ص -38- ... سئل الشيخ عبد اللطيف: عمن فاتته صلاة الجمعة... إلخ؟
فأجاب: من فاتته صلاة الجمعة، وقد صلاها الإمام قبل الزوال، فيصليها ظهراً بعد الزوال. انتهى.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: خطبت، ووقفت على: يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، ثم قلت: جعلنا الله وإياكم من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بارك الله لي ولكم... إلخ، ولا فطنت إلا بعد انقضاء الصلاة، ثم تأملت: يوم يبعثر ما في القبور... إلخ، فإذا كأنها آية تقوم بالمعنى... إلخ؟
فأجاب: ما علمت فيها خلافاً، وأرجو أنها تامة.
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع المذمومة التي ننهى عنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة، بين يدي الخطبة، وقد صرح شارح الجامع الصغير، بأنه بدعة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن اتحاد الخطيب والإمام... إلخ؟
فأجاب: ما ذكرتم من الدليل ومذاهب الأئمة الأربعة، فهو ما نحن عليه، وهو: أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن الخطيب هو الإمام، لمداومته عليه، وأن الاستخلاف لعذر جائز عند الأئمة الأربعة، وأما من استخلف لغير عذر فهل ينكر عليه، أم لا؟ فهذا مبني على معرفة المنكر، الذي يجب إنكاره.(6/36)
ص -39- ...
وذكر كلام الشيخ ابن رجب في المنكر الذي يجب إنكاره، وكلام غيره. ثم قال: فقد علمت، رحمك الله: أنه لا ينكر إلا ما خالف كتاباً، أو سنة أو إجماعا،ً أو قياساً جلياً على القول به، أو ما ضعف فيه الخلاف، وأنه لا ينكر على خطيب استخلف من يصلي يوم الجمعة، بعد ما خطب هو لغير عذر؛ هذا هو المذهب عند متأخري الحنابلة، كما قاله صاحب الإقناع وغيره، قال: ولا يشترط لها، أي: الخطبتين أن يتولاهما من يتولى الصلاة، ولا حضور النائب الخطبة، وهو الذي صلى الصلاة ولم يخطب، ولا أن يتولى الخطبتين واحد، بل يستحب ذلك.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويترضى عن الصحابة، رضي الله عنهم، جهراً، والإمام يخطب يوم الجمعة؟
فأجاب: الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مخالفة للشريعة، منع منها طوائف العلماء سلفاً وخلفاً، ولهم فيه مأخذان:
الأول: أنه من محدثات الأمور، التي لم تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه، ولا التابعين، ولو كان خيراً سبقونا إليه.
الثاني: أن الأحاديث ثبتت بالامر بالانصات للخطبة؛ فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم(6/37)
ص -40- ... أنه قال: " إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت " 1، قال في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي دعاء، وجميع الأدعية المأمور بها، السنة فيها الإسرار دون الجهر غالباً. قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع; قال شيخ الإسلام: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن الصحابة، رضي الله عنهم، دعاء من الأدعية، والمشروع في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر، قال: وأما رفع الصوت بالصلاة والترضي الذي يفعله بعض المؤذنين قدام الخطباء في الجمع، فمكروه أو محرم. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضاً: وأما الناس الذين يجتمعون، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس مشروعاً; وإنما المشروع: الصلاة وقراءة القرآن قبل دخول الإمام، فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة، وجب الإنصات للخطبة، كما في الحديث: " إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت " 2.
وسئل: عن تقدم الخطيب في المسجد... إلخ؟
فأجاب: وأما تقدم الخطيب في المسجد، يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة، فلا بأس به؛ لكن ينبغي أن يكون في ناحية، يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (934), ومسلم: الجمعة (851), والترمذي: الجمعة (512), والنسائي: صلاة العيدين (1577), وأبو داود: الصلاة (1112), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110), وأحمد (2/244, 2/272, 2/280, 2/393, 2/396, 2/485, 2/518, 2/532), ومالك: النداء للصلاة (232), والدارمي: الصلاة (1548, 1549).(6/38)
2 البخاري: الجمعة (934), ومسلم: الجمعة (851), والترمذي: الجمعة (512), والنسائي: صلاة العيدين (1577), وأبو داود: الصلاة (1112), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110), وأحمد (2/244, 2/272, 2/280, 2/393, 2/396, 2/485, 2/518, 2/532), ومالك: النداء للصلاة (232), والدارمي: الصلاة (1548, 1549).(6/39)
ص -41- ... سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الدعاء في الخطبة لمعين... إلخ؟
فأجاب: احتجاج بعض الناس بقول بعض العلماء: يباح الدعاء في الخطبة لمعين، ولم يقولوا: يسن; وأيضاً، فالدعاء حسن، يدعى له بأن الله يصلحه ويسدده، ويصلح به وينصره على الكفار وأهل الفساد، بخلاف ما في بعض الخطب، من الثناء والمدح بالكذب. وولي الأمر إنما يدعى له، لا يمدح لا سيما بما ليس فيه؛ وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب، هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح، ولا أن يثنى عليه، وإنما يدعى لهم بالتوفيق والهداية.
والواجب على ولي الأمر أولاً، البداءة برعيته بإلزامهم شرائع الإسلام، وإزالة المنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فهذا أهم وأوجب من جهاد العدو الكافر، وهذا مما يستعان به على جهاد الكفار، كما روي: " إنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ".
وأما الجلسة بين الخطبتين، فلا علمت فيها ذكراً، لكن إن دعا في تلك الحال بما أحب فحسن. وأما الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة، وبين الخطبتين، فلا علمت فيه شيئاً، ولا ينكر على فاعله الذي يتحرى ساعة الإجابة المذكورة في يوم الجمعة.(6/40)
ص -42- ... [ فصل في تعدد الجمعة ]
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: اعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم، تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفاً أو سمع النداء؛ فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة، كضيق المسجد وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم.
وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية، بغير إذن الإمام وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهراً; وقواعد الشريعة تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة والإعانة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشرع أيضاً على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [سورة آل عمران آية: 103]. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة 1 أخرى، لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي: المحلة المحاطة بسور يفصلها عن غيرها.(6/41)
ص -43- ... يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى؛ ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله.
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن صلاة أمير الوادي 1 في قصره لأجل التحفظ؟
فأجابا: العلماء، رحمهم الله، قد ذكروا في ذلك ما يشفي ويكفي، وهو غير خاف إذا كان ذلك للحاجة؛ قال في الإقناع وشرحه: ويجوز إقامتها، أي: الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة إليه، كضيق مسجد البلد عن أهله، وخوف فتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة يخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، وبعد جامع عن طائفة من البلد ونحوه، كسعة البلد وتباعد أقطارها، فتصح الجمعة السابقة واللاحقة، لأنها تفعل في الأمصار العظيمة وفي مواضع من غير نكير، فكان إجماعاً. قال الطحاوي: وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع، فلعدم الحاجة إليه. انتهى.
وقال في الفروع: وعن الإمام أحمد عكسه، خلافاً لهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: وادي الدواسر.(6/42)
ص -44- ... لأنهم أطلقوا القول في رواية المروذي وغيره. وسئل عن الجمعة في مسجدين؟ فقال: صلي; قيل له إلى أي شيء تذهب؟ قال إلى قول علي في العيد، أنه أمر أن يصلى بضعفة الناس; ذكره القاضي وغيره وحمله على الحاجة، وفيه نظر، لأنه احتج بعلي في العيد. وعلى هذا، فكلام العلماء صريح في جواز إقامة الجمعة في موضع آخر للحاجة، ومن الحاجة خوف العدو الخارج، والتحفظ على ثغور المسلمين عن الأمور التي يخشى ضررها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سئل عن صلاة الجمعة في جامع القلعة: هل هي جائزة، مع أن في البلد خطبة أخرى، مع وجود سورها وغلق أبوابها، أم لا؟
الجواب: نعم يجوز أن يصلى فيها الجمعة، لأنها مدينة أخرى، كمصر والقاهرة؛ ولو لم تكن كمدينة أخرى، فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة جائزة عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان، أقاموا فيها الجمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء - إلى أن قال - فلما تولى علي بن أبي طالب وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيراً، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخاً يشق عليهم الخروج إلى الصحراء، فاستخلف علي رضي الله عنه رجلاً يصلي بالناس(6/43)
ص -45- ... العيد في المسجد، وهو يصلي بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك. وعلي رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " 1؛ فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين، فقد أطاع الله ورسوله؛ والحاجة في هذه البلاد، وفي هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة... إلى آخر ما ذكر. ثم لا يخفى: أن الحاجة داعية إلى ذلك، وأن ثغور أهل الإسلام مما ينبغي حفظها وإلاعتناء بالمحافظة عليها، عما يخشى وقوعه من العدو الخارج الذي يتربص بالمسلمين الدوائر، وكان القصر المسمى بـ "قصر إبراهيم" يصلى فيه جمعة ثانية، وهو قريب من مسجد "الكوت" في الأحساء، وكان ذلك بعلم من مشائخ المسلمين: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وكان إمامه الشيخ أحمد بن مشرف؛ فلو كان ذلك غير جائز لمنع منه المشائخ، ولم يقروهم على ذلك.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف: عن بناء مسجد يجمع فيه في باطن بلد الرياض، لضيق جامع البلد مع ما يحصل لأهل الباطن من مشقة التفرق، والخوف على حروثهم، وضيعاتهم، وعيلاتهم؟
فأجابا: بأنه يسوغ التجميع في ذلك المسجد، لا حرج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: العلم (2676), وأبو داود: السنة (4607), وابن ماجة: المقدمة (42, 44), وأحمد (4/126), والدارمي: المقدمة (95).(6/44)
ص -46- ... في ذلك، لوجود المسوغ لبنائه والتجميع فيه؛ وهذا ظاهر لا يخفى، والله أعلم.
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد إلى جناب الأخ المكرم الأحشم: محمد بن سليمان الجراح، رزقه الله الفهم والتوفيق، وأدر عليه سحائب التحقيق، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم المكرم وصل؛ وصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا إذ أنبأ بصحتكم، واستقامة أحوالكم، الحمد لله رب العالمين. رزقنا الله وإياكم شكر نعمه، وصرف عنا وعنكم أسباب سخطه ونقمه.
وما ذكرته عن الأصحاب، رحمهم الله، من أنهم نصوا على جواز إقامة الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة كضيق المسجد عن أهله... إلخ.
الجواب: الحمد لله، نص العلماء، رحمهم الله في كل مذهب على جواز ذلك مع الحاجة، كما لو ضاق مسجد الجامع عن أهله؛ والمراد بأهله هاهنا: هم الذين يغلب فعلهم(6/45)
ص -47- ... لها ممن تصح منه، كما ذكره غير واحد من محققي الحنابلة، والشافعية وغيرهم. أما تعدد إقامتها في البلد من غير حاجة، فهذا لا يعرف القول به، لا عن صحابي، ولا تابعي، إلا ما يروى عن عطاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة وبها تسعة مساجد سوى مسجده، ولم يكونوا يجمعون في شيء منها، وأهل ذي الحليفة وقباء، وأهل العوالي وكانت على ثلاثة أميال من المدينة، لم يكونوا يجمعون في عهده، وفي عهد الخلفاء بعده، إلا في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ بل روى الترمذي في جامعه: عن رجل من أهل قباء، قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء " 1، قال البيهقي، رحمه الله: ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي بقربها.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم: باتخاذ مسجد جامع، ومسجد آخر للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة، انضموا وشهدوا الجمعة في مسجدها. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر ". واستمر عمل المسلمين على هذا إلى آخر القرن الثالث.
أيظن حينئذ أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وعمل به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الجمعة (501).(6/46)
ص -48- ... المسلمون في تلك القرون المفضلة؟! نعوذ بالله أن نقول ذلك.
فإن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، على ما ذكره الخطيب في تأريخ بغداد، في أيام المعتضد، سنة مائتين وثمانين، وسبب ذلك: خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام؛ فأقاموا جمعة بدار الخلافة، من غير بناء مسجد لها.
وقد أفتى علماء مرو، وأئمتها لما أقيم بها جمعتان، بإعادة الجمعة ظهراً حتماً، احتياطاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، ولقوله: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " 2؛ والجمعة سميت بهذا لجمعها الجماعات الكثيرة، بأن يكونوا جماعة واحدة، وهي من أعظم اجتماعات فروض الإسلام، فإنه ليس في الإسلام مجمع أكبر ولا أفرض منه، سوى إلاجتماع بعرفات.
وفي تعطيل المسلمين مساجدهم يوم الجمعة، واجتماعهم في مسجد واحد، واستمرارهم على هذا جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، أبين بيان وأدل دليل، على أن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد; ومن قال بجواز تعدد إقامة الجمعة في كل مسجد بدون حاجة، كسائر الصلوات، تنفيذاً لهمة الشارع صلى الله عليه وسلم في التسهيل على هذه الأمة، فقوله مردود عليه، لم يؤيده كتاب ولا سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240, 6/270).
2 البخاري: الإيمان (52), ومسلم: المساقاة (1599), والترمذي: البيوع (1205), والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710), وأبو داود: البيوع (3329), وابن ماجة: الفتن (3984), وأحمد (4/267, 4/269, 4/270, 4/271, 4/275) , والدارمي: البيوع (2531).(6/47)
ص -49- ... ولا إجماع، ولا قول صاحب، وليس عندهم في ذلك أثارة من علم. فهلا قالوا بإقامتها لكل أحد في بيته، تسهيلاً وتيسيراً؟! بل التسهيل والتيسير هو اتباع سنته والتمسك بهديه، وإلاقتداء بأفعاله،{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [سورة الأحزاب آية: 21]. وقولهم: إن عدم تعدد إقامتها في زمنه وزمن الخلفاء بعده، لما يتولد من إقامتها في موضع آخر من الاختلاف، وخشية الخروج على الأئمة، غير مسلم؛ ولو سلم لهم ذلك، بأنها علة مؤثرة في عدم تعدد إقامة الجمعة، لتعددت بانتفاء العلة، ولا قائل به من سلف الأمة؛ فالأحكام لا يجوز إثباتها بالتحكم بغير دليل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد... إلخ؟
فأجاب: الذي نص عليه علماؤنا أنه إن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام فإنها لا تسقط عنه، إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمع؛ وهذا يفهم أن المراد بالامام هو الذي يتولى الصلاة بهم. وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيده قولهم: إلا أن لا يجتمع به(6/48)
ص -50- ... من يصلي به الجمعة، نعم إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه، وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عيدان إذا اجتمعا في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون " 1، رواه ابن ماجة، فيصير التجميع في قوله: " وإنا مجمعون " يقتضي ما قلناه، لأنه صلوات الله وسلامه عليه، هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها وهو الصحيح: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة؛ لكن على الإمام أن يقيم الجمعة، ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد؛ وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف. ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها؛ وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل.
