلاثاً عند الجمهور. وأما إذا طلق البتة، وقال: لم أرد به التأكيد والإفهام، ولا إيقاع الثلاث، بل عزبت النية، فهذا محل الخلاف: فبعض أهل العلم يقول: يقع به ثلاث طلقات إن لم ينو التأكيد والإفهام، وبعضهم يقول: يقع واحدة، إلا لمن ينوي طلاق الثلاث فتقع.
وطلاق الشرك يحسب عليه في الإسلام، فإن طلقها في الشرك ثلاثاً أو أكثر، وجاء الإسلام وهي معه، أمر بفراقها حتى تنكح زوجاً غيره.(8/283)
ص -287- ... وأجاب أيضاً: وأما الذي طلق زوجته طلقتين في الجاهلية، يحسب عليه، فإذا تم الثلاث بالذي طلق في الجاهلية لم تحل له.
وأجاب أيضاً: وطلاق الشرك مثل طلاق الإسلام، فإن طلق زوجته ثلاثاً، لم تجز له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره.
وسئل أيضاً: عن رجل طلق امرأته حال الشرك ثلاث مرات، كل تطليقة باسترجاع وعقد، وبعدما أسلم الزوج - وهي معه ولها منه أولاد على الشرك، وأولاد على الإسلام - هل تحل له؟
فأجاب: الذي طلق امرأته في الشرك أكثر من الثلاث متفرقة، الأحوط له أن يفارقها، ولكن ما تبين لنا أنه لازم عليه.
وسئل: عن رجل طلق امرأته حال الشرك، وقال: أنت طالق بالثلاث، واسترجع؟
فأجاب: الذي قال لامرأته في الشرك: أنت طالق ثلاثاً، بكلمة واحدة، تحسب عليه مرة واحدة، لأنه جاهل أن هذا لا يجوز في الشرع.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: إذا طلق امرأته ثلاثاً، بلفظة واحدة، ففيها خلاف بين العلماء من(8/284)
ص -288- ... السلف والخلف قديماً وحديثاً؛ وفيها قولان مشهوران للعلماء:
القول الأول: قول أكثر العلماء من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم، من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية، من المتأخرين والمتقدمين: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة، بانت منه، وصارت لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
واستدلوا على ذلك بدلائل، منها قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6]، قالوا: وهذا لا يكون إلا في المبتوتة، لأن غير المبتوتة ممن له عليها الرجعة، ينفق عليها حاملاً أو غير حام؛. فعلم أن قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] راجع إلى بعض ما انتظمه الكلام، وهي التي لم يبلغ طلاقها ثلاثاً، كما أن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة آية: 228] قد عم المطلقات ذوات القروء.
وقوله في نسق الآية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق آية: 2] راجع إلى من لم يبلغ الثلاث بطلاقها، وفي ذلك إباحة إيقاع ما شاء المطلق من الطلاق،(8/285)
ص -289- ... وظاهر حديث ابن عمر يشهد بهذا، لأنه قال: "ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك" 1، فلم يخص طلاقاً من طلاق، ولا عدة من عدة في الطلاق؛ قالوا: فله أن يطلق كم شاء إذا كان مدخولاً بها، وإن كانت غير مدخول بها طلقها كم شاء، ومتى شاء، طاهراً أو حائضاً، لأنه لا عدة عليها.
ومما احتجوا به أيضاً: "أن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان ثلاثاً، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ثلاثاً، فلم ينكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ركانة طلق امرأته البتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت بها؟" فدل على أنه لو أراد ثلاثاً لكانت ثلاثاً، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثاً، ذكره الشعبي عن فاطمة وشعبة، وسفيان عن أبي بكر، وكذلك قال أكثر أصحاب ابن شهاب في حديث فاطمة: طلقها ثلاثاً.
قالوا: ومن جهة النظر: إن من كان له أن يوقع واحدة، كان له أن يوقع ثلاثاً، وليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، قد أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فعند هؤلاء: أن من طلق امرأته ثلاثاً مجتمعات في طهر لم يصبها فيه، فقد طلقها طلاقاً مباحاً، ومنهم من يقول: إنه قد طلقها السنة.
والقول الثاني: قول مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل في المشهور عنه: أن طلاق السنة: أن يطلقها طلقة في طهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطلاق (2185).(8/286)
ص -290- ... لم يمسها فيه، ولو كان في آخر ساعة منه، ثم يمسكها حتى تنقضي عدتها؛ وذلك بأول طهر الحيضة الثالثة في الحرة، وأول الحيضة الثانية في الأمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء، وللأمة قرآن – القرء: الطهر المتصل بالدم عندهم -. فإن طلقها في طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثاً مجتمعات في طهر لم يمسها فيه، فقد لزمه، وليس بمطلق للسنة عند مالك وجمهور أصحابه.
وأجابوا عما احتج به أهل القول الأول، فقالوا: أما حديث العجلاني فلا حجة فيه، لأنه طلق في غير موضع طلاق، فاستغنى عن الإنكار عليه. وأما حديث رفاعة بن سموأل، فقالوا: يحتمل أن يكون طلقها ثلاثاً متفرقات في أوقات. وأما حديث فاطمة بنت قيس، فقد قال فيه أبو سلمة: بعث إلي زوجي بتطليقتي الثالثة. وأما حديث ركانة، فقد تكلموا فيه وضعفوه، فلا حجه فيه. واحتج هؤلاء بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229]، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230]، ومرتان لا تكون إلا في وقتين، والثلاث في ثلاثة أوقات، كما في قوله عليه السلام: "من سبح الله مائة مرة" 1، أي: مرة بعد مرة، ليس المراد أن يقولها مرة واحدة، وكذلك من قال: قرأ سورة مرتين، المراد: مرة بعد مرة.
ومن حجتهم أيضاً: قول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3471).(8/287)
ص -291- ... فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1]، أي: أمر يحدث بعد الثلاث؛ والأمر إنما أريد به المراجعة، فبطل أن يكون وقوع الثلاث للسنة.
ومن حجتهم أيضاً: ما روى النسائي عن محمود بن لبيد: "أن رجلاً طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقام مغضباً، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" 1، قال العسقلاني: رجاله ثقات، وبما روى سعيد بن منصور: "أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثاً، أوجع ظهره"، قال العسقلاني: وسنده صحيح، وبما روى عبد الرزاق وغيره: "أن ابن عمر قال لمن طلق امرأته ثلاثاً مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك"، وبما روى أبو داود بسند صحيح عن مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه. فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: {َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً. عصيت ربك، وبانت منك امرأتك".
قالوا: ففي هذا دليل على أن من طلق امرأته ثلاثاً مجتمعات، فقد عصى ربه، وفعل ما هو محرم، ومن فعل مباحاً لا يقال: عصى ربه. وقال هؤلاء: يصير مطلقاً امرأته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطلاق (3401).(8/288)
ص -292- ... ثلاثاً، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن كان فعله هذا محرماً عليه. ومن القائلين بالتحريم لا اللزوم، من قال: إذا طلق ثلاثاً مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، ونقله ابن المنذر عن جماعة من التابعين، كعمرو بن دينار وطاووس وغيرهما.
ومن أقوى ما احتجوا به: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"، قال أبو عمر بن عبد البر في حديث ابن عباس: هذا لم يتابع عليه طاووس، وإن سائر أصحاب ابن عباس يروي عنه خلاف ذلك، وما كان ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: "أنا أقول لكم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تقولون: قال أبو بكر وعمر"، قاله في فسخ الحج وغيره. قال جمهور العلماء: إن حديث طاووس في قصة أبي الصهباء، لا يصح معناه.
وممن روينا عنه: أن الثلاث تحرم التي لم يدخل بها زوجها، حتى تنكح زوجاً غيره، كالمدخول بها سواء: علي بن أبي طالب وابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو(8/289)
ص -293- ... سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وعبد الله بن المغفل، وأبو هريرة وعائشة وأنس، وهو قول جماعة من التابعين. وبه قال فقهاء الأمصار، كابن أبي ليلى وابن شبرمة وسفيان الثوري، ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وأصحاب أحمد وإسحاق، وأبي ثور وأبي عبيد والطبري. انتهى.
إذا عرفت مذاهب أهل العلم في المسألة، فالقول المفتى به عندنا: ما ذكره ابن عبد البر وغيره، عن جماعة من العلماء: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة، سواء كان مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، أو صغيرة أو كبيرة، أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.
وأجاب أيضاً: مذهب جمهور العلماء أنها تقع ثلاثاً، فمتى طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة وقعت الثلاث، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده؛ روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر وابن مسعود وأنس. وكان عطاء وطاووس وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء وعمرو بن دينار، ومحمد بن إسحاق، وإسحاق بن راهويه، يقولون: من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة.
وذهب طائفة: إلى أن الثلاث المجموعة طلقة واحدة في حق البكر وغيرها؛ واختار هذا الشيخ تقي الدين وابن القيم. واحتج أهل هذا القول بما روى مسلم في صحيحه(8/290)
ص -294- ... عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم"، قالوا: فهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عصره، وسنتين من خلافة عمر، على أن الثلاث واحدة، فتوى وإقراراً وسكوتاً، ولهذا ادعى بعض أهل العلم: أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتى به قرناً بعد قرن؛ فأفتى به ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وأفتى أيضاً بالثلاث، أفتى بهذا وهذا.
وأفتى بأنها واحدة ابن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطاووس، وفلاس بن عمر، والحارث العكلي، وداود بن علي، وأكثر الصحابة، ولم يأت إجماع يبطله؛ ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه امرأته، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرم، فإن الله حرم الطلاق مرة بعد مرة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة، فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه، ولعب(8/291)
ص -295- ... بكتاب الله، فحقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رد رحمة الله وقد صعب على نفسه ولم يتق الله، ولم يطلق كما أمره الله، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.
ولما علم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، وافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن حديث ابن عباس، لم يكن عنده ما يدفعه به إلا مخالفته لما أفتى به ابن عباس. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة"، بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس من وجوه عن ابن عباس أنها ثلاث، وهو الذي أمضاه عمر على الناس، وقضى به عقوبة لهم على الطلاق المحرم، وتبعه عليه الصحابة، وأخذ به جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم من الأئمة، أن من طلق ثلاثاً بكلمة واحدة تحسب عليه ثلاثاً. وهو الذي كان يفتي به شيخنا، رحمه الله، وعليه الفتوى عندنا.
وسئل: عمن قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؟
فأجاب: فإذا قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق،(8/292)
ص -296- ... أنت طالق، ثلاثاً، كلمات مكررات، فالصحيح من مذهب أحمد: أن ذلك يرجع إلى نيته، فإن أراد التأكيد بطلقة واحدة، ولم يرد أنها ثلاث طلقات، فهي تصير واحدة، يجوز له رجعتها ما دامت في العدة، فإن خرجت من العدة لم يجز له مراجعتها إلا بعقد جديد. وإن أراد بقوله: أنت طالق، ثلاث تطليقات، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ وهذا هو المفتى به عندنا، لأنا لا نعلم شيئاً يخالفه من الكتاب والسنة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما طلاق الثلاث، فإنه يقع عند الجمهور مفرقاً، أو مجموعاً، وهو الذي عليه العمل سلفاً وخلفاً، من خلافة عمر ومن بعده، وهو كذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الأصح في مذاهبهم عند أصحابهم؛ وإن كان الخلاف فيه إنما اشتهر عن شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، أقوى مما كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر. والجمهور أخذوا بالآخِر من اجتهاد عمر، ولهم أجوبة عما استدل به شيخ الإسلام معروفة.
وعمدتهم فيما ذهبوا إليه من إيقاع الثلاث: ظاهر القرآن، فإن الله تعالى لم يجعل إلا ثلاث تطليقات، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229]، {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230]، وبذلك أفتى ابن عباس وغيره، وهو(8/293)
ص -297- ... حبر الأمة؛ فالاستدلال بفتيا ابن عباس والصحابة حق، والاستدلال بقول شيخنا أولى من الاستدلال بقول الشوكاني.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: الذي طلقها واحدة، فلما انقضت عدتها تزوجها، وطلقها بالثلاث بلفظة واحدة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، عند جمهور العلماء.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، سواء كان في خلع أو غيره، فمذهب الشيخ تقي الدين وكثير من أتباعه معلوم لديكم: أن الزوج إذا طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة، أو بكلمات متفرقة قبل رجعة، أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ والمفتى به في المذاهب الأربعة خلاف ذلك، ونصوص الأئمة الأربعة بخلاف قول الشيخ معروفة، ولا ينبغي مخالفتهم في ذلك، ولم نر أحداً ممن أدركناهم يفتي بقول الشيخ في هذه المسألة; وأخبرني بعض تلامذة الشيخ محمد، رحمه الله، أنه قال: لم أفت بقول الشيخ تقي الدين في هذه المسألة إلا مرة واحدة، ثم لم أفت إلا بقول الجمهور.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: الذي طلق زوجته ثلاثاً بلفظة واحدة، قول الجمهور أنها تقع ثلاثاً، وتمضي عليه؛ وهذا هو المفتى به عند مشائخنا، ولا ينبغي العدول عنه.
سئل بعضهم: عمن قال لزوجته: أنت طالق(8/294)
ص -298- ... بالثلاث، ويحلف أنه قاصد أصابعه الثلاث؟
فأجاب: هذا المقصد مشكل مع أنه بعيد، وهذا يشبه ما قاله شيخ الإسلام: أن النية إن أسقطت شيئاً من الطلاق لم يقبل، مثل قوله: أنت طالق ثلاثاً، وقال: نويت واحدة، فإنه لا يقبل رواية واحدة، وإن لم تسقط من الطلاق، وإنما عدل به من حال إلى حال، مثل أن ينوي من وثاق وعقال ودخول الدار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على روايتين: إحداهما: يقبل، قال في شرح المنتهى: إلا أن تكون قرينة من غضب، أو سؤالها الطلاق، والمقدم في المذهب: أنه يدين ولا يقبل في الحكم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن قال لزوجته: أنت طالق، فقالت: طلقني بالثلاث، فطلقها، وقال: أردت عصاي؟
فأجاب: الذي قال لزوجته: أنت طالق، وقالت: ما يكفيني هذا، طلقني بالثلاث، فقال: أنت طالق بالثلاث، وقال: أردت عصاي، فالذي أرى أنه ما يقبل قوله، وتقع الثلاث إذا كانت الأولى على غير عوض، لأن قوله: أنت طالق بالثلاث، جواب لسؤال مشافهة، وضمير "أنتِ" إنما هو للعاقل لا للجماد، وأيضاً: العصا لا تتصف بالطلاق.
وسئل: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر؟(8/295)
ص -299- ... فأجاب: الذي نص عليه علماؤنا: أنه يجب على الزوج اعتزالها من حين ذلك، لأن كل شهر أو يوم يحتمل أن يموت فيه، فتكون قد طلقت قبله في الوقت الذي وقته، فإذا وطئها والحالة هذه، احتمل أن يموت، فيكون قد وطئها في حال بينونتها.
وسئل: إذا قال أنت طالق من نجد إلى مكة؟
فأجاب، إذا قال لزوجته: أنت طالق من نجد إلى مكة، فإنها تطلق واحدة في الحال، كما ذكر في الإقناع أنه قال: إذا قال أنت طالق إلى مكة، طلقت في الحال.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا قال لزوجته: أنت طالق إلى مكة، فقال في الإقناع وشرحه: وإن قال أنت طالق إلى مكة، ولم ينو بلوغها إلى مكة، أو قال: أنت طالق بعد مكة، طلقت في الحال; فقد علمت أنه إذا قال ذلك طلقت في الحال، وأنه إذا نوى بلوغ مكة لم تطلق حتى تبلغها.
سئل بعضهم: إذا طلق الرجل زوجته، وقال: إنها طلقة، ثم أقام بينة أنها ثلاث، وأقام بينة أنها طلقة؟
فأجاب: هي طلقة مع يمين المطلق، وإذا طلقها وادعت أنها ثلاث، وأنكر، وأقامت شاهداً، فظاهر المذهب: أنها واحدة، ولا تكون ثلاثاً إلا بشاهدين.(8/296)
ص -300- ... الصيغة التي يقع بها الطلاق
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي، رحمهم الله: عن صيغة التنجيز؟
فأجاب: مثل أن يقول: امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة طالق، أو مطلقة، ونحو ذلك، فهذه الصيغة يقع بها الطلاق بإجماع المسلمين.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عمن قيل له: امرأتك معك؟ فقال: لا؟
فأجاب: الرجل الذي سأله أخوه عن امرأته - وهي غائبة في بلاد - قائلا: امرأتك معك؟ فقال: لا، ويدعى أن مراده أنها ليست بهذا، فالذي أفهم أن هذا كناية، إن أراد به الطلاق طلقت، وإن لم يرد الطلاق، ولا أراد إلا أنها ليست عنده بهذه البلاد لم تطلق. وعبارة مختصر الشرح: ولو قيل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وأراد الكذب لم تطلق، لأنه كناية يحتاج إلى نية، وإن نوى به الطلاق طلقت، وبه قال مالك والشافعي. فتأمل هذه العبارة، تجد المسألة المسؤول عنها قريبة من المسألة الأخيرة.
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن معه امرأتان، وأراد سفراً، فسئل فقال: ما معي إلا فلانة، وهو صحيح، ثم توفي؟
فأجاب: اللفظ محتمل قصد الطلاق أو غيره من(8/297)
ص -301- ... سقوط نفقة أو غير ذلك، والكناية تتقيد بالنية، وإذا كان كذلك لم تخرج من متيقن إلا بيقين.
[ فصل في طلاق البتة ]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن طلاق البتة؟
فأجاب: قال في المطلع: وبتة بمعنى: مقطوعة، يقال طلقها ثلاثاً البتة; وفي حديث فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو طلقها البتة وهو غائب"، وفي رواية:? "طلقها ثلاثاً...?" الحديث، متفق عليه; قال ابن دقيق العيد: لفظة "البتة" يعبر بها عن طلاق الثلاث دفعة، وتارة عن طلقة يتمم بها الثلاثة.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا قال لامرأته: اطلعي من داري؟
فأجاب: وأما قول الزوج اطلعي من داري، فليست قرينة؛ يحلف أنه ما أراد الطلاق.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني، فقال: الله يرزقك؟
فأجاب: هذه من الكنايات، والقرينة تدل على أنه أراد الطلاق. فإذا قالت: ما يكفيني، وقال: الله يرزقك، الله يرزقك، فهذه تحتاج إلى نية. فإن قال: إن مرادي تأكيد الأول، ولا أردت إلا واحدة، وحلف على ذلك،(8/298)
ص -302- ... فهي تصير واحدة. فإن قال: مرادي الثلاث، فهي تصير ثلاثاً. هذا الذي يبين لنا من كلام أهل العلم في المسألة، والله أعلم.
وأجاب أيضاً: إذا قال لزوجته عند سؤالها منه الطلاق: الله يرزقك، فهذا كناية يحتاج إلى نية الطلاق، ويصدق بيمينه أنه لم ينو الطلاق.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال الإنسان لزوجته: الله يرزقك بالثلاث، ناوياً الطلاق، ولكن لم يرد الثلاث، فإنها تقع الثلاث، ولا يقبل قوله إنه لم يردها، مع وجود اللفظ بها منه. انتهى.
وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، عمن قال لامرأته: الله يرزقك، ثم طلقها طلقتين... إلخ؟
فأجاب: الرجل إذا قال لامرأته: الله يرزقك، ثم طلقها طلقتين متواليتين، فهو يسأل عن نيته: هل نوى ثلاثاً، فهي ثلاث، أو يسمعها وقصده طلقة واحدة، فإن كان قصده واحدة، فهي تحل له.
وأجاب أيضاً: الذي قال لامرأته: الله يرزقك، وطلعت من العدة، فلا له طريق عليها إلا بعقد; وأيضاً، إن كان قائلاً لامرأته: الله يرزقك، ثلاث مرات، ونيته ثلاث تطليقات، فلا له طريق عليها إلا بعد أن تتزوج زوجاً آخر،(8/299)
ص -303- ... ويطلقها بعد الإصابة.
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: الذي يفتي به علماء هذه الدعوة، رحمهم الله: أنها من الكنايات الخفية، وحكم الكنايات الخفية معلوم في كتب المذهب.
سئل بعضهم: إذا قال لزوجته: لست معي؟
فأجاب: هي كناية، وإن نوى به الطلاق فهو طلاق، سواء طلقة أو أكثر. وإن قاله بقرينة، كسؤالها أو عند الخصومة أو التنازع، فهي طلاق. وإذا قال لزوجته بعد سؤال الطلاق: أنت بالنفهان، فإن كان على عادتهم أنه طلاق، فهو طلاق.
سئل بعضهم: إذا قال لامرأته: إن كان كذا ما جرى، فأنت فسخ؟
فأجاب: هذا تعليق، وذكر الفقهاء في كتاب الخلع ما يفيد أنه كناية، إذا نوى به الطلاق صار طلاقاً، وصرح به في الاختيارات، فقال: ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية مع قرينة إرادة الطلاق، كما إذا قرن الكناية بلفظ يدل على الطلاق، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي. انتهى. وبه يتم الجواب.(8/300)
ص -304- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الكنايات، هل يقع بها طلاق... إلخ؟
فأجاب: وأما استعمال كنايات الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء، أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع النية؛ فإذا تكلم الزوج بالكناية، وقال: لم أرد الطلاق، ولم أنوه، ولم يتكلم بذلك في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، فهذا يقبل قوله، ولا يقع به طلاق. وأما إن تكلم بذلك في حال الغضب، فهذا مما اختلف الفقهاء فيه، فقال بعضهم: يقبل قوله أنه لم يرد الطلاق ولم ينوه.
وقال بعضهم: لا يقبل قوله في ظاهر الحكم، لأجل القرينة الدالة على إرادة الطلاق. وبعض أهل العلم يفرق بين الكنايات، ويقول: الكنايات التي يكثر استعمالها في الطلاق، ويعرف أن من تلفظ بها إنما يريد الطلاق، فهذا لا يقبل قوله; وأما الكنايات التي تستعمل في عرف أهل البلد في الطلاق، وفي غيره، فهذا يقبل قوله أنه ما أراد الطلاق، بل لو تلفظ بذلك، وقال: لم أرد الطلاق ولا غيره، لم تطلق إلا بالنية، إذا كان اللفظ يستعمل في الطلاق وفي غيره.
وسئل: عن رجل غضب على زوجته، وسألته الطلاق، وقال لها: اخرجي عن بيتي، لست معي؟(8/301)
ص -305- ... فأجاب: هذه المسألة قد ذكر الفقهاء فيها: أن الزوج إذا تلفظ بكنايات الطلاق، في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، ثم قال الزوج: لم أرد بذلك الطلاق، أنه لا يقبل في الحكم، بل تحسب عليه من الطلاق؛ هذا في الظاهر، وأما بينه وبين الله، فإن علم من نفسه أنه لم يرد الطلاق، لم يقع عليه طلاق فيما بينه وبين الله.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الكنايات، هل منها ما يقع ثلاثاً؟
فأجاب: الكنايات ليس منها شيء يعد ثلاثاً.
وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: وأما "الخلية" و"البرية" و"البائن" من الكنايات في الطلاق، هل تقع ثلاثاً أم واحدة؟ فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها; وأكثر الروايات عن أحمد: كراهة الفتيا في هذه الكنايات الظاهرة، مع ميله إلى أنها ثلاث. وحكى ابن أبي موسى عنه روايتين: إحداهما: أنها ثلاث. والثانية: يرجع إلى ما نواه، وهو مذهب الشافعي، قال: يرجع إلى ما نواه؛ وإن لم ينو شيئاً وقع واحدة، واحتج بحديث ابن عبد يزيد.
وقال الثوري، وأصحاب الرأي: إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة، ولا تقع اثنتين; وقال ربيعة ومالك: يقع بها الثلاث، وإن لم ينو(8/302)
ص -306- ... إلا في خلعه، أو قبل الدخول، فإنها تطلق واحدة، لأنها تقتضي البينونة، وهي تحصل في الخلع، وقبل الدخول بالواحدة، وفي غيرها تقع الثلاث. فهذا مذاهب الأئمة في هذه المسألة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: كنايات الطلاق في مذهب أحمد، ذكرها في الزاد والمقنع والمطولات، على قسمين: قسم إذا نوى به الطلاق بانت زوجته، لكونها تدل على البينونة بوضعها، وقسم إذا نوى به الطلاق وقعت واحدة، إلا إذا نوى الثلاث وقع ما نوى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن توقف المفتي فيها... إلخ؟
فأجاب: وأما قولك: إذا توقف المفتي عن الإفتاء في الكنايات، هل يكون داخلاً في الكتمان؟ فاعلم أن الذي يتناوله الوعيد، الذي عنده علم من الله ورسوله، فيُسأل عنه فيكتمه، وأما من أشكل عليه الحكم، فتوقف حتى يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء، ولم يعلم الراجح من القولين; وأحمد، رحمه الله، وغيره من العلماء يتوقفون كثيراً في مسائل، مع معرفتهم بكلام العلماء قبلهم في تلك المسائل، إذا لم يتبين لهم الصواب.
وأحمد يتوقف عن الإفتاء في كنايات الطلاق، في أكثر(8/303)
ص -307- ... أجوبته. وبعض العلماء لا يفتي في مسائل الطلاق بالكلية، لعظم خطرها. والواجب على المفتي: أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين الله وبين عباده، فيما أحل لهم وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم؛ وما أشكل عليه أو جهله فليكله إلى عالمه.
[ فصل في قوله: أنت عليّ كظهر أمي، أعني به الطلاق ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق؟
فأجاب: هذا اللفظ ظهار، لا يكون طلاقاً، ولو نوى به الطلاق أو صرح به، ويكون عليه كفارة ظهار.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال لزوجته: أنت علي حرام... إلخ؟
فأجاب: وأما جواب المسألتين اللتين ذكرتهما، فنذكر كلام أهل العلم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك للصواب: قال في المغنى: إذا قال أنت علي حرام، فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم; وبه يقول أبو حنيفة والشافعي. وإن نوى به الطلاق، فقد ذكرناه في باب الطلاق. وإن أطلق ففيه روايتان: إحداهما: هو ظهار، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه، ذكره إبراهيم الحربي، عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة، وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبستي، أنهم قالوا: الحرام ظهار. وروي عن(8/304)
ص -308- ... أحمد ما يدل على أن التحريم يمين; وعن ابن عباس أنه قال: التحريم يمين في كتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة التحريم آية: 2].
وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي؛ ووجه ذلك: الآية المذكورة، وأن التحريم يتفرع منه ما هو: بظهار، وبطلاق، وبحرام، وصيام، ومحيض، ولا يكون صريحاً في واحد منها، ولا ينصرف إليه بغير نية، كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق. ووجه الأول: تحريم أوقعه بامرأته، فكان بإطلاقه ظهاراً، كتشبيهها بظهر أمه.
وقولهم: إن التحريم يتفرع، قلنا: إن تلك الأنواع ممتنعة، ولا يحصل منها إلا الطلاق وهذا أولى منه، لأن الطلاق يبين المرأة، وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية، فكان أدنى التحريم يميناً، فكان أولى. فأما إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض ونحوه، وقصد الظهار فهو ظهار، وإن قصد أنها محرمة بذلك السبب فلا شيء فيه، وإن أطلق فليس بظهار لأنه يحتمل الخبر عن حالها، ويحتمل إنشاء التحريم فيها بالظهار، فلا يتعين أحدهما إلا بتعيين.(8/305)
ص -309- ... [ فصل في قوله: الحل علي حرام ]
وإن قال: الحل علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، أو ما انقلب إليه حرام، وله امرأة، فهو مظاهر؛ نص عليه في الصور الثلاث، قال أحمد فيمن قال: ما أحل الله علي حرام من أهل ومال، عليه كفارة الظهار، هو يمين، وتجزئه كفارة واحدة في ظاهر كلام أحمد. واختار ابن عقيل أنه يلزم الكفارتان للظهار، ولتحريم المال. ولنا أنها يمين واحدة، فلا توجب كفارتين، كما لو ظاهر من امرأتين، أو حرم من ماله شيئين؛ وفي قول أحمد: هو يمين، إشارة إلى التعليل بما ذكرناه. انتهى.
وقال البخاري، رحمه الله: باب إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، قال الحسن: بنيته، قال في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أي: يحمل على نيته، وهذا التعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عالياً في جزء محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري، قال حدثنا الأشعث عن الحسن: في الحرام إن نوى يميناً فهو يمين، وإن نوى طلاقاً فهو طلاق، وبهذا قال النخعي والشافعي وإسحاق، وروي نحوه عن ابن مسعود وطاووس وابن عمر.
وقال الأوزاعي وأبو ثور: الحرام يمين مكفرة، وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة، وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس، واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1]، وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة: "من قال(8/306)
ص -310- ... لامرأته: أنت علي حرام، لزمته كفارة الظهار، وكان مظاهراً، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين مغلظة، وهي كفارة الظهار، لأنه يصير مظاهراً حقيقة"، وفيه بُعْد.
وقال أبو حنيفة وصاحباه، والحكم وابن أبي ليلى: في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك. وعن مسروق والشعبي وربيعة: لا شيء فيه. وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف، بلغها القرطبي إلى ثمانية عشر قولاً. ثم ذكر البخاري حديث ابن عباس، أنه قال: "إذا حرم الرجل امرأته، ليس بشيء، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}" [سورة الأحزاب آية: 21]، قال الشارح: يشير بذلك إلى قصة التحريم.
وقد أخرج النسائي بسند صحيح، عن أنس: "أن رسول الله كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها" 1، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1]، وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل; وقد اختلفوا في سبب التحريم، هل هو تحريم العسل؟ أو تحريم مارية؟
وقوله ليس بشئ: يحتمل أنه يريد بالنفي التطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك؛ والأول أقرب، ويؤيده ما تقدم في التفسير بهذا الإسناد، أنه قال في الحرام: يكفر; وفي رواية: "إذا حرم الرجل امرأته، فإنما هي يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: عشرة النساء (3959).(8/307)
ص -311- ... يكفرها"; فعرف أن المراد بقوله: "ليس بشيء": بطلاق. وأنت تفهم، رحمك الله، أن مذهب ابن عباس في هذه المسألة، أقرب الأقوال إلى الكتاب والسنة، وهو اختيار شيخنا، رحمه الله.
[ مسألة الحلف بالطلاق ]
وذكر ابن القيم، رحمه الله: هذه المسألة، ومسألة الحلف بالطلاق في كتاب إعلام الموقعين، وبسطها، فأحببت أن أنقل لك أول المسألة:
قال، رحمه الله: فصل: المثال الثامن مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيمان والإقرار والنذر وغيرها; فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف لا ركبت دابة، وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة: الحمار خاصة، اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل. وإن كان عرفهم في لفظ الدابة: الفرس خاصة، حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إذا كان الحالف مما عادته ركوب نوع خاص من الدواب، كالأمراء ومن جرى مجراهم، حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب؛ فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتى كل أحد بحسب عادته. وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها، ونحو ذلك، وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه، كالملوك، حنث قطعاً بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفس ما حلف عليه.(8/308)
ص -312- ... وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه، كآحاد الناس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها. وعلى هذا، إذا قيل له: جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة، فقال: ليس كذلك، بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة، فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله.
ومن ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا، أنه قال لامرأته: إذا أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام، فقال لها: اخرجي وأبصري. فاستفتى بعض الناس، فأفتوه بأنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت علي الطلاق؟ فقال: بقولك لها اخرجي، فقال: إني لم أقل لها ذلك إذناً، وإنما قلته تهديداً، أي: أنك لا يمكنك الخروج، وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت آية: 40]، فهل هذا إِذْنٌ لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فقال: لا أدري، أنت لفظت بالإذن، فقال له: ما أردت الإذن، فلم يفقه المفتي، وغلظ فهمه عن إدراكه، وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن الله به ولا رسوله، ولا أحد من أئمة الإسلام.
وأطال الكلام - إلى أن قال - فصل: ومن هذا الباب: اليمين بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا(8/309)
ص -313- ... حنث بطلاق زوجته وعتق عبده، مما حدث الإفتاء به بعد انقضاء عصر الصحابة؛ فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبداً، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط، والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط، كما في صحيح البخاري، عن نافع قال: "طلق رجل امرأته البتة، إن خرجت. فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء"؛ فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقاً.
وأما من يفصل بين القسم المحض، والتعليق الذي يقصد به الوقوع، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الإفتاء بالوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها - إلى أن قال – فصل: قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا فأنت طالق، والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وأن الخلاف في الصيغتين قديماً وحديثاً. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا فأنت علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، والثانية: الحرام يلزمني لا أفعل كذا.
فمن قال في: الطلاق يلزمني، إنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به شيء، ففي قوله: الحرام يلزمني أولى;(8/310)
ص -314- ... ومن قال: إنه كناية، إن نوى به الطلاق كان طلاقاً وإلا فلا؛ فهكذا يقول في: الحرام يلزمني، إن نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق، فكأنه التزم أن يحرم كما التزم ذلك أن يطلق. ولا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بلفظ لم يوضع للطلاق، ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد، ولا هي من لغو اليمين، فهي يمين منعقدة، وفيها كفارة يمين؛ وبه أفتى ابن عباس.
وفي قوله: أنت علي حرام، أو أنت علي حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير، مذاهب:
أحدها: لغو وباطل لا يترتب عليه شيء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق والشعبي، وأبو سلمة وعطاء وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث.
الثاني: أنها ثلاث تطليقات، وهو قول علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
الثالث: أنها حرام عليه، ولم يذكر أهل هذا القول طلاقاً.
الرابع: الوقف فيها، صح ذلك عن علي، وهو قول الشعبي.
الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإلا فيمين - إلى أن قال:
التاسع: أن فيه كفارة الظهار، صح ذلك عن ابن عباس أيضاً، وأبي قلابة وسعيد بن جبير،(8/311)
ص -315- ... ووهب بن منبه؛ قال: وهذا أقيس الأقوال وأفقهها - إلى أن قال:
الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال، صح ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر، وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وخلق سواهم؛ وحجة أهل هذا القول: ظاهر القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقيناً، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله، وهو: أنه إن أوقع التحريم كان ظهاراً ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفرة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإن حلف كان يمينا من الأيمان، كما لو حلف بالتزام الحج والإعتاق والصدقة، وهذا محض القياس والفقه. ألا ترى أنه إذا قال: لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم، لزمه; ولو قال: إن كلمت فلاناً فلله علي ذلك، على وجه اليمين، فهو يمين، وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني، كفر بذلك، ولو قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو(8/312)
ص -316- ... نصراني، كان يميناً. وطرد هذا أيضاً إذا قال: أنت طالق، كان طلاقاً، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، كان يميناً. فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة، المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان. انتهى كلامه في هذه المسألة.
وقال في الإنصاف: لو قال: علي الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه مع قرينة أو نية وجهان، وأطلقهما في المغني والشرح والفروع. قلت: الصواب أنه مع النية والقرينة، كقوله: أنت علي حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع: ويتوجه الوجهان إن نوى به طلاقاً، وأن العرف قرينة. قلت: الصواب أنه مع النية أو القرينة، كقوله: أنت علي حرام. انتهى.
وقال في المغني: فصل: واختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق: فقال القاضي في الجامع، وأبو الخطاب: هو تعليقه على شرط، أي شرط كان، إلا قوله: إذا شئت فأنت طالق، ونحوه، فإنه تمليك، وإذا حضت فأنت طالق، فإنه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق، ونحوه، فإنه طلاق سنة؛ وهذا قول أبي حنيفة، لأن ذلك يسمى حلفاً عرفاً فيتعلق الحكم به، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ولأن في الشرط معنى القسم، من حيث كونه جملة غير مستقلة، دون الجواب، فأشبه قوله: والله وبالله وتالله.(8/313)
ص -317- ... وقال القاضي في المجرد: هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن لم تدخلي فأنت طالق، أو على تصديق خبره، مثل قوله: أنت طالق، قدم زيد أو لم يقدم. فأما التعليق على غير ذلك، نحو قوله: أنت طالق إن طلعت الشمس، أو قدم الحاج، أو إن لم يقدم السلطان، فهو شرط محض ليس بحلف، لأن حقيقة الحلف القسم، وإنما يسمى تعليق الطلاق على شرط حلفاً تجوزاً، لمشاركته الحلف في المعنى المشهور، وهو الحث أو المنع، أو تأكيد الخبر، نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو لقد فعلت; وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفاً، وهذا مذهب الشافعي.
فإذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، لم تطلق في الحال على القول الثاني، لأنه ليس بحلف، وتطلق على الأول لأنه حلف. وإن قال: كلما كلمت أباك فأنت طالق، طلقت على القولين جميعاً، لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه، فكان حلفاً، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. انتهى كلام صاحب المغني.
قال في الاختيارات: ومن علق الطلاق على شرط، أو التزامه، لا يقصد بذلك إلا الحض والمنع، فإنه يجزئه(8/314)
ص -318- ... فيه كفارة يمين إن حنث. وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت، كره الشرط أو لا؛ وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم، وعليه يدل كلام أحمد في نذر اللجاج والغضب. انتهى. والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن حرم زوجته... إلخ؟
فأجاب: تحريم الزوجة ظهار ولو نوى به طلاقاً أو يميناً، نص عليه إمامنا، رحمه الله، في رواية الجماعة؛ وهو المذهب، ونقل عنه ما يدل على أنه يمين، وفاقاً للثلاثة; وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات، والفتاوى المصرية، في باب الظهار بالأول، لكن قال ابن القيم - في الإعلام -: إنه إن أوقع التحريم كان ظهاراً لو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفرة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرم، وإذا حلف به كان يميناً من الأيمان، كما لو التزم الإعتاق والحج، وهذا محض القياس والفقه. انتهى.
قلت: قوله وإذا حلف كان يميناً... إلخ، بناء على ما ذهب إليه، من أن المعلق للطلاق على شرط، يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام، فإنه يجزئه كفارة يمين إن(8/315)
ص -319- ... حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجود المعلق عليه طلقت، وصرح به الشيخ في باب تعليق الطلاق بالشروط. قال: وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما تحريم الرجل زوجته، ففيه خلاف مشهور، وأقوال العلماء فيه كثيرة: قيل: هو طلاق ثلاث، وقيل: طلقة بائنة، وقيل: يمين فيه كفارة، وقيل: ظهار فيه كفارة الظهار؛ وهذا القول هو المشهور عند الحنابلة. وأما تحريم الإنسان أمته، أو الطعام، أو الشراب، أو اللباس ونحو ذلك، ففيه كفارة يمين.
وأجاب أيضاً: وأما تحريم الرجل امرأته، فمعلوم لديكم ما في المسألة من الخلاف الكثير، وأن المشهور في مذهب أحمد أنه ظهار مطلقاً، وعند مالك طلاق ثلاث، وهو رواية عن أحمد; وعن أحمد: أنه يمين، وهو قول أبي حنيفة. والفتيا في هذه الأمور صعب، لاختلاف الصحابة في ذلك ومن بعدهم، والله أعلم.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عمن ظاهر من امرأته بالثلاث؟
فأجاب: الذي قال: امرأتي علي كأمي بالثلاث، فالذي أرى: أن قوله: بالثلاث، لا يفيد شيئاً، أعني: ما يلزمه طلاق بذلك، وإنما هو مظاهر، فإن لم يجد ما يعتق(8/316)
ص -320- ... لفقره، لزمه صيام شهرين متتابعين. وكونه جامع قبل التكفير، فإنه يأثم بذلك، ولا يلزمه إلا الكفارة الواجبة، فإذا أخبر بما يجب عليه، فهو أمانة عنده، والله أعلم.
وسئل أيضاً: عمن قال: مثل أمي ما أذوق لك طعاماً، أو ذبيحة؟
فأجاب: أما من قال: مثل أمي ما أذوق لك طعاماً، أو ذبيحة، ومراده: تشبيه زوجته بأمه، فإن هذا حلف بالظهار، فإن لم يأكل فلا حنث، وإن أكل حنث، ويلزمه حكم الظهار عند الأصحاب. وعند الشيخ تقي الدين، وابن القيم: أن الحالف بالظهار، لا يلزمه إلا كفارة يمين، وهذا هو الذي نفتي به.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال: علي الطلاق لأفعلن كذا، ثم حنث؟
فأجاب: هذه المسألة، الخلاف فيها مشهور بين السلف والخلف، وفيها روايتان عن أحمد: إحداهما: تطلق ثلاثاً، صححه في التصحيح; قال في الروضة: هو قول جمهور أصحابنا، لأن الألف واللام للاستغراق، فتقتضي استغراق الكل وهو ثلاث. والرواية الثانية: لا تطلق إلا واحدة، وهي المذهب، لأنه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود، يريد الطلاق الذي أوقعته؛ قال الموفق: والأشبه في هذا جميعاً، أن يكون واحدة في حال(8/317)
ص -321- ... الإطلاق، لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثاً، ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثاً، ولا يعتقد أنه طلق ثلاثاً. انتهى.
وأما الروايتان عن أحمد، إذا قال ذلك وأطلق ولم ينو شيئاً، فأما إن نوى ثلاثاً، فإنه يقع به ثلاث طلقات. وأما الشيخ تقي الدين، فإنه فرق بين أن يقصد الحالف إيقاع الطلاق أو لا يقصده، وإن كان يكره وقوع الجزاء، ولكن علقه على شرط ليحث نفسه على فعل شيء أو تركه، فهذا يكون عنده من باب الأيمان، وتكون كفارة يمين. وإن كان يقصد إيقاع الطلاق، ولا يكره وقوع الجزاء، فهذا إذا وقع عنده الجزاء، وقع عنده الطلاق.
وأجاب أيضاً: وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لا أفعلن كذا، وفعله، فالذي نعمل عليه: أنه ليس عليه إلا كفارة يمين، إذا فعل المحلوف عليه.
وأجاب أيضاً: إذا قال: علي الطلاق بالثلاث إن لم أفعل كذا، أو لا أفعل كذا، فإذا لم ينو به الطلاق بل مراده الحث أو المنع، فهو يمين مكفرة، يخير بين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد بر أو مدي شعير أو مدي تمر، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما إذا قال الرجل لامرأته: علي الطلاق بالثلاث ما أضاجعك سنة،(8/318)
ص -322- ... فوطئها وضاجعها قبل ذلك، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الجمهور: إلى أنه يقع به الطلاق، وتبين منه امرأته.
وذهب الشيخ تقي الدين، وطائفة من التابعين، إلى أنه إن كان قصده بالحلف بالطلاق منع نفسه عن مضاجعتها، ولم يقصد إيقاع الطلاق، بل قصد منع نفسه فقط، لم يقع به الطلاق، ويكون ذلك بمنزلة اليمين، فيكفر كفارة يمين. وإن كان قصده وقوع الطلاق، عند فعل ما حلف عليه، وقع؛ قال الشيخ: بلا خلاف، لأنه قصد الإيقاع فوقع.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: وقول السائل: استعمال الناس اليوم الحلف بالطلاق، عند إلجاء أحدهم إلى الغضب، كقولهم: علي الطلاق لأفعلن... إلى آخر ما نقل السائل، نقل شيخنا: الشيخ الهمام العلامة، رحمه الله، عن الإمام أحمد، رحمه الله، روايتين، في قول القائل: علي الطلاق: إحداهما: تطلق ثلاثاً... إلخ. أقول: هذه الرواية هي المذهب، إذا نوى الثلاث. وإن لم ينو ثلاثاً فواحدة، عملاً بالعرف، وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو علي صريحاً، أو معلقاً، أو منجزاً، أو محلوفاً به؛ هذا شرح ما نقله عن شيخنا، وهو المعتمد.(8/319)
ص -323- ... وأما ما فرق به شيخ الإسلام، فقد ذكرته للسائل في جوابنا الذي صدر قبل هذا في مسألة التحريم، وأشرت إلى قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وحاصله: أنهما اختارا أنه يقع بوجود شرطه، إذا أراد الجزاء بتعليقه، إلا إن أراد الحض أو المنع. وقولهم: إن أراد الجزاء، أي: الطلاق، احترازاً من أن يريد حضاً، أو منعاً، وهو يكره وقوعه عند شرطه، فإنه- والحالة هذه- عندها يمين مكفرة. انتهى. والذي عليه مشايخنا من أهل الفتوى: إنما يعتمدون كلام الجمهور في هذه المسألة، فيفتون بإيقاع الطلاق، إذا وجد المعلق عليه، وهو الشرط، كما عليه الأئمة وجمهور العلماء.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال الرجل: علي الطلاق بالثلاث إن لم أفعل كذا، أو لا أفعل كذا، ففعل، فإذا لم ينو به الطلاق، بل مراده الحث أو المنع، فهو يمين مكفرة؛ يخير بين عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، أو إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مدي شعير، أو مدي تمر أو مد بر، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام.
[ ألفاظ الطلاق ]
سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إذا طلق امرأته عدد خوص النخل؟
فأجاب: إذا طلق امرأته عدد خوص النخل، فلا(8/320)
ص -324- ... سبيل له عليها.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن رجل تشاجر هو وزوجته عند الأمير، فقالت للأمير: أنصفني وإلا طلقني من إمارتك، فحرص زوجها، وقال: أنت طالق عدد زقان الجراد، فقالت: هبت ريحك، فقال لها: من إمارة فلان، ويحلف أن كلامه مجاوبة عن الأمير، حيث قالت: طلقني من إمارتك، فقال: أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارته، ومعه على ذلك شهود؟
فأجاب: قال ابن رجب في شرح الأربعين: وقد روي "عن عمر أنه رفع إليه رجل، قالت امرأته: شبهني، قال: كأنك ظبية، كأنك حمامة، فقالت: لا أرضى حتى تقول أنت خلية، أنت طالق، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها فهي امرأتك"، خرجه أبو عبيد، وقال: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تطلق من عقالها فيخلى عنها، فهي خلية من عقالها، وهي طالق لأنها قد طلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه عمر الطلاق بنيته. قال: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء، يشبه لفظ الطلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أن القول فيه قوله، فيما بينه وبين الله ( وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه.
ويروى عن الأشيمط السدوسي، قال: "خطبت امرأة، فقالوا: لا نزوجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إني طلقتها(8/321)
ص -325- ... ثلاثاً، فزوجوني، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلقتها ثلاثاً؟ قال: كان عندي فلانة فطلقتها، وفلانة فطلقتها، وأما هذه فلم أطلقها، فأتيت شقيقاً أبا ثور، وهو يريد الخروج إلى عثمان وافداً، فقلت: سل أمير المؤمنين عن هذه، فسأله، فقال: نيته"، خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق، وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث الأشميط تعرفه؟ قال: نعم، السدوسي إنما جعل نيته بذلك. انتهى كلام ابن رجب.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المرأة إذا أقامت شاهداً واحداً على الطلاق، فإن حلف الزوج أنه لم يطلق لم يقض عليه. وإن لم يحلف، حلفت المرأة ويقضى عليه". انتهى من إعلام الموقعين لابن القيم. فهذا كلام الخليفتين الراشدين، عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما ردا ما احتمل معنيين إلى نية المطلق، ولأن الأصل مع الزوج وهو الزوجية، وفي حديث عمرو بن شعيب: أن الزوج يستحلف أنه لم يطلق.
إذا تقرر هذا، فإن كان الزوج الذي قال لامرأته حين قالت للأمير: طلقني من إمارتك، قال: أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارة فلان، لم يقع عليها طلاق لأنه وصله بما يصرفه عن ظاهره، فإن لم يكن وصل الطلاق(8/322)
ص -326- ... بقوله من إمارة فلان، حلف الزوج بالله الذي لا إله إلا هو، ما أردت طلاق زوجتي، وإنما أردت طلاقها من إمارة فلان، فإن حلف فهي زوجته؛ وهذا الذي ذكرنا، قد صرح به بعض العلماء في كتبهم، لكن إن كانت الزوجة قالت له: طلقني، وهو في شدة غضب، فقال: أنت طالق عدد زقان الجراد، ولم يصله بقوله من إمارة فلان، فلا يقربها إلا بمراجعة العلماء، والله أعلم.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال: أمرك بيدك؟
فأجاب: المشهور أن القضاء ما قضت، فإن طلقت نفسها ثلاثاً وقع، وإن نوى أقل منها؛ روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء الزهري; وروي عن عمر وابن مسعود: أنها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد، والقاسم وربيعة، ومالك والشافعي; قال الشافعي: القول قوله في نيته; وعن أحمد ما يدل على ذلك، وأنه إذا نوى واحدة فهي واحدة.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: ما الفرق بين: طلقي نفسك، وأمرك بيدك؟
فأجاب: أما قوله: طلقي نفسك، ونحو هذا اللفظ، فهذا وكالة صريحة، كما لو قاله لغير زوجته; وقوله: أمرك بيدك، كناية في التوكيل في الطلاق، يحتاج إلى نية(8/323)
ص -327- ... الزوج، أن مراده تفويض أمرها إليها.
والفرق من جهة العربية، أن قوله: أمرك بيدك، يقتضي توكيلها في جميع أمرها، لأن قوله: أمرك، اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، أشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت. وكذا لو قال لأجنبي: أمر زوجتي بيدك، ملك تطليقها ثلاثاً.
تفويض الطلاق للزوجة
قال في الشرح: وإن قال لامرأته: طلقي نفسك، فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عدداً فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نية لم تملك إلا واحدة، لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم؛ وكذلك الحكم لو وكل أجنبياً، فقال: طلق زوجتي، فالحكم على ما ذكرنا.
قال أحمد فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى ثلاثاً، فطلقت نفسها ثلاثاً: فهي ثلاث; وإن كان نوى واحدة لم تطلق إلا واحدة، لأن الطلاق يكون واحدة، ويكون ثلاثاً، فأيهما نواه، فقد نوى بلفظه ما يحتمل، وإن لم ينو تناول اليقين، وهو واحدة.
ثم قال الشارح: ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة، إلا أن يجعل ذلك إليه، لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، إلا أن يجعل إليه أكثر من واحدة، بلفظه، أو نيته، نص عليه، والقول قوله في نيته، لأنه أعلم بها..
ثم قال الشارح: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك، كان(8/324)
ص -328- ... لها أن تطلق ثلاثاً، وإن نوى أقل منها؛ هذا ظاهر المذهب، لأنها من الكنايات الظاهرة، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والزهري، قالوا: إذا طلقت ثلاثاً، فقال: لم أجعل لها إلا واحدة، لم يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت. وعن عمر وابن مسعود: أنها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم، ومالك والأوزاعي. وقال الشافعي: إن نوى ثلاثاً، فلها أن تطلق ثلاثاً، وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثاً، والقول قوله في نيته.
ثم احتج الشارح للقول الأول، بما ذكرناه أولاً، من أن قوله: أمرك، اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، أشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت. انتهى. فإن ادعى الزوج، أنه لم يرد بقوله لزوجته: أمرك بيدك، تفويض الطلاق إليها، فالقول قوله، ما لم يقع ذلك جواباً لسؤالها الطلاق ونحوه. وأما قول العامة: طلقتك على نفسك، فالذي يظهر: أن هذا كناية في الوكالة، تملك به واحدة، وتعتبر نيته أيضاً، أو يكون ذلك جواباً لسؤالها.
وأجاب أيضاً: إذا قال الزوج لامرأته: أمرك بيدك، فإنها تملك ثلاثاً، ولو قال: طلقي نفسك، لم تملك إلا واحدة.(8/325)
ص -329- ... الطلاق لحرمان الزوجة من الميراث
سئل الشيخ حسين وعبد الله: ابنا الشيح محمد، رحمهم الله: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر، أو بثلاثة أيام، أو قال: قبل موتي بثلاثة أيام أنت طالق، وطلب هذا الزوج أن يحرم زوجته من الميراث الشرعي، فهل يقع في الحال؟ أم يجوز له أن يطأها إلى أن يموت؟
فأجابا: الذي نص عليه علماؤنا، رحمة الله عليهم، أنه يجب على الزوج اعتزالها من حين ذلك، لأن كل شهر، أو يوم، يحتمل أن يموت فيه، فتكون قد طلقت قبله في الوقت الذي وقَّته، فإذا وطئها والحالة هذه، احتمل أن يموت، فيكون قد وطئها في حال بينونتها.
وأما إذا عرف أن قصده بكلامه ذلك، حرمانها من الميراث، فإنها ترثه ولو خرجت من العدة، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء؛ وهو الذي تدل عليه قصة عمر، مع غيلان بن سلمة الثقفي، لما طلق زوجاته، وقسم الميراث بين أولاده. وهذه المرأة في حال حياة زوجها، لها حكم الزوجات من النفقة والكسوة والسكنى، لا في الوطء والنظر، فإن ذلك لا يجوز. هذا الذي دل عليه كلام الحنابلة، والله أعلم 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم بعض من مضمونها في صفحة 149.(8/326)
ص -330- ... [ تعليق الطلاق على الماضي والمستقبل ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تعليق الطلاق على الماضي والمستقبل... إلخ؟
فأجاب: التعليق على الماضي، معلوم من الكتاب والسنة، ونحو هذا التعليق يسمى حلفاً، لأن التعليق الذي يقصد به الحث على شيء، أو المنع منه، أو يراد به تصديق خبر، أو تكذيبه، يسمى حلفاً; وأما التعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك، فلا يسمى حلفاً على الصحيح من المذهب. فلو قال: إن كنت فعلت كذا، فزوجتي طالق، وكان قد فعله، حنث. وكذا لو قال: إن لم أكن فعلت كذا، فزوجتي طالق، أو فعبدي حر، وكان لم يفعله، حنث إن لم يتأول، حيث جاز التأويل، كما ذكروه في باب التأويل في الحلف.
وما ذكرتموه من كلام منصور: بأن المعلق عليه لا يكون ماضياً، فلعل مراده إذا تجرد الشرط عن لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد، في رجل قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته، قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث؛ قال القاضي: هذا محمول على أنه قال: إن كنت قد وهبتيه، وإلا فلا يحنث حتى تبتدي هبته. انتهى. فإذا اتصلت كان بأدوات الشرط، جاز كون المعلق عليه ماضياً أو حالاً.(8/327)
ص -331- ... وقال المصنف: وقد يكون المعلق عليه موجوداً في الحال، وقد يكون مستقبلاً، ولا يكون ماضياً، ولذلك تقلب أدوات الشرط الماضي إلى الاستقبال، فدل قوله: وكذلك... إلخ، على أن مراده بقوله: ولا يكون ماضياً إذا تجرد من كان، لأن الماضي إذا اقترنت به كان، لا يكون مستقبلاً، بل يبقى على مضيه، وهي إنما تقلب الماضي إلى الاستقبال إذا لم تقترن بكان، أو يكون أو مضارعاً، فدل قوله: ولذلك تقلب أدوات الشرط 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آخر ما وجد من الجواب.(8/328)
ص -332- ... باب تعليق الطلاق بالشروط
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن تعليق الطلاق... إلخ؟
فأجاب: أما تعليق الطلاق، فالذي عليه أكثر أهل العلم، أنه إذا علقه على شرط ووجد الشرط وقع; وفرق الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم في ذلك، فقالوا: إن كان قصده وقوع الطلاق، كما يقول: إن زنيت فأنت طالق طلقت، وإن كان قصده الحض، أو المنع للمرأة، أو لنفسه عن فعل الشرط، وليس قصده وقوع الطلاق، لم تطلق المرأة بذلك، ويكون يميناً مكفرة، نظراً إلى كونه إنما قصد بذلك الحلف الحض والمنع، لا وقوع الطلاق؛ وهذا هو الذي يختاره شيخنا، ويفتي به.
وأجاب أيضاً: وأما من طلق وعلق الطلاق، ولم يأت بشيء من حروف الشرط، كـ "إذا" و "متى" و "إن"، كقول القائل: إلى جاني حقي فأنت طالق، فمثل هذا ينوى به الشرط والجزاء، على لغة أهل بلده، ولا يشترط أن يأتي باللغة العربية؛ هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم، وأما الدليل فقد يخفى علينا، لكن هذا هو الذي نفتي به ونعمل.(8/329)
ص -333- ... وسئل: إذا علق الرجل طلاق امرأته على شرط، وأراد إبطاله قبل وجود الشرط برجعتها، أو قال: أبطلت ما علقت؟
فأجاب: قال في الإنصاف: إذا علق الطلاق على شرط لزم، وليس له إبطاله، هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، وقطعوا به؛ وذكر في الانتصار والواضح رواية: يجوز فسخ العتق المعلق على شرط، قال في الفروع: ويتوجه ذلك في طلاقه، ذكره في باب التدبير. وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: لو قال: إن أعطيتني، أو إذا أعطيتيني، أو متى أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أن الشرط ليس بلازم من جهته، كالكتابة عنده؛ قال في الفروع: ووافق الشيخ تقي الدين على شرط محض، كإن قام زيد فأنت طالق، قال الشيخ تقي الدين: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء، إن كان معاوضة فهو معاوضة، فإن كانت لازمة فلازم، وإلا فلا يلزم الخلع قبل القول ولا الكتابة، وقول من قال: التعليق لازم، دعوى مجردة. انتهى.
فتحرر: أن التعليق على شرط قسمان:
أحدهما: تعليق محض بلا شرط معاوضة، كقوله: إن قدم زيد فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، وإن خرجت فأنت(8/330)
ص -334- ... طالق، فهذا ليس له إبطاله على قول الجماعة؛ ووافقهم الشيخ تقي الدين على ذلك، وهو الصواب.
القسم الثاني: تعليق بشرط معاوضة، كقوله: إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو متى أعطيتيني، أو إذا... فهذا تعليق بشرط معاوضة، وليس بلازم من جهة الزوج عند الشيخ تقي الدين.
وأما قولك: هل له إبطال الشرط برجعتها؟ فمعلوم: أن الطلاق لا يقع حتى يوجد الشرط، فكيف يراجعها؟ وأما قولك: وهل الطلقتان والثلاث في ذلك سواء؟ فهما سواء ولا فرق بينهما في ذلك بلا نزاع نعلمه.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما من قال لزوجته: إذا جاءني حقي فأنت طالق، وإن نزلت على أهلك فأنت طالق، فأقامت مدة لم تعطه، ولم تنزل على أهلها، فإذا علق طلاقها على ذلك، فالشرط لازم، والتعليق ثابت، ولو اتفقا على إبطاله، وفي الحديث: "ثلاث هزلهن جد وجدهن جد..." 1 الحديث.
وأجاب أيضاً: وأما إذا قال رجل لامرأته: إن فعلت كذا فأنت طالق، ففعلته ناسية، هل يقع الطلاق مع النسيان، والحالة هذه، أم لا؟ فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يحنث في الطلاق والعتاق إذا فعله ناسياً، ولا يحنث في سائر الأيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الترمذي: الطلاق (1184), وأبو داود: الطلاق (2194), وابن ماجة: الطلاق (2039).(8/331)
ص -335- ... مع النسيان، وهذا مذهب متأخري الحنابلة.
والقول الثاني: أنه يحنث في الكل إذا فعله ناسياً، وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد.
والقول الثالث: أنه لا يحنث مع النسيان ولو في الطلاق والعتاق، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، واختاره صاحب الفروع، وقال هذا أظهر؛ وقال في الإنصاف: قلت: وهو الصواب، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 5].
وسئل: عمن قال لواحدة من زوجتيه: أترضين بكل ما أفعل بك، وإلا الحقي بأهلك، فقالت: ما أرضى إلا بالمواساة؟
فأجاب: قوله لها كناية في الطلاق، إن أراد بها الطلاق طلقت، لأنه في معنى التعليق على رضاها، ولم يوجد.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا علق الطلاق على شرط لزم، وليس له إبطاله؛ هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، وقطعوا به، قاله في الإنصاف.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال شخص لزوجته: إن لم تقومي فأنت طالق؟
فأجاب: إذا قامت إبراراً للقسم لم تطلق، وإن لم ينو(8/332)
ص -336- ... الفورية فلا تطلق، ولو تراخى القيام، ويدين في نيته.
وإذا قال لامرأته: إن كنت تبغضيني فأنت طالق، فالعبرة بما قبلها: إن كانت تبغضه، فقد وجد ما علق الطلاق على وجوده، وتطلق حينئذ، وإن كانت لا تبغضه فلا تطلق، وتصدق لكون ذلك لا يعلم إلا من جهتها، تكلمت بذلك أم لا؛ وحيث وقع الاستفتاء يسألها المفتي عن ذلك، وعليها أن تجيب حينئذ بما تعلم في نفسها.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال الرجل لامرأته: إن خرجت فأنت طالق، وكرره ثلاثاً، ثم خرجت؟
فأجاب: تطلق ثلاثاً ولو لم ينو شيئاً، وإن ادعى إرادة الإفهام بالتكرار قبل منه.
وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: إذا قال لزوجته: إن خرجت من داري بغير إذني فأنت طالق، ثم أذن لها تخرج ما شاءت، هل تنحل يمينه؟
فأجاب: نعم تنحل يمينه، صرح بذلك في الإقناع، قال: فصل في تعليقه بالإذن، إذا قال: إن خرجت بغير إذني، أو إلا بإذني، أو حتى آذن لك، فأنت طالق، ثم أذن لها فخرجت مرة بإذنه، ومرة بغير إذنه، طلقت، إلا أن ينوي الإذن مرة، أو يقوله بلفظه; فإن أذن لها في الخروج كلما شاءت لم تطلق. فعلى هذا ينظر في حال الحالف(8/333)
ص -337- ... بالطلاق، هل أراد الإطلاق أو التقييد؛ هذا على كلام الأصحاب، ولا يخفاك أن هذا من أنواع الحلف بالطلاق، ولا يقع للمراء، فكيف والحال ما ذكرت؟ قال ابن القيم في الإعلام: وقد أفتى علي بن أبي طالب في الحالف بالطلاق: لا شيء عليه، ولم يعرف له مخالف من الصحابة - إلى أن قال - والحالف بالطلاق لم يقصد وقوعه، وإنما منع نفسه أو غيره بالحلف بما لا يريد وقوعه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الذي حلف بالطلاق الثلاث، أن لا يفعل كذا وكذا، ثم بدا له فعله، لأن في ترك فعله قطيعة رحم؟
فأجاب: كلام الفقهاء في المسألة: أنه طلاق; والذي يفتي به شيخنا، رحمه الله، وهو مذهب الشيخ تقي الدين، ومن قال بقوله: أن ذلك يمين مكفرة، كأيمان المسلمين، وكفارته كفارة يمين.
وسئل: عمن حلف على امرأته لا تدخل بيت فلان، فدخلت ناسية؟
فأجاب: أما المرأة التي حلف عليها زوجها أن لا تدخل بيت فلان، وعلق طلاقها على دخوله، فدخلته ناسية، فهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد؛ والمذهب عند المتأخرين من(8/334)
ص -338- ... الحنابلة: أن الطلاق يقع وإن كانت ناسية; وعند الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء: أنها لا تطلق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [سورة الأحزاب آية: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان" 1.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما مسألة الحلف بالطلاق الثلاث، فمسألة خلاف، وكلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فيها معروف، ولكن الشيخ محمد، رحمه الله، كثيراً ما يوافق اجتهاده في فتاوى مسائل الخلاف الشيخين، إلا في هذه المسألة، أخذ بقول الجمهور في وقوع الثلاث، سواء أوقعها إنشاء، أو حلفاً بها، أو تعليقاً.
ويلزم الأمير أن يكف الرجل عن فتواه بذلك، وأظنه يحسب أن المفتين في نجد ما علموا بما في المسألة من الخلاف، حتى جاء هو; وعمر رضي الله عنه قد علم ذلك، فهو الذي قال: "استعجلوا أمراً كان لهم فيه أناة، فلو أوقعناه عليهم"، فأوقعه عليهم؛ وهو رضي الله عنه خليفة راشد، قد أمرنا باتباعه، وهو أولى بالاتباع من الشوكاني، الذي هو عمدة هذا المفتي.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد ال) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: من الآية5)لطيف: عمن طلق على وصول دراهم إلى غريمه، ثم تحاسبا، فصدق الغريم، وادعى النسيان، وهو حال الطلاق يظن صواب نفسه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الطلاق (2045).(8/335)
ص -339- ... فأجاب: مسألة الجاهل والناسي، فيها أقوال للعلماء: فعن أحمد: أنه إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً، أو حلف: لا فعلت كذا، ظاناً أنه لم يفعله، حنث في الطلاق والعتاق، ولم يحنث في اليمين المكفرة; وهذه الرواية أخذ بها المتأخرون. والرواية الأخرى: أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق، وهذا قول عطاء وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح وإسحاق وابن المنذر، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لقول الله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: من الآية5) ) وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ )الطلاق: من الآية2) [سورة الأحزاب آية: 5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطإ والنسيان، وما استكرهوا عليه" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الطلاق (2043).(8/336)
ص -340- ... باب الرجعة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ما مقدار المدة التي تجوز فيها المراجعة؟
فأجاب: أما مقدار مدة المراجعة، فمتى طلق زوجته ثلاث تطليقات، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن كان لم يطلقها إلا طلقة أو طلقتين، فله رجعتها ما دامت في العدة; والعدة ثلاث حيضات إن كانت تحيض، وإلا بوضع الحمل إن كانت حاملا، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرة ما تحيض، أو آيسة.
وأجاب أيضاً: والرجل إذا طلق زوجته طلقة، ولم تخرج من العدة، جاز له مراجعتها ووطؤها، وأما إذا خرجت من العدة، فلا يجوز له مراجعتها ووطؤها. وإذا طلقها ثلاثاً في مجلس واحد، لم يجز له مراجعتها إلا بعد زوج، وإذا كان دعوى الرجعة بعد العدة لم تقبل، وتتزوج المرأة ولا يلتفت إلى شيء بينه وبين نفسه، والإثم في عنقه وليس له عليها حجة؛ حتى إن بعض العلماء قال: إذا راجع الزوج في العدة بشهود، وكتم الشهود، أدبوا على ذلك.(8/337)
ص -341- ... ومنهم من يمنع الرجعة عليه تأديباً له، لأن ذلك تحيل على تضييع النفقة أو غيرها، قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }الطلاق: من الآية2) ) مِنْ نِسَائِهِمْ )(المجادلة: من الآية2)} [سورة الطلاق آية: 2].
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن طلق زوجته رجعية وغاب، ثم استرجعها في غيبته، وأشهد فلم يجد من يخبرها، فلما اعتدت تزوجت وحملت؟
فأجاب: إذا ثبت بشهادة رجلين عدلين أنه ارتجعها في العدة، فهذا النكاح الثاني باطل، لأنها زوجة غيره وترد على زوجها الأول؛ قال في الشرح: هذا هو الصحيح، وهو مذهب أكثر الفقهاء. انتهى. والولد يلحق الزوج، لأنه وطء شبهة، وتعتد منه بوضع الحمل، إلا إن أتت به لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، فهو ولد الأول، لأنه لا يمكن أن يكون إلا منه فلحقه، وتعتد من الثاني بثلاثة قروء، كعدة النكاح الصحيح، ولا يقربها الزوج الأول ما دامت في عدة الثاني.
حكم الإيلاء
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا آلى من زوجته... إلخ؟
فأجاب: وأما المولي من زوجته، فإذا فاء قبل مضي المدة فعليه الكفارة، وإن مضت المدة وقف؛ فإن وقتها بوقت معلوم، ومضى الوقت المعلوم لم يحنث. فإن حلف بلا توقيت، وقت له ما ذكر الله أربعة أشهر، فإن فاء فعليه الكفارة أيضاً، وإن طلق فلا كفارة عليه؛ هذا الذي أفهم الآن.(8/338)
ص -342- ... كتاب الظهار
سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عمن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي؟
فأجاب: الذي يقول: أنت علي مثل ظهر أمي، فعليه كفارة ظهار 1.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال: أنت علي حرام إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا؟
فأجاب: هو ظهار، لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكر من الاستثناء بغير خلاف؛ وقول بعضهم: إنما فيه كفارة كاليمين بالله، والظهار لا يحنث إن استثنى فيه وقال: إن شاء الله، محله: إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك، لا على نفس اليمين؛ قال ابن مفلح في هذا البحث: وكلامهم يقتضي إن رده، أي يمينه إلى الاستثناء، لم ينفعه لوقوعها، ولتبين مشيئة الله، وبه احتج الموقع في: أنت طالق إن شاء الله; وقال أبو يعلى الصغير، في اليمين بالله، ومشيئة الله. وتحقيق مذهبنا: أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه وإلا فلا، وفي الطلاق المشيئة انطبقت على اللفظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم في صفحة 211 ذكر المرتدة التي ظاهر منها زوجها.(8/339)
ص -343- ... بحكمه الموضوع، وهو الوقوع. انتهى.
وقال شيخ الإسلام: الاستثئاء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك لا يتعين فعله لتعليقه، لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه; وقال رحمه الله: الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها، لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها، فإنها واجبه بوجود أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاء الله تعالى، وإنما يعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها، وقد لا يشاؤها. وقال في هذا المبحث أيضاً: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى: إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه، فلا يكون ملتزماً له، وإلا فلو نوى عوده في الحلف، بأن يقصد: إني حالف إن شاء الله من أن أكون حالفاً، كان معنى هذا الاستثناء في الإنشاءات، كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه. وأيضاً، فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله، فوقع ما علق عليه. ومن فقه هذا، عرف معنى كلام الفقهاء، وما المراد بالاستثناء المانع من الحنث; والواجب على المفتي والقاضي: أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما أحسن ما(8/340)
ص -344- ... قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تَبَصُّرِ
وأيضاً، فإن المظاهر في مثل هذه الصورة، لا يقبل منه دعوى الاستثثاء لو كان راجعاً إلى الفعل إلا ببينة عادلة، لأن الظهار ثبت بشهادة الغير، فلا بد من شهادة على الاستثناء؛ ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضاً، لأنها له وإقراره بالظهار عليه، وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 الحديث. وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن المظاهر إذا لم يملك إلا ثمن الرقبة، هل تلزمه؟
فأجاب: قال في الكافي بعد ذكر الآية والحديث: فمن ملك رقبة أو مالاً يشتري به رقبة، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه، وما لا بد له منه من مؤنة عياله ونحوه، لزمه العتق، لأنه واجد؛ وإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لم يلزمه عتقها، لأن ما استغرقته حاجته كالمعدوم، انتهى. وقال غيره نحو ذلك، حتى قالوا: إن كان عليه دين ولو لم يكن مطالباً به، أو له دابة يحتاج إلى ركوبها، أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم، أو له عقار يحتاج إلى غلته، أو عرض للتجارة ولا يستغنى عن ربحه في مؤنته ومؤنة عياله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552), ومسلم: الأقضية (1711), والنسائي: آداب القضاة (5425), وابن ماجة: الأحكام (2321), وأحمد (1/363).(8/341)
ص -345- ... وحوائجه الأصلية، لم يلزمه العتق، يعني: وينتقل إلى الصوم. وقال في الإرشاد للشافعية نحو ذلك.
وسئل: إذا انتقل المظاهر إلى صيام شهرين، هل يشترط أن لا يكون فيهما يوم عيد؟ وهل من أفطر فيهما شيئاً من الأيام يكفيه قضاء ذلك اليوم.... إلخ؟
فأجاب: قال في الكافي: ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام، لزمه صيام شهرين متتابعين؛ فإن شرع في أول شهر، أجزأه صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا أو ناقصين. وإن دخل في أثناء شهر، صام شهراً بالهلال، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً؛ فإن أفطر يوما لغير عذر، لزمه استئناف الشهرين، لأنه أمكنه التتابع. وإن حاضت المرأة أو نفست، أو أفطرت لمرض مخوف، أو جنون أو إغماء، لم ينقطع التتابع، لأنها لا صنع لها في الفطر. وإن أفطر لسفر، فظاهر كلام أحمد أنه لا ينقطع التتابع، لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض؛ ويتخرج في السفر والمرض غير المخوف، أنه ينقطع التتابع، لأنه أفطر باختياره.
وإن أفطر يوم عيد فطر أو أضحى، أو أيام التشريق، لم ينقطع به التتابع، لأنه فطر واجب، ويكمل الشهر الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً، لأنه بدأ من أثنائه; وإن صام ذي الحجة قضى أربعة أيام، وحسب بعدد ما أفطر، لأنه بدأ من أوله. وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان، لم ينقطع(8/342)
ص -346- ... التتابع، لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة، أشبه زمن الحيض. اهـ.
وسئل: إذا ظاهر منها وتمت عدتها، هل تزوج وتصير مظاهرته محل طلاق؟
فأجاب: لا يكون الظهار طلاقاً وإن نوى به الطلاق أو صرح به؛ قال في الإقناع وشرحه: وإن قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهو ظهار، ولا يقع به الطلاق ولو نواه وصرح به فقال بعد قوله: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق، لم يصر طلاقاً، لأنه لا تصلح الكناية به عندهم؛ ذكره في الشرح والمبدع. انتهى. وقال في الكافي وغيره نحو ذلك.
وقال في الإرشاد للشافعية: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام كظهر أمي، فله أحوال - إلى أن قال – الخامس: أن يعكس فينوي بالحرام الظهار، وبالآخر الطلاق، فيصح الظهار فقط، لأن قوله: كظهر أمي، لا يصلح كناية عن الطلاق. انتهى. وقاله في شرح الرسالة.
وأما حكم الظهار، فقال أيضاً في الإقناع وشرحه: ويحرم على مظاهِر ومظاهَر منها الوطء قبل التكفير، للآية ولحديث ابن عباس؛ ومن مات منهما ورثه الآخر، ولو مات أحدهما أو طلقها المظاهر قبل الوطء فلا كفارة عليه. وإن عاد المظاهر قبل الوطء فتزوجها، لم يطأها حتى يكفِّر. انتهى ملخصاً. وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك.(8/343)
ص -347- ... وأما إذا ظاهر من زوجته ولم يكفِّر، إضراراً بها بلا عذر، وطلبت زوجته منه ذلك، فقد ذكر بعض فقهاء الحنابلة: أن حكمة كحكم المولي من زوجته، فتضرب له مدة أربعة أشهر؛ فإذا مضت الأربعة الأشهر ولم يكفر ويطأ، أو يفيء بلسانه إن كان له عذر، ورافعته إلى الحاكم، أمره الحاكم بذلك، فإن أبى أمره الحاكم بالطلاق إذا طلبته الزوجة، فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه بعد طلب الزوجة، فإن طلق عليه الحاكم طلقة أو طلقتين أو فسخ صح ذلك، لأن الحاكم قائم مقام الزوج لأنه نائبه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن ظهار العبد؟
فأجاب: الذي عليه جمهور العلماء، أن الظهار يصح من كل زوج يصح طلاقه؛ قال في الإنصاف: وهذا هو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. فيصح ظهار الصبي حيث صححنا طلاقه، قال في عيون المسائل: سوى أحمد بينه وبين الطلاق - إلى أن قال - تنبيهان:
أحدهما: شمل قوله: يصح من كل زوج يصح طلاقه: العبد، وهو الصحيح وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الفروع وغيره; وقيل: لا يصح; والذي يترجح عندي هو قول جمهور العلماء.
سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ: إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو قاله لمن أبانها ثم تزوجها؟(8/344)
ص -348- ... فأجاب: الأمر كما قال صاحب المحرر، وعليه تدل نصوص أحمد، قال في الإقناع: وإن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي، أو إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، فتزوجها، لم يطأها حتى يكفِّر كفارة ظهار، لأنه إذا تزوجها تحقق معنى الظهار بينهما. وعلم صحة الظهار من الأجنبية روى ذلك الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، أنه قال في رجل قال: "إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، فقال عمر: كفارة الظهار" قال الشارح: لأنها يمين مكفرة، فصح عقدها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى، والآيات خرجت مخرج الغالب، وهي قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ}[المجادلة: 2].
والفرق بينه وبين الطلاق: أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا يمكن حله قبل عقده، والظهار: تحريم للوطء، فيجوز تقديمه على العقد. وإنما اختص حكم الإيلاء بنسائه لكونه يقصد الإضرار بهن، والكفارة في الظهار لكونه من المنكر والزور، فلا يختص تلك بنسائه.
وسئل: إذا ظاهر منها وقتاً، وجامع قبل المدة، هل إذا مضى الوقت المحدود قبل التكفير، حكمه حكم المظاهر منها مطلقاً؟
فأجاب: قال في الإقناع وشرحه: وإن وطئ المظاهر منها قبل التكفير أثم، واستقرت علية الكفارة ولو مجنوناً،(8/345)
ص -349- ... فلا تسقط بعد ذلك كالصلاة، وتحريم المظاهر باق عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به" 1، وتجزئه كفارة واحدة، لحديث سلمة بن صخر، ولأنه وجد الظهار والعود في عموم الآية.
[ كفارة الظهار ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن كفارة الظهار؟
فأجاب: أما كفارة الظهار فهو عتق رقبة، فإن كان ما يقدر فلا بد أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن لم يستطع الصيام أطعم ستين مسكيناً.
وأجاب الشيح عبد الرحمن بن حسن: وأما مسألة المظاهر، فاعلم أنه يجب على المفتي أن يعتبر شواهد أحواله، فإذا عرف شاهد الحال أنه يقدر على أن يصوم شهرين متتابعين، فلا يجوز للمفتي أن يفتح له باب الرخصة في الإطعام، بمجرد قوله لا أستطيع الصيام.
وسئل: عن كفارة ظهار المملوك، هل هو كالحر؟
فأجاب: العبد كالحر في كفارة الظهار، غير أن العبد لا يكفِّر إلا بالصوم، بناء على المشهور في مذهبنا وغيره، لأنه لا يملك؛ قال في المنتهى: فإن لم يجد صام حر أو قن شهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطلاق (1199), وابن ماجة: الطلاق (2065).(8/346)
ص -350- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل تكفِّر المرأة... إلخ؟
فأجاب: والمرأة إذا حلفت بالظهار، فليس عليها إلا كفارة يمين.
سئل الشيخ علي بن الشيخ حسين: عن سفر المظاهر، هل يقطع التتابع؟
فأجاب: قال في الإقناع وشرحه: سفر المظاهر إذا أفطر فيه لا يقطع التتابع، وقال في موضع آخر: إذا تخلله فطر السفر أو المرض المبيحان للفطر في السفر، لم ينقطع التتابع، أو تخلله فطر حامل أو مرضع، لخوفهما على أنفسهما أو على ولديهما، لم ينقطع التتابع، لأنه فطر أبيح لعذر.(8/347)
ص -351- ... كتاب العدد
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن تزوج امرأة بلا ولي، هل تعتد إذا طلقها؟
فأجاب: إن كان قد دخل بها، فتعتد عدة كاملة بلا خلاف.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن دخل بها ولم يطأها؟
فأجاب: الذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها.
وأجاب أيضاً: والمرأة التي يملك عليها الرجل، ثم يموت ولم يطأها تلزمها العدة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الذي دخل بامرأة وأغلق باباً، وأرخى حجاباً، وأقرا أنه لم يجر بينهما جماع، فالذي عليه أهل العلم: أن العدة تجب في هذه الصورة.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما العدة فتجب في النكاح الفاسد بمجرد الخلوة، وكذا تجب عليها عدة الوفاة، على الصحيح من(8/348)
ص -352- ... المذهب. ولا تجب العدة في النكاح الباطل إلا بالوطء إجماعاً، ولا تجب به عدة الوفاة؛ قال في الإنصاف: وإن كان النكاح مجمعاً على بطلانه، لم تعتد للوفاة من أجله، وجهاً واحداً؛ وذكر قبل ذلك وجوب العدة بالنكاح الفاسد، قال: وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب، ونص عليه الإمام أحمد.
وقال ابن حامد: لا عدة بالخلوة في النكاح الفاسد، بل بالوطء كالنكاح الباطل إجماعاً; وفي الإنصاف أيضاً: وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد، كالنكاح المختلف فيه، فقال القاضي: عليها عدة الوفاة، نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد، وهو المذهب، اختاره أبو بكر وغيره، وقدمه في الفروع والرعايتين والحاوي، والمحرر والنظم وغيرهم. وقال ابن حامد: لا عدة عليها للوفاة. انتهى.
وقال في الشرح الكبير، لما تكلم في حكم النكاح الباطل، كمن نكح ذات محرمه، أو معتدة من غير الخلوة بها، كالخلوة بالأجنبية: لا يوجب عدة، وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة; وإن وطئها اعتدت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها، سواء فارقها أو مات عنها، كالمزني بها من غير عقد. فأما إن نكحها نكاحاً مختلفاً فيه فهو فاسد، فإن مات عنها، فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة؛ وهو اختيار أبي بكر. وقال أبو عبد الله بن حامد:(8/349)
ص -353- ... ليس عليها عدة الوفاة، وهو مذهب الشافعي، لأنه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل. فعلى هذا، إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها، وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء. ووجه الأول: أنه نكاح يلحق به النسب، فوجبت به العدة كالنكاح الصحيح، بخلاف الباطل، فإنه لا يلحق به النسب. انتهى.
وأما عبارة المنتهى، وهي قوله: لا فرق في عدة وجبت بدون وطء، فلا إشكال فيها، لأن العدة تجب بمجرد الخلوة بدون وطء، على المذهب، ولا معارضة في ذلك للآية.
وأما قولك: قد أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، فليس ذلك بصواب; وأظن أن سبب الإيهام: أن هذه العبارة عندكم في مختصر الشرح هكذا، كما هي عندنا كذلك، وسقط من العبارة لفظ: الخلوة؛ فالصواب في العبارة: أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس والخلوة لا عدة عليها.
وعبارة الشرح: كل امرأة فارقها زوجها قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها، أجمع العلماء على ذلك، ثم قال بعد ذلك: ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس. فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها، فإن العدة تجب عليها، روي ذلك عن الخلفاء(8/350)
ص -354- ... الراشدين، وزيد وابن عمر، وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزهري والثوري، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، والشافعي في قديم قوليه. وقال في الجديد: لا عدة عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [سورة الأحزاب آية: 49]، هذا نص، ولأنها مطلقة لم تمس أشبهت من لم يخل بها.
وأما إجماع الصحابة، فروى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زائدة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون: أن من أرخى ستراً أو أغلق باباً فقد وجب المهر، ووجبت العدة. ورواه أيضاً عن الأحنف عن عمر وعلي، وعن سعيد بن المسيب عن ابن عمر وزيد بن ثابت؛ وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعاً. وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك، ولأنه عقد على المنافع، فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام كعقد الإجارة، والآية مخصوصة بما ذكره، ولا يصح القياس على من لم يخل بها، لأنه لم يوجد التمكين. انتهى.
وقال في الإنصاف: وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدة، سواء كان بها أو بأحدهما مانع من الوطء، كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجبّ والعنَّة، أو لم يكن؛ هذا المذهب مطلقاً بشرطه الآتي، سواء كان المانع(8/351)
ص -355- ... شرعياً أو حسياً، كما مثل المصنف وعليه جماهير الأصحاب - إلى أن قال - إلا أن لا يعلم بها كالأعمى والطفل فلا عدة عليها، وكذا لو كانت طفلة، وهذا هو المشار إليه بقوله في شرطه الآتي.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن المعتدة من الوفاة ما تفعل؟
فأجاب: تعتد أربعة أشهر وعشراً، تلزم فيها البيت الذي توفي عنها فيه.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن توفي زوجها وفي بطنها جنين ميت.
فأجاب: المرأة التي توفى عنها زوجها وفي بطنها جنين ميت، ويأتيها الدم تارة وتارة ينقطع عنها، فالذي أفهم أنها تصير في عدة حتى تضع الحمل، مع أني لم أقف على كلام لأهل العلم في هذه المسألة.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أكثر مدة الحمل إذا كانت أربع سنين على المشهور في مذهبنا، فهل لها إذا انقضت أن تتزوج ولو ارتابت؟
فأجاب: قد ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله، في تحفة المودود، أنه قد وجد لخمس سنين وأكثر منها إلى سبع؛ فعليه، لا تمكن من التزويج إلا بعد تيقن براءة رحمها.(8/352)
ص -356- ... وسئل: عن المرأة يأتيها الدم ولا تحققت خروج الولد، هل تبقى في عدة ولو أكثر من أربع سنين... إلخ؟
فأجاب: الذي أرى أنها باقية في العدة ما لم تحقق سقوطه؛ والتحديد بأربع سنين الظاهر أنه اعتبار بالغالب، وإلا فقد يبقى أكثر من ذلك كما حققه ابن القيم، وهو مشاهد اليوم. وأما تكرار الدم عليها في كل شهر، فيحتمل أنه دم فساد; وأيضاً عند الشافعي، ورواية عن أحمد، رحمه الله: أن الحامل تحيض.
وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن امرأة حبلى، لها أربع سنين، وتدعي أنه مضى من الخامسة سبعة أشهر، وتجد في بطنها مثل الرمانة الكبيرة يتحرك، وزوجها متوفى، والقوابل يقلن: في بطنها جنين، ومعلومك أكثر مدة الحمل؟
فأجاب: المرأة المذكورة في عدة إلى الآن، والله أعلم.
وسئل أيضاً: عن زوجة تحرك حملها في الشهر السادس، ثم في التاسع مرة، ثم سكن بعد ذلك، وطلقها زوجها، والآن قد قاربت أربع سنين بعد دعواها الحمل، فهل لها أن تتزوج؟ وما حكم نفقتها؟
فأجاب: قال في المنتهى وشرحه لمنصور:(8/353)
ص -357- ... والمعتدات ست: إحداهن الحامل، وعدتها من موت وغيره، كطلاق وفسخ، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كافرة، إلى وضع كل الولد إن كان الولد واحداً، أو وضع الأخير من عدد إن كانت حاملاً بعدد، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كافرة، طلاقاً كانت الفرقة أو فسخاً، لعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 4]. وبقاء بعض الحمل يوجب بقاء بعض العدة، لأنها لم تضع حملها بل بعضه، وظاهره ولو مات ببطنها، لعموم الآية. قلت: ولا نفقة لها حيث تجب للحامل، ويأتي أن النفقة للحمل والميت ليس محلًا لوجوبها. انتهى.
ومراده بقوله: حيث تجب للحامل، هي البائن، لأن الرجعية تجب نفقتها مطلقاً؛ فظهر أن المرأة المسؤول عنها: إن كانت قد تحققت الحمل، لا تزال في عدة إلى أن تضع، وأن النفقة لا تجب لها إن كانت بائناً وتحقق موت الحمل؛ هذا ما ظهر لي.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن قولهم في المطلقة: عليها أطول الأجلين، من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر.
فأجاب: صورة المسألة على ما صورته في السؤال، وأما الخلاف: فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه: أن المطلقة البائن في مرض الموت، تعتد أطول(8/354)
ص -358- ... الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وهذا مذهب أبي حنيفة; وقال مالك والشافعي: تبني على عدة الطلاق.
وأجاب أيضاً: وأما المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة، فإذا كانت رجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف بين العلماء، وإن كانت بائناً بنت على عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته، فتعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة، أو ثلاثة قروء. وعند مالك والشافعي: أنها تبني على عدة الطلاق، لأنها بائن وليست بزوجة، كما لو طلقها في الصحة. فأما إذا كان الطلاق البائن في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة: تعتد أطول الأجلين.
وأجاب أيضاً: المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة، فإن كان طلقها في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما البائن في الصحة، فلا يلزمها إحداد إذا مات زوجها وهي في عدته، ولا تنتقل عن عدة الطلاق بل تتم عدة الطلاق فقط، ولا يستحب لها الإحداد.
وأجاب بعضهم: إذا طلق رجل زوجته ثم مات وهي في العدة، فإن كان الطلاق رجعياً فهي تستأنف العدة أربعة أشهر وعشراً، وإن كان بائناً وهو مطلق في الصحة، فتبنى(8/355)
ص -359- ... على عدتها الأولى، وليس عليها إحداد. فإن كان بائناً وطلق في المرض فعليها أطول الأجلين، من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن عدة التي تحيض؟
فأجاب: تعتد بثلاث حيض.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أما عدة التي تحيض: فثلاث حيض سواء كان ذلك طلاقاً أو فسخاً؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء.
وسئل: عن قولهم: أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة؟
فأجاب: التي ذكروها في العدد، أن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة، مبني على أن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر، فإذا طلقها في آخر الطهر، وقد بقي من الطهر لحظة، ثم حاضت يوماً وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً، ثم حاضت يوماً وليلة، ثم طهرت، فقد انقضت عدتها؛ ومجموع ذلك: تسعة وعشرون يوماً ولحظة، وهذا هو أقل ما تنقضي به العدة. فإذا ادعت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، وأقامت البينة على ذلك صُدّقت، ولا تقبل دعواها إلا ببينة، لأن هذا لا يقع إلا نادراً.
سئل بعضهم: إذا ادعت المرأة أنها حاضت ثلاث(8/356)
ص -360- ... حيض؟
فأجاب: المرأة مقبولة فيما ادعت من الحيض، إلا أن تدعي أنها حاضت ثلاثاً في شهر، فلا تقبل إلا ببينة مأمونة.
وأجاب بعضهم: إذا ادعت المرأة أنها حاضت ثلاث حيض في عدة أيام يمكن فيها قبلت دعواها، وإذا قيل: القرء الأطهار، وطلقت المرأة في طهر أصابها فيه فهو طلاق بدعة، وتعتد بالطهر الذي طلقها فيه، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة، فقد برئت منه. وإن قلنا: القرء الحيض، فإذا طهرت من الثالثة فقد برئت منه، فإن طلقها في حيض لم تعتد بتلك الحيضة.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا ادعت أنها اعتدت بعد الطلاق، في وقت تمكن العدة فيه تُصَدَّق، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية [سورة البقرة آية: 228]. وإذا شهدت امرأة عدل أنها حاضت ثلاث حيض وهو يمكن، قُبِلَت؛ والأحوط شهادة امرأتين.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن امرأة تزوجت وهي صغيرة، ثم طلقها زوجها قبل البلوغ، ثم حاضت أول حيضها بعد طلاقها بشهر ونصف، ثم حاضت الحيضة الثانية بعد سنة، هل يصح تزويجها قبل الحيضة الثالثة؟(8/357)
ص -361- ... فأجاب: لا يصح تزويجها حتى تحيض الحيضة الثالثة، لأنها صارت من ذوات الأقراء، وطول المدة على هذه الحال ما يحصل به فراغ العدة؛ واعتداد الصغيرة بالأشهر يبطل، إذا وجد الحيض قبل تمام ثلاثة الأشهر، ويكون اعتدادها بثلاث حيض.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الراجح عنده في عدة المرضع... إلخ؟
فأجاب: المعمول عليه عندهم: إلى أن يزول الرضاع; وعند الشيخ تقي الدين: إذا قامت سنة ولو كانت ترضع، ولا أعلم دليلاً يعارض كلامه.
وسئل: عن قولهم: ولا تدري ما رفعه، أي الحيض، تعتد بسنة، أو علمت؟
قال: لا أعلم للفرق وجهاً ولا دليلاً.
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، رحمهما الله تعالى: عمن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه فاعتدت بسنة، ثم عاودها الدم قبل مضي السنة؟
فأجاب: ترجع وتعتد بالحيض ولا تحتسب بما تقدم، كالبكر إذا اعتدت بالأشهر، ثم جاءها الحيض فإنها تعتد بالأقراء.
وأجاب أيضاً: وأما التي ذكرت، فعدتها بالحيض أو(8/358)
ص -362- ... تمام السنة، وإن كانت اعتدت فلا تجوز إلا بعقد، ولا يمكن منها وإن كان له عليها حجة، ولا يقبل الواحد، ويحلف الزوج.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: صرح الفقهاء من الحنابلة والشافعية: بأن المعتدة إذا علمت ما رَفَعَ حيضها من رضاع أو نفاس أو مرض، أو خوف أو قحط أو ضيق عيش وجوع ونحو ذلك، فإنها لا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدة الآيسة؛ نص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وأبي طالب وابن منصور، وهو المجزوم به عند المتأخرين من الأصحاب، والمحققين من الشافعية، لقصة حبان بن منقذ وزوجته وهي مشهورة. وهذه المرأة المسؤول عنها، تذكر أنها عالمة بما رفع حيضها وهو الرضاع، فلا تزال في عدة حتى يعودها، أو تبلغ سن الإياس، على هذا القول المعتمد من الأقوال.
وسئل: إذا ارتفع حيض المرأة مدة طويلة لا تدري ما رفعه، وهي تلك المدة مع زوج، ثم طلقها هل تعتد بسنة أو ثلاثة أشهر؟
فأجاب: إنما تعتد بسنة من الطلاق، قال في شرح الإقناع: من ارتفع حيضها ولو بعد حيضة أو حيضتين لا تدري ما رفعه، اعتدت بسنة منذ انقطع بعد الطلاق؛ فإن(8/359)
ص -363- ... كان انقطاعه قبل الطلاق، فتعتد تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدة. انتهى. والقاعدة: عود الضمير إلى أقرب مذكور، فقد عرفت: أن العدة المسؤول عنها: سنة من الطلاق.
وأجاب أيضاً: الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: إذا طلقها بعد وضعها، ومن عادتها أنها لا تحيض إلا بعد الفطام، فإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع ونحوه كنفاس، فإنها لا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به وإن طال الزمن، لأنها مطلقة لم تيأس من الدم، فيجب عليها العدة بالأقراء وإن تباعدت، كما لو كانت ممن بين حيضتها مدة طويلة أو تصير إليه، يعني أو تصير إلى سن الإياس فتعتد عدتها، أي: عدة الآيسة؛ نص على ذلك في رواية صالح وابن منصور. وعنه: تنتظر زوال ما رفع الحيض، ثم إن حاضت اعتدت بالأقراء، وإلا اعتدت بسنة. انتهى من شرح المنتهى.
ووجه الأول: ما رواه الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، أخبره: "أن حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي مرضع، فمكثت سبعة شهور لا تحيض، منعها الرضاع، ثم مرض حبان، فقيل له: إن مت ورثتك فجاء إلى عثمان، وأخبره بشأن امرأته وعنده علي وزيد، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ قالا: نرى أنها(8/360)
ص -364- ... ترثه إن مات ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، وليست من اللائي لم يحضن، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير. فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة ثم أخرى، ثم مات قبل أن تمضي الثالثة، فاعتدت عدة الوفاة فورثته"، رواه مالك، والبيهقي عن محمد بن حبان بنحوه.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما المرأة التي لم تحض، فإن عرفت السبب الرافع للحيض، من رضاع أو مرض أو غير ذلك، انتظرت زوال السبب المانع، والحيض بعده، وإن كانت لا تعلم السبب الرافع للحيض، فعدتها سنة بعد وقوف الحيض عنها، ثم تزوج.
وأجاب أيضاً: إذا طلقت في الحيض، وارتفع حيضها بعد تلك الحيضة التي في الطلاق، فإن كانت تعلم ما رفع حيضها من جوع، أو مرض أو كبر أو روع طلاق أو غيره يزيل المانع، فتجلس حتى تحيض ثلاث حيض، وإن كانت لا تعلم ما رفعه، فتجلس اثني عشر شهراً، تسعة عن الحمل استبراء، وثلاثة عدة.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا طلقت المرأة وحاضت حيضة أو حيضتين، ثم أمسكت عنها ولا تدري ما رفعه حتى مضت سنة، فتزوج بعد تسعة أشهر للحمل،(8/361)
ص -365- ... لأنها مدته غالباً، وثلاثة أشهر عدة آيسة؛ قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر، علمناه فصار إجماعاً، وأما إذا طلقت وهي ترضع، فهي في عدة حتى يأتيها الحيض، فتعتد به ثلاث حيض، أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر.
[ فصل في صفة الإحداد ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن صفة الإحداد؟
فأجاب: الإحداد واجب في عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، أو شهران وخمسة أيام إن كانت أمة، فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، وذلك على الحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة؛ فيحرم على المحادة الزينة، كالكحل والخضاب، والطيب والحلي، واستعمال الأدهان المطيبة، وما صبغ من الثياب للزينة، كالأحمر والأصفر ونحوهما، ويباح لبس الأبيض، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، وغسل رأسها بالسدر، والمشط، واستعمال الدهن غير المطيب. ويجب عليها عدة الوفاة، في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، إلا لعذر من خوف أو هدم ونحوهما، ولا تخرج من منزلها ليلاً، ولها الخروج نهاراً لحوائجها. وتجب العدة من حين الموت.
وأجاب أيضاً: ذكر أهل العلم أنها تجتنب ثلاثة(8/362)
ص -366- ... أشياء: أحدها: الطيب. والثاني: الزينة، فلا تختضب ولا تحمر وجهها، ولا تكتحل بالإثمد إلا لضرورة، فإن اضطرت إليه، اكتحلت بالليل ومسحته بالنهار، ولا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الحلي كله حتى الخاتم. والثالث: المبيت في غير منزلها، فيجب عليها أن تبيت فيه دون غيره. وهذه الأمور التي نص عليها الفقهاء، هي التي يجب عليها اجتنابها.
وأجاب أيضاً: وأما المتوفى عنها زوجها، فذكر أهل العلم: أن لها الخروج لحوائجها نهاراً، ولو وجدت من يقضيها، وأما في الليل فلا تخرج ولو لحاجة، وكذلك لا تخرج نهاراً لغير حاجة.
وسئل أيضاً: إذا كان للمتوفى عنها نخل، والمنزل خارج النخل، هل لها الجلوس فيه؟ وقضاء شيء من الحاجات، إذا كان غيرها يكفيها؟
فأجاب: تقدم جوابها، وهو: أن لها الخروج نهاراً لحوائجها، ولو وجدت من يقضيها; وحديث المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جذاذ نخلها، يدل على ذلك؛ قال في المغني: وللمعتدة الخروج في حوائجها نهاراً، سواء كانت مطلقة، أو متوفى عنها; ثم ساق حديث جابر في المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجي فجذي نخلك" 1. ثم قال: وروى مجاهد: "استشهد رجال يوم أحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الطلاق (1483), والنسائي: الطلاق (3550), وأبو داود: الطلاق (2297), وابن ماجة: الطلاق (2034), وأحمد (3/321), والدارمي: الطلاق (2288).(8/363)
ص -367- ... فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتؤب كل واحدة إلى بيتها". وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة، لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش، وشراء ما تحتاج إليه. انتهى.
وأما الخروج إلى المسجد للتراويح، أو قيام رمضان في العشر، فتقدم أن المتوفى عنها لا تخرج من بيتها في الليل، ولو لحاجة; وأما خروجها في النهار للصلاة والدرس، فلم أقف على نص في المسألة، إلا ما تقدم من الرخصة في الخروج نهاراً لحوائجها.
وسئل أيضاً: ماذا تجتنبه المتوفى عنها من جنس الكلام، والتحدث مع قريب أو صديق، إذا كان ذلك من عادتها قبل وفاة زوجها؟
فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها في كلام أهل العلم، والذي يظهر لي من كلامهم: أن المتوفى عنها وغيرها في هذا النوع سواء، فما كانت ممنوعة منه قبل الإحداد، فهو في الإحداد أشد منعاً، وما كان مباحاً لها من هذا النوع، خاصة قبله، فهو مباح فيه، ولم أقف على نص في المسألة بالتفرقة. انتهى. وتقدم جوابه في سلام(8/364)
ص -368- ... الأجنبي على المحادة، في باب الوليمة.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: لا تخرج إلا لحاجة لا بد منها، وتجتنب الزينة من الثياب والكحل، والحناء والحلي والأدهان.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في إحداد ولو جاوزت أربعة أشهر وعشراً؟
فأجاب: الأمر كذلك، هي في إحداد حتى تضع حملها.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن بنت عشر تزوجت، فمات ولم يدخل بها، هل تجتنب الزينة... إلخ؟
فأجاب: عليها عدة الوفاة والإحداد، وهو اجتناب الزينة، ويتقرر لها المهر المسمى.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: هل تحد في ثياب زوجها؟
فأجاب: وأما المرأة فلا يجوز لها أن تحد في ثياب زوجها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.(8/365)
ص -369- ... كتاب الرضاع
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حكم الرضاع؟
فأجاب: أما حكم الرضاع، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
وأجاب أيضاً: القاعدة الكلية: كل ما حرم من النسب حرم من الرضاعة، وأما الرضاع الذي يحرم، فهو: خمس رضعات، ولو في مجلس واحد; وأما الرضاع بعد الحولين، فلا يحرم بإجماع أهل المذهب، والخلاف فيه قديم بين السلف، وأما أهل المذهب فليس فيه عندهم خلاف أنه لا يحرم، وهو المفتى به عندنا.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الرضعة وهي المصة، والرضعتان وهي المصتان، فإذا كان قد تزوجها فلا تحرم عليه، وإن لم يكن تزوجها، فالورع تركها، لأجل الخلاف بين العلماء.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الرضاع بعد الحولين؟
فأجاب: الرضاع بعد الحولين، لا يجوزه الشيخ، وابن القيم.(8/366)
ص -370- ... وأجاب ابنه: الشيخ حسين: والبنت إذا ارتضعت وهي ابنة أربع سنين، أو خمس، فرضاعها ذلك لا يحرم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن رضع من امرأة خمس رضعات معلومات؟
فأجاب: يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها من النسب والرضاع، وكذلك بنات الفحل الذي حملت المرأة منه، يحرم على الرضيع بناته وأخواته وعماته وخالاته.
وسئل أيضاً: إذا أرضعت امرأة طفلاً، وله إخوة وأخوات لم يرتضعوا منها، ولها بنون وبنات، هل يجوز لإخوته وأخواته أن يتزوجوا من أولاد التي أرضعته؟ والعكس؟
فأجاب: إذا أرضعت المرأة طفلاً رضاعاً يحرم شرعاً في الحولين، صار الطفل ابنا للمرضعة، وابنا لزوجها الذي نسب الحمل إليه، فصار في التحريم والخلوة ابناً لهما، وأولاده أولادهما وإن نزلت درجتهم، وجميع أولاد المرضعة من زوجها ومن غيره، وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها، إخوة للمرتضع وأخواته، وإن نزلت درجتهم.
وأما المرتضع، وهو المسؤول عن إخوته، فالحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى من في(8/367)
ص -371- ... درجته من إخوانه وأخواته، ولا إلى أعلى منه، كأبيه وأمه؛ فلا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع من النسب، ولا نكاح أخته وعمته، ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع.
وأجاب بعضهم: تباح أم المرتضع وأخته من النسب، لأبيه وأخيه من الرضاع، لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة، لا في مقابلة من يحرم من النسب؛ والشارع صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، لا ما يحرم بالمصاهرة. وتباح المرضعة وابنتها لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وتباح أخت ابنه وأم أخته من الرضاع، ويحرمان من النسب، لأن أخت ابنه من النسب ربيبة، وأم أخته من النسب زوجة أبيه، فأخت ابنه وأم أخته يحرمان من النسب، ويباحان من الرضاع.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا بطل العقد في النكاح قبل الدخول برضاع، هل يرجع الزوج بما أعطى الزوجة؟
فأجاب: إن ثبت الرضاع ببينة فلا مهر لها، ويرجع به لبطلان العقد من أصله، فوجوده كعدمه; وإن أقر به الزوج، وصدقته المرأة على إقراره، فكذلك، لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل، أشبه ما لو ثبت ببينة; وإن كذبته ولا بينة له، فلها نصف المهر وإن قالت هي ذلك وأكذبها(8/368)
ص -372- ... الزوج، ولا بينة لها، فهي زوجته حكماً، لأنه لا يقبل قولها في فسخ النكاح؛ هذا حاصل كلام الفقهاء في دعوى الرضاع قبل الدخول.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن تحته امرأة، وأراد أن يتزوج أخرى، وادعت زوجته: أنها أرضعت التي أراد أن يتزوجها؟
فأجاب: هذه لا تقبل شهادتها في مثل هذه الصورة، لأجل التهمة، والله أعلم 1.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة... إلخ؟
فأجاب: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة، فالمشهور في المذهب أنه ينفسخ النكاح به؛ وعن أحمد رواية: لا يقبل إلا امرأتان، وهو مذهب مالك. وعند أبي حنيفة: لا بد مع النساء من رجل. فعلى المذهب: يكون النكاح فاسداً، يحتاج إلى طلاق من الزوج، أو فسخ من الحاكم، ولا يكفي قول الحاكم: انفسخ نكاحها، بل لا بد من قول الحاكم: فسخت نكاح فلانة، ثم تعتد بعد ذلك؛ فإن كانت قد تزوجت فَرّق بينهما، حتى تعتد من الأول، وإن كانت حاملاً من الثاني، فلا بد من العدة بعد وضع الحمل بثلاث حيض، ونكاح الثاني باطل لا يحتاج إلى فسخ، وله العقد عليها إن شاء بعد العدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتأتي إن شاء الله في صفحة 592.(8/369)
ص -373- ... سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا شهدت امرأة: أن فلانة أرضعته خمس رضعات... إلخ؟
فأجاب: تقبل هذه الشهادة ولو أنكرت المرضعة، لأن الشهادة يقدم من أثبتها على من نفاها، فإن كانت شاهدة على إقرار المرضعة بذلك، وأنكرت المرضعة لم تقبل.
باب النفقات
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن كسوة العرس، هل للمرأة أن تطلب كسوة بدن؟ وعن تقييد الكسوة بالحول؟ وإذا كان صواباً فهل هي لكل أحد؟ للعالي والمتوسط والداني؟ وإن بليت قبل مضي الحول... إلخ؟
فأجاب: أما كسوة العرس، وتقييد الكسوة بالحول مطلقاً ومقيداً، فالذي يفتى به: أن هذه الأمور ترجع إلى عرف الناس، وهو مذهب الشيخ، وابن القيم، وأظنه المنقول عن السلف. وأما عدة الرجعية، فعلى الزوج فيها الكسوة والنفقة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا عقد على امرأة، هل يلزمه نفقة لها قبل الدخول؟
فأجاب: قال الموفق: باب نفقة الزوجات، يجب على الرجل نفقة زوجته وكسوتها بالمعروف، إذا سلمت(8/370)
ص -374- ... نفسها إليه ومكنته من الاستمتاع بها، لما روى جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" 1، رواه مسلم. فإن امتنعت من تسليم نفسها التسليم التام، فلا نفقة لها، وإن عرضت عليه التمكين التام وهو حاضر، لزمته النفقة، وإن كان غائباً لم تجب حتى يقدم هو، أو وكيله; وإن لم تسلم إليه، ولم تعرض عليه، فلا نفقة عليه، ولو عرضت صغيرة لا يوطأ مثلها، فلا نفقة لها. انتهى ملخصاً.
فقد علمت: أن المرأة بعد العقد وقبل الدخول لا نفقة لها، إلا أن تمكنه من نفسها التمكين التام، أو تعرض عليه، وأنه إذا دخل بها ومكنته من نفسها التمكين التام، فلها النفقة والكسوة.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن نفقة الحامل، والمرضع... إلخ؟
فأجاب: الحامل ينفق عليها بحسب يسر الزوج وعسره، وبحسب حالها، فلا تجعل بنت الأغنياء المتنعمين مثل الفقيرة. وأما المرضع إذا لم تكن في عدة، فتعطى أجرة المثل.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن نفقة الحامل المتوفى عنها، أو المطلقة؟
فأجاب: يجب على زوجها النفقة حتى تضع حملها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الحج (1218), وأبو داود: المناسك (1905), وابن ماجة: المناسك (3074), والدارمي: المناسك (1850).(8/371)
ص -375- ... كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6]، فإن أرضعت ولده، أعطاها قيمة أجرة الرضاع ما دامت ترضع، كما قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6].
وسئل بعضهم: عن نفقة وكسوة المطلقة ثلاثاً... إلخ؟
فأجاب: وأما الزوج الذي طلق زوجته بالثلاث، ليس لها عليه نفقة ولا سكنى، إلا أن تكون حاملاً، وأما إذا طلقت على براءة ليس لها نفقة ولا سكنى، إلا أن تكون من ذوات الحمل.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن نفقة الحامل المتوفى عنها؟
فأجاب: المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، فنفقتها فيما يستحقه الحمل من الإرث، فإن لم يكن تركة، فنفقتها على نفسها، إلا أن يكون له قريب غني، تجب عليه نفقتها بالشروط التي اشترطها الفقهاء في نفقة القريب.
وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها بغيبة الزوج، وهو لم يترك عندها نفقة ولا سكنى، وهي محتاجة؟
فأجاب: إذا كان في مكان يمكنهم أن ينبئوه، وأنبؤوه ولا حصل شيء، فالفسخ تام على ما ذكرنا، وتعتد(8/372)
ص -376- ... بحيضة واحدة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: المرأة التي غاب زوجها، ولم يترك لها نفقة ولا يمكنها الاستدانة، وتعذرت مراسلته وطلبت الفسخ، فلا بأس أن تفسخ بإذنها.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا أرضعت امرأة مطلقة ولدها، ولم يجر بينها وبين الأب مشارطة على الرضاع، ولكنها نوت الرجوع عليه، وأشهدت على أنها محتسبة عليه، فهل لها ذلك؟ أم لا يثبت لها أجرة إلا بالمشارطة بينها وبين الأب؟
فأجاب: قد ذكر الفقهاء أن الأم أحق برضاع ولدها، إذا طلبت ذلك بأجرة مثلها، ولكن اختلفوا: هل لها ذلك إن كانت في حبال الزوج، أم لا؟ وأما إذا كانت مطلقة، فهي أحق برضاعه وإن طلبت أجرة مثلها، ولو مع وجود متبرعة غيرها؛ واستدل صاحب الشرح، بقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [سورة البقرة آية: 233] فقدمهن على غيرهن، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6]. وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجرة مثلها: فما ذكرنا من الآيتين، ولأن الأم أحنى وأشفق، ولبنها أمرى من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية إرضاعه بأجرة مثلها، ولأن في رضاع(8/373)
ص -377- ... غيرها تفويتاً لحقها من الحضانة، وإضراراً بالولد؛ ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد، لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب. انتهى.
فإذا عرفت أنها أحق بإرضاعه بأجرة المثل، ولو وجد الأب متبرعة، تبين لك أن لها الرجوع بالأجرة على الأب، إذا نوت ذلك وأشهدت عليه، وإن لم تشارط الأب، لأن غاية ما يقال: لعل الأب يجد متبرعة، أو يجد من يرضعه بدون أجرة المثل، فيقال في جواب ذلك: الأم أحق به ولو حصل من يتبرع برضاعه، فحينئذ لا تأثير لكونها تشارط أو لا تشارط، لأنها متى أرضعته وطلبت أجرة مثلها لزم الأب ذلك، إلا أن تكون أرضعته متبرعة برضاع ابنها، ولم تنو الرجوع على الأب فلا شيء لها.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن زوجة مفقود تعذر الإنفاق عليها من ماله؟
فأجاب: لها فسخ نكاحه بإذن حاكم، كما يجوز بحكم الشرع في الموجود، فإذا جاز ذلك في حق الموجود، جاز ذلك في حق المفقود أيضاً، ولا فرق، وكونه مفقوداً لا يمنع ثبوت الحكم بتعذر ما يجب لها عليه.(8/374)
ص -378- ... باب الحضانة
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" 1، هل تكون نفقته على الأم إذا كانت غنية؟
فأجاب: ليس الأمر كذلك، بل نفقته على الأب إذا كان موسراً، فتكون الحضانة للأم، والنفقة على الأب.
سئل الشيخ حسين بن الشيخ: هل تسقط الحضانة بالتزوج، لقصة بنت حمزة؟
فأجاب: الذي علية الجمهور: أن الأم إذا تزوجت سقط حقها من الحضانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" 2، وأما قصة بنت حمزة، فإنما قضى بها لخالتها، لأن زوجها من أهل الحضانة، ولا يساوي جعفراً في الاستحقاق إلا علي، وقد ترجح جعفر بأن امرأته من أهل الحضانة، فكان أولى؛ فالحديث يدل على أنه لو تنازع العمان في الحضانة، وأحدهما متزوج بالأم أو الخالة، فهو أحق بالحضانة، فليس بين قصة حمزة، وبين قوله: "أنت أحق به ما لم تنكحي" اختلاف، بل الحديثان متفقان ولله الحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطلاق (2276), وأحمد (2/182).
2 أبو داود: الطلاق (2276), وأحمد (2/182).(8/375)
ص -379- ... وأما قولك: هل قرابة الأم أحق، أم قرابة الأب؟ فالمشهور عن أحمد: أن الأم قراباتها يقدمن على الأب وقراباته. وعن أحمد رواية أخرى: أن الأب وقراباته أحق، قال في الاختيارات: العمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب يقدمن على نساء الأم، لأن الولاية للأب، فكذا أقاربه. وإنما قدمت الأم، لأنه لا يقوم هنا مقامها في مصلحة الطفل، وإنما قدم الشارع صلى الله عليه وسلم خالة بنت حمزة على عمتها صفية، لأن صفية لم تطلب، وجعفر طلب نائباً عن خالتها، فقضى له بها في غيبتها.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الأم أولى بحضانة أولادها، إلا إذا تزوجت، فتنتقل الحضانة إلى غيرها، كالجدة والأخت والخالة.(8/376)
ص -380- ... كتاب الجنايات
سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الملك بن حسين بن محمد، رحمهم الله: عن صفة قتل العمد؟
فأجاب: ذكروا أن قتل العمد: أن يقصد مكلف الجناية على من يعلم أنه آدمي معصوم، بما يغلب على الظن أنه يقتل بحده أو ثقله، أو إلقاء حائط عليه، أو هدم سقف أو غير ذلك; فقولهم: أن يقصد الجناية: خرج به الخطأ، وبما يغلب على الظن قتله به: خرج به شبه العمد. فإذا مات المجني عليه بهذه الجناية وجب القصاص، إلا أن يعفو أولياء الدم إلى مال أو مجاناً، سواء نوى الجاني إزهاق روحه، أو قصد قطع طرف أو عضو، أو شجة لا يريد ولا يحب موته بها.
وإن كان الذي أوجب لك الإشكال: عبارة الشيخ منصور، والحجاوي، فهي محمولة على الصورة التي لم يقصد الجاني بها الجناية، كأن ينقلب على إنسان فيقتله، أو يسقط عليه من علو، أو القتل بسبب كحفر بئر، ونصب سكين، أو ممن ليس من أهل القصد الصحيح، كالصبي والمجنون، فهذه الصور عندهم من قسم الخطأ.(8/377)
ص -381- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جنايات الصبيان ونحوهم؟
فأجاب: قال الشيخ تقي الدين - في كلامه على الجنايات -: لا قصاص بين الصبيان والمجانين، وكل من زال عقله بسبب يعذر فيه، إلا السكران ففيه روايتان، وليس في ذلك إلا الدية.
سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن امرأة ماتت ابنتها، وفيما يظهر لها: أنها سبب اغتمامها بتغطيتها لها؟
فأجاب: إن غلب على ظنها أنها هي السبب، فعليها الكفارة: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، كما نص الله في الآية الكريمة، ولا يدخل الإطعام في كفارة القتل.
[ قتل الواحد بالجماعة ]
سئل بعضهم، رحمه الله: عن جماعة قتلوا واحداً؟
فأجاب: وأما إذا قتل الجماعة واحداً، فإنهم يقتلون كلهم، كما ثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه، وأما قتل الواحد بالجماعة، فليس فيه إشكال ولا توقف.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: قتل الجماعة بالواحد بشرطه الآتي، هو المذهب وقول جمهور العلماء؛ قال في الشرح: ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم لو انفرد(8/378)
ص -382- ... أوجب القصاص عليه، روي ذلك عن عمر، وعلي والمغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن، وأبو سلمة وعطاء وقتادة، وهو مذهب مالك والثوري، والأوزاعي والشافعي، وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به، وتجب عليهم الدية، والمذهب الأول - إلى أن قال - ولنا: إجماع الصحابة، فروى سعيد بن المسيب: "أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً"، وعن علي رضي الله عنه: "أنه قتل ثلاثة، قتلوا رجلاً"، وعن ابن عباس: "أنه قتل جماعة بواحد"، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعاً. ولأنها عقوبة تجب لواحد على الجماعة، كحد القذف، ويفارق الدية فإنها تبعض، والقصاص لا يتبعض، ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، لأدى إلى تسارع القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر - إلى أن قال - ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه؛ فلو جرحه أحدهما جرحاً، والآخر مائة، أو أوضحه أحدهما، وشجه الآخر آمة، أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة، فمات، كانا سواء في القصاص والدية، لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن(8/379)
ص -383- ... المشتركين، إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة، كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة، ومن غير الجائفة دون الجائفة - إلى أن قال - وإذا اشترك ثلاثة في قتل رجل، فقطع أحدهم يده، والآخر رجله، وأوضحه ثالث فمات، فللولي قتل جميعهم، والعفو عنهم إلى الدية، فيأخذ من كل واحد ثلثها؛ وله العفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية، ويقتل الآخرَين، وأن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية، ويقتل الثالث. وإن برئت جراحة أحدهم، ومات من الجرحين الآخرين، فله أن يقتص من الذي برئ جرحه بمثل جرحه، ويقتل الآخرين، أو يأخذ منهما دية كاملة، أو يقتل أحدهما، ويأخذ من الآخر نصف الدية. وله أن يعفو عن الذي برئ جرحه، ويأخذ منه دية جرحه - إلى أن قال - وإن فعل أحدهما ما لا تبقى معه حياة، كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه، ثم ضرب عنقه آخر، فالقاتل هو الأول، ويعزر الثاني. وإن شق الأول بطنه أو قطع يده، ثم ضرب الثاني عنقه، فالثاني هو القاتل، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية. انتهى.
وقال في الإنصاف: وتقتل الجماعة بالواحد، هذا(8/380)
ص -384- ... المذهب بلا ريب، وعليه ظاهر الأصحاب، قال في الهداية: عليه عامة شيوخنا; وعنه: لا يقتلون به، نقلها حنبل - إلى أن قال - فعلى المذهب: مِن شَرْط قتل الجماعة بالواحد: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، قاله الأصحاب - إلى أن قال - ولو قتلوه بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله، نحو أن يضربه كل واحد سوطاً في حالة، أو متوالياً، فلا قود; وفيه: عن تواط وجهان في الترغيب، واقتصر عليه في الفروع، قلت: الصواب القود - إلى أن قال - قال المصنف والشارح: إن فعل ما يموت به يقيناً، وبقيت معه حياة مستقرة، كما لو خرق حشوته ولم يبنها، ثم ضرب آخر عنقه، كان القاتل هو الثاني، لأنه في حكم الحياة، لصحة وصية عمر رضي الله عنه. قال في الفروع: ويتوجه تخريج من مسألة الذكاة: أنهما قاتلان، قلت: وهو الصواب; قال في الفروع: ولهذا اعتبروا إحداهما بالأخرى، قال: ولو كان فعل الثاني كلا فعل، لم يؤثر غرق حيوان في ماء بقتل مثله بعد ذبحه، على إحدى الروايتين. انتهى.
قال في الإقناع وشرحه: وتقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، لو انفرد، وإلا، أي: وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة(8/381)
ص -385- ... للقتل، كما لو ضربه كل واحد منهم بحجر صغير، فمات، فلا قصاص عليهم، لأنه لم يحصل من واحد منهم ما يوجب القود، ما لم يتواطؤوا على ذلك الفعل ليقتلوه به، فعليهم القصاص، لئلا يتخذ ذريعة إلى درء القصا(8/382)
ص - إلى أن قال - وإن قتله جماعة، اثنان فأكثر، بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله، نحو أن يضربه كل واحد سوطاً في حالة، أو متواليين، فلا قود; وفيه: عن تواط وجهان، قال في الترغيب الصواب وجوب القود. انتهى ملخصاً.
ومعنى قولهم: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، أي: أن يكون فعل كل واحد صالحاً لأن يكون سبباً لموت المجني عليه، لا أنه يغلب حصول الموت من تلك الجناية، لأنهم مثلوا بالموضحة، مع أن حصول الموت بها نادر؛ وصرحوا بأن القصاص إنما يجب على المباشر بالشرط المذكور، فخرج المشير والآمر فلا يجب عليهم القصاص، لا سيما وقد صرحوا بعدم وجوب القصاص على الآمر في الجملة.
وإن كان بعض الأصحاب حكى رواية بوجوب القصاص على الآمر، فالمذهب خلافها.
قال في الشرح: وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل فقتل، فالقصاص على القاتل لا نعلم فيه خلافاً، لأنه قاتل ظلماً فوجب عليه القصاص، كما لو لم يؤمر. ثم ذكر حكم ما إذا أمر السيد(8/383)
ص -386- ... عبده بقتل رجل، وما فيه من التفصيل المذكور في كتب الفقه - إلى أن قال - وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك، فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر. فإن كان المأمور يعلم أن المأمور بقتله لا يستحق القتل، فالقصاص عليه، لأنه غير معذور في قتله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1، وعنه عليه السلام: "من أمركم من الولاة بمعصية الله، فلا تطيعوه" 2، فلزمه القصاص، كما لو أمره غير السلطان؛ وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، لأن المأمور معذور بوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، فالظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. إن كان الآمر غير السلطان، فالقصاص على القاتل بكل حال، علم أو لم يعلم، لأنه لا تلزمه طاعته، وليس له القتل، بخلاف السلطان، فإن له القتل في الردة، والزنى، وقطع الطريق إذا قتل القاطع، ويستوفي القصاص للناس، وهذا ليس إليه شيء من ذلك. انتهى.
وقوله: وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، هكذا قال جماعة من الأصحاب; وقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول، وفيه نظر؛ بل لا يطاع حتى يعلم جواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/129).
2 ابن ماجة: الجهاد (2863), وأحمد (3/67).(8/384)
ص -387- ... قتله، وحينئذ فتكون الطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفاً بالظلم، فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة. انتهى.
وما في شرح رسالة ابن أبي زيد: أنه إذا باشر القتل بعضهم، وحبسه البعض، قتلوا جميعاً، فهذا مذهب مالك، وهو رواية عن أحمد; واحتج بعض من قال بقتل الممسك، بقول عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء" أي: تعاونوا; والممسك ليقتل معين للقاتل. وأجاب الآخرون عن قول عمر: لو تمالؤوا عليه، أي: تشاوروا في قتله.
قال في الشرح: وإن أمسكه له ليقتله، مثل إن أمسكه له حتى ذبحه، فاختلفت الرواية فيه عن أحمد، فروي عنه: أن الممسك يحبس حتى يموت، وهذا قول عطاء وربيعة، وروي عن علي رضي الله عنه. وروي عن أحمد: أنه يقتل أيضاً، وهو قول مالك وأبي حنيفة، والشافعي. وقال أبو ثور: يعاقب ويأثم ولا يقتل؛ وأما القاتل فيقتل بغير خلاف. فقوله: إن أمسكه له ليقتله، يدل على أن هذا الحكم مخصوص بما إذا أمسكه له ليقتله، لا إذا ما أمسكه له ولم يعلم أنه يريد قتله؛ وهكذا قيد كثير من الأصحاب، قال في الإنصاف: شرط في المغني في الممسك، أن يعلم أنه يقتله، وتابعه الشارح; قال القاضي: إذا أمسكه للعب أو(8/385)
ص -388- ... الضرب، وقتله القاتل، فلا قود على الممسك، وذكره محل وفاق، قال في منتخب الشيرازي: إلا مازحاً متلاعباً. انتهى. وظاهر كلام جماعة الإطلاق.
وقال في الإقناع وشرحه: وإن كان الممسك لا يعلم أن القاتل يقتله، فلا شيء عليه، لأن موته ليس بفعله ولا بأثر فعله، بخلاف الجارح، فإنه لا يعتبر فيه قصد القتل، لأن السراية أثر جرحه المقصود له. انتهى.
وأما الردء: فلم يذكروه هنا، ولم يعطوه حكم المباشر في هذا الباب، وإنما جعلوا حكم ردء قطاع الطريق حكم مباشرهم، للعلة التي عللوا بها؛ قال في الشرح، في باب قطاع الطريق: وحكم ردء حكم المباشر، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير، ولأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالعين كسائر الحقوق.
ولنا: أنه حكم يتعلق بالمحاربة، فاستوى فيه الردء والمباشر، كاستحقاق الغنيمة؛ وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنفعة، والمعاضدة والمناصرة، فلا تمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء، بخلاف سائر الحدود. فعلى هذا، إذا قتل واحد منهم، ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال، جاز قتلهم وصلبهم، كما لو فعل الأمرين واحد(8/386)
ص -389- ... منهم. انتهى.
قال في الإقناع وشرحه: وردء المحارب، وهو المساعد والمغيث له عند احتياجه إليه، كمباشر، وطليع وهو: الذي يكشف للمحاربين حال القافلة ليأتوا إليها، فهو كمباشر، كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب، وباشر بعضهم القتال وأخذ المال، ووقف الباقون للحفظ والحراسة ممن يدهمهم من ورائهم، أو أرسل الإمام عيناً ليتعرف أحوال العدو، فإن الكل يشتركون في الغنيمة. وذكر أبو الفرج السرقة كذلك، فإذا قتل واحد منهم ثبت القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، لأن حكم الردء حكم المباشر؛ وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم، قتلوا كلهم وجوباً. انتهى.
قال في الإنصاف: وحكم الردء حكم المباشر، هذا المذهب وعليه الأصحاب؛ قال في الفروع: وكذا الطليع. واختار الشيخ تقي الدين: يقتل الآمر كردء، وأن في السرقة كذلك. انتهى. وقول عمر رضي الله عنه: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء"، أي: لو تعاون، وفي رواية: "لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين". قال بعض العلماء في الكلام على أثر عمر المذكور: قوله: تمالأ: مهموز، أي: تعاون; وقال علي رضي الله عنه: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله" أي: عاونت.(8/387)
ص -390- ... قال الخطابي في تصاحيف الرواة: هو مهموز من الملأ، أي: صاروا كلهم ملأ واحداً في قتله، قال: والمحدثون يقولونه بغير همز، والصواب الهمز، لأن الملأ مهموز غير مقصور. انتهى. واشتراط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع، وأن يكون فعل كل واحد منهم يصلح للقتل به، ومالك، رحمه الله يلحق الممسك، يدل على أنهم حملوا قول عمر رضي الله عنه على التعاون فقط، لا على التشاور.
وأجاب أيضاً: وكذا لو أكره على قتل معصوم قتل به، وكذا مكره عند الجمهور.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عما إذا قتل رجل أباه عمداً عدواناً، وهو صحيح، ثم جن، فهل لأولياء المقتول القصاص، باعتبار صحته وقت الجناية، أم لا؟
فأجاب: لا يسقط عنه القود بطرو الجنون، قال في الإقناع وشرحه: فأما إن قتله وهو عاقل، ثم جن، لم يسقط عنه القصاص، لأنه كان حين الجناية عاقلاً، سواء ثبت ذلك ببينة أو إقرار، ويقتص منه، أي ممن جنى عاقلاً ثم جن، في حال جنونه.
وسئل أيضاً، رحمه الله: عن إزهاب الرشيد للسفيه(8/388)
ص -391- ... البندق، وأمره برميها على معصوم، أو غير معصوم؟
فأجاب: إذا أزهب 1 مكلف بندقاً، ودفعها إلى غير مكلف، وأمره أن يرمي بها معصوماً أو غيره، فالقاتل هو هذا المكلف الذي أزهب البندق ودفعها إلى غير المكلف وأمره بالقتل; وأما هذا المأمور المدفوع إليه البندق، فهو كالآلة، بخلاف ما لو كان المأمور مكلفاً، فإنه هو القاتل، سواء كان سفيهاً أو رشيداً، وحينئذ يكون على من أمره، وأزهب البندق له، التعزير فقط.
[ قتل الحر بالعبد ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قتل الحر بالعبد؟
فأجاب: إذا قتل الحرُّ العبدَ لم يُقَد به، لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [سورة البقرة آية: 178].
وسئل: إذا ادعى رجل على آخر أنه قتل رجلاً، فأقر بالقتل، ولكن ادعى أنه قتله خطأ، فهل يقبل قوله؟
فأجاب: إذا لم يكن للمدعي بينة وعلم القتل، وصار ثبوت القتل بإقرار المدعى عليه، سئل المدعى عليه عن صفة القتل، فإن كان عمد الفعل بما يقتل غالباً، على تفصيل الفقهاء في أول كتاب الجنايات، فهذا لا يقبل قوله في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وضع في البندق ما تثور به.(8/389)
ص -392- ... دعوى الخطإ، لأنه أقر أنه ضربه بما يقتل غالبا؛ وإن أنكر أن يكون تعمد الفعل، بل زعم أنه خطأ محض، وفسره بذلك، فالقول قوله ولا قصاص عليه، لأن من شرطه أن يكون القتل عمداً محضاً، والأصل عدم ذلك، وعلى ذلك فتكون الدية في ماله في دون عاقلته.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: الذي يظهر لي في آية القصاص من كلام العلماء، رحمهم الله، أن آية البقرة 1 مفصلة لآية المائدة 2 لمنطوقها، وبعض مفهومها مقيد بأحاديث، وآثار عن الصحابة وغيرهم. أما قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فمفهومها: أن الحر لا يقتل بالعبد، وهو مروي عن علي وابن عباس، وغيرهما من الصحابة والتابعين، وفيه حديث مرفوع، رواه الدارقطني، وقال علي: "من السنة لا يقتل حر بعبد"، رواه أحمد؛ وبهذا قال الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة وأصحابه، والثوري وطائفة.
وأما قتل العبد بالحر، فمن قوله تعالى: {لنَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45] مفهوم الموافقة من ظاهر الآية، لما قتل العبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} الآية [البقرة: 178].
2 هي قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية [المائدة: 45].(8/390)
ص -393- ... بالعبد، فقتله بالحر أولى. وأما قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [سورة البقرة آية: 178] فمنطوقها: أن الأنثى تقتل بالأنثى، وعمل بمفهوم المخالفة في عدم قتل الذكر بالأنثى طائفة من السلف، محتجين بسبب النزول، وهو أنه كان بين حيين من أحياء العرب حرب، فاستطال أحدهما على الآخر، وقالوا: لنقتلن الحر بالعبد، والذكر بالأنثى، فنزلت هذه الآية.
ورد بمعارضة: المفهوم للمنطوق، في حديث اليهودي، وبمفهوم آية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45]، وبحديث أبي بكر في كتاب الديات، وهو حديث تلقاه الناس بالقبول، وإن كان قد قيل بإرساله. وقد حكى ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة: على القول بأن الذكر يقتل بالأنثى، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه، وهو المقطوع به، وقول أكثر أهل العلم من فقهاء الأمصار، ومشى عليه المتأخرون من أصحاب أحمد.
وقال صديق 1 في تفسيره: والحق أن الذكر يقتل بالأنثى ولا زيادة; والمذهب الثالث: أنه يقتل الذكر بالأنثى، ويعطى أولياؤه نصف الدية، قال في سبل السلام: ولا حجة لهم إلا دعوى تفاوتهما في الدية، وعموم قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [سورة المائدة آية: 45] ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: صديق حين خان صاحب التفسير المشهور.(8/391)
ص -394- ... التفاوت في النفس، ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون.
[ جراح العبد إذا جنى عليه الحر عمداً ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن جراح العبد، إذا جنى عليه الحر عمداً، فيما دون النفس؟
فأجاب: قال في الإنصاف: كل من أقيد بغيره في النفس، أقيد به فيما دونها، ومن لا فلا; يعني: ومن لا يقاد به في النفس، لا يقاد به فيما دونها؛ وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، كذا ذكره في باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس. وقال في باب شروط القصاص: ولا يقتل حر بعبد، هذا المذهب، وعليه الأصحاب.
وقال الشيخ تقي الدين: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة، تمنع قتل الحر به، وقوى أنه يقتل به، وقال: هذا الراجح وأقوى على قول أحمد. ثم قال في الإنصاف: ولا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد إلا أن يقتله وهو مثله، أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق ويموت المجروح، فإنه يقتل به؛ يعني: إذا قتل عبد عبداً، أو ذمي أو مرتد ذمياً، أو جرحه، ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو عتق، ويموت المجروح، فإنه يقتل به على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب.
جناية المملوك على الحر
وقولك: العبد المملوك إذا جنى على الحر، ما حكمه؟
فجوابها: يعرف من التي قبلها، وهو أنه إن كان(8/392)
ص -395- ... موجباً للقصاص في النفس، أو فيما دونها، فإنه يقتص منه، وإن عفا عنه إلى الدية، فإنها تكون في رقبة العبد، أي في ذمته يباع فيها.
الواجب بالقتل العمد
وقولك: هل للإمام أو نائبه، أو الحاكم: أن يلزموا المجني عليه أن يقتص، ولو طلب الأرش؟
فالجواب: أنه لا يجوز للإمام ولا لنائبه، إلزام المجني عليه أن يقتص من الجاني، ولو طلب الدية، إلا في مسألة الغيلة، فإن مذهب مالك: أنه يقتل حداً، وأمره إلى الإمام ولو عفا أولياء القتيل؛ وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لأنه لا يمكن التحرز منه بالمحاربة، وكذلك قاتل الأئمة، فإن القاضي خرج وجهاً في المذهب أنه يقتل حداً.
وقول السائل: وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلا القصاص منه، يوافق على ذلك؟ أم العبرة بالمجني عليه؟ فهذه المسألة مبنية على أصل، وهو: أنه هل الواجب بقتل العمد أحد شيئين، القصاص أو الدية؟ أو أن الواجب في قتل العمد القصاص عيناً؟ وفي ذلك قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
قال في الشرح الكبير: اختلفت الروايات عن أحمد، رحمه الله، في موجب العمد، فروي عنه: أن موجبه القصاص عيناً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عمداً فهو قَوَدٌ" 1، وقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: القسامة (4790), وأبو داود: الديات (4539), وابن ماجة: الديات (2635).(8/393)
ص -396- ... تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة آية: 178]، والمكتوب لا يتخير فيه، ولأنه متلف يجب به البدل، فكان معيناً كسائر المتلفات؛ وبه قال النخعي ومالك وأبو حنيفة، قالوا: ليس للأولياء إلا القتل، إلا أن يصطلحا على الدية برضى الجاني.
والمشهور في المذهب: أن الواجب أحد شيئين: إما القتل أو الدية، والخيرة في ذلك إلى الول:، إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة، لأن كل من له قتله، فله العفو عنه كالمنفرد، ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو عن البعض، لأنهما شخصان، فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر. فمتى اختار الأولياء أخذ الدية من القاتل، أو من بعض القتلة، كان لهم هذا من غير رضى الجاني; وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وعطاء ومجاهد، والشافعي وإسحاق، وأبو ثور وابن المنذر، وهي رواية عن مالك، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 178]. قال ابن عباس: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [سورة البقرة آية: 178]?". انتهى. فالعفو: أن يقبل في العمد الدية، فاتباع بالمعروف،(8/394)
ص -397- ... ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة آية: 178] مما كتب على بني إسرائيل، رواه البخاري. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يؤدى، وإما أن يقاد" 1، متفق عليه. وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية"، رواه أبو داود وغيره.
فإن قلنا: موجبه القصاص، فله العفو إلى الدية، والعفو مطلقاً، فإذا عفا مطلقاً لم يجب شيء؛ وهذا ظاهر مذهب الشافعي. وقال بعضهم: تجب الدية، لئلا يبطل الدم، وليس شيئاً، فإنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه، ومتى عفا عن القصاص مطلقاً إلى غير مال لم يجب لشيء، إذا قلنا: الواجب القصاص عيناً، فإن عفا عن الدية لم يصح عفوه، لأنها لم تجب، وإن قلنا: الواجب أحد شيئين لا بعينه، فعفا عن القصاص مطلقاً، أو إلى الدية، وجبت الدية، لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر. وإن اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه، لأن الواجب أحد شيئين، فإذا تعين أحدهما سقط الآخر. وإن اختار القصاص تعين كذلك; وإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك، ذكره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الديات (6880), ومسلم: الحج (1355), والترمذي: الديات (1405), والنسائي: القسامة (4785), وأبو داود: الديات (4505), وابن ماجة: الديات (2624), وأحمد (2/238).(8/395)
ص -398- ... القاضي، لأن القصاص أعلى، فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص. وليست التي وجبت بالقتل، كما قلنا في الرواية الأولى: أن الواجب القصاص عيناً، وله العفو إلى الدية، ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود، فلم يعد إليها. وعنه: أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الديه، وإن سخط الجاني لما ذكرنا؛ قال في الإنصاف: وهذا الصحيح على هذه الرواية، قال في المحرر: وعنه موجبه القود مع التخيير بينهما، وعنه: أن موجبه القود عيناً، وأنه ليس له العفو على الدية بدون رضى الجاني، فيكون قوده بحاله. انتهى. والصحيح - إن شاء الله - أن موجبه أحد شيئين: القصاص، أو الدية، وأن الخيرة في ذلك إلى الولي، والله أعلم.
وأجاب أيضاً: والمسلم إذا قتل مسلماً متعمداً، فيخير ولي المقتول بين قتل من قتله، وأخذ الدية.
وأجاب بعضهم: إذا عفا بعض الورثة عن القصاص، فإنه يتعذر القصاص، وتلزمه الدية.
[ من له الحق في العفو عن القصاص ]
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عن قوله في الإنصاف: وليس للنساء عفو، اختاره الشيخ، هل(8/396)
ص -399- ... المراد عفوهن عن القود؟ أو الدية؟
فأجاب: المراد العفو عن القود، وذلك، أن العلماء اختلفوا، هل كل من ورث المال ورث القصاص؟ أم القصاص حق للعصبة ولا مدخل للنساء فيه؟ فأكثر العلماء على الأول، وأنه حق لجميع الورثة، فإذا عفا بعضهم ولو امرأة سقط القصاص وتعينت الدية، سواء كان العافي عن القصاص والدية جميعاً، أو عن القصاص وحده.
والقول الثاني: ليس للنساء عفو، وهو قول الحسن وقتادة، والزهري والليث والأوزاعي؛ وعلى هذا: للعصبة أن يقتصوا ولو عفا النساء عن حقهن.(8/397)
ص -400- ... كتاب الديات
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تأخذون من مال القاتل غير الدية، فنقول هذا كذب وزور، وبهتان علينا؛ بل المسلم إذا قتل المسلم، فالولي مخير بين القود، والدية، والعفو.
سئل الشيخ سعد بن عتيق: عن رجل ثارت بندقه، لما أراد أخذ عصاه من الخرج بغير اختياره، وأصابت رجلاً ومات، وكان المصاب أحضر رجالاً عدولاً، وأشهدهم أنه عفا عن صاحب البندق، وأنه أعتقه، ولا يعارض بطرد ولا مطالبة؟
فأجاب: كلام العلماء في العفو عن الجاني وعن الجناية طويل، على أنواع جملة وتفصيلاً، وهذه المسألة هي مسألة: عفو القتيل عن قتل الخطإ.
والذي يظهر لي في هذه المسألة: أن حكمها حكم الوصية، وأن الدية يراعى فيها الثلث، فإن خرجت من الثلث، أعني ثلث مال القتيل، فليس للورثة المطالبة بشيء من الدية، وإن كانت الدية أكثر من ثلث مال القتيل، فيعطي الجاني الورثة ما زاد على الثلث، فإن لم يكن للقتيل(8/398)
ص -401- ... مال سقط عن الجاني ثلث الدية، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن رجلين تكامخا... إلخ؟
فأجاب: وأما مسألة الرجلين اللذين تكامخا، فالدية أو يصالحون على دون منها. وأما مسألة الصبي ابن خمس عشرة سنة، فأرجو أن مثله ما يضمن.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: من روع صبياً فشهق فمات، ضمن الدية.
مقادير ديات النفس
وسئل: عن مقادير ديات النفس؟
فأجاب: وأما دية المسلم الحر إذا قتل عمداً، وقبل أولياؤه الدية، فهي مائة من الإبل: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة؛، وقيمتها وقتنا هذا، بتقدير أمير المسلمين عبد العزيز، وأهل المعرفة: ثمانمائة ريال، وتكون حالَّة.
وأما دية الخطإ المخففة، فهي: خمسة أخماس على عشرين، منها عشرون ذكراً، وهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنين، إلا إن كان القتل لم يثبت بالبينة، بل ثبت بإقرار القاتل، فلا تحملها العاقلة، وتكون في مال القاتل.
وأجاب أيضاً: ومقدار الدية: مائة ناقة، تقدر اليوم(8/399)
ص -402- ... بقيمة ثمانمائة ريال، ودية المرأة: نصف دية الرجل. وإن كان قتله خطأ زلة، ما قصد قتله، فتلزمه الدية، وتصير على عاقلته، وتصير أثلاثاً في ثلاث سنين، ويلزمه معها عتق رقبة إن كان يقدر، وإن كان لا يقدر، فيصوم شهرين.
[ أصل الدية وتقديرها ]
وسئل الشيخ حسن بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى، ونص السؤال: أصول دية النفس من الإبل، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والْحُلَل، غير خاف عليكم، وقدر عبد العزيز: مائة من الإبل بثمانمائة ريال، فهل هذا التقدير برخصة من الشيخ، رحمه الله، أو لا؟ والآن صارت قيمة الإبل عما هي معلومة ناقصة، فما المعمول به؟
فأجاب: لا نزاع في أن دية الحر المسلم: مائة من الإبل، أصل في الدية; واختلف عن أحمد، هل هي الأصل لا غير، أو معها غيرها؟ وهل ذلك الغير أربعة أشياء، أو خمسة؟ فعنه: أنها الأصل، لأن في حديث عمرو بن حزم: "في النفس مائة من الإبل"، رواه النسائي، ومالك عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قتل خطأ، فديته من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور" 1، رواه أبو داود والنسائي، وذكر حديث عقبة بن عامر بن أويس، وحديث عبد الله بن عمرو، ثم قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: القسامة (4801), وأبو داود: الديات (4541), وابن ماجة: الديات (2630), وأحمد (2/217).(8/400)
ص -403- ... وظاهر هذه الأحاديث، أن الدية هي الإبل خاصة، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطإ، فغلظ العمد، وخفف الخطأ، ولم يرد ذلك عنه إلا في الإبل.
وعنه: أنها خمسة أشياء كل منها أصل برأسه: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة; أما في الإبل فلما تقدم; وأما في البقر والغنم، فإن في حديث عمرو بن شعيب:? "قضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء، فألفا شاة".
وأما في الذهب والفضة، فلما روى ابن عباس: "أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً" 1، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه. ولمالك في الموطأ: بلغه أن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوّم الدية على أهل القرى، فجعل على أهل الذهب: ألف دينار، وعلى أهل الورِق: اثني عشر ألف درهم"، قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق.
وعنه: أنها ستة أشياء، فيضاف إلى الخمسة السابقة: مائتا حلة، وهذه اختيار القاضي، وكثير من أصحابه، لما روى عطاء بن أبي رباح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية على أهل الإبل: مائة من الإبل، وعلى أهل البقر: مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء: ألفي شاة، وعلى أهل الحلل: مائتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الديات (1388), والنسائي: القسامة (4803), وأبو داود: الديات (4546), وابن ماجة: الديات (2632), والدارمي: الديات (2363).(8/401)
ص -404- ... حلة، وعلى أهل القمح: شيئاً لم يحفظه محمد بن إسحاق" 1، والرواية الأولى أظهر دليلاً، على أن أحاديث تلك الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث.
وعلى تقدير مقاومتها، فيحمل على أنه جعل ذلك بدلاً عن الإبل، وظاهر في حديث عمرو بن شعيب، إذ أوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الدية على أهل القرى: أربعمائة دينار، أو عدْلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل إذا غلت أرفع قيمتها، وإذا هاجت - رخصت - نقصت من قيمتها"، وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة، إلى ثمانمائة، وعدلها: ثمانية آلاف درهم.
قال: "وقضى على أهل البقر: بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء: فألفا شاة"، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نص في الذهب والورق، أنه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عباس واقعة عين لا عموم له، وفعل عمر ظاهر على أن تلك في سبيل التقويم، فهو مؤيد لما قلناه.
وأبو محمد يختار في العمد قولاً رابعاً، هو بعض الرواية الثانية، وهو: أن الدية: مائة من الإبل، أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم؛ وهذا ظاهر في الورق، لحديث ابن عباس إن صح. وعلى الرواية الأولى: من وجب عليه الدية، متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الديات (4543).(8/402)
ص -405- ... وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة على اختلاف الروايتين، وكذلك إذا لم توجد الإبل إلا بأكثر من ثمن المثل.
قال أبو محمد: وهذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها، إلا أن هذا لا يحدها، لكونها في غير مثبت، أو نحو ذلك، فإذًا ينتقل إلى غيرها; أما إذا غلت الإبل من غير نظر إلى قيمة، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشيخين، لظاهر حديث عمرو بن حزم، وحديث عمرو بن شعيب، وغيرهما، فإنه صلى الله عليه وسلم أطلق الإبل، ولم يقيدها بقيمة، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر: البقر، والغنم، والحلل التي فيها اعتبار قيمة.
أيضاً، فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطإ، فغلظ دية العمد وشبهه، وخفف دية الخطإ، واعتبار القيمة يفضي إلى التسوية بينهما، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرواية الثانية: يعتبر أن لا تنقص المائة بعيراً عن دية الأثمان، نظراً إلى أن عمر قوّمها كذلك، فيعتبر أن قيمتها كذلك؛ وأجيب: أنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك، فصرنا إليه عند ذلك، حذراً من التنازع. وحكى أبو محمد في الكافي الرواية: أنه يعتبر أن يكون قيمة كل(8/403)
ص -406- ... بعير مائة وعشرين درهماً، وقال في المغني: إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد، والتحقيق هو الأول. انتهى ملخصاً من شرح الزركشي على الخرقي.
إذا تقرر هذا، فالمتعين المعمول به هو ما نص عليه الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - مهما أمكن، ولا يقال بالقيمة إلا عند التعذر، فحينئذ يرجع إلى القيمة في الجميع، كل أصل بقيمته؛ وقيمة الريال بالدراهم الإسلامية، بالتحرير تقريباً: تسعة دراهم، كذا قيل.
وما علمنا، فيما بلغنا عن شيخ الإسلام، رخصة بتقدير قيمة الإبل خاصة بما ذكر، وإنما ذلك من ولي الأمر، في دية أعوز السن فيها ذلك الوقت، فقومت المائة بثمانمائة ريال، لا أنها بدل وقيمة مطلقاً، بل في وقت تقوم تكون قيمتها الثمان، وفي وقت أربعاً، وفي غيره ثلاثاً، وغير ذلك بحسب الغلاء والرخص؛ فقد عرفت المتيقن المعمول به، هذا ما ظهر لي.
وأجاب بعضهم، رحمه الله: وأما إذا اختلفت القيم، أي: قيم الدية والبلدان، فإنه ينظر إلى قيمة الإبل في بلد القاتل، إذا لم توجد الإبل.
[ حكم الدية على من قتل في الجاهلية ثم أسلم ]
سئل علماء الدرعية، رحمهم الله: عمن قتل في الجاهلية ثم أسلم؟(8/404)
ص -407- ... فأجابوا: وأما حكم هذا الشخص إذا قتل ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجُبُّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره.
وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وأما قتل الجاهلية، والجراحات، فما كان من ذلك مقطوعاً ديته، مضموناً، كثيراً أو قليلاً، فإنه يدفع إلى صاحبه، أو لم يكن مقطوعاً، ولا مطالباً به، فهدر.
وأجاب أيضاً: إذا أسلم سقط ما فعله في الشرك، وليس عليه دية لأهل القتيل، فإن كانت ديناً في الذمة، وقدرت بشيء معلوم، ودفع بعضه فيدفع الباقي، فإن كان لم يطالب بها إلا بعد الإسلام، ولا دفع منها شيئاً، فهدر.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل يودى المشرك؟
فأجاب: إذا ضرب المشرك أو جرح فدمه هدر، إلا الذمي، والمعاهد، والمستأمن، فديتهم إذا أصيبت نفس أحدهم، ثمانمائة درهم، والجروح ينظر فيها على قدر دياتهم.
[ هل المرأة تعاقل الرجل حتى تبلغ ثلث الدية ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: هل المرأة تعاقل الرجل حتى تبلغ ثلث الدية؟
فأجاب: المرأة كالرجل، تساوي جراحها جراحه، حتى تبلغ ثلث ديته، على الصحيح من المذهب. واستدل(8/405)
ص -408- ... علماؤنا، رحمهم الله، في كتبهم، بحديث عمرو بن شعيب، الذي رواه النسائي، بكلام سعيد بن المسيب لربيعة، وهو ظاهر في أن المراد الثلث من دية الرجل؛ ولفظ الحديث الذي نقلت من شرح زاد المستقنع، هو كما نقلت، وهو كذلك في المنتقى والمحرر، والجامع الصغير، ولفظه: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديتها"1، رواه النسائي والدارقطني.
قال الحافظ ابن عبد الهادي في محرره: هو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو كثير الخطإ؛ وعلى تقدير صحته، واستدلال الفقهاء به، يحتمل أن يكون الضمير للمضاف إليه المحذوف، أي: عقل جراح المرأة، فهو راجع إلى الجراح، لكونه مفهوماً من الحديث، لا إلى المرأة، إذ لو كان كذلك، لما صح الاستدلال به، على أن جراح المرأة مثل جراح الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديته، مع مخالفته لكلام سعيد؛ وقد استدل العلماء بهما معاً على حكم واحد، وذلك ينبئ عن الاتفاق في المعنى.
دية الرقيق
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن دية الرقيق؟
فأجاب: دية المملوك قيمته، سواء كثرت أو قلت.
وسئل: هل الغرة في الجنين واجبة على كل حال، خلق أم لا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: القسامة (4805).(8/406)
ص -409- ... فأجاب: المشهور أن الغرة تجب إذا وضعت المرأة ما تنقضي به عدتها، وتصير به الأمة أم ولد، وذلك إذا تبين فيه خلق الآدمي.
دية الجنين
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا شربت دواء أو جنى الزوج على زوجته وألقت جنيناً ميتاً، هل تجب الغرة ولا يرث منها... إلخ؟
فأجاب: إذا شربت الحامل دواء وألقت جنينها، فعليها غرة عبد أو أمة، ولا ترث منها شيئاً، لأن القاتل لا يرث المقتول، فتكون الغرة لسائر ورثته، وعليها عتق رقبة؛ وليس في هذا اختلاف بين أهل العلم نعلمه. ولو كان الجاني المسقط الجنين أباً، أو غيره من ورثته، فعليه غرة لا يرث منها شيئاً ويعتق رقبة؛ وهذا قول الزهري والشافعي وغيرهما. ولو قتل حاملاً فلم تسقط جنينها، فلا شيء فيه، لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه. انتهى من الإقناع وشرحه.
وعبارة الكافي: وإن قُتِلت فلم تسقط لم يضمن جنينها، لعدم اليقين لحملها. انتهى. وكذا قال الزركشي وغيره، وكذا قال ابن المقري الشافعي في شرح الإرشاد.(8/407)
ص -410- ... [ فصل في دية العين والسمع والبصر ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن دية العين والسمع والبصر... إلخ؟
فأجاب: أما دية العين والسمع إذا ذهب والبصر، مع عفو المجني عليه عن القصاص، كم هي دراهم؟ فالبصر إذا ذهب كله: الدية كاملة مائة من الإبل، تقديرها عندنا: ثمانمائة ريال.
دية الأعضاء
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن اليد إذا قطعت من المرفق ولم يبق فيها إلا جلدة يسيرة؟
فأجاب: في اليد نصف الدية، ولا عبرة بالجلدة.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا عاب من الإنسان يده أو رجله وبقي العضو مع عيبه، هل الدية تامة؟
فأجاب: هذا فيه تفصيل، وذلك أن ينظر إلى العضو، فإن ذهب نفعه بالكلية، بحيث تعطل نفعه فديته تامة، وأما إذا كان في العضو نفع، فليس فيه من الدية إلا بقدر الذاهب من النفع.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن ضرب في كفه وحصل بالكف عيب؟
فأجاب: إن تعطل بالكلية ففيه الدية، وإن تعطل بعض الأصابع، ففي كل أصبع إذا تعطلت عُشْر الدية.(8/408)
ص -411- ... وسئل بعضهم: عن الضلع، والترقوة، والسن السوداء... إلخ؟
فأجاب: أما الضلع والترقوة والسن السوداء، أو السن الزائدة، واليد الشلاء، ففي مصنف عبد الرزاق:? "أن عمر قضى في السن السوداء، واليد الشلاء بثلث ديتها"، وفيه عن زيد بن ثابت أنه قال: "في السن الزائدة ثلث دية السن"، وفيه عن عمر أنه قال: "في الترقوة جمل، وفي الضلع جمل"، وأما السن الذي قد ذهب نفعها إلا للجمال، فلا يحضرني الآن فيها شيء مقدر.
دية الشجاج
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن دية السن والإصبع والشجاج وغيره؟
فأجاب: دية السن: خمس من الإبل، وقيمتها: أربعون ريالاً. والإصبع: عشر من الإبل، وقيمتها: ثمانون ريالاً. والموضحة في الرأس تقدر: بخمس من الإبل، وهي: الموضحة التي توضح العظم، أي: يتبين ولو بقدر رأس إبرة، فيها: خمس قيمتهن: أربعون ريالاً للذي ما عنده إبل؛ وموضحة الوجه والرأس سواء. وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، ففي كل واحدة دية الموضحة. ثم الهاشمة وهي: التي توضح العظم وتهشمه، ففيها: عشر من الإبل، قيمتهن: ثمانون ريالاً. ثم المنقلة وهي: التي توضح وتهشم، وتنقل عظامها بتكسرها، ففيها: خمس عشرة من الإبل،(8/409)
ص -412- ... قيمتهن: مائة وعشرون ريالاً.
ثم المأمومة، وهي: التي تصل إلى أم الدماغ، وهي الجلدة التي فيها الدماغ، وفيها: ثلث الدية. وفي الدامغة: ثلث الدية، وهي: التي تخرق جلدة الدماغ. وما سوى ذلك من الشجاج فليس فيه تقدير، بل يجتهد فيه الحاكم هو واثنان من أهل العدالة، ويقدرونه باجتهادهم.
وفي الجائفة: ثلث الدية، وهي: التي تصل إلى باطن الجوف، من بطن أو صدر أو ظهر؛ فإن كانتا جائفتين وبينهما حاجز، ففيهما: ثلثا الدية. وفي قطع مارن الأنف: الدية. وفي كل واحد من المنخرين والحاجز بينهما: ثلث الدية. وفي كل واحدة من الثندوتين نصف الدية.
وقال أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ: يعلم من يراه، بأن دية الموضحة، سواء كانت في الرأس أو في الوجه، إذا بان العظم ولو قدر مقرّ إبرة، فديتها: خمس من الإبل، فإن هشمت العظم فديتها: عشر، فإن سقط منها عظام فديتها: خمس عشرة. وفي الرجل المكسورة، أو اليد إن كان نفعها زائلاً بالكلية: خمسون ناقة؛ فإن كان ذهب بعض نفعها، ثبت من الدية بقدر ما ثبت من النفع. والإصبع إذا قطعت فيها: عشر من الإبل؛ وفي الفصلة من الإبهام خمس من الإبل.
والرصاصة أو الرمح إذا هوى في البطن، ففيه: ثلث(8/410)
ص -413- ... الدية، فإن كانت خرقت الجنب الآخر، ففيها: ثلثا الدية، لأنها جائفتان. وفي الضلع: بعير، إذا انكسر. وفي الترقوة: بعير. وفي الذراع إذا انكسر: بعيران. وفي الفخذ إذا انكسر: بعيران. وفي العضد إذا انكسر بعيران. والجروح التي غير ما ذكرنا، يجتهد العمال في ديتها، ولا يبلغون بها دية ما ذكرنا.
[ أرش الجراحات ]
وقال الشيخ حسن بن الشيخ محمد: بيان أرش الجراحات على التقدير، أي: الحد، وهي في الرأس، والوجه، تسمى: شجاجاً، وفي البدن دون الرأس والوجه، تسمى: جراحات.
الأولى: في الرأس والوجه، تسمى: حارصة، وهي ما تشق الجلد ولا تدميه، فأرشها: خمسة دنانير.
الثانية: وهي التي تشق الجلد وتدمي، ولا يقطر دمها، فأرشها: عشرة دنانير؛ فإن سال منها الدم فهي: دامعة - بالعين المهملة – فأرشها: اثنا عشر مثقالاً ونصف مثقال.
الثالثة: الباضعة، وهي: ما تقطع اللحم قليلاً، فأرشها: عشرون ديناراً.
الرابعة: المتلاحمة، وهي: ما تقطع اللحم كثيراً، فأرشها: ثلاثون ديناراً.
الخامسة: السمحاق، وهي: ما يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة، فأرشها: أربعون ديناراً.
السادسة: وهي ما توضح العظم في الرأس والوجه، ففيها القصاص إذا كان عمداً محضاً، فإن كان خطأً أو عفا(8/411)
ص -414- ... عن المال، فأرشها: خمس من الإبل نصف عشر دية صاحبها.
السابعة: الهاشمة، ففيها: عشر من الإبل.
الثامنة: المنقلة، وهي: التي تنقل العظم، وأرشها: خمس عشرة من الإبل.
التاسعة: وهي التي تصل إلى الجلدة التي تلي الدماغ، ففيها: ثلث الدية أيضاً، كالمأمومة والجائفة. هذا إذا كانت الجراحة في وجه الرجل المسلم الحر، أو في رأسه؛ فإن كانت على غير الرأس والوجه، ففي الكل: نصف ذلك، والمرأة: نصف ذلك، وهكذا مقتضى الحكومة.
والمثقال هو: الدينار من الذهب: ثنتان وسبعون شعيرة، والدرهم: خمسون شعيرة وخمساها، وكل عشرة دراهم: سبعة مثاقيل.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الجراحات المقدرات، مثل الموضحة، والمأمومة إذا كانت في العبد، فديتها فيه نسبتها من ثمنه، والموضحة من الحر ديتها: نصف عشر الدية، ومن العبد: نصف عشر قيمته بعد البرء، والجائفة في الحر فيها: ثلث الدية، ومن العبد: ثلث قيمته. وأما الجراحات التي لا مُقدَّر فيها من الحر، فديتها من العبد ما نقص قيمته بعد البرء.
وأما قولك: من ينظر في جراحات النساء؟ فالذي ينظر في جراح النساء، من يوثق به من أهل الخبرة والمعرفة.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الجرح(8/412)
ص -415- ... في الرِّجل، والفخذ، لا تقدير فيها، إذا سلم العظم، ولم تتعطل منفعة العضو، ولكن فيها حكومة، وهي: أن يُقَوَّم المجني عليه قيمة عبد، ثم ينظر ما نقصته الجروح، فإن نقصته عشر القيمة أو ثمنها مثلاً، فيعطى من دية الحر الخمس أو العشر.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن جماعة تعدوا على رجل وضربوه، وحصل فيه شجاج، ويدعي أن هذه الشجة من فلان، وهذه من فلان مثلًا، وهم لا ينكرون أنهم تعدوا وضربوا، لكن كل ينكر تلك الشجة المعينة أن تكون منه؟
فأجاب: ما يكون من الشجاج والجروح، على الوجه الذي ذكرت، يعرف أرشه، وما يستحقه من القيمة على جميع المعتدين، المجتمعين على ذلك العدوان.
وأما ما سألت عنه: من عادتنا في تقدير حكومة الشجاج التي دون الموضحة، فالجواب غير خاف عليك حقيقة الحكومة وكيفيتها، ونحن في الغالب ما نعتبر الحكومة، لكن نتحرى ما تأخذ الجناية من اللحم الحاصل بين البشرة وبين العظم - أعني: حد الموضحة - ثم نعرف نسبة ما أخذته الجناية من اللحم، إلى أرش الجناية، وهو: نصف عشر الدية؛ فإذا عرفنا أن الجناية أخذت ثلث ما بين البشرة إلى حد الموضحة، ففيها: ثلث أرش الموضحة،(8/413)
ص -416- ... وهكذا. وهذا قد ذكره بعض العلماء، وهو حسن، لكنه يحتاج إلى عارف بصير بالجراحات؛ ولكن إذا علم الله من العبد تحري العدل والإنصاف، فالله يغفر له.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا لم تنقص الجناية المجني عليه بعد البرء ولا حالة جريان الدم؟
فأجاب: المشهور في المذهب أنه لا شيء فيها سوى التعزير، فقد صرحوا بوجوب التعزير في ذلك; قال في الإنصاف، في هذه المسألة: فإن لم تنقصه شيئاً بحال، أو زادته حسناً كإزالة لحية امرأة، أو إصبع زائدة ونحوه، فلا شيء فيه؛ هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال في المحرر: فلا شيء فيها على الأصح، قال في الفروع: فلا شيء فيها في الأصح، وكذلك قال الناظم، وصححه في المغني والشرح وغيرهما.
وقيل: بلى، قال القاضي: نص أحمد على هذا، قال المصنف: على هذا يُقَوَّم في أقرب الأحوال إلى البرء، فإن لم ينقص في ذلك الحال، قُوِّم حال جريان الدم، لأنه لا بد من نقص للخوف عليه، ذكره القاضي، وجزم بهذا القول في الهدى، والمذهب والخلاصة. انتهى.
وعلى القول الأول، يعزر الجاني، لأنهم صرحوا بوجوب التعزير في جناية لا قصاص فيها، كالصفع والوكز ونحو ذلك، مع أن في اللطمة ونحوها، رواية في ثبوت(8/414)
ص -417- ... القصاص في ذلك؛ قال في الإنصاف، لما ذكر عدم وجوب القصاص في ذلك، قال: إنه المذهب، وعليه الأصحاب، قال ونقل حنبل والشالنجي: القود في اللطمة ونحوها.
ونقل حنبل: قال الإمام أحمد والشعبي، والحكم وحماد، قالوا: ما أصاب بسوط أو عصا، وكان دون النفس، ففيه القصاص، قال أحمد: وكذلك أرى; ونقل أبو طالب: لا قصاص بين المرأة وزوجها في أدب يؤدبها به، فإن اعتدى أو جرح، يقتص لها منه.
ونقل ابن منصور: إذا قتله بعصا، أو خنقه، أو شدخ رأسه بحجر، يقتل بمثل الذي قتل به، لأن الجروح قصاص; ونقل أيضاً: كل شيء من الجروح والكسر يقدر على القصاص، يقتص منه، للأخبار؛ واختار ذلك الشيخ تقي الدين، وقال: ثبت عن الخلفاء الراشدين.
[ فصل في الذين لا يلزمهم عقل ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن عمودي النسب هل يعقلون؟
فأجاب: وعمودي النسب ما يلزمهم عقل.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يحمل الصبي والمرأة واليتيم شيئاً من الدية؟
فأجاب: الصبي والمرأة واليتيم، ما عليهم شيء من(8/415)
ص -418- ... الدية التي تسوقها العشيرة، ولو كان أبو اليتيم القاتل.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الذين يعقلون في الدية، ما حدهم الذي ينتهون إليه في البعد والقرب؟
فأجاب: لا خلاف بين أهل العلم، أن العاقلة العصبات، وأن غيرهم من الإخوة من الأم، وسائر ذوي الأرحام، والزوج، وكل من عدا العصبات، ليس هم من العاقلة; وسائر العصبات من العاقلة، بعدوا أو قربوا من النسب، والولاء؛ وبهذا قال عمر بن عبد العزيز، وحماد ومالك والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا - إلى أن قال - وليس على فقير من العاقلة، ولا صبي، ولا زائل عقل، حمل شيء من الدية، وأكثر أهل العلم: أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ، لا يعقلان، وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء؛ وهذا قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي. انتهى ملخصاً. فقد علمت: أن العاقلة: العصبات الذين يرثون بالتعصيب، وأنهم يعقلون وإن حجبوا، وأن الفقير والمرأة والصبي لا عقل عليهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوم اجتمعوا وعقدوا بينهم العهود في الموازرة، والمعاونة على(8/416)
ص -419- ... الأضياف، والمدافعة، وأنهم يعقلون في الدماء، عمدها وخطأها؟
فأجاب: الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع لم يجب التزامه، ولا الوفاء به، فإن قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، كما ثبت في الصحيحين من حديث بريرة - الحديث -. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه، يخالف حكم الله، فإن الحكم الشرعي: أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطإ على العاقلة؛ وهذا أمر لا خلاف فيه بين العلماء، فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي، بحلف الجاهلية وعقودهم وعهودهم؟!
وسئل: عن الصبي إذا قتل؟
فأجاب: الصبي إذا قتل أحداً خطأ أو عمداً، فدية المقتول على عاقلة الصبي، لأن عمده كالخطإ.
ومن قتله المسلمون خطأ، فديته على بيت المال، والعاقلة لا تحمل إلا الخطأ في الجائفة فما فوقها، وأما دون الجائفة في الخطإ، ففيه خلاف بين العلماء؛ والذي نفتي به عندنا: أنها لا تحمل ما دون الثلث، وإنما تحمل ما فوق الثلث فأكثر في الخطإ خاصة; فدية الجائفة والمأمومة على الجاني خاصة في العمد، والظاهر أنها ليست منجمة، بل هي حالة.(8/417)
ص -420- ... سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ما المعتبر فيما تحمله العاقلة... إلخ؟
فأجاب: اعلم أن المشهور: أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث، ولا تحمل ما فوق الثلث إلا في الخطإ خاصة; وأما في العمد، فتلزم الجاني في ماله حالّة، وإذا حملت العاقلة رد ولم تحمل؛ فالاعتبار في ذلك بحال المجني عليه، إذا كان حراً مسلماً ولم يكن جنيناً. وأما دية الجنين، فلا تحمله العاقلة لنقصه عن الثلث، إلا إذا كان تبعاً لأمه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا تعذر حصول الأرش الواجب على العاقلة لعدمهم أو فقرهم، وتعذر الأخذ من بيت المال، فهل يلزم به الجاني؟
فأجاب: الصحيح من المذهب: السقوط والحالة هذه، ولا يطالب الجاني بذلك؛ قال في الإنصاف: هو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، بناء على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء. وجزم به الخرقي وصاحب الوجيز والمنور، ومنتخب الآمدي، وغيرهم؛ قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، والحاوي الصغير والفروع وغيرهم، وهو من مفردات المذهب.