وأجاب الشيخ أبا بطين: إذا وافق العيد يوم الجمعة، سقطت عمن حضره مع الإمام، كمريض، دون الإمام؛ فإذا اجتمع معه العدد المعتبر أقامها، وإلا صلى ظهراً، وكذا العيد بها، إذا عزموا على فعلها سقطت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).(6/49)
ص -51- ... سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن عدم التدريس يوم الجمعة؟
فأجاب: وأما عدم التدريس يوم الجمعة، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة " 1، وصار عادة للناس، وبعضهم يترك التدريس في الجمعة والاثنين عادة.
وأما قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فهو عام لجميع اليوم، لأن في الحديث الوارد في ذلك إطلاقه اليوم، ولم يقيده بأوله.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن قوله: " من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عشراً، صلى الله عليه مائة، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً " 2.
فأجاب: هو ثابت في الحديث.
وسئل الشيخ أبا بطين: عن " الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أجعل لك كذا من صلاتي؟ " 3.
فأجاب: المراد - والله أعلم-: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كقوله: " اللهم صل على محمد " 4 ونحو ذلك، ففيه الإشارة إلى الإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. ويراد بالصلاة عليه: الدعاء، لأن الدعاء يسمى صلاة، فكأنه قال: كم أجعل لك من دعائي؟
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يترك للأمير مكان في المسجد... إلخ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (322), والنسائي: المساجد (714), وأبو داود: الصلاة (1079), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1133), وأحمد (2/179).
2 أحمد (2/187).
3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2457).
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3369), ومسلم: الصلاة (407), والنسائي: السهو (1294), وأبو داود: الصلاة (979), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (905), وأحمد (5/424), ومالك: النداء للصلاة (397).(6/50)
ص -52- ... فأجاب: أما إذا كان أهل المسجد يتركون مكاناً للأمير إكراماً له، فالمسجد لمن سبق إليه، وأحق الناس بالمكان الذي وراء الإمام، الذين يعرفون الدين والفقه؛ ولو ترك لهم مكان فلا بأس، وإن تركوا للأمير مكاناً فلا ينكر عليهم. وأما جلوس الإمام ينتظر الأمير، فلا أعلم في ذلك بأساً إذا لم يشق على المأمومين.
وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله تعالى: قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن سبق إلى مكان فهو أحق به " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " 2، فالأفضل: أن الذي يلي الإمام هو الأفضل في الدين، وأما التاجر وغيره من الناس، فليسوا بأحق من غيرهم بهذا المكان. وأما الأمير إذا ترك له مكان مراعاة له، وخوفاً من مفسدة أرجح من ذلك، فلا بأس به، لأجل دفع المفسدة ومراعاة المصلحة. وكذلك لا بأس به إذا كان القادم رجلاً صالحاً أو فاضلاً، فتفسحوا له بطيب نفس منهم من غير استمرار منهم. وأما الفاجر والفاسق، فلا حرمة لهم، وليسوا من أولي الأحلام والنهى; وكذلك لا يجوز أن يجعل الرجل له إيطاناً كإيطان البعير لا يصلي إلا فيه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله تعالى: عمن يضع عصاه في مكان فاضل من المسجد... إلخ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: السلام (2179), وأبو داود: الأدب (4853), وابن ماجة: الأدب (3717), وأحمد (2/263, 2/283, 2/342, 2/389, 2/483, 2/527, 2/537), والدارمي: الاستئذان (2654).
2 مسلم: الصلاة (432), والنسائي: الإمامة (807 ,812), وأبو داود: الصلاة (674), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (976), وأحمد (4/122), والدارمي: الصلاة (1266).(6/51)
ص -53- ... فأجاب: إذا كان إنسان يجلس في المسجد، فلا بأس بكونه يجعل عصاه في مكان فاضل، بحيث أنه ما يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه، من نحو وضوء، وكذلك لفطور وسحور ونحوه; وإن كان يجعل عصاه في مكان ويخرج لأشغاله، لنحو بيع وشراء وفلاحة ونحوه، فلا ينبغي لمثل هذا يجعل عصاه في مكان يحميه عن غيره. وأما الذي يخرج لنحو أكل وشرب أو وضوء، فلا بأس بجعل عصاه في مكان فاضل، ليحوز فضيلة الصف الأول، أو وسط الصف، وكذلك الجمعة وغيرها. وأما من دخل المسجد ووجد فيه عصا يضعها أهلها ويخرجون لأغراضهم، فلا بأس بتأخيرها والمجيء في موضعها؛ فإذا حاذرت من شيء يصير في نفس أخ لك، إذا أخرت عصاه وجلست في مكانه، فالذي أحبه تركها والجلوس في مكان آخر.
وأجاب أيضاً: وأما وضع العصي في المسجد يوم الجمعة أو غيره، فالذي نهينا عنه من فعل بعض الناس يدخل المسجد وهو محدث، فيضع عصاه ويخرج للاشتغال بأمر دنياه، وكذلك بعض الأولاد يجيء بأربع عصي أو أكثر أو أقل، ويضعها بمواضع من المسجد، وربما أن صاحب العصا ما يجيء إلا عند دخول الإمام، ويتخطى رقاب الناس. وأما من دخل المسجد وصلى فيه ما تيسر، ثم خرج لأكل أو شرب أو وضوء أو غلبة نوم، أو قام في ناحية من نواحي المسجد لشمس أو ظل، فهذا ما يقال فيه شيء.(6/52)
ص -54- ... ومن احتج بقول بعض الفقهاء، في وضع المصلى، فهذا ذكره كثير، وأنكره الشيخ تقي الدين، لأنه تحجر للمسجد؛ وقد أنكر الإمام على من فعل ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقياس العصا على المصلى المفروش فيه لا يصح، ومن المعلوم أنه لو كان يفعل في زمن من سلف لذكروه، لأنهم ينقلون العصي ولم ينقل أنهم فعلوا بها ذلك، والظن أنهم لو رأوا ثلاثة صفوف أو أربعة أو خمسة، مبسوط فيها سجادات، لأنكروا ذلك، وواضع السجادة ربما يعتذر ببخار الأرض، أو بردها أو حرها؛ وبكل حال فهذا لم ينقل عن الصحابة والتابعين وتابعيهم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن حديث: " من مس الحصى "... إلخ؟
فأجاب: أما حديث: " من مس الحصى فقد لغا " 1 فرواه مسلم في صحيحه، وليس فيه: " ومن لغا فلا جمعة له "، ولفظه صلى الله عليه وسلم: ?"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا " 2، لكن روى الإمام أحمد في مسنده، من حديث علي: " ومن قال لصاحبه: صه، فقد تكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له " 3، قال النووي في شرح حديث مسلم: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. انتهى. وهو واف بالمقصود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1025), وأحمد (2/424).
2 مسلم: الجمعة (857), والترمذي: الجمعة (498), وأبو داود: الصلاة (1050), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090), وأحمد (2/424).
3 أبو داود: الصلاة (1051), وأحمد (1/93).(6/53)
ص -55- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما مس الحصى في حال الخطبة، فقد صرح العلماء بكراهة العبث في تلك الحال؛ ولا فرق بين العبث بيد، أو رجل، أو لحية، أو ثوب، أو غير ذلك.
[ خصائص الجمعة ]
وسئل: عما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال بعد صلاة الجمعة: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، فله من الأجر كذا وكذا " 1.
فأجاب: لا أعلم له أصلاً.
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعاً؛ فيزجرون عن ذلك أشد الزجر.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما ورد في يوم الجمعة من الخصائص، وهل يختص بما قبل الزوال أم لا؟ مثل قراءة سورة الكهف وغيرها.
فأجاب: خصائص الجمعة على ثلاثة أضرب:
الأول: محله قبل الصلاة، كالاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وتأكد السواك، ومنع من تلزمه الجمعة إذا دخل وقتها من السفر ونحو ذلك.
الثاني: ما لا يختص بما قبل الصلاة، كاستحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومزية الذكر، والصدقة، ونحو ذلك.
الثالث. متردد بينهما بحسب ما ورد، كقراءة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: الأدب (3812).(6/54)
ص -56- ... سورة الكهف، وساعة الإجابة. فأما قراءة سورة الكهف، فورد في قراءتها ما يقتضي أن ليلة الجمعة كيومها، محل لحصول الفضل الوارد لما اقتضاه مجموع هذه الآثار: فروى الدارمي عن أبي سعيد موقوفاً: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق " 1. ومنها ما يقتضي تخصيصه باليوم، كما روى أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين " ، قال الحافظ المنذري: إسناده لا بأس به، وقال ابن كثير: في رفعه نظر. وذكر في المغني عن خالد بن معدان: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، قبل أن يخرج الإمام، كانت له كفارة ما بينه وبين الجمعة، وبلغ نوره البيت العتيق؛ وظاهر كلام الفقهاء أنه كالذي قبله لا يختص بما قبل الصلاة.
وأما ساعة الإجابة: ففيها أقوال تزيد على أربعين، ذكرها ابن حجر في الفتح، والجلال السيوطي في شرح الموطإ. وذكر العلامة ابن القيم كثيراً منها، ثم قال: وأرجح الأقوال فيها قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، أحدهما أرجح من الآخر: الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة; قلت: رجحه البيهقي، وابن العربي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدارمي: فضائل القرآن (3407).(6/55)
ص -57- ... والقرطبي، وقال النووي: إنه الصحيح والصواب; قال ابن القيم: الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق، وساق ما يدل على ذلك، كحديث عبد الله بن سلام، ثم قال: وهذا القول هو قول أكثر السلف، ويليه القول بأنها ساعة الصلاة؛ وبقية الأقوال لا دليل عليها، انتهى ملخصاً.
وقال المحب الطبري: إن أصح حديث فيها: حديث أبي موسى في مسلم، وأشهر الأقوال فيها: قول عبد الله بن سلام؛ قال ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، واستند صاحبه إلى اجتهاد دون توقيف. انتهى.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: أما سورة الكهف، فظاهر الخبر الآتي، وصريح كلام الفقهاء الحنابلة والشافعية، أنها في مطلق اليوم؛ والأصل فيها ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين " 1، وفي رواية للبيهقي: " ما بينه وبين البيت العتيق "، قال في شرح الجامع الصغير: وفي رواية: " ليلة الجمعة " بدل " يوم الجمعة "، وجمع بأن المراد اليوم بليلته، والليلة بيومها.
وقال في شرح المنهاج: وفي الفتاوى المصرية هي المطلقة يوم الجمعة، ما سمعت أنها مختصة بعد العصر. انتهى.
وقال في شرح المنهاج: ويستحب الإكثار من قراءتها، كما نقل عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدارمي: فضائل القرآن (3407).(6/56)
ص -58- ... الشافعي، وقراءتها نهاراً آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير. انتهى. فلم يقيدها بغير الأولوية؛ وعليها يحمل ما حكاه في المغني وغيره، عن خالد بن معدان، من أنها قبل الصلاة؛ لكن هل الليلة ما قبل اليوم، أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه، فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله. ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم، كليلة الجمعة وغيره: فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده; والذي فهمه الناس قديماً وحديثاً، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي " 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة. انتهى ملخصاً.
وقد جاء الحديث أيضاً بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، رواه الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعاً: " اقرؤوا سورة هود " 2، ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب، وهو في مراسيل أبي داود، قال الحافظ: مرسل صحيح الإسناد. وروى الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس مرفوعاً: " من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران، صلى الله عليه حتى تحتجب الشمس " 3. ومما ورد من الخصائص مطلقاً أيضاً، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، رواه أبو داود والترمذي، من حديث موسى بن أوس؛ قال الحاكم: صحيح على شرط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصيام (1144).
2 الدارمي: فضائل القرآن (3403).
3 أحمد (1/458).(6/57)
ص -59- ... الشيخين. ومن ذلك آكدية الدعاء، والتفرغ للعبادة، ومزيد الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم، وتوافيها فيه.
وأما الاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق، والتحلق والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد، لأنه قال في يومها الحاضر، إن صلاها، إلا لامرأة، وقد قيل: ولها. انتهى. ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: " من أتى الجمعة فليغتسل " 1، وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعاً: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح " 2، فذكره إلى أن قال: قال: " فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر " 3. وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد مرفوعاً: " من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومس من الطيب إذا كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج الإمام " 4 الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعاً: " ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت " 5 الحديث. وفي الطبراني عن أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره، ويقص شاربه، يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة ". وفي مسند أحمد وسنن أبي داود، عن ابن عمر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب " 6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (877, 894, 919), ومسلم: الجمعة (844), والترمذي: الجمعة (492), والنسائي: الجمعة (1376 ، 1405, 1407) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1088), وأحمد (2/3, 2/9, 2/35, 2/37, 2/41, 2/42, 2/47, 2/48, 2/51, 2/53, 2/55, 2/57, 2/64, 2/75, 2/77, 2/78, 2/101, 2/105, 2/115, 2/120, 2/141, 2/145, 2/149), ومالك: النداء للصلاة (231), والدارمي: الصلاة (1536).(6/58)
2 البخاري: الجمعة (881), ومسلم: الجمعة (850) والأضاحي (1960), والترمذي: الجمعة (499), والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385, 1386, 1387, 1388), وأبو داود: الطهارة (351), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092), وأحمد (2/272, 2/457, 2/460, 2/499, 2/505, 2/512), ومالك: النداء للصلاة (227), والدارمي: الصلاة (1543).
3 البخاري: الجمعة (881), ومسلم: الجمعة (850), والترمذي: الجمعة (499), والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385, 1386, 1387, 1388), وأبو داود: الطهارة (351), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092), وأحمد (2/239, 2/259, 2/263, 2/272, 2/280, 2/457, 2/460, 2/499, 2/505, 2/512), ومالك: النداء للصلاة (227), والدارمي: الصلاة (1543).
4 أبو داود: الطهارة (343).