ويحتمل أن تجب في مال القاتل؛ قال المصنف هنا:(8/418)
ص -421- ... وهو أولى، فاختاره، يعني: اختار المصنف - وهو الشيخ موفق الدين بن قدامة - هذا القول الثاني; قال في الشرح: فإن لم يمكن الأخذ من بيت المال، فليس على العاقلة شيء؛ وهذا أحد قولي الشافعي; ولأن الدية لزمت العاقلة ابتداء، بدليل أنها لا يطالب بها غيرهم - إلى أن قال - فعلى هذا، إن وجد بعض العاقلة، حملوا بقسطهم، وسقط الباقي فلا يجب على أحد.
قال شيخنا: ويحتمل أن تجب في مال القاتل، إذا تعذر حملها عنه، وهذا القول للشافعي، لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [سورة النساء آية:92]، ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني، جبراً للمحل الذي فوته، وإنما سقط عن القاتل، لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل، ولأن الأثر دائر بين أن يبطل دم المقتول، وبين إيجاب ديته على المتلف، ولا يجوز الأول، لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة، وقياس أصول الشريعة، فتعين الثاني، ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له، وإيجاب الدية على القاتل له نظائر؛ وأطال الكلام في تقوية هذا القول.
واختار هذا القول الثاني أيضاً: الشيخ تقي الدين، قال في الاختيارات: وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة، في أصح قولي العلماء; قال في شرح الإقناع:(8/419)
ص -422- ... وعنه: تجب في مال القاتل، قال في المقنع: وهو أولى، أي: من إهدار دم الأحرار في غالب الأحوال، فإنه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدية كلها، ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال، فتضيع الدماء.
القسامة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل في العبيد والصبيان والنساء القسامة؟
فأجاب: نعم في العبيد والصبيان والنساء القسامة، إذا قتل أحد منهم، وإذا ثبت اللوث ثبتت القسامة؛ والذي ذكر بعض أهل العلم: أن النساء لا قسامة عليهن، يعنون بذلك أنهن لا يحلفن مع الرجال في القسامة.(8/420)
ص -423- ... كتاب الحدود
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن يقيم الحدود.
فأجاب: الذي ذكر العلماء أن الإمام هو الذي يقيم الحدود، أو نائبه كالأمير الذي يؤمِّره الإمام على بلده، أو عشيرته؛ وإذا ثبت ذلك جاز له إقامة الحدود على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وبيّنه أهل العلم في كتبهم; وأما إذا كان لا يعرف ذلك، وليس عنده من يعلمه بذلك، فلا يجوز له الإقدام على ذلك. وأما إذا نصب نفسه أميراً من غير نصب من أمير المسلمين، فلا يجوز له الإقدام عليه أيضاً.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة، وكمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما المعاصي التي فيها الحد، فلا يقيمه إلا الإمام أو نائبه; وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان: الأئمة والقضاة، كمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدانهم.(8/421)
ص -424- ... [ حد الزنى ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حد الزاني؟
فأجاب: حد الزاني المحصن - وهو الذي قد تزوج -: الرجم، إذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، يشهدون بأنهم رأوا ذكره في فرجها داخلاً، كدخول الميل في المكحلة؛ فإن توقف واحد منهم في شهادته على ما ذكرنا، فالشهود يحدون حد القذف، كل واحد يضرب ثمانين جلدة؛ والشهادة المعتبرة في الزنى صعبة جداً.
وإذا ثبت زناه بشهادة أربعة، رجم بالحجارة التي تؤخذ في اليد، واقفاً أو جالساً; والمرأة تشد عليها ثيابها عن التعري، أو يحفر لها حفيرة. وأما الرجل الذي لم يتزوج، والمرأة التي لم تتزوج، فإذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، فيجلد مائة جلدة ويغرب عن وطنه عاماً. وأما السوط الذي يجلد به، فهو مثل الجريدة والعصا، بشرط أنها لا تكسر العظام.
وأجاب أيضاً: وأما حد الزاني، فإن كان محصناً - وهو الذي قد تزوج -: الرجم حتى يموت; وإن كان بكراً لم يتزوج: مائة جلدة، ويغرب عن بلده عاماً؛ والمرأة كالرجل في ذلك، هكذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل: إذا وطئ ربيبته أو امرأة ابنه مطاوعة أو مكرهة؟(8/422)
ص -425- ... فأجاب: إن كانت مطاوعة لزمها الحد بغير خلاف، ومذهب أحمد: أنه إذا وطئ ذات محرم فإنه يقتل؛ وأما إذا كانت مكرهة، فليس عليها حد، وإن كانت مطاوعة فعليها الحد بشروطه.
والصبي إذا زنى يؤدب أدباً بليغاً، ولا يحد إذا كان دون البلوغ، والأمة إذا زنت فيجلدها سيدها خمسين جلدة.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا وطئ الصبي الصبية هل يلزمهما غير التعزير؟
فأجاب: لا يلزمهما حد، بل يعزران تعزيراً بليغاً; قال الشيخ تقي الدين: لا خلاف بين العلماء أن غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيراً بليغاً.
وسئل: إذا زنت المرأة البكر وجلدت، فهل تغرب؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث، أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام"1.
[ الإقرار بالزنى ]
وسئل: عن الإقرار بالزنى هل يكفي فيه مرة أو أربع؟
فأجاب: المسألة خلافية بين أهل العلم، والأحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات، كما هو مذهب الإمام أحمد، ولا بد أن يقيم على إقراره حتى يتم الحد؛ بل لو شرعوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الحدود (1690), والترمذي: الحدود (1434), وأبو داود: الحدود (4415), وابن ماجة: الحدود (2550), وأحمد (5/313, 5/327), والدارمي: الحدود (2327).(8/423)
ص -426- ... إقامة الحد عليه فرجع، تُرك، لحديث ماعز.
ما يثبت به الزنى
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن محصن زنى ببكر تزعم أنه غصبها، وهما عسيفان لرجل، وهرب الزاني، والمرأة ليس لها إلا عصبة أباعد، فما حكمها؟
فأجاب: الرجل إذا زنى وهو محصن، وثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، وثبتوا على شهادتهم، أو أقر أربع مرات وهو صحيح العقل، وجب رجمه، فإن لم يكمل النصاب أو الإقرار، عزر.
والمرأة البكر إذا ثبت زناها، جلدت مائة جلدة، وغربت عن وطنها عاماً، وغرب معها ذو محرم؛ فإن لم يكن لها محرم، أو خيف عليها من التغريب، تركت بعد تأديبها. فإن ادعت أنها مكرهة أو مغصوبة، سقط عنها الحد؛ ولا حد إلا بعد وضعها وفطام ولدها. والزاني المذكور إذا هرب، ولم يمكن إقامة الحد عليه، فلا شيء على عصبته. والحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه. ونفقة المرأة على القريب من عصبتها، وإن كان معسراً فمن بيت المال، فإن تعذر الكل فعلى أهل بلدها.
وقولك: هل لمن عندهم المرأة أن يرسلوها إلى العراق؟ فلا يجوز تغريبها إلى أوطان المشركين.(8/424)
ص -427- ... ولبعضهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه صورة واقعة في سنة 1218هـ في إمارة الأخ عبد الله بن عامر، حفظه الله، وفي محل ولايته، وهي: أن امرأة من المنجحة حبلت من غير زوج، بل ذكرت أنها رأت منياً مصبوباً على فرجها من غير أن يضاجعها أحد أو يولج في فرجها ذكر، وكانت عند ذلك نائمة، ثم استيقظت فرأت رجلاً قريباً منها، فاتهمته بذلك من غير أن تدعي أنه أدخل في فرجها ذكره وزنى بها، ولا رأته فوقها، ولا ترى أنها زنت، بل تقول: ما فرقني ولا فقعني، والحال هذه أنها نائمة لا تشعر.
وذكر أبوها: أنها تنام نوماً بحيث تبول على فراشها وهي لا تشعر. وحبلت من هذا المني، وأنكر الرجل الذي اتهمته إنكاراً جلياً، والحال أنهما بكران؟
فالجواب، والله الموفق للصواب: أنه ذكر في الميزان للشعراني، في باب: قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: أنه إذا ظهر بالمرأة حمل ولا زوج لها، فلا حد. وقال مالك: يجب. ووجه الأول: يعني قول الثلاثة، عدم تحقيقنا منها ما يوجب الحد، لاحتمال أنها(8/425)
ص -428- ... وطئت وهي نائمة، فحملت من ذلك الوطء. وقد روى البيهقي: "أن امرأة لا زوج لها أتي بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وجدوها حاملاً، فقال عمر للحاضرين: إن هذه ما هي من أهل التهمة، ثم استفهمها عن شأنها، فقالت: يا أمير المؤمنين، إني امرأة أرعى الغنم، وإذا دخلت في صلاتي فربما غلب علي الخشوع فأغيب عن إحساسي، فربما أتى أحد الفتيان فغشيني من غير علمي، فقال لها عمر: وذلك ظني بك، ودرأ عنها الحد" انتهى كلام الشعراني.
وهذه الواقعة أعظم، لأنها لم توطأ، فشبهتها بينة جلية، والتي كلمت عمر قد وطئت، وإنما اعتذرت بما يصيبها إذا صلت، والأئمة الثلاثة عذروها، لاحتمال أنها وطئت وهي نائمة; وهذه الواقعة لا احتمال فيها، بل هي نائمة يقيناً ولا وطي أيضاً، بل سيلان المني عليها، فهي أعذر وأظهر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، في السياسة الشرعية: واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولم تدع شبهة في الحمل، ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره، وقيل: لا حد عليها، لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة أو متحمل أو وطي شبهة; وقيل: بل تحد، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول(8/426)
ص -429- ... الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها. انتهى كلام ابن تيمية، رحمه الله.
وتفطن: أن كلامه فيما إذا لم تدع شبهة، أما إذا ادعت شبهة كالنوم في مسألتنا هذه، فلا خلاف بين العلماء: أنها لا تحد عند أحمد وغيره، بل ولا عند ابن تيمية كما يظهر أيضاً من كلامه، ويدل عليه: أن عمر رضي الله عنه عذر المرأة لما ذكرت له ما يصيبها من الغيبة إذا صلت، وإلا فإن عمر يقول: "إن الحبل يثبت به الزنى"، كما ذكره عنه البخاري في خطبته بالمدينة بعد قفوله من الحج؛ وهذه لطيفة فاستفدها واعرف الفرق والجمع بين العبارات، ولا تختلط عليك المتشابهات.
وفي الجامع الصغير للسيوطي، في حرف الدال: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطي في العفو خير من أن يخطي في العقوبة" 1، أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة، وقال فيه: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" 2، أخرجه ابن عدي وقال فيه: "ادفعوا الحدود عن عباد الله ما وجدتم له مدفعاً" 3، أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة.
ولا شك أن النوم فيه شبهة ظاهرة ومدفع صحيح، وقد رفع القلم عن النائم، قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الحدود (1424).
2 الترمذي: الحدود (1424).
3 ابن ماجة: الحدود (2545).(8/427)
ص -430- ... ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" 1، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة. وقال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" 2.
وهذه الأحاديث يستدل بها على من وُطِئت وهي نائمة، وأما هذه الواقعة فلا وطي فيها أصلاً، فهي أحق وأولى؛ قال في الأنوار: ولو زنى مجنونة أو مراهقة أو نائمة حدّ. انتهى. ولم يقلك حدت، فاعرف الفرق; وقال فيه: ويشترط الاختيار فلا حد على مُكرَه، والتكليف فلا حد على صبي ولا مجنون لارتفاع القلم عنهما. انتهى. ولم يذكر النائم وهو غير مكلف لأنه قد نص عليه.
قال بعض أهل الأصول:
ومُلْجَأ ومكره وغافل ... ليس التكليف غير مدخل
انتهى. قال: ومنهم الساهي، وأولى منهم النائم؛ فهؤلاء لا يتناولهم اسم التكليف. وقد اتفق العلماء رحمهم الله: أن التكليف شرط لوجوب الحد، واتفقوا: أن النائم ليس بمكلف; قال في الإقناع: للشافعي في الذي يجب حده مكلف، فخرج الصبي والمجنون.
وقد سمعت كلام أهل الأصول: أن النائم أولى منهما; وكذلك شرطوا إيلاج الحشفة أو قدرها في فرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطلاق (3432), وأبو داود: الحدود (4398), وابن ماجة: الطلاق (2041), وأحمد (6/100, 6/144), والدارمي: الحدود (2296).
2 أبو داود: الحدود (4399).(8/428)
ص -431- ... وتظاهروا على ذلك في عباراتهم. أما مطلق وصول المني بلا إيلاج فسكتوا عنه في الزنى، وذكروه في الجناية والعدة; قال في روض ابن المقري، رحمه الله: وتحد امرأة استدخلت ذكر نائم، لا المني لم تقه. انتهى. فذكر استدخال الذكر، لا المني.
وقد مر كلام ابن تيمية: أن احتمال التحمل عذر وشبهة دافعة، فكيف يقينه لا احتماله؛ قال في المنهاج للنووي، رحمه الله: ولو شهد أربعة بزناها، وأربع نسوة أنها عذراء، لم تحد لشبهة بقاء العذرة.
وقال القاضي زكريا: لا تحد، لأن الظاهر من العذراء أنها لم توطأ; وهذه المرأة تدعي أنها بكر عذراء، فأمرت أربع نسوة ثقات ورأوها، وشهدن بالله أنها عذراء لم تزل بكارتها، وهذا منها إقامة للحبل في ثبوت الزنى مقام الأربعة الشهداء احتياطاً، وإلا فقد عرفت ما فيه عند الأئمة وكلامهم أيضاً في الحبل من الوطي احتمالاً، أما مجرد دخول الماء من غير وطي فليس كذلك، وإنكارها للزنى فيه كفاية. قال في الأنوار: ولو وجد بامرأة حبل، أو ولدت وأنكرت الزنى، أو سكتت، فلا حد.
إذا علمت هذا، فلنحصر لك الأسباب الدافعة للحد في هذه المسألة:
الأول: أن الحبل وحده لا يثبت به الحد عند أكثر العلماء.
الثاني: أن الحبلى إذا ادعت شبهة كالنوم(8/429)
ص -432- ... مثلاً، فلا خلاف بينهم أنه يسقط الحد، كما ذكره ابن تيمية وصاحب الميزان والأنوار.
الثالث: أنها غير مكلفة عند سبب الحمل في الظاهر، لأن القلم مرفوع عن النائم، كما ورد، ولو كان وطأ حقيقياً، فكيف بما نحن فيه.
الرابع: أنه لم يوجد إيلاج الحشفة في فرجها، ولم تدع ذلك، وإنما ذكرت سيلان الماء عليها، والإيلاج شرط في الزنى، يلزم من عدمه العدم.
الخامس: ما ذكره أبوها من شدة نومها وعدم إحساسها.
السادس: كون بكارتها موجودة لم تزل كما شهد بذلك أربع نسوة.
السابع: وجود الشبهة الدافعة بهذه الستة الأمور، وواحد منها يكفي في الدفع; هذا حكم المرأة.
وأما الرجل، فلا حد عليه لأمور ثلاثة:
الأول: أنها لم تدع عليه شبهة الزنى وإيلاج الحشفة في فرجها، إنما اتهمته بصب المني.
الثاني: أنه لم يقر بهذا ولا بذاك.
الثالث: أنه لم يشهد عليه الشهادة المعتبرة.
هذا ما ظهر لي في هذه الحادثة العجيبة والواقعة الغريبة، حين وصل إلي: المرأة المذكورة، وأبوها، وأمير المنجحة، وجماعة منهم الرجل المتهم، وطلبوا: إظهار الحكم في ذلك، وجزى الله عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بما فصل ما جزى نبياً عن أمته؛ فقد تركنا على البيضاء ليلها كنهارها، وبلغ البلاغ المبين; وجزى الله ورثته العلماء خيراً فقد(8/430)
ص -433- ... وضحوا وبينوا، وجزى الله أمير البلاد عبد الوهاب أفضل الجزاء; وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.
الشبهه في الزنى
وسئل الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي، عن رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها وهي بكر، فطلب الدخول فامتنع أهلها، فدخل بيتهم يوماً على غرة رجاء أن يصادف زوجته، فصادف أختها فظنها هي فهجم عليها وسدّ فاها، ووطئها.
فلما علم أبوها غضب وحلف بالطلاق أنه ما يدخل على ابنته التي صارت سبباً لوطي أختها سفاحاً. فسكت الرجلان مدة، هذا على غضبه وهذا على حيائه وفشله، ولم يراجع أحدهما الثاني خوفاً من فشو ذلك عند الناس، ثم تبين أن الموطوءة قد حملت، فصار الكل في هم وحزن شديد، فما الحكم في ذلك، أثابكم الله؟
فأجاب: هذا الوطء على ما ذكرتم وطء شبهة ليس فيه حد، ويلحق به النسب، والذي فيه راحة وستر للجميع مع موافقة الحكم الشرعي أن يطلق الزوج زوجته التي عقد عليها ولم يدخل بها، ويعقد على الثانية التي وطئها ويدخل عليها بيومه، لأن الحمل له؛ والأولى ليس لها عدة، ولا يقع بذلك طلاق على زوجة الأب. وإن كان رغبة الزوج في زوجته الأولى، فيصبر حتى تنقضي عدة الثانية بوضع حملها، ثم يدخل على الأولى، ويقع على زوجة الأب طلقة واحدة(8/431)
ص -434- ... إن لم يكن نوى أكثر، والله أعلم.
الإكراه على فعل محرم
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن الإكراه على فعل محرم... إلخ؟
فأجاب: فيه تفصيل يعذر فيه ببعض دون بعض، فلو أكرهت المرأة لم تحد عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية [سورة النور آية: 33].
وطء الماشية
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن يطأ الماشية؟
فأجاب: والرجل الذي يطأ الماشية يؤدب أدباً بليغاً.
حكم اللواط
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن حكم من فعل اللواط، أو أتى بهيمة؟
فأجاب: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط؛ وأما حكمه، فاختلفت الرواية عن أحمد: فعنه: أن حده الرجم بكراً كان أو ثيباً، وهذا قول علي وابن عباس وجابر، وغيرهم من الصحابة، ومالك وأحد قولي الشافعي; والرواية الثانية: حده حد الزنى، وبه قال ابن المسيب وغيره. ووجه الرواية الأولى، قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 1، رواه أبو داود وفي لفظ: "فارجموا الأعلى والأسفل" ولأن الصحابة أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته. انتهى ملخصاً من المغني.(8/432)
ص -435- ... وقال الشيخ تقي الدين - في جواب له -: وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 1، ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعاً، لكن تنازعوا في صفة القتل: فمذهب جمهور الفقهاء: أنهما يرجمان، بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً للآخر; واتفق المسلمون على أن من استحلها من مملوك أو غيره، أنه كافر مرتد. انتهى. وإنما يثبت هذا الحد ببينة أو إقرار كالزنى، سواء.
وأما من أتى بهيمة فهو يعزر ويبالغ في تعزيره، ولا حد عليه، روي ذلك عن ابن عباس وحماد، ومالك وأصحاب الرأي; وهو قول الشافعي. وتقتل البهيمة ويكره أكلها. وإنما يثبت هذا التعزير بشهادة رجلين عدلين، أو إقراره، ولو مرة.
حكم الوسم
سئل بعضهم: عن شق أنف الحمار... إلخ؟
فأجاب: لا يجوز أن يحمل الدابة ما لا تطيق، ولا يجوز وسمها في وجهها، ولا ضربها في الوجه، لأنه صلى الله عليه وسلم لعن من وسم أو ضرب في الوجه؛ وتشقيق المناخر أعظم، فانهوا عنه، فمن شق بعد النهي عزر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الحدود (1456), وأبو داود: الحدود (4462).(8/433)
ص -436- ... باب حد القذف
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حد القذف؟
فأجاب: وأما حكم القذف بالزنى، فإذا قذف [إنسان] رجلاً أو امرأة بالزنى، ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون بأنهم رأوا ذكره في فرجها، كالميل في المكحلة، فإنه يجب عليه حد القذف: ثمانون جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً. وحد القذف حق للمقذوف، إن طلبه أقامه عليه الأمير، فإن عفا عنه فلا يقيمه الأمير؛ لكن إن كان القاذف معروفاً بالشر، جاز للأمير تأديبه عن تعرض أعراض المسلمين.
وأما الذي يرمي أخاه بالزنى، ويعتذر أن ما له قصد، وأنه من الشيطان، فليس هذا بعذر، فإن كان المقذوف بالزنى شكاه على الأمير، أقام عليه الحد، وإلا أدب أدباً يزجره عن مثل هذا الكلام القبيح.
وأجاب أيضاً: وأما من قال: يا زان، فهذا يجلد حد القذف: ثمانين جلدة، إذا لم يأت بأربعة شهداء يشهدون على أنه زان. وأما الحرة إذا قذفت الحرة، فتجلد ثمانين جلدة، إذا لم تأت بأربعة شهداء؛ وشهادة النساء على(8/434)
ص -437- ... القذف ما يثبت بها جلد; وأما الرجال، فإذا شهد اثنان مقبولا الشهادة، على أن هذه المرأة قاذفة هذه المرأة، أو هذا الرجل قاذف هذا الرجل بالزنى، فيجلد ثمانين جلدة، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور آية: 4]؛ ولا تقبل شهادة القاذف بعد ذلك إلا إن تاب وكذّب نفسه.
وأجاب أيضاً: وأما الذي يقذف المحصن أو المحصنة، ولم يأت بأربعة شهداء عدول، يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل شهادته إلا إن تاب، كما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [سورة النور آية: 4].
وأما الذي يسب المسلمين ويؤذيهم بلسانه، فيؤدبه الأمير بما يزجره. والذي قال لمسلم: يا مشرك، فهذا القول لا يجوز، ويؤدب من قال ذلك أدباً بليغاً. والذي قال لرجل: ما فيك إسلام، وهو مسلم، فكذلك يؤدب. وكذلك الذي يسب المسلمين يؤدب، وكذلك الذي يقذف أخاه بالفسق، وكذلك الذي قال للمسلم: يا عدو الله، وكذلك الذي قال للمسلم: يا حمار، وكذلك الذي قال لرجل مسلم: يا كلب، وكذلك الذي قال لأخيه: يا سارق، وهو كاذب، وكذلك الذي قال لأخيه: يا باطل، يا عفن، وليس كذلك؛ وكل هؤلاء يؤدبهم الأمير، بما يزجرهم عن الكلام الخبيث.(8/435)
ص -438- ... وسئل أيضاً: إذا قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتاً أو أحياء... إلخ؟
فأجاب: الذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم، أنه إذا قذفهم بلفظة واحدة، فإنه يحد حداً واحداً، إذا طلبوا إقامة الحد عليه، وأما قذف الأموات، فلا أدري عنه، وأقل ما فيه إذا كانوا مسلمين، يعزره الإمام على قدر ما يراه؛ وأما ما ذكره المالكية من شروط القذف، فهو كلام متوجه.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قذف صبي صبية بالزنى، أو صبياً، فإن كان يمكن الوطء من مثله، كبنت تسع، وابن عشر، فهذا يقام الحد على قاذفهما، وإن لم يبلغا، بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله، والصغيرة التي لا يجامع مثلها، فليس على قاذفهما إلا التعزير، وأما الصغير إذا قذف الكبير، فليس عليه إلا التعزير.
وأما مسألة القذف، فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية، كالطلاق: فالصريح: ما لا يحتمل غيره، نحو: يا زان، يا عاهر، يا منيوك، ونحو ذلك. والكناية: التعريض بالألفاظ المجملة، المحتملة للقذف وغيره؛ فإن فسر الكناية بالزنى فهو قذف، لأنه أقر بالقذف، وإن فسره بما يحتمله غير القذف، قبل مع يمينه، ويعزر تعزيراً يردعه وأمثاله. فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره، ولم يفسره بما يوجب القذف، فإنه يعزر، ولا حد عليه.(8/436)
ص -439- ... سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قذف المملوك؟
فأجاب: أما قذف العبد فيوجب التعزير لا حد القذف، عند عامة العلماء.
باب حد المسكر
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟
فأجاب: لا ريب أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه: "وأوتيت جوامع الكلم" 1، وهي: أن يقول الكلمة اليسيرة الجامعة لأحكام كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" 2، فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي تسكر وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم والحادثة بعده إلى يوم القيامة.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر، وهو: الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" 3، ولفظ مسلم: "وكل مسكر حرام" 4، وعن عائشة، رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" 5، متفق عليه، وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2977), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523), والنسائي: الجهاد (3087, 3089) , وأحمد (2/268).
2 البخاري: المغازي (4343), ومسلم: الأشربة (1733), والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604), وأبو داود: الأشربة (3684), وابن ماجة: الأشربة (3391), وأحمد (4/410, 4/415, 4/417), والدارمي: الأشربة (2098).(8/437)
3 صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2003), وسنن الترمذي: كتاب الأشربة (1861), وسنن النسائي: كتاب الأشربة (5585, 5699), وسنن أبي داود: كتاب الأشربة (3679), وسنن ابن ماجة: كتاب الأشربة (3390), ومسند أحمد (2/16, 2/29, 2/31, 2/98, 2/104).
4 البخاري: الأدب (6124), ومسلم: الأشربة (1733), والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604), وأبو داود: الأشربة (3684), وابن ماجة: الأشربة (3391), وأحمد (4/410, 4/415, 4/417), والدارمي: الأشربة (2098).
5 البخاري: الأشربة (5585), ومسلم: الأشربة (2001), والترمذي: الأشربة (1863), والنسائي: الأشربة (5592, 5593, 5594), وأبو داود: الأشربة (3682), وأحمد (6/190, 6/225), ومالك: الأشربة (1595), والدارمي: الأشربة (2097).(8/438)
ص -440- ... رواية لمسلم: "كل شراب مسكر حرام" 1؛ ونقل ابن عبد البر: إجماع أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبت شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر.
وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيرُه، كما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، من حديث عائشة مرفوعاً: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام" 2، وفي رواية: "فالحسوة منه حرام"، وقد احتج به أحمد، وذهب إليه؛ وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشافعي، والليث والأوزاعي، وأحمد وإسحاق.
إذا تقرر هذا، فاعلم: أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان:
أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، قال العلماء: وسواء كان المسكر جامداً، أو مائعاً، وسواء كان مطعوماً أو مشروباً، وسواء كان من حب، أو من ثمر أو لبن، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب وغيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره.
الثاني: ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه; وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوضوء (242) والأشربة (5585, 5586), ومسلم: الأشربة (2001), والترمذي: الأشربة (1863), والنسائي: الأشربة (5591, 5592, 5593, 5594), وأبو داود: الأشربة (3682), وابن ماجة: الأشربة (3386), وأحمد (6/36, 6/96, 6/190, 6/225), ومالك: الأشربة (1595), والدارمي: الأشربة (2097).
2 البخاري: المغازي (4343), ومسلم: الأشربة (1733), والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604), وأبو داود: الأشربة (3684), وابن ماجة: الأشربة (3391), وأحمد (4/410, 4/415, 4/417), والدارمي: الأشربة (2098).(8/439)
ص -441- ... اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد، قال أحمد في رواية الأثرم: يحد من شرب النبيذ متأولاً، وذلك لضعف التأويل عنده في ذلك.
وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم: يتبين لك بيان تحريم التتن، الذي كثر في هذا الزمان استعماله، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات، خصوصاً إذا أكثر منه، أو تركه يوماً أو يومين لا يشربه ثم شربه، فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يُحْدِث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس؛ فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس، إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر.
حكم التنباك
وسئل أيضاً، رحمه الله: ما حكم التنباك الذي اختلفت فيه آراء العلماء، منهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بتحريمه بقيد وتعليق، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقاً؟ ولما أنكم أفتيتم فيه بأنه من المسكرات، اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الواصلين من عندكم، فقالوا: من شرب منه بعد ما تاب منه فقد ارتد وحل دمه وماله؟
فأجاب: من نسب إلينا القول بهذا، فقد كذب(8/440)
ص -442- ... وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ، الذي يردعه وأمثاله؛ فإن هذا مخالف للكتاب والسنة، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك إذا لم يستحله. والتكفير بالذنوب، مذهب الخوارج الذين مرقوا من الإسلام، واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي.
وأجاب أيضاً: والذي يشرب التنباك، إن كان شربه له بعدما عرف أنه حرام، فيضرب ثمانين جلدة ضرباً خفيفاً ما يضره. فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار.
والذي يقول لكم - من علماء تهامة - إن التتن ليس حراماً ولا حلالاً، فهذا جاهل، ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" 1، "وما أسكر كثيره حرم قليله" 2.
وأجاب أيضاً: وأما الذي يشرب التتن ويزرعه، فيجلد ثمانين جلدة.
وأجاب أيضاً: وأما شارب التتن، إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه، فيجلد أربعين جلدة.
وأجاب أيضاً: وأما شارب التتن فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب ثمانين جلدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المغازي (4343), ومسلم: الأشربة (1733), والنسائي: الأشربة (5595, 5597 ,5602, 5604), وأبو داود: الأشربة (3684), وابن ماجة: الأشربة (3391), وأحمد (4/410, 4/415, 4/417), والدارمي: الأشربة (2098).
2 الترمذي: الأشربة (1865), وأبو داود: الأشربة (3681), وابن ماجة: الأشربة (3393), وأحمد (3/343).(8/441)
ص -443- ... وأجاب أيضاً: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه، أو يشربه يؤدب.
وأجاب أيضاً: إذا وجد من فيه رائحة المسكر فإنه يحد، وأما إذا خرج من بيته فليس فيه إلا التعزير، إذا كان مظنة لذلك.
وأجاب أيضاً: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل، يحد، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، حدوا على ريح الخمر؛ وهذا خمر، لأنه مسكر وكل مسكر خمر.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التتن؟
فأجاب: هو حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" 1، وفي لفظ حرام وفي لفظ: "ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام" 2، وهذا عام في كل مسكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وقد نص العلماء على ذلك.
وسئل: عن شارب التنباك؟
فأجاب: وأما شارب التنباك، فيجلد قدر أربعين جلدة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما شرب التنباك، فالذي نعتقد تحريمه، وفيه التعزير، ولا يتبين لي أنه يبلغ به حد الخمر.
وأجاب أيضاً: الذي نرى فيه التحريم لعلتين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2003), وسنن الترمذي: كتاب الأشربة (1861), وسنن النسائي: كتاب الأشربة (5585, 5699), وسنن أبي داود: كتاب الأشربة (3679), وسنن ابن ماجة: كتاب الأشربة (3390), ومسند أحمد (2/16, 2/29, 2/31, 2/98, 2/104).
2 الترمذي: الأشربة (1866), وأبو داود: الأشربة (3687).(8/442)
ص -444- ... إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة، ثم شربه وأكثر، وإن لم يحصل إسكار، حصل تخدير وتفتير; وروى الإمام أحمد حديثاً مرفوعاً: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مخدر ومفتر. والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده، واحتج العلماء بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157]، وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة.
حد المسكر
وسئل: عن الإكراه على فعل المحرم؟
فأجاب: فيه تفصيل يعذر فيه ببعض دون بعض، فلو أكره على شرب الخمر لم يحد.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا وجد من فيه رائحة التتن وأنفه، هل يحد؟ وهل يثبت الحد بشهادة رجل واحد؟ وهل يعزر إذا خرج من بيته وهو مظنة لذلك؟ وإذا وجد في كمه مصروراً؟ أو سقطت منشقته منه وهو مظنة لذلك، هل يحد أو يعزر؟
فأجاب: لا يجب الحد بوجود رائحة الخمرة في قول أكثر أهل العلم، ولا يثبت الحد فيه إلا بإقراره مرة، أو شهادة رجلين عدلين، يشهدان أنه شرب مسكراً. وإذا خرج من بيته التتن، أو وجدت معه الرائحة ولم يدع شبهة، لما روى ابن عمر مرفوعاً، قال: "لعن الله الخمرة، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وحاملها،(8/443)
ص -445- ... والمحمولة إليه" 1.
وكذا حاضر شربها يعزر; إذا ثبت هذا، فاعلم: أن التعزير راجع إلى رأي الإمام أو نائبه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الحميض وما يتعلق به من التحريم؟
فأجاب: وما سألتم عنه من أمر الحميض، فهو إذا أتى عليه ثلاثة أيام حرم، وإن تعدى إلى أكثر من ثلاثة أيام، صار خمراً يجلد آكله ثمانين جلدة؛ ويكون لديكم معلوماً: أنه حرام لا شك فيه، ولو زيد ونقص كل يوم مائة مرة، وإذا لم يتم ثلاثة أيام فلا تحريم فيه، إلا إذا أتى عليه اليوم الثالث فهو حرام، لأنه أصل الخمر. واعلموا: أن الخمر الذي يجعله الناس في أطعمتهم، يجعلونه حميضاً، أنه حرام لا شك فيه.
ما يشرع فيه التعزير
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوله: إذا ظلم صبي صبياً أو بهيمة اقتص للمظلوم... إلخ؟
فأجاب: يعمل بذلك، لأن ذلك في الغالب لا يخلو عن ردع للظالم، وإن لم يكن مكلفاً؛ قال الشيخ تقي الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف، كالصبي المميز، يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً، وكذلك المجنون، يضرب على ما فعل لينزجر، لكن لا عقوبة بقتل أو قطع. قال في الفروع: قال في الواضح: من شرع في عشر، صلح تأديبه في تعزير على طهارة، وصلاة، وكذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1295), وابن ماجة: الأشربة (3381).(8/444)
ص -446- ... في زنى، وهو معنى كلام القاضي، وذكر ما نقله الشالنجي في الغلمان يتمردون، لا بأس في ضربهم.
وظاهر ما ذكره الشيخ عن القاضي: يجب ضربه على الصلاة، قال الشيخ لمن أوجبها محتجاً به، أنه تأديب وتعويد لفعل الخير، كالتأديب على تعليم خط، وقراءة وصناعة وشبهها؛ وكذا قال صاحب المحرر: كتأديبه اليتيم والمجنون والدواب، فإنه شرع، لا لترك واجب؛ وظاهر كلامهم في تأديبه في الإجارة والديات: أنه جائز.
فأما القصاص، مثل أن يظلم صبي صبياً، أو مجنون مجنوناً، أو بهيمة بهيمة، فيقتص للمظلوم من الظالم، وإن لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل، لكن لاشتفاء المظلوم، وأخذ حقه، يتوجه أن يقال بفعل ذلك، ولا يخلو عن ردع وزجر في المستقبل، ففعله لأجل الزجر، وإلا لم يشرع لعدم الأثرية والفائدة في الدنيا. وأما في الآخرة، فالله تعالى يتولى ذلك، للعدل بين خلقه، فلا يلزم منه فعلنا نحن، كما قال ابن حامد: القصاص بين البهائم والشجر والعيدان، جائز شرعاً، بإيقاع مثل ما كان في الدنيا، وكما قال أبو محمد البربهاري في القصاص في الحجر، لمن نالت أصبع الرجل، وهذا ظاهر كلامهم السابق في التعزير، أو صريحه فيمن لم يميز.
وقال شيخنا: القصاص موافق للشريعة، واحتج بثبوته(8/445)
ص -447- ... في الأموال، وبوجوب دية الخطإ، وبقتال البغاة المغفور لهم، قال فتبين بذلك: أن الظلم والعدوان يؤدى في حق المظلوم، مع عدم التكليف، فإنه من العدل، وحرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، كذا قال؛ وبتقديره: فإنما يدل على الآدميين. انتهى كلام صاحب الفروع. وقد عرفت: أنه قول كثير من العلماء. فأما الصبيان، فمعلوم أن ذلك زجر لهم في المستقبل، إذا اقتص لبعضهم من بعض. والذي نرى: أن الذي يقتص لهم الأمير، أو القاضي، إلا إذا لم يخف من تعدي الصبي في اقتصاصه لنفسه، لأنه أشفى لنفسه. وأما البهيمة، فيقتص لها من مالكها؛ ومعلوم: أن بعض البهائم يتأدب إذا أُدب.
وأما إذا وجد مع امرأته رجلاً من غير زنى بها، فإنه يضرب مائة سوط، كما في رواية يعقوب، واحتج بفعل علي رضي الله عنه، فذكر هذه المسألة في الإنصاف، وذكر أنه يعزر بذلك. انتهى. والتعزير يرجع إلى اجتهاد الإمام، لكن الذي نختار: أنه يعزر بذلك، اتباعاً للخليفة الراشد علي رضي الله عنه.
[ التعزير أصل عظيم من أصول الشريعة ]
وسئل أيضاً: عن قول صاحب الإقناع في باب التعزير: وإن ظلم صبياً أو بهيمة اقتص من الظالم.
فأجاب: اعلم قبل ذلك أن العلماء ذكروا أن التعزير أصل عظيم من أصول الشريعة المحمدية الآتية بالْحِكَم(8/446)
ص -448- ... والمصالح، والغايات المحمودة في المعاش والمعاد؛ قال ابن عقيل، رحمه الله، في الفنون: للسلطان سلوك السياسة، وهو الحزم عندنا، ولا ننفي السياسة على ما نطق به الشرع، إذ الخلفاء الراشدون قتلوا ومثلوا، وحرقوا المصاحف، ونفى عمر نصر بن الحجاج; ولينل من عرضه، مثل أن يقول له: يا ظالم، يا معتد، وبإقامته من المجلس; والذين قدروا التعزير من أصحابنا، إنما هو فيما إذا كان تعزيراً عاماً من فعل أو ترك، فإن كان تعزيراً لأجل ترك ما هو فاعل له، فهو بمنزلة قتل المرتد، والحربي والباغي، وهنا تعزير ليس يقدر، بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل الآخذ للمال، يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل.
وعلى هذا، فإن كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل قُتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد، فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل، فيُقتل. ويمكن تخريج قتل شارب الخمر في الرابعة على هذا، وقتل الجاسوس الذي تكرر منه التجسس. وقد ذكر شيئا من هذا، الحنفية والمالكية، وإليه يرجع قول ابن عقيل: وهو أصل عظيم في صلاح الناس، وكذلك طلب الفعل، فلا يزال يعاقب حتى يفعل.(8/447)
ص -449- ... والتعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً، وهو جار على أصل أحمد، لأنه لم يختلف أصحابهأن العقوبات في المال غير منسوخة. وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: ولا يجوز أخذ ماله وهو المعزر، فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة.
والتعزير يكون على فعل المحرمات، وترك الواجبات; فمن جنس ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه، كالبائع المدلس، والمؤجر، والناكح، وغيرهم من المعاملين، وكذا الشاهد، والمخبر، والمفتي، والحاكم، ونحوهم، فإن كتمان الحق شبيه بالكذب، وينبغي أن يكون سبباً للضمان، كما أن الكذب سبب للضمان، فإن ترك الواجبات عندنا في الضمان، كفعل المحرمات؛ حتى قلنا فيمن قدر على إنجاء شخص، بإطعام أو سقي، فلم يفعل فمات ضمنه. وعلى هذا، فلو كتم شهادة أبطل بها حق مسلم، ضمنه.
ومن هذا الباب: لو كان في القرية أو المحل أو البلدة، رجل ظالم، فسأل الوالي الغريم عن مكانه، ليأخذ منه الحق، فإنه يجب دلالته، بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق. فعلى هذا، إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق، ضمنوه، ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب، كما يملك تعزير المقر إقراراً مجهولاً حتى(8/448)
ص -450- ... يفسره، ومن كتم الإقرار. وقد يكون التعزير ترك المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يجهر، بترك تشميته.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: عن قولهم: إن رأى الإمام العفو عنه جاز، وقال في المبدع ومعناه من الشرح: ما كان من التعزير منصوص عليه، كوطء جارية امرأته، أو الجارية المشتركة، فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن رأى الإمام المصلحة فيه، وجب كالحد. وإن رأى العفو جاز، للأخبار... إلى آخر الكلام.
فأجاب: اعلم أن في وجوب التعزير وعدمه، روايتين في مذهب أحمد: إحداهما: الوجوب مطلقاً، وهي المذهب، وعليه الأصحاب، وهي من مفردات المذهب. ومال إلى وجوبه الشيخ تقي الدين، وعنه: مندوب، نص عليه في تعزير رقيقه على معصيته، وشاهد الزور؛ قال في المغني والشرح: إن كان التعزير منصوصاً عليه، كوطء جارية امرأته، أو المشتركة، وجب، وإن كان غير منصوص عليه، وجب إذا رأى المصلحة فيه، أو علم أنه لا ينزجر إلا به. وإن رأى العفو عنه، جاز. انتهى.
قلت: ومراده إذا كان في العفو عنه مصلحة، قال في الكافي: يجب التعزير في الموضعين اللذين ورد فيهما الخبر، إلا إن جاء تائباً فله تركه. انتهى. قلت: ومراده(8/449)
ص -451- ... بالموضعين: إذا وطئ أمة امرأته مع تحليلها له، والأمة المشتركة، وهو معنى كلام صاحب المبدع الذي ذكرته في السؤال؛ وليس في ذلك معارضة لما تقدم من كلامهم، لأنه إذا جاء تائباً نادماً جاز ترك تعزيره، كما روي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [سورة هود آية: 114] أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، وفعل بها كل شيء إلا الجماع، ثم جاء تائباً، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية [سورة هود آية: 114]، فقال الرجل: ألي ذلك يا رسول الله، أم لجميع الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل لجميع أمتي" 1، رواه الأئمة من طرق مختلفة.
قال المجد: فإن جاء من استوجب التعزير تائباً، لم يعزر عندي. انتهى. قال في الرعاية: إن تشاتم اثنان عزرا، ويحتمل عدمه؛ قال في الفروع: فدل على أن ما رآه تعين فلا يبطله غيره، وأنه يتعين قدر تعزيره خلافاً لمالك. انتهى. قلت: يعني إذا عين الإمام التعزير للمصلحة، فلا يجوز لغيره إبطاله، وأنه يتعين قدر تعزير عينه الإمام؛ قال في الإنصاف: ويجب إذا طالب الآدمي بحقه، قال في الفروع وفي المغني: في قذف صغيرة لا يحتاج في التعزير إلى مطالبة، لأنه مشروع لتأديبه، فللإمام تعزيره إذا رآه، يؤيده نصه: فيمن سب صحابياً، يجب على السلطان تأديبه، ولم يقيده بطلب وارث، مع أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: مواقيت الصلاة (526), والترمذي: تفسير القرآن (3112, 3114) , وأبو داود: الحدود (4468), وابن ماجة: الزهد (4254), وأحمد (1/385, 1/430, 1/445, 1/449).(8/450)
ص -452- ... أكثرهم أو كثيرًا منهم له وارث.
وقد نص في مواضع على التعزير ولم يقيده، وهو ظاهر كلام الأصحاب، ويأتي في أول آداب القاضي: إذا افتات خصم على الحاكم له تعزيره، مع أنه لا يحكم لنفسه إجماعاً، فدل على أنه ليس كحق الآدمي المفتقر جواز إقامته إلى طلب؛ ولهذا أجاب في المغني عن قول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم عن الزبير: أن كان ابن عمتك، وأنه لم يعزره; وعن قول الرجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، بأن للإمام العفو عنه.
وفي البخاري: "أن عيينة بن حصن لما أغضب عمر، هم به، فتلا عليه الحرّ بن قيس {خُذِ الْعَفْوَ} الآية [الأعراف: 199]". قال في شرح مسلم في قول عائشة: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله" 1: إنه يستحب لولاة الأمور التخلق بهذا، فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حقاً، انتهى كلام صاحب الفروع.
فعلم مما تقدم: أن الأمير والحاكم إذا رأى التعزير في المعصية جاز له ذلك، وإن كان لحق آدمي ولا يفتقر جوازه إلى طلب صاحب الحق، لأن ذلك من باب إنكار المنكر، وإزالة الظلم الذي يتعلق بالأئمة والأمراء. وأما نائب الإمام، فالمعروف عندنا: أن نائبه الأمير والقاضي جميعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3560) والأدب (6126) والحدود (6786, 6853), ومسلم: الفضائل (2328), وأبو داود: الأدب (4785), وأحمد (6/31, 6/114, 6/115, 6/181), ومالك: الجامع (1671).(8/451)
ص -453- ... وسئل: عن الأمير يؤدب الرعية بأخذ شيء من مالهم، هل يحل؟ أو يصرف في بيت المال؟
فأجاب: أما ما أدب به الرعية بأخذ شيء من المال، فهذا جائز في قول كثير من العلماء، وأما حل أكله أو صرفه في بيت المال فلا أدري.
سئل بعضهم: إذا قدم رجل معه امرأة غير محرم له، كبنت عمه وليس معهما غيرهما، كم نجلدهما؟
فأجاب: لا يجوز للرجل أن يخلو بأجنبية، وهي كل امرأة يجوز له أن يتزوجها، لحديث ابن عباس: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" 1، متفق عليه. وأما حد الجلد فليس عليهما حد، بل يعزران بما يردعهما. والتعزير على الإمام أو نائبه، فإن رأى العفو عنه عفا، لكن العفو للمصلحة؛ ويكون التعزير بالنيل من عرضه، كقوله: يا ظالم، يا معتد، وبإقامته من المجلس، وبأخذ المال أو إتلافه، وبالجلد وليس فيه عدد معلوم إلا ما نص عليه الشارع؛ والتعزير أصل عظيم فيه صلاح الدين والدنيا.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شتم العيال وخصامهم؟
فأجاب: أما شتم العيال وخصامهم، إذا كان من باب التأديب والتمرين والتعليم، فهو مندوب إليه، بشرط أن لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: النكاح (5233), ومسلم: الحج (1341), وأحمد (1/222).(8/452)
ص -454- ... يخرج بالشتم والخصام إلى كلام منهي عنه، وأن لا يتجاوز بالضرب عشر جلدات، في حق من يجوز له ضربه، ممن له الولاية عليه. قال الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: وأما الفتوى التي أفتى بها الشيخ عبد العزيز بن حسن، رحمه الله، فيمن ظهرت عليه الريبة في عرضه، فهذا نصها، قال: وأما من ظهرت منه الريبة وقويت، ولم تؤثر فيه النصيحة، فيؤدب بحسب قوة الريبة وضعفها؛ وإن لم يندفع فساده إلا بالنفي نفي، إلا أن يترتب على نفيه مفسدة أكبر فلا ينفى، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المضار وتقليلها. انتهى كلامه. فتأمله تجده وافياً بالمقصود مع اختصاره.
سئل بعضهم: ما قولكم، علماء المسلمين، إذا نبّه إمام المسلمين وولي أمرهم، على رعيته أن لا يسابلوا بلدة حربية، وأناس من أهل الذمة عند العهد، أن لا يسابلوا تلك البلدان الكفار، وأيضاً، اشترط على أناس من أهل الذمة، وسابلوهم بعد أن نبّه الإمام عليهم بعدم المسابلة، وأن من سابل هذه البلد الكافرة، تراني أُؤَدِّبه وأنكّله، أيجوز لولي الأمر، ومن ظفر بهم يأخذهم، والحالة كما ذكرنا؟ فبينوا لنا مأجورين، إن شاء الله تعالى.
الجواب: فنقول: الكلام على هذه المسألة في(8/453)
ص -455- ... مقامين: الأول: أن المسلم العاصي بمسابلة هذه البلدة المذكورة، مستحق الأدب والنكال بالحبس والضرب، وأخذ ماله وإتلافه، وإن حسّس على المسلمين علماً يضرهم أبيح دمه وماله، بإجماع العلماء من الأمة المحمدية، ويصير أدباً لأمثاله.
وأنسب ما يعاقب به العاصي بنقيض قصده: فإن كان الذي حمله على هذا حب المال، والاستكثار منه، فيؤدب بأخذه منه وإتلافه، كما هو مستفاد من شريعته صلى الله عليه وسلم: لما غل الغال حرق متاعه، وأخذ مصحفه وبيع وأخذ ثمنه، وضرب؛ وفعله الخلفاء الراشدون. ولما حمل القاتل لمورثه الاستعجال على المال، عوقب بنقيض قصده، وحرم الإرث. ولما استعجل الناكح في العدة، عوقب بتحريمها عليه. ولما استشغل المتخلفون عن الصلاة في بيوتهم أراد أن يحرقها عليهم لولا الذرية.
ولما أساء الشافع في السلب على أمير السرية، عاقب المشفوع له بمنعه منه. ولما أخذ السارق من التمر، عاقبه بضعف الثمن مرتين. ولما كتم صاحب المال الزكاة، أخذ شطر ماله.
وهذا كله يدل على جواز العقوبات المالية، وأخذها، عزمة من عزمات ربنا. وعلى أن الأنسب معاقبة العاصي بنقيض قصده، لأن العقوبات الشرعية مقدرة، وغير(8/454)
ص -456- ... مقدرة: أما المقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص، وأما التي غير مقدرة فهي ترجع إلى اجتهاد ولاة الأمر بما يرونه؛ وهذا مما لا خلاف فيه. قال الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى: هذا من باب التعزير، والعقوبات الراجعة إلى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة. انتهى كلامه.
المقام الثاني: في الذمي إذا نقض بعض ما شرط عليه، أجمع العلماء من كل مذهب على إباحة دمه وماله؛ والدليل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر، اشترط عليهم الصفراء والبيضاء، والحلقة - أي السلاح - وأن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن كتموا أو غيبوا شيئاً فلا ذمة لهم.
فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب فيه مال وحلي، فسألهم عنه، فقالوا: أذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفع من كان عنده ذلك إلى الزبير يستقره، فمسه بعذاب، فقال: لقد رأيت حيياً يطوف في خربة هناك، فذهبوا به فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أبي الحقيق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث"، "وغزا أهل مكة لما أعانوا بني بكر على خزاعة خفية"؛ قال الإمام ابن القيم، رحمه الله: إن ذلك من السياسة الشرعية،(8/455)
ص -457- ... فإن الله سبحانه قادر على أن يدل رسوله على الكنز بطريق الوحي، لكن أراد أن يسن للأئمة عقوبة المتهمين.
قال الإمام ابن القيم، رحمه الله، في الهدي النبوي: فواجب على الإمام إزالة المنكرات، وتحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله فيها ورسوله، وهدمها، كما "حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه"، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر الله فيه، لما كان بناؤه ضراراً، وتفريقاً بين المؤمنين، وكذلك محالّ المعاصي والفسوق، كالخانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد "حرق عمر قرية بكمالها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي، وسماه فويسقاً، وأحرق قصر سعد عليه، لما احتجب فيه عن الرعية".
قال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي، في كتاب العمدة: مسألة: ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية والملة، أو قاتل المسلمين، أو هرب إلى دار الحرب، حل دمه وماله، لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم، الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق، فزاد عليهم عمر: "ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده"، فظاهره: أنه متى نقض شيئاً من ذلك حل دمه وماله، ولأنه عقد بشرط،(8/456)
ص -458- ... فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد.
انظر أيها المسترشد: ما حكم به صلى الله عليه وسلم من القتل، وأخذ الأموال على من لم يف بالشرط، وما صرح به علماء المذهب، رحمهم الله.
وقال في كتاب الرحمة للشافعي: فصل: وإذا فعل أحد من أهل الذمة ما يجب تركه والكف عنه، أو ما فيه ضرر على المسلمين، أو خافهم في نفس أو مال، وكذلك في ثمانية أشياء: بأن أجمع على قتال المسلمين، أو يزني بمسلمة، أو يسبها باسم نكاح، أو يفتن مسلماً عن دينه، أو يقطع عليه الطريق، أو يأوي جاسوساً للمشركين، أو يعين على المسلمين بدلالة، أو يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، أو يقتل مسلماً أو مسلمة عمداً، فهذه الثمانية توجب نقض الذمة، وإحلال المال والدم بوجود واحد منها، شرط أو لم يشرط، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، رحمه الله تعالى.
ولو ذهبنا نذكر عبارات الكتب لطال الجواب، ولكن هذا على سبيل الإرشاد والتنبيه لمريد الاسترشاد، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
والمقصود: أن الذمي إذا أخل بما شرط عليه، فلا ذمة له، وحل دمه وماله إجماعاً; والمسلم إذا عصى ولي الأمر، وسار إلى بلد الكفار، وقد نهي عن ذلك، فلولي(8/457)
ص -459- ... الأمر تعزيره، وردع أمثاله بما يراه أبلغ له في العقوبة، وفي الحديث: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وأبلغ من هذا، قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة آية: 251]، وفي الآية الأخرى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 40-41].(8/458)
ص -460- ... باب القطع في السرقة
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن المختلس، والمنتهب... إلخ؟
فأجاب: السرقة أخذ مال محترم على وجه الاختفاء، فلا قطع على منتهب، وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة، لما روى جابر مرفوعاً: "ليس على منتهب قطع" 1، رواه أبو داود، ولا على مختلس، والاختلاس: نوع من الخطف والنهب؛ وإنما استخفى في ابتداء اختلاسه. انتهى من الإقناع وشرحه.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: عن الحكم في قطع يد السارق؟
فأجاب: وأما السارق، فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد، رحمه الله: هل يجتمع القطع والضمان... إلخ؟
فأجاب: وأما الرجل الذي فعل ما وصفت من حاله، فعليه القطع إذا رفع أمره للأمير، ولا يجتمع القطع والضمان، ولا أكره الغفلة عن القطع، لأجل أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الحدود (1448), والنسائي: قطع السارق (4971, 4972, 4975), وأبو داود: الحدود (4391), وابن ماجة: الحدود (2591), وأحمد (3/380), والدارمي: الحدود (2310).(8/459)
ص -461- ... وقت المجاعة فيها شبهة.
وسئل: عن حد السارق؟
فأجاب: وأما السارق فتقطع يده اليمنى، بشرط أن يأخذ المال من حرزه، وأن يكون قيمة المأخوذ قدر ثلاثة دراهم، وأن يكون مالاً محترماً، وأن يكون الآخذ للمال على وجه الاختفاء، وأن لا يكون له فيه شبهة، كالأخذ من مال ولده، والمرأة من مال زوجها. والذي يسرق دون النصاب فلا قطع عليه، بل يؤدب؛ وكذلك الذي يأخذ الثمر من البساتين والزرع، يؤدب، ويغرم قيمته مرتين.
وأجاب أيضاً: وأما السارق، فإذا سرق وثبتت سرقته من حرز المال، المعروف عند أهل البلد أنه حرز له، قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع، بشرط أن تكون سرقته نصاباً، وهو: ربع دينار، قيمته عندكم: ثلاثة أخماس ريال.
وأما الذي يأخذ العنب من البستان، والقضب من الحديقة، والخشب من الحائط، فهذا يؤدبه الأمير، ويغرم مثل ما أخذ من ذلك.
وأجاب الشيخ حسين بن محمد، رحمهما الله: نصاب السرقة: ربع دينار، والدينار: اثنا عشر درهماً؛ فإذا سرق من الحرز ما يبلغ ثلاثة دراهم قطع، كما جاءت به السنة. فإذا حصل الشك: هل المسروق مما يساوي ثلاثة دراهم من(8/460)
ص -462- ... الفضة الخالصة أم لا، لم يقطع بمجرد الشك؛ وفي الحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" 1.
وأما الحرز، فهو ما جرت العادة به في حفظ الأموال، والأموال تختلف: فالدراهم لها حرز، والقماش له حرز، والدواب لها حرز، والثمار لها حرز، والمسافر بماله له حرز، والنائم على متاعه في المسجد والسوق كذلك؛ والمسألة لها ضابط، وهو: أن الحرز ما جرت به العادة، ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، وعدل السلطان وجوره.
وأما إذا سرق الإنسان شيئاً محرماً، مثل التنباك، هل يجب فيه القطع؟ فاعلم: أن للقطع شروطاً، منها: أن يكون المال محترماً، فلا يقطع بسرقة الخمر والتتن، وآلة اللهو، وكتب البدع، ونحو ذلك.
وأما قولك: وهل حد السرقة حق لله، يقام على السارق وإن لم يطلبه المسروق؟ فالأمر كذلك، يقام على السارق وإن لم يطلبه المسروق منه، بل لو وهب السارق المال بعد رفعه إلى الإمام، لم يسقط الحد عنه، لقصة صفوان؛ والخلاف بين الفقهاء إنما هو في المطالبة بالمال، هل هي شرط في القطع أم لا؟ وفي ذلك عن أحمد روايتان: إحداهما: يشترط مطالبة المسروق منه بماله، وهي المشهورة في المذهب. والرواية الأخرى: ليس ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الحدود (1424).(8/461)
ص -463- ... بشرط، اختارها الشيخ تقي الدين، وابن القيم، رحمهما الله، عملاً بإطلاق الآية والأحاديث.
وأما قولك: وهل يجتمع القطع ورد المال؟ فالأمر كذلك، فترد العين المسروقة إلى مالكها؛ فإن كانت تالفة غرم قيمتها، وقطعت يده.
وإذا سرق إنسان تمراً أو حبوباً، هل يغرم قيمته مرتين؟ فأكثر العلماء يقولون: عليه غرامة مثله، من غير زيادة؛ وأحمد يقول: علية غرامة مثليه; وحديث عمرو بن شعيب صريح الدلالة لمذهب أحمد، قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه، وهذا إذا أخذ الثمر من الحوائط، كما إذا أخذ ذلك من النخل. وأما إذا أخذه من الجرين، فهذا عليه القطع بشرطه، لقوله عليه السلام في حديث عمرو بن شعيب: "ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع" 1، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الحرز: ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال: فحرز الغنم الحظيرة، وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها، إذا كان يراها في الغالب، وأما إذا نام عنها فقد خرجت من الحرز؛ والضابط ما ذكرناه، وهو أن الحرز ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: قطع السارق (4958), وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390).(8/462)
ص -464- ... جرت العادة بحفظ المال فيه؛ والأموال تختلف. وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة، فراجعه.
وأما السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظن إذا كان في رؤوس النخل، لحديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمر ولا كثر" 1. وكذلك الماشية تسرق من المرعى، إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها، وتضمن بمثلي قيمتها، والثمر يضمن بمثلي قيمته، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وروى الأثرم: "أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة، حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينةن مثلي قيمتها"، وهذا مذهب أحمد.
وأما الجمهور فقالوا: لا يجب عليه إلا غرامة مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بغرامة مثليه. وحجة أهل القول الأول: حديث عمرو بن شعيب، قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه. وأما: المختلس، والمنتهب، والخائن، وغيرهم، فلا يغرم إلا مثله من غير زيادة على المثل والقيمة، لأن الأصل: وجوب غرامة المثل بمثله، والمتقوم بقيمته، وخولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل.
والدابة إذا سرقت من حرز مثلها، كالبعير المعقول الذي عنده حافظ، أو لم يكن معقولاً وكان الحافظ ناظراً إليه، أو مستيقظاً بحيث يراه، ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الحدود (1449), والنسائي: قطع السارق (4960, 4961, 4962, 4963, 4964, 4965, 4966, 4967, 4968, 4969, 4970), وأبو داود: الحدود (4388), وابن ماجة: الحدود (2593), وأحمد (3/463, 3/464, 4/140, 4/142), ومالك: الحدود (1583), والدارمي: الحدود (2304, 2305, 2306, 2308).(8/463)
ص -465- ... في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الحرز، فعلى السارق القطع بشروطه. فإن لم تكن في حرز، فلا قطع على السارق، وعليه غرامة مثلي قيمتها؛ وهو مذهب الإمام أحمد، واحتج بأن "عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة، حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة، مثلي قيمتها".
وأجاب أيضاً: وأما من سرق من الثمرة، فإن كان بعدما آواها الجرين، فعليه القطع، فإن كان قبل ذلك، بأن سرق من الثمر المعلق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله؛ وبالغ أبو عمر بن عبد البر، وقال: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بغرامة مثليه; والصحيح: ما ذهب إليه الإمام أحمد، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع" 1، حديث حسن، قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه.
وأما ما عدا الثمرة، والماشية، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يغرم أكثر من القيمة إن كان متقوماً، أو مثله إن كان مِثْلِيًّا؛ فالأصل: وجوب غرامة المثل فقط،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1289), والنسائي: قطع السارق (4958), وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390).(8/464)
ص -466- ... المتلَف والمغصوب، والمنتهَب والمختلَس، وسائر ما تجب غرامته، وخولف الأصل في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشيخ تقي الدين: وجوب غرامة المثلين في كل سرقة لا قطع فيها.
وأما إذا اختلفا في القيمة ولا بينة لهما، فالظاهر من كلامهم: أن القول قول الغارم.
وأما قوله: إذا سرقها وباعها على من لا يعرف، فما الحكم؟ فنقول: الحكم فيها كما تقدم، وهو: غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطباً، وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن فيه أن السائل قال: "الشاة الجرسية يا رسول الله؟ قال: ثمنها ومثله معه" 1، ولا فرق بين بيع الشاة وبين ذبحها، ونحر الناقة وبيعها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن العبد إذا سرق؟
فأجاب: وأما العبد إذا سرق، فالظاهر من كلامهم أنه كالحر، وصرح به بعض العلماء من الشافعية.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: العبد المملوك إذا سرق من حرز، من غير مال سيده، هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك، وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يحد السارق بإقراره مرة؟ أو لا بد من مرتين؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: قطع السارق (4959), وابن ماجة: الحدود (2596).(8/465)
ص -467- ... باب حد قطاع الطريق
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تأمين قطاع الطريق؟
فأجاب: قطاع الطريق إذا أمنهم إنسان، فالذي نتحقق أن تأمينهم لا يصح، ولا يسقط عنهم الحد الذي أوجبه الله عليهم، كتأمين الزاني والسارق والشارب، فلا يقول أحد بسقوط الحد عنهم بذلك، ولا يستريب في هذا من له معرفة 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم في صفحة 388 حكم الردء.(8/466)
ص -468- ... كتاب الأطعمة
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن تعليل أحمد بمسخ القنفذ؟
فأجاب: وأما تعليل الإمام أحمد كراهة القنفذ، بأنه مسخ، فقال الشيخ تقي الدين: مراد أحمد أنه لما مسخ على صورته، دل على خبثه، يعني: ليس مراد أحمد أنه بقية ممن مسخ، فارتفع الإشكال.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن النيص؟
فأجاب: حرم صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وليس منها، وليس من الخبائث، بل هو مما سكت عنه؛ وما سكت عنه فهو عفو، كما في الحديث، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن قولهم: من مرّ بثمرة لا حائط لها، ولا ناظر؟
فأجاب: قولهم من مرّ بثمرة لا حائط لها ولا ناظر، ففي هذه المسألة ثلاث روايات: إحداهن: له الأكل ولا يحمل، قال ابن رجب: هذا الصحيح المشهور في المذهب، قال في الهداية: اختاره عامة الأصحاب، قال في الشرح الكبير: وهو المشهور في المذهب، لما روي(8/467)
ص -469- ... عن أبي زينب التميمي، قال: "سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، رضي الله عنهم، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم"، وهو قول عمر وابن عباس وأبي برزة، رضي الله عنهم. ثم ذكر القولين الآخرين.
ثم قال: ولنا حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: ما أصاب منه من ذي الحاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن حمل منه شيئاً، فعليه غرامة مِثْلَيْه والعقوبة" 1، قال الترمذي: حديث حسن. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت إلى بستان، فناد صاحب البستان ثلاثاً، فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد" 2. وروى سعيد عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولأنه قول من سمينا من الصحابة من غير مخالف، فكان إجماعاً.
فأما أحاديثهم فهي منسوخة بما روينا من الحديث والإجماع. وأما الزرع، ولبن الماشية، ففيها روايتان: قال أحمد: لا يأكل، إنما رخص في الثمار ليس الزرع. والثانية: قال: يأكل من الفرك، لأن العادة جارية به، يؤكل رطباً، أشبه التمر والزبيب - إلى أن قال - والأولى في الثمار وغيرها، أن لا يأكل منها إلا بإذن، لما فيها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1289), والنسائي: قطع السارق (4958), وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390), وابن ماجة: الحدود (2596), وأحمد (2/180).
2 ابن ماجة: التجارات (2300), وأحمد (3/85).(8/468)
ص -470- ... الخلاف.
ولبن الماشية كذلك، روي عن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يجوز أن يشرب ويحلب، ولا يحمل، لما روى الحسن عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أتى أحدكم ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها أحد، فليحتلب، وليشرب ولا يحمل" 1، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وهو قول إسحاق. والثانية: لا، لما روى ابن عمر مرفوعاً: "لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" 2، متفق عليه.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن صيد البحر، هل هو حلال كله؟ أم هو كصيد البر؟
فأجاب: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [سورة المائدة آية: 96]، المراد بالصيد: ما صيد من البحر، والمراد بالبحر جميع المياه، العذبة والمالحة. فأما طعامه، فاختلفوا فيه، فقيل: هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل، يروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن عمر، وأبي أيوب، وقتادة; وقيل: صيد البحر طريه، وطعامه مالحه، يروى ذلك عن سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والسدي. ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين.
وجملة حيوان الماء على قسمين: سمك، وغير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1296), وأبو داود: الجهاد (2619).
2 البخاري: في اللقطة (2435), ومسلم: اللقطة (1726), وأبو داود: الجهاد (2623), وابن ماجة: التجارات (2302), وأحمد (2/6), ومالك: الجامع (1812).(8/469)
ص -471- ... سمك. فأما السمك: فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 1، أخرجه أبو داود، والترمذي والنسائي، ولا فرق بين أن يموت بسبب، أو بغير سبب، فيحل كله; وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يموت بسبب. وما عدا السمك، فقسمان: قسم: يعيش في البر والبحر، كالضفدع والسرطان، فلا يحل أكلهما، وقال سفيان: أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس.
واختلفوا في الجراد، فقيل: هو من صيد البحر، فيحل أكله للمحرم; وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر، وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام، فإن أصاب جرادة فعليه صدقة، قال عمر: "في الجرادة تمرة". وعنه، وعن ابن عباس: "قبضة من طعام". وكذلك طير الماء، فهو من صيد البر أيضاً. وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر، إلا الضفدع والتمساح، قال: لأن التمساح يفترس، ويأكل الناس; وقال ابن أبي ليلى ومالك: يباح كل ما في البحر.
وذهب جماعة: إلى أن ما له نظير في البر يؤكل، فيؤكل نظيره من حيوان البحر، مثل بقر الماء ونحوه، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر، مثل كلب الماء، وخنزير الماء، فلا يحل أكله. انتهى من تفسير الخازن. فقد علم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطهارة (69), والنسائي: المياه (332) والصيد والذبائح (4350), وأبو داود: الطهارة (83), وابن ماجة: الطهارة وسننها (386) والصيد (3246), وأحمد (2/237, 2/361), ومالك: الطهارة (43), والدارمي: الطهارة (728, 729).(8/470)
ص -472- ... السائل - ألهمه الله فهم المسائل -: أن جميع السمك حلال على اختلاف أنواعه وأجناسه مطلقاً بالاتفاق، وأما غير السمك فهذا تفصيل الفقهاء، كما ترى، والله أعلم.
سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ: عن الضيافة؟ هل هي واجبة أم لا؟
فأجابا: الذي عليه العمل أنها واجبة على أهل القرى، وعلى البوادي دون الأمصار الكبار، التي توجد الأطعمة تباع فيها بلا كلفة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الضيافة والقول بوجوبها، فالضيف على من نزل به; وأما الغائب ومن لم ينزل به الضيف، فلا يجب عليه معونة المنزول به، إلا أن يختار المعين.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ضاف من أكثر مالهم حرام؟
فأجاب: أما إذا ضاف شخص ناساً أكثر مالهم حرام، فإنه يجوز له أن يأكل من طعامهم، ما لم يتحقق أنه من مالهم الحرام. وعلى كل حال، الأولى: التورع عن طعامهم، ومبايعتهم، ومشاراتهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنهاكم عن الدباء، والحنتم" 1... إلخ؟
فأجاب: ذكر أهل العلم في شرحه: أنه نهاهم عن الانتباذ في هذه الأوعية، لأنها أوعية حارة، فيشربون منها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العلم (87), ومسلم: الإيمان (17), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031), وأبو داود: الأشربة (3692), وأحمد (1/276, 1/291).(8/471)
ص -473- ... المسكر ولا يشعرون بذلك. وورد في حديث صحيح أنه أرخص فيه بعد ذلك، وقال: "لا تشربوا مسكراً".
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الزعفران واستعماله في المأكول والمشروب؟
فأجاب: لا أعلم فيه حديثاً يصح في النهي عنه، ورأيته منصوصاً على كراهة استعماله، في كلام بعض متأخري الحنفية؛ فهم ألحقوه بالبنج، وذكروا أنه يخدر منه، وربما أضر أو قتل. ثم إنا راجعنا كلام الحنابلة فيه، وهذا نص عبارة شارح المنتهى: والزعفران يحرم استعماله على وجه يضر، ويجوز على وجه لا يضر، كقلته وإضافة ما يصلحه.
سئل الشيخ حسين بن الشيخ عن لبن الجلالة... إلخ؟
فأجاب: وما ذكرت من جهة الدواب، فإن كان أربابها أضاعوها، وأكلها ما تذكر بسبب الجوع، فأربابها يجبرون على إطعامها، فإن كان فيها لبن، فألبانها لا تشرب إلى أن تحبس قدر ما تخلو من بطنها العذرة.
وأجاب بعضهم: تحرم الجلالة، وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها، حتى تحبس ثلاثاً، وتعلف من الطاهرات، وتمنع من النجاسة. فإن كان أكثر علفها الطاهر، لم يحرم أكلها، وكره أبو حنيفة لحومها، والعمل عليها.(8/472)
ص -474- ... باب الذكاة
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ذبح الأعراب؟
فأجاب: لا تهجروا ذبح الأعراب في هذه الأزمنة، فمنهم أناس كقحطان، نرى أنهم أحسن من بعض الحضر، وباقي بادية نجد عليهم اسم الإسلام، ويؤذنون ويصلون جماعة في الغالب، ولا يبين لنا ما يوجب الحكم بتحريم ذبائحهم.
أحضر الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، جهابذة علماء نجد سنة 1338، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وحسن بن حسين، وسعد بن عتيق، وعمر بن سليم، وعبد الله العنقري، وسليمان بن سحمان، ومحمد بن عبد اللطيف، وغيرهم، لما جرى التنازع والاختلاف من بعض الإخوان، بسبب من يدعي طلب العلم، في مسائل، منها: هل بين الحضر الأولين والمهاجرين الآخرين فرق؟ وهل في ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين ومعتقده معتقدهم وفي ذبيحة الحضر الأولين فرق؟ حلال أو حرام، أم لا؟
فأجابوا: كل هذه الأمور مخالفة للشرع، ولا أمرت(8/473)
ص -475- ... بها الشريعة، والذي يفعلها ينهى عنها ويزجر، فإن تاب وأقر بخطئه عفي عنه، وإن استمر على أمره وعاند، وجب عليه أدب ظاهر بين المسلمين، وأن جميع ما يأمر به أو ينهى عنه، أو يعادي أو يصادق، على غير ما حكم به الحاكم الشرعي، فالذي يفعله مخالف للشريعة، وطريقه غير طريق المسلمي؛، وهذا الذي ندين الله به، ونشهد الله عليه.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ذبائح الأعراب، من حكمنا بكفره منهم، فذبيحته حرام، ومن حكمنا بإسلامه، فذبيحته مباحة.
وسئل: عن الذي يرمي صيداً بسهم، ويذكر اسم الله عليه فيخطئه، ثم يرميه بآخر في الحال، وينسى الاسم، هل يحل إذا أصابه؟
فأجاب: لا بد من ذكر الله عليه عند الإرسال.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن حل ذبيحة المرأة؟
فأجاب: وأما ذبيحة المرأة، فلا بأس بها إذا كانت مسلمة، وذكرت اسم الله تعالى.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل الذبح للجن منهي عنه؟(8/474)
ص -476- ... فأجاب: اعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه دون الحرام، مثل استعمالها في المحرمات، وقوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [سورة مريم آية: 92]. ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151]. وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر.
وقوله: يكره، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 23-38]. وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم. إذا فهمت هذا، فهم صرحوا: أن الذبح للجن ردة تخرج عن الإسلام، وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهلّ به لغير الله. والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها. وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه.
وقال في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}(8/475)
ص -477- ... [سورة المائدة آية: 5]، وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118]: الآيتان لا اختلاف في حكمهما بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم؟ فيدخل حكمه في حكم الآية، إذا ذبح وسمى الله عليها. فلو ترك التسمية نسياناً حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمداً، فلا تحل ذبيحته.
وكذلك أهل الكتاب – أعني: اليهود والنصارى -، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 5]. وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها: بسم الله، لأن المانع من ذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه:
أحدها: أن ذبيحته من الخبائث.
الثانية: أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب.
الثالثة: أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها.
الرابعة: أن حكمه ضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 1، بخلاف أهل الكتاب.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن ذبيحة الكافر والمرتد، إذا ذبحت للحم وذكرا اسم الله عليه، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع، ومفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3017), والترمذي: الحدود (1458), والنسائي: تحريم الدم (4059, 4060, 4061, 4062, 4064, 4065), وأبو داود: الحدود (4351), وابن ماجة: الحدود (2535), وأحمد (1/217, 1/282, 1/322).(8/476)
ص -478- ... [سورة المائدة آية: 5]؟
فأجاب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة؛ وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإن كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي، فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم بمفهومها، كما قد عرفتم.
والجواب عن قوله: وذكرا اسم الله عليها، أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي ومن المرتد، غير معتبرة، لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر، فيكون وجوده كعدمه؛ وإنما ينفع إذا قاله عالماً بمعناه، ملتزماً لمقتضاه، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86]؛ قال ابن جرير - كغيره -: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتابين من الكفار، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}، قال ابن عباس: "طعامهم: ذبائحهم"، وكذا قال جميع علماء التفسير. فتخصيص الإباحة بذبح أهل الكتاب، يدل على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار؛ وما زال العلماء في جميع الأمصار يستدلون بمفهوم الآية، على تحريم ذبائح الكفار سوى أهل(8/477)
ص -479- ... الكتاب.
وفي مسند الإمام أحمد، حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال فيه: "فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا"، وروى سعيد بن منصور في سننه، بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب"، وقال الوزير ابن هبيرة: وأجمعوا على أن ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، غير مباحة. انتهى.
ولما قال أبو ثور، رحمه الله، بإباحة ذبائح المجوس، مستدلاً بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 1، أنكر عليه الأئمة، وبالغوا في الإنكار عليه; قال الإمام أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يُعَرِّض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وما رأينا أحداً من العلماء تكلم في هذه المسألة، إلا ويذكر تحريم ذبائح ما عدا أهل الكتاب، ولا يذكر في ذلك مخالفاً، إلا مخالفة أبي ثور في المجوس، ومخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة.
قال الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، في الشرح الكبير: فأما ذكاة المجوس، فلا تحل في قول أهل العلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك: الزكاة (617).(8/478)
ص -480- ... وشذ أبو ثور، فأباح صيده وذبيحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 1، ولأنهم يُقَرُّون بالجزية، فتباح ذبيحتهم وصيدهم، كاليهود والنصارى؛ وهذا قول يخالف الإجماع، فلا عبرة به. قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور.
وممن منع أكل ذبائحهم: ابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وجابر، وأبو بردة، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن بن محمد، وعطاء، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، ومالك، والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، وأحمد؛ ولا أعلم خلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5]، فمفهومها: تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا كتاب لهم، فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه الإمام، وقد تقدم. قال: ولأن كفرهم مع أنهم غير أهل كتاب، يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم، بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب، وإنما أخذت منهم الجزية، لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم، فلما غلبت في التحريم لدمائهم، وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك: الزكاة (617).(8/479)
ص -481- ... احتياطاً، للتحريم في الموضعين، ولأنه إجماع؛ فإنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، ولا في من بعدهم، إلا في رواية عن سعيد بن المسيب، روي عنه خلافها.
ثم قال: فصل: سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم، حكمهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم، قياساً عليهم، بل هم شر من المجوس، لأن المجوس لهم شبهة كتاب، بخلاف هؤلاء - إلى أن قال - ولا تباح ذبيحة المرتد، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب؛ وهذا قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال إسحاق: إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته; ولنا: أنه كافر لا يُقَرّ على دينه، فلم تحل ذبيحته كالوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، فإنه لا يقر بالجزية، ولا يُسترق، ولا يحل نكاح المرتدة. انتهى ملخصاً.
فدل كلامه على أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عبد الأوثان، والمرتد إلى دين أهل الكتاب; قال الزركشي في شرح الخرقي - لما ذكر قول الخرقي -: ولا يأكل من صيد المجوس إلا ما كان من حوت، فإنه لا ذكاة له. وحكم عبدة الأوثان ونحوهم، حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس، لوقوع الخلاف(8/480)
ص -482- ... فيه، وإن كان الخلاف شاذاً. انتهى.
فدل كلامه: أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عدا المجوس من الكفار، مع أن مخالفة أبي ثور في المجوس شذوذ، وخرق للإجماع، كما قال إبراهيم الحربي، فلا عبرة به. وكذلك مخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب، ولعله يحتج بأنه يدخل في عموم أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، وقول الجمهور هو الصواب، لأنه لا يسترق، ولا يقر بالجزية، فدل ذلك على مخالفة حكمه لحكم أهل الكتاب؛ ومن حكمنا بكفره من أهل العصر فهو مرتد، حكمه حكم المرتدين، لقول العلماء، رحمهم الله: من فعل كذا، أو قال كذا فهو مرتد، فلم يجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي، ولا حكم أهل الكتاب بكونه يقر بالجزية، ويسترق، وتنكح المرتدة، بل قالوا: حكمه القتل، وتحريم نكاح المرتدة، فلم يجعلوا حكم المرتد من هذه الأمة كحكم أهل الكتاب، بل حكمه عند الجميع مخالف لحكم أهل الكتاب.
وقد حكي لنا عن بعض من ينتسب إلى العلم من المعاصرين، أنه قال: إذا كان الله قد أباح ذبائح اليهود والنصارى لكونهم أهل كتاب، فكفار هذه الأمة أولى، لأنهم أهل كتاب، بل كتابهم أشرف من الكتابين، وهذا قياس فاسد، لمخالفته الكتاب والإجماع، قال الله تعالى:(8/481)
ص -483- ... {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5]، فدل مفهوم ذلك، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتاب. وقد أجمع العلماء: على أن المرتد من هذه الأمة، حكمه مخالف لحكم أهل الكتاب، فلا يقر بالجزية، ولا يسترق، ولا تنكح المرتدة، ولا تباح ذبيحته، إلا ما ذكروا من مخالفة إسحاق، في إباحة ذبيحة المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة; وحكم الصحابة ومن بعدهم من جميع العلماء، مخالف لحكمهم في أهل الكتاب، فمن قاس المرتد من هذه الأمة على أهل الكتاب، فقد خالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وصرح غير واحد: بتحريم ذبائح الزنادقة، والدروز، والتيامنة، ونحوهم، لأن هؤلاء كفار بلا خلاف؛ والزنديق هو المنافق ونحوه. فقد وضح الحق لمن أراد الله هدايته، ومن لم يرد الله هدايته، لم تزده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
[ ذبيحة الوثني والمرتد ]
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد، بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118]، فهو من أجهل الناس بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، وهو(8/482)
ص -484- ... كمن يستدل على لبس الحرير، بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 32]؛ والجهل بالتأويل وأسباب النزول، ضرره وصل كبار العمائم، فكيف الحال بالجفاة والعوام؟
واعلم: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [سورة المائدة آية: 5] فسر بحل الذبائح، وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب، من الكفار والمشركين، واحتج بهذا أهل العلم؛ ومفاهيم كلام الله وكلام رسوله حجج شرعية. وفسروا المراد من قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] بأن المراد به: ذبيحة المسلم والكتابي، إذا ذكر اسم الله عليه، أخذاً من مفهوم آية المائدة؛ وهذا هو المشهور المقرر، وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها، أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب، بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبح للأكل واللحم. وأما ما ذبحوه تقرباً إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي، لأنه لا يأتي بالتسمية، ويستحل الميتة؛ وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنَّة، كمن علق الحدث بوجود النوم، لأنه مظنة. فقول(8/483)
ص -485- ... القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله، جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين. وقول السائل: هل التسمية "كلا إله إلا الله"؟ فليس مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.
وأجاب الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن: وأما الجلاء، وهو صيد الصَّلَب، فينبني على معرفة أحوالهم ودياناتهم؛ ومن عرف حكم المرتد تبين له حالهم، وأنهم في غاية من الضلال والكفر. وتحريم ذبيحة المرتد مسألة إجماع، حتى إن من الفقهاء من جعل التسمية من المسلم شرطاً؛ قال البغوي في شرح السنة: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة، يروى ذلك عن ابن سيرين والشعبي، وبه قال أبو ثور، وداود. واحتج من لم يرها شرطاً، بما في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها: "أن أناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوا. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر" 1، وساقه البخاري في اجتناب المتشابهات، وترجم له، فقال: باب ذبيحة الأعراب ونحوهم; قال الحافظ: وهو أصل في تحسين الظن بالمسلم. وعن أحمد: أن المسلم إذا نسي الاسم على السهم أبيح دون غيره، أي غير السهم، كالذبيحة، فكيف - والعياذ بالله - بهؤلاء الصلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2057) والذبائح والصيد (5507) والتوحيد (7398), والنسائي: الضحايا (4436), وأبو داود: الضحايا (2829), وابن ماجة: الذبائح (3174), ومالك: الذبائح (1054), والدارمي: الأضاحي (1976).(8/484)
ص -486- ... المرتدين، الذين لا يصلون ولا يزكون، ولا يدينون بالشرع، ولا يؤمنون بالبعث، ولا يرون التسمية على الصيد، كما هو مشهور عندهم؟
وفي حديث عدي بن حاتم المتفق عليه، ما يبين أن الأصل المنع، إذا اشتبه صيد المرتد بصيد المسلم، ولفظه: "إذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها، فأمسكن وقتلن، فلا تأكل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس فيه إلا أثر سهمك فكل" 1، قال البغوي في شرح السنة: وفيه دليل على أنه إذا اشترك في الذبح من يحل ذبحه ومن لا يحل، كمسلم ومجوسي، أو مسلم ومرتد، أو أرسل مسلم ومجوسي، أو مرتد كلباً أو سهماً على صيد فأصابه وقتله، فإنه يكون حراماً، وإن أرسل كل واحد سهماً أو كلباً، فأصاباه معاً فحرام أيضاً. انتهى.
وأما ما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء، إذا كان فيه من يصيد من المسلمين وغيرهم، يحتمل أن يكون الصائد له مسلماً، فمن قال: إن الأصل فيما دخل إلى أسواق المسلمين الإباحة، أجازه، ومن جعل الأصل استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، أبقى الصيد على أصله في التحريم، حتى ينقله ناقل.