5 البخاري: الجمعة (910), والنسائي: الجمعة (1403), وأحمد (5/438, 5/439, 5/440), والدارمي: الصلاة (1541). 6 الترمذي: الجمعة (514), وأبو داود: الصلاة (1110), وأحمد (3/439).(6/59)
ص -60- ... وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها، فمنعه الأصحاب بعد الزوال، إن لم يخف فوت رفقته، إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه; قال ابن المنذر: لا أعلم خبراً ثابتاً بمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء، لوجوب السعي حينئذ. وقال المجد في شرح الهداية: روى ابن أبي ذئب قال: " رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة "، رواه البخاري، وهو أقوى وجوه المرسل، لاحتجاج من أرسله به. انتهى.
وفي مسند الشافعي، عن عمر أنه رأى رجلاً عليه هيئة السفر، فسمعه يقول: " لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج، فإن الجمعة لا تحبس عن سفر "، وفيه عن علي نحوه. وفي سنن سعيد بن منصور: عن ابن كيسان: " أن أبا عبيدة ابن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة ". وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه: " من سافر يوم الجمعة، دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره "، ففيه ابن لهيعة، ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ.
وأما ساعة الإجابة، فاختلف العلماء فيها وفي موضعها من اليوم على أكثر من أربعين قولاً، ذكرها في الفتح، ولوامع الأنوار وغيرها، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتاً; وأقرب الأقوال فيها قولان، وأحدهما أرجح من الآخر، كما ذكره في(6/60)
ص -61- ... الهدي وغيره: الأول: ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. الثاني: أنها بعد العصر؛ وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس؛ قال الترمذي: هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم.
خاتمة: ذكر في التوشيح وغيره، أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين.
... باب صلاة العيدين(6/61)
ص -62- ... باب صلاة العيدين
سئل بعضهم، رحمه الله: هل هي فرض كفاية... إلخ؟
فأجاب: أما صلاة العيدين، فالصحيح من أقوال العلماء أنها فرض كفاية؛ ومن قال: إنها سنة، قال: إذا اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام. واستدلوا على أنها فرض كفاية، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها مالك بن الحويرث وصاحبه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وأعاذه من مضلات الأهواء والفتن، ورزقه العمل والتمسك بواضح السنن، آمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقد تحققنا ما أحدث في مكة المشرفة، من العيد المسمى بعيد الجلوس في آخر شعبان، الذي هو مضارع لأعياد الجاهلية، ولم يمنعنا من الكلام فيه، ومشافهتك بذلك(6/62)
ص -63- ... لما كنت عندنا، إلا أنا ظننا أنه لا يفعل هذا العام، من أجل أنه تقدم من بعضنا مناصحة لك في ذلك. وأنت فاهم، سلمك الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى بالملة الحنيفية، محا جميع ما عليه الجاهلية، من الأعياد الزمانية والمكانية، وعوض الله تعالى عنها الحنفاء، بعيد الفطر، وعيد الأضحى; ومما يدل على ذلك حديث أنس، قال: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر " 1، أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح. وتقرر في الشريعة المطهرة: أنه لا يسوغ تعظيم زمان أو مكان بنوع من أنواع التعظيم، إلا زمان أو مكان جاء تعظيمه في الشرع; فكما أن تعظيم القبور، أو بقعة لم يجيء تعظيمها في الشرع من أعظم البدع، فكذلك تعظيم زمان من الأزمنة، ولا فرق. فلو ساغ تعظيم زمان من الأزمنة التي لم يدل على تعظيمها الشرع وجعله عيداً، لساغ تعظيم ليلة الإسراء، ويوم بدر، ويوم الفتح، وجعلها أعياداً، لما حصل في تلك الأزمنة من الخير الكثير وإعلاء كلمة الله تعالى، وتشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد هدمت المولد، والقباب التي على القبور، لكونها أعيادا بدعية.
وبالجملة، فهذه إشارة ونصيحة؛ فإن كان أحد قد شبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: صلاة العيدين (1556), وأبو داود: الصلاة (1134), وأحمد (3/178, 3/235).(6/63)
ص -64- ... في ذلك ولبس، فبينوا لنا ذلك، ونحن مستعدون إن شاء الله تعالى لكشف شبهته، وبيان باطله بالادلة الشرعية، والحجج الواضحة القطعية المبسوطة، التي تقر بها أعين أهل السنة والإيمان، وتضمحل بها شبه أهل الزيغ والطغيان، ولا قوة إلا بالله، والسلام.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج النساء في العيد... إلخ؟
فأجاب: لا يعجبني في زماننا هذا، لأنهن فتنة، وكذا سائر الصلوات؛ قال في الاختيارات بعد كلامه في ذم البدع، كإنكار الصحابة على من أذن في صلاة العيدين لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فاعله قد يحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } [سورة فصلت آية: 33] ونحو ذلك، كإنكارهم على من قدم خطبة العيد على الصلاة، وإنكارهم على من رفع يديه في الخطبة، وإن كان رفع اليدين في الدعاء وردت به الأحاديث، لكن إنما أنكر الرفع في هذا المحل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في هذا الموضع؛ والآثار عنهم وعن التابعين والأئمة في ذلك كثيرة.
سئل بعضهم: ما قولكم في خطبة العيد، هل تستفتح بالتكبير أو بالحمد؟ فبينوا لنا رحمكم الله.
فأجاب: هذه المسألة للناس فيها أعمال، لكل قوم(6/64)
ص -65- ... عمل: فبعضهم يختار افتتاحها بالتكبير، وأن يكون تسعاً نسقاً، لفعل بعض الصحابة، وبعضهم يستحب افتتاحها بالحمد لله، بل افتتاح جميع الخطب، منهم تقي الدين بن تيمية، قدس الله روحه.
وقال ابن القيم - في الحمد لله - في كتاب الهدي: وكان [أي: صلى الله عليه وسلم] يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه افتتح خطبتي العيد بالتكبير، وإنما روى ابن ماجة في سننه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين " 1، وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به.
وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين، والاستسقاء: فقيل: يفتتحان بالتكبير، وقيل: تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار; وقيل: يفتتحان بالحمد; قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب. انتهى كلامه.
فينبغي للمرشد والمسترشد: أن يعلم ما كان عليه السلف الصالح، وما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويفهم أن مسائل الخلاف بين هؤلاء الجهابذة توجب له طلب العلم، ربما عند من خالفك من العلم ما لا يكون عندك، اللهم إلا أن يكون من أهل هذا الشأن، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1287).(6/65)
ص -66- ... سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الاستفتاح في صلاة العيد، بعد تكبيرة الإحرام؟ وما يقول بين كل تكبيرتين؟
فأجاب: قد ذكر الفقهاء أنه يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ثم يكبر ستاً زوائد قبل التعوذ، ثم يتعوذ عقب السادسة بلا ذكر، ثم يشرع في القراءة. ويكبر في الركعة الثانية بعد قيامه من السجود، وقبل قراءتها، خمساً زوائد، يرفع يديه مع كل تكبيرة، ويقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً، لما روى عقبة بن عامر، قال: سألت ابن مسعود؛ رواه الأثرم وحرب، واحتج به أحمد، هذا هو المختار عندهم، وإن أحب قال غير ذلك، ولا يأتي بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين بذكر.
وسئل: عن التكبير؟
فأجاب: يستحب إظهار التكبير في ليلتي العيدين، في المساجد والمنازل والطرق، للمقيم والمسافر، ويستحب التكبير أيضاً في أيام العشر كلها. ولا خلاف أن التكبير مشروع في عيد النحر، فذهب أحمد إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق، لحديث جابر. قيل لأحمد: بأي شيء تذهب إلى ذلك؟ قال: بإجماع عمر وعلي، وابن عباس وابن مسعود. وصفة التكبير : الله أكبر،(6/66)
ص -67- ... الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. انتهى من مختصر الشيخ محمد.
وعبارة أخرى: ويتأكد من ابتداء ليلتي العيدين، وفي الخروج إليها إلى فراغ الخطبة; وفي الأضحى يبتدئ المطلق من ابتداء عشر ذي الحجة، إلى فراغ الخطبة يوم النحر، والمقيد فيه: يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إن كان محلاً، وإن كان محرماً فمن صلاة الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ ويجزئ من التكبير مرة واحدة، وإن زاد فلا بأس، وإن كرره ثلاثاً فحسن. وأما تقديم التكبير على التهليلات العشر، فهذا الذي عليه الناس، ولا نعلم أحداً أنكره. والتكبير في ليلة عيد الفطر مطلق غير مقيد؛ قال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى المصلى.
وسئل: هل على الحاج من التكبير المقيد شيء، لأنه يشتغل بالتلبية قبل قطعها برمي حصى جمرة العقبة؟
فأجاب: المحرم يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق، لأنه قبله مشغول بالتلبية؛ والجهر مسنون إلا في حق النساء.
تنبيه: إن اجتمع تلبية وتكبير، كمن لم يرم جمرة العقبة حتى صلى الظهر يوم النحر، كبر ثم لبى؛ نص عليه أحمد، لأن التكبير مشروع مثله؛ فقد عرفت أن تكبير المحرم يبتدي عقيب الظهر يوم النحر.(6/67)
ص -68- ... قال الشيخ سليمان بن سحمان: قال شيخ الإسلام: وأما التهنئة يوم العيد، يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد الصلاة: تقبل الله منا ومنك، أو أحاله الله عليك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره؛ لكن قال أحمد: أنا لا أبتدي، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك أن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس هو سنة مأمور بها، ولا هو أيضاً مما نهي عنه؛ فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم.
... باب صلاة الكسوف(6/68)
ص -69- ... باب صلاة الكسوف
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل صلاة الكسوف واجبة أو لا؟
فأجاب: وأما صلاة الكسوف، فالمشهور عند العلماء أنها غير واجبة، وبعضهم يوجبها، وهم الأقل.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قولهم: ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، هل المراد شروعه في التجلي فتفوت بزيادة التجلي؟ أم لا تفوت إلا بالتجلي التام؟
فأجاب: بل المراد التجلي التام، ولا عبرة بزيادة التجلي مع بقاء الكسوف؛ وعلى ذلك المالكية والشافعية والحنابلة. أما كلام المالكية، فقال التتائي في شرح خليل: عند قول المصنف: وإن تجلت في أثنائها: قوله: تجلت، أي: جميعها، فلو تجلى بعضها تمت على صفتها، ولو تجلى بعضها قبل الشروع فيها، أقاموها رغبة في إكمالها كما لو انكسف بعضها ابتداء. انتهى كلامه.
وأما كلام الشافعية، فقال المزجد في العباب: فرعٌ:(6/69)
ص -70- ... تفوت صلاة الكسوف بالانجلاء التام يقيناً، لا إن شك فيه؛ وقال في كنْز المحتاج في تحقيق المنهاج: وتفوت صلاة الكسوف بالانجلاء، ولو انجلى بعضها فله الشّروع في الصلاة للباقي، كما لو لم يكسف منها إلا ذلك القدر. انتهى.
وأما كلام الحنابلة، فقال في شرح الإقناع: وإن تجلى السحاب عن بعضها، أي: الشمس، وكذا القمر، فرأوه صافياً لا كسف عليه، صلوا صلاة الكسوف، لأن الباقي لا يعلم حاله، والأصل بقاؤه. وإن تجلى الكسوف قبلها لم يصل، وإن خف قبلها شرع وأوجز. انتهى كلام الشارح.
فتأمل قوله: وإن خف قبلها شرع وأوجز. وتأمل قول التتائي: ولو تجلى بعضها قبل الشروع فيها أقامها رغبة في إكمالها. وتأمل كلام المزجد، وكلام البكري في الكنْز، أعني: قوله: لو انجلى بعضها فله الشروع في الصلاة للباقي.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل للاجتماع للصلاة عند نزول البلاء أصل؟
فأجاب: ما علمت لذلك أصلاً من كونه شرع لذلك صلاة كالاستسقاء والكسوف، وأما ما يفعله بعض الناس من ذبح شاة أو غيرها يسمونه فدية، فهذا لا شك أنه بدعة لا يجوز. وأجاب أيضاً: ما علمت للخروج للصحراء أصلاً، لكن(6/70)
ص -71- ... يوعظون ويؤمرون بالتوبة والصدقة، وكل أحد يصلي في بيته ركعتين توبة إلى الله تعالى، لأن صلاة التوبة مشروعة لكن بغير جماعة.
... كتاب الجنائز(6/71)
ص -72- ... كتاب الجنائز
التداوي والرقى
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الذين إذا مرض أحدهم يحفون ويحوطون، فيقرؤون شيئاً من الآيات بحساب وأعداد، فإذا انتهى قالوا: يا قاضي الحاجات؟
فأجاب: الذي وردت به السنة: دعاء العائد له وحده، من غير تكلف ولا اجتماع؛ فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لزوجته لما نخستها عينها: " إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " 1؛ هذا جنس المشروع، وأما على هذه الكيفية فبدعة.
وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه؟
فأجاب: هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به؛ بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5750), ومسلم: السلام (2191), وابن ماجة: الطب (3520), وأحمد (6/44, 6/45, 6/50, 6/108, 6/114, 6/120, 6/124, 6/126, 6/127, 6/131, 6/208, 6/260, 6/278, 6/280).(6/72)
ص -73- ... الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا. والحاج أفضل منه، ولا يعرف أن أحداً من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما لو أراد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: " بسم الله. تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا " 1؛ فهذه الرقية من المسلم الموحد على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث.
وسئل: عن الكاهن إذا سئل عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان؟
فأجاب: إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة، فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد، وإن كان من جهة الطب ومعرفة منافع الأدوية، فلا يدخل في مسألة الكاهن.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن الذبح عند المريض... إلخ؟
فأجاب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات للمسلم إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب والأسباب التي توجب حبوط العمل وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، قال الله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5745), ومسلم: السلام (2194), وأبو داود: الطب (3895), وابن ماجة: الطب (3521), وأحمد (6/93).(6/73)
ص -74- ... { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162]، وقال:{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]. فما يتقرب به المسلم إلى الله من الهدايا والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعاً، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده؛ فمن فعل من ذلك شيئاً لغير الله فهو مشرك.
وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك؛ وهذا من الشرك الذي قال الله فيه:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [سورة النساء آية: 48]، وقال:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [سورة المائدة آية: 72]. في صحيح مسلم عن علي قال: " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله " 1 الحديث، وساق حديث طارق: " دخل الجنة رجل في ذباب " الحديث.