قال ابن القيم في الإعلام: وقد دلنا الشارع على تعليق الحكم به - يعني بالوصف - في قوله في الصيد: "وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الذبائح والصيد (5485).(8/485)
ص -487- ... وجدته غرقاً فلا تأكله، فإنك لا تدري، الماء قتله أو سهمك" 1. وقال في الكلاب: "فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره" 2، لما كان الأصل في الذبائح التحريم، ونشك هل وجد الشرط المبيح أم لا، بقي الصيد على أصله. انتهى; إذا تبين هذا، فالأحوط: اجتناب ما يتطرق إليه الاحتمال الذي صورنا، حتى يتحقق أن الصائد مسلم، على ما قرره ابن القيم.
وأما مسألة ما ذبح في بلاد المشركين، فهي تبنى على استصحاب الأصل الذي قررناه في المسألة الأولى، فمتى كانت البلاد بلاد كفر، وأحكام الكفر جارية عليها، أو المسلم فيها قليل، فإن الأصل المنع من ذبائحها، إلا في دار كان الأغلب فيها أهل الإسلام، والولاية لهم. أما إذا عرف أن الذابح بعينه مسلم فلا كلام، أو أن الذابح يهودي كما في مصر وأشباهها، فكذلك حلال. ومن تأمل ما قررناه من القاعدة الكلية في المسألة الأولى، زال عنه الإشكال.
[ شرط الذبيحة ]
وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: شرط الذبيحة: أن يكون الذابح عاقلاً مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، وعند إرسال الجارح والسهم في الصيد؛ وكل من حكم بكفره غير الكتابي، فلا تحل ذبيحته ولو ذكر اسم الله عليها، لأن التسمية عبادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929), والترمذي: الصيد (1469).
2 البخاري: البيوع (2054), ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929), والترمذي: الصيد (1470), والنسائي: الصيد والذبائح (4264), وأحمد (4/380), والدارمي: الصيد (2002).(8/486)
ص -488- ... وعبادة الكافر حابطة، فوجود التسمية كعدمها، سواء كان كفره بقول، أو فعل أو اعتقاد؛ وأكثر الأعراب في هذه الأزمنة، معهم من المكفرات ما يوجب كفرهم، ومن أوضح ذلك: إنكار البعث، أو الشك فيه.
وأما حديث: "إن الأعراب كانوا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟"، فأولئك الأعراب قد دخلوا في الإسلام، والتزموا أحكامه على عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل ما يوجب ردتهم كما نقل عن هؤلاء، فلا حجة فيه. وأما أعراب هذا الزمان، فقد خرج كثير منهم من الإسلام، ونبذوا أحكامه كما يعرف ذلك من عرفه من أحوالهم. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما أكل ذبائح البدو اليوم، فالذي ينبغي نصيحة من يفعل ذلك، وأما التعزير فلا أدري.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: وأما ذبائح الأعراب، فالأعراب في هذه الأزمان، بعضهم شامله اسم الإسلام، ومن عرف منهم بتحكيم الطاغوت، وإنكار البعث، أو الاستهزاء بالدين، أو عمل الكهانة أو السحر، فلا تحل ذبائحهم، ولا يجوز الأكل منها، لأنها في حكم ذبيحة المرتد.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما إذا انتهب بعض(8/487)
ص -489- ... الأعراب من بعض، مثل غنم مذكاة، هل يصرح بتحريمها، وإذا خلص شاة غيره من عدوه، وهي مذكاة، هل يجوز أكلها؟
فأجاب: أما من خلص شاة مذكاة فهي لقطة، يجوز أكلها وتعريفها، فإذا كان الذابح هو الغاصب، جاز أكلها بإذن صاحبها؛ لكن الواقع اليوم، كالذين ينهبون غنم غيرهم ويذبحونها، ويدركها غيرهم مذبوحة، فالأولى اجتنابها وتركها.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قوله في شرح الإقناع: إذا ذبح السارق المسلم، أو الكتابي المسروق مسمياً، حل لربه ونحوه أكله، ولم يكن ميتة كالمغصوب، وعن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن ذبيحة المرأة "أطعميه الأسارى" 1؟
فأجاب: الحديث لا يعارض النقل عن الإقناع كغيره، لكونه مقيداً بقوله: حل لربه ونحوه أكله; فمفاده: أنه لا يحل لغير ربه، وغير من أذن له ربه في الأكل منه، وإن كان حلالاً بالتذكية; وقوله: كالمغصوب; راجع لقوله: حل لربه ونحوه، وليس راجعاً لقوله: ولم يكن ميتة; فتنبه لتشبيهه بالمغصوب في الحل لا في الحرمة، ويقال أيضاً: "أطعميه الأسارى" 2 دليل على حله، إذ لو كان حراماً، لما جاز أن يأمرها أن تطعمه الأسرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3332).
2 أبو داود: البيوع (3332).(8/488)
ص -490- ... وأجاب أيضاً: لا معارضة، إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكل منها لا يدل على أنها ميتة من وجوه; منها: أنها ليست ملكاً لهم، ولا لمن ذبحها، فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها، ولا من أذن له مالكها في الأكل منها. ويحتمل أنه ترك الأكل منها تنزهاً. ويدل على حلها بهذه الذكاة، قوله: "أطعميه الأسارى" 1، وهو لا يطعمهم ميتة. وقوله: كالمغصوب، راجع لقوله: حل، لا لقوله ميتة، شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل، لا في الحرمة.
وسئل ابنه: الشيخ إسحاق، رحمهما الله: عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها؟
فأجاب: قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: الجواب: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها على هذه الفتوى من هذا الإمام، ومن له في الحديث أعظم إلمام، ولا دليل لمن منع من ذبيحة مغير على غنم بلد، ذبح منها شيئاً وعلقه ثم سقط، فجاء ربه فأذن فيه لأحد، على كلام الشيخ تقي الدين؛ وبرهانه: ما في حديث المرأة التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها" 2، فمفهوم النص: أن الإذن ابتداء مبيح، دون تحقق وجوده، فهو واضح في أن عدم الإذن، هو الذي حرمها، ومفاهيم النصوص نصوص، إذا لم تعارض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3332).
2 أبو داود: البيوع (3332), وأحمد (5/293).(8/489)
ص -491- ... ووجه آخر، وهو: أن المحرمات على قسمين: قسم محرم لحق الله، كالدم والميتة، ومحرم لحق آدمي وهو الظلم؛ فإذا زالت العلة زال الحكم، فلا يصير ممنوعاً لنفسه، بل لما قام به من حق الغير، فمتى أذن له أبيح، فاستفدنا من نفس هذا الحديث رجحان ما أفتى به تقي الدين، فيكون معنى الحديث مطابقاً للحديث الثاني: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" 1. ويدل على أنها لم تستأذنه: قولها في رواية الدارقطني: وأنا من أعز الناس عليه، وعلي أن أرضيه بأفضل منها، فصار عدم استئذانها له ظاهر من نفس الحديث، بحيث أنها لم ترضه وسترضيه، وأنها لم تعطه ثمناً، فكيف يسوغ أكل مثل هذه، لمن امتنع من أكل الضب، وترك أشياء عديدة مباحة، كان اقتضاها منصبه الأسنى، والصحابة يفعلونها; ويدل على ذلك أيضاً: إذنه في أكلها لغيره، فإنه لو كان المانع أمر يرجع إلى نفس الشاة، لم يأذن فيه لأحد، ففي هذا ما يدل على وضوح الفرق بين المأذون وغيره، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن ذبح شاة أو سرقها، فذبحها بغير إذن أهلها، أو أغار قوم على غنم أهل بلد فذبحوا منها شيئاً وذهبوا به، ثم لحقهم الطلب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/72).(8/490)
ص -492- ... فاستنقذوه من أيديهم، هل يحل أكل ذلك المذبوح، أو لا؟
فأجاب: الحمد لله، ينبغي أولاً: أن يعلم أن العلة في المذبوح، تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; إذا ثبت هذا، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها، هل يجوز أكلها؟ فأجاب، رحمه الله: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها. انتهى.
قلت: ويشهد لهذا: ما رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه" 1، وفي لفظ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" 2، رواه أحمد والبيهقي والدارقطني، لمفهوم هذا الحديث: أنه إذا طابت نفسه حل ذلك له، وجاز له أكل ما أباحه، وأذن له في أكله، وأخذه، وإذا لم تطب نفسه به فهو حرام، لا يحل له أخذه، ولا أكله.
قال ابن القيم، رحمه الله تعالى - بعد كلام له -: ويمكن أن يقال في جواب هذا: أن قتل الآدمي حرام لحق الله وحق الآدمي، وهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، وهذا لو أباحه حل؛ فالمحرم هناك: إنما هو تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; فتأمل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن ما كان لحق الله ولحق آدمي، أنه لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/425).
2 أحمد (5/72).(8/491)
ص -493- ... المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، فإذا أباحه له حل ولم يحرم عليه؛ وأن العلة في ذلك هي تفويت المالية على المالك.
ثم قال: وقد اختلف العلماء في ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكي، وفيه حديث رافع بن خديج، في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم فذبحت له شاة أختها بدون إذن أهلها، فقال: "أطعموها الأسارى" 1، وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له، دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، فيمن سرق شاة فذبحها، لا يحل أكلها يعني له، قلت لأبي: فإن ردها على صاحبها فلا تؤكل، فهذه الرواية قد يؤخذ منها: أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. ثم قال ابن القيم، رحمه الله: هذا كلام شيخنا، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية. قلت: فتبين من هذه الرواية، أن استدلال أحمد بحديث المرأة ظاهر في حلها لغير من ذبحت له، وشبهها بالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال; وتبين من الرواية الثانية في ذبيحة السارق: أنها لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/293).(8/492)
ص -494- ... تحرم إلا على الذابح السارق لا غيره. وأما ما يستدل به المخالف، من أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن من ذبح غنماً، أو إبلاً بغير أمر أصحابها لا تؤكل، بما رواه في صحيحه عن رافع بن خديج، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصبنا إبلاً وغنماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأمر بالقدور فأكفئت" 1 الحديث. ويستدلون بما رواه أبو داود، من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: "أصاب الناس مجاعة شديدة، فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة" 2. انتهى. فيقال: إن العصمة والحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه واستنبطه، فإن الرأي والاستنباط يخطئ ويصيب، وليس ما رآه واستنبطه حجة على من لم يره؛ بل كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والذي رواه البخاري، رحمه الله، إنما هو في الغنائم المشتركة بين الناس، وهي إذ ذاك لم تقسم، وهم لم يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بقية الغانمين في ذبحها وأكلها، فأمر بإكفاء القدور زجراً لهم عن معاودة مثله، والإمام له تأديب رعيته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3075), والنسائي: الصيد والذبائح (4297), وأبو داود: الضحايا (2821), وابن ماجة: الأضاحي (3137).
2 أبو داود: الجهاد (2705).(8/493)
ص -495- ... وأيضاً، فإنه لم يجئ في الحديث إتلاف اللحم، قال النووي، رحمه الله: والمأمور به من إراقة القدور، إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يلقوه، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه، مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وهذا من مال الغانمين. وأيضاً، فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، فإن منهم من لم يطبخ، ومنهم المستحقون للخمس; فإن قيل: لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم، قلنا: ولم ينقل أنهم أحرقوه، أو أتلفوه; فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى.
وللعلماء في هذا المقام كلام، لكن المقصود: أن مالك الشاة المذبوحة بغير إذنه إذا أذن في أكلها جاز، ولا يرد عليه حديث رافع بن خديج، ولا الحديث الذي رواه أبو داود عن عاصم بن كليب، لأن ذلك في الغنائم المشتركة غير المقسومة؛ والشاة لا مشارك لمالكها ولا مقاسم، بل هي ملكه، وقد أباحها بطيبة من نفسه. وقد روى البخاري في صحيحه: "أن جارية لكعب بن مالك، كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كلوها" 1، قال ابن حجر: وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه، ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاووس وعكرمة، وإليه جنح البخاري. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الذبائح والصيد (5505), وابن ماجة: الذبائح (3182), وأحمد (3/454), ومالك: الذبائح (1057).(8/494)
ص -496- ... فهذه شاة ذبحت بغير إذن مالكها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوها". ومن هنا قلنا: إن الحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه. وقد تقدم خلاف العلماء، مع أن هذا الحديث الأخير، الذي رواه البخاري في صحيحه، فيه جواز أكلها بغير إذن مالكها، فكيف إذا أذن وأباح أكلها. إذا تحققت هذا، فما أخذه من أغار على غنم أهل بلد، ثم لحقوه فاستنقذوه من أيديهم، إنما هو قياس مع فارق، فإن الغنائم مشتركة بين من ذبح ومن لم يذبح، وصاحب الغنم المأخوذة لا مشارك له فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها بحق، وهؤلاء بعدوان وظلم، والغنائم فيها خمس، والغنم المأخوذة ليس فيها خمس. إذا علمت ذلك، فهي: حلال لمالكيها، لا لآخذها، فإن أذن المالكون لمن استنقذها في أكلها، جاز ذلك، وإلا فلا، وكذلك الشاة المذبوحة بغير إذن أهلها، إلا أن أحمد قال في ذبيحة السارق: أنها لا تحل له، يعني للسارق دون غيره. هذا ما ظهر لي، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
تنبيه: اعلم وفقني الله وإياك، أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن ما ذبح بغير إذن المالك، أو كان المال المشاع مشتركاً، لا يؤكل، بحديث رافع بن خديج المتقدم، واستدل أحمد بن حنبل على جواز أكله، بحديث رافع بن خديج، وبحديث المرأة؛ فكل من الإمامين استدل(8/495)
ص -497- ... على الجواز والمنع، بحسب ما فهمه من الحديث، ومجرد مفهوم أحد الإمامين، لا يكون حجة يجب المصير إليه، ولا يقول بهذا إلا مقلد متعصب.
والواجب على من له معرفة ونظر: أن يطلب دليلاً من خارج، وقد اجتهدنا حسب الإمكان والطاقة، فوجدنا ما رواه البخاري في صحيحه، الحديث المتقدم ذكره في قصة جارية كعب بن مالك، والحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما؛ فالأخذ بظاهر ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بمفهوم عالم فاضل، يجوز عليه الخطأ. بقي أن يقال في هذه المسألة: ما حال الذابح مع الظلم والعدوان؟ فالجواب أن الحكم على الظاهر: فإذا وقع في بلاد الإسلام، كان الظاهر أنه مسلم، إلا أن يعلم كفر الذابح بعينه، فلا تحل ذبيحته.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: وقولك: رجل دخل بيت رجل... إلخ، ومشكل عليك حل ذبيحته، فالذابح غاصب، وإذا أباحها صاحب المال فلا بأس بأكلها، لأن الذابح مسلم، وأدبه وتعزيره على الآمر.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: المسألة ورد فيها حديث المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبحت الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها، فقصت عليه القصة، فقال: "أطعموها الأسارى" 1، قال شيخ الإسلام، رحمه الله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/293).(8/496)
ص -498- ... فهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله، يمنع منه المذبوح له دون غيره، كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لمحرم، حرم على المحرم دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، قال: قيل له: إن رجلاً سرق شاة فذبحها، قال: لا يحل أكلها له، قلت: فإن ردها على صاحبها، قال: تؤكل إذًا. إذا فهمت هذا، فهي لا تحل للذابح، ولو أذن له المالك بعد الذبح، عقوبة له، ولا لمن ذبحت له، قياساً على صيد الحلال للمحرم، كما أشار إليه الشيخ تقي الدين. وأما من عدا ما ذكر، فهو باق في حقه على الإباحة للمالك، وغيره.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الذي يرمي بالبندق أو الحربة... إلخ؟
فأجاب: يسمي الله عند الرمي، وهو حلال، وكذلك الذي يتردى في بئر أو شبهه، فذكاته أن يلحق ما يقتله، مثل حربة أو خنجر ويسمي.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رمى إنسان بعيراً، ولم يمكنه تذكيته، كما إذا شرد البعير أو سقط في بئر، ولم يمكنه نحره، فحكمه حكم الصيد إذا رماه إنسان: فإن أدركه حياً حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه، فإن لم يكن فيه إلا مثل حياة المذبوح، فلا يحتاج إلى تذكية. وإن أصابه وغاب عنه، ثم وجده ميتاً، ولا أثر(8/497)
ص -499- ... به غير رميه، فإنه يباح. ويشترط التسمية عند رميه، قاصداً قتل المرمي. وهكذا حكم البعير الشارد، والمتردي في بئر ونحوهما.
وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: بلغنا أن ناساً جزموا بتحريم فريسة السبع التي افترسها وبقيت حية، إلى أن أدركتها الذكاة؛ وهذا جهل بأحكام القرآن ونصوص السنة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 3].
فذكر سبحانه وبحمده المحرمات في هذه الآية، وذكر منها ما أكل السبع، يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب، والذئب، والضبع ونحوها، فذكره في جملة المحرمات، ثم استثنى سبحانه وتعالى، فقال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3]، نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه، لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفاً إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعاً إلا بدليل يجب التسليم له.(8/498)
ص -500- ... روى ابن عيينة وشريك وجرير، عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها، حتى انتشر قصبها، فأدركت ذكاتها فذكيتها، فقال:? "كل، وما انتشر من قصبها فلا تأكل"، قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على وصف ابن عباس، لأنه وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر هل يعيش مثلها، وكذلك المريضة. قال إسحاق: ومن خالف في هذا فقد خالف السنة، وجمهور الصحابة وعامة العلماء. قال الإمام القرطبي، رحمه الله: وإليه ذهب ابن حبيب، وذكره عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب، والأشهر من مذهب الشافعي. قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء، والذي في الموطإ: أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب، فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده، وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره. انتهى كلام القرطبي.
وأما كلام الفقهاء من الحنابلة، رحمهم الله، فقال في المغني: فصل: والموقوذة والمتردية، والنطيحة وأكيلة السبع، وما أصابها مرض فماتت به، محرمة إلا أن تدرك ذكاتها، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3]. وفي حديث جارية(8/499)
ص -501- ... كعب، أنها أصيبت شاة من غنمها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوها"، فإن كان لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح، لم يبح بالذكاة، وإن أدركها وفيها حياة مستقرة، بحيث يمكنه ذبحها حلت، لعموم الآية والخبر، سواء قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش، لعموم الآية والخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ولم يستفصل؛ وقد قال ابن عباس، في ذئب عدا على شاة فعقرها، فوقع قصبها بالأرض، فأدركها فذبحها بحجر، قال: "يلقى ما أصاب الأرض، ويؤكل سائرها".
وقال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة، حتى تبين فيها آثار الموت، إلا أن فيها الروح يعني فذبحت، قال: إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو - إن شاء الله - أن لا يكون بأكلها بأس، وروى ذلك بإسناده عن عبيد بن عمير، وطاووس، قال: وقالا: إذا تحركت، ولم يقولا: إذا سال الدم; قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت، فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها، أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها، ويضعف فيها الدم، قال: فلا بأس.
ثم ذكر رواية ابن أبي موسى في مذهب أحمد، ثم قال: الأول أصح، لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح، إلى حد علم أنه لا يعيش معه، فوصى وقبلت(8/500)
ص -502- ... وصاياه، ووجبت العبادات عليه. وفيما ذكرنا من عموم الآيات والخبر، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب، ما يدل لهذا، ويحمل ما نقل عن أحمد في شاة خرجت أمعاؤها، وبانت منها، ولم تتحرك إلا حركة المذبوح; فأما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها، فهي في حكم الحياة تباح بالذبح؛ وقد تقدم: أن عموم الآية والخبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ما فيه كفاية. انتهى.
وما ذكره في المنتهى وشرحه، من قوله: وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته ونحوها، مما لا يبقى معه حياة، فوجودها كعدمها، فلا يحل بذكاة؛ فهذا نص رواية ابن أبي موسى، وقد ردها في المغني كما تقدم، بعموم الآية والخبر; وأيضاً، معنى قوله: أبينت، ليس هو بمعنى ظهورها، بل معناه: أزيلت، كما تقرر عند أهل الأصول، كشارح المنهاج وغيره؛ ومن المعلوم: أنها إذا أزيلت حشوتها، أن حركتها كحركة المذبوح، مع أن عموم الآية والخبر، وعدم استفصال النبي صلى الله عليه وسلم فيه مقنع وكفاية.
وقال في المغني أيضاً: والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمناً، يكون الموت بالذبح أسرع منه، حلت بالذبح، وأنها إن كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة، أنها متى تحركت وسال دمها حلت; قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله: وما أصابه الموت، كأكيلة السبع ونحوها، فيه نزاع بين(9/1)
ص -503- ... العلماء: هل يشترط أن لا تبقى يومها بذلك السبب، أو أن تبقى معظم اليوم، أو أن تبقى فيها حياة بقدر حياة المذبوح، أو أزيد من حياته؟ فيه خلاف؛ والأظهر أنه لا يشترط شيء من ذلك، بل متى ذبح فخرج منه الدم الأحمر، الذي يخرج من المذكى المذبوح في العادة، ليس هو من دم الميت، فإنه يحل أكله، وإن لم يتحرك في أظهر قولي العلماء. انتهى كلامه.
فتبين بما ذكرناه: أن الرواية التي يستروح لها من يجزم بالتحريم، أنها مردودة في مذهب أحمد، عند كثير من الأصحاب؛ وبهذا كفاية إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم، عن الضب إذا كان في جحره، وبان منه بعضه، فجذبته فانقطع بعضه هل يحل الذي انقطع في يدي، إذا أخرجته في الحال وذبحته، أم لا؟
فأجاب: لا يحل ما انقطع منه، ولو أخرجه في الحال وذبحه، إلا أن يكون الذي انقطع متصل بالضب، وأما إذا انفصل عنه، فإنه لا يحل ولو كانت الحركة في حال ذبح الضب موجودة في الذي انقطع.
سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن شق بطن الشاة الميتة، وإخراج ولدها لإنتاجه؟(9/2)
ص -504- ... فأجاب: الظاهر أنه إذا أمكن ذلك فلا بأس به.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قطع حلقوم الذبيحة؟
فأجاب: الذبيحة إذا ذبحت، وذكر اسم الله عليها، وقطع الحلقوم والودجين، فهي حلال وإن لم يبق في الرأس من الحلقوم شيء.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما ذبح إلى غير القبلة عمداً أو سهواً.
فأجاب: استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه.
وقال، رحمه الله تعالى: وأما قول السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1، وأي شيء حقيقة البدعة؟ وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا، فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة، ولبس المحارم وغيرها، بدعة لا تثبت من الرسول ولا ممن يعتبر بهم؟ فيقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية، وباللسان العربي؛ فكلام هذا الدرب من الناس يكفي من هداه الله، في بيان جهلهم وضلالهم.
أما جهله بالدراية، فمن وجوه: أحدها: قوله هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء: صرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: صلاة العيدين (1578).(9/3)
ص -505- ... الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى معناه المرجوح; ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول، ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما ظنه الأغبياء الجهال، مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله; وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة، ولبس المحارم، بدعة، وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات.
والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر؛ فما اقتضته العادة من أكل وشرب، ولبس ومركب ونحو ذلك، ليس الكلام فيه. والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه؛ وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب، وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه الدليل الشرعي. وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام.
[ الكلام على حكم القهوة ]
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: والكلام على القهوة، قد(9/4)
ص -506- ... سُبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم، كل منهم أبدى ما عنده وما لديه، وحسبنا السير على منهاجهم، واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعه طرفاً من ذلك. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم: أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين، بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع، من الأمر والنهي، بالفعل أو بالوسيلة؛ وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك: رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب: دفع المفاسد، لا رفع المفاسد.
وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد، بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] ولم يخرج فرد من ذلك; ولو قلت: فقد صرح بذلك الكتاب والسنة، أو تضمناه لصلح التعبير.
وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم: "القهوة" مع ضعف معايشهم، فلا أدري: ما يراد بالبلوى هنا، أهي الابتلاء في الدين؟ أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى; وإن كان الثاني، فالناس درجات(9/5)
ص -507- ... وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة؛ وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه، لا تخص بالقهوة أيضاً، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات.
وأما التعليل بأن فيها مضار للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي، يمكنه التعديل بالتمر، الذي هو غالب غذاء أهل نجد؛ وقد قال داود في تذكرته: يعدلها كل حلو. وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال، لأن الخمر يزيل العقل لمخامرته، أي: تغطيته، وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن، حاد الإدراك، جيد الحفظ، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة، وإنما هو كسل وفتور لها لا بها؛ فافهم أيها الأخ وأعط القوس باريها.
وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم، شهد بها وعابها، فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة، ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فأقوالهم لا تصلح أن تكون ميزاناً، وأن تستقل بحكم; وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين، فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن(9/6)
ص -508- ... اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة.
وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب: ما لا يعود بمنفعة أصلاً، ويعود بمضرة راجحة على مصلحته; وإدخال القهوة في هذا التعريف، يحتاج إلى أصول ومقدمات، "لو يعطى الناس بدعواهم" 1 الحديث. وما ذكرت من التعاليل، قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال، والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازماً للقهوة; وكذلك كونها تلهي كثيراً من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات، والمبايعات، والمزاورات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة المنافقون آية: 9].
وأما كونها لا تغني من جوع، ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما تتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع، ولا يروي، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64]. وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار، ونسجه الكفار، وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم، ومأكلكم من هذا الضرب؟ "ثكلتك أمك يا معاذ!" 2، "وويح عمار!". قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552), ومسلم: الأقضية (1711), والنسائي: آداب القضاة (5425), وابن ماجة: الأحكام (2321), وأحمد (1/363).
2 الترمذي: الإيمان (2616), وابن ماجة: الفتن (3973), وأحمد (5/231, 5/237).(9/7)
ص -509- ... بلاد الكفار، أنواع المآكل والأدهان، والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار.
وأما ما زعمته من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم، وتجفيف المواد المكسلة الرديئة. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى صار النظر - أصلحك الله - منصرفاً إلى توفير هذه الجهة، ووضعها في مواضعها الشرعية؟! والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها - ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية - فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل.
وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخل في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية.
ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من(9/8)
ص -510- ... الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين، من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة، بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه، والسؤال عنه; وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنها من سلف من أهل العلم والدين.(9/9)
ص -511- ... كتاب الأيمان والنذور
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قول الحالف وعهد الله؟
فأجاب: وأما قوله: إذا حلف وقال: وعهد الله، فهو كقوله: والله.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الحلف بحق الله والأمانة؟
فأجاب: ذكر العلماء أن الحلف بحق الله، وأمانة الله، ونحوهما، يمين منعقدة إذا أضيفت إلى الله، ونوى بها الحالف صفة الله؛ قال في الشرح الكبير: إذا قال: وحق الله، فهي يمين مكفرة، وبها قال مالك والشافعي; وقال أبو حنيفة: لا وحق الله، طاعته، ولنا: أنه له حقوق يستحقها لنفسه، من البقاء والعظمة والجلال، وقد اقترن العرف بالحلف بها، فينصرف إلى صفة الله - إلى أن قال - وإن قال: وأمانة الله، فيمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا أن ينوي به صفة الله، لأنها تطلق على الفرائض، والودائع، والحقوق.
ولنا: أن أمانة الله، صفة من صفاته - إلى أن قال -(9/10)
ص -512- ... الثالث: ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله، لكن ينصرف بإضافته إلى الله، من لفظ أو نية، كالعهد، والميثاق، والأمانة، فلا يكون يميناً إلا بإضافته، أو نيته. انتهى. وقد ذكر في الإقناع وشرحه، والكافي وغيرهما، نحو ذلك.
وأما معنى الأمانة في الآية، فقال البغوي: أراد بالأمانة: الطاعة، والفرائض التي فرضها الله على عباده، قاله ابن عباس، وقال ابن مسعود: "الأمانة: الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والعدل والودائع"، وقال مجاهد: الأمانة: الفرائض وحدود الدين، ثم ذكر الغسل من الجنابة، ثم ذكر جوارح الإنسان، الفرج والأذنين، واليد والرجل، والوفاء بالعهد، وكل هذا من الأمانة. انتهى ملخصاً.
وقال أيضاً في الإقناع وشرحه: ويكره الحلف بالأمانة، لما روى أبو داود مرفوعاً: "ليس منا من حلف بالأمانة" 1، قال الزركشي: ظاهر الحديث التحريم، فلذا قال: تحريم كراهة، لكن ظاهر المنتهى، كالمغني والشرح وغيرها، أنها كراهة تنزيه.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحلف بحق الله، كثير من العلماء يجوزونه، وبعضهم يمنع منه، والمشهور في المذهب جوازه; وقول بعض الناس: لك الله ما فعلت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3253), وأحمد (5/352).(9/11)
ص -513- ... كذا، إذا لم يكن للقائل نية فهو لغو; وقول: بالرحمن نفعل كذا، إذا كان مراده الاستعانة بالرحمن، فلا بأس به.
وسئل: عن إقسام بعض الناس، يقول: الله يعلم ما فعلت كذا؟
فأجاب: إن كان القائل صادقاً في قوله فلا بأس، وإن كان كاذباً في قوله: الله يعلم ما فعلت كذا، وهو قد فعله، والله يعلم ما صار كذا، وهو قد صار، فهذا حرام; ولو عرف القائل معنى قوله، لكان كفراً، لأن مقتضى كلامه: أن الله لا يعلم أن الأمر على ما هو عليه، فيكون وصفاً لله بالجهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: قول من قال: يعلم الله أنه يكفر، فالذي قال هذا: تائه وغالط، ولعلكم ما فهمتم معنى كلامه، وإلا إذا قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو صادق، فلا بأس بذلك، وإنما الإثم والحرج على من قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو كاذب، فهو كذب وافتراء، ولا يبلغ إلى الكفر.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن كان عليه يمين، فإن استحلف بالله حلف ولم يبال، وإن استحلف بفلان أو فلان لم يحلف إلا صادقاً، هل يجوز استحلافه بغير الله، مع تحقق ما ذكرنا؟(9/12)
ص -514- ... فأجاب: وأما الاستحلاف، فلا يجوز أن يستحلف بغير الله سبحانه وتعالى. وأما من طلب منه الحلف بغير الله، إذا كان له حق ولا يمكن حصوله إلا بذلك، فإن أمكنه التأول تأول، وإن لم يمكنه ذلك، فلا أعلم أنه يرخص له في ذلك؛ ولا يقال إن هذا من نوع الإكراه.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا قال الإنسان في كلامه: وأبي إني صادق، أو: وأبي إنك كاذب، ونحو ذلك، هل هذا شرك؟
فأجاب: هو شرك، وينكر عليه؛ قال في الإقناع وشرحه: ويحرم الحلف بغير الله، ولو كان الحلف بنبي، لأنه إشراك في تعظيم الله تعالى، ولحديث ابن عمر مرفوعاً: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 1، رواه الترمذي وحسنه، وروى ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يحلف بأبيه، فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" 2، متفق عليه. فإن حلف بغير الله أو صفاته، استغفر الله وتاب بالندم والإقلاع، والعزم أن لا يعود. انتهى. وقال في الشرح: والحلف بغير الله يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى، ولهذا سمي شركاً.
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا حلف لا يفعل شيئاً، ففعله مرات كثيرة، فإنه يُكَفّر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535), وأبو داود: الأيمان والنذور (3251), وأحمد (2/34, 2/69).
2 البخاري: الأدب (6108), ومسلم: الأيمان (1646), والترمذي: النذور والأيمان (1533, 1534), والنسائي: الأيمان والنذور (3766), وأبو داود: الأيمان والنذور (3249), وابن ماجة: الكفارات (2094), وأحمد (2/7), ومالك: النذور والأيمان (1037), والدارمي: النذور والأيمان (2341).(9/13)
ص -515- ... سئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا قال لامرأة: علي عهد الله أن أتزوجك، فلم يفعل، فهل عليه كفارة يمين؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والمشهور في مذهب أحمد أن عليه كفارة يمين، وهو مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى أنه لا كفارة عليه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا حلف لا يدخل بيت فلان... إلخ؟
فأجاب: أما من حلف أنه لا يدخل بيت فلان، أو ما يأكل من بيته، أو من طعامه، ثم فعل ذلك، فعليه كفارة يمين.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال: طعامك أو شرابك علي حرام؟
فأجاب: تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن، كما في سورة التحريم؛ واختلفوا هل عليه كفارة يمين، أو لا، وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين.
[ فصل في حكم النذر ]
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ - في أثناء العقيدة -: ونرى النذر جائزاً، ويجب الوفاء به في غير المعصية.
وسئل أيضاً: هو والشيخ حسين: هل يجوز أن(9/14)
ص -516- ... يقول: مالي نذر لوجه الله على فلان حياً؟ أم يكون شركاً؟
فأجابا: النذر الذي يقصد به وجه الله، في عمل طاعة لله ورسوله، كالنذر على فقير معين، أو غيره، فإنه يجب الوفاء به، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [سورة الإنسان آية: 7]. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 1. ولا يكون هذا النذر شركاً، لأن النذر الذي يكون شركاً، النذر لغير الله، كالنذر لولي يعبد من دون الله، أو لقبة، أو لخدمتها وسدنتها، فهذا هو الذي يكون شركاً، وهو نذر معصية، لا يجوز نذره، ولا الوفاء به، كما تقدم في الحديث.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الطعام المنذور لغير الله، هل هو حرام، أم حلال؟ وإن كان حراماً، فبأي سبب حرم؟
فأجاب: ما قصد به الميت تقرباً إليه، وتعظيماً له، من طعام أو غيره، فهو حرام، لأن ذلك شرك بالله، كما قال تعالى عن المشركين: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700), والترمذي: النذور والأيمان (1526), والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808), وأبو داود: الأيمان والنذور (3289), وابن ماجة: الكفارات (2126), وأحمد (6/36, 6/41, 6/224), ومالك: النذور والأيمان (1031), والدارمي: النذور والأيمان (2338).(9/15)
ص -517- ... شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الأنعام آية: 136].
فإذا خرج ذلك بالنذر فهو أعظم، فيكون نذر معصية، كما في الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 1. ولأن النذر عبادة يجب الوفاء به، إذا نذر طاعة لله، كما قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [سورة الإنسان آية: 7]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270].
ومن نذر للميت، فقد جعله شريكاً لله في عبادته، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31].
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب الوفاء بنذر الطاعة؟
فأجاب: ونذر الطاعة يلزم الوفاء به، ويجبر عليه الممتنع. ونذر الإنسان فيما لا يملك لا ينعقد مطلقاً، ولا كفارة فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" 2؛ وهذا نحو: أن ينذر عتق عبد زيد، فلا ينعقد ولا يلزمه شيء، فلو قال: إن ملكت عبد زيد، فلله علي أن أعتقه، يقصد القربة، لزم عتقه إن ملكه؛ فإن كان نذره نذر لجاج أو غضب، فملكه، فهو يخير بين عتقه، وكفارة يمين.
وسئل أيضاً: إذا نذر إنسان شيئاً معيناً لشخص معين، نذر تبرر، فرده أو مات قبل قبوله، أو قبله وقبضه ثم رده؟
فأجاب: إذا رده أو مات قبل القبول والرد، فالذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700), والترمذي: النذور والأيمان (1526), والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808), وأبو داود: الأيمان والنذور (3289), وابن ماجة: الكفارات (2126), وأحمد (6/36, 6/41, 6/224), ومالك: النذور والأيمان (1031), والدارمي: النذور والأيمان (2338).
2 الترمذي: الطلاق (1181).(9/16)
ص -518- ... يظهر بطلان هذا النذر، كما تبطل الصدقة بذلك، لأن الصدقة نوع من الهبة؛ صرح به الأصحاب، كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد، لقوله في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة داراً، وما أشبه ذلك، فإذا قبضها الموهوب له، صارت في ملكه. انتهى. وقد صرحوا باعتبار القبول للهبة، وأنها تبطل بالرد، وبموت الموهوب له قبل القبول؛ فإذا كان هذا حكم الهبة، فالصدقة نوع من الهبة.
وقد جعل الأصحاب حكم الصدقة المعينة حكم النذر، كما نقله في القواعد عنهم، ولفظه - بعد كلام سبق -: فإذا قال: هذه صدقة، تعينت وصارت في حكم المنذورة، صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ فيه خلاف بين الأصحاب. انتهى.
فقوله: هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ صريح في أنه إذا تصدق بشيء معين، فقال: هذا صدقة، أنه نذر حقيقة. فإذا علمت ما ذكره علماؤنا، رحمهم الله تعالى، من أحكام الهبة، وقد صرحوا: بأن الصدقة نوع من الهبة، لها حكم الهبة، بل صرحوا باعتبار القبول للصدقة، ولم يخصوا بذلك نوعاً منها، وجعلوا حكم الصدقة المعينة، حكم المنذورة، ظهر لك حكم مسألة السؤال، إن شاء الله تعالى.
يوضحه: أن للأصحاب في اشتراط القبول للوقف(9/17)
ص -519- ... على معين وجهين: أحدهما: لا يشترط، لأنه أحد نوعي الوقف. والثاني: يشترط كالهبة والوصية. والأول أولى، والفرق بينه وبين الهبة والوصية: أن الوقف لا يختص المعين، بل يتعلق به حق من يأتي من البطون، فيكون الوقف على جميعهم، إلا أنه مرتب؛ قال الزركشي بعد حكاية الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا: إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل، اشترط وإلا فلا، قال: والظاهر أنهما على القول بالانتقال. انتهى.
فظهر بما ذكروه من التعليل: اعتبار القبول في مسألتنا، لا المنذور له، يملك النذر، ويتصرف فيه بالبيع وغيره، ولا يتعلق به حق لغيره، فإذا لم يقبل المنذور له، جاز للناذر التصرف فيه; يقوي ذلك أيضاً: ما ذكره جماعة من الأصحاب، وصرح به في الإقناع والمنتهى: أن الوقف يرجع إلى الواقف، إذا انقطعت الجهة الموقف عليها، والواقف حي، فمسألتنا أولى.
وأما إذا قبض المنذور له ثم رده، فعلى ما قررناه، حكمه حكم الصدقة المردودة بعد القبض؛ قال في الفروع: ومن سأل فأعطي فقبضه، فسخطه، لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء. انتهى. وذكر في الاختيارات ما معناه: أنهما إن تفاسخا عقد الهبة صح، والله أعلم.(9/18)
ص -520- ... وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل يجوز للإنسان إذا نذر إن شفي من مرضه، أو قضيت مصلحته أو حاجته أو غيرها، أن يعطي إنساناً أو جماعة مقداراً من النقود، أو الطعام أو اللباس أو غيره، فبعد إتمام مقصده لم يعط النذر مطلقاً، فهل يأثم، ويعذب أم لا؟
فأجاب: هذا نذر مطلق على شرط هو الشفاء من المرض، أو قضاء الحاجة أو غيرها، فإن كان الناذر قصد بإعطائه وجه الله، أو ثواب الآخرة، فهذا نذر تبرر؛ إذا وجد الشرط الذي علق عليه، لزمه الوفاء بما نذر من النقد أو الطعام أو اللباس، لمن عينه واحداً أو أكثر. وإن قصد الإكرام أو التودد، أو لم يقصد شيئاً، فهو من قبيل نذر المباح، فيخير بين الوفاء، وكفارة يمين. وحيث إن النذر لم يقيد بوقت معين، فالوفاء به واجب على الفور، بعد حصول شرطه، ولا يكون الناذر حانثاً إلا إذا تحقق اليأس من فعل المنذور، فتجب الكفارة حينئذ لدفع الإثم; وبالتكفير يكون غير آثم في نذره، فلا يعذب عليه.
والكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة وجوباً، إن لم يكن عذر يمنع من ذلك.
وسئل أيضاً: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة إذا(9/19)
ص -521- ... تاب من جميع الذنوب، الصغيرة والكبيرة، كالقتل، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، والكذب، والغش، والظلمن والخيانة، وغيرها، ولا يعذب ولا يقاصص، ولا يعاقب في الدنيا، ولا في القبر، ولا في الآخرة، أم لا؟
فأجاب: إن التوبة من أهم قواعد الإسلام، وواجباته المتأكدة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على وجوبها، لكن لا يقدر العبد أن يتوب، حتى يتوب الله عليه.
والتوبة واجبة على الفور من كل ذنب، ولو من صغيرة، وإن كانت تكفر باجتناب الكبائر، لعموم الأدلة، ولا تجب بدون تحقق إثم، وظاهر كلام بعضهم صحة التوبة، من كل ما حصلت فيه المخالفة، أو أدنى غفلة وإن لم يأثم، وتصح من بعض الذنوب في الأصح، لا من ذنب أصر على مثله.
فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه، لا تتعلق بحق آدمي، فللتوبة منها ثلاثة شروط: أن يقلع من المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها أبداً؛ فإن فقد أحد الثلاثة، لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، فلها شروط أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. وحق الآدمي المحض لا يكاد يوجد في قول بعضهم، لأن كل حق(9/20)
ص -522- ... لآدمي يتعلق به حق الله تعالى، لأن تعاطي ما لا يشرع معصية، والإقدام على المعصية من حقوق الله، لأن الله حد حدوداً، يجب الوقوف عندها.
فإن كان حق الآدمي مما يجبر بالمثل، كالدماء، والأموال، فالبراءة تحصل منه ببذل ما وجب عليه لمستحقه، أو استحلاله بعد إعلامه به. وإن كان لا يجبر بالمثل، بل جزاؤه من غير جنسه، كالقدح فيه بقذف أو غيبة أو شتم، ضم إلى التوبة من القذف تكذيب نفسه، والإحسان إلى المقذوف، ومن اغتابه أو شتمه، بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون بإزاء إيذائه له، ولا يشترط إعلامه ولا استحلاله من ذلك؛ وقيل: إن علم به المظلوم استحله، وإلا دعا له واستغفر له ولم يعلمه.
وأما قبول التوبة، فقال الحافظ زين الدين بن رجب، رحمه الله: ظاهر النصوص يدل على أن من تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله تعالى توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً؛ وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع. ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب.(9/21)
ص -523- ... ثم قال: والصحيح قول الأكثرين - يعني القطع بقبول التوبة -. انتهى. فتقبل التوبة من كل ذنب لتائب منه من غير استثناء شيء من الذنوب، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ما لم يعاين التائب الملَك، وقيل: ما دام مكلفاً; وقيل ما لم يغرغر - أي تبلغ روحه حلقومه -.
وقبول التوبة فضل من الله تعالى غير واجب عليه عند أهل السنة؛ فلو عذب العبدَ على ذنبه لم يكن ظالماً له ولو قدر أنه تاب منه، ولكنه أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع العباد إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل به الجنة.
وإذا قبلت توبة العبد، غفر ذنبه الذي تاب منه؛ والمغفرة وقاية شر الذنوب مع سترها، ومن غفرت ذنوبه بالتوبة أو غيرها من مقضيات المغفرة، فهو غير آثم، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب، لا في القبر، ولا في الآخرة.
وأما في الدنيا، فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى، من حد سرقة أو زنى وشرب، أو تعزير، بعد ثبوتها، وما وجب لحق آدمي، من قصاص أو مال، أو حد قذف أو تعزير، كما لا تسقط بها الكفارات،(9/22)
ص -524- ... وسائر الواجبات التي أثم بسببها، من صلاة أو صيام، أو زكاة أو غيرها، بل لا بد من الإتيان بها، لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب تأخيرها فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر.
وإذا عوقب العبد على الذنب في الدنيا لم يعاقب عليه في الآخرة، لما روى الإمام أحمد وغيره واللفظ له، عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: "من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به، فإن الله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده. ومن أذنب ذنباً في الدنيا، فستره الله عليه وعفا عنه، فإن الله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه" 1.
وأما إذا لم يعاقب عليه في الدنيا، ولم يتب منه، ولم يكفر بشيء من المكفرات للذنوب، بل مات مصراً عليه، ولقي الله بالذنب الذي استوجب به العقوبة، ولم يكن شركاً، فأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.
ولما كان العبد لا بد أن يفعل ما قُدِّر عليه من الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتب الله على ابن آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة" 2، جعل الله له مخرجاً مما وقع فيه، يرفع أثر الذنب، ويزيل موجبه؛ وهذا من أعظم فوائد الشريعة ومقاصدها، فعقوبات الذنوب تزول بالتوبة النصوح، فهي أقوى الأسباب في إزالتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الإيمان (2626), وابن ماجة: الحدود (2604).
2 البخاري: الاستئذان (6243), ومسلم: القدر (2657), وأبو داود: النكاح (2152), وأحمد (2/276).(9/23)
ص -525- ... وبالحسنات الماحية، كالكفارات والعقوبات، وبالمصائب المكفرة، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن، أو أذى في مال أو عرض أو جسد، أو غير ذلك.
وصرح العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، بأن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب جميعها، وقال: لا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة، أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب. انتهى.
ومما يزيل عقوبات الذنوب أيضاً: ما يحصل للعبد في البرزخ من الشدة، وما يحصل له في عرصات القيامة، ودعاء المؤمنين له، كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه، وغير ذلك.
وقد حصر بعض العلماء ما يسقط العقوبة على الذنب بنار جهنم، في نحو عشرة أسباب، ذكر أنها عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالذنوب أسباب مقتضية للعقوبة، والأمور المكفرة لها موانع، ولهذا تقع الموازنة بين الحسنات والسيئات في الآخرة، إعمالاً لمقتضى العقاب ومانعه، ويكون الحكم للغالب؛ فمن كفرت سيئاته بنفس العمل، كان ذلك من باب الموازنة، وهذا تنقص درجته عمن سلم من تلك الذنوب.
ومن كفرت سيئاتهم بالمصائب والحدود، وعقوبات الدنيا، سلمت لهم حسناتهم فلا تنقص درجاتهم؛ بل ترتفع(9/24)
ص -526- ... درجاتهم بالصبر على المصائب، فيكونون أرفع مما لو عوفوا، وأصحاب العافية يكونون أدنى.
وبهذا يتضح أن التائب لا تقع في حقه موازنة ولا مقاصة، لأن توبته النصوح تمحو سيئاته حتى كأنها لم تكن، وتبقى له حسناته موفرة، وإنما تقع الموازنة والمقاصة في حق من له حسنات وسيئات، فيوازن بين حسناته وسيئاته، كبائرها وصغائرها، ويقتص بعضها من بعض؛ فمن رجحت سيئاته على حسناته ولو بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف.
وذكر الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص، حتى تقابل جميع الذنوب، واستدل لذلك بحديث البطاقة وغيره.
وهكذا أيضاً، تقع الموازنة والمقاصة، بين حسنات العبد ومظالم العباد عنده، فمن كان له حسنات وعليه مظالم، فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة دخل بها الجنة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة، ضاعفها الله حتى يدخل الجنة، وإن كان شقياً، قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي له طالبون كثير، قال: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها(9/25)
ص -527- ... إلى سيئاته، ثم صكوا له صكاً إلى النار"، خرجه ابن أبي حاتم وغيره.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن نذر أن يذبح بدنة أو كبشاً أو غير ذلك، هل يلزمه ما عين أو يكفِّر... إلخ؟
فأجاب: بل يلزمه أن يذبح، ولا تجزئه الكفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" 1. وأما إذا نذر أن يذبح بعيراً أو كبشاً غير معين، فقال في المغني: إذا نذر هدياً مطلقاً، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية: فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني، فإن لم يجد الإبل فبقرة، فإن لم يجد فسبعاً من الغنم. فإن نوى بنذره بدنة من الإبل لم يجزئه غيرها مع وجودها; فإن عين المنذور بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه، صغيراً كان أو كبيرا، جليلاً كان أو حقيراً.
وسئل: هل يأكل من نذره، مثل الطعام أو اللحم؟ وكذا الكفارة؟ وما النذر الذي لا يؤكل منه؟
فأجاب: الذي ذكروا: أنه لا يأكل من كل واجب ولو بالنذر، إلا في دم المتعة والقِران. وأما قولك: إذا لم يعين بنذره مصرفاً، فالنذر المطلق يصرف في المساكين; فإذا ذبحه، فإن شاء قسمه بينهم، وإن شاء تركه لهم يقسمونه لأنفسهم. وعقد النذر من حيث هو، مكروه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل; لكن إذا فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700), والترمذي: النذور والأيمان (1526), والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808), وأبو داود: الأيمان والنذور (3289), وابن ماجة: الكفارات (2126), وأحمد (6/36, 6/41, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031), والدارمي: النذور والأيمان (2338).(9/26)
ص -528- ... والتزم النذر لزمه الوفاء به، لأن الله مدح الموفين بالنذر، وفي الحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 1.
كفارة اليمين
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن كفارة اليمين؟
فأجاب: وأما كفارة اليمين، فهو إطعام عشرة مساكين، فإن كان ما يقدر على الإطعام، فيصوم ثلاثة أيام.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما كفارة اليمين، فيطعم عشرة مساكين، قدرها العالي لكل مسكين مد من البر، والمد وزن ثلاثين ريالاً، فإن كان شعيراً فمُدَّان وكذلك التمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700), والترمذي: النذور والأيمان (1526), والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808), وأبو داود: الأيمان والنذور (3289), وابن ماجة: الكفارات (2126), وأحمد (6/36, 6/41, 6/224), ومالك: النذور والأيمان (1031), والدارمي: النذور والأيمان (2338).(9/27)
ص -529- ... كتاب القضاء
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: هل يقوم أمير البلد مقام الحاكم عند عدمه، فيما يتعلق بالحاكم، أم لا؟
فأجاب: أما مطلقاً فلا، وأما في الجملة أو في بعض المسائل فربما، قال في الإقناع: فإن عدم الولي مطلقاً أو عضل، زَوَّجَها ذو سلطان في ذلك المكان، كوالي البلد وكبيره، وأمير القافلة ونحوه؛ فإن تعذر، زَوَّجَها عدل بإذنها. قال أحمد في دهقان القرية - أي رئيسها -: يزوج من لا ولي لها، إذا احتاط في الكفء، والمهر، إذا لم يكن في الرستاق قاض. انتهى. قال الزركشي: لأن دهقان القرية هو كبيرها، فهو بمنزلة حاكمها والقائم بأمرها. انتهى.
وقال ابن عقيل في الفصول، في الصلاة على الميت: إذا اجتمع السلطان وغيره، قدم السلطان، فإن لم يحضر أمير البلد، فالحاكم. انتهى. وصرح ابن عطوة بالإلزام بما يصدر من واحد، ككبار نجد الحاكمين على قراهم، هو ووجوه أهل قريته، من بيع تركة أو قضاء دين، على الوجه(9/28)
ص -530- ... الشرعي.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: إذا توقف المفتي، هل يكون داخلاً في الكتمان؟
فأجاب: اعلم أن الذي يتناوله الوعيد: الذي عنده علم عن الله ورسوله، فيسأل عنه فيكتمه، وأما من أشكل عليه الحكم، فتوقف حتى يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء. والواجب على المفتي: أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين الله وبين عباده، فيما أحل لهم وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم، وما أشكل عليه أو جهله، فليكله إلى عالمه.
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: واحذر القول على الله بلا علم، فإن الله تعالى لما ذكر المحرمات العظام، ختمها بقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33]؛ فجعل القول بلا علم قريناً للشرك في الآية الكريمة؛ والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلفها، ويحملها ما لا تطيق، ويعرضها لسخط الله ومقته. ومن أعظم التكلف: أن يتكلم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتكلم في دين الله بما علم، وإن لم يكن عنده علم، فليقل: الله أعلم.(9/29)
ص -531- ... ولا تستح من قول: لا أدري، فقد قيل: إذا ترك العالم قول: لا أدري، أصيبت مقاتله. فإذا وقع عليك قضية من القضايا، فإن كان عندك علم فتكلم به، وإلا فإن أمكن فيها الإصلاح فأصلح فيها، فإن الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فإن لم يمكن الصلح، ولم يرض به الخصمان، فاصرفهما عنك ولا تَعاظَمْ ذلك، ولا تستح منه، فإن الأمر عظيم، ولا بد من يوم تعاد فيه الخصومات عند رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر آية: 30-31].
[ فصل في التسرع في الفتوى ]
وقال الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم: فصل: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود أحدهم أنه يكفيه إياها غيره؛ فإذا رأى أنها قد تعينت عليه، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، وأقوال الخلفاء الراشدين، ثم أفتى. وقال عبد الله بن المبارك: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال: في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"، قال ابن عباس: "إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه لمجنون"، وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم(9/30)
ص -532- ... علماً". انتهى ملخصاً.
وقال في آداب المفتي: اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لكنه معرض للخطإ والخطر، ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّع عن الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" 1، رواه الشيخان. وعن ابن مسعود: "عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا، أو نهى عن كذا، فيقول الله له: كذبت"، رواه الطبراني.
وعن الشافعي، وقد سئل عن مسألة فسكت ولم يجب، فقيل له: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي، أو في الجواب. وعن مالك، أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة، فلا يجيب في واحدة منها؛ وكان يقول: من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب، أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب. وعن أبي حنيفة، أنه سئل عن سبع مسائل، فقال فيها: لا أدري. وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك لما عرف من الأقاويل. انتهى.
شعراً:
من كان يهوى أن يُرَى مُتَصَدِّرا ... ويكره لا أدري أُصِيبَتْ مَقاتِلُه
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: ولكن ينبغي للمفتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العلم (100), ومسلم: العلم (2673), والترمذي: العلم (2652), وابن ماجة: المقدمة (52), وأحمد (2/162, 2/190, 2/203), والدارمي: المقدمة (239).(9/31)
ص -533- ... والقاضي، إذا ابتلي بشيء من المسائل، أن يجتهد في تحري الصواب، أو يقلد إن لم يتبين له الراجح; والمسائل التي يقع فيها الخلاف بين العلماء، وليس مع أحد القولين حديث صحيح صريح، بل القول فيها بالاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فالذي ينبغي للإنسان فيها التوقف، إلا القاضي الذي لا بد له من القول، فيجتهد في تحري الصواب، وإلا فلا ينبغي لأحد أن يحرم على الناس شيئاً إلا بدليل.
بل ينبغي للمفتي أن يقول للسائل: ما أحب لك هذا، أو أكره هذا، أو يقول: بعض العلماء يمنعون من هذا، أو يحرمون، إن كان أحد قد قال بتحريمه; هذا الذي ينبغي للإنسان أن يستعمله في المسائل التي فيها الخلاف. وإن كان أحد فعل فعلاً، قال جمهور العلماء بالمنع منه، فينهى الفاعل عنه، ويمنع منه من غير أن يقال بتحريمه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عمن أمر أن يحكم بما شرع الله ورسوله، فوجد لبعض من سبق قضاء يخالف كتاباً أو سنة، أو تقرير أهل العلم من أهل مذهبه أو إجماعهم، هل يسوغ له السكوت على ذلك الخطأ؟ أم يجب عليه الحكم بالحق والقضاء به، مع رفض الخطإ إن قدر وجوده؟
فأجاب: يجب عليه الحكم بالحق، سواء أمر به أو لا، لكن إذا سبق لغيره حكم في مسألة، بما يخالف نصاً من(9/32)
ص -534- ... كتاب أو سنة أو إجماع، فإنه يجب نقض ذلك الحكم، لكن لا يتولى نقضه إلا من حكم به، فإن أبى نقضه، أجبر على ذلك، فإن امتنع، نقضه غيره؛ ولا يخفاك أن هذا يحتاج المتكلم فيه إلى سعة علم، وثقوب فهم وتمام اطلاع على كلام العلماء وإجماعهم وخلافهم، فكثيراً ما يظن بحكم أنه مخالف للكتاب أو السنة أو الإجماع وليس كذلك.
وأما حكمه بما يخالف تقارير أهل مذهبه أو إجماعهم إن تصور ذلك، فهذا لا يكون واجب النقض مطلقاً، فإن كان يرى ويعتقد أن كلام أهل مذهبه هو الصواب والحق، وحكم بما يخالفه فإنه ينقض؛ فإن بعض فقهائنا ذكر وجوب نقض حكم الحاكم إذا حكم بخلاف ما يعتقده. وأما إن حكم بخلاف قول أهل مذهبه لرجحان القول المخالف، لقول أهل مذهبه في الدليل، وكان له معرفة بهذا الشأن، ومن فرسان هذا الميدان، فإنه لا يتعرض لحكمه، والله أعلم.
[ السؤال عن رشوة الحاكم ]
قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: سألتم - رحمكم الله - عن رشوة الحاكم، الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "لعن الراشي والمرتشي" 1، وذكرتم أن بعض الناس حملها على ما إذا حكم الحاكم بغير الحق، وأما أخذ الرشوة من صاحب الحق، والحكم له به فهي حلال عنده، مستدلاً بقوله: "أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 2، وإنكم استدللتم عليه بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1336), وأحمد (2/387).
2 البخاري: الطب (5737).(9/33)
ص -535- ... ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 41]، وأجابكم بأنها نزلت في كعب بن الأشرف، وبأن الناس فرضوا لأبي بكر لما تولى الأمر درهمين كل يوم، وكذلك قول من قال: وإن قال: لا أحكم بينكما إلا بجعل؟
فأقول: أما صورة المسألة فهي أشهر من أن تذكر، بل هي تعلم بالفطرة، فإن حكام زماننا لما أخذوا الرشوة، أنكرت عليهم العقول ذلك والفطر بما جبلها الله عليه، من غير أن يعلموا أن الشارع نهى عنها، ولكن إذا جادل المنافق بالباطل، ربما يروج على المؤمن، فيحتاج إلى كشف الشبهة.
ونقدم قبل الجواب مقدمة، وهي: أن الله سبحانه لما أظهر شيئاً من نور النبوة في هذا الزمان، وعرف العامة شيئاً من دين الإسلام، وافق أنه قبل ذلك ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين، وأبعدهم عن معرفة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ضروا في الرياسة بالباطل، وفي أكل أموال الناس، ويدعون أنهم يعملون بالشرع، ولا يعرفون شيئاً من الدين، إلا الأشياء من كلام بعض الفقهاء في البيع، والإجارة، والوقف والمواريث، وكذلك في المياه والصلوات، ولا يميزون بين حقه من باطله، ولا يعرفون مستند قائله.
وأما العلم الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفوا(9/34)
ص -536- ... منه خبراً، ولم يقفوا منه على عين ولا أثر، قد تراجمت بهم الظنون، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53]؛ ومصداق هذا كله: أن الداعي لما أمرهم بتوحيد الله، ونهاهم عن عبادة المخلوقين، أنكروا ذلك عليه، وزعموا أنه جهالة وضلالة، مع كون هذه المسألة أبين في دين محمد صلى الله عليه وسلم من كون العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً؛ بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك، وجادل عليه وقاتل عليه. ثم هؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء، اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنه دين جديد، ومذهب خامس، وأنهم لم يسمعوه من مشايخهم ومن قبلهم، ولقد صدقوا في ذلك.
وبالجملة: فهذا الحديث قد خالف أهواءهم، من وجوه متعددة:
الأول: أنهم لا يعرفونه، مع كونهم يظنون أنهم من العلماء.
الثاني: أنه خالف عادات نشؤوا عليها؛ ومخالفة العادات شديد.
الثالث: أنه مخالف لعلمهم الذي بأيديهم، وقد أشربوا حبه كما أشرب بنو إسرائيل حب العجل.
الرابع: أن هذا الدين يريد أن يحول بينهم وبين مآكلهم الباطلة المحرمة الملعونة، إلى غير ذلك من الأمور التي يبتلي الله بها العباد.
فلما ظهر هذا الأمر، اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما(9/35)
ص -537- ... أمكنهم، وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم. فلما غلظ الأمر وبهرهم نور النبوة، ولم يجيء على عاداتهم الفاسدة، تفرقوا فيه كما تفرق إخوانهم الأولون: فبعض قال: هذا مذهب ابن تيمية، كما لمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة، وبعضهم قال: كتب باطلة، كقوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [سورة الفرقان آية: 5]، وبعضهم قال: هؤلاء يريدون الرياسة، كما قال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 78]، وتارة يرمون المؤمنين بالمعاصي، كما قالوا لنوح، فأجابهم: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 112]، وتارة يرمون بالسفاهة ونقص العقل، كما قالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13]، فأجابهم تعالى بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13]، وتارة يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم، وبأفعالهم التي خالفت العادات، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [سورة المطففين آية: 29]، وتارة يكذبون عليهم الأكاذيب العظيمة، كقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4]، وتارة يذمون دين الإسلام، بما يوجد من بعض المنتسبين إليه، من رثاثة الفهم والمسكنة، كما قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27]، وتارة تقطع قلوبهم من الحسرة والغيظ، إذا رأوا الله قد خفض بهذا الدين(9/36)
ص -538- ... أقواماً، ورفع به آخرين، كقولهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53]، إلى غير ذلك من الأمور التي يطول شرحها.
وبالجملة: فمن شرح الله صدره للإسلام، ورزقه نوراً يمشي به في الناس، بينت له هذه الأمور التي وقعت في وقتنا هذا، كثيراً من معاني القرآن، وتبين له شيء من حكمة الله في ترداد هذا في كتابه، لشدة الحاجة إليه; فيقال لهؤلاء المردة، آكلي أموال الناس بالباطل، ومذهبي أديانهم مع أموالهم، ما قال عمر بن عبد العزيز: "رويداً يا ابن بنانة! فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لأتفرغن لك ولأهل بيتك، حتى أدعهم على المحجة البيضاء؛ فطالما تركتم الحق، وأوضعتم في الباطل".
وأما المسألة، والجواب عنها، فنقول: قد علم بالكتاب والسنة، والإجماع، والفطر والعقول: تحريم الرشوة وقبحها، والرشوة: هو ما يأخذه الرجل على إبطال حق، أو إعطاء باطل، وهذه يسلمها لك منازعك، وهي أيضاً: ما يأخذ على إيصال الحق إلى مستحقه، بمعنى: أن الحاكم لا يوصل الحق إلى مستحقه، بل يسكت ولا يدخل فيه حتى يعطيه رشوة، فهذه حرام منهي عنها بالإجماع، ملعون من أخذها؛ فمن ادعى حلها فقد خالف الإجماع.
وقوله: بأي شريعة حكمت بتحريم هذا؟ فنقول:(9/37)
ص -539- ... حكمت بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك علماء أمته، وأحل ذلك المرتشون الملعونون. ومن أنواع الرشوة: الهدايا التي تدفع إلى الحاكم بسبب الحكم، ولو لم يكن لصاحبها غرض حاضر، لا أعلم أحداً من العلماء أرخص في مثل هذا. ومن العجب: إذا كان في كتابهم الذي يحكمون به، يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه، ومجلسه وكلامه والدخول عليه، فأين هذا من أكل عشرة حمران على أحد الخصمين؟! فإن لم يعطه أخذ بدلها من صاحبه وحكم له. سبحان الله! أي شريعة أحلت هذا؟! وأي عقل أجازه؟! ما أجهل من يجادل في مثل هذا، وأقل حياءه، وأقوى وجهه!!
وأما أدلته التي استدل بها، فلا تنس قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7]؛ ولما جادل النصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألوهية عيسى، احتجوا عليه بشيء من القرآن، وكذلك الخوارج يستدلون على باطلهم بمتشابه القرآن، وكذلك الذين ضربوا الإمام أحمد، يستدلون عليه بشيء من متشابه القرآن، وما أنزل الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية [سورة آل عمران آية: 7]، إلا لما يعلم من حاجة عباده إليها.
فأما استدلال هذا الجاهل الظالم، بقوله: "أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 1، فجوابه من وجوه:
الأول: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5737).(9/38)
ص -540- ... المؤمنين إذا فسروا شيئاً من القرآن، بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلام المفسرين ليس لهم فيه إلا النقل، اشتد إنكارك عليهم، وتقول: القرآن لا يحل لكم تفسيره، ولا يعرفه إلا المجتهدون، وتارة تفتري الكذب الظاهر، وتقول: إن ابن عباس إذا أراد أن يفسر، خرج إلى البرية خوفاً من العذاب، وأمثال هذه الأباطيل والخرافات، ومرادهم بذلك: سد الباب، لا يُفتح للناس طريق إلى هذا الخير، فكيف يكون نقلنا لكلام المفسرين منكراً، وتفسيرك كتاب الله وتحريفك الكلم عن مواضعه حسناً؟! هذا من أعجب العجب.
الوجه الثاني: أن هذا لو كان على ما أولته عليه، فهو في الأخذ على كتاب الله، وأنت متبرئ من معرفة كتاب الله، والحكم به، شاهد على نفسك بذلك.
الوجه الثالث: أن هذا لو كان فيما ذهبت إليه، لكان هذا مخصوصاً بتحريم الرشوة التي أجمع العلماء على تحريمها.
الوجه الرابع: أن حمل الحديث على هذا، من أبين الفرية الظاهرة، والكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن معنى ذلك: في الإنسان الذي يداوي المريض بالقرآن، فيأخذ على الطب والدواء، لا على الحكم وإيصال الحق إلى مستحقه، ويدل عليه اللفظ الآخر: "كُل. من أكل برقية باطل، وقد أكلت برقية حق"، والقضية شاهد بذلك.(9/39)
ص -541- ... يوضحه الوجه الخامس الوجه الخامس: وهو أن يقال: هذا الجاهل المركب، من استدل قبلك بهذا الحديث، على أن الحاكم إذا أراد أن يوصل الحق إلى مستحقه، يجوز له أن يشترط لنفسه شرطاً، فإن حصل له وإلا لم يفعل، فإن كان وجده في كتاب، فليبين لنا مأخذه، وما أظنه بأهل العلم من الأولين والآخرين، الذين أجمعوا على أن ذلك لا يجوز، أيظن أن إجماعهم باطل؟ وأنهم لم يفهموا كلام نبيهم حتى فهمه هو؟! وأما استدلاله: بأن الناس فرضوا لأبي بكر لما ولي عليهم كل يوم درهمين، فهذا من أعجب جهله، ومثل هذا مثل من يدعي حل الزنى الذي لا شبهة فيه، ويستدل على ذلك بأن الصحابة يطؤون زوجاتهم، وهذا الاستدلال مثله سواء بسواء، وذلك، أن استدلاله بقصة أبي بكر يدل على شدة جهله بحال السلف الصالح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي العمال من بيت المال، وكان الخلفاء الراشدون يأكلون من بيت المال، ويفرضون لعمالهم، ولا أعلم عاملاً في زمن الخلفاء الراشدين إلا يأكل من ذلك، بل الزكاة التي هي للفقراء، جعل الله فيها نصيباً للعمال الأغنياء.
ولكن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي واشتغل بالخلافة عن الحرفة، وضع رأس ماله في بيت المال، واحترف للمسلمين فيه، فأكل بسبب الخلافة، وبسبب وضع ماله في(9/40)
ص -542- ... بيت المال، وبسبب الحرفة؛ فأين هذا من أكل الرشوة التي حرمها الله ورسوله؟ وأين هذا من الحاكم الذي إذا وقعت الخصومة، فأكثرهم برطيلا هو الذي يغلب صاحبه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فإن قالوا: لما عدم بيت المال أكلنا من هذا، قلنا: هذا مثل من يقول: أنا أزني لأني عزب لا زوجة لي، فهو هذا من غير مجازفة. وقولهم: نفعل كذا لأجل مصلحة الناس، فنقول: ما على الناس أضر من إبليس ومنكم، أذهبتم دنياهم وآخرتهم، والناس يشهدون عليكم بذلك. هؤلاء أهل شقراء، شرطوا لابن إسماعيل كل سنة ثلاثة وثلاثين أحمر، ويسكت عن الناس ويريحهم من أذاه، ولا يحكم بين اثنين ولا يفتي، فلم يفعل واختار حرفته الأولى.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: نهى تبارك وتعالى عن أمور:
الأول: افتراء الكذب على الله.
الثاني: القول عليه بلا علم.
الثالث: المحاجة والمجادلة بغير علم، بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [سورة آل عمران آية: 66]، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [سورة الحج آية: 3].
الرابع: قولك ما ليس لك به علم مطلقاً، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36].(9/41)
ص -543- ... ومن النوع الرابع: نهيه عن تزكية الرجل وتبرئته بلا علم، أو رمي البريء، كما في قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} الآيات [سورة النساء آية: 105].
وأما ما يتعلق بخبر غيرك فأمور:
الأول: أنك مأمور بتصديق الصدق؛ وهذا أصل الإيمان، وأدلته كثيرة.
الثاني: أنك مأمور بتكذيب الكذب، كما في الكفر بالطاغوت وفي قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النور آية: 12]. ومن ذلك إذا اشتمل الخبر على صدق وكذب، فصَدِّق الصدق وكَذَّب الكذب، كما في قول أهل الكتاب في المسيح، وغير ذلك.
الثالث: أنك مأمور بالتثبت في خبر الفاسق، لا تصدقه ولا تكذبه حتى يتبين لك أمره، وكذلك خبر من ألقى السلام وهو في أرض الحرب، وما يحتاج إلى التثبت فيه، فلا تصدقه ولا تكذبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما حدثكم به أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" 1؛ وهذا هو الرابع. ومن ذلك أنك منهي عن تصديق المنكر المتهم، كما في قصة بني أبيرق.
أما الكذب فهو أنواع:
الأول: الكذب المتعارف.
الثاني: كلام من يظن أنه صادق لكنه ليس بمعذور، كما في قوله: "كذب"، وفي قتل عامر: "كذب من قال ذلك".
الثالث: في المعاريض إذا أتت على غير الرخصة.
الرابع: إذا كان الخبر مأموراً بكتمانه، كقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: العلم (3644), وأحمد (4/136).(9/42)
ص -544- ... الْكَاذِبُونَ} [سورة النور آية: 13].
وأما قاعدة الحكم، فذكر فيها أربع قواعد:
الأولى: من قوي جانبه بالأصل واليد، قوي باليمين.
الثانية: إذا قوي جانب صاحبه بشاهد واحد، قوي باليمين.
الثالثة: في مسألة النكول: إذا قوي جانب المدعَى بالنكول، أوردت عليه اليمين، إذا ساغ ردها فلم يحلف، قوي جانب المدعَى عليه.
الرابعة: إذا قوي جانب المدعي باللوث والأيمان، أو جانب القاذف بالأيمان واللعنة، أو قوي جانبها بالأيمان واللعنة، فلم يحكم عليه بأنه قاذف، ولا يحكم عليها بأنها زانية.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله؟ وهل هو محسن؟
فأجاب: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما؛ وبهذا قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: لا يلزم حكمه إلا بتراضيهما; ولنا ما روى أبو شريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال: ما أحسن هذا! من أكبر ولدك؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح" 1، أخرجه النسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: آداب القضاة (5387), وأبو داود: الأدب (4955).(9/43)
ص -545- ... وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما، فهو ملعون"، ولولا أن حكمه يلزمهما لم يلحقه هذا الذم، ولأن "عمر وعلياً تحاكما إلى زيد بن ثابت"، "وتحاكم عمر وأعرابي إلى شريح، قبل أن يولى القضاء"، "وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم". انتهى من شرح المقنع.
وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح واللعان، في ظاهر كلامه، وهو المذهب. وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَوَد وحَدّ، وقَذْف ولعان ونكاح; وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطإ على عاقلة من رضي بحكمه؛ وما قاله في الإنصاف أولى، وهو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده. قال في التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقاً; قال في حاشيته: أي: سواء وجد حاكم أم لا. انتهى. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض.
وقال في الاختيارات: إذا حكم أحد الخصمين خصمه جاز، لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكما مفتياً في مسألة اجتهادية؛ وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين، أو حضورهما؟ أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه: أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة، مطابقة(9/44)
ص -546- ... لقضيتهما فقد لزم؛ فإن أراد أحدهما الامتناع، فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع، لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع، فلا يحصل المقصود. انتهى. فقد ظهر مما قلناه لزوم ما حكم به. وأما اشتراط الأهلية، فكتب الأصحاب طافحة بها، لصحة حكمه ولزومه. وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق؛ وأما النص فيه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قوله في الإنصاف، بعد مسألة التحكيم: وكذا يجوز أن يتولى متقدمو الأسواق والمساجد، الوساطات والصلح عند الفورة والمخاصمة؟
فأجاب: الذي يظهر أن المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد: الذين يفوض إليهم ولي الأمر النظر على أهل الأسواق، بإلزامهم بالشرع، وإنصاف بعضهم من بعض، ونحو ذلك، وكذلك الذين يجعل لهم النظر على المساجد، بصيانتها وإصلاحها، والاحتساب على المصلين بها، والمؤذنين ونحو ذلك. فمن فوض إليه شيء من ذلك، جاز له - على ما ذكره ابن عقيل - تولي الوساطات; والذي يظهر أن المراد بالوساطات: التوسط بين المتنازعين; والصلح عند الفورة، لعل المراد بالفورة: أنه إذا حصل تنازع بين أهل السوق أو(9/45)
ص -547- ... المسجد، يجوز لهم التوسيط، والصلح بين المتنازعين فوراً حال التنازع، لأجل كف الشر في الحال.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: قال ابن القيم، رحمه الله: وقوله: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" 1، البينة في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة: اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، ولا حجة في الاصطلاح، ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص.
وقال أيضاً: لما ذكر أنه يقضي بالبينة التي تبين الحق، وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان، قال، رحمه الله: بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه، حكم بشهادته وحده؛ و"قد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد، لأبي قتادة بقتل المشرك، ودفع إليه سلبه بشهادته وحده، ولم يُحَلِّف أبا قتادة، فجعله بينة تامة" - إلى أن قال - ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه. انتهى قوله على حديثه، يعني حديث شهادة خزيمة بن ثابت وحده. فتبين مما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن البينة: ما أبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1341).(9/46)
ص -548- ... الحق، والدليل ما دل عليه، سواء كان بشهادة رجلين، أو رجل واحد مع معرفة صدقه، والله أعلم.
[ صفة يمين الوارث ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عما إذا ادعى رجل على وارث بدين، ولا بينة، فما صفة يمين الوارث؟
فأجاب: إذا لم يكن مع المدعي بينة، وأراد أن يستحلفه الوارث، فإنه يحلف على نفي العلم; قال في المغني: والأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم لا غير. وصفة يمين المنكر: يحلف على البت والقطع، لأن الأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير.
وإذا تداعى اثنان ولا بينة معهما، وصارت اليمين على المنكِر، فإن حلف قضى له، وإن أبى أن يحلف فهل يقضي عليه بنكوله؟ أم ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا ترد، بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين، قضى عليه بالنكول، وهو قول أبي حنيفة. والرواية الأخرى: أن اليمين ترد على المدعي، فيقال له رد اليمين على المدعي، فإن ردها حلف المدعي، وحكم له بما ادعاه؛ اختاره أبو الخطاب، وقال: قد صوبه أحمد، وما هو ببعيد، يحلف ويستحق. واختار هذا القول ابن القيم في الطرق الحكمية، والموفق، وهو قول أهل(9/47)
ص -549- ... المدينة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال شريح والشعبي، والنخعي وابن سيرين، ومالك في المال خاصة; وقال الشافعي: بل في جميع الدعاوى.
وقال الشيخ تقي الدين: مع علم مدع وحده بالمدعى به، لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ، كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه بتركته، وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعى به، دون المدعي، مثل أن يدعي الورثة والوصي على غريم الميت، فينكر، فلا يحلف المدعي. وأما إن كان المدعي يدعي العلم، والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان، يعني: المتقدمين: هل يقضي بالنكول، أم ترد؟
[ رد اليمين على المدعي ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ترد اليمين على المدعي؟
فأجاب: وأما رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه، فبعض الفقهاء يرى ذلك، وبعضهم لا يراه، ولا يتبين لي الراجح من القولين.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: هل يؤخذ بقول من قال: ترد اليمين على المدعي، فنعم، إذا طلب ذلك المدعى عليه، كما رجحه ابن القيم في الإعلام.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمدن رحمهما الله:(9/48)
ص -550- ... ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، هل تلزمه يمين؟
فأجاب: نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمته اليمين.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: نعم يستحلف، ولا تنكح رجلاً غيره إلا بطلاقه، ولا يحسب من الطلقات الثلاث؛ فإذا طلقها فلها نكاح غيره.
[ شروط الشاهد ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ظاهر المسلم العدالة؟
فأجاب: الذي يترجح عندنا من أقوال العلماء: ظاهر المسلم العدالة، كما في حديث عمر: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرباً عليه شهادة زور، أو مجلود في حد"، فمن ادعى الجرح كلف البينة.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: ما صفة العدالة باطناً؟ وهل يعتبر اليوم في الشاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشروط؟
فأجاب: ليس مرادهم باطناً معرفة ما في القلوب، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله، لكن متى طالت صحبة الإنسان، أو كثرت معاملته، عرف من أحواله ما يستدل به على حسن باطنه، فهذا معنى العدالة في الباطن; ولهذا قالوا في التزكية: خبرة المزكي للشاهد خبرة باطنة، بصحبة ومعاملة(9/49)
ص -551- ... ونحوهما. قال في الشرح: ويحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه: أن الحاكم إذا علم أن المعدِّل لا خبرة له، لم يقبل شهادته بالتعديل، كما فعل عمر رضي الله عنه، ويحتمل أنهم أرادوا: أنه لا يجوز للمعدل الشهادة بالعدالة، إلا أن تكون له خبرة باطنة. فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل، فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى. قال الزركشي: لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة، ومعرفة بالجرح والتعديل، غير متهم بعصبية ولا غيرها; وقال: معنى الخبرة الباطنة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: "جيئا بمن يعرفكما. فأتيا برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ قال: نعم; فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جاراً لهما، تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال: يا ابن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما". وأما اعتبار الصفات المذكورة في كتب الفقهاء في الشاهد، فلا يمكن اعتبارها في هذه الأزمنة، إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين الناس.
قال أبو العباس، رحمه الله: العدل في كل زمان ومكان(9/50)
ص -552- ... وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلاً على وجه آخر؛ وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائماً بأداء الواجبات، وترك المحرمات كما كان الصحابة، لتعطلت الشهادات كلها، أو غالبها.
وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر، أو بالمتهم، فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة، مثل الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل; وله أصول، منها: شهادة أهل الذمة في الوصي في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. انتهى.
ويشهد لكلام شيخ الإسلام: ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته؛ وقد قال الشيخ: الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة. فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل، وتنفيذ الحكم; والأمانة ترجع إلى خشية الله; قال: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان. ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وقال: على هذا يدل كلام أحمد وغيره: فيولى لعدمٍ أنفع(9/51)
ص -553- ... الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد; قال في الفروع: وهو كما قال، وإلا تعطلت الأحكام، واختل النظام. انتهى.
قال القرافي: ونص ابن أبي زيد: على أنا إذا لم نجد في جهة العدل، أقمنا أمثلهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره، لئلا تضيع المصالح; قال القرافي: وما أظن أحداً يخالفه في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان.
[ متى ترد شهادة الشاهد ]
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: متى ترد شهادة الشاهد؟ هل ترد بجرحه قبل تحمل الشهادة وقبل أدائها؟ أو ترد شهادته بعد التحمل وقبل الأداء؟
فأجاب: إنه متى وجد الجرح، سواء كان قبل التحمل أو بعده، إذا كان قبل الأداء ردت به شهادة الشاهد، إلا أن يجرح بجرح سابق قد تاب منه قبل تحمل الشهادة، فإنه لا يضره والحالة هذه، لأن التوبة ماحية لما قبلها.
وسئل: هل تقدم شهادة الجرح على شهود التعديل؟ أو بالعكس؟
فأجاب: قال في المقنع: وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، فالجرح أولى; قال في الإنصاف: هذا بلا نزاع. انتهى. ومراده في المذهب، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل، فوجب تقديمه، لأن التعديل يتضمن ترك الذنوب(9/52)
ص -554- ... والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدم على النفي؛ قاله في المغني، لكن قال في حاشية الإقناع: وإن قال الذي عدله: ما جرحاه به قد تاب منه، قدم التعديل، لأن بينته ناقلة، وكذا إذا عصى في بلد وانتقل عنه، فجرحه اثنان في بلده، وزكاه اثنان في البلد الذي انتقل إليه، قدم التزكية. انتهى. فاعلم ذلك.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يحل عرض أحد من المسلمين؟
فأجاب: الغيبة محرمة بالإجماع، وهي: ذكرك أخاك بما يكرهه إذا كان حاضراً، ويباح منها ستة أسباب:
الأول: الظلم، فيجوز للمظلوم أن يقول لمن قدر على إنصافه: فلان ظلمني، وفعل بي كذا وكذا، ونحو ذلك.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يفعل كذا، فازجره عما يعمل.
الثالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو فلان، بكذا ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، فمنها: جرح المجروحين من الرواة والشهود; ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرة أو معاملة ونحو ذلك، فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه، على وجه النصيحة; ومنها: إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة، فعليك(9/53)
ص -555- ... أن تبين للمشتري، وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه بيانه.
الخامس: أن يكون مجاهراً بالفسق أو ببدعة، كالمجاهر بشرب الخمر، وخيانة الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون بسبب آخر.
السادس: التعريف، فإذا كان إنسان معروفاً بلقب، كالأعرج والأعمى ونحوهما، جائز تعريفه بذلك بنية التعريف لا النقص.
فهذه الستة ذكرها العلماء مما يباح بها الغيبة، ودلائلها مشهورة في الأحاديث.
وسئل بعضهم: هل يجوز اغتياب الرجل إذا كان ظاهر عليه أنواع الفسق، كلبس الحرير والتلفظ بما لا يحل، أم لا؟
فأجاب: أجمع العلماء على تحريم الغيبة، لقول الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [سورة الحجرات آية: 12]، وفي الصحيحين في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" 1، وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا; قال بعض الرواة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1741), ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679), وأحمد (5/37, 5/49), والدارمي: المناسك (1916).(9/54)
ص -556- ... تعني قصيرة. قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" 1، أي: غيرته ريحاً أو طعماً، لشدة نتنها.
وفي صحيح مسلم والسنن لأبي داود، والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" 2؛ وهذا هو حد الغيبة، وهو عام.
قال النووي: ولا يستثنى من ذلك، إلا ما دعا إليه غرض صحيح شرعي، لا يتوصل إليه إلا بذلك، وذلك ستة أسباب:
الأول: التظلم عند الحاكم أو السلطان، بأن يقول: فلان ظلمني، أو أخذ مالي ونحوه.
الثاني: الاستعانة بقادر على تغيير منكر، كقوله: فلان يفعل كذا فانهه، ونحوه. قلت: الأولى إبدال لفظ الاستعانة، بالإخبار أو نحوه تأدباً.
الثالث: الاستفتاء، كقول: فعل بي أبي، أو ابني، أو أخي، فهل ذلك له؟
الرابع: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو أخذ الأموال ظلماً; قلت: أو بالركون إلى الكفار، أو لبس الحرير، ونحو ذلك، فيجوز ذكر ما فيه، كأن تقول: يشرب الخمر، يلبس الحرير، يوالي الكفار; وإنما يجوز مثل ذلك حميّة لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2502), وأبو داود: الأدب (4875), وأحمد (6/189).
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2589), والترمذي: البر والصلة (1934), وأبو داود: الأدب (4874), وأحمد (2/230, 2/384, 2/386, 2/458), والدارمي: الرقاق (2714).(9/55)
ص -557- ... قال ابن القيم، رحمه الله، في فوائد غزوة تبوك: ومنها: جواز الطعن على الرجل، بما يغلب على اجتهاد الطاعن، حميّة أو ذباً عن الله ورسوله؛ ومن هذا: طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة، في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم. انتهى. فظهر الجواب عن الإيراد، فإن ظهور أنواع الفسق على الرجل أمر دون ما تقدم ذكره، فإذا جاز الطعن على هؤلاء فذاك أولى.
السبب الخامس: التعريف، إذا كان لإنسان لقب لا يعرف إلا به، كالأعمى والأعرج، فيجوز ذكره تعريفاً، وأما تنقصه فحرام اتفاقاً.
السادس: تحذير المسلمين ونصيحتهم، كالذي في كتب الجرح والتعديل، فذلك واجب، وكما إذا استشارك مسلم في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، فإنه يجب أن تذكر ما يحصل به المقصود؛ فإن كفى التعريض لم يجز التصريح، وإلا جاز منه ما يحصل به الغرض؛ وكذا إذا رأيت متعلماً يتردد إلى مبتدع، وخفت عليه الضرر، فعليك نصيحته؛ وكذلك إذا كان لإنسان ولاية، لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً، أو يكون فاسقاً، أو مغفلاً، فيجب ذكر ذلك لمن له ولاية عامة، ليزيله. انتهى كلام النووي، بتلخيص وتصرف.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن حديث رواه(9/56)
ص -558- ... البيهقي: "ليس في أهل البدع غيبة"، هل يؤخذ منه جواز غيبة أهل البدع على الإطلاق؟ وما جنس البدع التي تبيح العرض؟ وحديث: "من ألقى جلباب الحياء"... إلخ؟
فأجاب: وأما الأثر المروي عن الحسن، رحمه الله، قوله: "ليس لأهل البدع غيبة"، فمعناه صحيح؛ نص العلماء على جواز غيبة أهل البدع، وأطلقوا، فيتناول كل مبتدع; وبعضهم: خص ذلك بالداعي إلى البدعة.
قال الشيخ تقي الدين، بعدما انجر كلامه في الغيبة، قال: لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين؛ فالأول: كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني، وأخذ مالي، ومنعني حقي - إلى أن قال - وكذلك بيان أهل العلم من غلط في أمر رآه في أمر الدين، من المسائل العلمية والعملية؛ فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعته، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. انتهى. فدل كلامه على جواز ذلك في جميع أهل البدع، بل استحبابه بالشرط الذي ذكره، وأن ذلك واجب في حق الداعية إلى بدعته.
وذكر النووي في رياض الصالحين، ستة أبواب تباح(9/57)
ص -559- ... فيها الغيبة، ذكرها عن العلماء، قال: ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة - إلى أن قال - الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه وبدعته... إلى آخر كلامه.
واستدل لذلك بأحاديث، منها: حديث عائشة، رضي الله عنها: "أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة" 1، قال: واحتج به البخاري في جواز غيبة أهل الريب والفساد، وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث، بعد كلام سبق: كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره، فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك، قاصداً نصيحته. والإمام أحمد، رحمه الله - مع ورعه - قد تكلم في أناس بأعيانهم، وحذر منهم، ومنهم من ليس معروفاً بالبدعة، مثل كلامه في الحارث المحاسبي، وقال: لا يغرنك لينه وخشوعه، فإنه رجل سوء، لا يعرفه إلا من خبره; وكلامه، رحمه الله، في أهل البدع والتحذير منهم كثير. وأما ما روي: "من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له"، فالمراد به: المجاهر بالمعصية، فإنه يجوز ذكره بما يجاهر به، كما تقدم من كلام النووي، ونقله ذلك عن العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6054), ومسلم: البر والصلة والآداب (2591), والترمذي: البر والصلة (1996), وأبو داود: الأدب (4791, 4792), وأحمد (6/38, 6/79, 6/158, 6/173).(9/58)
ص -560- ... قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: وأما اليمين مع بينة كاملة... إلخ؟
فنقول: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم؛ ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" 1، قال النووي: حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين. وأصله في الصحيحين: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه" 2، وفيهما: عن ابن عمر، رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه" 3.
وقد استدل العلماء بقوله: "اليمين على المدعى عليه" 4 على أن المدعي لا يمين عليه، وإنما عليه البينة، وهو قول الأكثرين; قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: روي عن علي رضي الله عنه "أنه حلّف المدعي مع بينته: إن شهوده شهدوا بحق"، وفعله أيضاً شريح، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وابن أبي ليلى، وسوار العنبري، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عن النخعي أيضاً.
وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا، وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال أحمد: قد فعله علي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552), ومسلم: الأقضية (1711), والنسائي: آداب القضاة (5425), وابن ماجة: الأحكام (2321), وأحمد (1/363).
2 البخاري: تفسير القرآن (4552), ومسلم: الأقضية (1711), والنسائي: آداب القضاة (5425), وابن ماجة: الأحكام (2321), وأحمد (1/363).
3 البخاري: الرهن (2514), ومسلم: الأقضية (1711), والترمذي: الأحكام (1342), وأبو داود: الأقضية (3619).
4 البخاري: الرهن (2514), ومسلم: الأقضية (1711), والترمذي: الأحكام (1342), وأبو داود: الأقضية (3619).(9/59)
ص -561- ... فقال: أيستقيم هذا؟! فقال: بل فعله علي; فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد، لكنه حملها على الدعوى على الغائب والصبي، وهذا لا يصح، لأن علياً إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: اليمين لتقوية الدعوى، إذا ضعفت باسترابة الشهود، وكاليمين مع الشاهد الواحد.
وكان بعض المتقدمين: يحلف الشهود إذا استرابهم أيضاً، ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاء. وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع: "إنها تستحلف"، وأخذ به الإمام. وقد دل القرآن على استحلاف الشهود، عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السفر، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} الآية [سورة المائدة آية: 106]. انتهى.
إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجه: أن البينة الكاملة العادلة، التي لا يستريب الحاكم في شهادتها، لا يحلف المدعي معها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" 1، فدل على الاكتفاء بالشاهدين. وأما إذا استراب الحاكم الشهود وخصوصاً في هذه الأزمان، فهنا يتوجه القول بتحليف المدعي، كما فعله علي رضي الله عنه وغيره، ويتوجه أيضاً: تحليف الشهود مع الريبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الرهن (2516).(9/60)
ص -562- ... وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن امرأة ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً، وشهد معها أبوها، والزوج مُنكِر؟
فأجاب: قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وفي حديث عمرو بن شعيب، إذا شهد الشاهد الواحد، وحلف الزوج أنه لم يطلقن لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضى عليه؛ وقد احتج الأئمة الأربعة، والفقهاء قاطبة، بصحيفة عمرو بن شعيب، ففي هذا الحديث: أنه يقضى بشاهد وما يقوم مقام الشاهد من النكول، ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهداً واحداً، وحلف الزوج أنه لم يطلق، فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد، وترجح جانبه بكون الأصل معه.
وأما إذا نكل الزوج، فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر، ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء، لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلاً ظاهراً جداً على صدق المرأة، فلم يقض بالنكول وحده ولا يمين المرأة، وإنما قضى بالشاهد المقوى بالنكول ويمين المرأة. انتهى ملخصاً. فأنت احكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمد بن سلطان: أن والدي الشيخ، رحمه الله، يقول: هذا الذي نفتي به إذا وقعت المسألة.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: إذا أقامت(9/61)
ص -563- ... المرأة أن زوجها الغائب طلقها ثلاثاً، أو أن فلاناً الغائب زوج لها... إلخ؟
فأجاب: فهمنا من كلامهم فيما إذا شهدت بينة شرعية، بأن فلاناً طلق زوجته فلانة ثلاثاً، أو شهدت به، بسبب يفسخ به النكاح لتحريمها عليه، أن الحاكم يسمع تلك الشهادة، ويحكم بها مطلقاً، ولا يشترط لسماع البينة والحكم بها تقدم دعوى من الزوجة أو وليها، لأن شهادة الشهود به دعوى؛ وكذا حكم حقوق الله تعالى، تسمع الشهادة بها من غير تقدم دعوى، وكذا العتق؛ قال القاضي في التعليق: في حقوق الله شهادة الشهود بها دعوى، قيل لأحمد في بينة الزنى تحتاج إلى مدع؟ فذكر خبر أبي بكرة، وقال: لم يكن مدع.
ونص أحمد أيضاً: على قبول بينة العتق ولو أنكر العبد، وذكره في الوجيز والتبصرة، واقتصر عليه في الفروع; وقال في الإقناع: وتقبل بينة عتق، ولو أنكره - أي: العتق - عبد، قال في شرحه: لأنه حق لله، وكذا بينة بطلاق، قال: وتصح الشهادة به وبحق الله، كالعبادات والحدود والصدقة والكفارة، من غير تقدم دعوى بذلك، فشهادة الشهود به دعوى؛ وقال: وتقبل شهادة المدعي فيه، أي: في حق الله تعالى، لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً، وهكذا عبارة من اطلعنا على كلامه(9/62)
ص -564- ... من الأصحاب.
وصرحوا: بأنه إذا شهدت البينة شهادة صحيحة بحق الله تعالى، أو حق لآدمي غير معين، واتضح الحكم، حكم بها، وإن لم يسأله أحد الحكم؛ والطلاق متضمن الحقين، فَلِتَضَمُّنه حق الله، جاز سماع البينة به من غير تقدم دعوى، بل ومع إنكار الزوجة وقوع الطلاق، كما صرح به شارح الإقناع، ولتضمنه حق الآدمي، جاز الحكم به على الغائب، بعد ثبوت البينة الشرعية. وذكر الأصحاب في القضاء سماع الحاكم البينة، والحكم بها في حقوق الآدميين، ولم يستثنوا منها شيئاً، كما استثنوا في اليمين في الدعاوى; وقال في باب طريق الحكم وصفته: تصح الشهادة، ويحكم بها في حق الله تعالى من غير تقدم دعوى، وذكروا من ذلك الطلاق.
وأما إذا ادعت المرأة على رجل نكاحاً، لطلب نفقة أو مهر، وأقامت بينة بذلك، سُمِعت بينتها، وحُكم بها، وثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها، كالمهر والنفقة وغيرها؛ قاله الأصحاب وأطلقوا، فيكون ذلك من حقوق الآدميين التي يحكم بها على الغائب، فدل كلامهم على جواز الحكم بذلك، وإن كان المحكوم عليه غائباً، لأن هذا من حقوق الآدميين. وأما رجوع الشاهد بعد الحكم، فالأمر فيه ظاهر، وهو: أن الحكم لا ينقض برجوعه عند جميع(9/63)
ص -565- ... العلماء. وفيه من التفصيل: وإن بان فسق الشهود نقض الحكم على المشهور في المذهب، وعن أحمد رواية أخرى: لا ينقض.
وأما الحاكم، فإنه يرفع الخلاف حكمه، ولا ينقض من حكمه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع، وكذلك لو بانت البينة من فروع المشهود له وأصوله، والحاكم لا يرى الحكم بشهادتهم، فإنه ينقض حكمه بنفسه; وذكر بعض متأخري الأصحاب: أنه ينقض حكم المقلد بما يخالف مذهب إمامه. وقال بعضهم: ينقض إذا حكم بمرجوح في مذهبه. وقال بعضهم: لا ينقض ما لم يخالف نصاً أو إجماعاً، أو قياساً جلياً.
ومن أثناء جواب لأبي العباس، قال بعد كلام سبق: لأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد ومجتهد، فهو يعتقد صحة صلاته، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه. انتهى.
وسئل عن قولهم: فعل الحاكم حكم، كتزويجه يتيمة؟
فأجاب: الحاكم إذا فعل ذلك صار حكماً منه يرفع الخلاف، ولأن حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله، نحو ما إذا زوج صغيرة بنت(9/64)
ص -566- ... تسع بإذنها، صار حكماً منه بصحة هذا النكاح، فلا يجوز لمن لا يرى جواز تزويج الصغيرة فسخ هذا النكاح، ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها؛ فلا ينقض من حكم الحاكم إلا ما خالف نص الكتاب أو نص سنة، أو إجماعاً قطعياً، أو إذا حكم خلاف ما يعتقده.
وسئل الشيخ أيضاً: إذا ادعى شخص عند الحاكم بأنه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم، فشهد به شاهدان؟
فأجاب: المذهب أنه يقبل شهادتهما، ما لم يتيقن صواب نفسه، وهذا مذهب مالك; ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يقبل شهادتهما، ولا يرجع إلى قولهما، حتى يذكر أنه حكم به; وظاهر كلام الأصحاب: أنه لا بد من شاهدين، فلا يكفي الشاهد ويمين المدعي للحكم، وقد احتجوا لما ذكروه، بقصة ذي اليدين؛ واقتصارهم على الشاهدين دليل على أنه لا يكتفى بغيرهما، ولم يذكر في الفروع، ولا في الإنصاف خلافاً، فدل على اعتبار الشاهدين، لا سيما والخلاف في عدم قبول الشاهدين مشهور، والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشاهدين وعدمه، ولم يذكروا الشاهد واليمين، فدل على أنه لا خلاف في عدم قبول الشاهد مع اليمين.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل ادعى على رجل دعاوى ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي(9/65)
ص -567- ... على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة؟ أم تكون هذه البينة إلى مدة؟
فأجاب: لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز مثل هذا الحبس; وإنما تنازعوا: هل يطلب من المدعى عليه كفيل إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة؟ وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية ولها شروط، مثل أن يقيم بينة ولم يزكها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما; فأما هذا الحبس، فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن العمل بالخط في إثبات الوقف؟ وهل ينزع العقار ونحوه ممن هو في يده بخط قاض معروف، ويحكم به بمجرد الخط؟
فأجاب: الذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة. ومن المعلوم: أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب، أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي، وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين: جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط، لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا(9/66)
ص -568- ... هو مقتضى قول أكثر المتقدمين.
وأما ما اعتمده كثير من المتأخرين، من العمل بالخط، فمقتضى قولهم: جواز العمل بذلك والاعتماد عليه، بشرط تحقق الحاكم أنه خط القاضي المعروف خطه وثقته، فلا يجوز الاعتماد على خط لا يتيقنه، ولا يعرف ثقة كاتبه.
باب القسمة
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الضرر المانع من القسمة؟
فأجاب: وأما الضرر المانع من القسمة، فهو إذا نقص قيمته مفرداً فهو يمنع; والنخل الذي بين الشركاء، أحد يشتهي القسمة، وأحد ما يشتهي: فإذا كان على بعضهم مضرة لم يقسم، وأما قسم المال جزافاً، فأرجو أنه لا بأس به، كما في ثمرة النخل.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: قال العلماء: القسمة نوعان: قسمة تراض، وهي: ما فيها ضرر، أو رد عوض من أحدهما، كالدور الصغار والحمام، والبيوت المتلاصقة التي لا يمكن قسمة كل عين مفردة، والأرض التي في بعضها بئر وبناء ونحوه لا يمكن قسمته بالأجزاء، والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة، جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وقد رضوا بقسمته؛ وهذه جارية مجرى البيع(9/67)
ص -569- ... لا يجبر عليها الممتنع، ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع، لما روى مالك في الموطإ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار" 1.
قال المجد: الذي تحرر عندي فيما فيه رد، أنه بيع فيما يقابل الرد، أي: العوض الذي رد من أحدهما على الآخر، وإفراز في الباقي. انتهى. ويؤيده قول القاضي في التعليق، وصاحب المبهج، والموفق في الكافي: البيع ما فيه رد عوض; وإن لم يكن فيها رد عوض، فهي إفراز النصيبين، وتمييز الحقين، وليست بيعاً. فعلى القول أنها إفراز، يصح قسم وقف بلا رد، وقسمة ما بعضه وقف بلا رد، من رب الطلق، ولحم، ورطب بمثله، وقسمة ثمر يخرص خرصاً، وما يكال وزناً، وما يوزن كيلاً؛ قال في الترغيب: في الأصح، وتفرقهما قبل القرض فيها، ولا يحنث من حلف: لا يبيع. وعلى القول بأنها بيع، تنعكس الأحكام المتقدمة كلها. قالوا: ولا شفعة مطلقاً، أي على كلا القولين، لجهالة ثمن، ويفسخ بعيب.
وأما المواريث التي تقاسموها في الجاهلية على خلاف الشرع، ثم بعد هذا أسلموا، فلا يطالبون برد القسمة بعد الإسلام إلا برضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الأحكام (2340), وأحمد (5/326).(9/68)
ص -570- ... وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: قسمة الإجبار، هي التي لا ضرر على أحد من الشركاء، ويمكن تعديل السهام من غير رد عوض؛ فإذا كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1. فإن كان فيها رد عوض، فهي بمعنى البيع، فلا يجبر الممتنع عليها، بل برضاه.
وأجاب الشيخ علي بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: وتسأل عن قسمة الإجبار، ومحل الإشكال عليك: أن أهل المذهب أطلقوها على أشياء، من غير شرط ضرر، قال في المحرر: فأما ما لا ضرر فيه، ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان، والدار الكبيرة والأرض، والدكاكين الواسعة - إلى أن قال - فإذا طلب الشريك قسمته، أجبر الآخر عليها. انتهى. فأطلق على البستان، ولم يشترط ضرر البستان، والنخل قد يكثر ويقل، وتكثر سهامه وتقل، فأشكل عليك إطلاقهم نفي الضرر عن البستان قليله وكثيره، فالمسألة كما ذكروا؛ لكن الغالب أن الضرر ورد العوض يقل فيما ذكروا، لسعة المكان، فتمكن قسمته بلا ضرر ولا رد عوض، والصغير بالعكس؛ فمتى وجدنا الضرر أو رد العوض، كَبُر المكان أو صَغُر، كثر الشجر أو قل، كثرت السهام أو قلت، فهي قسمة تراض؛ وهذا هو المفتى به عند مشايخنا، وهو صريح عبارات الأصحاب في القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الأحكام (2340), وأحمد (5/326).(9/69)
ص -571- ... [ أنواع القسمة ]
قال في الشرح الكبير: والقسمة نوعان: قسمة تراض، وقسمة إجبار; فأما قسمة التراضي، فهي: ما فيها ضرر على أحد الشركاء، أو رد عوض من أحدهم، كالدور الصغار التي لا يمكن قسمها، فلا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع؛ وهل تلزم بالقرعة إذا قسمها حاكم، أو رضوا فيه بقاسم؟ وجهان: أحدهما: يلزم القسم، والثاني: لا يلزم إلا بالتراضي.
واختلفوا في الضرر، فقال بعضهم: الضرر المانع: نقص القيمة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وعنه: الضرر ما لا يمكن أحدهما الانتفاع بنصيبه مفرداً، فيما كان ينتفع به مع الشركة. والأول: ظاهر كلام الشافعي، لأن النقص ضرر وهو منفي شرعاً.
الثاني: قسمة الإجبار، وهي: ما لا ضرر فيه ولا رد عوض، وهذه القسمة إفراز حق لا بيع. انتهى كلام الشارح.
والذي أوصى لإنسان في بيته بدار، وتضرر أهل البيت بسكنى الموصَى له، فالوصية صحيحة، وليس لأهل البيت منع الموصَى له من السكنى في الموصَى به. وإن تضرروا فلهم طلب القسمة، فإن كانت قسمة إجبار أفرز له حقه، وإن كانت قسمة تراض لم يقسم إلا برضاهم؛ لكن إن(9/70)
ص -572- ... تضرروا فللحاكم بيعه، وقسم الثمن على قدر الملك، إن لم يرضوا بالقسمة ولا بسكناه معهم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قسم مسيل مشترك، هل هو على قدر الحصص؟ أم على عدد النخل وسعة الأرض؟
فأجاب: إنه على حسب سهام الميراث.
وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا طلب أحد الشركاء قسمة نصيبه من السيل؟
فأجاب: إن كان كل منهم قد علم نصيبه بالأجزاء، ويمكن قسمته من أعلى الوادي على أنصبائهم، فلهم القسمة إن لم يكن جعل العليا مقراة لجميع السيل، مشروطاً فيما تقدم.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل تصح قسمة الثمار خرصاً؟
فأجاب: الذي عليه الجمهور: أن ذلك لا يصح، حكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء؛ والذي يقوي عندي صحة ذلك، لقصة خيبر، ولا محذور في ذلك، لأن القسمة ليست بيعاً، كما نبه على ذلك ابن القيم في فوائد قصة خيبر.
وأما قولك: فإن جعل أحدهما أكثر من الآخر،(9/71)
ص -573- ... لجودة الثمر، هل يصح؟ فالذي يظهر لي: أنه لا يصح، وذلك لأنه لا بد في القسمة من تعديل السهام، فإذا جعل طيب الثمرة سهماً، ورديئها سهماً، صار ذلك متفاضلاً يقيناً؛ والذي في الحديث إنما هو جواز القسمة خرصاً، ولا علمت أحداً أجاز المفاضلة في قسمة الثمار.
وسئل أيضاً: إذا كان شريكان في نخل أو زرع، وبدا صلاح الثمرة، واشترى أحدهما نصيب الآخر، بكيل يشترطه من الثمرة بعينها، والبائع عليه مؤنة الكد حتى يتم العمل؟
فأجاب: هذه مسألة مشكلة، من حيث إن كلام الفقهاء فيها يخالف ظاهر السنة؛ قال ابن عبد البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، وعلله، وجعل أخذ الثمرة بكيل معلوم من المزابنة المنهي عنها؛ ولكن ظاهر السنة جوازها، فإنه قد ثبت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة، يخرص على أهل خيبر، فإذا خرصها خيرهم، وقال: إن شئتم فخذوها بخرصها، وإن شئتم فهي لنا" 1. وقد روي: أنه خرص عليهم أربعين ألف وسق، فأخذوا الثمر وضمنوا للمسلمين عشرين. قال ابن القيم، في فوائد قصة خيبر: ومنها جواز قسمة الثمار خرصاً، وإن القسمة ليست بيعاً. انتهى بمعناه.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أما خرص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3413), وأحمد (6/163).(9/72)
ص -574- ... النخل وإعطاؤه للشريك، ليأخذ مثله وقت الجذاذ، فالظاهر: أن هذا لا يجوز، لأنه من صور بيع الجنس بجنسه، وشرط الجواز التماثل والتقابض؛ والذي يجوز في ذلك أن يقسما على رؤوس النخل خرصاً، فيأخذ كل واحد منها مثل ما أخذه شريكه، فيختص كل واحد بما أخذ بالقسمة، فلا يكون في ذمة أحدهما للآخر شيء.
وسئل الشيخ سعد بن عتيق: ما يجري بين الفلاح والمالك عند حلول الثمرة، من خرص نخلة أو نخلات بوزان معلومة يأخذه الآخر بعد الجذاذ؟
فأجاب: الظاهر: عدم الصحة.(9/73)
ص -575- ... باب الدعاوى والبينات
قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، رحمهما الله: جرى بين رجلين خصومة، في عقد بيع نخل متقدم، ودخل عليه عقد ثان، وقام بعض الناس على بعض، يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها، وحضروا عند آل الشيخ، واتفق رأيهم: أن ما أفتى به الشيخ، رحمه الله، وغيره من قضاة المسلمين، واستغله الذي هو في يده مدة، والمدعي موجود ولا أنكر، وادعى، فلا له طريق إلا أن تبين مقالة فيها نص صحيح، أو إجماع أهل العلم، أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين، فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة أن هذه الفتيا مخالفة الشرع، فإن نقضها واحد ما صح نقضه، فإن تَقَوّى أمير أو مأمور على مسلم، وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد، فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى.
ويذكر لنا بعض الناس، الذين حضروا الشيخ، رحمه الله: أنه إذا عرض عليه حفيظة، بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية 1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله, سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية.(9/74)
ص -576- ... أمضاها، ولا ينكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر، واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين، وصاحب الدعوى حاضر، ولا ادعى في هذه المدة، سد عليه الباب.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن أخوين بينهما شركة في أرض، تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا.
فأجاب: الذي نفهم أن هذا على الأصل، يلزم مدعي الشراء بينة، فإن لم يجد بينة حلف المنكِرُ أنه لم يبعها عليه، وأنها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض; وأما كونها في يد أحدهما، ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين، فمثل هذا ما يصير بينة، ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة، لكونه يدعى أنه اشتراها، والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه، لا حق للآخر فيها، بل هو مقر بملك أخيه فيها، لكنه يدعي بالشراء؛ وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك؟
فأجاب: الذي استقر عليه فتوى شيخنا، شيخ(9/75)
ص -577- ... الإسلام، إمام الدعوة الإسلامية: أن العقار ونحوه، إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك، من نحو ثلاث سنين فأكثر، ليس فيه منازع في تلك المدة، أن القول قوله أنه ملكه، إلا أن تقوم بينة عادلة، تشهد بسبب وضع اليد، أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل: فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر؛ فقدَّم شيخنا، رحمه الله، الظاهر هنا على الأصل، لقوته وعدم المعارض.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله: عن بستان ادعاه اثنان، أصله لجدهما من قبل الأم، وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما؟
فأجاب: قد أفاد ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الطرق، ما يؤخذ منه حكم هذه القضية، فقال: وأما المرتبة الثالثة: فمثالها أن يكون رجل حائزاً لدار يتصرف فيها السنين الطويلة، بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً، ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان، أو ما أشبه ذلك، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، أو شركة في ميراث ونحوه، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك، فدعواه غير مسموعة أصلاً. انتهى.(9/76)
ص -578- ... فمفاد هذا الكلام: أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة، أو شركة في ميراث ونحو ذلك، أن الدعوى تسمع، ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده، لأجل القرابة وغيبة الشريك، فتقسم على الميراث الذي هو الأصل، والله أعلم.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك، وأحضر وثيقة، وكان بيد آخر ورثه عن أبيه، والوثيقة من مدة خمس سنين؟
فأجاب: اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر، قُدِّم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان، قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك، ولم يدَّعه صاحب الأصل في هذه المدة، ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما؛ فالذي أرى في هذه المسألة: إذا كان الملك بيد أب من هو في يده، أو ولده مع وجود أبي المدعي، يتصرف فيه، ولم يدعه الأب، فدعوى ابنه اليوم ساقطة; وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة، وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة، ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها، وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا ادعى إنسان عقاراً فقال المدعَى عليه: ورِثْته من أبي، ولم(9/77)
ص -579- ... أعلم لك فيه حقاً، هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئاً أنه يملكه الآن، وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات، هل تسمع أو لا؟
فأجاب: لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة، فعلى المدعى عليه اليمين على حسب جوابه، فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا، وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه، ونحو ذلك. فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئاً، أو أنك لا تستحق شيئاً فيما ادعيته، صار جواباً صحيحاً، ولا يكلف سواه.
والحال الثاني: أن يدعي على من هو في يده، بأن أباك غصبني هذا، أو أنه وديعة عنده، ونحو ذلك، فيمين المدعَى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب: بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة: ما علمت أنك أودعته إياه، ونحو ذلك. وفي سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: "ألك بينة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيأ الكندي لليمين، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم" 1، ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره، بخلاف فعل نفسه، فوجب أن لا يكلف اليمين على البَتّ. وأما إذا ادعى أن هذه العين له الآن، وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3244).(9/78)
ص -580- ... أنها كانت في يده أمس، لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى؛ قال في الإنصاف: في أصح الوجهين، حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه، بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد، فإنها تقبل. اهـ.
وأما إذا شهدت البينة: أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة، كفى ذلك، وسلمت إلى المدعي، ولو لم تقل وهي في ملكه الآن. وأما إذا ادعى: أن هذه العين كانت ملكاً لأبيه أو أمه أو أخيه، ومات وهي في ملكه، فصارت لي بالميراث، فإن شهدت البينة بأن هذه العين كانت ملكاً لأبيه، ومات وهي في ملكه، سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكاً لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنه خلفها تركة، لم تسمع هذه البينة. وفي الفروع والإنصاف عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار، فادعى آخر بثبوت عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم لورثته، ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه: لا ينتزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضاً، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة؛ ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق.
وسئل: إذا دخل على رجل مدينان، ودفعا إليه دراهم، فأخرج أحدهما عشرة، وقال: هذه التي لك(9/79)
ص -581- ... قبلي، خذها لتحسبها، فقال: ضعها، وقال الآخر كذلك، وأمره أن يضعها على دراهمه الأولى، أو إلى جانبها، فأخذهما صاحب الحق جميعاً، وحسبهما، فوجد نقصاناً لا يدري من أيهما؟
فأجاب: له على كل منهما اليمين: أنه دفع إليه حقه تاماً، وليس له إلا ذلك، لأنه فرط في خلطهما، فلم تكن الدعوى على إنسان بعينه، بل عليهما جميعاً، وهي لا تسمع إلا على معين.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إذا تداعيا عيناً، والكل معه بينة؟
فأجاب: إذا تداعيا عيناً، والكل معه بينة، قدمت بينة الداخل، لقول أهل المدينة.
سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا ادعى خصمان عيناً، أحدهما يدعي أنها سرقت من ثلاث سنين، والآخر أنه اشتراها منذ سبع سنين، وأقام كل منهما بينة؟
فأجاب: الذي ذكر كثير من العلماء: أنه يعمل ببينة الذي يدعي أنها له منذ سبع، لا سيما إذا كانت في يده؛ قال في الإنصاف: وإن كان لكل واحد منهما بينة، قدم أسبقهما تاريخاً، مثل أن تشهد إحداهما أنها له منذ سنة، وتشهد الأخرى أنها للآخر منذ سنتين، فيقدم أسبقهما(9/80)
ص -582- ... تاريخاً؛ وهذه رواية عن أحمد، نصرها القاضي وأصحابه، وقال: هذا قياس المذهب.
[ معنى تعارض البينتين ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر: ما معنى تعارض البينتين؟
فأجاب: معنى تعارض البينتين: تساويهما من كل وجه، فإذا أقام المدعي بينة، وأقام المدعى عليه بينة، وتساوتا، فقد تعارضتا، فإذا تعارضتا سقطتا، وكانا كمن لا بينة لهما.
وسئل: ما معنى قولهم: بينة الداخل والخارج؟
فأجاب: بينة الخارج بينة المدعي، وبينة الداخل بينة المدعى عليه.
وسئل: هل يعتبر في البينات كثرة العدالة، أم لا؟
فأجاب: قال في المغني: ولا ترجح أحد البينتين بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة؛ وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ويتخرج أن ترجح، وهو قول مالك، لأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به. وإذا كثر العدد، أو قويت العدالة، كان الظن أقوى; ولنا: أن الشهادة مقدرة في الشرع، فلا تختلف بالزيادة كالدية، فصار الحكم معلقاً بها دون اعتبار الظن، ألا ترى أنه لو شذ النساء منفردات لا تقبل شهادتهن، وإن كثرن حتى صار(9/81)
ص -583- ... الظن بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؛ وعلى هذا، لا يرجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال، لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال، فإذا اجتمعتا تعارضتا.
فأما إن كان لأحدهما شاهدان، وللآخر شاهد، فبذل يمينه معه، ففيه وجهان:
أحدهما: يتعارضان.
والثاني: يقدم الشاهدان، لأنهما حجة متفق عليها، والشاهد واليمين مختلف فيها؛ وهذا الوجه أصح إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه، رحمه الله.(9/82)
ص -584- ... كتاب الشهادات
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يجوز تحمل الشهادة على التخصيص، وأداؤها بعد التحمل إن لم يعلم الشاهد إلا بعد التحمل؟
فأجاب: لا يجوز، لقوله عليه السلام: "إني لا أشهد على جور" 1، والجور لا يجوز الشهادة عليه. وأما قوله عليه السلام: "أشهد على هذا غيري" 2، فأجاب عنه بعض العلماء: بأن هذا على سبيل الزجر والردع، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 4]، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف آية: 29].
[ شهادة الأخ لأخيه ]
سئل بعضهم: عن شهادة الأخ لأخيه؟
فأجاب: هي جائزة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وروي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي، ومالك والشافعي، وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور، وأصحاب الرأي، لأنه عدل غير متهم، فصحت شهادته لأخيه كالأجنبي، ولعموم الآيات؛ ولا يصح قياس الأخ على الوالد والولد، لأنهما بينهما بعضية وقرابة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الهبات (1623), والنسائي: النحل (3681), وأحمد (4/273).
2 مسلم: الهبات (1623), وأبو داود: البيوع (3542), وابن ماجة: الأحكام (2375), وأحمد (4/270).(9/83)
ص -585- ... بخلاف الأخ.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن شهادة كل من الوالد والولد مقبولة"، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور والمزني، وداود وإسحاق وابن المنذر، لعموم الآيات، ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل فيه.
[ شهادة الوالد على ابنه ]
وسئل: عن شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه؟
فأجاب: هي مقبولة، نص على ذلك الإمام أحمد، وهو قول عامة أهل العلم، وذلك لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [سورة النساء آية: 135]، فأمر بالشهادة ولو لم تقبل لما أمر بها، ولأنها إنما ردت شهادته له في التهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه، فوجب أن تقبل كشهادة الأجنب؛، بل أولى أن يتهم له ولا يتهم عليه، فشهادته عليه أبلغ في الصدق، كشهادته على نفسه.
[ شهادة المجلود في حد القذف ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل تقبل شهادة المجلود في حد القذف إذا أكذب نفسه وأظهر التوبة؟
فأجاب: تقبل شهادته، على الصحيح من أقوال العلماء.
[ شهادة المملوك في الحدود والقصاص ]
وسئل: هل تقبل شهادة المملوك في الحدود(9/84)
ص -586- ... والقصاص والأموال؟
فأجاب: الذي عليه جمهور العلماء: أنها تقبل في الأموال؛ قال في الإنصاف: شهادة العبد لا يخلو، إما أن تكون في الحدود والقصاص، أو في غيرها؛ فإن كانت في غيرها قبلت على الصحيح من المذهب، نص عليه. انتهى.
قلت: واختار هذا القول جمع من الحنابلة وغيرهم، منهم الشيخ تقي الدين، قال في الاختيارات: ولا تشترط الحرية في الشهادة، وهذا مذهب أحمد، وظاهر كلام أبي العباس، ولو في الحدود والقصاص، وهو رواية عن أحمد. انتهى. قال بعضهم: لا أعلم أحداً رد شهادة العبد، وهذا - إن شاء الله - هو الصواب، لا سيما إذا كانت شهادته في الأموال؛ والمراد بذلك إذا كان عدلاً، قد تمت فيه شروط قبول الشهادة.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: وأما قبول شهادة المملوك، فلا مانع من قبولها، بل هو كسائر المسلمين، إذا كان مسلماً، عدلاً ظاهراً وباطناً.
[ شهادة من يأخذ الرشوة ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن شهادة من يأخذ الرشوة؟
فأجاب: وأما الذي يأكل الرشوة على الشهادة، فترد شهادته ويؤدب.(9/85)
ص -587- ... [ شهادة النساء ]
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عن شهادة النساء منفردات عن الرجال... إلخ؟
فأجاب: قال في المغني، في باب القضاء: ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة، إن لم يكن معهن رجل. انتهى. ومراده: فيما يطلع عليه غيرهن. وقال في كتاب الشهادة: وفي شهادة النساء شبهة، بدليل قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [سورة البقرة آية: 282]، وأنه لا تقبل شهادتهن ولو كثرن، ما لم يكن معهن رجل. وقال فيه: ولا نعلم خلافاً في قبول شهادة النساء في الجملة، يعني في بعض المسائل كما ذكره الشراح، وذلك فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة والثيوبة، والحيض والولادة، والرضاع والاستهلال، ونحو ذلك، لحديث عقبة بن الحارث، رواه أحمد وسعيد، قال أبو محمد: إلا أنه من رواية جابر الجعفي، قال: وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات، فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واستدل بحديث عقبة، وبما روي عن حذيفة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة"، رواه الفقهاء في كتبهم. وذكر أبو محمد في المقنع، في باب اليمين في الدعاوى، احتمال قبول امرأتين، ويمين في المال، وما يقصد به المال.(9/86)
ص -588- ... وقال الشيخ تقي الدين: لو قيل: يقبل امرأتان ويمين توجه، لأنهما أقيما مقام رجل في التحمل؛ ونصره ابن القيم في الإعلام، والطرق وغيرهما، وذكره مذهب مالك. وذكر أبو محمد وغيره: أن أبا طالب نقل عن أحمد في مسألة الأسير: يقبل رجل ويمين. واختاره أبو بكر، وعنه في الوصية: إن لم يحضره إلا النساء، فامرأة واحدة; وسأله ابن صدقة: الرجل يوصي ويعتق، ولا يحضره إلا النساء، تجوز شهادتهن؟ قال: نعم، في الحقوق; وذكره في الإنصاف ولم يقيده. والمجزوم به عند المتأخرين هو الأول، وعليه المعوَّل.
وأما قول السائل: وهل القدور، والحلي من عورات النساء، الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً؟ فهل هذه إلا المال نفسه، فتنبه لذلك.
تتمة: لا مدخل للنساء - ولو مع الرجال - في العقوبات والحدود، ذكروه اتفاقاً عن الأئمة الأربعة; ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء، قاله في المغني، وجزم به المتأخرون، وذكره في الإفصاح قول مالك والشافعي وأحمد. ومما تساوي فيه المرأة العدل الرجل: الرواية، والإخبار بهلال رمضان، والوقت، والقبلة، ونجاسة الماء، وتنبيه الإمام للسهو، إذ في مغني ذوي الأفهام: دعوا النشوز والنسب، لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالباً. انتهى. والله أعلم بالصواب.(9/87)
ص -589- ... سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله، عن كتاب عمر لأبي موسى، رضي الله عنهما: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلود في حد، أو مجرب عليه شهادة زور، أو ظنين في ولاء أو نسب"؟
فالجواب: أن الظنين هو: المتهم، قاله صاحب النهاية; ومنه: حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود في حد، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت" 1، رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده يزيد بن دريك الدمشقي الراوي، منكر الحديث.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن شهادة واحد في حد؟
فأجاب: إذا شهد شاهد واحد أن فلاناً أصاب حداً، فلا يقام عليه بشهادة واحد، بل لا بد من شهادة رجلين عدلين إلا في الزنى، فلا بد من شهادة أربعة عدول، كما هو معلوم.
وسئل: إذا شهد عدل في الطلاق هل يقبل... إلخ؟
فأجاب: لا يقبل وحده، لأن النكاح والطلاق لا يثبت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأقضية (3600) , وابن ماجة: الأحكام (2366) , وأحمد (2/204).(9/88)
ص -590- ... إلا بشاهدين; والذي نفهم ونعمل به: أن شهود الطلاق من غير الولي. وأما تحمل الشهادة فيه، فالذي فهمناه من كلام أهل العلم: أن تحمل الشهادة يجوز في المال، وما يقصد به المال، وهو الذي نعمل الآن عليه، ولا تجوز شهادة الفرع على الأصل في هذا النوع.
وأجاب الشيخ حمد بن معمر: من طلق امرأته بحضرة شاهد واحد عدل، وأنكر الزوج، فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى: أنه لا يقبل فيه إلا شاهدان عدلان. وأما من طلق امرأته، وأحضر شاهداً عدلاً، وقال العاقد: لا بد من شاهدين عدلين، هل يزوج العاقدين أو يمنعهما؟ فإن كان مراد السائل: أن المرأة المطلقة من زوجها أو وكيلها، أحضرت شاهداً عدلاً على طلاقها من زوجها، وطلبت من العاقد أن يعقد على نكاحها من زوجها الثاني، بشهادة شاهد واحد على طلاقها من زوجها الأول، فجواب هذه المسألة يؤخذ من جواب التي قبلها، لأن الذي عليه عامة العلماء المالكية، والشافعية والحنابلة، أن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين عدلين. وإن كان له مراد غير ذلك، فلم نفهمه.
وأما شهادة النساء في الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء وعليه الفتوى: أن شهادة النساء لا تقبل منفردات، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كالرضاع، وكعيوب(9/89)
ص -591- ... المرأة التي تحت الثياب، والثيوبة والبكارة، والاستهلال، وما جرى هذا المجرى.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الشهادة بالوقف؟
فأجاب: والنخلة لا تصير وقفاً إلا بشهادة رجلين عدلين.
وسئل أيضاً: العدل والمرأة، هل يقبل في الوصية والوقف؟
فأجاب: لا يقبل في الوصية والوقف إلا شاهد وامرأتان، ولو كان بعضهم من الورثة.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم: الذي أرى أن الشاهد الواحد على الوصية لا يكفي، بل لا بد من شاهدين عدلين.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن شهادة النساء فيما يتعاملن فيه؟
فأجاب: أما معاملة النساء بينهن بشهادة النساء، فيما يمكن حضور الرجال فيه، فلا تصح شهادتهن، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، ومعاملتهن مما يطلع عليه الرجال، فافهم ذلك.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الأموال لا(9/90)
ص -592- ... يقبل فيها إلا رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، سواء كان في أيدي النساء، أو أيدي الرجال؛ هذا قول جمهور العلماء. وليس هذا من عورات النساء، التي لا يطلع عليها الرجال، كما ظنه من لا علم عنده.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل أراد أن يتزوج امرأة، فادعت زوجته أنها أرضعت التي يريد أن يتزوجها؟
فأجاب: هذه لا تقبل شهادتها في مثل هذه الصورة، لأجل التهمة؛ ومذهب الحنابلة: أن شهادة المرأة الواحدة، تقبل في الرضاع، بشرط عدم التهمة.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، عند من يقول به، هل تصدق، ولو ادعت أم الطفل كذبها؟
فأجاب: الأمر كذلك، تصدق. وأما قولك: وهل تعتبر العدالة في المرضعة، إذا ادعت الرضاع؟ فالأمر كذلك، بل لا بد من العدالة في الشهادة في الرضاع وغيره، والمراد: العدالة ظاهراً; وأما الرضاع فنصوا على العدالة في المرأة إذا ادعت ذلك. قال ابن عباس: "يقبل قولها إذا كانت مرضعة وتستحلف، فإذا حلفت فارق الزوج المرأة". وقال الشيخ تقي الدين: يقبل قول المرأة في الرضاع، إذا كانت معروفة بالصدق، لحديث عقبة المخرج(9/91)
ص -593- ... في الصحيحين.
وأما قولك: إذا ماتت المرأة، وشهد على إقرارها بالرضاع امرأة، أو امرأتان، فالظاهر أن ذلك لا يعمل به، لأن الشهادة على الشهادة لها تسعة شروط: أن تكون في غير حق الله، ومنها أن يسترعي شاهد الأصل شاهد الفرع، فيقول: اشهد على شهادتي; وأيضاً فإن الشهادة على الرضاع لا تقبل إلا مفسرة، لاحتمال أن يكون الشاهد يرى في الرضاع خلاف الصواب، فلا بد من تقصير الرضاع بخمس رضعات في الحولين. انتهى.
[ الشهادة على الشهادة ]
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن شروط تحمل الشهادة عند أهل العلم؟
فأجاب: الذي ذكر في الإنصاف: أنها تقبل الشهادة على الشهادة، فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وتُرَدّ فيما يُردّ فيه، ولا تقبل إلا أن يتعذر شهود الأصل، بموت أو مرض، أو غيبة إلى مسافة القصر. وذكر أيضاً: أنه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد، إلا أن يسترعيه شاهد الأصل، فيقول: اشهد على شهادتي، أني أشهد على فلان بن فلان، وقد عرفته باسمه وعينه ونسبه، أقر عندي، وأشهدني على نفسه طوعاً بكذا، أو شهدت عليه، أو أقر عندي بكذا. وذكر ابن عقيل رواية: يجوز أن يشهد، سواء استرعاه أو لا، وقدمه في التبصرة، وهذه الرواية هي(9/92)
ص -594- ... الصواب، إن شاء الله تعالى.
[ الشهادة بالاستفاضة والشهرة ]
سئل بعضهم: عن الشهادة بالاستفاضة والشهرة؟
فأجاب: هي صحيحة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك، كالنسب والموت والملك، والنكاح والخلع، والوقف ومصرفه، والعتق والولاية والعزل، وما أشبه ذلك; قال الخرقي: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة; وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب بالاستفاضة، وكذلك الشهادة بالاستفاضة في الجرح والتعديل، فما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحاً شرعياً، قاله الشيخ تقي الدين.
قال: وقد صرح بذلك طوائف الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم في كتبهم الكبار، وصرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحاً مفيداً أنه يجرح الجارح بما سمعه منه، أو رآه أو استفاض؛ وما أعلم في هذا نزاعاً بين المسلمين، فإن المسلمين كلهم يشهدون في مثل وقتنا، في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وأمثالهما، من العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة،ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف والمختار، وعمرو بن عبيد ونحوهم من الظلم والبدعة، بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة;(9/93)
ص -595- ... قال: وهذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته، وأما إذا كاد المقصود التحذير منه واتقاء شره، فيكتفى بما دون ذلك. انتهى.
وقد اختلف أهل العلم فيما تجور الشهادة عليه بالاستفاضة، غير النسب والولادة: فقال بعضهم: هو تسعة أشياء: النكاح، والوقف، ومصرفه، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل; وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت، ولا تقبل في الملك المطلق. ونص الإمام أحمد على ثبوت الشهادة بالاستفاضة في الخلع والطلاق. والصحيح من مذهب الشافعي: جواز الشهادة بالاستفاضة في النكاح والنسب، وولاية القضاء والملك والعتق، والوقف والولاء.
واقتصر جماعة من أصحاب أحمد، منهم القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي، وابن البناء على النسب والموت، والملك المطلق، والنكاح، والوقف والعتق والولاء، قال في الفروع: ولعله الأشهر; قال في العمدة: لا يجوز ذلك في حد ولا قصاص، قال في الفروع: فظاهره الاقتصار عليهما، وهو أظهر. انتهى. قال في عمدة الأدلة: تعليل أصحابنا بأن جهات الملك تختلف، تعليل يوجد في الدين؛ فقياس قولهم يقتضي أن يثبت الدين بالاستفاضة، قال في الإنصاف: قلت وليس ببعيد.(9/94)
ص -596- ... [ ضمان شهود التزكية إذا رجعوا ]
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: مسألة: قال في حاشية المحرر: ويضمن شهود التزكية إذا رجعوا ما يضمنه من زكوهم لو رجعوا؛ وكذلك ذكره الشيخ موفق الدين بن قدامة محل وفاق، قال الشيخ تقي الدين: وإذا تبين خطأ الشهود أو كذبهم، أو خطأ المزكين أو كذبهم، فهنا الحكم باطل، لكن ينبغي أن تكون الشهادة أو التزكية سبباً للضمان، والقرار على المتلف بخلاف الرجوع، فإنه لا ضمان إلا على الراجع. انتهى.
وقال القاضي: لو شهدا عليه بالقرض، فحكم عليه بالمال، وسلمه إلى المقرض، ثم أقام المشهود عليه بعد ذلك البينة أنه كان قضاه، لم يضمن شهود القرض، لأنه لم يكن في شهادتهم إثبات المال في الحال; ولو كانوا شهدوا بأن لفلان عليه ألف درهم، فحكم الحاكم بشهادتهم، ثم أقام المقضي عليه البينة: إنه كان قضاه قبل ذلك، ضمن الشهود الذين شهدوا بالمال.(9/95)
ص -597- ... باب الإقرار
سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ: عمن قال: صدقوا فلاناً فيما ادعى به؟
فأجاب: إذا كان المقَرُّ له غير وارث، فظاهر كلام أهل المذهب: أنه يُصَدَّق فيما ادعى به، إذا كان يمكن يتصور منه التزامه، بخلاف ما لو ادعى بما لا يتصور، كدعواه عليه من عشرين سنة، وعمره عشرون سنة أو أقل، فهذا لا يصح إقراره بذلك; قلت: ومثل ذلك لو كان هذا المصدق فقيراً، كالذي يعرفه أهل بلده بالفقر، فيدعي أن له عند هذا المقِِرّ ما لا يعرف أنه قد ملكه، كمن رأس ماله الذي يعامل فيه عشرون درهماً، أو قريباً، فيدعي على هذا المقر - لما سمع قوله: صدقوه -: لي عنده مائة دينار أو مئتان، فالظاهر أنه لا يُصَدَّق، وما أمكن صِدْقُه فيه صُدِّق. انتهى.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا مات الرجل وقالك صدقوا فلاناً بما ادعى علي، يعني صاحب الدين، ثم مات، هل يصدق المدعي؟ فالأمر كذلك يصدق بدعواه، عملاً بقول الميت.(9/96)
ص -598- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أقر في صحته بدين لوارث؟
فأجاب: إذا أقر في صحته لوارث بدين في حال الصحة، وهو يتهم بالمحاباة، فالظاهر أنه يقبل إقراره، ولا يعمل بالتهمة.
وسئل: عن امرأة في صحتها قالت: إن عندها لبعض ورثتها شيئاً؟
فأجاب: إن ماتت، فهو المصدق فيما ادعى به، فإن ادعى عليها بدعوى كثيرة، فالظاهر أن هذا يدخل في الإقرار للوارث، ولا يصح خصوصاً في مثل هذا الزمان مع التهمة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا أقر المريض في المرض المخوف لوارث أو غيره.
فأجاب: قال في الشرح: ويصح إقرار المريض في المرض المخوف بغير المال، وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن أقر للوارث لا يقبل إلا ببينة. وقال عطاء والحسن وإسحاق: يقبل. وقال مالك: يصح إلا أن يتهم، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع، إلا الشعبي.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال إنسان لآخر: عندك لي عشرة دراهم، قال: نعم، لكن(9/97)
ص -599- ... قضيتك؟
فأجاب: يكون غير مقر فيقبل قوله بيمينه طبق جوابه، ويخلى سبيله إن لم يقم بينة على الأصح، لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلاً، فكان القول قوله. وعنه: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب. انتهى من شرح المنتهى ملخصاً. وقد عرفت المقدم وهو المعتمد.
سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن رجل أقر لآخر بدين مات المقر له، ولم يعلم عدده؟
فأجاب: القول في ذلك قول المقر بيمينه، لأن اليمين إنما شرعت في جانب أقوى المتداعيين، والمقر له قد قوي جانبه، فقبل قوله في العدد مع يمينه.
آخر ما أردنا جمعه مما وجدناه من الفتاوى الفقهية، فتاوى أهل هذه الدعوة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن،
وأوله: كتاب الجهاد(9/98)
الدرر السنية - المجلد الثامن
القسم الأول من كتاب الجهاد(10/1)
ص -5- ... كتاب الجهاد: الجهاد حكمه، وفضله، والحث عليه
قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبدالله بن عبد الرحمن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، ذكر لي ابن زيدان، أنك يا عبد الله غضبت على أحمد لما تكلم في بعض المنافقين، ولا يخفاك أن بعض الأمور كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور آية:15]، وذلك أني: لا أعرف شيئاً يتقرب به إلى الله أعظم من لزوم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الغربة، فإن انضاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار والمنافقين، كان ذلك تمام الإيمان.
فإذا أراد أحد من المؤمنين أن يجاهد، فأتاه بعض إخوانه، فذكر له أن أمرك للدنيا، أخاف أن يكون هذا من جنس الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات؛(10/2)
ص -6- ... فأنتم تأملوا تفسير الآية، ثم نزلوه على هذه الواقعة.
وأيضا، في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على بلال وسلمان وأجناسهما، فقالوا: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها"، فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: "يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك" 1.
ومن أفضل الجهاد: جهاد المنافقين في زمن الغربة، فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً، فلينصحه برفق وإخلاص الدين لله، وترك الرياء والقصد الفاسد، ولا يفل عزمه عن الجهاد، ولا يتكلم فيه بالظن السيئ وينسبه إلى ما لا يليق، ولا يدخل خاطرك شيء من النصيحة، فلو أدري أنه يدخل خاطرك ما ذكرته، وأنا أجد في نفسي أني أود أن أنصح كلما غلطت، والسلام.
وقال الشيخ إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: و الجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع، فإن كان ما يقدر بنفسه وجب عليه بالمال، فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: فضائل الصحابة (2504), وأحمد (5/64).(10/3)
ص -7- ... رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 91].
والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب، ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر.
وقالوا أيضاً: وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد إلى الأرض، بالوعيد الشديد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الآية [سورة التوبة آية: 38-39]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] لما يصلحكم؛ وقد فرضه الله على الناس فرض الصلاة والزكاة، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216].
فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين ووهنهم عن لقاء العدو، لأن الله تبارك وتعالى أمر بفعل السبب، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ(10/4)
ص -8- ... كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23].
وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 160]، وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} الآية [سورة الأنفال آية: 9-10].
فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توكله، نصرهم الله وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصفات آية: 171-173]، وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [سورة الفتح آية: 22-23].
وأجاب بعضهم، رحمهم الله: وأما الجهاد، فهو واجب على القادر عليه بنفسه وماله، كما أمر الله به عز وجل في كتابه بقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية:41]، وأما من لا يقدر على الجهاد بنفسه ولا بماله، فلا يجوز إلزامه بذلك، كما عذره الله تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى(10/5)
ص -9- ... الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [سورة النور آية: 61].
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا وإياهم للتجارة الفاخرة؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله تعالى جهادهم دفعاً لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة آية: 251].
ومن فضله عليكم: اجتماعكم، وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم - ولله الحمد - على ملة الإسلام، تعبدون ربكم وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؛ ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ(10/6)
ص -10- ... لَكُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 216]. وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} الآية [سورة النساء آية: 84]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} الآية [سورة الحج آية: 40].
والإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس، هو التجارة المنجية من شرور الدنيا والآخرة، الموجبة لخير الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف آية: 10] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 13]، فبشركم ربكم، فاقبلوا هذه البشارة، وامتثلوا أمره، وجاهدوا أهل الفساد، وارغبوا في ثواب الجهاد في سبيل الله؛ وفي الحديث: "غدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها" 1، ولا تفرطوا في الغدوات والروحات، فتضيع عليكم، وفي الحديث: "الجهاد باب من أبواب الخير، ينجي الله به من الهم والغم" 2، وخير المال ما أنفق فيه، وخير الأيام أيام المجاهدين.
إن المجاهد في حسنات، تكتب له في يقظته ونومه، وفي سيره ومقامه؛ فارغبوا في هذا الخير الذي رغبكم فيه ربكم، وابذلوا فيه المال والنفس. وأفضل المجاهدين من جاهد بنفسه وماله، وما عذر ربنا عن الجهاد إلا الأعمى والأعرج والمريض، كذلك الذين لا يجدون ما ينفقون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2792), ومسلم: الإمارة (1880), والترمذي: فضائل الجهاد (1651), وابن ماجة: الجهاد (2757), وأحمد (3/132).
2 أحمد (5/314).(10/7)
ص -11- ... إذا نصحوا لله ورسوله; والنصيحة لله ولدينه واجبة على المعذور وغيره، وصلى الله على محمد.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى: الحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وعمم برسالته جميع الثقلين من الإنس والجن، وأمرهم باتباعه وطاعته، وقد كانوا قبله في ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم واستقام على طريقتهم إلى يوم الدين.
من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: إلى من بلغه هذا الكتاب من أهل الجزيرة وعمان، والمنتسبين إلى الإسلام في جميع الأقطار، وفقهم الله لقبول النصائح، وجنبهم أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن الله سبحانه وبحمده، خلقنا لمعرفته وعبادته، وأمرنا بتوحيده وطاعته، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمن لنا النجاة والفلاح باتباعه وطاعته، وحرم علينا معصيته ومخالفته، ولم يكن لنا وصول(10/8)
ص -12- ... إليه إلا من جهته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 174]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 158].
وأكمل الله له الدين، وبلغ البلاغ المبين، وأشهد أمته على البلاغ، وأشهد ربه على أمته له بالبلاغ، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً". وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ذكر فيه بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، علم ذلك من علمه وجهله من جهله" 2.
والمقصود بهذا: ما قد شاع وذاع من إعراض المنتسبين إلى الإسلام - وأنهم من أمة الإجابة - عن دينهم وما خلقوا له - وقامت عليه الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية - من لزوم الإسلام ومعرفته، والبراءة من ضده،?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: المقدمة (44), وأحمد (4/126).
2 البخاري: بدء الخلق (3192).(10/9)
ص -13- ... والقيام بحقوقه، حتى آل الأمر بأكثر الخلق، إلى عدم النفرة من أهل ملل الكفر، وعدم جهادهم، وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم، واطمأنوا إليهم، وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم، وتركوا أوامر القرآن ونواهيه، وهم يدرسونه آناء الليل والنهار.
وهذا لا شك أنه من أعظم أنواع الردة، والانحياز إلى ملة غير ملة الإسلام ودخول في ملة النصرانية، عياذاً بالله من ذلك، كأنكم في أزمان الفترات، أو أناس نشؤوا في محلة لم يبلغ شيء من نور الرسالة، أنسيتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية:51]، وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81]. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [سورة البقرة آية: 120]؛ والدخول في طاعتهم، اتباع لملتهم، وانحياز عن ملة الإسلام، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا(10/10)
ص -14- ... الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58].
وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-140]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران آية: 118].
والآيات القرآنية في تحريم موالاة الكفار، والدخول في طاعتهم، أكثر من أن تحصر؛ ومن تدبر القرآن، واعتقد أنه كلام الله منزل غير مخلوق، واقتبس الهدى والنور منه، وتمسك به في أمر دينه، عرف ذلك إجمالاً وتفصيلاً، قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: "عليكم بالقرآن! فإنه نور بالليل وهدى بالنهار؛ فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة. فإن عرض بلاء، فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء،(10/11)
ص -15- ... فقدم نفسك دون دينك؛ فإن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب دينه، وإنه لا فاقة بعد الجنة ولا غناء بعد النار؛ إن النار لا يستغني فقيرها، ولا يفك أسيرها".
وهذه الطائفة الملعونة: الطائفة النصرانية، التي حلت بفنائكم، وزحمتكم عند دينكم، وطلبت منكم الدخول إلى طاعتها، هم الذين نوه الله بذكرهم في القرآن، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة المائدة آية: 73]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاًأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداًأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [سورة مريم آية: 88- 93].
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [سورة النساء آية: 171]. فهل بعد هذا غلظة وبيان وزجر(10/12)
ص -16- ... وإنذار وهل يشك بعد هذا ممن له فطرة وسمع وبصر؟ اللهم إلا من ركن إلى الدنيا وطلب إصلاحها ونسي الآخرة، فهذا لا عبرة به، لأنه أعمى القلب مطموس البصر.
وقد أمرنا الله تعالى: أن نقول لهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64]؛ ففي قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} إظهار للبراءة من دينهم، وزجر عن الدخول في طاعتهم.
لقد والله لعب الشيطان بأكثر الخلق، وغير فطرهم، وشككهم في ربهم وخالقهم، حتى ركنوا إلى أهل الكفر، ورضوا بطرائقهم عن طرائق أهل الإسلام؛ وكنا نظن قبل وقوع هذه الفتن، وترادف هذه المحن: أن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، يغارون على دينهم، ويبذلون نفوسهم وأموالهم في الحمية لدينهم؛ فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وراجعوا دينكم بمجاهدة أعدائكم من الكفار والمشركين، وقد امتحنكم الله بهم، وابتلاكم بقربهم من أوطانكم، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ?وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-3]. وقد تعبدكم وأمركم بجهادهم،(10/13)
ص -17- ... وفرضه عليكم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد آية: 31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [سورة الصف آية: 10-11] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [سورة الصف آية: 14].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [سورة التوبة آية: 111]، فأرشد من اشترى منهم نفوسهم إلى الوفاء بالتسليم، وحضهم على بيان ما لهم فيه من الربح الجزيل، والفضل العظيم.(10/14)
وخاطب المقرين بالبيع، المماطلين بالتسليم خطاباً، بل عتاباً وتوبيخاً، يقرأ أبداً في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ(10/15)
ص -18- ... أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [سورة التوبة آية: 38].
ثم حذرهم عن الإصرار على المماطلة، وتوعدهم على التسويف بعد وجوب النفير، فقال سبحانه: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 39].
فالواجب عليكم: معشر الرؤساء والقادة من أهل السواحل والبلدان، اتفاق الكلمة بلزوم دينكم، ومجاهدة عدوكم، و التشمير للجهاد عن ساق الاجتهاد، والنفير إلى ذوي العناد، وتجهيز الجيوش والسرايا، وبذل الصلات والعطايا، وإقراض الأموال لمن يضاعفها وينميها، ودفع سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، وأن تنفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً، وتقوموا بالدعوة لجهاد أعداء الله ركباناً ورجالاً، وأن تتطهروا بدماء المشركين والكفار، من أدناس الذنوب، وأنجاس الأوزار، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29]، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36].
واحذروا من قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ(10/16)
ص -19- ... وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة التوبة آية: 81-82].
ثم شدد عليهم العقوبة وقطع عنهم قبول المعذرة بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [سورة التوبة آية: 83]، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [سورة التوبة آية: 46].
فاحذروا غاية الحذر من سطوة الله، فحقيقة الدين هي المعاملة، وسبيل اليقين هي الطريقة الفاضلة، ومن حرم التوفيق فقد عظمت مصيبته، واشتدت هلكته. وأنتم تعلمون، معاشر المسلمين: أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق ديناراً كتب بسبعمائة، وفي رواية: بسبع مائة ألف دينار، وأن الشهداء حقاً عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا(10/17)
ص -20- ... يجد كرب الموت، ولا هول المحشر، وأنه لايحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد، أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجرى له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبداً لا يقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، إلى غير ذلك من فضائل الجهاد، التي ثبتت في نصوص السنة والكتاب.
فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرتب، ومساعدة القائم بها، والانضمام إليه، والانتظام في سلكه، فتربحوا بذلك تجارة الآخرة، وتسلموا على دينكم.
وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم" 1، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "من غزا غزوة في سبيل الله، فقد أدى إلى الله جميع طاعته، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. قلنا: يا رسول الله، وبعد هذا الحديث الذي سمعنا منك، من يدع الجهاد ويقعد، قال: من لعنه الله وغضب عليه وأعد له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3462), وأحمد (2/28, 2/42, 2/84).(10/18)
ص -21- ... عذاباً عظيماً: قوم يكونون في آخر الزمان، لا يرون الجهاد، وقد اتخذ ربي عنده عهداً لا يخلفه، أيما عبد لقيه وهو يرى ذلك، أن يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين".
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعام: أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول، في هذا الشهر على هذا المنبر، وهو يقول: "ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله، إلا أذلهم الله، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا عمهم الله بعقابه"، وفي الحديث: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق" 1.
فهذه نصيحة بذلناها لكم تذكرة، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55]، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10]. ومعذرة بين يدي الله عن السكوت، لأن السكوت ليس بعذر لأهل العلم، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187].
فلا تغتروا بأهل الكفر وما أعطوه من القوة والعدة، فإنكم لا تقاتلون إلا بأعمالكم، فإن أصلحتموها وصلحت، وعلم الله منكم الصدق في معاملته، وإخلاص النية له، أعانكم عليهم، وأذلهم، فإنهم عبيده ونواصيهم بيده، وهو الفعال لما يريد. {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإمارة (1910), والنسائي: الجهاد (3097), وأبو داود: الجهاد (2502).(10/19)
ص -22- ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران آية: 196-197].
فعليكم بما أوجبه الله وافترضه من جهادهم ومباينتهم، وكونوا عباد الله على ذلك إخواناً وأعواناً؛ وكل من استطاع لهم، ودخل في طاعتهم، وأظهر موالاتهم، فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن دين الإسلام، ووجب جهاده ومعاداته، ولا تنتصروا إلا بربكم، واتركوا الانتصار بأهل الكفر جملة وتفصيلاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنالا نستعين بمشرك" 1.
وهذه الدولة التي تنتسب إلى الإسلام، هم الذين أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم، استسلموا للنصرانية، واتحدت كلمتهم معهم، وصار ضررهم وشرهم على أهل الإسلام والأمة المستجيبة لنبيها والمخلصة لربها، فحسبنا الله ونعم الوكيل؛ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض الجهاد بالقلب واليد واللسان، وجعله أحد أركان الإسلام والإيمان، ووهب لمن قام به الغرف العالية في الجنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجهاد والسير (1817), والترمذي: السير (1558), وأبو داود: الجهاد (2732), وابن ماجة: الجهاد (2832), وأحمد (6/67, 6/148), والدارمي: السير (2496).(10/20)
ص -23- ... شريك له، ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من جاهد أهل الكفر والطغيان؛ اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل الله في السر والإعلان، وسلم تسليماً كثيراً.
من محمد بن عبد اللطيف: إلى كافة من يراه من إخواننا المسلمين، وفقهم الله لنصر الملة والدين، وأعانهم على جهاد من خالف ما جاء به سيد المرسلين.
أما بعد، فموجب الكتاب: هو النصيحة لكم، والوصية بتقوى الله وطاعته، وامتثال ما أوجبه عليكم في كتابه، وأوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأعظم الواجبات التي أوجبها الله ورسوله، وفرضها: عبادته بالإخلاص، وترك عبادة ما سواه، والتزام شرائعه، والجهاد في سبيل الله، ومراغمة أعدائه مع من ولاه الله أمركم وجعله إماماً لكم.
والجهاد ركن من أركان الإسلام، الذي لا استقامة للإسلام ولا قوام لشرائعه إلا به؛ وقد أمر الله في كتابه بالجهاد في سبيله، ومدح من قام به، وأثنى عليهم، وجعلهم أهل العروة الوثقى، لأن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216]،(10/21)
ص -24- ... وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 41].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111]، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-13].(10/22)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ(10/23)
ص -25- ... رَحِيمٌ} [سورة البقرة آية: 218].
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه، أكثر من أن تحصر.
وأما الأحاديث الدالة على فضله، وما رتب عليه من الثواب العظيم والأجر الجسيم، فكثيرة جداً، فمنها: ما روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" 1، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد أفضل من الحج.
ولهما عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيله" 2. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لغدوة أو روحة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها" 3، رواه البخاري ومسلم، ولهما أيضاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" 4.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها،وموضع سوط أحدكم من الجنة، خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة، خير من الدنيا وما عليها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (26), ومسلم: الإيمان (83), والترمذي: فضائل الجهاد (1658), والنسائي: مناسك الحج (2624) والجهاد (3130), وأحمد (2/264), والدارمي: الجهاد (2393).
2 البخاري: الإيمان (26), ومسلم: الإيمان (83), والترمذي: فضائل الجهاد (1658), والنسائي: مناسك الحج (2624) والجهاد (3130), وأحمد (2/264), والدارمي: الجهاد (2393).(10/24)
3 البخاري: الجهاد والسير (2794), ومسلم: الإمارة (1882), والترمذي: فضائل الجهاد (1649), والنسائي: الجهاد (3118), وابن ماجة: الجهاد (2756), وأحمد (3/433, 5/335), والدارمي: الجهاد (2398).
4 البخاري: الجهاد والسير (2786), ومسلم: الإمارة (1888), والترمذي: فضائل الجهاد (1660), والنسائي: الجهاد (3105), وأبو داود: الجهاد (2485), وابن ماجة: الفتن (3978), وأحمد (3/37).(10/25)
ص -26- ... وعن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة في سبيل الله، خير من صيامها وقيامها، وإن مات فيه - يعني في الجهاد - أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتانين" 1، رواه مسلم. وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "كل ميت يختم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينسأ له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر" 2، رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وجهاد في سبيلي وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين، ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل"، رواه مسلم. وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة. ومن جرح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإمارة (1913), والترمذي: فضائل الجهاد (1665), والنسائي: الجهاد (3167، 3168), وأحمد (5/441).
2 الترمذي: فضائل الجهاد (1621), وأبو داود: الجهاد (2500), وأحمد (6/20).(10/26)
ص -27- ... جرحاً في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك" 1، رواه أبو داود والترمذي. والفواق: ما بين الحلبتين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، وأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله، أفضل من مقامه في بيته سبعين عاماً. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة" 2، رواه الترمذي.
وعن معاذ رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه. قأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك وهو يقول: لا تستطيعونه. ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" 3، رواه البخاري.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" 4، وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: فضائل الجهاد (1657), والنسائي: الجهاد (3141), وأبو داود: الجهاد (2541), وابن ماجة: الجهاد (2792), وأحمد (5/244).
2 الترمذي: فضائل الجهاد (1650), وأحمد (2/524).
3 البخاري: التوحيد (7423), وأحمد (2/335, 2/339).
4 مسلم: الإمارة (1902), والترمذي: فضائل الجهاد (1659), وأحمد (4/396, 4/410).(10/27)
ص -28- ... عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار أبداً" 1، وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق" 3.
والأحاديث في فضل الجهاد، والترغيب فيه، كثيرة شهيرة؛ فسارعوا عباد الله إلى ما ندبكم الله إليه، ورغبكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واغتنموا حضور المشاهد، التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه؛ وإياكم والتخلف، والتكاسل والالتفات إلى من يثبط عن طرق الخير، ويعوق عن موجبات السعادة الدنيوية والأخروية!
وقد ذم الله المتخلفين عن الجهاد في سبيله، وعابهم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [سورة الفتح آية: 11]، فاعتذروا بالاشتغال بالأهل والأموال عن حضور الجهاد، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11]. وقال تعالى حاكياً عن المنافقين، بتخذيلهم وتثبيطهم للمؤمنين عن الجهاد في سبيل الله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [سورة التوبة آية: 81].
فلا يتخلف عن الجهاد إذا دعي إليه إلا منافق معلوم النفاق، فالحذر كل الحذر، من الإصغاء والالتفات إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2811), والترمذي: فضائل الجهاد (1632), والنسائي: الجهاد (3116), وأحمد (3/479).(10/28)
2 البخاري: الجهاد والسير (2850), ومسلم: الإمارة (1873), والترمذي: الجهاد (1694), والنسائي: الخيل (3575, 3576), وابن ماجة: التجارات (2305) والجهاد (2786), وأحمد (4/375, 4/376), والدارمي: الجهاد (2426).
3 مسلم: الإمارة (1910), والنسائي: الجهاد (3097), وأبو داود: الجهاد (2502).(10/29)
ص -29- ... المخذلين والمثبطين، وما يلقونه من الشكوك والريب، وإساءة الظن بأهل هذه الدعوة الإسلامية، الذين أقامهم الله في آخر هذا الزمان، أنصاراً لدين الله، وأعواناً لمن قام به؛ فالقيام معهم ونصرتهم من الواجبات الدينية، لأنهم أنصار الإسلام أولاً وآخراً، أطال الله للمسلمين بقاءهم، وخذل جميع من ناوأهم، لا سيما بترك الإسلام وركنه، وكهفه المنيع وحصنه، أعني به البطل الهمام، والشجاع المقدام، قائد جموع أهل الإسلام، الإمام عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله وأطال بقاءه.
فإذا دعاكم أيها المسلمون إلى الجهاد والنفير، فاسمعوا وأطيعوا، واحذروا أن تكونوا كالذين قالوا: سمعنا وعصينا؛ فإن القيام معه ونصرته من الواجبات الدينية، لأنا لا نعلم أحداً على وجه الأرض اليوم، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تجب طاعته، ويجب الجهاد معه، أولى منه.
وقد قال تعالى معاتباً لعباده المؤمنين، ومحذراً لهم عن التثاقل والتثبيط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 38-39]، وقال تعالى آمراً لهم بالنفير: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي(10/30)
ص -30- ... سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية: 41].
وترك الجهاد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومن الأسباب التي توجب تسليط العدو، قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195]، قال طائفة من السلف: الإلقاء باليد إلى المهلكة، هو ترك الجهاد، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم".
فالله الله، في المبادرة والمسارعة! فإن الله يحب من عباده أن يسارعوا إلى ما أمرهم به؛ وإذا استنفر الإمام الرعية، كان الجهاد فرض عين على كل من أقدره الله عليه، إلا من عذره الله في كتابه. فالإخلاد إلى الأرض، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، والشح بالنفس والمال، وترك الجهاد، هو الخسران المبين. فاسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وأجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الجهاد، وأخلصوا لله القصد والنية، وأصلحوا السريرة والطوية، تفلحوا وتفوزوا. وعليكم بالجد والاجتهاد، ومساعدة إمام المسلمين على قتال أعداء الملة والدين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(10/31)
ص -31- ... وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، أعتقه الله من النار:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق: إلى الأمير المكرم سلطان بن بجاد، وجميع إخواننا المجاهدين والمرابطين، وفقهم الله تعالى للعمل بما يرضيه، وجعلهم ممن قرأ القرآن وعمل بما فيه؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فالموجب للكتاب، هو: إبلاغكم السلام، وتذكيركم ما منّ الله به عليكم من النعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، التي أجلها وأعظمها: أن هداكم لمعرفة أصل دين الإسلام، والعمل بما يقتضيه، من الوظائف الدينية، والأعمال الشرعية، والأحكام، وبصركم بما هداكم به من نور الإيمان، والقرآن العظيم، والسنة الثابتة عن نبيكم الكريم، فعرفكم جهل الجاهلين، وضلال الضالين، وشك الشاكين.
وقد تعلمون ما كنتم عليه في السنين الخالية، من مشابهة أهل الجاهلية الأولين، في كثير من الأخلاق(10/32)
ص -32- ... والأعمال، والأخذ بكثير مما كانوا عليه من شعب الغي والضلال، فهداكم الله لسلوك الصراط المستقيم، وجنبكم طريق أصحاب الجحيم.
فحقيق بكم أن تشكروا هذه النعمة، وتوفوها حقها، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58]. قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن"، وقال أبو سعيد الخدري: "فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله"، وقال ابن عمر: "فضل الله الإسلام، ورحمته تزيينه في القلوب".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 102-105]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ(10/33)
ص -33- ... شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 231]. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة المائدة آية: 7].
ومن أعظم ما من الله به عليكم وأسداه من فضله وإحسانه إليكم: الجهاد في سبيل الله، والحراسة والرباط فيه، وإغاظة أعداء الله، وإنزال الضرر والضيق بهم؛ فيا لها من مرتبة ما أعلاها! ومواهب ما أشرفها وأسناها! وقد تضمن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الترغيب في ذلك والحث عليه، وبيان ما يترتب عليه من الأجر والثواب، ما يحرك القلوب الواعية، وينهض من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-13]، وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ(10/34)
ص -34- ... أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة التوبة آية: 19-22].
وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 120-121].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"، وقال: "تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة،?أو يرجعه سالماً مع ما نال من أجر وغنيمة" 1، وقال: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" 2، وقال: "جاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة،(10/35)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: فرض الخمس (3123) والتوحيد (7457, 7463), ومسلم: الإمارة (1876), والنسائي: الجهاد (3123), وابن ماجة: الجهاد (2753), وأحمد (2/231, 2/424, 2/494), ومالك: الجهاد (974), والدارمي: الجهاد (2391).
2 البخاري: الجهاد والسير (2792), ومسلم: الإمارة (1880), والترمذي: فضائل الجهاد (1651), وابن ماجة: الجهاد (2757), وأحمد (3/132).(10/36)
ص -35- ... ينجي الله به من الهم والغم" 1، وقال: "انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أحيا، ثم أقتل" 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"، وقال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتانين" 3، وقال: "ما من ميت يموت إلا ختم على عمله، إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، وأمن من فتنة القبر" 4، وقال: "رباط يوم خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" 5، وذكر الترمذي عنه: "من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة، صيامها وقيامها" 6، وذكر أحمد عنه: "من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تطوعاً لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم، فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم آية: 71]?" 7.
وهذا قليل من كثير، تركنا ذكره لقصد الاختصار وعدم التطويل، فانظروا رحمكم الله هذه الآيات والأحاديث، وما فيها من الثناء الجميل والثواب الجزيل، الذي وعد الله به أهل الجهاد في سبيله، والرباط والحراسة فيه، هل تدركه أعمال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/314).
2 البخاري: الإيمان (36), ومسلم: الإمارة (1876), وابن ماجة: الجهاد (2753), وأحمد (2/231), ومالك : الجهاد (1012).
3 مسلم: الإمارة (1913), والترمذي: فضائل الجهاد (1665), والنسائي: الجهاد (3167 3168), وأحمد (5/440, 5/441).
4 الترمذي: فضائل الجهاد (1621), وأبو داود: الجهاد (2500), وأحمد (6/20).(10/37)
5 الترمذي: فضائل الجهاد (1667), والنسائي: الجهاد (3169), وأحمد (1/65, 1/75), والدارمي: الجهاد (2424).
6 ابن ماجة: الجهاد (2766).
7 أحمد (3/437).(10/38)
ص -36- ... العابدين واجتهاد المجتهدين، وإن استغرقوا بالعبادة أيامهم، وأتعبوا بقيام الليل أجسادهم، ولله در القائل:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيبُ
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذبُ
لايستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهبُ
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذبُ
فعليكم عباد الله بالصبر والثبات، ولزوم المراكز والمعسكرات، وإياكم والضجر والسآمة والملل، وغير ذلك مما يؤول بصاحبه إلى الوهن والفشل؛ واحذروا التفرق والتنازع والتخالف، والانسحاب عن شيء من تلك المقامات والمواقف، فإن النصر مع الصبر، وإن الله ناصر حزبه ومظهر دينه على الدين كله. {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [سورة محمد آية: 4].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142]، وقال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 46]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ(10/39)
ص -37- ... يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 146-148].
وعليكم بلزوم الطاعة وملازمة الجماعة، وامتثال أمر من ولاه الله أمركم، وعدم الاختلاف عليه والتخلف عن طاعته، فعلى الله فاعتمدوا، وبه فثقوا، وعليه فتوكلوا، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [سورة الطلاق آية: 3].
فنسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم وجميع المسلمين صراطه المستقيم، وأن يثبتنا جميعاً على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.(10/40)
ص -38- ... وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع الجهاد لعباده المؤمنين، ونصرهم على أعدائهم من الكفار والمشركين، وأنزل إليهم في كتابه المبين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َوَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الأنفال آية: 9-10]. أمرنا بالجهاد، وجعل ثواب أهله أعلى أبواب الجنة، وأعظم للمجاهدين الأجور، وأجزل لهم المنة؛ جردوا سيوفهم لقتال الكفار، وبذلوا النفوس والأموال لينالوا منازل الأبرار، ففازوا بجنة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران آية: 133]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69].
أعلامهم في أقطار الأرض في نصرة التوحيد خافقة، وخيول عزمهم في ميدان رهان الفضائل سابقة، أخلصوا(10/41)
ص -39- ... أعمالهم لرب العالمين، ولازموا طاعته حتى أتاهم اليقين، وتحملوا مشقة الجهاد رجاء لما يوعدون. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 200].
أحمده سبحانه، إذ كشف عنا بالجهاد في سبيله كل فتنة مدلهمة; وأشكره إذ هدانا للإسلام وجعلنا من خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، ونصر من قام بها على جميع البريات؛ فإنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، ومن أجلها شرع الجهاد، وقام بأعبائه من أراد الله سعادته من صالح العباد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أقام الله به علم الجهاد، وقمع به أهل الغي والفساد، وأنزل عليه في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73]، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أيد الله بهم الإسلام، ومزق بهم من الشرك كل غيهب وقتام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الجهاد من أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس في حوز قصب سبقه المتنافسون، وقد ورد في فضله من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما يثير ساكن الغرام، ويوجب بذل المهج في طلب الزلفى من الملك العلام، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى(10/42)
ص -40- ... تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ سورة الصف آية: 10-12].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111]، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36].(10/43)
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية: 41]، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً(10/44)
ص -41- ... عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96]. والآيات في ذلك كثيرة جداً.
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحله إلا بدار القرار.
وأما الأحاديث: فقد قال صلى الله عليه وسلم: "انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل" 1، وقال: "مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيامه ولا صلاته، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله. وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه، أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً، مع ما نال من أجر أو غنيمة" 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "غدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها"3، وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (36), ومسلم: الإمارة (1876), وابن ماجة: الجهاد (2753, وأحمد (2/231), ومالك: الجهاد (1012).
2 البخاري: الجهاد والسير (2785), ومسلم: الإمارة (1878), والترمذي: فضائل الجهاد (1619), وأحمد (2/438), ومالك: الجهاد (973).
3 البخاري: الجهاد والسير (2792), ومسلم: الإمارة (1880), والترمذي: فضائل الجهاد (1651), وابن ماجة: الجهاد (2757), وأحمد (3/132).(10/45)
ص -42- ... وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه، وأدخله الجنة" 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله به من الهم والغم" 2، وقال: "أنا زعيم – والزعيم: الحميل - لمن آمن بي وأسلم، وجاهد في سبيل الله، ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة. من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء الله أن يموت" 3.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم، فواق ناقة، وجبت له الجنة" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" 5، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: "من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة. فتعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله" 6، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الجهاد (3126), وأحمد (2/117).
2 أحمد (5/314).
3 النسائي: الجهاد (3133).
4 الترمذي: فضائل الجهاد (1657), والنسائي: الجهاد (3141), وأبو داود: الجهاد (2541) , وابن ماجة: الجهاد (2792), وأحمد (5/243, 5/244).
5 البخاري: التوحيد (7423), وأحمد (2/335, 2/339).
6 مسلم: الإمارة (1884), والنسائي: الجهاد (3131).(10/46)
ص -43- ... الجنة، كل خزنة باب: يا فلان هلم! فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر: بأبي يا رسول الله، أنت وأمي، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله، فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله وعاد مريضاً، أو أماط الأذى عن طريق، فالحسنة بعشر أمثالها. والصوم جُنة ما لم يخرقها. ومن ابتلاه الله في جسده، فهو له حطة" 2. وذكر ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم. ثم تلا هذه الآية: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}" 3.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في غرامه، أو مكاتباً في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمهما الله على النار" 5، وقال: "لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1897), ومسلم: الزكاة (1027), والترمذي: المناقب (3674), والنسائي: الصيام (2238) والزكاة (2439) والجهاد (3135, 3183), وأحمد (2/268), ومالك: الجهاد (1021).
2 أحمد (1/195).
3 ابن ماجة: الجهاد (2761).
4 أحمد (3/487).
5 البخاري: الجمعة (907), والترمذي: فضائل الجهاد (1632), والنسائي: الجهاد (3116), وأحمد (3/479).(10/47)
ص -44- ... في وجه عبد"، وفي لفظ: "في قلب عبد"، وفي لفظ: "في جوف امرئ"، وفي لفظ: "في منخري مسلم". وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار، فهما حرام على النار" 1، وذكر عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم. ومن اغبرت قدماه في سبيل الله، حرم الله سائر جسده على النار. ومن صام يوماً في سبيل الله، باعد الله عنه النار مسيرة ألف سنة للراكب المستعجل. ومن جرح جراحة في سبيل الله، ختم له بخاتم الشهداء، له نور يوم القيامة، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك؛ يعرفه بها الأولون والآخرون، ويقولون: فلان عليه طابع الشهداء. ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقةن وجبت له الجنة".