ومن الشرك: ما يقع في كثير من المدن والبوادي والقرى والأمصار، ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم:{ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [سورة الأعراف آية: 30]، وقال:{ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سورة سبأ آية: 41]؛ وقد كانوا يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الأضاحي (1978), والنسائي: الضحايا (4422), وأحمد (1/118, 1/152).(6/74)
ص -75- ... لهم وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب؛ وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصاً من أذاهم، وساق أدلة الاستعاذة بالله من شرهم. ثم قال: فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، مثل الدعاء والخوف والرجاء والذبح والتوكل، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك.
قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان. والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون أو داء مزمن، ذبحوا عنده كبشاً أو غيره؛ وكثير منهم يصرحون بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء.
ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع وغيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها؛ فإذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه، الفزع إلى الله والاستعاذة به، والالتجاء إليه والتوكل عليه، فبالاعتصام بالله يندفع عدوان المعتدين، من الإنس والجن والشياطين، وأما العدول عن ذلك إلى الالتجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله.(6/75)
ص -76- ... ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ذبائح الجن ". قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها، أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة، خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. ثم من الناس من يذبح عند المريض لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين بلحم ما يذبحه، وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وزندقة ومحادة لله ورسوله، كإخوانه الموصوفين في قوله:{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا }الآية [سورة البقرة آية: 9]. وإذا عرفت أن الذبح عند المريض على هذا الوصف الذي ذكرنا من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة والصدقة بلحمها، ولا يخفى أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك تقتضي المنع من فعل ذلك والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة لفعل الشرك، لما قد عرفت أن كثيراً من الناس يذبح عند المريض لقصد التقرب إلى الجن، ولكن يخفي قصده خوفاً من العقوبة، وبعضهم يبين قصده لإخوانه من شياطين الإنس.(6/76)
ص -77- ... وقد حدثني من لا أتهم أن من هذا الجنس من أتى إلى مريض وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه أسر إليه وأشار أن الذبيحة لغير الله.
وبذلك يعلم: أن المتعين: النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سداً لباب الشرك، وحسماً للذرائع التي تجر إليه؛ فإن العمل وإن كان أصله قربة وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء والصلاة لله عند القبور، والنحر في أمكنة أعياد المشركين ومواطن أوثانهم، وساق حديث ثابت بن الضحاك - إلى أن قال - ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق، فيذبحون لأوليائهم من الجن، ولا يخافون أحداً من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه من شركهم وضلالهم. انتهى ملخصاً.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: عن التوتين؟
فأجاب: التوتين الذي يفعله بعض العوام، يأخذون قيحاً من المجدور، ويشقون جلد الصحيح، ويجعلونه في ذلك المشقوق، يزعمون أنه إن جدر يخفف عنه، فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعليقها فيما يظهر لنا، وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله، كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته(6/77)
ص -78- ... حمى الجدري لطخوا رجليه بالحناء، لئلا يظهر الجدري في عينيه، وقد جرب ذلك فوجد له تأثير. وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري، والذي يظهر لنا فيه الكراهة، لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله، ولأنّه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك؛ فهذا وجه الكراهة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: ما يفعل بالصبي الذي يسمونه "التعضيب"، ما علمت فيه شيئاً، ولا سمعنا له ذكراً في الزمن الأول، ولا أدري عن أمره؛ ولكني أكرهه.
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: ورد علينا سؤإلات، فمن إخوانكم من يذكره أمراً هيناً، وهو أنه يغرز إبرة في بدن الإنسان حتى يقرب خروج الدم، ثم يؤخذ على رأس الإبرة من دواء اتصل بكم من النصارى، فإذا مكث يومين أو ثلاثة حدث في البدن حبتان أو ثلاث من جنس الجدري، ولا ذكروا أنه صار سبباً لموت أحد; وآخر يقول: مات بسببه أناس كثير، وبالجملة، ما بلغنا عن الله ولا عن رسوله ولا عن أئمة الدين في ذلك تحليل ولا تحريم، إلا أني وقفت على فتيا لبعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله، قال فيها: إنه ما بلغنا فيه شيء إلا أنه يخاف إذا(6/78)
ص -79- ... حدث بسببه الموت، فيكون الفاعل مثل المتسبب في القتل; ونحن نرى هذا الفعل عندنا ولا فعلناه، ولا نهينا ولا رخصنا، لأنه لم يبلغنا فيه أصل.
وأما كون الدواء اتصل بكم من النصارى، فجميع الأعيان الأصل فيها الحل والإباحة، إلا ما ثبت النهي عنه، أو بان فيه مفسدة ظاهرة متحققة، وقد قال تعالى:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [سورة الإسراء آية: 36]. ومثل هذه الأمور الأمر فيها هين، ويكفي الإنسان فيها السكوت عنها، حتى يتبين دليل شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة، وما قاله جمع من الأئمة، والله سبحانه لم يترك شيئا مما يجب على الخلق العمل به إلا بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك ما حرم أدلته ظاهرة معلومة.
وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إن هذا التجدير الذي يسميه بعض الأطباء "التلقيح"، وبعض العامة يسمون "التوتين" و"التعضيب" لا يجوز استعمال ذلك، ولم نقف على شيء من كلام العلماء فيها. وقد سئل عن ذلك الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأبا بطين وأجابا، ثم ذكروا جوابيهما السابقين، ثم قالوا: ودعوى هؤلاء الجهال أن هذا من الأسباب الجائزة دعوى باطلة لوجهين:
أحدهما: أنهم لا يستعملون هذا بعد انعقاد موجبه وحدوثه، فيكون من باب(6/79)
ص -80- ... التداوي، ولكنهم إنما يفعلون هذا لئلا يحدث; وربما حدث بسببه فيكون قد تسبب لاستعجال البلاء قبل أن ينْزل، وربما قتله فيكون قد أعان على قتل نفسه.
الثاني: أن هذا لو كان من باب التداوي وفعل السبب لكان غير جائز، لأنه تداوى بسبب لم يشرعه الله ورسوله، وذلك أن التوتين إنما يكون بالقيح وهو نجس، أو بشيء معمول منه؛ والتداوي بالحرام النجس غير مباح ولا مأذون فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " 1. ونحن نمنع من هذا ولا نجيزه، ونعاقب من فعله.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شحم الخنْزير؟
فأجاب: أما التداوي بأكله فلا يجوز، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسل بعد ذلك، فهذا ينبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة، وفيه نزاع مشهور؛ والصحيح: أنه يجوز للحاجة، كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده؛ وما أبيح للحاجة جاز التداوي به، كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين، وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها، كما لا يجوز التداوي بشرب الخمر.
وسئل عما يحكى من دم البرازي 2 أنه دواء لعضة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطب (2038), وأبو داود: الطب (3855), وابن ماجة: الطب (3436).
2 أي: دم أحد البرازات, وهم القبيلة المشهورة من سبيع.(6/80)
ص -81- ... الكلب؟
فقال: لا أصل له، والتداوي بالنجس حرام.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: هو نجس حرام، ولا يجوز التداوي به عن عضة الكلب، ولا غيرها.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن هذه المسألة؟ فأفتى بالمنع والشيء إذا كان محرماً في الشرع، فلا يبيحه دعوى نفعه بالتجربة.
وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن التداوي بكرش الذبيحة وغيرها مما يجعل على محل اللدغة؟
فأجاب: هذا جائز، لأنه من باب التداوي، ولا يقصد فاعله إلا ذلك بقرينة جعله على محل القرص في الحال، فلو ترك وقتاً ما، لم يحصل به نفع كما هو معلوم بالتجربة، وذلك لما فيه من القوة الجاذبة للمادة السمية.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ضرب مسمار في جدار أو غيره، على حروف مقطعة من حروف الهجاء؟
فأجاب: أما ما يفعله بعض الناس في أمر الضرس، بضرب مسمار كما ذكرت، فهذا من عمل الشيطان.
وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة بالقلب وحده؟ أم تكون باللسان بألفاظ وصيغ مخصوصة؟ وما هي هذه الألفاظ والصيغ؟(6/81)
ص -82- ... فأجاب: التوبة من أعمال القلوب، كما صرح بذلك ابن عبد السلام الشافعي في قواعده وغيره; وقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية: أصل التوبة عزم القلب; وقال النووي: أصلها الندم، وهو ركنها الأعظم.
وذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: أن لها ثلاثة شروط، وعبر عنها بعضهم بالأركان، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في المستقبل؛ وليس منها ما هو متوقف على اللفظ، والمذهب: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه.
قال ابن مفلح: وقيل: يشترط قوله: اللهم إني تائب إليك من كذا وكذا، وأستغفر الله؛ وهو ظاهر ما في المستوعب; فظاهر هذا: اعتبار التوبة بالتلفظ والاستغفار، ولعل المراد اعتبار أحدهما؛ ولم أجد من صرح باعتبارهما، ولا أعلم له وجهاً. انتهى.
إذا علم هذا، فإن القول المعتمد الذي هو المذهب وعليه الأكثر: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه في التوبة؛ وعليه، فلا يكون لها صيغة، لأنها لا تتوقف على اللفظ، والصيغ من خصائص الألفاظ، والله أعلم.(6/82)
ص -83- ... [ تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل... إلخ؟
فأجاب: هذا لا بأس به، وإذا اجتمع رجال ونساء، وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة، قدم الرجال فجعلهم مما يليه، لأنهم يستحقون التقديم في الإمامة، فاستحقوا التقديم في الجنائز؛ وقد نقل الجماعة عن أحمد: أنه يقدم إلى الإمام الحر المكلف، ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة.
وأما صفة موضعهم بين يدي الإمام للصلاة عليهم، فتجعل رؤوسهم كلهم عن يمين الإمام، وتجعل وسط المرأة حذا صدر الرجل، ليقف الإمام من كل نوع موقفه، لأن السنة أن يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة.
وأجاب الشيخ، حمد بن ناصر بن معمر: أما الصلاة على الميت، فإن أوصى الميت بأن يصلي عليه رجل معين، فهو أحق من غيره. ولا يقوم أحد في جنب الإمام، بل يقف الإمام وحده، إلا إن كان المكان ضيقاً، بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف، فحينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة.
[ الصلاة على الغال ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: هل تكره الصلاة على غير الغال؟ وقاتل نفسه؟
فأجاب: الصلاة تكره على غير الغال وقاتل نفسه، مثل(6/83)
ص -84- ... المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشيخ تقي الدين: ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه، عقوبة ونكالاً لأمثاله، لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، والمدين الذي لا وفاء له. وإن كان منافقاً كمن علم نفاقه لم يصل عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلي عليه. ومن مات مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان، كأهل الكبائر، فلا بد أن يصلي عليهم بعض الناس، ومن امتنع من الصلاة على أحد منهم زجراً لأمثاله كان حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن، ليجمع بين المصلحتين، كان أولى من تفويت إحداهما. انتهى. والمراد بكراهة الصلاة على أهل الكبائر للإمام خاصة، أو لأهل العلم والدين المقتدى بهم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري: عن الحائض والنفساء، إذا ماتت إحداهما، هل تجوز الصلاة عليها في المسجد؟
فأجابا: إنه يجوز إذا أمن تلويثه، لأن الأحكام انقطعت بالموت.(6/84)
ص -85- ... فصل
قال الشيخ عبد الله بن محمد: ومن البدع رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت، وعند رش القبر بالماء، وغير ذلك مما لم يرد عن السلف.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن كشف الكفن عن وجه الميت؟
فأجاب: لم يبلغني فيه شيء، ولكن الظاهر أن الأمر فيه واسع، إن كشف عنه فلا بأس وإن ترك فكذلك.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن رفع اليدين حال القيام على القبر بعد الدفن؟
فأجاب: ثبت في سنن أبي داود: " أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت قال: قفوا على صاحبكم واسألوا له التثبيت واستغفروا له، فإنه الآن يسأل " 1؛ فهذا هو المسنون: أن يستغفر له ويسأل له التثبيت، وأما رفع الأيدي في تلك الحال فلا أراه، لعدم وروده.
[ التلقين بعد دفن الميت ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن التلقين بعد دفن الميت؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجنائز (3221).(6/85)
ص -86- ... فأجاب: لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، بل ورد فيه أحاديث ضعيفة، منها حديث أبي أمامة عند الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات أحد من إخوانكم وسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس القبر، ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيب. ثم يقول: يا فلان بن فلان، ثم يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً " الحديث.
وقد قواه الضياء في المختارة، ثم قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم، كانوا يفعلونه; وكان إسماعيل بن عياش يرويه، يشير إلى الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة، وروي أيضاً عن واثلة بن الأسقع، وكرهه جماعة من العلماء، لاعتقادهم أنه بدعة مكروهة، وأما التحريم فليس بحرام.(6/86)
ص -87- ... وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم في الهدي: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم; وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة... إلخ، فهذا حديث لا يصح رفعه; لكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت... إلخ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك. انتهى ملخصاً.
وقوله: " كان إذا فرغ من دفن الميت... إلخ " ، حديث رواه أبو داود؛ فهذا التلقين لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المسلمون ذلك في زماننا، والله أعلم.
[ وضع الجريدة على القبر ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن وضع الجريدة على القبر...؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر، وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل العموم. وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها، لأنه من تخليق القبر المنهي عنه، بخلاف جعل الجريدة عليه، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي(6/87)
ص -88- ... بالنميمة " 1 ثم أخذ جريدة فشقها نصفين، وجعل على كل قبر منهما نصف الجريدة، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 2.
[ البناء على القبور ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن البناء على القبور؟
فأجاب: أما بناء القباب عليها فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أما بناء القبب على القبور، فهو من علامات الكفر وشعائره، لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح، لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم، حتى يدخلهم الدين، فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها.
قال العلماء: وفي هذا أوضح دليل، أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثاناً، ولا يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه والكتابة عليه "؛ وقد قال تعالى:{ وَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوضوء (218), ومسلم: الطهارة (292), والترمذي: الطهارة (70), والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068), وأبو داود: الطهارة (20), وأحمد (1/225), والدارمي: الطهارة (739).
2 البخاري: الوضوء (216), ومسلم: الطهارة (292), والترمذي: الطهارة (70), والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068), وأبو داود: الطهارة (20), وابن ماجة: الطهارة وسننها (347), وأحمد (1/225), والدارمي: الطهارة (739).(6/88)
ص -89- ... آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [سورة الحشر آية: 7].
وأما كونه علامة على كفر بانيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان البانى قد بلغه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء عليها، ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، ومنع من أراد هدمها من ذلك، فذلك علامة الكفر. وأما من فعل ذلك جهلاً منه بما بعث الله به رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنما يكون علامة على جهله وبدعته، وإعراضه عن البحث عما أمر الله به ورسوله في القبور. وأما حال أهل العصر الثاني، الذين لم يحضروا البناء، وإنما فعله آباؤهم ومتقدموهم، فالراضي بالمعصية كفاعلها؛ وفيهم من التفصيل ما تقدم في الباني الأول، فافهم ذلك. وهذا إذا لم يُذْبَح عندها وتُعْبَد وتُدْعَى، ويُرْجَى منها طلب الفوائد، وكشف الشدائد، فأما إذا فعل ذلك، فهو الشرك الذي قال الله فيه:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [سورة المائدة آية: 72]. وأما الإشكال الذي ذكره السائل، في حديث علي في القبور، التي أمره الرسول بتسويتها، هل هي قديمة؟ فليس فيه إشكال بحمد الله، لأنه محمول على القبور القديمة، كقبور الجاهلية، لأن البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصحابة. وأما حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا، لأن المراد(6/89)
ص -90- ... إعلام القبر بعلامة يعرف، كحصاة ونحوها بلا تعلية ولا بناء؛ وهذا لا بأس به عند أهل العلم؛ فحديث قبر عثمان، فيه الدليل على جواز ذلك لكل أحد، وهذا ظاهر، ولله الحمد والمنة.
وأجاب أيضاً: والقبور التي باق عليها البناء تهدم.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ثبت في الصحيح والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنّه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه"، كما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت: عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده عن جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه " 2، وساق عن ثمامة قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " 3.
وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل، " أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/96).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وأحمد (3/295, 3/332, 3/399).
3 مسلم: الجنائز (968), والنسائي: الجنائز (2030), وأبو داود: الجنائز (3219), وأحمد (6/18, 6/21).(6/90)
ص -91- ... طمسته " 1؛ قال: وفي الباب عن جابر; وقال ابن ماجة في: باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها: حدثنا زهير بن مروان، حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 2. حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 3. حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمر عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور ". وقال النووي، رحمه الله، في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: " ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 4. وقال الأذرعي، رحمه الله، في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار؛ والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب من يلزم ذلك الورثة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/96, 1/128, 1/145).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2029), وأبو داود: الجنائز (3225), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/295, 3/332, 3/339).(6/91)
3 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563).
4 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/89, 1/96, 1/111, 1/128, 1/138, 1/139, 1/145, 1/150).(6/92)
ص -92- ... من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي، رحمه الله.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في "المعلاة" أكثر من عشرين قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص؛ وقد روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 1، " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها "، كما تقدم في صحيح مسلم.
وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ " 2، هذا حديث حسن صحيح. وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار، وقال أبو داود:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/332).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2028, 2029), وأبو داود: الجنائز (3225), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/295, 3/332, 3/339).(6/93)
ص -93- ... باب البناء على القبور: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، ويبنى عليه " 1. انتهى. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها؛ والذي رأيته ليلة دخولنا مكة - شرفها الله - في المقبرة، أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمكم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، فقد روى ابن عباس، رضي الله عنهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً، الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات; لكن تقولون لنا: إن هذا لا يفعل عندها، وليس عندنا أحد يدعوها ويسألها، ونقول: اللهم اجعل ما ذكروه حقاً وصدقاً، ونسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك.
ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين، وقد قال تعالى:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027, 2029), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/332, 3/399).
2 الترمذي: الصلاة (320), والنسائي: الجنائز (2043), وأبو داود: الجنائز (3236), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575), وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337).(6/94)
ص -94- ... مِثْلُ خَبِيرٍ } [سورة فاطر آية: 13-14]، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [سورة الأحقاف آية: 5-6]، وقال تعالى:{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14]، وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدعاء مخ العبادة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}" 1، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصغير: حديث: " الدعاء مخ العبادة " 2 قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث قال:{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [سورة غافر آية: 60]، فهو محض العبادة وخالصها. والثاني: إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده؛ وهذا أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهذا هو المطلوب من الدعاء.
وقوله: " الدعاء هو العبادة " 3، قال شيخنا قال الطيبي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3371).
2 الترمذي: الدعوات (3371).
3 الترمذي: تفسير القرآن (2969), وابن ماجة: الدعاء (3828).(6/95)
ص -95- ... أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء; وقال شيخنا: قال البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقة، التي تتأهل أن تسمى عبادة، من حيث يدل على أن فاعله مقبل على الله معرض عما سواه، لا يرجو إلا إياه ولا يخاف إلا منه، واستدل عليه بالآية، يعني قوله تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [سورة غافر آية: 60]، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والسبب على المسبب؛ وما كان كذلك كان أتم العبادة. انتهى كلام العلقمي، رحمه الله.
وأجاب أيضاً: البناء على القبور بدعة محرمة، وعبادتها شرك، بالدلائل من الكتاب والسنة والإجماع؛ فالقباب إذا كانت تعبد فهي أوثان، كاللات والعزى ومناة، ولا نزاع في ذلك، وإن لم تعبد فبناؤها بدعة محرمة، وهدمها واجب; وذلك بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: عن أبي الهياج، قال: " قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، فأمر صلى الله عليه وسلم بهدمه في هذا الحديث، وجاء بلفظ النكرة وهي تعم كل قبر، سواء كان في مكة، أو في المقبرة المسبلة، وفي حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه " 2. ففي هذه الأحاديث كفاية لمن كان واعياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/96, 1/128, 1/145).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027, 2029), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/332, 3/399).(6/96)
ص -96- ... وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: اعلم، رحمك الله: أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله.
فأقول، مستعيناً بالله، طالباً في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه: الحمد لله رب العالمين، الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه: أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات، إنما أراد بها التعلق بالأموات والالتجاء والرغب إليهم، لكنه قصد بزخرف العبارة إضلالاً للعوام والجهال؛ فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وقال تعالى:{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14]، وقال تعالى:{ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }الآية [سورة البينة آية: 5]، وقال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [سورة الزمر آية: 2-3]، قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }الآية [سورة الروم آية: 30]؛ وإقامة الوجه هو:(6/97)
ص -97- ... إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون; والحنيف: المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. وهذا الذي ذكره هؤلاء المنحرفون عن التوحيد، لا ريب أن الله تعالى لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي، كما سنذكره إن شاء الله. فقد أكمل الله لنا ديننا وأتم علينا نعمته، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } [سورة المائدة آية: 3]. وقد بين تعالى أصل دين الإسلام وأساسه، الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال تعالى:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 112]، وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 2. وقد بين صلى الله عليه وسلم ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 3. وقد شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها، لأنه محتاج لدعاء الحي، لانقطاع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240, 6/270).
2 أبو داود: السنة (4607), والدارمي: المقدمة (95).
3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571), وأحمد (1/452).(6/98)
ص -98- ... عمله، وأما الاستظهار بروحه، فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه، من الرغبة إلى الميت والتعلق به، والالتجاء إليه؛ وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً. وهؤلاء الأموات ونحوهم، لا قدرة لأحد منهم على أن ينفع نفسه أو يدفع عنها، فضلاً عن غيره، كما قال تعالى:{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ }الآية [سورة يونس آية: 106-107]، والله هو المتفرد بالخلق والتدبير، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع، كما قال تعالى:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}الآية [سورة الأحقاف آية: 5]، وقال تعالى:{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ }الآية [سورة فاطر آية: 13-14]. وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها، كما قال تعالى:{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8]، وقال:{ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } [سورة الزمر آية: 66]؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص.(6/99)
ص -99- ... والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال تعالى:{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } [سورة الزمر آية: 44]؛ فهي ملكه، ويشفع من شاء فيمن شاء بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى:{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [سورة البقرة آية: 255]، وقال تعالى:{ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } [سورة الأنبياء آية: 28]، وقال:{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }الآية [سورة سبأ آية: 22-23].
قال أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون: فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى:{ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } [سورة الأنبياء آية: 28]. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ فالشفاعة لأهل الإخلاص بإذنه، ولا تكون لمن أشرك. وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى ملخصاً.(6/100)
ص -100- ... وهو سبحانه لا يرضى من عبده إلا التوحيد الذي هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى:{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11]، وقال تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ } [سورةالأنعام آية: 162]. فهذا هو حكم الله الشرعي الذي حكم به على خلقه، بأن يصرفوا أعمالهم له وحده، دون كل من سواه؛ ولهذا قال:{ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ } ، وقال في سورة يوسف:{ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [سورة يوسف آية: 40]. فالعبد وأعماله الظاهرة والباطنة، كلها ملك لله، لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله؛ فإن صرف العبد منها شيئاً لغير الله فقد وضعه في غير موضعه، وذلك هو الظلم العظيم، كما قال:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [سورة لقمان آية: 13]؛ وأنفع ما للعبد في معاشه ومعاده: أن يوجه وجهه وقلبه إلى الله، ويجمع همته عليه في جميع مطالبه الدنيوية والأخروية، كما قال العارف بالله، الذي استنار قلبه بآيات الله وحججه وبيناته، شعراً:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طراً تولاه العظيم الشانِ
فالعبد مضطر إلى الله الذي محياه ومماته له، فهو قبلة قلبه ووجهه، كما أخبر عن خليله عليه السلام أنه قال:{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [سورة الأنعام آية: 79]. وإنما شرع الله ورسوله زيارة(6/101)
ص -101- ... القبور، لتذكر الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 1، أي: لتسعوا لها سعياً؛{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [سورة البقرة آية: 59]، فجعلوها محطاً للرحال، ومطلباً للآمال، ومعاذاً وملاذاً؛ وهذا هو الشرك الذي لم يشرعه الله، بل شدد النهي عنه والوعيد عليه، وأخبر أنه لا يغفره، قال تعالى:{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]؛ وهي نكرة في سياق النهي فتعم.
فلو جاز الاستظهار بأرواح الأموات، كما قاله هذا الجاهل بالله وبدينه، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة، اللذين هما معه لا يفارقانه بيقين، وهم كما وصف الله {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [سورةالأنبياء آية: 26-27]؛ وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد كان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571), وأحمد (1/452).(6/102)
ص -102- ... الحاضرين، فلأن لا يجوز في حق أرواح الأموات التي قد فارقت أجسادها، لا يعلم مستقرها إلا الله أولى; قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22]. وأنت ترى أكثر الناس انصرفت قلوبهم عن فهم الحق ومعرفته بدليله، حتى تمكنت الشبهات منهم فظنوها بينات، فأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل; وهذا هو الواقع، لا يخفى على ذوي البصائر؛ وقد أنزل الله كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً }إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19].
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر، فيما تواتر عنه، من النهي عن وسائل هذا التعلق والالتجاء بالأموات والرغبة إليهم، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد؛ وصرح طوائف من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، كأصحاب مالك والشافعي بالتحريم لذلك. وقد حكى شيخ الإسلام، رحمه الله، الإجماع على التحريم لذلك، وهو الإمام الذي لا يجارى في ميدان معرفة الخلاف والإجماع، لما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو(6/103)
ص -103- ... يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! فإني أنهاكم عن ذلك " 1.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. وفي رواية لمسلم: " لعن الله إليهود والنصارى " 3 الحديث. وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس، رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: " لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً؛ قوله: "خشي": تعليل لمنع إبراز قبره؛ فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان، أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات، سداً لذريعة التشبه بالمشركين، التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك، الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها. وقد أخرج الإمام أحمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 البخاري: الصلاة (437), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530), والنسائي: الجنائز (2047), وأبو داود: الجنائز (3227), وأحمد (2/246, 2/284, 2/366, 2/396, 2/453, 2/518).
3 البخاري: الصلاة (436), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529), والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275), والدارمي: الصلاة (1403).(6/104)
4 البخاري: الصلاة (436), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529), والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275) , والدارمي: الصلاة (1403).(6/105)
ص -104- ... وأهل السنن عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج; " 1؛ ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصباً يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية، لمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. فمن جعل لله شريكاً يلتجئ إليه ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعل لله نداً، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك " 2 الحديث.
وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف، فيما ذكر عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78-79]، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (320), والنسائي: الجنائز (2043), وأبو داود: الجنائز (3236), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575), وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337).(6/106)
2 البخاري: الأدب (6001), ومسلم: الإيمان (86), والترمذي: تفسير القرآن (3182, 3183), والنسائي: تحريم الدم (4013, 4014), وأبو داود: الطلاق (2310), وأحمد (1/380, 1/431, 1/434, 1/462, 1/464).(6/107)
ص -105- ... تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105]؛ وبهاتين الآيتين وأمثالهما في القرآن، يميز المؤمن دين المرسلين من دين المشركين: فإقامة الوجه لله بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها هي دين المرسلين، وتوجيه الوجه بشيء من أنواعها لغير الله، هو الشرك الذي لا يغفره الله.
وتدبر قول الله تعالى، في وصف أهل الإخلاص: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90]، فالرغبة والرهبة والخشوع، وغير ذلك من أنواع العبادة، كالمحبة والدعاء والتوكل ونحو ذلك، مختص بالله تعالى، لا يصلح منه شيء لغيره كائناً من كان. وتأمل قوله تعالى: { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، فإنه ظاهر بأن ذلك الخشوع ونحوه مختص بالله تعالى، كما ذكر اختصاصه بالعبادة عموما، في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66].
ولا يخفى أن هذا المجيب، قد صرف جل العبادة ومعظمها لغير الله، وقد قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } [الرّعد: 14]، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ(6/108)
ص -106- ... خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14]؛ فالخبير سبحانه وتعالى أبطل الأكاذيب الشيطانية، والتعلقات الشركية في هذه الآية ونظائرها، فتدبر إن كنت للتوحيد طالباً، وفي دين المرسلين راغباً.
وقد أجرى الله سبحانه العادة، بوقوع الأمراض العامة والمصائب العظام، في كل مدينة فيها بعض قبور الأولياء والصالحين، فلا يجد أهلها تأثيراً للتعلق بهم في دفع ما أنزل من تلك المصائب؛ وذلك برهان على أن الميت لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عمن تعلق به شيئاً، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38].