وذكر ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من راح روحة في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه الغبار، مسكاً يوم القيامة" 2. وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله، إلا حرم الله عليه النار" 3، وقال: "رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها"، وقال: "رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه؛ وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان" 4، وقال: "ما من ميت يموت إلا ختم على عمله، إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، وأمن من فتنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: فضائل الجهاد (1632), وأحمد (3/479).
2 ابن ماجة: الجهاد (2775).
3 أحمد (6/85).
4 مسلم: الإمارة (1913), والترمذي: فضائل الجهاد (1665), والنسائي: الجهاد (3167، 3168), وأحمد (5/440, 5/441).(10/48)
ص -45- ... القبر" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" 2. وذكر الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "من رابط ليلة في سبيل الله، كانت له كألف ليلة، صيامها وقيامها" 3، وقال: "مقام أحدكم في سبيل الله، خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة. أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة، جاهدوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة" 4.
وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "من رابط في سواحل المسلمين ثلاثة أيام، أجزأت عنه رباط سنة". وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "حرس ليلة في سبيل الله خير له من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها" 5، وقال: "حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله، وحرمت على عين سهرت في سبيل الله" 6. وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم آية: 71]?" 7.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم، من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه، لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة، أوجبت؛ فلا عليك ألا تعمل بعدها"، وقال: "من بلغ بسهم في سبيل الله، فله درجة في الجنة" 8، وقال: "من رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدل محرر. ومن شاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: فضائل الجهاد (1621), وأبو داود: الجهاد (2500), وأحمد (6/20).
2 الترمذي: فضائل الجهاد (1667), والنسائي: الجهاد (3169, 3170), وأحمد (1/62, 1/65, 1/66, 1/75), والدارمي: الجهاد (2424).
3 ابن ماجة: الجهاد (2766).
4 الترمذي: فضائل الجهاد (1650), وأحمد (2/446).
5 أحمد (1/61).
6 النسائي: الجهاد (3117), وأحمد (4/134), والدارمي: الجهاد (2400).
7 أحمد (3/437).(10/49)
8 النسائي: الجهاد (3143), وأبو داود: العتق (3965), وأحمد (4/384).(10/50)
ص -46- ... شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة" 1. وعند الترمذي تفسير الدرجة بمائة عام، وعند النسائي تفسيرها بخمسمائة عام.
وقال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والممد به، والرامي به؛ وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا. وكل شيء يلهو به الرجل فباطل، إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته. ومن علمه الله الرمي، فتركه رغبة عنه، فنعمة كفرها"، رواه أحمد وأهل السنن، وعند ابن ماجة: "من تعلم الرمي فتركه فقد عصاني" 2.
وذكر أحمد عنه: "أن رجلاً قال له: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء. وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام. وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ذروة سنام الإسلام الجهاد" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف" 4، وقال صلى الله عليه وسلم "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق" 5. وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم: "من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة" 6.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/113).
2 مسلم: الإمارة (1919), والنسائي: الخيل (3578), وأبو داود: الجهاد (2513), وابن ماجة: الجهاد (2814), وأحمد (4/144, 4/146, 4/148), والدارمي: الجهاد (2405).
3 الترمذي: الإيمان (2616), وابن ماجة: الفتن (3973), وأحمد (5/235).
4 الترمذي: فضائل الجهاد (1655), والنسائي: الجهاد (3120) والنكاح (3218), وابن ماجة: الأحكام (2518), وأحمد (2/437).(10/51)
5 مسلم: الإمارة (1910), والنسائي: الجهاد (3097), وأبو داود: الجهاد (2502).
6 أبو داود: الجهاد (2503), وابن ماجة: الجهاد (2762), والدارمي: الجهاد (2418).(10/52)
ص -47- ... بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه حتى يراجعوا دينهم" 1. وذكر ابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله عز وجل وليس له أثر في سبيل الله، لقي الله وفيه ثلمة" 2. وقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195]، وفسر أبو أيوب الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أبواب الجنه تحت ظلال السيوف،" 3، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" 4، وصح عنه: "أن النار أول ما تسعر بالعالم، والمنفق، والمقتول في الجهاد، إذا فعلوا ذلك ليقال"، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا فلا أجر له" 5، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: "إن قاتلت صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً بعثك الله مرائياً مكاثراً. يا عبد الله بن عمرو، على أي وجه قاتلت أو قتلت، بعثك الله على تلك الحال" 6.
إذا علم ذلك، فقد من الله على المسلمين بولاية عادلة دينية، وهي ولاية إمام المسلمين عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، لا زالت رايته منصورة، وجنود الباطل بصولته مكسورة مقهورة، أقام الله به أود الشريعة، وأزال به الأفعال المنكرة الشنيعة.
وبالجملة: ففضائله كثيرة لا تحصى، وعد ما من الله به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3462), وأحمد (2/28).
2 الترمذي: فضائل الجهاد (1666), وابن ماجة: الجهاد (2763).
3 مسلم: الإمارة (1902), والترمذي: فضائل الجهاد (1659), وأحمد (4/396, 4/410).(10/53)
4 البخاري: العلم (123), ومسلم: الإمارة (1904), والترمذي: فضائل الجهاد (1646), والنسائي: الجهاد (3136), وأبو داود: الجهاد (2517), وابن ماجة: الجهاد (2783), وأحمد (4/392, 4/397, 4/401, 4/405, 4/417).
5 أبو داود: الجهاد (2516), وأحمد (2/290).
6 أبو داود: الجهاد (2519).(10/54)
ص -48- ... على يده على أهل نجد غزير لا يستقصى؛ وقد تعين على المسلمين وجوب الجهاد معه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استُنفرتم فانفروا" 1، يعني: استنفر الإمام رعيته، وجب عليهم النفير إلى الجهاد معه بأموالهم وأنفسهم، لأنه يجاهد عن حوزة الدين، وعورات المسلمين، ويحوطهم من كل من رامهم بسوء من الكفار والمعتدين.
وكونه على هذه الحالة نعمة من الله، ينبغي أن تقيد بالشكر، هذا والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن ينصر إمام المسلمين، وأن يرزقه التوفيق للزوم سلوك الصراط المستقيم، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1834), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وابن ماجة: الجهاد (2773), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355).(10/55)
ص -49- ... فصل: [ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، لكن نصحنا إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين ينكر منكراً، وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوقع الفرقة بين الإخوان، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1.
وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، ويكون صابراً على ما جاءه من الأذى في ذلك. وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل ما يدخل على صاحب الدين إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/367), ومالك: الجامع (1863).(10/56)
ص -50- ... من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.
وأيضا، يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله! العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه، فإنكم إن ما فعلتم صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة - لو صار أهل الدين واجب عليهم إنكار المنكر - فلما غلظوا الكلام صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار ذلك مضرة على الدين والدنيا.
وهذا الكلام، وإن كان قصيراً فمعناه طويل، فلازم لازم تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصراً للدين، واستقام الأمر إن شاء الله.
والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجال يقبل منهم بخفية، فإن ما فعل، فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية.
وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ثم يرسلونه لحرمه، والمجمعة، ثم للغاط، ثم للزلفى، والله أعلم.(10/57)
ص -51- ... [ معرفة المنكر والتثبت منه قبل إنكاره ]
وله أيضاً، عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى الأخوين: أحمد بن محمد، وثنيان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبد المحسن الشريف، يقول: إن أهل الأحساء يحبون على يدك، وأنك لابس عمامة خضراء، والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة؛ فأول درجات الإنكار: معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله.
وأما تقبيل اليد، فلا يجوز إنكار مثله، وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد "قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس، رضي الله عنهم، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم". وعلى كل حال، فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها. وأما لبس الأخضر، فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت، لئلا يظلمهم أحد، أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم؛ وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم، ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، ونحن ما أنكرنا إكرامهم إلا لأجل الألوهية، أو إكرام المدعي لذلك.(10/58)
ص -52- ... وقيل: إنه ذكر عنه أنه معتذر عن بعض الطواغيت، وهذه مسألة جليلة ينبغي التفطن لها، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6]، فالواجب عليهم إذا ذكر لهم عن أحد منكر: عدم العجلة؛ فإذا تحققوه، أتوا صاحبه ونصحوه، فإن تاب ورجع، وإلا أنكر عليه وتكلم فيه.
فعلى كل حال، نبهوهم على مسألتين:
الأولى: عدم العجلة، ولا يتكلمون إلا مع التحقيق، فإن التزوير كثير.
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم، ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم، والسلام.(10/59)
ص -53- ... [ عدم مراعاة غضب المنكر عليه ]
وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الله بن عيسى، وعبد الوهاب، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، ذكر لي أنكم زاعلون علي في هذه الأيام بعض الزعل، ولا يخفاكم أني زعل زعلاً كبيراً، وناقد عليكم منقوداً أكبر من الزعل، ولكن وابطناه! واظهراه! ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم، والله سبحانه وتعالى إذا أراد أمراً فلا راد له، وإلا ما خطر على البال أنكم ترضون لأنفسكم بهذا.
ثم من العجب، تكفيكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة، وتقولون: لا يتعين علينا الفتيا، ثم تبالغون في مثل هذه الأمور، مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع، وكلام الأقناع بإنكاره، ولا أود أنكم بعد ما أنزلكم الله هذه المنزلة، وأنعم عليكم بما تعلمون وما لا تعلمون، وجعلكم من أكبر أسباب قبول الناس لدين ربكم، وسنة نبيكم، وجهادكم في ذلك، وصبركم على مخالفة دين الآباء، أنكم ترتدون على أعقابكم.
وسبب هذا: أنه ذكر لي عنكم أنكم ظننتم أني أعنيكم ببعض الكلام الذي أجبت به من اعتقد حل الرشوة، وأنه(10/60)
ص -54- ... مزعلكم. فيا سبحان الله! كيف أعنيكم به وأنا كاتب لكم تسجلون عليه، وتكونون معي أنصاراً لدين الله.
وقيل لي: إنكم ناقدون علي بعض الغلظة فيه، والأمر أغلظ مما ذكرنا، ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر؛ بل والله الذي لا إله إلا هو، لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجاً.
ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر، تبين أشياء لم تخطر لكم على بال، وإن كانت من المسائل التي إذا طلبتم الدليل، بينا أنها إجماع أهل العلم. وبالحاضر، فلا يخفاكم أن معي غيظاً عظيماً ومضايقة من زعلكم، وأنتم تعلمون أن الله ألزم، والدين لا محاباة فيه، وأنتم من قديم لا تشكون في، والآن غايتكم قاربة، وداخلتكم الريبة، وأخاف أطول الكلام، فيجري فيه شيء يزعلكم، وأنا في بعض الحدة، فأنا أشير عليكم وألزم أن عبد الوهاب يزورنا يومين أو ثلاثة أو أكثر، يصير قطعاً لهذه الفتنة، ويخاطبني وأخاطبه من الرأس.
وإن كان كبر عليه الأمر، فيوصي لي وأعنى له، فإن الأمر الذي يزيل زعلكم، ويؤلف الكلمة، ويهديكم الله بسببه(10/61)
ص -55- ... نحرص عليه، ولو كان أشق من هذه، اللهم إلا أن تكونوا رأيتم شيئاً من أمر الله، فالواجب عليكم اتباعه، والواجب علينا طاعتكم والانقياد لكم، وإن أبينا كان الله معكم وخلقه.
ولا يخفاكم، أنه وصلني أمس رسالة في صفة مذاكرتكم في التذكير، ويطلبون مني جواباً عن أدلتكم، وأنتم ضحكتم على ابن فيروز، وتسافهتموه، وتساخفتم عقله في جوابه، وانحرفتم تعدلون عداله، لكن ما أنا بكاتب لهم جواباً، لأن الأمر معروف أنه منكم، وأخاف أن أكتب لهم جواباً فينشرونه، فيزعلكم، وأشوف غايتكم قاربة، وتحملون الأمر على غير محمله، والسلام.
[ تألف الناس بالقول اللين ]
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الله بن عيسى; وما ذكرت أن الحمولة زعلين من تلك الكلمة، فلا يخفى، هو لأجل كتاب قرأه سليمان، ورحت أنا وإياه لابن عقيل لنسأله عن هذا، وتقدمت إلى بيته، ولحقني هو وابن ناصر قبل أواجه أحمد، وقال ابن ناصر: إني كاتب هذه الكلمة من عندي ما درى بها، فلا تشرفوه ولا شرفناه بها، أنا ما دريت بها، لا أنا ولا ابن عقيل.
والعجب: أنهم يزعلون علي وينقدون، ويقولون إنه(10/62)
ص -56- ... يصدق الأكاذيب، وتغيره علينا، وهم نقدوا على أنفسهم، أنهم يزعلون ويتغيرون، بلا خبر صدق ولا كذب، إلا ظن سوء ظنوه؛ فإن كان كلمة قيلت عندنا يحملونها، فتراهم يلقون كلاماً كباراً فيهم وفي غيرهم في الدين والدنيا، خصوصاً في هذه القضية، يحكى عندنا كلاماً، ما يتجاسر العاقل ينطق به.
فإن كان مذكور لكم إني قائل شيئاً، أو قائل أحد بحضرتي كلام سوء ولا رددت عليه، فاذكروا لي، فالتنبيه حسن، ولا يدخل خاطري، إلا ربما أني أعرف أنه محبة وصفو والذي يكدر الخاطر: زعلكم، وإظهاركم للناس الزعل والتغير، بسبب ظن السوء، وإلا ما من قبلكم كذب ولا صدق. وأما من باب السؤالات، وأنكم بلغكم أني ظان أنها من عبد الله، فهو أعجب، كيف تظنون أني ما أعرف خط ابن صالح؟ وأيضا، أفهم أن عبد الله لا يسأل عن مثل هذا.
وأيضاً، أنا ما أنقد عليه ولا عليكم إلا قلة الحرص والسؤال عن هذا الأمر، لما فتح الله عليكم منه بعض الشيء، وأود ما يجيء جماميل إلا ومعهم من عندكم سؤالات عن هذا وأمثاله، فكيف أزعل منه؟ بل هذا هو الذي يرضيني؛ لكن هذه أنتم معذورون فيها، إذا كانت عن ابن عمر، وهو متوهم، ما كلمني في هذا الأمر لما وقع، ولا يدري عن الذي في خاطري، لكنه يسمع من أهل الجنوب(10/63)
ص -57- ... وغيرهم، وتعرف حال الكلام من بعيد، فهذا صفة الأمر.
فإن كان أنتم المخالفون المتغيرون، فالحق عليكم، فإن كان جرى مني شيء تنقده، فأحب أن تنبهني عليه، لا تترك شيئاً في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير، وجاءتكم الفتنة، وودكم ببرد الأرض، فهذا شيء آخر.
وأما قولك: إن الأمور ليست على الذي أعهد، وتشيرون علي بترك الكلام، فلا أدري إيش مرادكم، مرادك أني متكلم في أحد لا ينبغي الكلام فيه، ممن لا يظهر إلا الإيمان، ولو ظنينا فيه النفاق، فهذا الكلام مقبول؛ وإن كان بلغك عني شيء، فنبهني جزاك الله خيراً.
وإن كان مرادك أني أسكت عمن أظهر الكفر والنفاق، وسل سيف البغي على دين الله وكتابه ورسوله، مثل ولد ابن سحيم، ومن أظهر العداوة لله ورسوله، من أهل العيينة أو الدرعية أو غيرهم، فهذا لا ينبغي منك ولا يطاع أحد في معصية الله. فإن وافقتمونا على الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، فلكم الحظ الأوفر، وإلا لن تضروا الله شيئاً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة المنصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [ سورة الرعد آية: 42].
وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عندما يهواه،(10/64)
ص -58- ... فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية [سورة الحج آية: 11]. وينبغي لكم إذا عجزتم أو جبنتم، أنكم ما تلوموننا؛ ونحمد الله الذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين المحبوبين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [سورة المائدة آية: 54]. جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
[ القيام بوظيفة الأمر والنهي ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الوهاب بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، وصل كتابك، وما ذكرت فيه الظن والتجسس، وقبول خبر الفاسق، فكل هذا حق أريد به باطل. والعجب منك، إذا كنت من خمس سنين تجاهد جهاداً كبيراً في رد دين الإسلام، فإذا جاءك ابن مساعد، أو ابن راجح، أو صالح بن سليم، وأشباه هؤلاء الذين نلقنهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن عبادة المخلوقات كفر، وأن الكفر بالطاغوت فرض، قمت تجاهد وتبالغ في نقض ذلك، والاستهزاء به، وليس الذي يذكر هذا عنك عشرة، ولا عشرون ولا ثلاثون،(10/65)
ص -59- ... ولا أنت بمختف في ذلك.
ثم تظن في خاطرك أن هذا يخفى علي، وأني أصدقك إذا قلت ما قلت، ولو أن الذي جرى عشر، أو عشرون أو ثلاثون مرة، أمكن تعداد ذلك وأحسن ما ذكرت، أنك تقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23]، وتقر بالذنب، وتجاهد في إطفاء الشرك وإظهار الإسلام كما جاهدت في ضده، ويصير ما تقر به كأن لم يكن. فإن كنت تريد الرفعة في الدنيا والجاه، حصل لك بذلك ما لا يحصل بغيره من الأمور بأضعاف مضاعفة، وإن أردت به الله والدار الآخرة، فهي التجارة الرابحة، وأتتك الدنيا تبعاً.
وإن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي نداهنك في دين الله، فلو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف، فإن كنت تتهمني بشيء من أمور الدنيا فلك الشرهة، فإن كان أني أدعو لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس عندي، وأحبهم إلي، وأمرك هذا أشق علي من أمر أهل الأحساء، خصوصاً بعد ما استركبت أباك وخربته. فعسى الله أن يهدينا وإياك لدينه القيم، ويطرد عنا الشيطان، ويعيذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين.(10/66)
ص -60- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل دخل بيتاً بعد المغرب، وفيه امرأتان، وأتاه رجل من قرابات المرأتين، وجرحه جراحات، وهو في المنزل الذي في البيت، وليس معه في المنزل، بل في البيت... إلخ.
فأجاب: فعل هذا الرجل الذي سطا في الرجل المتهم الذي وجده في البيت، فعل محرم، وتعد وظلم، يجب تأديبه وتعزيره على فعله ذلك، بقدر ما يزجره وأمثاله عن مثل هذا الفعل. ويجب عليه القصاص أو الدية: القصاص فيما يمكن فيه القصاص، والدية فيما لا يمكن فيه قصاص، إلا أن يرضى بالدية في الجميع.
وأما الرجل المتهم، فأكثر ما يفعل معه الأمير، يعزره بالضرب والنفي بالاجتهاد، والزيادة على ذلك ظلم وتعد لحدود الله. وإن أنكر الساطي بعض الجروح وأقر ببعضها، فعليه إقامة البينة على دعواه، أن أحداً شاركه في ذلك، وإن لم يجد بينة، فالقول قول المجني عليه بيمينه أنها من هذا الرجل المعين، لأجل قرينة الحال أن الجميع من هذا الجاني.
ويجب على كل مؤمن: الرضى بحكم الله ورسوله، ولا يجد في نفسه حرجاً بما قضى الله ورسوله، سواء وافق عادته وهواه أو خالفهما؛ ومن كان في قلبه مرض أو نفاق انقاد(10/67)
ص -61- ... للشرع فيما وافق هواه، وخالفه فيما يخالف هواه وعادته، وذلك من خصال المنافقين، الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60]. ومن أراد غير حكم الله ورسوله، فقد أراد حكم الطاغوت. والعجب ممن يسمع كلام الكفر والنفاق في مجلسه، ولا ينكر على من قاله، بل يسكت عنه، فيكون شريكاً له في الإثم.
[ فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكيفيته ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن المنكر الذي يجب إنكاره، هل يسقط الإنكار إذا بلغ الأمير؟
فأجاب: اعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان" 1؛ وحينئذ، إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره، لم يسقط إنكاره، بل ينكره بحسب الاستطاعة؛ لكن إن خاف حصول منكر أعظم، سقط الإنكار وأنكر بقلبه. وقد نص العلماء: على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه، أنه لا ينبغي؛ وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح، وتقليل المفاسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008), وأبو داود: الصلاة (1140), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92).(10/68)
ص -62- ... وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: وأما الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة. فأما فرضه باليد واللسان، فإنه من فروض الكفايات، إذا قام به طائفة سقط عن الباقين؛ وإن تركوه كلهم أثموا. وأما القلب، فلا يسقط عنه بحال، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104].
وقال في حق من تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79]. وفي الحديث الصحيح: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008), وأبو داود: الصلاة (1140), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92).(10/69)
ص -63- ... قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم: حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى نهج وطريق، ومنحنا بمنه حسن الدعوة إليه بالتحقيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فإني أحمد إليك الله سبحانه على نعمه. والخط وصل وصلك الله بما يقربك إليه، وما أشرت إليه صار معلوماً، لا سيما الإشارة الخفية، والنكت الأدبية، التي منها: تشبيه أخيك بالطير المبرقع، وإيراد الوعظ وأنت بمكان علو أرفع، وكنت حال وصوله قد قرأته، بمرأى من أهل الأدب ومسمع. فمن قائل - عند سماعه -: هذا الرجل طبعه الغلظة والجمود، وآخر يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود.
فقلت: كلا، إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أنه يتجاسر على أحبابه،(10/70)
ص -64- ... ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرق بالزلال.
فاعلم هديت الطريق، وفزت بحظ من النظر والتحقيق: أن الله لما ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي، ولم يكن أحد من أهل الأرض عربيهم وعجميهم، قرويهم وبدويهم، يعرف الحق ويعمل به، إلا بقايا من أهل الكتاب، وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات، عن فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر من أسلم سبب وقاية، وتلك هو الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويذكر، ويعظ وينذر، مع غاية اللطف واللين.
فتارة يكني المخاطبين، وطورا يأتي نادي المتقدمين والمترئسين، وحيناً يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 1، وناهيك بخلق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان.
ولا يرد على المعنى قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [سورة التوبة آية: 73]، كما ظنه بعض المتطوعة ديدناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة ولم يجد اللين، كما هو ظاهر مستبين، كما قيل: آخر الطب الكي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477), ومسلم: الجهاد والسير (1792), وابن ماجة: الفتن (4025), وأحمد (1/380, 1/427, 1/432, 1/441, 1/453, 1/456).(10/71)
ص -65- ... وهو أيضاً مع القدرة، ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة، كما قال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام آية: 108]. وقد أخذ بعض الناس من هذا: أن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح، كما هو مقرر في علم الأصول.
ثم إن الآية: آية الغلظة، مدنية، بعد تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجهاد باليد، وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم، فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين؛ وأسعد الناس بوراثة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الخلق، أكملهم في متابعته له في هذا.
وكان الصديق أكمل الناس، ولذلك أسلم على يده وانتفع به أمم كثيرة، بخلاف غيره، فقد قيل لبعضهم: "إن منكم منفرين". والقصد من التشريع والأوامر: تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين؛ واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه، فجنايته على الشرع وعلى الناس أعظم جناية.
وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصلوا الآداب الشرعيات، فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولاً، وليزاحم ركب العلماء، قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل.(10/72)
ص -66- ... فإن الصناعة لا يعرفها إلا من يعانيها، والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها، وصحب راويها.
ما كل من طلب المعالي نافذاً ... فيها ولا كل الرجال فحولُ
هذا وقد كنت أظن أنكم تحبون من هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، وكأن العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه، غير معتبر لدى الجمهور، بل قصدهم: المناصب والظهور، قال الشيخ وحدثنا، وجلس الأستاذ وأنبأنا، هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليكم وعلى من حضر من المسلمين لديكم، وما بسطت لك الكلام، إلا محبة وإعلام، وصلى الله على محمد.
[ الآثار الدالة على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]
وله أيضاً، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: عبد الرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه، وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله، وما اختصنا به من عظيم العطاء الذي صرفه عمن شاء بعدله؛ والخط وصل. وصلك الله إلى ما يرضيه،(10/73)
ص -67- ... ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه. وأوصيك بتقوى الله، والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه، وقل فقهاؤه.
وما ذكرت: من طلب الفائدة، بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى آحاد العامة من المسلمين، فضلاً عن الطلبة والمتعلمين؛ وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية، وأوجبها وألزمها، وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها. وهو من فروض الكفاية، لا يسقط عن المكلفين، إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي.
وفرض الكفاية آكد من فرض العين من جهة متعلقه، لأن الخطاب به لجميع الأمة، وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله: التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله: الشرك، والعمل لغير الله؛ وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته.
ولا يرى تركه والمداهنة فيه، إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية:(10/74)
ص -68- ... 110]. وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ سورة آل عمران آية: 104].
فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك. وفيها: أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية.
وأما الوعيد على تركه، فمثل قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الآية [سورة المائدة آية: 78-79]. ففي هذه الآية: لعنهم على ألسن أنبيائهم، بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، واللعن هو: الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته.
وذكر بعض المفسرين هنا حديثاً: "إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله(10/75)
ص -69- ... بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم".
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: "أوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم".
وذكر أيضاً، من حديث ابن عمر: "لينقضنّ الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال: الله الله. لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. ولتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليبعثنّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم". وفي المسند مرفوعاً: "يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم" 1. وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم"، رواه الطبراني.
وذكر الإمام أحمد، رحمه الله، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/158).(10/76)
ص -70- ... أبرارها، وساد القبيلة منافقوها". والأحاديث في هذا كثيرة، تطلب من مظانها.
فصل: [ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المداهنة ]
وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين، أعظم ضرراً، وأكبر إثماً من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف، رأوا أن السلوك وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك، فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم، لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم؛ وهذا مع أنه لا سبيل إليه، فهو إيثار للحظوظ النفسانية والدعة، ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله وتحمل الأذى في ذاته.
وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان، من لم يوال في الله ويعاد فيه، فالعقل كل العقل، ما أوصل إلى رضى الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه. والغضب ينشأ من حياة القلب، وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم، وعدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، فأي خير يبقى في قلب هذا؟(10/77)
ص -71- ... وفي بعض الآثار: "أن الله أوحى إلى جبرائيل، أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب إن فيهم فلان العابد، قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر وجهه فيّ قط". وذكر ابن عبد البر: "أن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها، فوجدا فيها رجلاً قائماً يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلاناً يصلي، فقال الله عز وجل: دمراها، ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيّ قط". انتهى.
ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه، من الغضب لله، والغيرة لحرماته وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين، في الأنس بأهل المعاصي، ومواكلتهم، ومشاربتهم، لكفى بذلك عيباً، والله الموفق والهادي، لا إله غيره، والسلام.
وقال أيضا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما الفرق بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة، أنكروها ظاهراً، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس" 1. فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي المداهنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7108), وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532) وكتاب الفضائل (1337) وكتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2879), وسنن ابن ماجة: كتاب الفرائض (2746), ومسند أحمد (1/30, 2/40, 2/110, 5/348), وسنن الدارمي: كتاب السير (2518).(10/78)
ص -72- ...
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدْم ناقتهم بسيف قدارِ
وأما المداراة، فهي: درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس؛ وفي الحديث: "شركم من اتقاه الناس خشية فحشه"، وعن عائشة، رضي الله عنها: "أنه استأذن على النبي رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ألان له الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت؟ فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش" 1.
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: من حكمة الرب تعالى، أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع:
الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً، كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90]، {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146].
الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين فتنتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6054), ومسلم: البر والصلة والآداب (2591), والترمذي: البر والصلة (1996), وأبو داود: الأدب (4791, 4792), وأحمد (6/38).(10/79)
ص -73- ... دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه.
الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104]. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق، من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50]. وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22]، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 69-70].(10/80)
ص -74- ... [ ترك الأمر بالمعروف إرضاء للناس ]
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق: إلى من بلغه من المسلمين، ألزمهم الله شرائع الدين، وجنبهم طريق الكفار والمنافقين آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فالموجب للخط هو النصيحة لكم، والمعذرة من الله في إبلاغكم، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79].
وقد سمعتم فيما يتلى عليكم من حلول العقوبات، عند ظهور المنكرات، ولكن قد فتح الشيطان لكثير من الناس أبواباً من الشر، في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقاها على أناس فيهم شبهة دين، حتى اعتقدوها أعذاراً لهم، وإنما هي من زخارف الشياطين ولكن إذا تبين أن الزاني والسارق وشارب الخمر، أحسن حالاً عند الله من هؤلاء الجنس، فهذا كاف في شناعة مذهبهم(10/81)
ص -75- ... وسوء منقلبهم، فنسأل الله العفو والعافية.
ومما ينبغي أن يعلم: أن العقل على ثلاثة أنواع: عقل غريزي، وعقل إيماني مستفاد من مشكاة النبوة، وعقل نفاقي شيطاني، يظن أربابه أنهم على شيء؛ وهذا العقل هو حظ كثير من الناس بل أكثرهم، وهو عين الهلاك، وثمرة النفاق. فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم وشهواتهم، واستجلاب مودتهم، ويقولون: صلح نفسك بالدخول مع الناس، ولا تبغض نفسك عندهم؛ وهذا هو إفساد النفس، وهلاكها من أربعة أمور:
أحدها: أن فاعل ذلك قد التمس رضى الناس بسخط الله، وصار الخل في نفسه أجل من الله؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس؛ فقد جاء أن الله تعالى يقول: "إذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد". فإذا ترك القادر المعروف فلم يأمر به، والمنكر فلم ينه عنه، فقد تسبب أن الله يلعنه لعنة تبلغ السابع من ولده، ومصداق ذلك قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 78]. فقد ظهر أن هذا المداهن قد أفسد نفسه من حيث يظن أنه يصلحها.(10/82)
ص -76- ... الثاني: أن المداهن لا بد أن يفتح الله له باباً من الذل والهوان من حيث طلب العز; وقد قال بعض السلف: من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مخافة المخلوقين، نزعت منه الطاعة؛ فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه، فكما هان عليه أمر الله، أهانه الله وأذله، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة آية: 67].
الثالث: أنها إذا نزلت العقوبات، فالمداهن داخل فيها، كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25]، وفي المسند والسنن عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم إذا عمل العامل بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً إليه، فإذا كان الغد جالسه، وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم". وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: "لما أصاب داود الخطيئة، قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرتها لك، وألزمت عارها بني إسرائيل، قال: لِم يا رب؟ كيف -(10/83)
ص -77- ... وأنت الحكم العدل لا تظلم أحداً - أنا أعمل الخطيئة، وتلزم عارها غيري؟! فأوحى الله إليه: أنك لما عملت لم يعيبوا عليك بالإنكار".
وذكر ابن أبي الدنيا: "أن الله أوحى إلى يوشع بن نون، إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر ابن عبد البر وغيره: "أن الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب، إن فيهم فلاناً الزاهد العابد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته، إنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً قط". فالنجاة عند نزول العقوبات، هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية [سورة الأعراف آية: 165].
الرابع: أن المداهن، الطالب رضى الخلق، أخبث حالاً من الزاني والسارق والشارب؛ قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الدينين لا يعبؤون منها، إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات،(10/84)
ص -78- ... لا يخطرن ببالهم، فضلاً عن أن يريدوا فعلها، فضلاً عن أن يفعلوها. وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله، من ترك هذه الواجبات،وإن زهد في الدنيا جميعها. وقل أن يرى منهم من يحمر وجهه، ويتمعر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء. انتهى.
فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه ويحمر لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله منه.
وقد حدثني من لا أتهم، عن شيخ الإسلام، إمام الدعوة النجدية، أنه قال مرة: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء لحى غوانم، وأنا أقول: إنهم لحى فوائن، فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم.
ويشهد لهذا: ما جاء عن بعض السلف، أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق؛ فلو علم المداهن الساكت، أنه من أبغض الخلق عند الله،(10/85)
ص -79- ... وإن كان يرى أنه طيب، لتكلم وصدع. ولو علم طالب رضى الخلق، بترك الإنكار عليهم، أن أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله منه، وإن كان عند نفسه صاحب دين، لتاب من مداهنته ونزع. ولو تحقق من يبخل بلسانه عن الصدع بأمر الله أنه شيطان أخرس، وإن كان صائما قائماً زاهداً، لما ابتاع مشابهة الشيطان بأدنى الطمع.
اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يغضب الرحمن، ومن كل سجية تقربنا من التشبه بالشيطان، أو نداهن في ديننا أهل الشبهات والنفاق والكفران. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(10/86)
ص -80- ... [ الخروج من الهجرة ]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف: إلى جناب كافة الإخوان، من أهل الأرطاوية وغيرهم، سلمهم الله تعالى من الأسواء، ووفقهم للتمسك بالعروة الوثقى، وحماهم من الآراء المضلة والأهواء؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخط: زيادة تنبيهكم وتفهيمكم، وتحذيركم عن الشحناء والتفرق والاختلاف، لما من الله عليكم بمعرفة دينه، وهداكم له، وأنقذكم من ظلمات الجهل والهوى، والشرك والردى، ومن الجاهلية الذين من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات منهم رمي به في النار. وإن الله سبحانه وبحمده ما قطع الأخوة الإسلامية بين القاتل ظلماً، وبين المقتول، مع شدة الوعيد بقتل الظلم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [سورة البقرة آية: 178] فسماه أخاً له، ولم يقطع هذا الذنب العظيم الأخوة بينهم، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا(10/87)
ص -81- ... إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات آية: 9-10]؛ ولم يقطع سبحانه الأخوة بين المسلمين، وإن وقع بينهما القتال، وبغى إحدى الطائفتين على الأخرى.
وأنتم تهاجرتم، وتشاحنتم على ما هو دون ذلك، مما لا يوجب الهجر؛ وهذه من أعظم دسائس الشيطان على أهل الإسلام، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وأيضاً، منّ الله سبحانه وبحمده، على من منّ عليه منكم، بالهجرة والاستيطان؛ وهذه نعمة عظيمة، ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من الأعراب وغيرهم، قال في حديث بريدة: "ادعهم إلى الهجرة والجهاد، فإن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين" 1، "وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هاجر، ثم خرج من هجرته إلى البادية، فقال: ردة صغرى، ملعون من فعل ذلك، والذي يبقى على باديته ويحسن إسلامه، أحسن عند الله ممن هاجر ثم خرج من هجرته"، وبلغني: أن من أهل الأرطاوية أناساً هاجروا وبنوا، يريدون الخروج عن الهجرة إلى البادية؛ وهذه مصيبة عظيمة، لا يأمن من فعلها أن يقع في الردة الكبرى، ويكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجهاد والسير (1731), والترمذي: السير (1617), وأبو داود: الجهاد (2612), وابن ماجة: الجهاد (2858), وأحمد (5/352, 5/358).(10/88)
ص -82- ... ممن ارتد على عقبيه من بعد ما تبين له الهدى، فاحذروا ذلك، واصبروا وصابروا ورابطوا، واستقيموا على أمر ربكم، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرً.ا وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ هجران أهل المعاصي ]
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف: إلى جناب الإخوان الكرام من أهل الأرطاوية، سلمهم الله تعالى وتولاهم، وأصلح أحوالهم وعافاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ولزوم طاعته، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما عداهما، فإن من ظفر بهما فقد نجا، ومن تركهما فقد ضل وغوى.
وأوصيكم أيضاً، بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان بأمر من أمور الخير، نظر: فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين، وكان الأصلح الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شر وفتن، وتفريق كلمة، في العاجل والآجل، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به،(10/89)
ص -83- ... لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأيضاً، ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله، التوقع في الأمور والتثبت، وعدم الطيش والعجلة، والحرص على الرفق والملاطفة في الدعوة، فإن في ذلك خيراً كثيراً، وينبغي له أن يعرف من له قدم صدق ومعرفة راسخة، فيسأله ويستفتيه، ولا ينظر إلى الأشخاص، ولا من ليس له بصيرة.
وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة، والمعرفة التامة؛ وأقل الأحوال - إذا لم يحصل للعبد ذلك - أن يقتصر على نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك".
فإذا رأى الإنسان من يعمل شيئاً من المعاصي، أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير، ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً، وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه؛ بل إن كان بغضه له يزجره، ويزجر أمثاله عن هذه المعصية مثلاً، هجره وأبغضه، وإن كان لا يزجره ذلك، ولا يرتدع هو وأمثاله، راعى ما فيه الأصلح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً، ووكل سرائرهم إلى الله.(10/90)
ص -84- ... وبلزوم هذه الطريقة مع النية الصالحة، تندفع المضار، وتأتلف القلوب، ويكون على الآمر والناهي الوقار والمحبة؛ والله الموفق الهادي للصواب. فاجتهدوا فيما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، واعلموا: أنه لا ينجي عند اختلاف الناس، وكثرة الفتن، إلا البصيرة، وليس كل من انتسب إلى العلم، وتزيا بزيه، يسأل ويستفتى وتأمنونه على دينكم.
قال بعض السلف: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"، ولا تأخذوا عمن هب ودب، وحرم الفقه والبصيرة، فإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة. نسأل الله لنا ولكم العافية، في الدنيا والآخرة، والتوفيق لما يحبه ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(10/91)
ص -85- ... [ إلزام العامة والخاصة بالدين ]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، وخاتم المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المجاهدين والقرى، والبادين، الذين هم إلى الإسلام منتسبين، وعلى التوحيد معتصمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم، أن الله تعالى - وله الحمد والمنة - منّ علينا، وعلى كافة أهل نجد، بالبيعة للإمام عبد الله بن الإمام فيصل، لما توفى الله أباه، رحمه الله؛ وقد صار له همة عالية، هي أعلى الهمم، وأوجبها على الإطلاق.
وذلك للسعي في تجديد هذا الدين، الذي من الله تعالى بقبوله من الداعي إليه، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فجعل آل سعود: محمد وأبناؤه، هم(10/92)
ص -86- ... أنصاره، وخالفوا أهل نجد وغيرهم، لأن أكثرهم أجلبوا على رد ما دعاهم إليه هذا الشيخ من التوحيد، وكراهته، وعداوته.
وجعل الله هذه الحمولة، على قلتهم إذ ذاك، هم أنصاره، فما زال الأمر يزداد بالجهاد، حتى أكمله الله في نجد، وأكثر الحجاز، والشرق. فيا لها نعمة على من عرفها وقبلها، وأدى شكرها. وحصل التفاضل في العلم بالتوحيد، لكن معرفته على الحقيقة تحتاج إلى تجديد، لا سيما في هذه الأوقات التي عمت فيها الغفلة، والإعراض عن هذا الأصل العظيم، وهو دين الله الذي رضيه لعباده، وخلقهم له، وأرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو إخلاص العبادة لله وحده، دون ما سواه.
والعبادة: كل ما يحب الله تعالى من عبده أن يقصده به، فهو عبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغيره، كالدعاء، والاستعانة؛ وقد ذكر الله تعالى أنواع العبادة في كتابه، من ذلك: الدعاء الذي هو مخ العبادة، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20]، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [سورة الرعد آية: 14].
والمقصود: أن هذا الأصل العظيم، الذي هو الإسلام: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع،(10/93)
ص -87- ... يجب تجديده دائماً، تعلماً وتعليماً، ومعرفة أدلته، وما اشتملت عليه من البيان؛ فصار من هدي 1 - وفقه الله لما يحبه ويرضاه - أن ينظر لكم في رجلين من العلماء، يذكرانكم نعمة الله عليكم بهذا الدين، ويبيناه لكم، وينشرانه فيكم، ويسألان الخاصة والعامة عن الأصول والقواعد، التي لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، حتى يحصل بها بصيرة في معرفة التوحيد من ضده، وفيها معرفة حقوق التوحيد، من فرائض الإسلام.
فالواصل إليكم: علي بن عبد العزيز بن سليم، وعبد الله بن علي بن جريس، لما منّ الله به عليهما من معرفة هذا الدين، وإلزامهم العامة والخاصة ما منّ الله عليهم به من دينه الذي أعزهم الله به، وجملهم به.
فالواجب عليكم ردة الراس إلى ما ينفعكم، ويصير منكم إقبال بقلوبكم على هذا العلم الذي ما تستغنون عنه، وحاجتكم إليه أعظم من حاجتكم إلى الطعام والشراب. كذلك يقع أمور فيها إفراط وتفريط في آمر دينكم، فلا بد من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا بد للناس من آمر يأمرهم، وناه ينهاهم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل.(10/94)
ص -88- ... وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104].
ومن الناس من يتوسع في المحرمات، كلبس الحرير، يزينه الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، كذلك مواقع التهم التي يحصل بها فساد، فالغفلة عنها فساد، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.
فالإمام - وفقه الله وهداه لما يحبه ويرضاه - قادهم إليكم، خوفاً من أن تفعلوا ما يوقع في المحرمات، ويجلب العقوبات العاجلة والآجلة، فيجب على الأمير تركي، وكل رئيس في قبيلة: القيام بما فيه صلاح البلاد والعباد، ويدفع الله به كل شر ومكروه، فإن الله تعالى لا يرضيه من العباد إلا طاعته في الأمور التي نهى عنها وحذر. والنعمة عليكم عظيمة لمن رزقه الله النية إذا عرفتم هذا الدين، حصل فيه أجر عظيم وغدوة في سبيل الله، وروحة خير من الدنيا وما عليها. والمجاهد كل أحواله عمل صالح، حتى نومه ونفسه. حماني الله وإياكم عما يوجب سخطه وغضبه.
وخط الإمام عبد الله تشرفون عليه إن شاء الله تعالى.(10/95)
ص -89- ... [ جعل في كل محلة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ]
وقال الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي، رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى الأمير: مجاهد بن عبد الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، يكون عندك معلوماً: أن الله أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104]، وأوجبه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" 1.
وأنت - ولله الحمد - لك القدرة باليد واللسان، ويذكر لنا: أنه يحدث في بلدتكم بعض المنكرات، من موالاة المشركين ومحبة أعداء الدين، وعدم تنظيم أحكام الشرع، وشرب المسكرات، والتماهن عن الصلوات بالحاضر، أنا ملزمك، ومن ذمتي في ذمتك: أنك تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنظم أحكام الشرع، وتأخذ على يد السفيه، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008), وأبو داود: الصلاة (1140), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92).(10/96)
ص -90- ... وعبد المحسن وابنه، ملزمينهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما بينوا لك فيلزمك القيام به، وتجعل معهم من يعاضدهم، وتجعل في كل طرف إنساناً من أهله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويكون ناظرة عليهم. ويكون عندك معلوماً: أنه ما يتعرض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر خاص أو عام، فلا يكفينا نكاله بماله دون حاله، ويلزمكم ترفعون خبره إلينا.
وكذلك، يذكر لنا أنه ينزل في القيظ عندكم، في أطراف البلد "صلبة" يحصل منهم فساد، فأنت نبه عليهم، لا ينزلها أحد، ومن نزلها فالأدب في رأسك، والسلام.(10/97)
ص -91- ... سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم: "للعامل منهم أجر خمسين" 1... إلخ؟
فأجاب: اعلم أولاً: أن هذا الحديث المشار إليه، خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طريق عتبة بن حكيم، عن عمرو بن حارثة، عن أبي أمية الشعباني، عن أبي ثعلبة الخشني، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 105]: أما والله: لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا بد لك منه – وفي لفظ - لا يدان لك به، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن كان كمن قبض على الجمر؛ للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله. قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم" 2، وعتبة هذا، قال الحافظ المنذري، في مختصر السنن لأبي داود: هو: العباس بن أبي حكيم الهمداني الشامي، وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد؛ قلت: وقد حكم الترمذي على هذا الحديث، أنه حسن غريب.
إذا عرفت ذلك، فالمعنى الذي لأجله استحق الأجر العظيم والثواب، وساوى فضل خمسين من الصحابة، إنما هو لعدم المعاون والمساعد، على ما ذكره الحافظ أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن (3058), وابن ماجة: الفتن (4014).
2 الترمذي: تفسير القرآن (3058), وأبو داود: الملاحم (4341), وابن ماجة: الفتن (4014).(10/98)
ص -92- ... سليمان الخطابي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن رجب وغيرهما.
فالمستقيم على المنهج السوي، والطريق النبوي، عند فساد الزمان ومروج الأديان، غريب ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع، وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين، وصار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب، وانتشر شر المنافقين، وعيل صبر المتقين، وتقطعت سبل المسالك، وترادفت الضلالات والمهالك، ومنع الخلاص ولات حين مناص؛ فالموحد بينهم أعز من الكبريت الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا راع، ولا قابل لما يقول ولا داع. وقد نصبت له رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزر العيون، وأتاه الأذى من كل منافق مفتون، واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام وعراه من الانثلام والانفصام، والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره؛ ومع هذا كله، فهو على الدين الحنيفي مستقيم، وبحجج الله وبراهينه مقيم، فبالله، قل لي: هل يصدر هذا إلا عن يقين صدق راسخ في الجنان، وكمال توحيد وصبر وإيمان، ورضى(10/99)
ص -93- ... وتسليم لما قدره الرحمن؟ وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر آية: 10]. وقد قال بعض العلماء، رحمهم الله: من اتبع القرآن والسنة، وهاجر إلى الله بقلبه، واتبع آثار الصحابة، لم يسبقه الصحابة، إلا بكونهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي ذلك الزمان، فالكل له أعوان وإخوان، ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المديني، كما ذكره عنه ابن الجوزي، في كتاب صفوة الصفوة: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل، قيل: يا أبا الحسن، ولا أبا بكر الصديق؟ قال: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان له أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أصحاب. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل" 1، ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي، وعنده: "قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس" 2، ورواه غيره، وعنده: "قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن". ورواه الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "الذين يصلحون ما أفسد الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الإيمان (2629), وابن ماجة: الفتن (3988), وأحمد (1/398), والدارمي: الرقاق (2755).
2 أحمد (4/73).(10/100)
ص -94- ... من سنتي"، ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص، ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" 1، قال الأوزاعي في تفسيره: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، أو رجلان.
ورواه البخاري عن مرداس السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير، أو التمر، لا يباليهم الله باله" 2. وكان الحسن البصري يقول لأصحابه: "يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أول الناس". وقال يوسف بن عبيد: "ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها". وروى أبو القاسم الطبراني وغيره، بإسناد فيه نظر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي، له أجر شهيد".
وروى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" 3. وعن الحسن البصري: "لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعث، ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله، لئن عاش على هذه المنكرات، فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/177).
2 البخاري: الرقاق (6434), وأحمد (4/193), والدارمي: الرقاق (2719).
3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2948), والترمذي: الفتن (2201), وابن ماجة: الفتن (3985), وأحمد (5/27).(10/101)
ص -95- ... دنياه، فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السلف، ويتبع آثارهم ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم، كان له أجر عظيم".
وروى المبارك بن فضالة، أحد علماء الحديث بالبصرة، عن الحسن البصري، أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان، يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال، الذي خرج على المسلمين، وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين، ثم قال: "سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينها وبين الغالي والجافي، والمترف والجاهل؛ فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". ثم قال: "والله لو أن رجلاً أدرك هذه المنكرات، يقول هذا: هلم إلي! ويقول هذا هلم إلي! فيقول: لا أريد إلا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها ويسأل عنها، إن هذا له أجر عظيم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". وعن مورق، رحمه الله، قال: المتمسك بطاعة الله إذا جنب الناس عنها، كالكار بعد الفار. قال أبو السعادات ابن الأثير في النهاية: أي: إذا ترك الناس الطاعات ورغبوا عنها، كان المتمسك بها له ثواب كثواب الكار في الغزو، بعد أن فر الناس عنه.(10/102)
ص -96- ... فصل: [ ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]
ولنذكر طرفاً مما في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذ له تعلق بما تقدم، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165]. والآيات في هذا الباب كثيرة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان" 1. وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود قال: قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008), وأبو داود: الصلاة (1140), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92).(10/103)
ص -97- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان وزن حبة خردل من إيمان" 1.
وقد روى الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي، عمهم الله بعذاب من عنده. فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ صالحون؟ قال: بلى. قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان" 2، وروى البخاري عن زينب بنت جحش، قالت: "قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث" 3.
وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّّّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" 4. وروى الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث عمرو بن مرة عن سالم عن أبي الجعد، عن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (50), وأحمد (1/458).
2 أحمد (6/304).
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3346), ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880), والترمذي: الفتن (2187), وابن ماجة: الفتن (3953), وأحمد (6/428, 6/429).
4 الترمذي: الفتن (2169).(10/104)
ص -98- ... عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم يلعنكم كما لعنهم". وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمر، قال: "كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معاشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل بأسهم بينهم".(10/105)
ص -99- ... وروى البخاري عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار لبعضهم أعلاها، ولبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا، ونجوْا جميعاً"، قال النووي: القائم في حدود الله، معناه: المنكر لها، القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه. والأحاديث في هذا كثيرة، قد أفردنا لها رسالة، وجمعنا فيها جميع ما ورد، وتقنصنا سائر ما شرد، ولله الحمد، فلتراجع.
فضل التمسك بالدين عند وقوع الفتن
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الإخوان: عبد الله آل علي، وحمود وعلي آل عبد الله، وفقهم الله لطاعته وحفظهم بكلايته؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، موجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم؛ أصلح الله لنا ولكم الدين والدنيا والآخرة، نسأل الله(10/106)
ص -100- ... أن يحيينا وإياكم حياة طيبة، وهي الحياة في الطاعة. وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد، الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله.
فأكثر الناس اليوم، صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً؛ وهذا زمان، الصابر فيه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله. وتصدر للفتوى جهال أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور، وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا. والمنصف اليوم، أعز من الكبريت الأحمر، والحق - ولله الحمد - عليه نور، قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها" 1. والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب منه قلبه.
ونرجو أن المتمسك بدينه اليوم، يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله، لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات؛ فلم يبق، والله، من الإسلام إلا اسمه؛ وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين، ويجعلنا وإياكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: المقدمة (44), وأحمد (4/126).(10/107)
ص -101- ... وقال أيضاً: والحديث المروي: "يأتي على الناس زمان، يذوب فيه قلب المؤمن" الحديث; فهذه الأزمنة، والله، كذلك، ولكن لضعف الإيمان، ما نحس بذلك على حقيقته. وقد اشتدت، والله، غربة الإسلام، وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل، الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم، وإنكارهم له، والأمر كما قال الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58].
نسأل الله لنا ولكم الوفاة على التوحيد، الذي هو إخلاص العبادة لله وحده؛ وقول الحسن، رحمه الله، فما أحسن ذلك وأحلاه! وتوجعه وتأوهه، مما رأى في زمانه المثنى على أهله. ولا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، كما قال الصادق المصدوق؛ ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإلف العادة، ضعف استنكار المنكر وعدم، فالله المستعان.
مسألة: من سن في الإسلام سنة حسنة
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: مسألة: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها" 1 الحديث.
الجواب: أما حديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة" 2، الحديث صحيح، لكن ليس فيه حجة لأهل البدع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزكاة (1017), والنسائي: الزكاة (2554), وابن ماجة: المقدمة (203), وأحمد (4/357, 4/358), والدارمي: المقدمة (514).
2 مسلم: الزكاة (1017), والنسائي: الزكاة (2554), وابن ماجة: المقدمة (203), وأحمد (4/357, 4/358), والدارمي: المقدمة (514).(10/108)
ص -102- ... وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما حثهم على الصدقة ورغبهم فيها، جاء رجل من الأنصار بدراهم كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس خلفه في الصدقة، كل أحد بحسبه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" 1. فالمراد بالحسنة: إذا كان باب من الخير متروكاً، فعمل به إنسان وفتحه، واقتدى به غيره، كان كمن سن سنة حسنة، كحال الأنصاري الذي بادر بصرة الدراهم، فتتابع الناس بعده بالصدقات، وكمن كان في بلد وعنده ناس لا يصومون يوم عاشوراء، ونحو ذلك، فصامه وتتابعوا على ذلك.
والمستدل بالحديث لمن ابتدأ قولاً أو عملاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، ولفظ الحديث: "من سن في الإسلام" 2، لم يقل: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" 3 كلمة جامعة، وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 4.
وهذا أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، كما قال الإمام أحمد: الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر رضي الله عنه: "إنما الأعمال بالنيات" 5، وحديث عائشة، رضي الله عنها: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 6،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزكاة (1017), والنسائي: الزكاة (2554), وابن ماجة: المقدمة (203), وأحمد (4/357, 4/358), والدارمي: المقدمة (514).
2 مسلم: الزكاة (1017), والنسائي: الزكاة (2554), وابن ماجة: المقدمة (203), وأحمد (4/357, 4/358), والدارمي: المقدمة (514).
3 مسلم: الجمعة (867), والنسائي: صلاة العيدين (1578), وابن ماجة: المقدمة (45), وأحمد (3/310), والدارمي: المقدمة (206).
4 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240).(10/109)
5 البخاري: بدء الوحي (1), ومسلم: الإمارة (1907), والترمذي: فضائل الجهاد (1647), والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794), وأبو داود: الطلاق (2201), وابن ماجة: الزهد (4227), وأحمد (1/25).
6 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240).(10/110)
ص -103- ... وحديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن" 1... إلخ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: "إياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة" 2، وهذا من جوامع الكلم التي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم. فمن ابتدع شيئاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، فهو مشاق قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" 3، وما يطلق عليه اسم البدعة مما فعله الصحابة، والأئمة والتابعون، فهو بدعة لغوية، كقول عمر: "نعمت البدعة هذه"، يعني التراويح، وكزيادة عثمان والصحابة، الأذان الأول يوم الجمعة، فهو لا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" 4، لأن له أصلاً في الشرع. وأيضاً، فهو مما سنه الخلفاء الراشدون، ولهم سنة يجب اتباعها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" 5.
ومن ابتدع شيئاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، فمقتضى دعواه أنه يقول: ليس كل بدعة ضلالة، فهذا مشاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراغم له؛ وإنما الذي ينبغي أن يقال: إنما ثبت حسنه من الأعمال التي قد قيل إنها بدعة، إن هذا العمل المعين مثلاً، ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث.
قال ابن رجب: وما وقع في علماء السلف، من استحسان بعض البدع، إنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، وذكر من ذلك: جمع عمر على التراويح، وأذان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (52), ومسلم: المساقاة (1599), والترمذي: البيوع (1205), والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710), وأبو داود: البيوع (3329), وابن ماجة: الفتن (3984), وأحمد (4/269, 4/270), والدارمي: البيوع (2531).
2 الترمذي: العلم (2676), وأبو داود: السنة (4607), وابن ماجة: المقدمة (42), والدارمي: المقدمة (95).
3 مسلم: الجمعة (867), والنسائي: صلاة العيدين (1578), وابن ماجة: المقدمة (45), وأحمد (3/310), والدارمي: المقدمة (206).(10/111)
4 مسلم: الجمعة (867), والنسائي: صلاة العيدين (1578), وابن ماجة: المقدمة (45), وأحمد (3/310), والدارمي: المقدمة (206).
5 الترمذي: العلم (2676), وابن ماجة: المقدمة (42, 44), وأحمد (4/126), والدارمي: المقدمة (95).(10/112)
ص -104- ... الجمعة الأول، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد، وقتال أبي بكر مانعي الزكاة، وغير ذلك.
ومما يبين أن البدعة مذمومة، وهي ما لم يشرع الله ورسوله فعله: إنكار الصحابة على من أذن بصلاة العيدين، لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فاعله قد يحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [سورة فصلت آية: 33]، ونحو ذلك، كإنكارهم على من قدم خطبة العيد على الصلاة، وإنكارهم على من رفع يديه في الخطبة، وإن كان رفع اليدين في الدعاء وردت به الأحاديث، لكن إنما أنكر الرفع في هذا المحل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في هذا الموضع; والآثار عنهم وعن التابعين والأئمة في ذلك كثيرة.
وروى ابن وضاح: أن عبد الله بن مسعود حُدث: أن أناساً يسبحون بالحصى في المسجد، "وأتاهم وقد كوّم كل رجل منهم كومة من حصى بين يديه، فلم يزل يحصبهم، حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو قد فضلتم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً".
وبلغه: أن ناساً يجتمعون في المسجد، ويقول أحدهم: هللوا كذا، وسبحوا كذا، وكبروا كذا، فيفعلون; وقال ابن مسعود: "إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أضل؟ بل هذه"، يعني: أضل. فانظر لإنكارهم لهذا الصنيع، مع(10/113)
ص -105- ... أن فاعل ذلك ربما ظن دخوله تحت قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} الآية [سورة الأحزاب آية: 41]. وإنما أنكر ابن مسعود رضي الله عنه الذكر على هذه الهيئة التي لم يكن الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلونها.
وقال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وكل بدعة ضلالة"، وقال حذيفة: "اتبعوا سبيلنا، فلئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً". والآثار عن الصحابة في ذلك كثيرة، وكذلك الآثار عمن من بعدهم، في النهي عن البدع والتحذير منها، ومن ذلك كراهة الإمام أحمد للقارئ، إذا أتى على سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، أن يكررها ثلاثاً، لعدم وروده، مع ما ورد فيها من الفضل. وكذلك ما روي عن مالك وسفيان وغيرهما. وكره أحمد قراءة سورة الجمعة في عشاء ليلة الجمعة، لعدم وروده، وإن كانت المناسبة فيها ظاهرة؛ وكلامهم في ذلك كثير. وكذا: كراهتهم الدعاء إذا جلسوا بين التراويح، وكذا قول المؤذن قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية [سورة الإسراء آية: 111]، وكقوله قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك من المحدثات.
ومثل ذلك: ما أحدثوه من أزمنة، من رفع الأصوات في المنابر ليلة الجمعة، بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي(10/114)
ص -106- ... يسمونه التذكير؛ فلو كان خيراً يحبه الله، لسبقنا إليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كفوا من بعدهم، كما قالوا: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم; فإنهم، رضي الله عنهم، بالخير أعلم، وعليه أحرص.
فمن ابتدع شيئاً يتقرب به إلى الله، ولم يجعله الله ورسوله قربة، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21]، واستدرك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يعلموا ما علمه، أو أنهم لم يعملوا بما علموا، فلزمه استجهال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، أو تقصيرهم في العمل.
فهم، رضي الله عنهم، قد كفوا من بعدهم، والخير في الاتباع، والشر في الابتداع; أرأيت لو أن رجلاً أذن، فكبر أول الأذان خمس مرات، أو ست مرات، أو كرر "لا إله إلا الله" في آخر الأذان ثلاث مرات، أو أربع، أليس ينكر عليه؟ فإن احتج بفضل الذكر، وبقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [سورة الأحزاب آية: 41]، ونحو ذلك، وكذا لو زاد في الصلاة ركعة، وقال: هذا زيادة خير، فيدخل تحت قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77]، ونحو ذلك.
والحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم نعمه، ورضي(10/115)
ص -107- ... لنا الإسلام ديناً، نسأله برحمته، الوفاة على الإسلام والسنة، آمين.
ذكر ما في قصة الهجرة من الفوائد
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذكر ما في قصة الهجرة من الفوائد، فنبدأ بما يتعلق بها من التوحيد:
الأولى: قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [سورة الحج آية: 40]. ففي الآية: أن جميع ما ادعوا من الأسباب ليس بصحيح إلا هذه خاصة.
الثانية: تسليطهم عليه بما لا يقدر على دفعه، حتى ألجؤوه في الغار.
الثالثة: حاجته إلى هداية كافر.
الرابعة: مصانعته في الطريق، كيف رحلا أولاً إلى جهة اليمن.
الخامسة: قول سراقة - مع حاله -: أصابني بدعائكما، فادعوا الله لي؛ وأنت ترى ما في زماننا من ظنهم أن الطاغوت يضر أو ينفع لنفسه.
السادسة: حاجته إلى موادعة اليهود.
السابعة: حاجته إلى الصبر على ابن أبي وأمثاله.
الثامنة: عمله في بناء المسجد بنفسه.
التاسعة: قوله وقولهم: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا من الله.
العاشرة: كون مسجد قباء أسس على التقوى، يوضحه مسجد الضرار.
وأما ما يتعلق بآيات النبوة:
الأولى: بحفظ الله في تلك الأشهر، وفي الغار، وفي سفره إلى الهجرة، مع سراقة وغيره، وفيها نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [ سورة الأنفال آية: 30].
الثانية: إخبار الله له بمكرهم تلك(10/116)
ص -108- ... الليلة.
الثالثة: إجابة دعائه على سراقة.
الرابعة: إجابة دعائه في زوال حمى المدينة.
الخامسة: إجابة دعائه في صيرورتها في الجحفة.
السادسة: في لبن شاة أم معبد.
السابعة: ما ذكر من حسن صورته.
الثامنة: ما ذكره من حسن خلقه.
التاسعة: مروءته في كونه يعطي ولا يأخذ، لقوله لأبي بكر بالثمن.
العاشرة: تخصيصه أبا بكر بصحبته في ذلك السفر، ثم بان منه ما بان.
الحادية عشر: أو ما فعلت.
وأما ما فيها من فضائل الصحابة:
فالأولى: فضل أبي بكر الذي لا يجارى.
الثانية: فضل عمر وقوته.
الثالثة: فضل عثمان وتقدمه، لكن يستفاد من الهجرة الأولى.
الرابعة: فضل علي لكونه أقام بأمره.
الخامسة: فضل مصعب بن عمير.
السادسة: فضل ابن أبي سلمة.
السابعة: فضل أسعد بن زرارة.
الثامنة: فضل جابر بن عبد الله.
التاسعة: فضل سعد بن عبادة.
العاشرة: فضل أبي أيوب.
الحادية عشرة: فضل أهل العقبة.
الثانية عشرة: فضائل الأنصار.
الثالثة عشرة: ذكر نسبهم.
الرابعة عشرة: ذكر تأليف الله بينهم بنبيه.
الخامسة عشرة: فضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير.
السادسة عشرة: من في المدينة من القبائل.
وأما ما فيها من مسائل الفقه:
فالأولى: تفرد الله(10/117)
ص -109- ... بالهداية والإضلال، وهو الأمر العظيم المذكور في قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 89].
الثانية: سبب الهداية.
الثالثة: سبب الإضلال.
الرابعة: مبدأ النفاق وأسبابه.
الخامسة: معنى قوله: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [سورة الكهف آية: 10]، يوضحه: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم".
السادسة: ما كانوا فيه من الضيق، ففيه أن الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.
السابعة: أن الأذان لم يشرع.
الثامنة: أن القتال لم يشرع.
التاسعة: وهو من أجلّها، من ترك المبادرة إلى الهجرة افتتن.
العاشرة: دعاء الله أن يسلم الأعمال الصالحة، مما يفسدها أو ينقصها.
الحادية عشرة: الاستعانة بالله على الأمور المهمة.
الثانية عشرة: الأمور العندية.
الثالثة عشرة: الاستعانة بالكفار على الكفار.
الرابعة عشرة: أن الإنسان ولو كمل في الفضل، لا يستغني عن المشاورة.
الخامسة عشرة: الوثوق بخبر الصغير إذا عرف منه الصدق، لخبر عبد الله بن أبي بكر.
السادسة عشرة: إخباره بالسر إذا وثق به.
السابعة عشرة: أن مقامات الأنبياء لا يشرع قصدها إلا ما شرعه الله، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع قصد الغار، ولا غار حراء الذي نزل فيه الوحي.
الثامنة عشرة: التكبير عند الفرح.
التاسعة عشرة: ملاقاة القادم.
العشرون: فضيلة(10/118)
ص -110- ... المسجد القديم.
والحادية والعشرون: البداءة ببيت الله قبل بيتك.
والثانية والعشرون: كونه لم ينقل التراب ولم يطينه.
الثالثة والعشرون: أن الاستحالة تطهر.
الرابعة والعشرون: أن السنة عدم زخرفة المساجد.
الخامسة والعشرون: التعاون في بناء المساجد.
السادسة والعشرون: مخالفة هدي المشركين في البناء للمساجد.
السابعة والعشرون: مواساة الصحابة بعضهم بعضاً.
الثامنة والعشرون: أن الضيافة لا نقص فيها.
التاسعة والعشرون: صلة الرحم بمثلها.
الثلاثون: أخوال الجد من جملة القرابة.
الحادية والثلاثون: بيع عقار اليتيم للمصلحة.
الثانية والثلاثون: أن المقبرة إذا أزيلت وزال اسمها زال النهي.
الثالثة والثلاثون: نبش قبور المشركين للمصلحة.
الرابعة والثلاثون: جواز قطع النخيل للمصلحة.
الخامسة والثلاثون: 1.
السادسة والثلاثون: الصبر على أذى المنافقين والكفار، وقد نسخ منه ما نسخ.
السابعة والثلاثون: وجوب الهجرة من أفضل البقاع.
الثامنة والثلاثون: وجوبها إلى المدينة.
التاسعة والثلاثون: خروج الإنسان من وطنه، قد يكون من أكبر الفضائل.
الأربعون: فضيلة من أعان في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل.(10/119)
ص -111- ... الهجرة، لقصة أسماء.
الحادية والأربعون: جواز لعن المعين من الكفار.
الثانية والأربعون: التغني بالشعر.
الثالثة والأربعون: الارتجاز به في الشغل.
الرابعة والأربعون: جواز رفع الصوت به في بعض الأحيان.
الخامسة والأربعون: جواز بعض التمني.
السادسة والأربعون: أن كمال الإيمان 1 بل حب الأوطان.
السابعة والأربعون: سؤال الله أن يعوضه عن المحبوب الفائت بمحبة غيره.
الثامنة والأربعون: أن ترنم بلال وغيره نقص، لقوله يهذون من الحمى، ولم ينكر.
التاسعة والأربعون: أن أعظم المكروهات قد يكون سبباً لأعظم المحبوبات.
الخمسون: أن السبب الذي أراد به العدو إخماد الدين، صار هو السبب في ظهوره.
الحادية والخمسون: أن السبب الذي أراد به ذل عدوه، صار سبب العز.
الثانية والخمسون: عظم شأن الهجرة، لكون الصحابة جعلوا التاريخ منها.
ستة مواضع من السيرة
وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: تأمل رحمك الله ستة مواضع من السيرة، وافهمها فهماً جيداً حسناً، لعل الله أن يفهمك دين الأنبياء لتتبعه، ودين المشركين لتتركه؛ فإن أكثر من يدعي الدين، ويعد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل.(10/120)
ص -112- ... الموحدين، لا يفهم معنى هذه السنة كما ينبغي.
الموضع الأول: قصة نزول الوحي، وفيها: أن أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 1-2] إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 7]. فإذا فهمت أنهم يفعلون أشياء كثيرة، يعرفون أنها من الظلم والعدوان، مثل الزنى وغيره، وعرفت أيضاً أنهم يفعلون أشياء كثيرة من العبادات، يتقربون بها إلى الله، مثل الحج والعمرة، والصدقة على المساكين، والإحسان إليهم، وغير ذلك؛ وأجلها عندهم: الشرك، فهو أجل ما يتقربون به إلى الله عندهم، كما ذكر الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30]؛ فأول ما أمره به: الإنذار عنه، قبل الإنذار عن الزنى والسرقة وغيرهما. وعرفت: أن منهم من تعلق على الأصنام، ومنهم من تعلق على الملائكة، وعلى الأولياء من بني آدم، ويقولون: ما نريد منهم إلا شفاعتهم، ومع هذا بدأ بالإنذار عنه في أول آية أرسله الله بها، فإن أحكمت هذه المسألة، فيا بشراك!(10/121)
ص -113- ... خصوصاً إذا عرفت أن ما بعدها أعظم من صلاة الخمس، ولم تفرض إلا في ليلة الإسراء، سنة عشر، بعد حصار الشعب وموت أبي طالب، وبعد هجرة الحبشة بسنتين. فإذا عرفت أن تلك الأمور الكثيرة، والعداوة البالغة، كل ذلك عند هذه المسألة، قبل فرض الصلاة، رجوت أن تعرف المسألة.
الموضع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده، وهو التوحيد، لم يكرهوا ذلك واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم، وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، وقالوا: سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آلهتنا; ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى وأمه، ولا الملائكة، ولا الصالحين; لكن لما ذكر أنهم لا يُدعون، ولا ينفعون ولا يضرون، جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذه المسألة، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له دين ولا إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]؛ فإذا فهمت هذا فهماً حسناً جيداً، عرفت أن كثيرًا من الذين يدّعون الدين لا يعرفونها، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على(10/122)
ص -114- ... ذلك العذاب، والأسر والضرب، والهجرة إلى الحبشة، مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولم يجد لهم رخصة، ولو وجد لهم رخصة لأرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية [سورة العنكبوت آية: 10]؛ فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه، فكيف بغير ذلك؟
الموضع الثالث: قصة قراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بحضرتهم، فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19]، ألقى الشيطان في تلاوته: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى"، فظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وقالوا كلاماً معناه: هذا الذي نريد، ونحن نعرف أن الله هو النافع الضار وحده لا شريك له، ولكن هؤلاء يشفعون لنا عنده، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه، فشاع الخبر أنهم صافوه، وسمع بذلك من بالحبشة فرجعوا، فلما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عادوا إلى شر ما كانوا عليه. ولما قالوا له: إنك قلت ذلك، خاف من الله خوفاً عظيماً، حتى أنزل الله عليه: {(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [سورة الحج آية: 52]. فمن فهم هذه القصة ثم شك بعدها في دين النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينه وبين دين المشركين، فأبعده الله، خصوصاً إن(10/123)
ص -115- ... عرف أن قولهم: تلك الغرانيق الملائكة.
الموضع الرابع: قصة أبي طالب، فمن فهمها فهماً حسناً، وتأمل إقراره بالتوحيد، وحث الناس عليه، وتسفيه عقول المشركين، ومحبته لمن أسلم وخلع الشرك، ثم بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته، في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، ثم صبر على المشقة العظيمة، والعداوة البالغة، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دينه الأول، لم يصر مسلماً، مع أنه يعتذر عن ذلك بأن فيه مسبة لأبيه عبد المطلب، ولهاشم وغيرهما من مشائخهم; ثم مع قرابته ونصرته، استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [سورة التوبة آية: 113]. والذي يبين هذا: أنه إذا عرف رجل من أهل البصرة أو الأحساء، يحب الدين ويحب المسلمين، ظن أكثر الناس أنه مع المسلمين، مع أنه لم ينصر الدين بيد ولا مال، ولا له من الأعذار مثل ما لأبي طالب; فمن فهم قصة أبي طالب، وفهم الواقع من أكثر من يدعي الدين، تبين له الهدى من الضلال، وعرف سوء الأفهام، والله المستعان.
الموضع الخامس: قصة الهجرة، وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها، وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر(10/124)
ص -116- ... من غير شك في الدين، وفي تزيين دين المشركين، ولكن محبة الأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، فقتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه; فلما سمع الصحابة من القتلى فلان وفلان شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية:97-99]. فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، لأنه لم يبلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، ولو بلغهم شيء من ذلك لم يقولوا: قتلنا إخواننا; فإن الله قد بين لهم وهم بمكة قبل الهجرة، أن ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]. وأبلغ من هذا: ما تقدم من كلام الله فيهم، فإن الملائكة تقول: {فِيمَ كُنْتُمْ}، ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، ولم يقولوا: كذبتم، مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: جاهدت في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلتَ ليقال جريء; وكذلك يقولون للعالم والمتصدق: كذبت، بل تعلمت ليقال عالم، وتصدقت ليقال جواد.(10/125)
ص -117- ... وأما هؤلاء، فلم يكذبوهم، بل أجابوهم بقولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]. ويزيد ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل: الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 98]، فهذا أوضح واضح جداً، أن هؤلاء خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم، بخلاف من لم يطلبه، بل قال الله فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18]. ومن فهم هذا الموضع والذي قبله، فهم كلام الحسن البصري، قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، وذلك أن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10]".
الموضع السادس: قصة الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم، فمن سمعها ثم بقي في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين - الذين يسمون العلماء - وهي قولهم: هذا هو الشرك، لكن يقولون: لا إله إلا الله، ومن قالها لا يكفر بشيء. وأعظم من ذلك وأكبر: تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهم بهذه اللفظة إسلام، وحرم الإسلام مالهم ودمهم، مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله، ومع علمهم بإنكارهم(10/126)
ص -118- ... البعث، واستهزائهم بمن أقر به، واستهزائهم بالشرائع، وتفضيلهم دين آبائهم مخالفاً لدين النبي صلى الله عليه وسلم. ومع هذا كله، يصرح هؤلاء الشياطين، المردة الجهلة، أن البدو إسلام، ولو جرى منهم ذلك كله، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله أيضاً؛ ولازم قولهم: أن اليهود إسلام، لأنهم يقولونها. وأيضاً، كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة، أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا. والذي يبين ذلك من قصة الردة، أن المرتدين افترقوا في ردتهم: فمنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات; ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة، ظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس; ومع هذا، أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر. فإذا عرفت أن العلماء أجمعوا: أن الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة في حال واحد، ولو ثبت على الإسلام كله. ومنهم من أقر بالشهادتين، وصدق طليحة في دعواه النبوة. ومنهم من صدق العنسي صاحب صنعاء؛ وكل هؤلاء أجمع العلماء أنهم مرتدون. ومنهم أنواع أخر، منهم الفجاءة السلمي لما وفد على(10/127)
ص -119- ... أبي بكر، وذكر له أنه يريد قتال المرتدين، ويطلب من أبي بكر أن يمده، فأعطاه سلاحاً ورواحل، فاستعرض السلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم، فجهز أبو بكر جيشاً لقتاله. فلما أحس بالجيش، قال لأميرهم: أنت أمير أبي بكر، وأنا أميره، ولم أكفر، فقال: إن كنت صادقاً فألق السلاح، فألقاه، فبعث به إلى أبي بكر، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي.
فإذا كان هذا حكم الصحابة في هذا الرجل، مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة، إلا أنه يقول: "لا إله إلا الله" بلسانه، مع تصريحه بتكذيب معناها، وتصريحه بالبراءة من دين محمد صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله؟ ويقولون: هذا دين الحضر، وديننا دين آبائنا.
ثم يفتي هؤلاء المردة الجهال أن هؤلاء مسلمون، ولو صرحوا بذلك كله، إذا قالوا: لا إله إلا الله. سبحانك هذا بهتان عظيم! وما أحسن ما قاله واحد من البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام، قال: أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي -، وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلاماً أنه كافر. وصلى الله على سيدنا محمد.
الهجرة على من عجز عن إظهار دينه
وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، هل ترك هذه المسألة يوجب العداوة والمقاطعة، كالزنى والسرقة،(10/128)
ص -120- ... ونهب أموال المسلمين، أم لا؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22].
وقال أبناء الشيخ محمد، وحمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى: وقولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك، هل تلزمه الهجرة وإن لم يكن له قدرة؟ فنقول: الهجرة تجب على كل مسلم، لا يقدر على إظهار دينه ببلده، إن كان قادراً على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97]. وأما من لم يقدر على الهجرة، فقد استثناهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآيتين [سورة النساء آية: 98-99].
ولهم أيضاً، رحمهم الله تعالى: وقولك: إنا نقول: إن الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه يهاجر، فنقول في هذه المسألة، كما قال العلماء، رحمهم الله تعالى: تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه، فهجرته مستحبة لا واجبة.(10/129)
ص -121- ... وقال بعضهم بوجوبها، لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين" 1؛ فإن تكن البلد بلد حرب، ولم يظهر الكفر فيها لم نوجب الهجرة، إذا لم يكن فيها إلا المعاصي، وعلى هذا نحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" الحديث.
[ أدلة تحريم موالاة المشركين ]
وقال الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).(10/130)
ص -122- ... وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا. وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة آية: 120]، فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى، وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم ويشهد أنهم على حق. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [سورة البقرة آية: 120]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145]. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهراً من غير عقيدة القلب، لكن خوفاً من شرهم ومداهنة، كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب، أنهم على حق وهدى مستقيم؟ فإنهم لا يرضون إلا بذلك.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ(10/131)
ص -123- ... وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 217]. فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ولم يرخص في موافقتهم خوفاً على النفس والمال والحرمة؛ بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحاباً من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم، وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء، أي: لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة، {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]، وهو: أن يكون الإنسان مقهوراً معهم، لا يقدر على عداوتهم، فيظهر لهم المعاشرة وقلبه مطمئن بالبغضاء والعداوة، وانتظار زوال المانع، فإذا زال رجع إلى العداوة والبغضاء. فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من(10/132)
ص -124- ... غير عذر، إلا استحباب الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين، وعدم الخوف من الله؟ فما جعل الله الخوف منهم عذراً، بل قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175].
الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 149]، فأخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة؛ ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع، فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم. ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 150]، فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم، وهو خير الناصرين؛ ففي ولايته وطاعته كفاية، وغنية عن طاعة الكفار. فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد ونشؤوا فيه، ودانوا به زماناً، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين، إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.(10/133)
ص -125- ... الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة آل عمران آية: 162]، فأخبر تعالى أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه ومأواه جهنم يوم القيامة؛ ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها، وكون الإنسان من أهلها من رضوان الله، وأن عبادة القباب والأموات، ونصرها والكون من أهلها، مما يسخط الله؛ فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين، ومن نصر الشرك ودعوة الأموات، وكان مع المشركين. فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فما جعل الله الخوف عذراً في اتباع ما يسخطه، واجتناب ما يرضيه، وكثير من أهل الباطل إنما يتركون الحق خوفاً من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه، ولم يكونوا بذلك مسلمين.
الدليل السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا} [سورة النساء آية: 97]، أي: في أي فريق كنتم؟ أفي فريق المسلمين، أم في فريق المشركين؟ فاعتذروا عن كونهم لم يكونوا في فريق المسلمين بالاستضعاف، فلم تعذرهم الملائكة: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(10/134)
ص -126- ... [سورة النساء آية: 97].
ولا يشك عاقل أن أهل البلدان الذين خرجوا عن المسلمين، وصاروا مع المشركين، وفي فريقهم وجماعتهم، أعظم ممن ترك الهجرة مشحة بوطنه وأهله وماله؛ هذا مع أن الآية نزلت في أناس من أهل مكة، أسلموا واحتبسوا عن الهجرة، فلما خرج المشركون إلى بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين، فقتلهم المسلمون يوم بدر، فلما علموا بقتلهم تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية. فكيف بأهل البلدان، الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطؤوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً؟! فهؤلاء أولى بالكفر والنار، من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، وخوفاً من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين. فإن قال قائل: هلا كان الإكراه على الخروج عذراً للذين قتلوا يوم بدر؟ قيل: لا يكون عذراً، لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين، إذ أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون(10/135)
ص -127- ... بعد ذلك الإكراه، لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة.
الدليل السابع: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]، فذكر تعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب، أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فلا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وأن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم، فهو مثلهم؛ ولم يفرق بين الخائف وغيره إلا المكره؛ وهذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام، فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء وأصحاباً وجلساء، وسمع كفرهم واستهزاءهم وأقرهم، وطرد أهل التوحيد وأبعدهم؟!
الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51]، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم؛ وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد(10/136)
ص -128- ... الأوثان، فهو منهم. فإن جادل مجادل في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله، ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين، بان أمره، واتضح عناده وكفره. ولم يفرق تعالى بين الخائف وغيره، بل أخبر الله تعالى: أن الذين في قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفاً من الدوائر؛ وهكذا حال هؤلاء المرتدين، خافوا من الدوائر، فزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق، بالنصر لأهل التوحيد، فبادروا وسارعوا إلى الشرك، خوفاً أن تصيبهم دائرة، قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا} [سورة المائدة آية: 52].
الدليل التاسع: قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80]، فذكر تعالى أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في النار، بمجردها، وإن كان الإنسان خائفاً، إلا المكره بشرطه؛ فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو معاداة التوحيد وأهله، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره؟!
الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ(10/137)
ص -129- ... فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81]، فذكر تعالى أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه، ثم أخبر: أن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين، ولم يفرق بين من خاف الدائرة ومن لم يخف؛ وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم، كثير منهم فاسقون، فجر ذلك إلى موالاة الكفار، والردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121]، وهذه الآية نزلت لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فأنزل الله هذه الآية. فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركاً، من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره، فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، والكون معهم، ونصرهم، والشهادة أنهم على حق، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، والخروج عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين؟! فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال.
الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175]، وهذه الآية نزلت في رجل عالم عابد، في زمان بني إسرائيل، يقال له: "بلعام" وكان يعلم الاسم(10/138)
ص -130- ... الأعظم; قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: "لما نزل بهم موسى عليه السلام - يعني بالجبارين - أتوه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175]". وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. فذكر تعالى أمر هذا المنسلخ من آيات الله، بعد أن أعطاه الله إياها، وعرفها وصار من أهلها، ثم انسلخ منها، أي: ترك العمل بها، وذكر في انسلاخه منها، ما معناه، أنه مظاهرة المشركين ومعاونتهم برأيه، والدعاء على موسى، عليه السلام، ومن معه، أن يردهم الله عن قومه، خوفاً على قومه، وشفقة عليهم، مع كونه يعرف الحق ويقطع به، ويتكلم به ويشهد به، ويتعبد، ولكن صده عن العمل به متابعة قومه، وعشيرته، وهواه، وإخلاده إلى الأرض؛ فكان هذا انسلاخاً من آيات الله. وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، وأعظم؛ فإن الله تعالى أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده ودعوته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك به، ودعوة غيره، والأمر بموالاة المؤمنين، ومحبتهم ونصرتهم، والاعتصام بحبل الله(10/139)
ص -131- ... جميعاً، والكون مع المؤمنين، والأمر بمعاداة المشركين وبغضهم، وجهادهم وفراقهم، والأمر بهدم الأوثان، وإزالة القحاب واللواط، والمنكرات، وعرفوها وأقروا بها، ثم انسلخوا من ذلك كله، فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله، والكفر والردة، من بلعام، أو هم مثله.
الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113]، فذكر تعالى أن الركون إلى الظلمة والكفار والظالمين، موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم وغيره، إلا المكره؛ فكيف بمن اتخذ الركون إليهم ديناً ورأياً حسناً، وأعانهم بما قدر عليه من مال ورأي، وأحب زوال التوحيد وأهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم؟! فإن هذا من أعظم الكفر والركون.
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107]، فحكم تعالى حكماً لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر خوفاً على نفس أو مال أو أهل أم لا، وسواء كفر بباطنه وظاهره أم بباطنه دون ظاهره، وسواء كفر بفعاله أو(10/140)
ص -132- ... مقاله، أو بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب. فإذا أكره إنسان على الكفر، أو قيل له: اكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، أي: ثابتاً عليه معتقداً له، فأما إن وافقهم بقلبه، فهو كافر ولو كان مكرهاً. وظاهر كلام أحمد: أنه في الصورة الأولى، لا يكون مكرهاً حتى يعذبه المشركون، فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار، وقال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]، فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: لا يقبل عذراً. فلما خرج يحيى، قال أحمد: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار: "مررت بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني"، وأنتم، قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك.
ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر، وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون: ما فعلنا هذا إلا خوفاً، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.(10/141)
ص -133- ... ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب، ليس بسبب الاعتقاد للشرك، أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة، وعلى رضى رب العالمين فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107]، فكفّرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة، هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون. ثم أخبر خبراً مؤكداً محققاً: أنهم في الآخرة هم الخاسرون.
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20]، فذكر تعالى عن أهل الكهف أنهم ذكروا عن المشركين أنهم إن قهروكم وغلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم أي: يقتلوكم شر قتلة برجم، وإما أن يعيدوكم في ملتهم ودينهم، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} أي: وإن وافقتموهم على دينهم، بعد أن غلبوكم وقهروكم، فلن تفلحوا إذا أبداً؛ فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه، فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه، ومع ذلك يحسبون أنهم(10/142)
ص -134- ... مهتدون؟!
الدليل السادس عشر: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11]، فأخبر تعالى: أن من الناس من يعبد الله على حرف، أي: على طرف، فإن أصابه خير أي: نصر وعز وصحة، وسعة وأمن وعافية ونحو ذلك، اطمأن به، أي: ثبت، وقال: هذا دين حسن، ما رأينا فيه إلا خيراً، وإن أصابته فتنة، أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك، انقلب على وجهه، أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى أهل الشرك. فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة، سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة، يعبدون الله على حرف، أي: على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا الموافقة للمشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11]، هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم من عدو، وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله، كما قال تعالى:(10/143)
ص -135- ... {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة فصلت آية: 23].
وأنت، يا من منّ الله عليه بالثبات على الإسلام، احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب، أو تحسين هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار طاعتهم رأياً حسناً، حذراً على الأنفس والأموال والمحارم! فإن هذه الشبهة، هي التي أوقعت كثيراً من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك، وإلا فكثير منهم يعرفون الحق، ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون لله بالشرك، للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها؛ فلم يعذر بها أحداً ولا ببعضها، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24].
الدليل السابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(10/144)
ص -136- ... [سورة محمد آية: 25-28]. فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم، أنهم من بعدما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم، فلم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة. وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، غرهم الشيطان فأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفة الحق ومحبته والشهادة به لا يضرهم ما فعلوه، ونسوا أن من المشركين من يعرفون الحق ويحبونه ويشهدون به، ولكن يتركون متابعته والعمل به محبة للدنيا، وخوفاً على الأنفس والأموال، والمآكل والرياسات. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26]، فأخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة، وتسويل الشيطان والإملاء لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فإذا كان من وعد المشركين، الكارهين لما أنزل الله، طاعتهم في بعض الأمر، كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والطواغيت والأموات، وأظهر أنهم على هدى، وأن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، وأن الصواب في مسالمتهم والدخول في دينهم الباطل؟! فهؤلاء أولى بالردة من أولئك(10/145)
ص -137- ... الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر. ثم أخبر تعالى عن حالهم الفظيع عند الموت، ثم قال: {ذَلِكَ} أي: الأمر الفظيع عند الوفاة، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 28]. ولا يستريب المسلم أن اتباع المشركين، والدخول في جملتهم، والشهادة أنهم على حق، ومعاونتهم على زوال التوحيد وأهله، ونصرة القباب والقحاب واللواط، من اتباع ما يسخط الله، وكراهة رضوانه، وإن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف؛ فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين، بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا شيء ونحن على ديننا؟!
الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الحشر آية: 11]، فعقد الله تعالى الأخوة بين المنافقين والكفار، وأخبر أنهم يقولون لهم في السر: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، أي: لئن غلبكم محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجكم من بلادكم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي: لا نسمع من أحد فيكم قولاً، ولا نعطى فيكم طاعة، {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} أي: إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم لننصرنكم، ونكون معكم. ثم شهد الله: إنهم(10/146)
ص -138- ... لكاذبون في هذا القول. فإذا كان وعد المشركين في السر بالدخول معهم، ونصرهم والخروج معهم إن جلوا، نفاقاً وكفراً، وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر ذلك صادقاً، وقدم عليهم ودخل في طاعتهم، ودعا إليها ونصرهم، وانقاد لهم وصار من جملتهم، وأعانهم بالمال والرأي؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر، كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [سورة المائدة آية: 52]. هكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، فإن عذر كثير منهم هذا هو العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض، ولم يعذرهم الله به، قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 52-53]. ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54]، فأخبر تعالى أنه لا بد عند وجود المرتدين، من وجود المحبين المجاهدين; ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والقسوة على الكافرين،(10/147)
ص -139- ... بضد من كان تواضعه وذله ولينه، لعباد القباب، وأهل القحاب واللواط، وعزته وغلظته على أهل التوحيد والإخلاص؛ فكفى بهذا دليلاً على كفر من وافقهم، وإن ادعى أنه خائف، فقد قال تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54]؛ وهذا بضد من يترك الصدق والجهاد خوفاً من المشركين. ثم قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 54] أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم، لتكون كلمة الله هي العليا، {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية:54] أي: لا يبالون بمن لامهم وآذاهم في دينهم، بل يمضون على دينهم مجاهدين فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق، ولا لسخطه ولا لرضاه، وإنما همتهم وغاية مطلوبهم رضى سيدهم ومعبودهم، والهرب من سخطه؛ وهذا بخلاف من كانت همته وغاية مطلوبه: رضى عباد القباب، وأهل القحاب واللواط، ورجاءهم والهرب مما يسخطهم، فإن هذا غاية الضلال والخذلان. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية: 54]، فأخبر الله تعالى: أن هذا الخير العظيم، والصفات الحميدة، لأهل الإيمان الثابتين على دينهم عند وقوع الفتن، ليس بحولهم ولا بقوتهم، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105]. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا(10/148)
ص -140- ... الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة آية: 55]. فأخبر الله تعالى خبراً بمعنى الأمر، بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين، ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أهل الأوثان والقباب، والقحاب واللواط، والخمور والمنكرات، أم أهل الإخلاص، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فالمتولي لضدهم واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين، المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة، على ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب. ثم أخبر تعالى: أن الغلبة لحزبه ومن تولاهم، فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56].
الدليل التاسع عشر: قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة الحديد آية: 22]، فأخبر تعالى: أنك لا تجد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وقد قال تعالى في موضع آخر: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على(10/149)
ص -141- ... الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } [سورة التوبة آية: 23]. ففي هاتين الآيتين: البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر خوفاً على الأموال والآباء، والأبناء والإخوان، والأزواج والعشائر، ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس. إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم، خوفًا منهم وإيثاراً لمرضاتهم، فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحاباً، وأظهر لهم الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور، ومحبة لها؟! ومن العجب، استحسانهم لذلك، واستحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال الحرام.
الدليل العشرون: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] أي: أخطأ الصراط المستقيم، فأخبر تعالى: أن من تولى أعداء الله، وإن كانوا أقرباء وأصدقاء، فقد ضل سواء السبيل، أي: أخطأ الصراط المستقيم، وخرج عنه إلى الضلال؛ فأين هذا ممن يدعي أنه على الصراط المستقيم، لم يخرج عنه؟ فإن هذا تكذيب لله، ومن كذب الله فهو كافر، واستحلال لما حرم الله من ولاية الكفار، ومن استحل محرماً فهو كافر.(10/150)
ص -142- ... ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام والأولاد، فقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الممتحنة آية: 3]، فلم يعذر الله تعالى من اعتذر بالأرحام والأولاد، والخوف عليهما، ومشقة مفارقتهما، بل أخبر أنها لا تنفع يوم القيامة، ولا تغني من عذاب الله شيئاً، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [سورة المؤمنون آية: 101].
الدليل الحادي والعشرون: من السنة ما رواه أبو داود وغيره، عن سمرة ابن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" 1، فجعل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من جامع المشركين، أي: اجتمع معهم وخالطهم وسكن معهم، فهو مثلهم؛ فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على دينهم، وآواهم وأعانهم؟ فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فليس الخوف بعذر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10]؛ فلم يعذر الله تبارك وتعالى من يرجع عن دينه عند الأذى والخوف، فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفاً من الدوائر؟ والأدلة على هذا كثير، وفي هذا كفاية لمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/151)
ص -143- ... أراد الله هدايته. وأما من أراد الله فتنته وضلالته، فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سورة يونس آية: 96-97]. فنسأل الله الكريم المنان: أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمته وهو أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد.
وسئل، قدس الله روحه ونور ضريحه: ما قولكم، أدام الله النفع بعلومكم، في أهل بلد مرتدين، أو بادية، وهم بنو عم، ويجيء لهم ذكر عند الأمراء، فيتسبب بالدفع عنهم بعض أقاربهم - مما هو عند المسلمين حمية دنيوية - إما بطرح نكال، أو دفن نقائص المسلمين، أو يشير بكف المسلمين عنهم، هل يكون موالاة نفاق، أو يصير كفراً؟ فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم، وسبهم، ما حكمه؟ وكذلك إذا عرفت هذا من إنسان، ماذا يجب عليك؟ أفتنا مأجوراً.
فأجاب: اعلم أولاً - أيدك الله بتوفيقه - أن أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، وأن الله افترض على المؤمنين عداوة المشركين، من الكفار والمنافقين، وجفاة الأعراب، الذين يعرفون بالنفاق، ولا يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله أمرهم بجهادهم، والإغلاظ عليهم بالقول(10/152)
ص -144- ... والفعل، وتوعدهم الله باللعن والقتل بقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 61]، وقطع الموالاة بين المؤمنين وبينهم، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم. وكيف يدعي رجل محبة الله، وهو يحب أعداءه الذين ظاهروا الشياطين على عدوانهم، واتخذوهم أولياء من دون الله؟ كما قيل:
تحب عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الود عنك لعازبُ
وبالجملة: فالحب في الله، والبغض في الله، أصل عظيم من أصول الإيمان، يجب على العبد مراعاته; ولهذا جاء في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" 1، ولذلك أكثر الله من ذكره في القرآن، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]. قال بعض المفسرين: فهو: أن يوالوا الكافرين، لقرابة بينهم، أو صداقة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكفار، فلا تؤثروهم عليهم. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28] أي: ومن يتول الكفرة، فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني: أنه منسلخ من ولاية الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4599).(10/153)
ص -145- ... رأساً. وهذا أمر معقول، فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه متنافيان. {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]، فرخص في موالاتهم إذا خافوهم، فلم يحسنوا معاشرتهم إلا بذلك، وكانوا مقهورين لا يستطيعون إظهار العداوة لهم، فحينئذ تجوز المعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، ينتظر زوال المانع، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]، قال ابن عباس: "ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان".
وقال أيضاً: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28]، ذكره ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 118]، قال القرطبي: لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56]، قال حذيفة: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، لهذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ(10/154)
ص -146- ... مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]".
قال مجاهد في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 52]، قال: المنافقون في مصانعة اليهود، ومداخلتهم واسترضاعهم أولادهم إياهم، وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 54]، قال: "أهل رقة على أهل دينهم"، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54]، قال: "أهل غلظة على من خالفهم في دينهم"; وكذا نقل معناه عن غير واحد من السلف.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 57]، وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80]، والآية بعدها.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التوبة آية: 73]. فقد أمر الله بجهاد الكفار والمنافقين مع دعواهم الإسلام، وأمر بالإغلاظ عليهم قولاً وفعلاً. وقال ابن عباس، رضي الله عنهما، في الآية: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ}: "بالسيف"، {وَالْمُنَافِقِينَ}: "باللسان"، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73] قال: "أذهب الرفق عنهم".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ(10/155)
ص -147- ... وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73]. قال: "بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وليلقه بوجه مكفهر"، أي: عابس متغير من الغيظ والبغض، ذكره ابن أبي حاتم، وجاء معناه في حديث مرفوعاً رواه البيهقي في الشعب. وقال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]، نفى سبحانه وتعالى الإيمان عمن هذا شأنه، ولو كانت مودته ومحبته ومناصحته لأبيه وأخيه وابنه ونحوهم، فضلاً عن غيرهم.
وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113]، قال ابن عباس: {وَلا تَرْكَنُوا} قال: "لا تميلوا"; وقال عكرمة: "أن تطيعوهم، أو تودوهم، أو تصطنعوهم"، ومعنى تصطنعوهم أي: تولوهم الأعمال، كمن يولي الفساق والفجار. وقال الثوري: ومن لاق لهم دواة، أو برى لهم قلماً، أو ناولهم قرطاساً، دخل في هذا. قال بعض المفسرين في الآية: فالنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضاء بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكره بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: {وَلا تَرْكَنُوا}، والركون هو الميل اليسير.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فأولئك هم(10/156)
ص -148- ... الظالمون} [سورة الممتحنة آية: 1]. وصح: أن صدر هذه السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وجاء في تفسير قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]، أنها "في أبي عبيدة بن الجراح، لما قتل أباه يوم بدر"، كما رواه الطبراني وابن أبي حاتم، والحاكم وغيرهم.
وعن ابن جريج قال حدثت: "أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر صكة سقط منها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريباً مني لضربته"، فنزلت: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة المجادلة آية: 22]، رواه ابن المنذر، وهذا - والله أعلم - في أول الإسلام، فإن أبا قحافة أسلم عام الفتح، فلم يكن ليسب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام، وأبو بكر خرج مهاجراً من مكة، ولم يعد إليها إلا بعد الإسلام، في عمرة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، وعادى في الله، ووالى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك"، رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم.
وفي حديث رواه أبو نعيم وغيره، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك، وأما(10/157)
ص -149- ... انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت فيما لي عليك. قال: يا رب، وما لك علي؟ قال: هل واليت لي ولياً، أو عاديت لي عدواً".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]، فعقد تعالى الموالاة بين المؤمنين، وقطعهم من ولاية الكافرين، وأخبر أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وإن لم يفعلوا ذلك وقع من الفتنة والفساد الكبير شيء عظيم، وكذلك يقع؛ فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، وعلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله؟ ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ والآيات في هذا كثيرة.
وأما الأحاديث: فروى أحمد عن البراء بن عازب: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله" 1، وفي حديث مرفوع: "اللهم لا تجعل للفاجر عندي يداً ولا نعمة، فيوده قلبي؛ فإني وجدت فيما أوحي إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22]?"، رواه ابن مردويه وغيره. وعن أبي ذر مرفوعاً: "أفضل الأعمال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4599).(10/158)
ص -150- ... الحب في الله والبغض في الله" 1، رواه أبو داود، ورواه أحمد مطولاً. وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً: "المرء مع من أحب" 2، وعن ابن مسعود مرفوعاً: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي" 3، رواه ابن حبان في صحيحه. وعن علي مرفوعاً: "لا يحب رجل قوماً إلا حشر معهم" 4، رواه الطبراني بإسناد جيد، قاله ابن المنذر; وقد روى أحمد معناه عن عائشة بإسناد جيد أيضاً، عنها مرفوعاً: "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل. وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] الآية"، رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، الحب على شيء من الجور وإن قل، والبغض على شيء من العدل وإن قل، من الشرك؛ فليحذر أشد الحذر من موادة أعداء الله من الكفار والمنافقين. وعن بريدة مرفوعاً: "لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل" 5، رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، ورواه الحاكم ولفظه: "إذا قال الرجل للمنافق: يا سيدي، فقد أغضب ربه عز وجل" 6، وقال: صحيح الإسناد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4599).
2 البخاري: الأدب (6168), ومسلم: البر والصلة والآداب (2641), وأحمد (1/392, 4/405).
3 الترمذي: الزهد (2395), وأبو داود: الأدب (4832), وأحمد (3/38).
4 أحمد (6/145).
5 أبو داود: الأدب (4977), وأحمد (5/346).
6 أبو داود: الأدب (4977), وأحمد (5/346).(10/159)
ص -151- ... وعن ابن مسعود مرفوعاً: "مثل الذي يعين قومه على غير الحق، كمثل بعير تردى في بئر، فهو ينزع بذنبه" 1، ورواه أبو داود وابن حبان؛ قال ابن المنذر: ومعنى الحديث: أنه وقع في الإثم، وهلك البعير إذا تردى في بئر، فصار ينزع بذنبه، فلا يقدر على الخلاص. والأحاديث في ذلك كثيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/401).
فصل: في ذكر الآثار عن السلف [ في تحريم موالاة المشركين]
وهي كثيرة، فنذكر منها بعضها: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 118] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة آل عمران آية: 119] والآية بعدها. قال ابن عباس: "في الآية رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن بطانتهم لخوف الفتنة عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [سورة آل عمران آية: 118]"، قال: "هم المنافقون"، رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قيل له: إن هنا غلاماً من أهل الحيرة، حافظاً كاتباً، فلو اتخذته كاتباً، قال: "قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين"، رواه ابن أبي شيبة. وعن الربيع، {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، قال: لا تستدخلوا المنافقين تتولونهم دون المؤمنين.(10/160)
ص -152- ... وفي تفسير القرطبي في الكلام على هذه الآية: نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكافرين واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولائج، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف دينك ومذهبك لا ينبغي أن تخادنه، قال القائل شعراً:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وفي سنن أبي داود: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "اعتبروا الناس بأخدانهم". ثم بين المعنى الذي لأجله ورد النهي عن المواصلة، قال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [سورة آل عمران آية: 118] يعني: فساداً يعني: لا يتركون فسادكم.
قال: "وقد مر أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه بحساب، فدفعه إلى عمر فأعجبه، فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد; فقال: لِم، أجنب هو؟ قال: إنه نصراني; قال: فانتهره، وقال: لا تُدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، لا تأمنهم وقد خونهم الله".
ومن كتاب الإمام محمد بن وضاح، قال: جاء في الأثر: "من جالس صاحب بدعة، فقد مشى في هدم(10/161)
ص -153- ... الإسلام"، وقال الأوزاعي: "كانت أسلافكم تشهد عليهم - أي: على أهل البدع - ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم"، وقال الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال إبراهيم: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم"، وروى هذه الآثار ابن وضاح.
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: اعلم، رحمك الله: أن كلام السلف في معاداة أهل البدع والضلالة 1، فإذا كان هذا كلام السلف، وتشديدهم في معاداة أهل الضلالات، ونهيهم عن مجالستهم، فما ظنك بمجالسة الكفار والمنافقين، وجفاة الأعراب، الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، والسعي في مصالحهم، والذب عنهم، وتحسين حالهم؟ مع كونهم بين اثنتين، إما كافر أو منافق، ومن يهتم بمعرفة الإسلام منهم قليل، فهذا من رؤوسهم وأصحابهم، وهو معهم، يحشر يوم القيامة، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية [سورة الصافات آية: 22]، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [سورة التكوير آية: 7]، وقد تقدم الحديث: "لا يحب رجل قوماً إلا حشر معهم" 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ضلالة لا تخرج عن الملة, لكنهم شددوا في ذلك, وحذروا منه لأمرين... إلخ. انظر صفحة: 314, 315, من القسم الأول من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب, رحمه الله.
2 أحمد (6/145).(10/162)
ص -154- ... فصل: في التنبيه على حاصل ما تقدم [ في حكم موالاة المشركين ]
قد نهى الله سبحانه عن موالاة الكفار، وشدد في ذلك، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم، وكذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أحب قوماً حُشر معهم؛ ويُفهم مما ذكرنا من الكتاب والسنة، والآثار عن السلف، أمور، مَن فعلها دخل في تلك الآيات، وتعرض للوعيد بمسيس النار، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
أحدها: التولي العام.
الثاني: المودة والمحبة الخاصة.
الثالث: الركون القليل، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74-75]. فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بغيره؟
الرابع: مداهنتهم ومداراتهم، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9].
الخامس: طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون، كما قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28]، وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآيات [سورة القلم آية: 10].
السادس: تقريبهم في الجلوس، والدخول على أمراء الإسلام.(10/163)
ص -155- ... السابع: مشاورتهم في الأمور.
الثامن: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين، أي أمر كان، إمارة أو عمالة، أو كتابة، أو غير ذلك.
التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
العاشر: مجالستهم ومزاورتهم، والدخول عليهم.
الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة.
الثاني عشر: الإكرام العام.
الثالث عشر: استئمانهم وقد خوّنهم الله.
الرابع عشر: معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل، كبرْي القلم، وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم.
الخامس عشر: مناصحتهم.
السادس عشر: اتباع أهوائهم.
السابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم.
الثامن عشر: الرضاء بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم.
التاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيم لهم، كتسميتهم سادات وحكماء، كما يقال للطواغيت: السيد فلان، أو يقال لمن يدعي علم الطب: الحكيم، ونحو ذلك.
العشرون: السكنى معهم في ديارهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، رواه أبو داود.
إذا تبين هذا، فلا فرق في هذه الأمور، بين أن يفعلها مع أقربائه منهم، أو مع غيرهم، كما في آية المجادلة؛ وحينئذ، فالذي يتسبب بالدفع عنهم حمية، إما بطرح نكال، أو دفن نقائص المسلمين، أو يشير بكف المسلمين عنهم، من أعظم الموالين المحبين للكفار، من المرتدين والمنافقين وغيرهم، خصوصاً المرتدين، ينبغي أن تكون الغلظة عليهم(10/164)
ص -156- ... أشد من الكافر الأصلي، لأن هذا عادى الله على بصيرة، وعادى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ما عرف الحق، ثم أنكره وعاداه والعياذ بالله.
فإذا كان من أعان ظالماً فقد شاركه في ظلمه، فكيف بمن يعين الكفار، والمنافقين على كفرهم ونفاقهم؟ وإذا كان من أعان ظالماً مسلماً في خصومة ظلم عند حاكم، شريكاً للظالم، فكيف بمن يعين الكفار، ويذب عنهم عند الأمراء؟ وإذا كان الحرامية الذين يأخذون أموال الناس، إذا بذلوا للأمير مالاً على أن يكف عنهم، فهو رئيسهم، فما ظنك بمن يسرّ إلى الكفار بالمودة، ويعلمهم أنه يحبهم، ليواصلوه ويكرموه؟ كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، وغيره...
ولكن طرح النكال، إن كان عن مسلم مظلوم، فالشفاعة فيه، والسعي في إسقاطه بالرأي ونحوه، حسن، وإن كان عن مرتد، فلا نعما لعثرته ولا كرامة؛ ويكفي في ذلك ما رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: "لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تأمرون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك، فاستبقهم لعل الله يتوب عليهم"، وفي حديث أنس، عن أحمد: "نرى أن تعفو عنهم،(10/165)
ص -157- ... وتقبل منهم الفداء"; وفي حديث ابن مسعود: فقال عمر: "يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم" فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أبا بكر: مثلك مثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة إبراهيم آية: 36]. ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [سورة نوح آية: 26]. أنتم عالة؛ فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء، أو ضرب عنق"; فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيتين [سورة الأنفال آية: 67]. مختصراً.
وفي حديث أنس: فأنزل الله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [سورة الأنفال آية: 68]; وفي حديث ابن عمر، عند أبي نعيم: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فقال: "كاد أن يصيبنا في خلافك شر"، وفي رواية عنه - عند ابن المنذر وابن مردويه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر".
فإذا كان هذا في رأي الصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، ونصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بمن يفعل ذلك، مع حمية دنيوية، لا لغرض دين، ولا يقصد وجه الله بذلك، بل لا يقصد إلا الدنيا؟(10/166)
ص -158- ... فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذم أبا بكر على التشبيه، بل شبهه بإبراهيم وعيسى وميكائيل، عليهم السلام، وشبه عمر بجبريل ونوح وموسى عليهم السلام. قيل: المراد في الموافقة في أهل اللين والرحمة، لا في خصوص هذه المسألة، فإن الصواب فيها مع عمر قطعاً بكتاب الله، ومع ذلك توعد الله في أخذ الفداء بالعذاب، لولا ما سبق من كتاب الله أنه رأي للصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، فكيف بمن ينصح لهم، ويرفق بهم، ويرى الكف عن القتال، ويشير بإسقاط النكال عنهم من غير مسوغ شرعي، بل لمجرد المحبة الدنيوية؟
وأما من يشير بكف المسلمين عنهم، فإن كان مراده بذلك تأليفهم، على الدخول في الإسلام، أو دخلوا فيه، أو واعدوه بالدخول فيه عن قريب، وكانت المصلحة في تركهم قليلة ونحوه، يجوز ذلك; وإن كان المراد به: أن لا يتعرض المسلمون لهم بشيء، لا بقتال ولا نكال، وإغلاظ ونحو ذلك، فهو من أعظم أعوانهم، وقد حصلت له موالاتهم مع بعد الديار، وتباعد الأقطار، كما قيل:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك
وأما من يشير بترك نقائص المسلمين لهم إن كانوا مرتدين، فهذا عند الفقهاء مخطئ آثم، لأنه يجب على(10/167)
ص -159- ... المرتد ضمان ما أتلفه للمسلمين في حال الردة، خصوصاً من تكررت منه الردة مراراً، فإنه لا يقصد بذلك في هذا الزمان، إلا الإغارة والنهب لا غير، فترك ذلك له من أعظم المعاونة على الإثم والعدوان؛ ولهذا لما صار هذا أمراً سائغاً عند بعض الناس، انفتحت للبدوان أبواب الردة، وأتوها مهطعين من كل وجه؛ ولو كان هذا مصلحة في بعض الأوقات رآها بعض الأمراء، فلا يجب طرد ذلك لكل أحد في كل زمان، فاعلم ذلك.
وأما قول السائل: هل يكون هذا موالاة نفاق؟ أم يكون كفراً؟
فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، وقال: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين" 1، رواهما أبو داود.
وإن كانت الموالاة لهم في ديار الإسلام إذا قدموا إليهم، ونحو ذلك، فهذا عاص آثم متعرض للوعيد. وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), وأبو داود: الجهاد (2645).(10/168)
ص -160- ... موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم، فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم.
ولكن ليتفكر السائل في قوله: حمية دنيوية، يمكن هذا لإبلاغ المحبة في قلوبهم، وإلا فلو كان يبغضهم في الله ويعاديهم، لكان أقر شيء لعينه ما يسخطهم، ولكن كما قال ابن القيم:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكانِ
وأما قول السائل: فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبهم، ما حكمه؟
فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكاً في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار; فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء: على أن من شك في كفر الكافر، فهو كافر.
وإن كان يقرّ بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم، فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9]، وله حكم أمثاله من أهل(10/169)
ص -161- ... الذنوب. وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفاراً فهم مسلمون; وحينئذ فمن سمى الكفر إسلاماً، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر، فيكون هذا كافراً.
وأما قوله: إذا عرفت هذا من إنسان ماذا يجب عليك؟
فالجواب: يجب عليك أن تنصحه، وتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وتعرفه قبيح ما ارتكبه؛ فإن تاب فهذا هو المطلوب، وإن أصر وعاند فله حكم ما ارتكبه: إن كان كفراً فكافر، وإن كان معصية أو إثماً فعاص آثم، يجب الإنكار عليه وتأديبه، وهجره وإبعاده حتى يتوب. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم من تخلف عن غزوة واحدة، ونهى عن كلامهم والسلام عليهم، فكيف بمن يوالي الكفار ويظهر لهم المودة؟
وسئل: هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية، لأجل التجارة، أم لا؟
الجواب: الحمد لله، إن كان يقدر على إظهار دينه، ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك؛ فقد سافر بعض الصحابة، رضي الله عنهم، كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة، إلى بلدان المشركين، لأجل التجارة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في مسنده وغيره.(10/170)
ص -162- ... وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم، لم يجز له السفر إلى ديارهم، كما نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث، التي تدل على النهي عن ذلك، ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز.
وأيضاً، فقد يجره ذلك إلى موافقتهم، وإرضائهم كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين، من فساق المسلمين، نعوذ بالله من ذلك.
المسألة الثانية: هل يجوز للإنسان أن يجلس في بلد الكفار، وشعائر الكفر ظاهرة لأجل التجارة؟
الجواب عن هذه المسألة هو الجواب عن التي قبلها سواء، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب أو دار الصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز له السفر إليها.
المسألة الثالثة: هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين، والمدة البعيدة؟
الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلد لا يقدر على إظهار دينه فيها، ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها ولا يوماً واحداً، إذا كان(10/171)
ص -163- ... يقدر على الخروج منها.
المسألة الرابعة: في معنى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" 1.
الجواب: أن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين، من غير إكراه ولا إنكار، ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم، لأن ذلك يتضمن الرضاء بالكفر، والرضاء بالكفر كفر. وبهذه الآية ونحوها، استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه لأن الحكم على الظاهر، وهو قد أظهر الكفر، فيكون كافراً. ولهذا لما وقعت الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أناس أنهم كرهوا ذلك، لم يقبل منهم الصحابة ذلك، بل جعلوهم كلهم مرتدين، إلا من أنكر بلسانه وقلبه. وكذلك قوله في الحديث: "من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" 2 على ظاهره، وهو أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع، والنصرة، والمنزل معهم، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يوالي المشركين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).
2 أبو داود: الجهاد (2787).(10/172)
ص -164- ... ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا، وظن بعض الصحابة أنهم مسلمون، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، قال السدي وغيره من المفسرين: إنهم كانوا كفاراً، ولم يعذر الله منهم إلا المستضعفين.
المسألة الخامسة: هل يقال لمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام أنه منافق، أم لا؟
الجواب: أنه من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه، كارتداده عند التحزيب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ معهم، وإن غلب المسلمون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه، وتسميته منافقاً. وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلون ذلك كثيراً، كما قال حذيفة، رضي الله تعالى عنه: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً"، وكما قال عوف بن(10/173)
ص -165- ... مالك لذلك المتكلم بذلك الكلام القبيح: "كذبت، ولكنك منافق"; وكذلك قال عمر في قصة حاطب: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"; وفي رواية: "دعني أضرب عنقه فإنه منافق"، وأشباه ذلك كثير. وكذلك قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة، لما قال ذلك الكلام: "كذبت ولكنك منافق، تجادل عن المنافقين". ولكن ينبغي أن يعرف: أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهراً، وبين كونه منافقاً باطناً; فإذا فعل علامات النفاق، جاز تسميته منافقاً لمن أراد أن يسميه بذلك، وإن لم يكن منافقاً في نفس الأمر، لأن بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئاً لا علم عنده، أو لقصد يخرج به عن كونه منافقاً، فمن أطلق عليه النفاق لم ينكر عليه، كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسيد بن حضير تسميته سعداً منافقاً، مع أنه ليس بمنافق، ومن سكت لم ينكر عليه، بخلاف المذبذب الذي ليس مع المسلمين، ولا مع المشركين، فإنه لا يكون إلا منافقاً.
واعلم: أنه لا يجوز إطلاق النفاق على المسلم بالهوى والعصبية، أو لكونه يشاحن رجلاً في أمر دنيا، أو يبغضه لذلك، أو لكونه يخالف في بعض الأمور، التي لا يزال الناس فيها مختلفين؛ فليحذر الإنسان أشد الحذر، فإنه قد صح في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن رمى مؤمناً بكفر فهو(10/174)
ص -166- ... كقتله؛ وإنما يجوز من ذلك ما كانت العلامات مطردة في النفاق، كالعلامات التي ذكرنا وأشباهها، بخلاف مثل الكذبة والفجرة ونحو ذلك، وكان قصد الإنسان ونيته إعلاء كلمة الله، ونصر دينه.
المسألة السادسة: في الموالاة والمعاداة، هل هي من معنى لا إله إلا الله، أو من لوازمها؟
الجواب: أن يقال: الله أعلم، لكن بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم أو عشيرتهم. وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه، مما يفضي إلى شر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشركين، ووالوا المسلمين، فالسكوت عن ذلك متعين، وهذا ما ظهر(10/175)
ص -167- ... لي، على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى، والله أعلم.
[رد قول ابن نبهان أنه لا جهاد إلا مع إمام، وبيان حكم الجهاد والهجرة وموالاة المشركين ]
قال الشيخ عبد الرحمن، رحمة الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن: إلى الابن صالح، سلمه الله تعالى آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، بلغنا: أن الباز أرسلوا لابن نبهان رسالة، كتبها حمد بن عتيق، متضمنة للاستدلال بالآيات المحكمات، في تحريم طاعتهم والركون إليهم، والإشارة إلى بعض معاني الآيات الواردة في ذلك، وهو أصل من أصول الدين لا بد من معرفته والبحث عنه، وبيانه للجاهل، لا سيما الواقع فيه، تذكيراً وتحذيراً، وهذا شرع محكم، لو اجتمع على دفعه من بأقطارها من عالم وجاهل، لما قدروا على رده بحجة أصلاً.
وبلغنا: أن ابن نبهان، لما أشرف على النسخة، كتب اعتراضات وأصل فيها أصولاً، لا يدري هل سبقه إليها مبتدع أم لا؟ فلو قيل لهم: من هذا مذهبه؟ ومن قال به؟ لم يجب عن ذلك بما يصلح أن يعد جواباً. فمن ذلك فيما بلغنا عنه: أنه لا جهاد إلا مع إمام، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد، فيلزم على هذا أن ما يلزم بترك الجهاد من مخالفة دين الله وطاعته جائز، بجواز ترك الجهاد، فتكون الموالاة للمشركين،(10/176)
ص -168- ... والموافقة والطاعة جائزة، واللازم باطل، فبطل الملزوم؛ فعكس الحكم الذي دل عليه القرآن العزيز، من أنها لا تصلح إمامة إلا بالجهاد.
والأصل الثاني فيما بلغنا عنه: أنه قال: لا حجة فيما قاله الصحابة، رضي الله عنهم، في معنى القرآن العزيز؛ فإذا لم يكن قول الصحابة حجة، وهم الذين أخذوه عن نبيهم، وحضروا نزوله، وعرفوا أسبابه، وهم أعلم الأمة وأعدلها، الحجة في التفسير، فليت شعري هل عرف من هذا مذهبه من المبتدعة، إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى أن نطيل بذكره. والحاصل: أن المطلوب منك: أخذ ما كتبه وإرساله إلي لأنظر فيه، ليطالب في كل لفظة ببرهانها، وليظهر تناقضه؛ فإن المقام مقام لا يسع تركه، فلو كان قد صدر ممن لا يدعي المعرفة، لكان حقيقاً بالإعراض عنه، وأما من هو مثل هذا الذي يدعي أنه يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فلا بد من بيان ما فيه، لئلا يغتر به جاهل؛ فإذا تبين ما فيه من الغلط والتناقض، دفع الشبهة عن ضعيف البصيرة، إن شاء الله تعالى. وهنا سؤال أسأله عنه، وأطلب جوابه منه، سله عن كلمة الإسلام التي هي أصل دين الله، عن معناها، وعن(10/177)
ص -169- ... مضمونها، وعن مدلولها، ومقتضاها، وحقها وحقيقتها، ولوازمها؛ فإن عرف ذلك تبين أنه قد عرف وأنكر؛ فإن لم يعرف ذلك وهو يدعي المعرفة، بطلت دعواه أصلاً؛ فإن خبط فالتخبيط لا ينفع أحداً ولا يفيد، فألزمه الجواب فهو حجة عليه. والله الموفق لبيان الهدى، والاستقامة عليه، والسلام.
فلما وصل إليه اعتراضات ابن نبهان، أوضح الحق من البهتان، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعد، فإنه ورد علينا رسالة من صاحبنا حمد بن عتيق، نور الله قلوبنا وقلبه بنور الإيمان، وثبتنا بالقول الثابت، عند تلاطم أمواج الامتحان، والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان، لكن بمحنة حزبه من حربه، ذا حكمه مذ كانت الفئتان، فوجدت تلك الرسالة وافية بالمقصد الأعلى، والمنهج الأسنى، منهج أهل الحنيفية، والدعوة الإسلامية، من تحذير المغرورين والجاهلين، عن مداهنة الظالمين، وموالاة الكافرين ومظاهرة المسرفين، مستنداً في(10/178)
ص -170- ... ذلك إلى أوضح البراهين، من أدلة الكتاب والسنة، وإبراز معناهما المأثور عن الأئمة المحققين.
هذا، وقد وقع من بعض من لا إلف له بهذا الشأن، ولا جواد تحته تصلح للجري في هذا الميدان، بعض معارضات، إنما هي ضلالات وجهالات، ما اقتضى حين وقفت عليها بيان سلوك منهج العلماء، أهل الاتباع، والتحذير من موارد أهل الابتداع، كي تحصل السلامة إن شاء الله من موجب وعيد أهل الكتمان، والقيام بالنصيحة بالقلم واللسان; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذه مقدمة نافعة قبل الشروع في المقصود: قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33]، أخرج ابن جرير بسنده عن معمر، قال: تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة فصلت آية: 33]، قال: "هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله. أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين؛ فهذا خليفة الله". وخرج بإسناده عن قتادة، قال: "هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسره علانيته، وشاهده مغيبه. وأن المنافق خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه،(10/179)
ص -171- ... وسره علانيته، وشاهده مغيبه".
وأخرج في معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30]، بسنده عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام". وأخرج بسنده عن الزهري، قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، قال: "استقاموا والله على طاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب". وذكر في معنى قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] أي: "اعملوا به على ما شرع لكم ورضي به، ولا تتفرقوا فيه". وأخرج بسنده عن قتادة: "تعلموا: أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة"; وذكر في معنى قول الله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة الشورى آية: 15] يقول: فلذلك الدين الذي شرع لكم، ووصى به نوحاً، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله واستقم على العمل به، ولا تزغ فيه واثبت عليه، كما أمرك ربك بالاستقامة.
قوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة المائدة آية: 48]، يقول تعالى: ولا تتبع أهواء الذين شكوا في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين،(10/180)
ص -172- ... وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [سورة الشورى آية: 15]: مواثيق أخذها منهم، والكتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب، توراة، أو إنجيلاً، أو زبوراً، أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعضه.
وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [سورة الشورى آية: 15]، يقول تعالى: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي لأعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعاً بالحق الذي أمرني به، وبعثني بالدعاء إليه. وساق بسنده عن قتادة، قال: "أمره الله أن يعدل حتى مات، والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه".
وقال البغوي في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود آية: 112]: أي: على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [سورة هود آية: 112] أي: لا تجاوزوا الأوامر، ولا تعصوني. {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113]، قال ابن عباس: "لا تميلوا"; والركون هو: الميل بالقلب والمحبة. وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم". وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة; وعن عكرمة: لا تطيعوهم; وقيل: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: فتصيبكم، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113].
فمن هذه الآيات، وما ذكرناه قبلها، من ثواب أهل(10/181)
ص -173- ... الاستقامة، وعقاب أهل الركون إلى الذين ظلموا، عرف ما بين أهل الاستقامة وأهل الركون من التفاوت العظيم، كما قال بعض العلماء: وإنما تفاوت الواجبات والمحرمات، بتفاوت المثوبات والعقوبات؛ فحال الفريقين متفاوتة أبعد تفاوت، لتفاوت ما بين ثواب هؤلاء وعقاب هؤلاء.
ويزداد هذا المقام إيضاحاً، بالتفكر في اثنتين عظيمتين: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 13-14]، نفى عنهم الخوف والحزن، وأخبر أنهم أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون، أي من توحيد الله وطاعته، وامتثال أمره وترك نهيه.
وقال تعالى فيمن سلك غير سبيلهم، بارتكاب ما نهى الله عنه: { تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآية [سورة المائدة آية: 80]، فسجل تعالى على من تولى الكافرين، بالمذمة وحلول السخط عليهم، والخلود في العذاب، وأكد ذلك بنوعي التوكيد. ثم ذكر أن هذا الذي وصفهم به، ينافي الإيمان بالله والنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه; ولها نظائر كقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات [سورة النساء آية:(10/182)
ص -174- ... 138-139].
فما أعظم ثواب أهل الاستقامة! وما أفظع عقاب متولي الكافرين! فكان الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ فلا إله إلا الله، ما أبين هذا القرآن العظيم، لمن استضاء بنور العلم والإيمان! أفيظن من له أدنى مسكة من عقل، أن هذا التفاوت بهذه الأعمال، وتفاوت ثوابها وعقابها، إنما هو في حق من سلف دون من تأخر وخلف؟ وقد قال تعالى في جنس من خلف: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الآية [سورة مريم آية: 59]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} الآيتين [سورة القلم آية: 35-36].
أفيظن مسلم أن وقوع ذلك من بعض من تقدم من هذه الأمة، جائز عليهم بكل حال، وأما من تأخر فمن الممتنع المحال؟ هيهات، لقد أحصيت الحسنات والسيئات على الآخر، كما أحصيت على الأول، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [سورة الجاثية آية: 21].
وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، في رسالة وقعة التتار، قال: فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله تعالى في كتابه(10/183)
ص -175- ... وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها. وإنما قص الله علينا قصص الأمم قبلنا، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر هذه الأمة بأولها، فيكون للمؤمن من المستأخرين، شبه بما كان للمؤمنين من المستقدمين، ويكون للكافرين والمنافقين من المستأخرين، شبه بما كان للكافرين والمنافقين من المستقدمين، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [سورة يوسف آية: 111].
وقال لما ذكر قصة فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [سورة النازعات آية: 25-26]، وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة آل عمران آية: 13]، وقال في قصة محاجة بني النضير: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2]، فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين من هذه الأمة، وما قبلها. انتهى.
وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1]، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19]، وأنزل الله عليه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما(10/184)
ص -176- ... اختلفوا فيه من حين البعثة إلى أن تقوم الساعة؛ فهو خاتم النبيين، وعلى ملته وشريعته تقوم الساعة، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
وبهذا يعلم: أن خطاب الله، وأحكام الكتاب والسنة، تتعلق بجميع المكلفين من هذه الأمة، لا يختص به أول عن آخر، وهذا مع ظهور ما في الكتاب والسنة، فهو إجماع في الأمة سلفاً وخلفاً، ولا يرتاب في هذا أحد ممن ينتسب إلى الإسلام.
ولهذا صنف العلماء، رحمهم الله، في كل عصر ومصر، في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول وغيرها، حفظاً للدين والشريعة، ليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة. ولما عظمت الفتنة، وظهر الجهل والظلم، عاد الإسلام غريباً، وصار الأمر كما ترى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وذكر أبو سليمان الخطابي، في معالم السنن: أن خطاب الله على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(10/185)
ص -177- ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183]، ونحو ذلك من أوامر الشريعة.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين عن غيره بسمة التخصيص، وقطع الشريك، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [سورة الإسراء آية: 79]، وكقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأحزاب آية: 50]، وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع الأمة في المراد سواء، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [سورة الإسراء آية: 78]، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل آية: 98]، وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [سورة النساء آية: 102]، ونحو ذلك من خطاب المواجهة؛ فكلما دلكت الشمس، كان عليه إقامة الصلاة واجبة، وكل من أراد قراءة القرآن، كانت الاستعاذة معتصماً له، وكل من حضره العدو وخاف فوات الصلاة، أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته.
ومن هذا النوع، قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة آية: 103]، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب، لأنه هو الداعي إلى الله، المبين عنه مراده، فقدم اسمه في الخطاب، ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه، ويبينه لهم. انتهى.(10/186)
ص -178- ... قلت: ومن هذا النوع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الآية [سورة الأحزاب آية: 1]. ومن الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة المائدة آية: 51]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة المائدة آية: 57]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة الممتحنة آية: 1]، وهذه وإن كان سبب نزولها في حاطب بن أبي بلتعة، حين كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه خاطب المؤمنين بهذا الحكم عموماً، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 1] معشر المخاطبين، كائناً من كان، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة البقرة آية: 108]. وهذا شامل لكل فرد من أفراد الأمة، من المستقدمين والمستأخرين، لا يرتاب في هذا مسلم قط. وفي ذكر سبب النزول بيان جنس التولي الذي نهى الله عنه؛ وهذا ظاهر جداً لمن استنار قلبه بنور العلم والإيمان.
وأما من طفى نوره بظلمات الفتنتين، فتنة الشبهات والشهوات، فلا يدرك الحقائق على ما هي عليه، لفساد تصوره، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ(10/187)
ص -179- ... تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج آية: 46]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية [سورة الزخرف آية: 36]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية [سورة الأنعام آية: 125]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} الآية [سورة الأنعام آية: 25]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40].
فاقتضت حكمة الرب تعالى: أن ابتلى أهل البلاد النجدية، بصولة هذه الدولة المصرية، كما قد ابتلى من قبلهم من هذه الأمة وغيرها، بما ابتلاهم به تمييزاً واختباراً، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} الآية [سورة التوبة آية: 16]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآيات [سورة الحج آية: 11]. وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} الآيات [سورة العنكبوت آية: 1-2]، فجرى بسبب هذه المحنة من نفاق الناس، واضطراب القلوب، واختلاف الدين، ما لا متسع لذكره في هذه الأوراق؛ ولكن لما كان يشبه لما ذكره شيخ الإسلام، في واقعة التتر، اقتضى أن نذكر كلامه هنا، لقوة المشابهة بين الحادثتين وما جرى فيهما، لما فيها من الفوائد والعبر:(10/188)
ص -180- ... قال، رحمه الله: فينبغي للعقلاء، أن يعتبروا بسنة الله وآياته في عباده، ودأب الأمم وعادتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار المسلمين شررها، وأطلع النفاق ناصية رأسه، وكشف الكفر فيها عن أنيابه وأضراسه، وكاد منها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن يقطع ويصطلم، وعقر دار المسلمين أن يحل بها البوار، ويزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض، أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، وأن لن ينقلب الرسول والمؤمنين إلى أهليهم أبداً، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بوراً.
وقد نزلت فتنة، تركت الحليم فيها كالحيران، وأنزلت الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما وضع بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفر عن آخرين أعمالهم الخاطئة.
وحدث فيها من أنواع البلوى ما جعلها مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد،(10/189)
ص -181- ... كما يتفرقون في ذلك اليوم الموعود، وفر الرجل فيها عن أمه وأخيه، وكان لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وكان من الناس من كان أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله، ولا ولده ولا عرسه، وكان منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، والآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع؛ وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم ينفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر، وظهرت فيها الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيل، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، واتخذ مع الرسول سبيلاً.
وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون، وواطأها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة، حتى تحزب الناس ثلاثة أحزاب: مجتهد في نصرة هذا الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس بين مأجور ومعذور، وآخر غره بالله(10/190)
ص -182- ... الغرور؛ وكان هذا الامتحان تمييزاً من الله وتقسيماً، { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 24]، أي: يتوب عليهم إذا تابوا. انتهى.
وهذا حين الشروع في الجواب عما اعترض به، قال: وبعد، جاءنا من عندكم أوراق، فلما أشرفت عليها، إلى أنها آيات من كتاب الله، وكتاب الله هو الحجة القاطعة. فأقول: هذا كلام ينبئ عن حال قائله، بأنه لا خبرة له بشيء من أنواع البحث والمناظرة أصلاً؛ فإنه أسس فيه ما ينقض عليه، وهو قوله: كتاب الله هو الحجة القاطعة. وهذا الكلام يوجب أن يقابل بالقبول والتسليم، ويقتضي من قائله الإقبال على فهم المراد منه والعمل به، وأن لا ينصب نفسه خصماً له.
واعلم: أن أصول أدلة الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع، والقياس والاستصحاب، وفيهما تفصيل ومسالك لأهل العلم؛ وأما الثلاثة الأول، فلا اختلاف فيها عند جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام. فكل قول يقوله هذا المعترض وغيره، فهو مطالب بالدليل، إما من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن قام الدليل وإلا فقوله رد عليه. فتنبه لهذا الأصل واستصحبه، يرحمك الله به من هذه الأغاليط.
ثم قال: وأتبعتها بنقول عن الشيخين، يعني شيخ(10/191)
ص -183- ... الإسلام أحمد بن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وعلى كلامهم المعمول... إلخ. أقول: هذا قول من يجهله حال نفسه، مع ما هو مشتمل عليه من اللحن؛ وهكذا حال من لا يعرف عربية ولا إعراباً. ثم إنه لا يخفى حال الشيخين المذكورين، فإنهما قاما لله بالدين القويم، والدعوة إلى صراط الله المستقيم، فيلزم من عرف أنهما القدوة، أن لا يعدل عن طريقتهما علماً وعملاً، وهذا تأسيس لنقض اعتراضك، وتحقيق ذلك يعلم بمطالعة ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في واقعة التتر، ومطالعة عشر الدرجات، لشيخنا إمام الدعوة الإسلامية، في معنى قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وفي ثمان الحالات في معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الآيات [سورة يونس آية: 104]. فإذا كان هما القدوة، وكلامهما المعمول، فيلزمك أن تعول على ما سترى من كلامهما، حتى يكون لقولك حقيقة، ولا أخالك تفعل. شعراً:
إذا لم توافق قولة منك فعلة ... ففي كل جزء من حديثك تُفضحُ
وقولك: لكنك أخليت حين استدللت بالآيات، عن(10/192)
ص -184- ... بيان سبب نزولها، عن حكمها، وفيمن نزلت... إلخ.
فأقول، وبالله التوفيق: قد أمكنت الرامي من سواء الثغرة، هذا كلام في غاية الركاكة لفظاً ومعنى، ويشعر بأن قائله لا معرفة له في شيء أصل؛ً، ولو ذهبنا نذكر ما فيه من سوء التعبير، لطال الجواب عن بيان خصال لا تخفى على من له معرفة بالكلام، صحيحه وسقيمه.
ثم لا يخفى: أن هذا الكلام على ما فيه، شروع منك في نقض ما أسسته من قولك: أن كلام الله هو الحجة القاطعة، فحاولت في هذه العبارة، أن لا يحتج به على أهل وقت أنت فيهم. فإذا كان أحكام القرآن مقصورة عندك، على من نزل بسببهم، فكيف يكون حجة قاطعة على غيرهم؟ هذا تناقض منك بيِّن؛ أسست ثم هدمت.
ثم يقال لك: فمن أخذت عنه هذا؟ ومن قال من الأمة: إن خطاب الله في كتابه، وخطاب رسوله في سنته، إنما يتعلق بمن نزل بسببهم دون غيرهم؟ هذا لا يقوله أبلد الناس، وأجهلهم بالشريعة وأحكامها، بل ولا يتجاسر أن يقوله أحد، ممن يجادل بالباطل، صوناً لنفسه عن التجهيل والتضليل، لأن هذه على الجهالة والضلالة من أبين دليل، ولما يلزم قائله من تعطيل الشريعة، والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: قتال من ارتد عن الإسلام، بعد وفاة(10/193)
ص -185- ... نبيهم صلى الله عليه وسلم لكونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، كما في قصة الصديق مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قال: "فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق". فيلزمك على هذا القول أنه ليس بحق، واللازم باطل، فبطل الملزوم. ويلزم أيضاً على هذا القول المختلق: أن الصحابة، رضي الله عنهم، أخطؤوا في قتال الخوارج، لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ولهم عبادات وقراءة وعلم، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 1 خطأ. ومن المعلوم: أن أولئك الخوارج، قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان، لم يكن خروجهم حين نزول القرآن، ولا وجود لهم في خلافة أبي بكر، وإنما خرجوا في الفتنة، بعد قتال علي ومعاوية، رضي الله عنهما، بصفين. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهم سيخرجون، وقال فيهم: "يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم" 2 الحديث. ولازم هذا القول الفاسد أيضا: أنه لا يستدل أحد بآية من كتاب الله، ولا بحديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا رد عليه كلامه، أو صاحب هوى، فالحكم مقصور على من نزل بسببهم، وتعطلت الشرائع والأحكام والحدود؛ واللازم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7432), ومسلم: الزكاة (1064), والنسائي: الزكاة (2578), وأبو داود: السنة (4764), وأحمد (3/68).
2 البخاري: المناقب (3611), ومسلم: الزكاة (1066), والنسائي: تحريم الدم (4102), وأبو داود: السنة (4767), وأحمد (1/131).(10/194)
ص -186- ... باطل، فبطل الملزوم. ولو أرخيت عنان القلم، لذكرت من لوازمه أموراً عظيمة، لا يقولها من يؤمن بالله ورسوله؛ وإنما غرضنا التنبيه على طريق الحق، وإبطال الباطل، وبيان أن الحق مع من يرد عند التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة الشورى آية: 10]. وهذا الخطاب من الله يتعلق بجميع من بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثقلين، من لدن بعثته إلى قيام الساعة {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19].
وتأمل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1]، فواجه سبحانه المؤمنين بهذا الخطاب، إنذاراً وتعذيراً؛ ولا ريب أنه يتعلق بكل مؤمن بالله وكتابه ورسوله، من الذين نزل فيهم القرآن، ومن حضر نزوله، ومن بعدهم إلى قيام الساعة.
وليس من الجائز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أن يقول: هذه الآيات نزلت في شأن حاطب، لما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصر حكم هذا الخطاب العام، على من نزل هذا الحكم بسببه. فإذا كان لا يمكن(10/195)
ص -187- ... أحد أن يقول ذلك، فهذا أيضاً لا يختص بأوائل هذه الأمة دون أواخرها، لأن خطاب القرآن والسنة يتعلق بكل فرد من الأولين والآخرين، بلا نزاع بين الأمة؛ إلا أن الرافضة نازعوا في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103]، أن هذا الحكم خاص به، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة؛ وهذا وإن خرج مخرج الخصوص، فهو عام، وأدلته أكثر من أن يحتملها هذا المحل.
وكل خطاب في القرآن والسنة، بأمر أو نهي، فهو كذلك، لأن الله ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء، وعلى شريعته وأمته تقوم الساعة، كما في الحديث الصحيح: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". وهذه الطائفة، وكل طائفة من الثنتين والسبعين، تنتسب إلى أنها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ترى في نفسها إلا أنها هي التي على الحق دون غيرها.
وقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمة، رحمه الله تعالى، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، تناول عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها... إلى آخر كلامه; فأعد النظر فيه.(10/196)
ص -188- ... ومثل هذه الآية، التي تقدم ذكرها، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية [سورة المائدة آية: 57]، وقال تعالى في الآيات قبلها: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51]. وهذه الآية وأمثالها، تعرف بعظم هذا الذنب: في هذه الآية، قد جعلها تعالى من موانع الهداية، ووصف الفاعل بالظلم، فسماهم الظالمين، وفي هذه السورة وغيرها قبلها وبعدها في السور، ما يدل على أن هذا ردة عن الإسلام، يظهر فيها لمن تدبر.
وصرح شيخنا، رحمه الله، في رده على ابن سحيم وغيره، وسبقه إلى ذلك العلماء، كأبي جعفر ابن جرير في تفسيره، وبرهانه ظاهر في القرآن - ولله الحمد والمنة - والناس إنما يعرفون بأعمالهم، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية [سورة التوبة آية: 105]. فإذا عمل العبد بأعمال أهل الإيمان، ولم يأت بما ينافي ذلك، صار مؤمناً مع المؤمنين للآية، وإن عمل بأعمال أهل النفاق، من الكفرة والمرتدين، صار منهم ولا بد، وإن كان من أرفع الناس نسباً وأكثرهم مالاً وحسباً، شاء أم أبى. فلا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، وما أحسن ما قال الحسن البصري، رحمه الله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".(10/197)
ص -189- ... فإذا كنت إنما تعرف الناس بالأشخاص لا بالأعمال، فكيف تدعي معرفة التوحيد، وأنت لا تميز أهله من ضدهم، ولا تعرف ما يناقضه؟ وقد عد العلماء، رحمهم الله، - كصاحب الإقناع - من نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة ناقض، وقد وقع أكثر الناس فيها اليوم، بسبب هذه الفتنة؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بالتوحيد. ولو ذهبنا نعد ما وقع من ذلك لطال الكتاب، وذو البصيرة يرى ويبصر.
وقد ذكر شيخنا: الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أن الناس في زمانه تنوعت أحوالهم في الدعوة الإسلامية، أربعة عشر نوعاً، ليس منهم يهودي ولا نصراني، ولا رافضي ولا جهمي، ولا معتزلي، وكل هذه الأنواع قد خالفوا ما جاءت به الرسل من دين الله تعالى؛ فرحمه الله وأحسن له المآب. ولعلك أن تكون من أولئك الأنواع وأنت لا تشعر.
وأما قولك: وكلام الشيخين، تعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا محمد بن عبد الوهاب، استدللت به، وأطلقته على أناس متصفين بالإسلام... إلخ.
فالجواب أن يقال: لا ريب أن هذا الكلام لا يقوله من يعرف الإسلام ; فإن قلت: أنا أعرفه، فعرّفه لنا. وقد كنت سألتك عن تعريفه، وحقيقته ومقتضاه، ومدلوله، ولازمه وحقه، فلم تجب إلا بأن سردت هذه الجمل سرداً، كما(10/198)
ص -190- ... سردتها لك في السؤال، فما أجبت عن واحدة منها.
فإذا كنت لا تعرف من الإسلام إلا ما يعرفه جهلة العوام، فدع عنك التعرض لأهل الإسلام، بالسفسطة في الكلام تصنعاً، عند من لم يعرف الشحم من الأورام. فليتك أمي تدري أنك لا تدري، ولم تكن من قبيل من لا يدري أنه لا يدري. أما سمعت الله يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113]؟ أما علمت أن النار خلقها الله للأولين والآخرين، ممن عصى الله وترك الدين الذي بعث الله به المرسلين؟
وما يدريك أن هذه الآية قد أصيب بها أهل القصيم، في حادثتهم القريبة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة؟ فإنهم فعلوا كفعل أناس فيكم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227]. وقد فرض الله تعالى البراءة من الشرك والمشركين، والكفر بهم وعداوتهم، وبغضهم وجهادهم، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59]، فوالوهم وأعانوهم، وظاهروهم واستنصروا بهم على المؤمنين، وأبغضوهم وسبوهم من أجل ذلك.
وكل هذه الأمور تناقض الإسلام، كما دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره العلماء، رحمهم الله، في(10/199)
ص -191- ... كتب التفسير والفقه وغيرها. وعند هؤلاء وأمثالهم أنهم على الدين الذي كانوا عليه لم يفارقوه، وهذا ليس بعجب، فقد بين القرآن العزيز، أن هذه الحال هي طريقة أمثالهم، كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الأعراف آية: 30]، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} الآيات [سورة الزخرف آية: 36]. فإذا أردت معرفة ما فرضه الله على عباده مما تقدم ذكره، فاذكر قول الله تعالى عن أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} الآية [سورة الكهف آية: 14]، علموا أنه لا يصلح لهم دين إلا باعتزالهم، واعتزال معبوداتهم، ولو لم يجدوا إلا غاراً في الجبل في البرية، وهل قالوا: وأين نهاجر؟ ولا ثمَّ بلد إسلام، ولا إمام لنا ولا أعوان، كما قال هؤلاء الجهلة، الذين آثروا الدنيا على الدين. وتأمل ما قال الله في السورة بعدها عن خليله إبراهيم، إمام الحنفاء: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [سورة مريم آية: 43-44]؛ فمن كان عصياً للرحمن، فطاعته معصية لله. ثم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة مريم آية: 48]، وقال: {قَدْ كَانَتْ(10/200)
ص -192- ... لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} الآية [سورة الممتحنة آية: 4]. فمن تدبر هذه الآيات، عرف التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وعرف حال المخالفين لما عليه الرسل وأتباعهم، من الجهلة المغرورين الأخسرين.
قال شيخنا الإمام، رحمه الله، في سياق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى التوحيد، وما جرى منهم عند ذكر آلهتهم، بأنهم لا ينفعون ولا يضرون، أنهم جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]. فإذا فهمت هذا فهماً جيداً، عرفت أن كثيراً ممن يدعي الدين لا يعرفها. وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب، والضرب والأسر، والهجرة إلى الحبشة؟ مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولو وجد لهم رخصة أرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10]. فإذا كانت هذه الآية فيمن وافق بلسانه إذا أوذي،(10/201)
ص -193- ... فكيف بغير ذلك؟ يعني من وافقهم بالقول والفعل بلا أذى، فظاهرهم، وأعانهم، وذب عنهم وعمن وافقهم، وأنكر على من خالفهم، كما هو الواقع. وتأمل قول شيخنا، رحمه الله: إذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام... إلى آخر كلامه; وقد تقدم ما يدل على هذا، وبالله التوفيق.
لقد أحسن من قال من السلف: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فإذا كان الأمر هكذا، فلا تأمن على نفسك الارتداد عن الدين، في مثل هذه الفتنة العظيمة، خصوصاً إذا عرفت أن العلماء، رحمهم الله، ذكروا الردة من نواقض الوضوء؛ وذلك أن الرجل قد يتوضأ مريداً الصلاة، فيتكلم، أو يعمل عملاً، أو يعتقد اعتقاداً يفسد إسلامه، فينتقض وضوؤه، عياذاً بالله من مفسدات الدين، ومحبطات الأعمال.
وأما اعتراضكم على من أنكر هذه الأمور التي حدثت في الدين، حين استدللت بآية النساء، فهو اعتراض من لا يعرف معناها، ولا ألم بقلبه، ولا أصغى إلى ما ينفعه. وقد ذكر شيخنا الإمام، رحمه الله، حاصل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية، فإنه قال في قصة الهجرة: وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها،(10/202)
ص -194- ... وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر من غير شك في الدين، ولكن محبة الأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا معهم كارهين، فقُتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلما سمع الصحابة، رضي الله عنهم أن من القتلى فلاناً وفلاناً، شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيات [سورة النساء آية: 97]؛ فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، فإن الله قد بين لهم وهم بمكة قبل الهجرة، أن ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} الآيات [سورة النحل آية: 106].
وأبلغ من هذا: كلام الله فيهم، فإن الملائكة تقول لهم: فيم كنتم؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ ولما قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، لم يقولوا: كذبتم، مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، بل قاتلت ليقال جريء; وأما هؤلاء فلم يكذبوهم، بل أجابوهم: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97].
ويزيد ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل: الآية التي بعدها، وهي قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [سورة النساء آية: 98]، وهذا واضح جداً: أن هؤلاء هم الذين(10/203)
ص -195- ... خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم، بخلاف من لم يطلبه؛ بل قال الله فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18]. ومن فهم هذه المواضع، فهم كلام الحسن، يعني: الذي قدمت ذكره.
فتأمل كلام شيخنا، رحمه الله، وانظر ما وقع في هذه الفتنة من الاستهزاء بالدين والمسلمين، وغير ذلك مما لا يخفى على كل عاقل، أنه عداوة لله ودينه، وعداوة لمن ثبت على الدين وعادى المشركين، وانظر ما الذي أوجب تلك المسبة والبغضاء لأهل الإسلام المتمسكين بالتوحيد، وقد كانوا قبل ذلك مجتمعين على الإسلام، متناصرين بالانتساب.
وأما قول المعترض: واستدللت أيضاً بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24]، هذه نزلت في أناس تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... إلخ.
فيقال: من أين لك هذه الدعوى؟ وفي أي كتاب وجدتها؟ وحقيقة قولك هذا: الكذب، والقول على الله بلا علم، وهو من أعظم المحرمات، وهو أصل كل باطل. أما تدبر أول الآيات وسياقها، ولو كنت تعرف التدبر لعقلت عن الله خطابه، وهديت إلى فهم مراده، لكنك أخذت الأمر بتعسف من لا يبالي، ولا عنده معرفة شيء سوى تغطية الحق بالجحود والتكذيب.(10/204)
ص -196- ... أما علمت أن الكفر بآيات الله، إنما هو جحودها، والإلحاد في معناها، وقد كفّر الله من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. فإذا أردت الاطلاع على ما قد جحدت من معنى هذه الآيات، فخذ كلام أئمة التفسير المشهور، عند كل من هو به خبير، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} الآية [سورة التوبة آية: 23]، قال مجاهد بن جبر - صاحب ابن عباس رضي الله عنه -: نزلت في قصة العباس وطلحة، وامتناعهما من الهجرة. قال الكلبي عن ابن عباس، قال: "لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده ويقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا؛ فيرق عليهم ويدع الهجرة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [سورة التوبة آية: 23]، فيطلعهم على غرة المسلمين، ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، كما هو حال الكثير في هذه الفتنة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة التوبة آية: 23]. ثم قال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24]، وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا، وذهبت تجارتنا، وخربت دارنا، وقطعنا أرحامنا، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية.(10/205)
ص -197- ... فإذا كانت هذه الآيات، نزلت فيمن لم يهاجر ويجاهد، فقد أصابكم حكمهم، بترككم الهجرة والجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن توقف عن مبايعته على الهجرة والجهاد: "فإذا كان لا هجرة ولا جهاد، فبم ندخل الجنة"؛ فحصل لكم بترك الفرضين ما حصل من المتابعة والموافقة، حتى عكستم الحكم، فعاديتم من عادى المشركين، ورمتم هدم الإسلام وحقوقه وواجباته، فلم يبق بأيديكم إلا استحسان هذه الحالة، ورد الحق، وغمط الناس ممن أقام على الدين، وعادى المشركين، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227].
وما ذكرت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 1، فهو حديث صحيح، وهو حجة عليك لا لك. فانظر من الذي يسب المسلمين، ويتولى المشركين، ويعادي من سبهم؛ فإن كنا قد سببنا مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، وأنتم تذبون عن كل مسلم هذا وصفه، وتسبون من سبه، فأنتم أسعد منا بالدليل; وإن كان هذا وصفكم، فما احتججتم به فهو حجة خصمكم، وهذا لا يشك فيه عاقل أصلاً، أنا لا نسب من ثبت على الإسلام، وأما أنتم فأكثرتم سبابه وتضليله، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (48), ومسلم: الإيمان (64), والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635, والنسائي: تحريم الدم (4108, 4111, 4112), وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939), وأحمد (1/385, 1/411, 1/433, 1/454).(10/206)
ص -198- ... وأما ما ذكرت من سياقة قول ابن كثير: أن الهجرة لا تجب إلا على من لا يقدر على إظهار دينه... إلخ، فهذا معنى ما ذكره العلماء في كتبهم، وهذا لا نزاع فيه عند أكثر العلماء؛ ولكن عرفنا من لم تجب عليه الهجرة بإظهار دينه وهو آمن بذلك، معروف فيكم لم يستهزئ بأهل الإسلام، أو لم يركن إلى من استهزأ بهم، ويعين أهل الباطل بلسانه; فيا ليت شعري من هو الذي فيكم يظهر دينه؟
وقد كنت أسأل عمن كنت أرى لهم معرفة، فما أخبرني أحد عنهم بما يسرني في ذلك، وهذه فتنة عمت فأعمت وأصمت؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فإن كنت ترى أن اعتراضك على من استدل بالآيات والأحاديث على تحريم موالاة المشركين، إظهار للدين، فالمصيبة أعظم، ولا أخالك تسلم من ذلك لقوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 9]؛ وأنى لك بالسلامة وقد زلت بك القدم.
ثم، إن ما ذكرته عن ابن كثير، يناقض ما كنت تدعيه من أنكم على الإسلام والتوحيد؛ فإذا كنتم على الإسلام والتوحيد حقيقة، فلأي شيء يقال: تجب الهجرة أو لا تجب؟ فلا محل لقول ابن كثير وغيره، هذا إنما يذكر في حال أهل بلد ليسوا على الإسلام، وفيهم من يظهر دينه باعتزالهم في مجالسهم وأسواقهم ومجامعهم، ويظهر البراءة منهم ومن أعمالهم، ويصبر على أذاهم.(10/207)
ص -199- ... وأما قولك: ولا وجه لاستدلالك علينا بهذه الآية، فإن هذه الآية جهادية مع إمام متبع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هناك إمام متبع، فعرّفنا لعلنا نتبع.
فأقول: قد بينا خطابك في قولك: أن الآية جهادية، وأنه قول على الله وفي كتابه بلا علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33]. ويقال: بأي كتاب، أم بآية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين؛ والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر، من ذلك عموم الأمر بالجهاد، والترغيب فيه، والوعيد في تركه، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة آية: 251]، وقال في سورة الحج: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} الآية [سورة الحج آية: 40].
وكل من قام بالجهاد في سبيل الله، فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد، لأنه لا يكون جهاد إلا بإمام، والحق عكس ما قلته يا رجل، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} الآية [سورة سبأ آية: 46]، وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ(10/208)
ص -200- ... لِنَفْسِهِ} [سورة العنكبوت آية: 6].
وفي الحديث: "لا تزال طائفة" الحديث، والطائفة، بحمد الله، موجودة مجتمعة على الحق، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآيات [سورة المائدة آية: 54]، أي: واسع الفضل والعطاء، عليم بمن يصلح للجهاد.
والعبر والأدلة على بطلان ما ألفته، كثير في الكتاب، والسنة، والسير، والأخبار، وأقوال أهل العلم بالأدلة والآثار، لا تكاد تخفى على البليد إذا علم بقصة أبي بصير: "لما جاء مهاجراً فطلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إليهم، بالشرط الذي كان بينهم في صلح الحديبية، فانفلت منهم حين قتل المشركيْن، اللذين أتيا في طلبه. فرجع إلى الساحل لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه غيره" 1، فتعرض لعير قريش - إذا أقبلت من الشام - يأخذ ويقتل، فاستقل بحربهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا معه في صلح - القصة بطولها -. فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأتم في قتال قريش،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشروط (2734), وأبو داود: الجهاد (2765).(10/209)
ص -201- ... لأنكم لستم مع إمام؟ سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟ عياذاً بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [سورة الشورى آية: 13].
ومعلوم: أن الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع كل بر وفاجر، تفويتاً لأدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاباً لأخف الضررين لدفع أعلاهما؛ فإن ما يدفع بالجهاد من فساد الدين، أعظم من فجور الفاجر، لأن بالجهاد يظهر الدين ويقوى العمل به وبأحكامه، ويندفع الشرك وأهله حتى تكون الغلبة للمسلمين، والظهور لهم على الكافرين، وتندفع لسورة أهل الباطل، فإنهم لو ظهروا لأفسدوا في الأرض بالشرك والظلم والفساد، وتعطيل الشرائع والبغي في الأرض. ويحصل بالجهاد مع الفاجر، من مصالح الدين ما لا يحصى، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم"؛ ولو ترك الجهاد معه لفجوره لضعف الجهاد، وحصلت الفرقة والتخاذل، فيقوى بذلك أهل الشرك والباطل، الذين غرضهم الفساد وذهاب الدين. فإذا ابتلي الناس بمن لا بصيرة له ولا علم ولا حلم، ونزل المشركين وأهل الفساد من قلبه منزلة أهل الإسلام، لطمع يرجوه منهم أو من أعوانهم، وأعانهم على ظلمهم،(10/210)
ص -202- ... وصدقهم في كذبهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
ويقال أيضا: كل من أقام بإزاء العدو وعاداه، واجتهد في دفعه، فقد جاهد ولا بد، وكل طائفة تصادم عدو الله، فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى أقوالهم وتدبيرهم؛ وأحق الناس بالإمامة من أقام الدين الأمثل فالأمثل، كما هو الواقع، فإن تابعه الناس أدوا الواجب، وحصل التعاون على البر والتقوى، وقوي أمر الجهاد، وإن لم يتابعوه أثموا إثماً كبيراً بخذلانهم الإسلام.
وأما القائم به، فكلما قلت أعوانه وأنصاره، صار أعظم لأجره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [سورة الحج آية: 78]، وقال: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الآية [ٍ سورة العنكبوت آية: 69]، وقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ} الآية [سورة الحج آية: 39]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 54]، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 5]، وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} الآية [سورة البقرة آية: 249]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة الأنفال آية: 65]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية [سورة البقرة آية: 216].
ولا ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون; فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها(10/211)
ص -203- ... منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف، لما ذكرت من الآيات. وقد تقدم الحديث: "لا تزال طائفة" الحديث.
فليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، ولا يجب على أحد دون أحد، إلا ما استثنى في سورة براءة. وتأمل قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إ} [سورة الحج آية: 40]، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [سورة المائدة آية: 56]؛ وكل يفيد العموم بلا تخصيص. فأين تذهب عقولكم عن هذا القرآن؟
وقد عرفت مما تقدم: أن خطاب الله تعالى يتعلق بكل مكلف، من الأولين والآخرين، وأن في القرآن خطاباً ببعض الشرائع، خرج مخرج الخصوص وأريد به العموم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 73]، وقد تقدم ما يشير إلى هذا بحمد الله، وذلك معلوم عند العلماء، بل عند كل من له ممارسة في العلم والأحكام، فلهذا اقتصرنا على هذا القول، وبالله التوفيق.
ثم بعد الفراغ، أظهر الله إماماً يجاهد في سبيل الله، ويدعوهم إلى الإسلام والاجتماع عليه، فتمت النعمة علينا، وعلى أهل نواحينا، بما أعطانا من النصر، وذهاب الشرك والمشركين، والفساد والمفسدين. نسأل الله أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من نعمة الإسلام، والله ولي حميد، وهو(10/212)
ص -204- ... حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
[ الرد على بعض الناكبين المعرضين عن توحيد رب العالمين ]
وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه العون على إبطال زخرف الملحدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية، ولرسوله بالبلاغ المبين، وسلم تسليماً.
أما بعد، فاعلم أيها الطالب للهدى، المتباعد عن أسباب الضلال والردى، أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين، المعرضين عن توحيد رب العالمين، فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها، معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها، مع تناقضها وبشاعة ما فيها؛ فتارة تراه سائلاً مسترشداً، وتارة مفتياً مضللاً مفنداً، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. فعزمت على أن أعرض ورقته على بعض أصحابنا الذين لهم ملكة في معرفة العلوم، ولهم بصر ناقد، وفهم(10/213)
ص -205- ... مستقيم، في تمييز الصحيح من السقيم، لأكتفى بهم في رد ذلك الزيغ والضلال، والكذب المحال، على طريق التفصيل تارة والإجمال. وهذا الرجل وإن كان من أجهل العوام، فإنه يحاول بسجعه نقض عرى الإسلام.
ثم إني عزمت على نقض ما بناه من ذلك الباطل، على استفراغ وسع واستمهال، وذلك أولى من الترك والإهمال، و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43]. فأخذت في رد قوله مستعيناً بربنا العظيم، مستعيذاً بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل.
قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله.ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 1") الآية.
قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها، قبل الشروع في المقصود، وهي: أن الكثير من أهل هذه الأزمنة وقبلها، قد غرهم من أنفسهم أمران:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/435), والدارمي: المقدمة (202).(10/214)
ص -206- ... أحدهما: أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافياً، ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض، وما عرفوا أقوال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 1، وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم ويمقت من يقول ولا يفعل، ومن يخالف قوله فعله، كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 3]، وكقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سورة البقرة آية: 14]. وقد ورد: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".
الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام، ونطقهم بالشهادتين، عاصم للدم والمال، وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله، من نفي الشرك، وتركه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كالدعاء، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك; ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3-4]، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3610), ومسلم: الزكاة (1064), والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101), وأبو داود: السنة (4764), وأحمد (3/4, 3/33, 3/56, 3/60, 3/65, 3/68, 3/73).(10/215)
ص -207- ... فإن قوله: {مُخْلِصاً}: حال من ضمير الفاعل المستتر، في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ}، أي: حالة كونك مخلصاً له الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك في قوله: {مُخْلِصِينَ}: حالة من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا}، أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم، دون كل ما سواه؛ ولهذا قال: {حُنَفَاءَ}، والحنيف هو: الموحد المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه. يقرر ذلك: ما أخبر به عن قوم هود، لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65]، فأجابوا ذلك بقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70]. وفي قصة صالح، لما قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 62]، وكما قال قوم شعيب: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآية [سورة هود آية: 87].
فلا إله إلا الله، ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بحال تلك الأمم، لما دعوا إلى هذا التوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، قال(10/216)
ص -208- ... تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الآية [سورة هود آية: 1-2]، إلى أمثال هذه الآيات. وقد صح: أن رسول الله لما قال لقومه: "قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا" 1، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5]، كما هو مذكور في القرآن العزيز.
فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة؟ على أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن عبادة كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم، وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في معنى هذه الآية: "إلا لآمرهم أن يوحدون".
وقد عرفت: أن هذا هو أصل الدين، الذي هو أساس الملة، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية [سورة الروم آية: 42-43]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28]، أي: لا إله إلا الله. والخليل عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/492).(10/217)
ص -209- ... السلام أتى بمضمون هذه الكلمة، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27].
وأبدى سبحانه وأعاد في هذا الكتاب المجيد، في النهي عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، وأفصح عن كفر فاعله، وأسجل عليه بالوعيد الشديد، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6]، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213-214]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37]، وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [سورة غافر آية: 73-74]، وغير ذلك(10/218)
ص -210- ... من الآيات. فأي بيان أوضح من هذا، في تعريف الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره؟ وهذا لا يختص بالدعاء، بل كل نوع من أنواع العبادة، صرفه لغير الله شرك عظيم.
والتحقيق: أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلا النوعين لا يجوز صرفه إلا لله؛ وصرفه لغير الله شرك، كما سبق بيانه في الآيات المحكمات، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162-163]، والصلاة هنا تشمل الصلاة الشرعية، واللغوية التي هي الدعاء، كما هو مذكور في كتب التفسير، وفي حديث ابن عباس: "وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 1، وفيه معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [سورة العنكبوت آية: 17]، وهذا من عطف العام على الخاص، وقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة آية: 41]، كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8]، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]، وتقديم المعمول في هذه الآيات، يفيد الحصر، أي: لا غيري. وقال: {فَلا تَخْشَوُا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516), وأحمد (1/303, 1/307).(10/219)
ص -211- ... النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [سورة آل عمران آية: 175].
وهذه الآيات وما في معناها تدل على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يوحدوه بأعمالهم، وأن لا يجعلوا له شريكاً في العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110]، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 14]، وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل، لما عبدوا العجل: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة طه آية: 98]، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5]. وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية [سورة فاطر آية: 40]، وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121]، وهذا هو الشرك في الطاعة، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31]، فذكر في هذه الآية الشرك(10/220)
ص -212- ... في الطاعة، والشرك في الألوهية، وهذا بين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
وأما الربوبية، فقد أقر بها أكثر المشركين من الأمم، أعداء الرسل؛ وهذا مبين في قصص الأنبياء، كما في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، وغير ذلك. والخصومة بينهم وبين الأمم، إنما هي فيما بعثوا به إليهم من النهي عن الشرك في العبادة، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء، وغير ذلك، وعن الشرك في الطاعة، وهو: إيثار ما عليه الأسلاف، والاعتماد على ما قالوه، مما يخالف شرع الله وأحكامه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار" 1، رواه البخاري. ولمسلم عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه؛ وحسابه على الله" 2.
قال شيخنا، رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى: لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للمال والدم، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده، حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو تردد، لم يحرم ماله ودمه، فيالها من مسألة ما أجلها! وياله من بيان ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4497), وأحمد (1/374, 1/464).
2 مسلم: الإيمان (23), وأحمد (3/472, 6/394).(10/221)
ص -213- ... أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع! وكلام العلماء في بيان هذا التوحيد وتقريره، وبيان ما وقع فيه الأكثر من الشرك وعبادة الأوثان، أكثر من أن يحصى. ونذكر طرفاً منه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في الرسالة السنية، لما ذكر الخوارج ومروقهم من الدين: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ومرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171]، و"علي رضي الله عنه حرق الغالية، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها"، واتفق الصحابة على قتلهم، وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله تعال: إنما أرسل الرسل ليعبدوه وحده، لا يجعلوا معه إلهاً آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح،(10/222)
ص -214- ... والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 56-57].
وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيراً، والملائكة - إلى أن قال - وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلّمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده" 1 وقال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، يحذر ما فعلوا وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" 3، وقال: "لا تتخذوا قبري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/214).
2 البخاري: الجنائز (1390), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531), والنسائي: المساجد (703), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/255), والدارمي: الصلاة (1403).
3 مالك : النداء للصلاة (416).(10/223)
ص -215- ... عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" 1، ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور.
واتفق العلماء- من السلف أهل السنة والجماعة - أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبّلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48]. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة"، والإله هو: الذي يألهه القلب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، ومحبة، وخشية، وإجلالاً. انتهى.
وقال العلامة ابن القيم: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبه منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/367).(10/224)
ص -216- ... آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقصي معبوديهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، ويزعمون أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم من الحجر والبشر.
قال الله تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3]. وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وذكر قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23].
ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى(10/225)
ص -217- ... الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، فوقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عياناً، والله المستعان.
ثم قال: وأما الأصغر: فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
قلت: فلما قال: وقد يكون أكبر، أخذ يبين أنواع الأكبر، فقال: ومن أنواع النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من غيره، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له عند الله؛(10/226)
ص -218- ... وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات.
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام َرَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36]. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جود توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى.
فرحمة الله ومغفرته ومرضاته على هذا الشيخ، ما أحسن بيانه وأوضحه! فقد صرح بأن هذا هو الشرك الأكبر، فبطل ما افتراه عليه المشركون. وهذا الذي ذكره، هو الذي عمت(10/227)
ص -219- ... به البلوى في كثير من الأمصار، في هذه الأعصار، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر، إلا أن يتاب منه قبل الوفاة.
وقال، رحمه الله، في الكافية الشافية شعراً:
والشرك فهو توسل مقصوده الز ... لفى من الرب العظيم الشانِ
بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثانِ
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفرانِ
وهو اتخاذ الند للرحمن أيـ ... ـاً كان من حجر ومن إنسانِ
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان
قال في الإقناع: قال شيخ الإسلام: من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعاً.
وقال العلامة في الكافية أيضاً:
فتوسّط الشفعاء والشركاء والظـ ... ـهراء أمر بيّن البطلان
ما فيه إلا محض تشبيه لهم ... بالله وهو فأقبح البهتان
وقال بعض شيوخنا، رحمهم الله تعالى:
نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيدا الضلالة سائرٌ ... وليس له إلا القبور يدينها(10/228)
ص -220- ... وقال محمد بن إسماعيل، الأمير الصنعاني، رحمه الله: الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم، مقرون أن الله خلقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9]، وبأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-89].
وهذا فرعون مع علوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه، حاكياً عن موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102]، وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة آية: 28]، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39]، وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي}.(10/229)
ص -221- ... وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، وخالق السماوات والأرض، وربهن ورب ما فيهما، ورازقهم، ولهذا تحتج الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل آية: 17]، وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [سورة الحج آية: 73]؛ والمشركون مقرّون بذلك، لا ينكرونه.