الوجه الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته أن يجعلوا قبره عيداً، أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 1. وأخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الضياء في المختارة، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388).(6/109)
ص -107- ... أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " 1.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه: عن سهل بن سهيل قال: "رآني الحسن بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلم إذا دخلت المسجد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر "، " لعن الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 3؛ ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا علي بن الحسين أفضل التابعين من أهل البيت، والحسن بن الحسين سيد أهل البيت في زمانه، لم يفهما من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تتخذوا قبري عيداً " 4 إلا نهي أمته عن اعتياد المجيء إلى قبره وملازمته، لأن الصلاة عليه تبلغه صلى الله عليه وسلم من المصلي، وإن كان بعيداً عن قبره.
ولما في ذلك النهي من سد الذريعة عن العكوف عند القبر وتعظيمه بما لم يشرع ; والعكوف: عبادة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المساجد، تقرباً بها إلى الله، فلا يجوز أن يفعل ما هو مشروع في المساجد عند القبر، فإن الملازمة والعكوف عندها ذريعة قريبة إلى عبادتها، فتعظيمها بما لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780), والترمذي: فضائل القرآن (2877), وأبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/367).
2 البخاري: المغازي (4441), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531), والنسائي: المساجد (703), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/252, 6/255, 6/274), والدارمي: الصلاة (1403).
3 أبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388).(6/110)
4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780), والترمذي: فضائل القرآن (2877), وأبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/367).(6/111)
ص -108- ... يشرعه الله ورسوله غلو، والغلو أعظم وسائل الشرك.
والذي فهمه هذان السيدان الجليلان، هو الذي فعله السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار؛ فإن الثابت عنهم المتواتر أنهم كانوا إذا دخلوا المسجد، صلوا على النبي، وسلموا، واكتفوا بذلك عن المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم وذلك لعلمهم بما شرعه الله ورسوله. " وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قدم من سفر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على أبي بكر، ثم على أبيه ثم انصرف "؛ فهذا حال الصحابة رضي الله عنهم، وهم أشد الناس تمسكا بالسنة، وأعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز.
قال شيح الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، رحمه الله تعالى: ووجه الدلالة من هذا الحديث، أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى. قال: والعيد ما يعتاد قصده ومجيئه، من مكان أو زمان. وقال ابن القيم، رحمه الله: وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبهاً من اليهود بالتحريف، وشبهاً من النصارى بالشرك، مراغمة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلباً للحقائق، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة دون الشرك، أقل إثماً وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تجعلوا قبري عيداً " 1 الأمر بملازمة قبره واعتياد قصده، لما نهى عن اتخاذ قبور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388).(6/112)
ص -109- ... الأنبياء مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولما قال ذلك أعلم الخلق به: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، انتهى.
قلت: وفي هذه الأحاديث ما يبطل هذا التحريف الذي أشار إليه العلامة، كتحريف شارح المشارق، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً " 1 مسبوق وملحق بما يبين معناه، كقوله: " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 2، وكقوله في الحديث الذي رواه الحسن بن الحسين " لعن الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3، وغير ذلك مما هو ظاهر، يبين مراده صلى الله عليه وسلم أنه خشي على أمته تعظيم القبور والغلو فيها، كما في الموطإ عن عطاء بن أبي رباح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4؛ وهذا الحديث صريح في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة الأولى من الحديث، والجملة الثانية، حَمَى صلى الله عليه وسلم حِِمَى التوحيد، ومثل هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 5.
[ من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور ]
فقد عرفت مما تقدم: أن من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور والعكوف عندها؛ ولا ريب أن ذلك يفضي إلى الالتجاء إليها، والتعلق بها، والرغبة إليها، ونحو ذلك من المحبة، وخطابها بالحوائج، وغير ذلك مما لا يمكن عده،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780), والترمذي: فضائل القرآن (2877), وأبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/367).
2 أبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388).(6/113)
3 البخاري: المغازي (4441), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531), والنسائي: المساجد (703), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/252, 6/255, 6/274), والدارمي: الصلاة (1403).
4 مالك: النداء للصلاة (416).
5 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445), وأحمد (1/23, 1/24).
...
كالخشوع، والبكاء والنحيب، رغبة ورهبة إليها، وهذا هو العبادة التي قصرها الله تعالى عليه، دون كل ما سواه، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108]، وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [سورة البقرة آية: 138]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الآيات [سورة الحج آية: 71].
فتدبر هذه الآيات، وما فيها من البيان والحجة القاطعة على أن كل من وجه وجهه وقلبه إلى غير الله، فهو مشرك شركاً ينافي الإخلاص، وتأمل ما فيها من اختصاص الرب تعالى بجميع أنواع العبادة، كالالتجاء والتعلق والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ والله المستعان.
ولقد أحسن العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في كافيته، إذ يقول شعراً:
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبانِ
ولقد نهانا أن نصيِّر قبره ... عيداً حذار الشرك بالرحمانِ
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثانِ
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدرانِ
حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيانِ(6/114)
ص -111- ...
ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهمُ بأذانِ
وعنى الألى جعلوا القبور مساجدا ... وهم إليهود وعابدو الصلبانِ
والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطانِ
قلت: والآيات المحكمات أصرح شيء وأوضحه، في بيان حقيقة الشرك في الإلهية، وهو صرف العبد شيئاً من أنواع العبادة التي يصلح التقرب بها إلى الله، فيتقرب بها إلى غيره؛ فإن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى ومختصة به. وكذلك هذه الأحاديث المذكورة ونحوها، أبين شيء وأجلاه في تحريم وسائل هذا الشرك؛ لكن الكثير من متأخري هذه الأمة، وقعوا في هذا الشرك، لما طال عليهم الأمد، وأبعدوا عن عصر سلف هذه الأمة، وزمن أتباعهم من الأئمة الذين أجمع العلماء من أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم؛ فانتشرت البدع بعدهم، والتبس الحق بالباطل، بظهور علم الكلام والفلسفة، فيا لها مصيبة ما أعظمها!
فلما استمكنت أصول تلك البدع في قلوب من ينتسب إلى العلم من المتأخرين، حاولوا صرف المعنى الذي دلت عليه النصوص، وأراده الله ورسوله بالنهي عنه والتغليظ فيه، إلى ضروب من التحريف، فراراً من أن يدخل الواقع منهم تحت ذلك النهي؛ فلما لبسوا لبس عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.(6/115)
ص -112- ... الوجه الرابع: أن هذا الذي يدعيه المجيب، من الاستظهار بأرواح أصحاب القبور، لا حقيقة له؛ فإنه اعتقاد فاسد من تضليل الشيطان لجهال الأمة، وإلا فمن أين لهذا المدعي أن الأرواح تنْزل كذلك؟! وقد عرفت أن التعلق بها وعبادتها شرك بالله؛ وهذا من التخييلات الشيطانية الشركية بلا ريب، نظير ما ادعاه المشركون في قولهم في معبوداتهم: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [سورة يونس آية: 18]. قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18]، فأكذبهم الله في دعواهم هذه، وبين أنه لا حقيقة لها، وأن اتخاذهم شفعاء من دون إذنه شرك نزه نفسه عنه.
ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } الآية [سورة الرعد آية: 33]، فأخبر تعالى عن أهل الشرك أنهم يدعون في معبوديهم أشياء لا حقيقة لها في الخارج أصلاً، وإنما هي تصورات وخيالات ذهنية شيطانية،{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23]، وقوله: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة النمل آية: 64].(6/116)
ص -113- ... ولقد بين تعالى في كتابه دينه وأمره الشرعي في آيات كثيرة، من ذلك ما ذكر عن نبيه يوسف عليه السلام، من قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاََّّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 39-40].
وقد عرفت مما تقدم: أن الله تعالى قصر أنواع العبادة من خلقه عليه، ولم يأذن لهم أن يصرفوا منها شيئاً لغيره أصلاً، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]؛ وتوحيد الإلهية من اسمه تعالى، فهذا الاسم الأعظم دل على أنه سبحانه هو المألوه المعبود، كما ذكر في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس قال: " معنى الله: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ".
فمن تدبر هذه الآيات ونظائرها، علم أن هؤلاء القبوريين المفتونين بالأموات، قد خالفوا ما أمرهم الله تعالى به من إفراده بالألوهية والعبودية الخاصة له، فتألهت قلوبهم غيره، وتعلقت أفئدتهم بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13]، وتقدمت.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا(6/117)
ص -114- ... يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [سورة الأحقاف آية: 5-6]. فتأمل هذه وما فيها من البيان والبرهان، على ضلال من وجه وجهه وقلبه لغير الله بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ وهذا لا يخفى إلا على من عميت بصيرته، وضل سعيه وفسد فهمه،{ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40].
الوجه الخامس: أن المجيب ومن يقول بقوله، إنما وجهوا وجوههم وقلوبهم إلى أرواح الأموات، وقد فارقت تلك الأرواح أجسادها لا يعلم أين صارت، ولا إلى ما صارت إلا الله، إلا ما ورد أن أرواح الشهداء والسعداء تسرح في الجنة؛ وقد جعل الله موتهم دليلاً وبرهاناً على بطلان عبادتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22].
ولا ريب أن من له بصيرة يعلم أن الميت لا شعور له بحاله، فكيف بغيره؟ وقد تقدم دليله؛ فبطل بهذه الآيات المحكمات وما في معناها، كل ما تعلق به المشركون من طلب وأمل ورجاء ورغبة صرفوه لغير الله، وبين تعالى أن ذلك يعود عليهم وبالاً في الدار الآخرة؛ نعوذ بالله من ضلال السعي والخيبة والخسران، ولقد أحسن من قال شعرا:(6/118)
ص -115- ...
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
الوجه السادس: أن المجيب أجاب بما يخالف مطلوب السائل، فإن السائل إنما طلب منه قول الأئمة الذين يرجع إليهم في أصول الدين وفروعه، ممن أجمع أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم، وعلمهم وصدقهم، وتمسكهم بالحق، وهم كثيرون في القرون المفضلة وبعدها، ولم يسأله عن قول من لا يعرف بعلم ولا ثقة، ولا صدق ولا عدالة؛ والكلام الذي نقله عن المجيب من شرحه، كلام محرف للسنة، قد دخل في الكلام المذموم والفلسفة؛ ومثل هذا لا يحتج بقوله من له أدنى فهم ومعرفة بأحوال العلماء.
فسبحان الله يا هذا! كيف تقلد في دينك من لا يعرف بعلم ولا صدق وأمانة وعدالة؟!
فما أكثر من اغتر بأقوال من هو مثله، ممن أخذ عن أرباب البدع! فهلا أجبته بأقوال الصحابة والتابعين، كالفقهاء السبعة، وكالزهري، والحسن، وابن سيرين، والحمادين، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والأئمة الأربعة، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد، ومحمد ابن نصر المروزي، وابن جرير الطبري، وأبي عمر ابن عبد البر النمري صاحب التمهيد والاستذكار، وأمثال هؤلاء من أئمة الإسلام، أهل العروة الوثقى، فإنهم بحمد الله كثيرون في الأمة، يعرفهم من له إلمام بالعلم والعلماء والفضل والفضلاء؛ ومعاذ الله أن تجد في كلام هؤلاء وأمثالهم، من(6/119)
ص -116- ... يجوز تعلق القلب والهمم والإرادات بغير الله، سبحان الله وتقدس عن الشرك في الإرادات والنيات والأعمال.
ولو قيل لهذا المجيب: عرفنا بشارح المشارق هذا ومن ذكره من المصنفين من أهل الجرح والتعديل، لم يجد إلى ذلك من سبيل؛ وعلى كل حال، فليس في كلامه حجة ولا دليل، فإن كلامه يعرف بحقيقة حاله، والحجة التي لا تعارض ولا تدافع إنما هي فيما قال الله ورسوله، وما كان عليه المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، قبل حدوث البدع وتشعب الأهواء واختلاف الآراء، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة آية: 116-117].
ولا يخفي على من له دين والمام بالعلم النافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك الأكبر والأصغر؛ فقد ثبت عنه أنه لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده " 1. وفي المسند عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها! فإنها لا تزيدك إلا وهناً; فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " 2. فانظر إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/214).
2 ابن ماجة: الطب (3531), وأحمد (4/445).(6/120)
ص -117- ... هذه العقوبة العظيمة، لمن علق قلبه بحلقة دون الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تعلق شيئاً، وُكل إليه " 1، أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة. ولأحمد عن عقبة بن عامر: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " 2، وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك " 3.
[التعلق بأرواح الأموات]
ومن المعلوم أن التعلق بأرواح الأموات، أعظم شركًا من تعليق التمائم؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فإن الفتنة بها أعظم، والتعلق بها أشد. والعبادة عبادة حيثما صرفت، فإن قصرت على المستحق لها وهو الله فهو التوحيد، وإن صرف منها نوع فأكثر لغير الله فهو شرك بالله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية: 48].
والصحابة، رضي الله عنهم، قد تمسكوا بما علموه من حال نبيهم صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وحمايته عن الشرك؛ فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106]".
ومن المعلوم: أن الشرك في عصر الصحابة، رضي الله عنهم، كان قليلاً جداً، فإذا رأوا شيئاً منه أعظموه وأنكروه، وحذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية الكريمة، على أن هذا شرك بالله؛ فأين هذا مما وقع فيه أكثر الناس اليوم، من طلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطب (2072).
2 أحمد (4/154).
3 أحمد (4/156).(6/121)
ص -118- ... النفع ودفع الضر من الأموات، الذين لا إحساس لهم بما يطلبه الداعي منهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم؟! وأما التابعون للصحابة وأتباعهم، فإنهم سلكوا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبدوا وأعادوا في إنكار ما حدث من الشرك،؛ فقد ثبت عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: " من قطع تميمة من إنسان، كان كعدل رقبة ".
فانظر إلى هذا التشديد من هذا الإمام في تعليق التميمة، فأين هذا مما قرر المجيب جوازه، من التعلق بأرواح الأموات، التي لا يعلم مستقرها إلا الله، ولا تنفع ولا تضر. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71].
وقد عرفت: أن الإسلام لرب العالمين، هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى؛ فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله.
قال الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
...
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }الآيات [سورةالروم آية: 28-30].(6/122)
فيا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للشرك! والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [سورة يونس آية: 57-58].
ولقد أحسن من قال في بيان التوحيد، أي: توحيد الإلهية، شعراً:
فالقصد وجه الله بالأقوال والـ ... أعمال والطاعات والشكرانِ
فبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقاً عابد الرحمنِ
وبهذا يعلم: أن الشرك بالله مسبة لله وتنقص له، ورغبة عنه إلى غيره، وهضم لربوبيته تعالى؛ فعظم هؤلاء الجاحدون لتوحيد الله مخلوقه وعبده، بتنقصهم لله تعالى ومسبتهم له، بزعمهم أن معبوديهم صالحون وأولياء، فأنزلوهم بمنْزلة الله وسلبوا لهم حقه؛ والنبي والصالح حقه متابعته فيما هو فيه من التوحيد والعمل الذي صار به صالحاً، فلم يقتدوا بهم في الدين ولا في العمل، فأخذوا حقهم من الاقتداء بهم في الدين واتباعهم، وصرفوه لجهال المتفلسفة ومن أخذ عنهم، كشارح المشارق، وأمثاله من المحرفين.(6/123)
ص -120- ... الوجه السابع: إنما يبين خطأ المجيب وضلاله، مع ما تقدم من الأوجه، ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لتركبنّ سنن من كان قبلكم ".
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن التبرك بالاشجار ونحوها شرك وتأله بغير الله، ولهذا شبه قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، بقول بني إسرائيل: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً } ومنها: أن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم. ومنها: خطر الشرك والجهل، فكادوا أن يقعوا في الشرك لما جهلوه؛ فإذا كان هذا في عهد النبوة وإقبال الدين، فكيف لا يقع بعد تقادم العهد وتغير الأحوال، واشتداد غربة الدين؟ ومنها: مشابهة هذه الأمة بأهل الكتاب فيما وقع منهم، كما في الحديث الآخر: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ " 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: إلاعتصام بالكتاب والسنة (7320), ومسلم: العلم (2669), وأحمد (3/84, 3/89).(6/124)
ص -121- ... فإذا تبين أن التعلق بالاشجار ونحوها عبادة لها من دون الله، ووضع للعبادة في غير موضعها، فلا فرق بين أن يصرف لشجرة أو قبر أو غير ذلك. ومعلوم أن الشجر له حياة بحسبه، مطيع لربه يسبح بحمده، وما عبدت اللات والعزى ومناة إلا بمثل ذلك التعلق والاعتقاد، قال مجاهد: " اللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره "، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " 1. فقد والله اشتدت غربة الإسلام، حتى عاد الشرك بالله ديناً وقربة يتقرب به إلى الله؛ وهو أعظم ذنب عصى الله به، كما قال تعالى: { لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [سورة لقمان آية: 13]، وقال: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [سورة المائدة آية: 72]، وقال: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [سورة الحج آية: 31].
الوجه الثامن: أن هذا الذي أجازه هذا المجيب، هو بعينه قول الفلاسفة المشركين؛ فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الإيمان (2629), وابن ماجة: الفتن (3988), وأحمد (1/398), والدارمي: الرقاق (2755).(6/125)
ص -122- ... الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له; قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بوجهه وقلبه وروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، وبوجهه وقصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له.
قال ابن القيم، رحمه الله: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه، ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عُبَّاد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة، بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها؛ وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شِقّ، وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور، هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة بقرب من السلطان،(6/126)
ص -123- ... فهو شديد التعلق به فيما يحصل لذلك من السلطان، من الإنعام والإفضال، وينال ذلك المتعلق منه بحسب تعلقه؛ وهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وأوجب لهم النار؛ والقرآن من أوله إلى آخره، مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى.
قلت: وتأمل ما ذكره الله في سورة { يس }، من قوله: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } الآية [سورة يس آية: 20-24]؛ ففي هذه الآية العظيمة وما في معناها، ما يكفي ويشفي في إبطال هذا المذهب الخبيث، من تعلق أهل الإشراك بغير الله، وافترائهم على الله، وإضلالهم العباد عن توحيد الله والتوجه إليه وحده بالاخلاص الذي هو دينه الذي لا يرضى لعباده ديناً سواه، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [سورة الزمر آية: 2-3].(6/127)
ص -124- ... ففرق تعالى في هذه الآية، بين دينه الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ودين هؤلاء المشركين، الذي أنكره عليهم وأكذبهم فيما زعموه، وكفرهم بما انتحلوه واعتمدوه، من الشرك العظيم الذي لا يحبه ولا يرضاه، وينكره ويأباه، كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [سورة البقرة آية: 165-166]، والأسباب هي: الوصل والمودة التي كانت بين العابد والمعبود، أخبر سبحانه أنها تنقطع يوم القيامة،{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [سورة البقرة آية: 167]؛ فهذا ما يؤول إليه أمر هؤلاء المشركين يوم القيامة. ونظائر هذه الآية كثير في القرآن، كقوله تعالى: { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [سورة العنكبوت آية: 25].
فتأمل ما يؤول إليه أمر أهل هذه التوجهات، والتعلقات بغير الله، من كفرهم بمن تعلقوا عليهم، ولعنهم لهم، وجزاءهم عند الله بعذاب النار وغير ذلك مما أخبر به تعالى عن أحوالهم. فلا شافع يشفع لهم ولا ناصر ينصرهم؛ فعادت(6/128)
ص -125- ... تلك التعلقات الشركية والهمم الشيطانية، والأماني الكاذبة عليهم حسرة ووبالاً. هذا ما تيسر تعليقه بحمد الله، في هدم أصول هؤلاء المشركين، وفيه الكفاية لمن نور الله قلبه. { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [سورة النور آية: 40]، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه: وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب، وأوقدت فيها المصابيح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن إليهود والنصارى، وقال: " ألا لعنة الله على إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وقال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله.
وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطإ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (320), والنسائي: الجنائز (2043), وأبو داود: الجنائز (3236), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575), وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337).
2 مالك: النداء للصلاة (416).(6/129)
ص -126- ... وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، فهذا شيء يسير من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة، في وجوب هدم القباب والبنايات التي على القبور، وبيان أنها من أعظم الوسائل والذرائع المفضية إلى الشرك، ونحن ولله الحمد في ذلك متبعون لا مبتدعون، وقد أكمل الله لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } [سورة المائدة آية: 3]، وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [سورة الحشر آية: 7]. قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً "، وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي لفظ لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2.
إذا تبين ذلك: فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة، التي لا مطعن فيها ولا مغمز، شاهدة بأن وضع القباب والبنايات على القبور والكتابة عليها، وتجصيصها، واتخاذها مساجد، وإسراجها، أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه، والكف عن ارتكابه، ومضت كلمة الحق بسد ذريعته، ظناً بنا أن نسلك سنن من قبلنا؛ وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب، ثم نظر إحصاء هذه الأمم وارتكابها وتلوثها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240, 6/270).(6/130)
2 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270).(6/131)
ص -127- ... بأدرانها، وتهالكها على مناقضة كل نهي من تلك المناهي، بفعل عين المنهي عنه، طال تعجبه كون هذه الخلوف ضلت عن ذلك الرشد الأسعد، فعمدوا إلى كل ما نهوا عنه فواقعوه، كأنهم كشفوا واستقصوا بالاستقراء والتتبع، حتى أتوا على مشخصات ما نهى عنه الشارع، فلا شك صدق التأمل أن القوم سلكوا في العمل مسلك المضادة الوافية، ثم زادوا زيادة في درك النكال كافية.
وهذا نص الأحاديث الواردة في ذلك: قال الإمام الحجة الحافظ، إمام الدنيا في الحديث، أبو عبد الله البخاري، في جامعه الصحيح: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عتبة، أن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما صنعوا. حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. انتهى بلفظه من كتاب الصلاة.
فتأمل هذه القباب، وما أعد فيها من المحاريب والفرش، ومصاحف التلاوة، واعتياد الصلاة فيها، والتردد إليها في الأوقات للذكر والدعاء والاعتكاف، وما يطول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (436), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531), والنسائي: المساجد (703), وأحمد (1/218, 6/34), والدارمي: الصلاة (1403).
2 البخاري: الصلاة (437), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530), والنسائي: الجنائز (2047), وأبو داود: الجنائز (3227), وأحمد (2/246, 2/284, 2/366, 2/396, 2/453, 2/518).(6/132)
ص -128- ... تعداده، هل لاتخاذ القبور مساجد معنى سوى هذا الذي تقضي الضرورة بأنه عينه؟ بل كثيراً ما وجدنا القباب والمشاهد، أحيا كثيراً من المساجد، فالله المستعان.
وقد ثبت في الصحيحين والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه، حيث قال وساق بسنده إلى أبي الهياج الأسدي، قال: " قال علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده إلى جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه " 2. قال هارون بن سعيد الأيلي: قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن ثمامة حدثه قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " 3.
وقال الترمذي: في جامعه باب ما جاء في تسوية القبور، وساق بسنده إلى وائل بن حجر، أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته " 4، قال: وفي الباب عن جابر، باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها، وساق بسنده إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/96, 1/128, 1/145).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وأحمد (3/295, 3/332, 3/399).
3 مسلم: الجنائز (968), والنسائي: الجنائز (2030), وأبو داود: الجنائز (3219), وأحمد (6/18, 6/21).(6/133)
4 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/96, 1/111, 1/128, 1/150).(6/134)
ص -129- ... جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 1، وساق بسنده إلى جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 2، وساق بسنده إلى أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور " 3 . وقد روى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 4، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم; وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ، وقال أبو داود: باب البناء على القبور، وساق بسنده إلى جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص ويبنى عليه " 5. انتهى. ولو ذهبنا نستقرئ ما ذكر أئمة السنة، وحفاظ الحديث في هذه المسألة، وما رووه في المساند والمجامع والمعاجم، والجوامع والسنن والأجزاء، والتفاسير الأثرية، لاتسع النطاق، وضاق عن الاستيعاب الخناق، وتصدى المرء في ذلك لما يتعسر أن يطاق. وفيما ذكرنا وفاء بالمقصود ووفاق، وأقل منه يكفي عند الفطناء الحذاق. فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى فيما تقدم آنفاً، وقد قال الله تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [سورة الأعراف آية: 3]، وقال تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ }الآية [سورة المائدة آية: 49]، وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/135)
1 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2029), وأبو داود: الجنائز (3225), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/295, 3/332, 3/339).
2 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563).
3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1564).
4 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2027), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/332).
5 مسلم: الجنائز (970), والترمذي: الجنائز (1052), والنسائي: الجنائز (2029), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563), وأحمد (3/332).(6/136)
ص -130- ... شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [سورة النساء آية: 59]، وقال تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [سورة المائدة آية: 50]، وقال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [سورة النساء آية: 65]، إلى غير ذلك من الآيات التي أمر الله فيها باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه؛ وقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائناً من كان.
وأما أقوال أئمة المذاهب، ومن على منهاجهم من أتباعهم، فقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة كلهم بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور، ويؤيد الهدم قوله: " ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وقال الأذرعي في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار، والتحريم ثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/137)
1 مسلم: الجنائز (969), والترمذي: الجنائز (1049), والنسائي: الجنائز (2031), وأبو داود: الجنائز (3218), وأحمد (1/89, 1/96, 1/111, 1/128, 1/138, 1/139, 1/145, 1/150).(6/138)
ص -131- ... الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي.
وقال ابن القيم، رحمه الله، في زاد المعاد في هدي خير العباد: لما أسلم أهل الطائف، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها - إلى أن قال - فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فهدماها.
ثم قال في فقه هذه القصة: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر(6/139)
ص -132- ... والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها؛ والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة؛ نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. انتهى.
ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأعياداً، وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها، واستلامها وتقبيلها ونحو ذلك، غض من قدر أصحابها وتنقيص لها، كما يحسبه الضلال، بل ذلك من إكرامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه،(6/140)
ص -133- ... فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون، من أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم، كالنصارى مع المسيح، والروافض مع علي؛ فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أهل مكة وغيرهم، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وهم يبنون عليها القباب العظيمة، والذي شوهد عند دخول المسلمين مكة أكثر من ثلاثمائة قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وهم يزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها، والذي رأى المسلمون ليلة دخولهم مكة المشرفة في المقبرة أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله؛ فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله، وأشد تحريما: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. نسأل الله أن يطهر حرمه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (320), والنسائي: الجنائز (2043), وأبو داود: الجنائز (3236), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575), وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337).(6/141)
ص -134- ... الشرك; ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفّر الله به المشركين، كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [سورة الجن آية: 18]؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة شهيرة.
إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر، وإنما شرع لنا عند زيارة القبور تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، كما في صحيح مسلم عن بريدة، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية " 1. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 2، رواه مسلم؛ وإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى؛ فبدل أهل الشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها الرسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (975), والنسائي: الجنائز (2040), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547), وأحمد (5/353, 5/359).
2 مسلم: الجنائز (947), والترمذي: الجنائز (1029), والنسائي: الجنائز (1991), وأحمد (3/266, 6/32, 6/40, 6/97, 6/231).(6/142)
ص -135- ... إحساناً إلى الميت سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 1.
وإذا ثبت أن الدعاء هو العبادة، فصرفه لغير الله شرك؛ فمن دعا مع الله أحداً من الخلق فقد أشرك به شاء أم أبى، كأن يقول: يا رسول الله، يا كعبة الله، يا مقام إبراهيم، أو يدعو أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين، فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية: 48]، وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [سورة المائدة آية: 72]، وقال تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [سورة الأحقاف آية: 5-6]، وَقَالَ { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [سورة الجن آية: 18]، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
إذا تحققت ذلك، فقد قال شيخ الإسلام في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مرق من الإسلام مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3371).(6/143)
ص -136- ... الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [سورة الزمر آية: 3]، { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [سورة يونس آية: 18]؛ فبعث الله رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عباده، ولا دعاء مسألة.
وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعاً. انتهى. و { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [سورة الأعراف آية: 43].
[ كتب اسم الميت على القبر ]
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتب اسم الميت على القبر؟
فقال: داخل في عموم النهي(6/144)
ص -137- ... عن الكتابة على القبر، وأما جعل العلامة على القبر فلا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم " علم على قبر عثمان بن مظعون بحجر، جعله علماً عند رأسه " 1.
[ نبش قبر المسلم ]
سئل ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر: عن قبر رجل صالح اتخذ وثناً، هل يوجب ذلك نبشه؟
فأجابوا: نبش قبر المسلم لغرض غير صحيح لا يجوز، فإن كان لغرض صحيح جاز؛ والغرض مثل: أن يدفن ولم يوجه إلى القبلة، أو لم يغسل، أو لم يكفن، فهذا يجوز نبشه لذلك، لما روي عن معاذ: " أنه نبش امرأته فكفنها "، وطلحة بن عبيد الله " نبشته ابنته لما خافت عليه من النداوة "، وحولت عائشة من قبرها، روي ذلك عن أحمد. ومن الأغراض المبيحة للنبش: إذا وقع في القبر مَالٌ، نُبِشَ وأخرج المال، هذا إذا كان صاحب القبر مسلماً.