الأصل الخامس: أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله، لأنه مولي أعظم النعم، حقيق بأقصى غاية الخضوع، كما في الكشاف. ثم إن رأس العبادة وأساسها: التوحيد لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي: لا إله إلا الله. والمراد اعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان؛ ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى، لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5]. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: تواترت الأحاديث، بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، والموت عليها، وكلها مقيدة بالقيود الثقال؛ وأكثر من يقولها، لا يعرف الإخلاص، ولا(10/230)
ص -222- ... اليقين; وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قول الله تعالى، حاكياً عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، وحينئذ، فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، ومات على ذلك، امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة، فيحرم على النار، لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب، فإن كمال الإخلاص ويقينه، موجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء سواه، وأخوف عنده من كل شيء، فلا يبقى في قلبه يومئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب قبل ذلك؛ فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين والكراهة، لا يتركن له ذنباً إلا محي عنه، كما يمحو النهار الليل. فمن قالها على وجه الكمال، المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له، ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنات لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة.(10/231)
ص -223- ... وقال، رحمه الله: وأصل الدين: أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله؛ وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة لله، وطاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله. وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له، هو السنة.
فإن قدر أن الذي معه دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم أو يثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيله، قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 4-5].
وقال، رحمه الله تعالى، في منهاج السنة، لما ذكر كلام صاحب المنازل، وأن التوحيد عنده على ثلاثة أوجه:
الأول: توحيد العامة، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد(10/232)
ص -224- ... الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. هذا هو التوحيد الظاهر الجلي، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه وجبت الذمة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر. هذا كلام صاحب المنازل. وذكر بعد الوجهين، وذكر شيخ الإسلام ما فيها من الشطح والبدعة. ثم قال شيخ الإسلام: أما التوحيد الأول الذي ذكره، فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]. وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل، مثل نوح وهود، وصالح وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]: وهذا أول دعوة الرسل وآخرها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها؛ وحسابهم على الله(10/233)
ص -225- ... عز وجل". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله، دخل الجنة" 1، وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة" 2. والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والفلاح وأقصى السعادة في الآخرة به.
ومعلوم: أن الناس متفاضلون في تحقيقه. وحقيقته: إخلاص الدين كله، والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء، وهو: أن تثبت إلهية الحق في قلبك، وتنفي إلهية ما سواه، فتجمع بين النفي والإثبات، فتقول: لا إله إلا الله، فالنفي هو الفناء، والإثبات هو البقاء. وحقيقته: أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبموالاته عن موالاة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه، وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه، وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه، وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل، بعد التكبير: "اللهم لك الحمد، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت نور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/65).
2 أبو داود: الجنائز (3116), وأحمد (5/233, 5/247).(10/234)
ص -226- ... السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [سورة الأنعام آية: 14]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114]، وقال: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-66]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَلا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [سورة الأنعام آية: 161-165].
وهذا التوحيد كثير في القرآن، وهو أول الدين وآخره، وباطن الدين وظاهره، وذروة سنام هذا الدين، لأولي العزم من الرسل، ثم للخليلين: محمد وإبراهيم، صلوات الله(10/235)
ص -227- ... وسلامه عليهم. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، أنه قال: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً" 1.
وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم: إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عنه، أنه قال عن خير البرية: "إنه إبراهيم"، وهو الإمام الذي جعله الله إماماً، وجعله أمة، والأمة: القدوة الذي يقتدى به، فإنه حقق هذا التوحيد، وهو الحنيفية ملته، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الممتحنة آية: 4-6]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ?إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين ِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28].(10/236)
وقال عن إبراهيم أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [سورة الأنعام آية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).(10/237)
ص -228- ... 79-81].
وقال، رحمه الله تعالى: ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح النفس، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلا صلاح للنفس إلا في ذلك، وبدونه تكون فاسدة؛ وهذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، قال تعالى: {(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 30-31].
فالغاية الحميدة، التي بها كمال بني آدم، وسعادتهم ونجاتهم: عبادة الله وحده، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص، لم يكن من أهل النجاة والسعادة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48]. فمن آمن بأن الله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد الله وحده، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب، بحيث يحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله، ويرجوه كما يرجو الله،(10/238)
ص -229- ... ويدعوه كما يدعو الله، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفاً في طعامه ونكاحه، وكان حليماً شجاعاً. انتهى.
وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى- بعد ذكره الشرك في الربوبية -: النوع الثاني: أهل الإشراك بالله في إلهيته، المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين اتخذوا من دونه أنداداً، فهؤلاء لم يعرفوا: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] حقه، وإن كان لهم نصيب من "نعبدك"، لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حباً وخوفاً ورجاء، وطاعة وتعظيماً. فـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به. وكذلك قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 6-7]، فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]. وأما أهل الإشراك، فهم أهل الغضب والضلال. فإن هذا الانقسام ضروري، بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به، إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة،(10/239)
ص -230- ... وعالم به معاند له وهم أهل الغضب، وجاهل به وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل، فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة، فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون هذه الرسالة. انتهى. والمقصود من هذه المقدمة: العلم بأن التوحيد الذي بعث الله به رسله، غريب في الناس جداً، وأكثرهم لا يعرف حقيقته، ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له؛ وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه، وخالق جميع المخلوقات ورازقها، والمتصرف فيهم. وقد عرفت مما سلف: أن أكثر الأمم من أعداء الرسل، يعرفون ذلك، ويقرون به، كما أقر به كفار قريش لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقرر في القرآن أتم تقرير.
وأما توحيد الإلهية، الذي هو مضمون لا إله إلا الله، الذي دل عليه القرآن، من أوله إلى آخره، فالأكثر لا يعرفونه، مع أن سور القرآن الكريم مشحونة ببيانه، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165]، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية [سورة الرعد آية: 14]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ(10/240)
ص -231- ... مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [سورة البينة آية: 5]. وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 5]، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية [سورة فاطر آية: 13]، وقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5]، وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} الآية [سورة المؤمنون آية: 117]، وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الآية [سورة الزخرف آية: 26-27]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى في القرآن كثرة، في بيان هذا التوحيد، وما ينافيه من الشرك بالله، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72].
فإذا تأملت القرآن، وجدته قد احتج على المشركين فيما جحدوه من توحيد الإلهية، بما أقروا به من توحيد الربوبية، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ(10/241)
ص -232- ... تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84].
فإذا أقروا أن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه المتصرف في جميع خلقه، لزمهم أن يعبدوه وحده؛ فإن الإقرار بهذا التوحيد، يستلزم الإقرار بالنوع الآخر، ولا بد منهما جميعاً.
وأما الثالث من أنواع التوحيد، فهو: أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه رسوله، على ما يليق بجلال الله، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فإن صفات الرب تعالى وأسماءه، تدل على كمال الرب تعالى، وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه، ونفى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من كل ما ينافي كمال حياته وقيوميته، وكمال غناه، كما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11]، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1-4]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام" 1 الحديث.
ونحو هذا مما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله كثير في الكتاب والسنة؛ فالمهديون المؤمنون يثبتون ما أثبته الله ورسوله، من معاني أسمائه وصفاته، على ما يليق بجلاله، وينفون عنه مشابهة المخلوقين، وسمات المحدثين، وينفون عنه ما نفى عن نفسه، ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما لا يليق به، والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (179), وأحمد (4/400, 4/405).(10/242)
ص -233- ... أعلم.
فما أعز من يعرف حقيقة التوحيد! بل ما أعز من لا يعادي من عرفه ودعا إليه! فلقد عم الجهل بالتوحيد، حتى نسب أهله إلى الابتداع ونسب من أنكره إلى الاتباع. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، لما ذكر حديث: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" 1؛ بل الإسلام الحق، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم، أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة، مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي فينا غريب جداً، وأهله غرباء بين الناس.
وكيف تكون فرقة واحدة، بين فرق لهم أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا في مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات، التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم. فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء، الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأعجب كل منهم برأيه؛ فإذا أردت معرفة الإعراض عن الدين، تعلماً وعملاً، فتأمل ما هم عليه، فالله المستعان.
واعلم: يا من له عقل ونور، يمشي به في الناس، أني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (145), وابن ماجة: الفتن (3986), وأحمد (2/389).(10/243)
ص -234- ... تأملت "الورقة" التي قدمت الإشارة إليها 1، وهي لحمد بن علي المرائي، فإذا هو قد حشاها بالرعونات، والحماقات، التي هي من نتائج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم؛ فإذا نظر فيها العاقل، علم أنها لا تصدر إلا من جاهل معجب بنفسه، لإقامته بين جهلة العوام، فإن أكثرهم لا يميز بين الصحيح من السقيم من الكلام. فلو كان ما أبداه من أساجيعه، من وراء كفاية وعن علم ودراية، لكان أحرى بمراجعة الصواب، والرجوع عما أخطأ فيه من الخطاب، وقد قال بعضهم شعراً:
ولو كان هذا من وراء كفاية ... لهان ولكن من وراء تخلفِ
فأعجب لقوله: أما بعد، فيقول العبد المسترشد للعلم والعمل، لا للمراء والجدل.
فالجواب: تأمل أيها المنصف ما بعد هذا من كلامه، تجده مناقضاً لما قال، مشتملاً على المراء والجدال، كحال أمثاله من أهل الأهواء، ويخبط على أثرهم خبط عشواء، وقد تضمنت رسالته من الأحبولات للجهال، والتلبيس على من عقولهم كعقول الأطفال.
فمن ذلك: أنه أكثر الحط على من يقول على الله بلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في صفحة 204.(10/244)
ص -235- ... علم؛ ولا شك أن ذلك من أكبر الذنوب، وأعظم المثالب والعيوب، ولكنه اتزر بما عابه من ذلك، وارتدى في آخر مقاله والابتداء. وهكذا حال من لا علم لديه، ولا دراية له تنسب إليه، فتراه يعيب أمراً وهو يتقلب فيه، فتارة يظهره وتارة يخفيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه؛ فتأمل ما سيأتيك من جوابه، ترى عجباً.
ثم إنه قال: والمسألة المشار إليها، والمسؤول عنها، هي التي غصت بها الحناجر، وأسبلت على الخدود دموع المحاجر، وهي قول الجهال الطغام: من أقام ببلد قد استولى عليها العساكر، ولا عنها يهاجر، فهو كافر.
فالجواب: أن هذا قول مختلق، ولا نعلم قائلاً به على الإطلاق، كما زعم صاحب الورقة. وهذا من بهرجه وزبرجه وتهويله، أسوة أمثاله ممن يفتري على المسلمين، ويقولهم ما لم يقولوا، ليدفع بهذا عن نفسه الشناعة، وليس بنافعه شيئاً؛ بل هو عين الضرر عليه، لأنه تشبث بما لا يجدي، وليس عند أهل الأهواء إلا التلبيس، والشكوى لما تلطخوا به من العيوب والأسواء، إذ ليس معهم حق يعتمد عليه، ولا برهان لهم تطمئن نفوسهم إليه. فترى أحدهم ضيق الصدر والبال، لأن بضاعته إنما حقيقتها الشكوك والخيال.
بخلاف صاحب الحق، فإن معه من البصيرة والعلم واليقين، ما يدفع الشك والإلباس، ويهون عليه مؤنة(10/245)
ص -236- ... المعارضين من الناس. وأكبر همّ المؤمن ما بينه وبين ربه، يرجو رحمته ويخاف عقوبة ذنبه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} الآية [سورة المؤمنون آية: 60]؛ يسير إلى الله بين مشاهدة منّة من الله عليه، ومطالعة عيب نفسه: "أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي" 1.
وأما الفاجر، فقلبه خال من خشية الله، آمن من مكر الله، يمضي في الغفلة والمعاصي، قدماً قدماً، فيا عجبا من صاحب هذه الورقة ما الذي يؤمنه؟ قد تلطخ بما تلطخ به، والمعاصي بريد الكفر؛ وكان الواجب عليه أن يغص من العبرات، ويسيل الدموع في الخلوات والجلوات، على ما فرط فيه من الطاعات، ووقع منه من الفرطات. فاهتمامه من نفسه لنفسه، أولى من الاهتمام بما قيل أو يقال. فلو صح عن أحد لكان فيه إجمال، ويتطرق إليه الاحتمال، على أنه ليس من قبيل المحال، الذي لا ينسب إلا إلى الطغام والجهال، فأين الأسباب المؤمنة لهذا المسكين، من أن يقع في زيغ الزائغين، وطريق الأئمة المضلين؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين" 2.
وأما شتمه لخواص من أهل الهجرة والدين، وتسميتهم بالجهال الطغام، فهو دليل على إعجابه بنفسه ورضاه بعمله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الدعوات (6306), والترمذي: الدعوات (3393), والنسائي: الاستعاذة (5522), وأحمد (4/122, 4/124).
2 الترمذي: الفتن (2229), وأبو داود: الفتن والملاحم (4252), وابن ماجة: الفتن (3952), وأحمد (5/278, 5/284), والدارمي: المقدمة (209).(10/246)
ص -237- ... وذلك من أكبر الذنوب، وأعظم العيوب. فإنه من تدبر القرآن، وتفكر فيما قصه الله تعالى عن أهل الكتاب، وأمثالهم من أهل الفهم والرأي، وأنهم تركوا الحق الذي بعث الله به رسوله بعد ظهوره، واختاروا لأنفسهم أسباب الردى والهلاك، ولم ينفعهم الله بعلمهم، ولا برأيهم وفهمهم، خاف على نفسه من أن يزيغ كما زاغوا، وأن يضل كما ضلوا؛ وهذا إنما يحصل بتوفيق الله ورحمته لعبده.
وصاحب هذا الكلام، قد نسي ما وقع منه من المداهنة والموادة، لأرباب البغي والعدوان، على أهل الإسلام والإيمان، والصد عن سبيل الله؛ فأعظم بها من ذنوب، ومثالب وعيوب! وما ذكرناه من الواقع، من كثير من أعيان أهل نجد، لا يمتري فيه من في قلبه أدنى حياة.
وظاهر حال المعترض: أنه لما جهل حقيقة هذا الذنب العظيم، عده من أنواع الواجب، والجائز، والمكروه، وكلامه في ورقته يدور على هذه الثلاثة، فلذلك استوحش مما أنس به المسلمون، وأنس بما استوحش منه العارفون؛ فلو تصور الواقع منه، لسالت على الخد منه دموع المحاجر، وغصت من مخافة الوعيد تلك الحناجر، كما دل على عظيم ذلك الذنب الكثير من الآيات والأحاديث والبينات.
واعلم: أن هذا المغرور، لما كذبته ظنونه التي قعدت به عن واجب الهجرة والجهاد، وتبين أنه أخطأ سبيل الهدى(10/247)
ص -238- ... والسداد، وعلم أن المسلمين قد ميزوه بحاله، وقبيح فعاله، بادر إلى التشكي والتهويل، والتباكي والعويل، وحاول قلب الحقائق، فاستهجن الصدق والمعروف، واستحسن الباطل لكونه عنده هو المألوف؛ فأعظم بها عقوبة أطفأت نور العقل، وأعمت البصيرة! فصاحبها في ظلمات الجهل والريب.
ولما قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فقال ابن مسعود: "هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر". قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر. يا ربنا نسألك الثبات على الإيمان.
ومما يجب أن يعلم: أن الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي، حفظاً للدين، وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود المنكرات، ومخالطة أهل المعاصي والسيئات، وليتميز أهل الطاعات والإيمان، عن طائفة الفساد والعدوان، وليقوم علم الجهاد، الذي به صلاح البلاد والعباد؛ ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عبد رب العالمين، ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك، والظلم والفساد، بدونها.
ومن لوازم ترك الهجرة غالباً: مشاهدة المنكرات، ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات، وموادتهم، وانشراح(10/248)
ص -239- ... الصدر لهم؛ فإن الشر يتداعى ويجر بعضه بعضاً، فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور، ولا بد من رضاهم، والمبادرة في هواهم.
ثم إنه قال قولا ينبئ من له أدنى معرفة، أن هذا لا يصدر إلا ممن هو غريق في الجهالة، قد عري من المعقول والمنقول، وذلك قوله: إن الله قدم حرمة ابن آدم على حرمته، وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة، إذا خاف على نفسه الضرر. ووجه خطئه وجهله: أنه جعل ذلك أصلاً، قاس عليه ترك الهجرة، وفي زعمه أنه اضطر إلى تركها، كما اضطر إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التلف، فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد، وذلك من وجوه:
منها: أنه في مصادمة نصوص الكتاب والسنة، التي دلت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها، وإن كان يتوقع بها القتل والموت، كما أنه لا يترك الجهاد خوفاً من القتل، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران آية: 195]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة الحج آية: 58].(10/249)
ص -240- ... فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور التي قد تقع للمهاجر، عذراً عن الهجرة، لأن الهلاك في الهجرة والجهاد هو السلامة، فإنه شهادة، والشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة آل عمران آية: 169-170]. وقد يحصل للمهاجر ما يحبه، من حسن العاقبة في الدنيا، مع ما يرجوه في الآخرة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الآية [سورة النساء آية: 100].
ونظير ترك الهجرة خوفا من الفقر أو القتل: مداهنة أهل المعاصي خوفاً من أذاهم، وقد قال تعالى في حقهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية: 10]. وهذا الذي جعل فتنة الناس كعذاب الله، قد يدعي أن الضرورة دعته إلى ذلك لو كانت عذراً، وقد علمت: أن ترك الهجرة عرضة لذهاب الدين، وذهاب الدين، هو هلاك النفس السرمدي: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الزمر آية: 15]، هذا في تركهم الهجرة.
وأما الهجرة، فإن الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين، كما جرى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سلفاً(10/250)
ص -241- ... وخلفاً، وبها يحصل الجهاد، وتعلو كلمة الله، ويعمل في الأرض بطاعة الله؛ ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 41]. فبطل هذا القياس من وجهين:
الأول: أنه مصادمة النصوص الثابتة، والقياس في مصادمة النص فاسد الاعتبار عند العلماء قديماً وحديثاً؛ فإن القياس إنما يصار إليه عند الضرورة إليه إذا عدم النص، ولم يوجد للحكم دليل في الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً، فحينئذ يجوز عند بعض العلماء، لدعاء الضرورة إليه. وله شروط ومفسدات، وله أنواع أربعة لا يعرفها هذا المعترض؛ وأنى له بمعرفة الصحيح منها والسقيم، والجائز والممتنع، مع قصر الباع، وعدم المحصول والاطلاع.
الوجه الثاني: عدم الجامع، ووجود الفارق، فإن الحكمة في إباحة تناول لقمة من الميتة إذا اضطر إليها، قد أبيحت له في تلك الحال، لأن الأكل واجب، صيانة للنفس عن الهلاك، طاعة لله، مطلوب لما يفضي إليه ذلك، من التقوي على أداء الفرائض والطاعات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن المحرمات ما يباح عند الضرورة، كالدم والميتة، فهذه في حال الإباحة ليست محرمة أصلاً، وليس له أن يعتقد تحريمها(10/251)
ص -242- ... حينئذ؛ وإنما تنازع العلماء، هل السبب الحاظر لها موجود وقت الضرورة، وأبيحت للعارض الراجح، أو السبب الحاظر زائل، وهذا مبني على مسألة تخصيص العلة; فمن قال: إن العلة تخصص، يقول: إن علة الحظر قائمة، ولكن تخلف حكمها لمانع، ومن قال: لا تخصص، قال: إن علة التحريم لا توجد مع عدم التحريم؛ والنزاع لفظي.
قال، رحمه الله: فإن الأكل والشرب واجب، حتى لو اضطر إلى الميتة، وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، لأن العبادة لا تؤدى إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. انتهى.
قلت: وهذا موجود في الهجرة وأولى، لأن العبادة لا تؤدى إلا بها، ولا يقوم الدين والعمل به إلا بالهجرة؛ فبالهجرة يحفظ المرء دينه، ويتمكن من العمل به، ويعادي ويوالي فيه، وغير ذلك من المصالح الدينية، التي تفوت الحصر. فلو احتجنا إلى القياس، لكان هذا من قياس الأولى، عكس ما عند صاحب الورقة، فإن ضرورة العبد إلى الهجرة فوق كل ضرورة، ولو كان فيها تلف النفس والمال، فالعبد مضطر إليها عند الحاجة إليها، أعظم من ضرورته إلى الطعام والشراب.
ثم اعلم: أنه من كبير جهله، أخذ يقيس ترك ما وجب فعله، على فعل ما يجب فعله، فقاس الترك على الفعل،(10/252)
ص -243- ... وقاس المحرم على الواجب؛ وهذا أفسد شيء وأبعده عن القياس، فالعكس والحالة هذه، أشبه بالقياس صورة ومعنى؛ فتأمله، فإنه يطلعك على جهل هذا الرجل. فالعارف يلتمس له العذر من حيث إنه جاهل، ولولا جهله لكانت هذه فرية منه عظيمة على دين الله.
ومن المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة: أن الهجرة من أعظم فرائض الدين، وهي أصل وقاعدة من قواعد الإسلام، التي ينبني عليها الكثير من الأحكام؛ ومن جهله أنه لم يميز بين الضرورة والضرر، كما قد عرفت من كلامه الذي أسلفته. ومن المعلوم عند من له بصيرة ودين: أن الهجرة لا ضرورة فيها ولا ضرر، فدعواه الضرورة ممنوعة من أصلها.
فغاية ما في الهجرة: بأن فيها مشقة في المبادئ على النفس، من جهة مفارقة المألوفات، من الوطن أو المال، أو غيرها من الأصناف الثمانية المذكورة في أول سورة براءة؛ وهذا شأن الشرائع، كالجهاد فإن فيه مشقة، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} الآية [ سورة التوبة آية: 81]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 216]. ولم يعذر الله تعالى ناساً تخلفوا عن الجهاد في غزوة(10/253)
ص -244- ... تبوك، بما فيها من المشقة، حتى قال الله فيهم شر ما قال لأحد، فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة التوبة آية: 95].
ومن المعلوم: أنه ليس في ترك الجهاد من المفاسد في الدين ما في ترك الهجرة، بل المفاسد التي في ترك الجهاد موجودة في ترك الهجرة، وأكثر منها، كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم، وكان الجهاد من ثمرتها ومصالحها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما يترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة، كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة، كتناول المحرمات من الخمر وغيره؛ ولهذا أمرنا الله أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والأحسن: إما واجب أو مستحب، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55]، فأمر باتباع الأحسن والأخذ به، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر آية: 17-18]؛ فاقتضى أن غيرهم لم يهده. انتهى.
وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة، من سوء الحال في الدين والدنيا، فيالها من عبرة ما أبينها لمن اعتبر!(10/254)
ص -245- ... والحمد لله الذي أنقذ من شاء من عباده من المهالك برحمته، وأهلك من شاء بعدله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 42].
فإذا عرفت ذلك، فأقول: عجباً لهذا المفتري المغرور، كيف تجسر على الخوض في أحكام الله ودينه، بضرب الأمثال والأقيسة الفاسدة، وهو لا يعرف القياس وشروطه، والمقبول منه والمردود، بل ولا يعرف أنواعه، كقياس الأولى، والعلة، والدلالة، والشبه، والمخالفة، ولا يعرف مفسدات القياس عند العلماء، ولا من يجوز منه ذلك ممن لا يجوز منه، ومن يجوزه من العلماء عند الضرورة، ومن لا يجوزه منهم مطلقاً.
ومن أنكره من علماء السلف، كجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهما، فإنه أنكره على أبي حنيفة، رحمه الله، كما هو معروف عنه عند العلماء، يروونه عن ابن شبرمة، أنه قال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس، فإنا نقف غداً نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى، فنقول: قال الله، قال رسوله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبك ما شاء.
وعن ابن عباس: "لا تقيسوا الدين، فإن الدين لا يقاس؛ وأول من قاس: إبليس"، أخرجه الديلمي، وقال ابن سيرين: "القياس شر، وأول من قاس: إبليس، وإنما عبدت(10/255)
ص -246- ... الشمس والقمر بالمقاييس". وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: إنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين الأولين؛ لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً أو استنباطاً بحال.
وأما الأقيسة الفاسدة، فإنها أكثر ما عند أهل الضلال، وأول من قاس: إبليس. وقال: إن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير. انتهى كلامه، رحمه الله.
والمقصود: أن يعلم المسلم أن بذل النفوس في طاعة الله ومرضاته، أمر مطلوب للرب تعالى من عبده، ليكون الدين كله لله؛ فمن رغب بنفسه عن ذلك، وآثر مرادها وراحتها وشهوتها، على مراد ربه، وإقامة دينه، وطلب مرضاته، فقد عرض نفسه لمقت الله وعقابه، وحرم نفسه ما حصل للمؤمنين المتقين من جزيل ثوابه. فلا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ومن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم إن هذا المغرور المسكين قال: ما وقع فيه التاركون للهجرة، وأباحه الكفر إذا أكره عليه، قال عز من قائل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [سورة النحل آية: 106]، نزلت في عمار بن ياسر، أخذه(10/256)
ص -247- ... المشركون، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كيف تجد قلبك؟"، قال: "مطمئن بالإيمان".
فالجواب- وبالله التوفيق - أن نقول: لا يخفى أن هذا الرجل ادعى لنفسه أمراً لا وجود له ولا حقيقة، واستدل بدليل هو في الحقيقة عليه لا له، وذكر أمراً مجملاً مبهماً، تشبيهاً على العامة، ليلبس عليهم أمر دينهم، وفي ضمنه أنه أقر على نفسه بما صدر منه، مما لا يحبه الله ويرضاه، غير أنه اعتذر عن نفسه بالإكراه.
ومن له أدنى مسكة من عقل وتمييز، يعلم أنه لا عذر لهذا الرجل فيما قد صدر منه؛ فإن دعواه الإكراه ممنوعة، لأنه إن كان على الإقامة عندهم، فهذا باطل قطعاً، لأنهم لم يحبسوه ولم يجعلوه في وثاق، ولم يجعلوا على كل نقب من نقوب القرية حرساً يمنعه الخروج منها، ولا جعلوا على طرقاتها رصداً، والمناهل قريب، وفيها القبائل، والفرار بالدين واجب، فأين الإكراه؟
هذان وقد حصل منه من الإقبال والإدبار، والتصدر والافتخار، ما هو معلوم عند من يعرف هذا الشخص بالاضطرار. فأين حال هذا وأمثاله من حال عمار؟ رضي الله عن عمار، فإنه تبرأ من المشركين وسبهم، وسب دينهم ومعبوداتهم، فلذلك تصدروا له ولأهله بالعداوة الشديدة، وما ثم قرية ولا قبيلة على الإسلام، فجعلوا يضربونه أشد(10/257)
ص -248- ... الضرب، ويعذبونه أشد العذاب، وحبسوه في بئر ميمون، وقتلوا أباه وأمه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم يقول: "اصبروا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"، ومع هذا وغيره، لم يقع منه إلا القول دون الفعل. وأنتم سارعتم بلا إكراه، وقلتم وفعلتم، تقرباً إليهم واختياراً، من غير أن يكون منهم طلب لما فعلتموه، فما طلبوا منكم ذلك، ولا امتنعتم، ولا أُكرهتم عليه، فأين أنتم وعمار؟! فهو وأنتم في طرفي نقيض; شعرا:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرِّقٍ ومغرِّبِ
وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت، قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال: فجلس محمراً وجهه، ثم قال: والله إن من كان قبلكم، ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويقعد الرجل فتحفر له الحفرة، فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه عن دينه" الحديث.
وبعد ما وقع بعمار وأهله من المشركين ما وقع، أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، لما اشتد بهم أذى المشركين، فهاجروا وفيهم عمار رضي الله عنه. ثم إنه رجع(10/258)
ص -249- ... هو وبعض المهاجرين، فهاجروا إلى المدينة، وفي تلك الأحوال لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين، ولا داهنهم بدينه، واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم، حتى هاجروا إلى المدينة؛ وقصتهم في السير، وكتب الحديث، والمغازي، مشهورة.
فأين القلب المطمئن بالإيمان، وهو يرغب إلى أولئك الأشرار، ويتعرض لما في أيديهم من حطام الدنيا، ويتودد إليهم بأساجيع المدح، كسجع الكهان، ويقول: اكتبوا لي كذا، اجعلوا لي كذا، ونحو ذلك من صيغ الطلب، كما في المكاتبات الموشحة بالمديح، والدعوات والتعظيمات، والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات؟! فسبحان من لا يخفى عليه خافية، من أقوال خلقه وأعمالهم. وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوَركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 1.
ونذكر أيضاً طرفاً مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماد ابن كثير، في تفسيره: أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليهم لعلمهم بالإيمان، ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة، لأجل الدنيا، وطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564).(10/259)
ص -250- ... وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئاً، فهم غافلون عما يراد بهم.
وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]، فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً على ما قاله، بضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وروى العوفي عن ابن عباس: "نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون، فوافقهم على ذلك مستكرهاً"، وروى ابن جرير بسنده، قال: "أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد".
وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغني: "صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة". فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام. قال: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس:? "أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه(10/260)
ص -251- ... ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضرر الذي به، حتى يعطي مما سألوه من الفتنة، افتداءً منهم مما يبلغون من جهدهم". قال العماد ابن كثير: والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة: "أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى عند ملكهم، فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك بنتي، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصُلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية، فأبى. ثم أمر به فأُنزل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس، فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى. ثم أمر به أن يُلقى فيها، فرُفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيتُ لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تُلقى في هذا القدر الساعة في الله، فأحببتُ أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذَّب هذا العذاب في الله".
وفي بعض الروايات: "أنه سجنه ومنع منه الطعام(10/261)
ص -252- ... والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال الملك: فقبِّل رأسي، وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، قال: فقبَّل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ؛ فقام فقبَّل رأسه، رضي الله عنهما".
قال العماد، رحمه الله تعالى: وكما كان بلال رضي الله عنه يأبى على المشركين ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم، وهو يقول: "أحد أحد"، ويقول: "والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها"، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: "أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً، وهو ثابت على ذلك".
قلت: فهذه حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقوا من المشركين من شدة الأذى، فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل، وأوضعوا فيه،(10/262)
ص -253- ... وأقبلوا وأدبروا، وتوددوا وداهنوا، وركنوا وعظموا، ومدحوا؟ فكانوا أشبه بما قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} [سورة الأحزاب آية: 14]. نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
ومن المعلوم: أن الذين أسلموا، وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، لولا أنهم تبرؤوا من الشرك وأهله، وبادروا المشركين بسب دينهم، وعيب آلهتهم، لما تصدوا لهم بأنواع الأذى، وذلك لأنهم أعلم الأمة بالحنيفية، وأعلم بالتوحيد، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4].
ثم إنه قال في رسالته: فمن شرح بالكفر صدراً، وارتد، وطابت نفسه بالكفر، فهو الكافر.
فالجواب أن يقال: تعداده هذه الثلاث، تدل على جهله بنواقض الإسلام، لأن كل واحدة من هذه الثلاث يكفر صاحبها، وبين هذه الثلاث تلازم: فمن شرح بالكفر صدراً، فقد ارتد وطابت نفسه بالكفر، ومن طابت نفسه بالكفر، فقد ارتد وشرح بالكفر صدراً؛ فحظ هذا الرجل التنطع بالكلام، من غير تصور للمعنى.
ثم إن آخر هذه الآية، يرشد إلى أن الذي أوقعهم في(10/263)
ص -254- ... انشراح الصدر بالكفر هو إيثار الدنيا على الآخرة، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107]. فإذا استحب الوطن أو المال، أو الأزواج، أو العشيرة، أو المساكن، أو التجارة، أو غير ذلك من أمور الدنيا، وترك لأجل ذلك ما وجب عليه، من الهجرة والجهاد، فقد تناوله هذا الوعيد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} إلى آخر الآية [سورة التوبة آية: 24].
قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [سورة الأعراف آية: 176] أي: مال إلى الدنيا وزهرتها، وآثرها على طاعة الله ورضاه. فإذا كان هذا هو الواقع من هؤلاء، فما هذا القلب الذي اطمأن بالإيمان، مع وجود ما ينافي ذلك، من إيثار الدنيا والطمأنينة إليها والرغبة فيها، وترك ما أوجب الله تعالى عليه لأجلها؟ ومن ادعى ما ليس فيه، كذبته شواهد الامتحان، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 105].
ثم إنه قال: وما أجلسه في بلده إلا حماية لنفسه وماله(10/264)
ص -255- ... وولده.
فالجواب أن نقول: هذا هو المحذور الأكبر، والذنب الأعظم، الذي ثبت الوعيد عليه في آية براءة. فلو كان لهذا فقه أو معرفة، لما اعتذر عن نفسه بأشياء لم يعذر الله بها أحداً من خلقه؛ فلو أحب الله على ما سواه، لما آثر محبة النفس والمال والولد عليه، وقد ثبت في رواية أبي صالح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: "لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا، فيرق عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}" [سورة التوبة آية: 24].
إذا عرفت ذلك، فلا يخفى أن أهل نجد في هذه الحادثة، صاروا أصنافاً:
فالصنف الأول: دخلوا تحت حكم هذه الآية، لما ابتلوا بالعدو، أخلدوا إلى الأرض، ورضوا بالمقام معهم وتحت أمرهم؛ فتركوا ما وجب عليهم من الفرار بدينهم، ومفارقة عدوهم، إيثاراً لدنياهم. وأحبوا المقام، وداهنوا أولئك الأقوام، وخدموهم، وأعانوهم، وتقربوا إليهم بما لم يحبه الله ولا يرضاه، بلا قسر ولا إكراه.
الصنف الثاني - وهم أشد-: نقضوا عهد الإسلام، واستجلبوا العدو إلى الأوطان، وآووهم وظاهروهم،(10/265)
ص -256- ... ونصروهم، ونابذوا المسلمين المهاجرين، بالشتم والسب، وألبوا العدو عليهم؛ وصارت مسبة من هاجر هي دينهم، وسفهوا المسلمين، واستصلحوا بزعمهم حالهم، ظناً منهم أنه لا طاقة لأحد بهذا العدو، وأن أمرهم سيستقر في جميع البلاد النجدية؛ فضل سعيهم وخابت آمالهم. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الصنف الثالث: حصل منهم إقامة بين أظهرهم، ولم يتبين منهم ما يتبين من الصنفين. وهؤلاء قسمان: مستطيع للهجرة، وغير مستطيع. والله أعلم بحالهم، وهؤلاء لم يظهروا في العلانية ما يستدل به على السريرة، بل ربما ظهر منهم كراهة الباطل، والفساد والمعاصي، وهم على خطر. والله أسأل أن يمن على الجميع بالتوبة النصوح.
الصنف الرابع: أناس نفروا في الابتداء، وجاهدوا وصبروا، لكنهم بعد ذلك لم يستقيموا على ذلك، وحصل لهم فتنة صاروا فيها فرقاً؛ فعسى الله أن يتداركهم برحمته، وأن يتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم.
وأما الصنف الخامس: فمنهم الذين ثبتوا ولم يمكنوا منهم عدواً، وصبروا على ركوب الأهوال في جميع الأحوال؛ نسأل الله لنا ولهم الثبات على الإسلام، والاستقامة على الإيمان، والفضل لله تعالى على من ثبت واستقام، وصبر على أذى الخلق في طاعة الحق، وبالله التوفيق.(10/266)
ص -257- ... ووجدت لعالم الحجاز، ومفتيهم الإمام: محمد بن أحمد الحفظي، فصلاً نافعاً فيما وقع من الفتنة بالحجاز، بعد وقعة "سبل" المعروفة، وما جرى في تلك المدة من الافتتان عن الدين. وذكر أن الله أطفأ نار المفسدين، وأطلع نور الموحدين، ولكنه قد حصل في تلك المدة الماضية، أمور عظام، هي أكبر الذنوب، وأعظم الآثام، قد بلغ الشيطان فيها مراده، ممن كان يدعي الإسلام.
منها: أن منهم من كره ما أنزل الله في كتابه من شرائع الدين. ومنهم: من طعن في ذلك، وأبغض الإسلام والمسلمين. ومنهم: من ظاهر ووالى على طمس أعلام الموحدين، وأرادوا إحياء أضدادها، من أعمال الجاهلية، وأفعال المشركين.
ومنهم: من استهزأ بالله وآياته ورسوله والمؤمنين. ومنهم: من رضي بذلك وعزم عليه، وأعان بنفسه أو ماله أو لسانه؛ وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أعان، ولو بشطر كلمة في قتل مسلم، فكيف الإعانة على حرب الإسلام والمسلمين؟ ومنهم: من اتصف أو تخلق بأخلاق المنافقين، وأبرز ما كان يكنه من الداء الدفين.
ومنهم: من أشاع الكذب والأراجيف بقوة العدو، وضعف أهل الإيمان فارحاً بذلك، شامتاً بالمسلمين. ومنهم: من ظن بالله ظن السوء، بأنه أدال العدو، واضمحل(10/267)
ص -258- ... ما كان من النصر والتمكين. ومنهم: من نقض بيعته ونكث صفقته، واستبدل الرخيص بالثمين.
وهذه الأمور كلها جرت بغير إكراه ولا تعيين، وكل واحدة منها تخدش في وجه إيمان فاعلها، وتفت في عضد إسلام عاملها، وهي من المعاند ردة عن الإسلام، وإما نفاق في الدين.
وذكر الأدلة من القرآن، قال: فالإنسان أعرف بنجاسته وطهارته، وأخبر بمعصيته وطاعته؛ وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبربك عليك رقيباً. ولعلك أن تقول: هولت الأمر، فأقول: بل الأمر أكبر مما حسبت، وأكثر مما سمعت، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. وذكر الأدلة على ذلك.
ثم قال: وفي السنن: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد في الكوفة، قال واحد: إنما مسيلمة على حق فيما قال، وسكت الباقون. فأفتى بكفرهم جميعاً". فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر، أو سمعها وسكت عليها، ونحو ذلك.
فالحذر الحذر، أيها العاقلون! والتوبة التوبة أيها الغافلون! فإن الفتنة حصلت في أصل الدين، لا في فروعه، ولا في الدنيا؛ فيجب أن تكون العشيرة، والأزواج، والأموال، والتجارة، والمساكن، وقاية للدين، وفداء عنه، ولا يجعل الدين فداء عنها، ووقاية لها، قال تعالى:(10/268)
ص -259- ... {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24].
فتفطن لها وتأملها! فإن الله أوجب أن يكون الله ورسوله والجهاد، أحب من تلك الثمانية كلها، فضلاً عن واحدة منها، أو أكثر، أو شيء دونها مما هو أحق. فليكن الدين عندك أغلى الأشياء وأعلاها، والتوبة أهم الأمور وأولاها. انتهى المقصود من كلامه.
رحم الله هذا الإمام ما أبصره! والحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين. فيا لها من نعمة لا يستطيع من وفق لها أن يقوم بشكرها! فما ذاك إلا بتوفيق الله وفضله وإحسانه.
وأما هذا المغرور المسكين وأمثاله، فإنهم خاضوا في غمرات الافتتان، واطمأنت قلوبهم إلى أهل الظلم والعدوان، وأكثروا التردد عليهم والمسير إليهم طوعاً واختياراً، وتعرضوا لما في أيديهم من حطام الدنيا سراً وجهاراً. فأين القلب المطمئن بالإيمان، إذا كان مدعيه يجري مع الهوى في كل ميدان؟ فما أشبه حال هذا وأمثاله، بالضرب الثاني، من(10/269)
ص -260- ... الضروب الأربعة، الذين ذكرهم العلامة ابن القيم، رحمه الله؛ وهم الذين لهم أوفر نصيب، من قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 188]، يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاتباع والإخلاص والعلم؛ فهم أهل الغضب والضلال.
وأما قول المعترض المفتري في وصف نفسه في تلك الحالة: أنه هاجر للمناهي، عامل بالأوامر، فهذا في غاية التناقض والمكابرة؛ فقد أقر قبل ذلك بأنه كان في إقامته معهم، صابراً على ما ينوبه منهم، من المهاون والخسائر. فإذا كان في عدادهم، وفي سوادهم، وطاعتهم، ومعونتهم بالمال، فلا ريب أن هذا كله من المناهي، فهو في أوامر أولئك الخلق، لا في رضى الإله الحق. وكلامه يناقض بعضه بعضاً.
فإن العامل بأوامر الله، الهاجر لمناهيه، لا تكون حاله كذلك، من موالاة الباطل والركون إليه، ومظاهرة أهله وتعظيمهم، والتذلل لهم والخضوع بين أيديهم؛ وكل هذه(10/270)
ص -261- ... الأمور قد أسجل الله في كتابه على فاعلها بالوعيد الشديد، وسلب الإيمان، وحبوط الأعمال، والله المستعان. فلو ترك هؤلاء المراء والجدال، وأحجموا عن هذه الترهات، وتابوا وأنابوا إلى عالم السر والخفيات، لكان خيراً لهم.
وأما قوله: فذاك- والله- عندنا المسلم المهاجر، فأقول: ألا تعجبون يا إخواني من هذا المسكين؟! وأيم الله، لا يقول هذا من له مسكة من عقل. يدعي الهجرة، ويقصرها على من تركها رأساً، أين ذهب عقله عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآية [سورة الحج آية: 58]، وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100]، وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [ سورة العنكبوت آية: 56-57]، إلى غير ذلك من الآيات، المعرفة بالهجرة وثوابها، وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن، ومفارقة الأهلين والإخوان، في طاعة الله ومرضاته.
فالمهاجر هجر أهل الكفر والمعاصي، بمفارقتهم والانتقال عنهم، إلى محل لا يرى فيه منكراً، ولا يسمع فيه باطلاً، تحيزاً بدينه، كما دل عليه الكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، وعليه المسلمون قاطبة. فما أشبه هذا الرجل، في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية، بالباطنية(10/271)
ص -262- ... الملاحدة، في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرادها الله من العباد.
قال العماد ابن كثير، في الآية الأولى: يخبر عمن خرج مهاجراً في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وترك الأوطان، والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة دين الله، ثم قُتلوا، أي: في الجهاد، أو ماتوا حتف أنوفهم من غير قتال، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [سورة النساء آية: 100].
ومن المعلوم بالضرورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة، وهي أفضل البلاد، وأحبها إلى الله، ولحقوا بالمدينة، امتثالاً لأمر الله، وطلباً لمرضاته، وعداوة لأعدائه. وقد قال تعالى فيمن لم يهاجر منهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]، ولم يستثن من هذا الوعيد، إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [ سورة النساء آية: 98-99]، وما سموا مهاجرين، وإن كانوا معذورين: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ(10/272)
ص -263- ... الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} الآية [سورة النساء آية: 75].
فسبحان الله، ما أسرع هذا الرجل إلى الخطإ والخطل! وإن كان لا يعذر بالإقامة إلا من جمع هذين الوصفين، فما عذر امرئ صبر على المهاون والخسائر، ومشاهدة المعاصي والكبائر، وهو على مفارقة ذلك كله قادر؟! وما عذره في الصبر على ترك ما وجب عليه، وفعل ما حرمه الله تعالى؟ لكن هؤلاء فرحوا بما عندهم من المحال، وقنعوا بما ألفوه من الخيال؛ وتركب من هذا إيثار ما عندهم على ما سواه.
وقد يحمل ذلك على أن يأمر بالباطل ويرتضيه، ومن لم يأمر به منهم لم ينه عنه، بل يقره ولا ينفيه. وقد يرجح أهل الشرك والمعاصي على الموحدين؛ وهذا مما يبتلى به أهل الأهواء. والمعافى من عافاه الله، من إيثار أمر دنياه على أخراه، وهذا هو الواقع من بعض هؤلاء.
وقد ذكر أئمتنا من أهل السنة، رحمهم الله تعالى: أنه وقع من أناس في زمانهم وقبله، لا يبلغ هؤلاء معشار ما عندهم من الفهم والعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولقد أحسن من قال:
يقضى على المرء في أيام محنتهِ ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ(10/273)
ص -264- ... والبصير لا يغتر باستحسان هؤلاء وأمثالهم، ما ركبوه وزينوه من باطلهم، ولا بتركهم الحق واستهجانهم له ولأهله، فإن الله تعالى ميز الخلق، بإرادتهم وأعمالهم وأقوالهم، وبين الصادق من الكاذب، وتدبر كتاب الله، وتفكر في آياته وحججه وبيناته، ولقد أحسن من قال شعراً:
فالحق شمس والعيون نواظر ... لكنها تخفى على العميانِ
وأما قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر.
فالجواب: أنه ما من أحد إلا وهو يدعي الإسلام لنفسه، ولكل قول حقيقة. وقد ذكر شيخنا، رحمه الله تعالى، تعريفاً جامعاً لأصل الإسلام، قال: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران:
الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.
والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع. ومنهم: من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك. ومنهم: من أشرك ولم ينكر التوحيد. ومنهم: من أنكر الشرك ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم.(10/274)
ص -265- ... ومنهم: من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه. ومنهم: من أنكره ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم. ومنهم: من كفّرهم، وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك، ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك ولم ينكره. ومنهم: وهو أشد الأنواع خطراً: من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه، ولم يكفّرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، وأنكره، ولم يعرف قدره؛ فلم يعاد أهله، ولم يكفّرهم.
وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاء به الأنبياء من دين الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فيقال لهذا المسكين: تفطن في نفسك! هل أنت داخل في هذه الأنواع؟ فإن كنت فيها، فما أسلمت حتى يثبت لك الإسلام. ويقال أيضاً: من هذا الذي كفّرك، وواجهك بالتكفير؟ فإن ثبت من شخص معروف، فينظر: هل وافق الحكم المحل أو لا؟ فإن وافقه فلا اعتراض على من حكم بالدليل.
وإن لم يوافق الحكم المحل، قلنا: جواب ثان عن قولك: من كفّر مسلماً فهو الكافر، فيقال لك: صحح نسبة هذا القول إلى قائل معروف يحتج بقوله، ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام التي صنفها الحفاظ من أهل الحديث. فإن لم تجد له أصلاً بهذا اللفظ، فكيف تحكيه جازماً به؟ وما كان كذلك فلا ينهض الاحتجاج به، نعم، قد ثبت في الصحيح عن أبي ذر: "ومن دعا رجلاً بالكفر،(10/275)
ص -266- ... أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه".
فليتأمل قوله: "وليس كذلك"، ومعنى قوله: "حار عليه" أي: رجع، قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [سورة الانشقاق آية: 14]، قال العلماء: وهذا وعيد شديد إذا لم يكن خصومهم كذلك.
والكلام إنما هو على أفعال وأقوال تناقض الإسلام، فإن للإسلام نواقض مذكورة في كتب الفقه، لأرباب المذاهب الأربعة وغيرهم؛ فمن وقع في شيء منها حكموا بردته، إلا أن يتوب ويراجع الحق. فإن تاب توبة نصوحاً، وهي التي استكملت شروط التوبة، فإن الله تعالى يقبل توبة التائبين إذا صحت منهم، وظهر من صالح الأقوال والأعمال والأحوال، ما يدل على ذلك، كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [سورة النساء آية: 146]. فإذا حصلت هذه الأمور الأربعة ظاهراً وباطناً، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 146]. فدلت الآية على أنه لا يكون مقدماً على أحد من المسلمين، ولا يتولى شيئاً من أعمالهم، ولو صحت توبتة بشروطها المذكورة في الآية.
وأما من لم يعرف له توبة صحيحة، فالواجب أن يعامل معاملة أمثاله من المنافقين، بالإعراض عنه، وجهاده على ما يقع منه، لأن الله تعالى ميز عباده بالفتن، كما قال تعالى:(10/276)
ص -267- ... {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11].
وهذا الضرب من الناس، ينبغي أن ينزلوا منازلهم التي أنزلهم الله، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية [سورة القلم آية: 35]. فإذا كانوا قد أتوا شيئاً من المكفرات قولاً أو عملاً، أو ارتكبوا بدعة ولم يتوبوا توبة نصوحاً، فيجب على كل مسلم أن يبغضهم على ذلك، كما ورد في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" 1؛ فمن لم يحب أهل التوحيد والإيمان، ويبغض أهل البدع والضلال، فقد نقض أوثق عرى الإسلام.
وقد جاءت الأحاديث والآثار بالتحذير من أهل البدع، والترغيب في هجرهم، والبعد عنهم؛ فمن ذلك: ما رواه اللالكائي في كتاب السنة، عن الفضيل بن عياض: من أتاه رجل فدله على مبتدع، فقد غش الإسلام. فاحذروا الدخول على أصحاب البدع، فإنهم يصدون عن الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4599).(10/277)
ص -268- ... وقال أيضاً: لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. ومن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه؛ فمن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى. وأخرج اللالكائي عن عطاء الخراساني: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة. وأمثال هذا كثير عن السلف والأئمة، ولو تتبعناه لطال الجواب.
إذا عرف ذلك، فلو قدر أن رجلاً من المسلمين قال في أناس: قد تلطخوا بأمور، قد نص العلماء على أنها كفر، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة، غيرة لله وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال. فغير جائز لأحد أن يقول في حقهم. ومن كفّر مسلماً فهو الكافر. على أنا لا نعلم أن أحداً من المسلمين كفّر شخصاً بعينه، اللهم إلا أن يحكي أفعالهم، فيظن السامع لذلك أنه كفّرهم.
وأما الحديث الذي ذكرناه، فقد تأوله العلماء بما هو معروف، كأمثاله من أحاديث هذا الباب، كحديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 1، وأيضاً، فهو مقيد بقوله: "وليس كذلك". ولا يخفى ما جرى من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، كقوله في مالك بن الدخشم: إنه منافق، لا يحب الله ورسوله، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: "ألا تراه قال: لا إله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (48), ومسلم: الإيمان (64), والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634, 2635), والنسائي: تحريم الدم (4105, 4106, 4108, 4109, 4110, 4111, 4112, 4113), وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939), وأحمد (1/385, 1/411, 1/417, 1/433, 1/439, 1/446, 1/454, 1/460).(10/278)
ص -269- ... إلا الله" 1، فقال: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" 2. وقد قال بعض العلماء: إن ذلك الرجل كان من أهل بدر.
ومن المعلوم: أن الخوارج طعنوا على ولاة الأمر، وكفروا علياً ومن قاتل معه من الصحابة وغيرهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم، والبشارة لمن قاتلهم، كما هو معروف ثابت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد. ولما قيل لعلي: أكفارٌ هم؟ فقال: "من الكفر فروا". فلو ذكرنا الأحاديث الواردة في الخوارج، لطال الجواب.
وكلام العلماء على الحديث المتقدم ذكره، قال النووي في شرح مسلم: "ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" 3: هذا مما عده بعض العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق: لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنى. وفي تأويل الحديث أوجه:
أحدها: أنه محمول على المستحل.
والثاني: معناه رجعت عليه معصيته.
والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا ضعيف، لأن الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون.
والرابع: أنه يؤول إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر. انتهى ملخصاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1186), ومسلم: الإيمان (33).
2 البخاري: الصلاة (425), ومسلم: الإيمان (33).
3 مسلم: الإيمان (61), وأحمد (5/166).(10/279)
ص -270- ... فانظر إلى ما حكاه النووي، رحمه الله، من أن الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم، وحسبك بهذا الإمام. فمن تأمل أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، عرف الخطأ من الصواب؛ لكن من أعظم الآفات عدم العلم وفساد القصد، وهما آفة الأكثرين، وفساد الدين، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. فما الذي حمل هذا المسكين على التمويه على جهلة الناس، وتشكيكهم في أمر دينهم والإلباس؟
فمن ذلك قوله في آخر ورقته: فرحم الله امرأً قال الحق، وبه صدع، فالحق أحق أن يتبع.
فالجواب أن يقال: تأمل ما تقدم من الجواب، فإن الحق بحمد الله فيه ظاهر؛ فإن كان طالب حق وجده، وإلا فقد قامت عليه الحجة، وانزاحت الشبهة، عمن أراد البيان ووفق لفهم العلم والإيمان، والله المستعان. فعسى الله أن يمنع عنه موانع الهداية، وأسباب الضلالة والغواية، فإن هذا الرجل قد قال بمقالة الخوارج وهو لا يدري، وذلك في قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر، وبيانه فيما أسلفناه من كلام النووي، رحمه الله، من أن مذهب أهل السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب، وهذا قد حكم بالكفر على مرتكب هذا الذنب.
فلو قدر أن أحداً قال في حق مسلم صحيح الإسلام أنه(10/280)
ص -271- ... كافر، فأهل السنة لا يكفّرونه بذلك، لأن هذا ذنب من الذنوب، وقد عرفت تأويلهم للحديث، وأن الأخذ بالظواهر المخالفة لأصول السنة، وما عليه الصحابة والتابعون وعلماء الأمة، هو رأي الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله شعراً:
من لي بشبه خوارج قد كفّروا ... بالذنب تأويلاً بلا حسبانِ
ولهم نصوص قصّروا في فهمها ... فاتوا من التقصير في العرفانِ
هم خالفوا نصًّا لنصٍّ مثلهِ ... لم يفهموا التوفيق بالإحسانِ
لكنكم خالفتمُ المنصوص با ... لشُّبهِ التي هي فكرة الإنسانِ
والمقصود: بيان حال صاحب الورقة، وأنه قال بقول الخوارج، المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فكفّر المسلمين بدعوى ادعاها، لعلة اختلقها، أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه، ولا يعوّل في الأخبار عليه؛ وقد تقدم قوله في الهجرة: أن من لزم وطنه، مع ما يقع فيه من الظلم والفساد، أنه هو المهاجر الصابر، وقد عرفت: أنه عكس الحقيقة، وخالف الكتاب والسنة، والفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وقوله المشار إليه، يشبه قول الباطنية الإسماعيلية الملاحدة، الذين تأولوا شرائع الدين على غير حقائقها، وقولهم يتضمن تعطيل الشرائع، وهم من أضر المبتدعة على دين الإسلام. هذا، ونحن نعلم أنه قد وقع فيما وقع فيه عن(10/281)
ص -272- ... جهالة، فلو عرف حقيقة حال المبتدعة، لعلم أن اقتفاء آثارهم من أعظم المطاعن عليه، لكنه يقال في حق مثله شعراً:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
ومن عجيب أمر هذا الرجل وأمثاله، ممن انتصب للتدريس بلا علم، وأفتى من غير إجازة ولا فهم، أن منهم من يصرح بتكفير أهل لا إله إلا الله، علماً وعملاً ودعوة وجهاداً، بكونهم يكفّرون عباد الأوثان، وهم يقولون: لا إله إلا الله؛ وهذا منهم في غاية التناقض والفساد، ومخالفة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهذا شر من قول الخوارج، كما لا يخفى على أولي البصائر.
وقد أشرت فيما تقدم إلى حاله، وأنه لا يدري ما يقول، ولا يدري أنه لا يدري؛ فلو سكت لكان يسعنا السكوت عنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(10/282)
ص -273- ... [ مخالطة المشركين وأهل البدع ]
وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: عيد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، الذي أوصيك به ونفسي: تقوى الله، والقيام له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحض إخوانك على هذا، والقيام معهم، ودحر الرديء وردعه؛ فإذا صلحت سريرة العبد، وصار مقصده الحق، والقيام لله وفي الله، أعانه الله وسدده، وإلا وكله إلى نفسه.
وما ذكرت من الآية والحديث، وما وجه الجمع بينهما؟ فقال ابن كثير في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]: فهذه الآية عامة، في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية، حيث يقول تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة. وقد عرفتم ما ذهب إليه المحققون من العلماء، من أن حكمها باق إلى يوم القيامة، إذا وجد المقتضي لها.(10/283)
ص -274- ... وأما معنى الحديث، فلم يتبين لي فيه ما تطمئن إليه النفس، وسأبحث عن معناه، وأكتب لك الجواب مبسوطاً، إذا فتح الله تعالى، إن شاء الله، ونقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32].
وأجاب أيضاً: وأما ما ذكرت من الأسئلة، في مخالطة المشركين، وأهل البدع، فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم، وجبت عليك، لما فيها من حفظ الدين، ومفارقة المشركين، والبعد عنهم، وأما من كان من المستضعفين، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، فعليه أن يعتزلهم ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية [سورة العنكبوت آية: 10]، والله المستعان.
وأما السؤال عن قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106]، فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر، لما عذبه مشركو مكة، وحبسوه في بئر ميمون، وأكرهوه على كلمة الكفر، فقالها تخلصاً من عذابهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "فإن عادوا فعُدْ"، وهذا قبل وجوب الهجرة، فأنزل الله هذه الآية.
وأما حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما"، فهذا في حق من له قدرة على البعد عنهم،(10/284)
ص -275- ... وأما من لا يمكنه البعد عنهم، بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، فلا.
وأما حديث: "من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فأولئك هم الهالكون" 1، فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" 2. فالإنكار يجب مع الاستطاعة، والكراهة هي أضعف الإيمان. وأما الرضى بالمنكر، والمتابعة عليه، فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.
وسئل: عمن سافر إلى بلاد المشركين للتجارة؟
فأجاب: أما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين فاعله، لكونه عرض نفسه للفتنة، بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته، وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإمارة (1854), والترمذي: الفتن (2265), وأبو داود: السنة (4760), وأحمد (6/295).
2 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008, 5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/10, 3/20, 3/49).(10/285)
ص -276- ... وسئل أيضاً: الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه يهاجر؟
فأجاب: هذه المسألة، كما قال العلماء، رحمهم الله تعالى، تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه، فهجرته مستحبة لا واجبة.
وقال بعضهم بوجوبها، لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين" 1. فإن لم تكن البلد بلد حرب، ولم يظهر الكفر فيها، لم نوجب الهجرة منها، إذا لم يكن فيها إلا المعاصي؛ وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" 2 الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 مسلم: الإيمان (49), والترمذي: الفتن (2172), والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008, 5009), وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013), وأحمد (3/10, 3/20, 3/49, 3/52, 3/54, 3/92).(10/286)
ص -277- ... [ الهجرة عن بلاد المشركين ]
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مفلج الحق وناصره، ومدحض الباطل وماحقه، تكفل سبحانه بنصر الدين، وأقام بمحكم آي القرآن، حجته على كافة العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين.
أما بعد، فإن الله سبحانه من حكمته ولطفه ورحمته، لم يترك مدعي الإسلام والإيمان، بلا محنة يختبر بها الصدق من الكذب، ويميز بها بين المرتاب والمستيقن، وله في ذلك حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، وحجة دامغة؛ وقد تعددت سنته سبحانه وأيامه في خلقه بذلك، قرناً فقرناً، وجيلاً فجيلاً، حتى خبطتنا، معشر المتكلمين، محنة لنا، واختباره لنا منه، بقدوم العساكر العراقية، لبعض بلاد المسلمين، واستيلائهم عليها.
فعند ذلك، ميز الله بين الصادق في إسلامه وإيمانه، وبين المرتاب في ذلك وضعيف اليقين أو الكاذب أصلاً، حتى آل الأمر إلى أن تكلم بعض الناس، في إسقاط الواجبات الدينية، والفرائض الإسلامية، وأقام المعاذير الباطلة، لمن آثر ملاذه الدنيوية، وشهواته العاجلة، على ما أمر الله به ورسوله، وافترضه على خلقه، من الهجرة عن بلاد(10/287)
ص -278- ... المشركين، والفرار بالدين، فروجوا بذلك على عوام المسلمين.
فأحببت أن أنقل بعض كلام أئمة المفسرين، على محكم الآيات القرآنية، لينتفع بذلك طالب الحق، ويكون حجة على من نازع وماحل وجادل، فلا بد من وجود هذا الصنف، لا كثّرهم الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [سورة فصلت آية: 40]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر آية: 56].
فاسمع يا طالب الحق: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2]، قال: معناه: أظنَّ الذين جزعوا، يا محمد، من أصحابك، من أذى المشركين إياهم، أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان، بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنا بما جئتنا به من عند الله؟ كلا! لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(10/288)
ص -279- ... [سورة العنكبوت آية: 3]. قال: نزلت من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلفوا عن الهجرة. والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي الهجرة التي امتحنوا بها. ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي قال: إنها نزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين [سورة العنكبوت آية: 1-2] في أناس بمكة، قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم. فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه. قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 10]، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك.
ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان(10/289)
ص -280- ... قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]. قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم. فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 8]، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجاً. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل".
فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97]، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار والدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلماً. فما أعز من يتفطن لهذه المسألة! بل ما أعز من يعتقدها ديناً!(10/290)
ص -281- ... {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 8]، قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ثم ذكر بسنده عن قتادة قال: "نزلت في سعد بن أبي وقاص، لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني بيت حتى يرجع سعد، فأنزل الله عز وجل في ذلك: أن يحسن إليهما، ولا يطيعهما في الشرك".
وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، يقول تعالى: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا بي وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
ثم ذكر بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها. وعن عطاء في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة. وعن مجاهد: فهاجروا وجاهدوا.
وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} إلى قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة العنكبوت آية: 57-60]، قال: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: هاجروا من أرض الشرك إلى أرض الإسلام، فإن أرضي واسعة؛ فاصبروا على عبادتي،(10/291)
ص -282- ... وأخلصوا طاعتي، فإنكم ميتون وصائرون إلي، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تُردون.
ثم أخبر جل ثناؤه عما أعد للصابرين منهم على طاعته من كرامته عنده فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} يعني: صدقوا الله ورسوله فيما جاء به من عند الله، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العنكبوت آية: 58]، يقول: وعملوا بما أمرهم الله به، فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نهاهم عنه، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [سورة العنكبوت آية: 58] يقول: لننزلنّهم من الجنة علالي.
وقوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة العنكبوت آية: 58]، يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار، {خَالِدِينَ فِيهَا}، يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية. {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [سورة العنكبوت آية: 58]، يقول: نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف. {الَّذِينَ صَبَرُوا} [سورة العنكبوت آية: 59] على أذى المشركين في الدنيا وما كانوا يلقون منهم، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه، وجهاد أعدائه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 59] في أرزاقهم، وجهاد أعدائه؛ فلا ينكلون عنهم، ثقة منهم بأن الله معلي كلمته، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق، فلن يفوتهم. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا}[سورة العنكبوت آية: 60]، يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: هاجروا وجاهدوا في الله، أيها المؤمنون، أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتاراً، فكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء ومطعم ومشرب، {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [سورة العنكبوت آية: 60]،(10/292)
ص -283- ... يعني: غذاءها فترفعه في يومها لغدها، لعجزها عن ذلك، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [سورة العنكبوت آية: 60]، يوماً بيوم، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم: نخشى، بفراقنا الأوطان، العيْلة، { الْعَلِيمُ} ما في نفوسكم، وما إليه صائر أمركم وأمر عدوكم، من إذلال الله إياهم ونصرتكم عليهم، وغير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 61]، يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد، هؤلاء المشركين بالله، مَن خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح خلق الله؟ ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله: الله. فأنى يؤفكون؟ يقول جل ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له؟ وذكر بسنده عن قتادة: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: أي: يعدلون.
وقوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة العنكبوت آية: 62]، يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق؛ فيقتر لمن يشاء منهم، يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي، دون كل أحد سواي: أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت؛ فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم(10/293)
ص -284- ... خوف العيلة. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومن لا يصلح له إلا البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه، وهو عالم بذلك. انتهى.
وقال ابن كثير، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية [سورة النساء آية: 97]: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن زيد المقري قال: حدثنا حيوة وغيره قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم، يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]". ثم ذكر كلام ابن جرير المتقدم.
ثم قال: فهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي(10/294)
ص -285- ... الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]أي: لا نقوى على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97].
ثم ذكر رواية السدي قال: "لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك؟ ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم. ثم تلا عليه هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97]". ثم رغب سبحانه في الهجرة، فقال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100]، وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين؛ فإن المؤمن حيثما ذهب، وجد عنهم مندوحة، وملجأ يتحصن فيه. وقوله: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.
ثم قال: وإن كان سبب نزول هذه الآية خاص فيمن كان مع المشركين، حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكمها عام، باق إلى يوم القيامة؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولحديث عبد الله بن السعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" 1، رواه أحمد والنسائي، ولحديث معاوية: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/270).(10/295)
ص -286- ... التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" 1.
وقال ابن كثير أيضاً، في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [سورة الأنفال آية: 72]: وهذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ نهى الله نبيه أن يجعلهم كالمهاجرين، في المغنم وغير ذلك، مما يقتضي الولاية.
ثم قال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]. لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وحذرهم من توليهم، والقيام بين أظهرهم.
ثم ذكر بسنده عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً، ثم قرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]".
ثم ذكر عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب"، وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى ناراهما" 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2479), وأحمد (4/99), والدارمي: السير (2513).
2 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).(10/296)
ص -287- ... ثم ذكر عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" 1. وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس؛ وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدين، وقوة للكافرين.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [سورة التوبة آية: 23-24]، قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله ألا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم، ويدع الهجرة. فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم". وأخبر أن إيثار هذه الأصناف الثمانية، على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24]. قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2787).(10/297)
ص -288- ... يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه.
قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 51-54].
وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139]، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ(10/298)
ص -289- ... اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107].
هذا حكم الله تعالى في هذا الصنف، حكم بردتهم في مواضع كثيرة من كتابه.
ولكن الكلام في المسلم القادر على الهجرة، التارك لها، فإن انضم إلى ذلك عدم رؤية الذنب والإقرار به، والتمس العذر لنفسه واحتج لها، فهو أشد خطراً لجحود الفرض المأمور به، المخاطب به كل من ابتلي بمشرك. فيا ويح من تصدى لذلك! وفيما تقدم من كلام المفسرين كفاية لمن أراد الله هدايته ونجاته.
ونزيد ذلك إيضاحاً بنقل كلام بعض العلماء وشراح الحديث، لئلا يبهرج على ضعفاء البصائر:
قال الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله- في شرح البخاري: قوله: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحها المسلمون. أما قبل فتح البلد، فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.
الثاني: قادر يمكنه إظهار دينه بها، وأداء واجباته،(10/299)
ص -290- ... فالهجرة منها مستحبة، لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو مرض، أو غيره، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر. انتهى.
وقال أبو الفوز 1 في نقله عن ابن حجر المكي، وهو من أئمة الشافعية - لما ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة - ما ملخصه: والمسلم الكائن بدار الكفر، إن أمكنه إظهار دينه، وأمن فتنته في دينه، استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام، لئلا يكثر سواد الكفار، وربما كادوه، وإن لم يمكن المسلم الكائن بدار الكفر إظهار دينه فيها، وخاف فتنته في دينه، وجبت عليه الهجرة إلى دار الإسلام، وأثم بالإقامة، ولو كان المسلم امرأة، وإن لم تجد محرماً يذهب معها إلى دار الإسلام، لكن إذا أمنت على نفسها من فاحشة وغيرها.
فإن لم يطق الهجرة، فمعذور، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة النساء آية: 97] أي: ملك الموت وأعوانه، أو أراد: ملك الموت وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سورة السجدة آية: 11].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد أمين بن علي السويدي, وانظر صفحة: 199 من العقد الثمين في محاسن الدين, لأبيه علي.(10/300)
ص -291- ... والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في المقام في دار الشرك، وترك الهجرة {قَالُوا} أي: الملائكة، توبيخاً لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة وعن إظهار الدين وإعلاء كلمته. {قَالُوا} أي: الملائكة، تكذيباً لهم وتبكيتاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] إلى قطر آخر. {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97].
وذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد: أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر تجب من بلاد الإسلام، إذا أظهر المسلم بها واجباً ولم يقبل منه، ولا قدر على إظهاره. قال: ويوافقه قول الإمام البغوي في تفسير سورة العنكبوت، في تفسير قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: قال سعيد بن جبير: "إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة"، وقال عطاء: "إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة". وكذلك يجب على كل من كان ببلد، يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيثما تتهيأ له العبادة، لقوله تعالى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68].(10/301)
ص -292- ... وقال البيهقي في شعبه، ما نصه: اعلم أن الهجرة على ضربين: ظاهر، وباطن. ثم قال: فالظاهر منها- أي: من الهجرة-: الفرار بالجسد من الفتن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من أهل ملتين؛ لا تتراءى ناراهما" 1، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لعدم هذه الشعبة فيهم، وهي: الهجرة؛ فهي إذاً من أعظم شعب الإيمان، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر الفتن -: "لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق"، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97].
وفي البخاري: والفرار من الفتن، من الإيمان؛ فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك. فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه الفتنة في الدين، من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفر، في أي بلد كان من بلدان المسلمين، فالهجرة منه واجبة إلى أرض الله الواسعة. انتهى ما ذكره البيهقي، رحمه الله تعالى.
قال الغزالي- بعد ذكر كلام كثير من السلف -: فهذا يدل أن من بلي ببلدة قد استولى عليها حكم الكفار، وظهرت فيها أعلامهم وشعائرهم، فلا عذر له في المقام بها، بل يجب عليه أن يهاجر، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645).(10/302)
ص -293- ... تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]؛ فالبلاء والشر إذا ظهرا في قطر، ولم يحرز المسلم نفسه، شمل العقاب والذم الطائعين والعاصين. انتهى.
قال الإمام أبو عبد الله الحليمي في شعب الإيمان: ومن الشح بالدين: أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه، إلى موضع يمكنه فيه ذلك. فإن أقام بدار الكفر والمعصية، ذليلاً مستضعفاً، مع إمكان انتقاله عنهما، فقد ترك فرضاً في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]. لا يقال: ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها: الكافر الذي مال إلى الإيمان، وأيضاً، فإنها نزلت قبل فتح مكة، فلما فتحت قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 1، فنقول: ذكر العفو عمن استثنى منهم، حيث قال في آخرها: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] يرد ذلك، فإن الله تعالى لا يعفو عن الكافر، وإن عزم على الإيمان، ما لم يؤمن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" 2 معناه: لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار إسلام، فلا يدل على نفي وجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).(10/303)
2 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).(10/304)
ص -294- ... الهجرة من غيرها، إذا لم يمكن إقامة الدين فيها، فإنها حينئذ كمكة قبل الفتح، ولو صارت مكة - والعياذ بالله - بحيث لا يمكن المقيم بها إقامة دينه، وجبت الهجرة منها أيضاً، لأنها إنما وجبت منها أولاً لهذا المعنى؛ فحيث وجدت هذه العلة ثبت الحكم. وكل بلد ظهر فيه الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الإصلاح، أو غلب الجهل على أهله، وتشعبت الأهواء بهم، وضعفت العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق خوفاً على أنفسهم من الإعلان به، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها عند القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر - والحالة هذه - لم يكن من الأشحاء بدينه، بل من السمحاء المتساهلين فيه. انتهى ما ذكره الحليمي، رحمه الله تعالى.
ولو نقلنا كلام الأئمة الأعلام من أهل كل مذهب في هذا الباب، لطال الجواب، وهو بحمد الله بين واضح في محاله.
فإن قيل: ما ذكرتم خاص بالكفار، كيف تجعلوننا مثل الكفار؟ أم كيف تنزلون الآيات النازلة فيمن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم وصار مع الكفار أعداء الرسول، علينا؟ قيل له: تقدم عن ابن كثير وفي آخر كلام الحليمي المذكور ما فيه كفاية؛ ومعلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يستدل به إلا في تلك الأسباب، بطل الاستدلال(10/305)
ص -295- ... بالقرآن، وهذا خروج من الدين.
وأيضاً، فما زال العلماء من عصر الصحابة ومن بعدهم، يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود، وفي غيرهم، على من يعمل بها. من قال منهم: إن الآية إذا نزلت في رجل كافر، أنها لا تعم من عمل بها من المسلمين؟!
لكن هذا شأن الجاهلين الظالمين، أهل اللجاج والباطل، يدفعون في نحر النصوص عما دلت عليه، بنحو من هذه الأباطيل، التي يعرف المسلم بطلانها بمجرد فطرته، فالله المستعان.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وما ذكرت من حال من يكون بين ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التوحيد، بحيث يظهر لهم القول بأن هذه الأمور الشركية، التي تفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة. وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنه الشرك العظيم، فهذا ترك واجباً عليه، ولا يكفر بذلك.
وسئل: عن حديث: "إذا أقمت الصلاة" 1... إلخ ؟
فأجاب: وأما الحديث الذي فيه "إذا أقمت الصلاة فأنت مهاجر، ولو كنت بأرض كذا" 2، فيحتمل أن المراد: إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الصلاة (499).
2 أبو داود: الصلاة (499).(10/306)
ص -296- ... هجرت الشرك، وأقمت الصلاة، فأنت مهاجر، لحديث: "المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه" 1. ويحتمل: أنه إذا كان بين كفار، كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان، الذين لا يعرفون صلاة المسلمين، وأن من أظهر إقامة الصلاة بين ظهرانيهم، كان ذلك إظهاراً لدينه، فلا تجب عليه الهجرة، والله أعلم.
سئل أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشيطان بين الرغوة والصريح"، وقوله: "هلاك أمتي في الكتاب واللبن" 2؟
فأجاب: وأما قولك: وقول النبي: "الشيطان بين الرغوة والصريح" 3، فإن هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ولفظه عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أخاف على أمتي إلا اللبن، فإن الشيطان بين الرغوة والصريح" 4، قال بعض العلماء، كأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره، بعد كلامهم على أن الرغوة من اللبن، وأن الصريح الخالص منه، قالوا: فالمراد أن الشيطان يحبب إليهم اللبن، فيخرجون إلى البادية، فيتركون الجمعة والجماعة.
وأما الحديث الثاني، فرواه البيهقي من رواية ابن لهيعة، عن أبي قبيل عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلاك أمتي في الكتاب واللبن. قيل: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن، ويتركون الجماعات والجمع" 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (10), والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996), وأبو داود: الجهاد (2481), وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224).
2 أحمد (4/155).
3 أحمد (2/175).
4 أحمد (2/175).
5 أحمد (4/155).(10/307)
ص -297- ... ولعل من تكلم على الحديث الأول، أخذ تفسيره من هذا الحديث.
[ وصية فيها الحث على عداوة من حاد الله ورسوله ]
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى من يراه من الإخوان، وكافة الرؤساء في ساحل عمان، ومن يليهم، ومن على سليم من أهل فارس وجعلان، من المنتسبين إلى السنة والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن الله تعالى أوجب علينا التعاون على البر والتقوى، والتناصر في ذاته على الأعداء؛ وكل إنسان عليه من العبودية بحسبه، فحيث لا عذر عن قبول الحق، فكذلك لا عذر عن تبليغه. وقد سبقت الإشارة من بعض الإخوان بطلب النصيحة، وما لا يدرك كله لا يترك كله.
فمن أجل ذلك، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتقوى: كلمة جامعة لخصال الخير، أمراً ونهياً؛ وأعظمها مشقة: عداوة من حاد الله ورسوله، وألحد في أسمائه وصفاته، وأشرك في توحيده. وتعلمون أن سر الخلق والأمر، هو: أن يُعرف الله بأسمائه وصفاته، ويُقصد وحده سبحانه بأنواع العبادة، وأن لا يشرك به أحد سواه، كائناً من(10/308)
ص -298- ... كان، وأن يقوم الناس بالقسط؛ فأنزل الحديد آلة يستعان بها على جهاد من خرج عن القسط.
وقد لاح في أوائل هذا القرن علم التوحيد، وأغمدت سيوف الجهاد في هامات من حاد عنه، من شيع الكفر والتنديد، وأقيمت الحدود الشرعية في كافة بلدان المسلمين، وحصل القيام التام بواجبات الدين، وذلك أمر لا يخفى، وحصل لأسلافنا وأسلافكم، من التعاون على ذلك ما أرغم الله به أنوف الأعداء، حتى صارت دياركم معقل الإسلام، ومهاجر السادات الأعلام.
ولم يزل في هاتيك الجهات - لا زال فيها للحق دعاة - من يلهج بتحقيق توحيد المرسلين، ويرشد به الحيارى الجاهلين، وينكر أوضاع الجهمية المبتدعين الملحدين في رب العالمين.
فالتبس هذا الأصل على كثير من الخلق، حتى آن اندراسه، وانقلع - إلا ما شاء الله - أساسه، وكثر الطعن في الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية المحمدية، وفاه بين العوام: أن من تكلم بالشهادتين، فهو من أهل الإسلام، وخفي عليهم ما وضعت له من إخلاص العبادة لله، والكفر بما يعبد من دون الله، ونودي بالمسالمة لمن لاذ بالأوهام، وألحد في الدين وعادى المسلمين، عمياء صماء ظلماء، يحاول دعاتها، إطفاء ما استبان من هذا الدين المتين،(10/309)
ص -299- ... ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته.
وفي خلال تلك الفرقة، حصل الابتلاء بتداعي الأمم علينا، عقوبة إعراضنا عن هذا الأمر، وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. لينزعنّ الله عن صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت"، فدل الحديث: على أن الرغبة في الدنيا والإعراض عن الأخرى، سبب الهلاك والدمار، وتسلط الأعداء، وفشل الأعمار.
وعن ثوبان أيضاً مرفوعاً: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" 1. وقد اتسعت الفتنة بهم، وعظم الخطب، ودب الشوم على عقائد أهل الإسلام وإيمانهم، والتحق بهم من ليس له بصيرة ولا قدم صدق، ولا معرفة بالحق، وظنوا أنهم بالتزامهم بعض أركان الإسلام، من دون هذا الركن الأعظم، على هدى مستقيم. وليس الأمر كذلك، بل هو كما قال أبو الوفاء ابن عقيل، رحمه الله: إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/278).(10/310)
ص -300- ... الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد، ولا إلى ضجيجهم بـ"لبيك"، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة. فاللجا اللجا إلى حصن الدين! والاعتصام بحبل الله المتين! والانحياز إلى أوليائه المؤمنين! والحذر الحذر من أعدائه المخالفين!
فأفضل القرب إلى الله تعالى: مقت من حاد الله ورسوله، وجهاده باليد واللسان والجنان بقدر الإمكان، وما ينجي العبد من النيران؛ ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا بد أن ينقاد لأوامر القرآن والسنة، ويتبرأ من كل معتقد يخالف ما عليه السلف الصالح من سادات الأمة. وهل زال الإسلام، وغيرت الأحكام، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الملك العلام، إلا بدعاة أبواب جهنم، يصدون الناس عن دينهم.
فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا كل الذهاب، فإنها رأس كل خطيئة، وليست من أولها إلى آخرها عوضا – والله - عن ذرة من ذرات الآخرة. وكل ما صدر ممن يدعي الإسلام من الإعراض عن هذا الأمر، وتولى المشركين، والطعن على المسلمين، واستعجال الراحة، والرضى عن النفس، والتزيين، هو بعينه نفس العقوبة، وسبب الخذلان، ومركب الندم والهوان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ(10/311)
ص -301- ... وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73].
فكيف يخلد إلى الدنيا، ويصادق الأعداء، وينسى عهود الحمى، من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخاف سوء الحساب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51]. قال حذيفة رضي الله عنه: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر"، وتلا هذه الآية. وعاتب عمر رضي الله عنه أبا موسى، في جعل النصراني كاتباً، وقال: "ما لك؟ قاتلك الله! أما اتخذت حنيفاً مسلماً؟"، وتلا هذه الآية، وهذا مع استخدامه، فكيف بموالاته وإكرامه؟! وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن وادّ المشركين، فقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22].
ومن المعلوم: أن من وادَّ أحداً فهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي بدينه، فصار من أهل ملته وهو لا يشعر. وأكثر الناس يفطن للمعصية ووسائلها، ولا يفطن للشرك ووسائله، ولما نهى الله عن موالاة أعدائه من الكفار والمشركين، وأباح التقية مع الإكراه، قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، وهذا من أعظم الوعيد والتهديد لمن تدبر كتاب الله، وعقل عن الله أمره.(10/312)
ص -302- ... نعم، خف أمر أهل الملل عندنا، لما سمعنا بمن جاسوا خلال الدين، وهموا باختلاس عقائد المسلمين، وأدخلوا الشبه ليصدوا بها الناس عن الحق الواضح المستبين، من أحسائي ذي غلّ، وفارسي مضل، فتقربوا إلى الله تعالى بالبعد عن داعي الشبهات، واطلبوا علم التوحيد بدليله من البينات. قال بعض السلف: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند ورود الشهوات; فأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، واقبلوا نصيحة مشفق بالمسلمين.
وهنا مقام آخر، وهو مقام استجلاب النعم، واستدفاع حلول النقم، ولا يحصل إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه. وقد ذم الله من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، فقال جل من قائل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 165]، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104].(10/313)
ص -303- ... فدلت الآيات على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنه لا نجاة إلا لمن قام بذلك، وأن اتباع الشهوات، وإيثار اللذات، يوجب الكون في جملة المجرمين. والآيات في هذا المعنى والأحاديث، أكثر من أن تحصر، ومن كان الله وحده مراده، ومعبوده ومحبوبه، انقاد لأوامره ونواهيه، ولم يداهن أحداً فيه.
وفقنا الله وإياكم لشكر نعم الله، والصبر على طاعته، والبعد عن موجبات غضبه وعقابه، وجهاد النفس على عداوة أعدائه، ومحبة أحبابه. وصلى الله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وسئل: عن الهجر... إلخ؟
فأجاب: الهجر المشروع قد قام الدليل عليه، وأشار جل من السلف إليه، وهو مراتب، وله أحوال وتفاصيل، على القلب واللسان والجوارح، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وقصتهم مشهورة. وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله في الهدي، في فقه القصة ما يكفي.(10/314)
ص -304- ... وأصل الهجر: الترك والفراق والبغض، وشرعاً: ترك ما نهى الله عنه، ومجانبته والبعد عنه. وهو عام في الأفعال والأشخاص، وهو في المشركين، ومن لاذ بهم، واستحسن ما هم عليه، وخدمهم، وازدراء أهل الإسلام أعظم، لأن قبح الشيء من قبح متعلقه؛ وهذه الجملة فيها أقسام، ولها تفاصيل.
منها: هجر الكفار والمشركين. والقرآن من أوله إلى آخره ينادي على ذلك؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نص الإمام أحمد وغيره من السلف، على البعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللسان، والبدن، إلا من داع إلى الدين مجاهد عليه بالحجة، مع أمن الفتنة، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 140]. والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير.
قال بعض المحققين: ويكفي العاقل قوله تعالى، بعد نهيه عن موالاة المشركين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 30]. وقد حكى(10/315)
ص -305- ... ابن كثير، رحمه الله تعال،: الإجماع على أن تارك الهجرة عاص، مرتكب محرماً على ترك الهجرة. ولا يكفي بغضهم بالقلب، بل لا بد من إظهار العداوة والبغضاء، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4].
فانظر إلى هذا البيان الذي ليس بعده بيان، حيث قال: {وَبَدَا بَيْنَنَا} أي: ظهر؛ هذا هو إظهار الدين، فلا بد من التصريح بالعداوة، وتكفيرهم جهاراً، والمفارقة بالبدن. ومعنى العداوة: أن تكون في عدوة، والضد في عدوة أخرى.
كان أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة: فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تخفى العداوة من مستضعف معذور، عذره القرآن. وقد تخفى لغرض دنيوي، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة.
ودعوى من أعمى الله بصيرته، وزعم: أن إظهار الدين، هو عدم منعهم ممن يتعبد، أو يدرس، دعوى باطلة؛ فزعمه مردود عقلاً وشرعاً. وليهن من كان في بلاد(10/316)