وأما الكافر فلا حرمة له، ولا دليل مع من منع من نبش قبره، بل الدليل مع من لم يمنع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبش قبور بعض المشركين، وجعل مسجده موضعها. وإن كان المنبوش قبره كأحد هؤلاء الشياطين الطواغيت، الذين نصبوا العدوان لرب العالمين، ودعوا إلى عبادة أنفسهم كأبي عائشة وأمثاله من جند إبليس، امتنع الإنكار على من نبش قبره وإن لم يؤمر بنبشه؛ فإن الذين نبشوه من عوام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1561).(6/145)
ص -138- ... المسلمين الذين لا علم لهم بمسائل الفروع، ولم يفت لهم به أحد من علماء المسلمين فيما علمنا. وقول القائل: إن حرمة قبر المسلم من الثرى إلى الثريا، فلا نعلم لهذا أصلاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لو دفن قبل الغسل من أمكن غسله، لزم نبشه إن لم يخف تفسخه أو تغيره، ومثله من دفن غير موجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، أو قبل تكفينه. وذكر في المبدع ثماني صور في نبشه - إلى أن قال - قال في الشرح: فإن تغير الميت لم ينبش بحال.
[ الدفن ليلاً ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الدفن ليلاً؟
فأجاب: أما الميت إذا مات في الليل، فيجوز تأخير دفنه إلى النهار إذا لم يخش عليه، وعلي " دفن فاطمة ليلاً "، وعن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: رحمك الله أن كنت تلاء للقرآن " 1، رواه الترمذي. قالوا: ولكن الدفن بالنهار أولى، لأنه أسهل على متبعي الجنازة، وأكثر للمصلين عليها، وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده. وأما قولك: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله، فهذا إذا لم يكن عذر.
لمس القبر أو قصده للدعاء عنده
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: لمس القبر أو قصده للدعاء عنده، ليس من دين المرسلين؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الجنائز (1057).(6/146)
ص -139- ... فأجاب: هذا هو الصواب بلا ريب، وكون الشارح ذكر كلام الحربي أن قبر "مَعْرُوفٍ" الترياق المجرب، فهذا لا ينكر، لأن العلماء يذكرون في المسألة القولين أو أكثر، ويرجحون الراجح، أو يتوقف بعضهم، ولكن كلام الشيخ عند كلام الحربي مخالف له منكر له; لكن ليكن منك على بال ما أخرجاه في الصحيحين: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله، وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله. فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة " 1.
فتدبر هذا، وأرعه سمعك وأحضر قلبك، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يدعوهم إلى الصلوات الخمس إلا إن استجابوا للتوحيد، فكيف بمن لا يهمه في دينه إلا بعض مسائل إلاجتهاد؟ مع ما يراه من سب الناس للتوحيد، واستحلالهم دم من دان به ومالهم، ودعوتهم إلى الشرك الأكبر، ودعواهم أن أهله السواد الأعظم، ثم مع هذا إذا أخذهم السيف كرهاً، قالوا: ما خالفنا، والناس يكذبون علينا وعرفنا الكذب، وإلا جميع ما جرى لهم لم يقروا به ولم يتوبوا منه، والرسول صلى الله عليه وسلم هذه وصيته لمعاذ، فالله الله! فالله الله! في تدبر هذا الحديث، وتدبر ما عليه أعداء الله من العداوة للتوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7372), ومسلم: الإيمان (19).(6/147)
ص -140- ... وأما المسائل التي ذكر في الجنائز، من لمس القبر، والصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء، وكذا وكذا، فهذا أنواع; ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1. وذكر العلماء التغليظ في هذه الأمور، لأنه يفتح باب الشرك، كما أن أول ما حدث في الأرض بسبب ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، لما عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم يتذكرون بها الآخرة، ثم بعد تلك القرون عبدوها، فكذلك في هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 2.
فأول ما حدث: الصلاة عند القبور، والبناء عليها من غير شرك، ثم بعد ذلك بقرون وقع الشرك، وأول ما جرى من هذا: أن بني أمية لما بنوا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم واشتروا بيوتاً حوله، ولم يكن إدخال بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه قبره وقبر صاحبيه مرادهم، ولكن أدخلوا البيت في المسجد لأجل توسيع المسجد، لم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، ولكن قصدوا توسعة المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة، حتى قتل خبيب بن عبد الله بن الزبير بسبب إنكاره ذلك؛ فانظر إلى سد العلماء الذرائع.
وأما النذر له، ودعاؤه، والخضوع له، فهو من الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (436), ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529), والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046), وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275), والدارمي: الصلاة (1403).
2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320), ومسلم: العلم (2669), وأحمد (3/84، 3/89).(6/148)
ص -141- ... الأكبر; وتأمل ما ذكره البغوي في تفسير سورة نوح، في قوله: { لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً }الآية [سورة نوح آية: 23]، وما ذكر أيضاً في سورة النجم، في قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى } [سورة النجم آية: 19] أن اللات قبر رجل صالح، فتأمل الأصنام التي بعث الرسول بتغييرها، كيف تجد فيها قبور الصالحين.
[ القراءة عند القبور وحمل المصاحف إليها ]
وأجاب ابناه: حسين وعبد الله، رحمهم الله، أن القراءة عند القبور وحمل المصاحف إلى القبور، كما يفعله بعض الناس، يجلسون سبعة أيام، ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام، ويقرؤون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت، فكل هذا من البدع والمنكرات المحدثة، التي يجب إزالتها، ولم يكن يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه الراشدين من ذلك شيء؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } [سورة المائدة آية: 3].
ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به دين الإسلام; وثبت في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي حديث العرباض بن سارية، الذي أخرجه أبو داود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240, 6/270).(6/149)
ص -142- ... في سننه، وأحمد في مسنده: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 1.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قراءة سورة يس في المقبرة؟
فأجاب: الحديث المروي في قراءة سورة يس في المقبرة، لم يعز إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، والظاهر عدم صحته؛ والقراءة في المقبرة اختلف فيها العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما: الجواز، وعليه أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد. والثانية: الكراهة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهو قول قدماء أصحاب أحمد، وهو قول السلف.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الأذان والقراءة عند القبر بعد دفن الميت؟
فأجاب: الأذان عند القبر بدعة منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعله أحد ممن يقتدى به؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك، من الصلاة في المقبرة، وإليها، وإن كان المصلي يصلي لله، لئلا يكون ذريعة إلى تعظيم القبور وعبادتها. وأما القراءة حال الدفن، فقال شيخ الإسلام: نقل الجماعة عن أحمد كراهة القراءة على القبور؛ وهو قول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: العلم (2676), وأبو داود: السنة (4607), وابن ماجة: المقدمة (42, 44), وأحمد (4/126), والدارمي: المقدمة (95).(6/150)
ص -143- ... جمهور السلف، وعليها قدماء أصحابه، ولا رخص في اعتياده عيداً، كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم. واتخاذ المصاحف عند القبر بدعة، ولو للقراءة، ولو نفع لفعلها السلف.
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: وأما إن بعض الناس يجوز القراءة على القبر، زاعماً أن ابن القيم ذكر في كتاب الروح أخباراً تدل على ذلك، فالجواب أن يقال: ما أطلقه هذا القائل يحتاج إلى تفصيل: فإن كان مقصوده جواز اعتياد القراءة على القبر، فلم يقل به أحد ممن يعتد بقوله، وهو قول ساقط مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وفيه مضاهاة لما كان يعتاده عباد القبور، من العكوف عندها بأنواع القرب، خصوصاً في هذا الزمان الذي عميت فيه القلوب، وتنوعت فيه الخطوب، واشتدت فيه غربة الإسلام، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان والأصنام.
وإن كان المقصود القراءة حال الدفن، ففيها خلاف مشهور، وقد أنكرها عامة السلف، منهم الإمام أبو حنيفة، ومالك بن أنس وشدد فيها؛ وأما الشافعي فلم ينقل عنه فيها شيء، وأما الإمام أحمد فقد نهى عنها في رواية عنه، حتى إنه نهى عن القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة في المقبرة. ولا أعلم في كتاب الروح ولا غيره لابن القيم، ولا في شيء من دواوين أهل الإسلام، ما يدل على ما زعمه، لا من كتاب(6/151)
ص -144- ... ولا سنة، إلا آثاراً ساقها، رحمه الله عن السلف، فقال: " وأوصى بعض السلف أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن "، روي عن ابن عمر أنه " أوصى أن يقرأ عنده سورة البقرة "، وكان أحمد ينكر ذلك، وذكر ما رواه الخلال عن أبي العلاء، وقول محمد بن قدامة الجوهري لأحمد، لما رآه ينكر القراءة على القبر، ويقول: هو بدعة، وذكر قول الخلال عن الشعبي: أن الأنصار إذا مات لهم ميت، اختلفوا إلى قبره للقراءة عنده، وذكر قصة الذي يقرأ سورة يس عند قبر أمه، ويجعل ثوابها لأهل المقابر، وذكر حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤوا يس على موتاكم " 1.
وصرح أن احتمالها للقراءة على المحتضر، أولى من احتمالها للقراءة على القبور، من وجوه عدها: منها: أنه نظير قوله " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله " 2. ومنها: انتفاع المحتضر بهذه السورة، لما فيها من التوحيد والمعاد، والبشرى بالجنة لأهل التوحيد، وغبطة من مات عليها بقوله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}الآية. الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً، يقرؤونها عند المحتضر. الرابع: أن الصحابة، رضي الله عنهم، لو فهموا أنها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً مشهوراً معتاداً بينهم. الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا بالاستماع، هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجنائز (3121), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1448), وأحمد (5/26, 5/27).
2 مسلم: الجنائز (916), والترمذي: الجنائز (976), والنسائي: الجنائز (1826), وأبو داود: الجنائز (3117), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1445), وأحمد (3/3).(6/152)
ص -145- ... لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل، وقد انقطع بالموت. انتهى.
قلت: وهذا على تقدير صحة الحديث، وإلا فقد ذكر ابن حجر وغيره، أن الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما، رووه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان، وليس بالنهدي عن أبيه، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة أبي عثمان وأبيه، وقال الدارقطني: هذا حديث معقل بن يسار، قوله: " اقرؤوا "، أراد به من حضرته المنية، لأن الميت يقرأ عليه. انتهى. لكن ابن القيم بنى على ما يعضده من الآثار الثابتة عن السلف.
قال شيخ الإسلام: وإنما رخص فيها أحمد، يعني القراءة عند الدفن، لأنه بلغه أن " ابن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه، بسورة البقرة وخواتيمها "، وروى عن بعض الصحابة أنه قرأ سورة البقرة؛ فالقرآن عند الدفن هو مأثور في الجملة، وما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر. وقال في موضع آخر: فإنه لو كان مشروعاً لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك لأن هذا وإن كان فيه نوع مصلحة، ففيه مفسدة راجحة، كما في الصلاة عنده؛ وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار له والصدقة عنه، وغير ذلك من العبادات، أعظم من ذلك، وهو مشروع ولا مفسدة فيه، ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يستحب قصد القبر للقراءة دائماً عنده، إذ قد علم بالاضطرار(6/153)
ص -146- ... من دين الإسلام أن هذا ليس مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته. انتهى. فتبين لك: أن نسبة جواز القراءة على القبر مطلقاً إلى أحد من أهل العلم، أو دعوى أن في ذلك حديثاً مرفوعاً أو أثراً، دعوى مجردة لا دليل عليها؛ وهذا هو سر المسألة، ومقصود السؤال.
وقد صرح شيح الإسلام في مسائله، بأن القراءة على القبر عكوف، يضاهي العكوف في المساجد بالقرب; فقال: ومعلوم أن المسجد بيت الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلاً في النهي. وقال في الاقتضاء - لما ذكر الرواية عن أحمد بالجواز -: الثانية: أن ذلك مكروه، حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في الصلاة على الجنازة، إذا صلى عليها في المقبرة أو لا؟ قال: وفيه عن أحمد روايتان، وهذه الرواية هي التي ذكرها أكثر أصحابه عنه، وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه، كعبد الوهاب الوراق، وأبي بكر المروذي ونحوهما، وهو مذهب جمهور السلف، كأبي حنيفة ومالك، وهشيم بن بشر بن حازم وغيرهم، ولم يبلغنا عن الشافعي في هذه المسألة كلام; وذكر أن ذلك عنده بدعة، وقال مالك: ما علمت أن أحداً يفعل ذلك، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.
والثالثة: أن القراءة وقت الدفن لا بأس بها، كما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين. وأما القراءة بعد ذلك، مثل الذين ينتابون القبور للقراءة(6/154)
ص -147- ... عندها، فهذا ممنوع؛ فإنه لم ينقل عن السلف مثل ذلك أصلاً، وهذه الراوية لعلها أقوى من غيرها، لما فيها من التوفيق بين الأدلة. والذين كرهوا القراءة عند القبر كرهها بعضهم، وأن يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة، فأحمد نهى عن القراءة في الصلاة هناك، ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر، فالفرق بين ما يفعل ضمناً وتبعاً، وبين ما يفعل لأجل القبر، بيِّن. انتهى. ومعناه: أنه إذا امتنع عندهم ما كان مقصوداً لغيره مما يفعل ضمناً وتبعاً، فامتناع ما كان مقصوداً لذاته أولى وأحرى؛ وهذا من أقوى الدلالات، مع ما قدمناه عنه أنه لم ينقل عن أحد من السلف، وأنه من البدع المنكرة؛ فالذي يفتح هذه الأبواب للناس، ويوقعهم في الشك والالتباس، وينسب ذلك لأئمة الإسلام والأئمة الأعلام، لا يخلو من أمرين: إما من سوء الاعتقاد، أو لعدم فهم المراد. وقد علم بالضرورة أن هذين الشيخين من أعظم الناس سداً لهذا الباب، وأشدهم حماية لهذا الجناب، فرحم الله أئمة الإسلام، وجزاهم أتم الجزاء عن الأنام، فلقد حموا حمى السنة، وسدوا كل طريق يوصل إلى الشرك والفتنة.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الأجرة على القراءة عند القبر... إلخ؟
فأجاب: أما الأجرة على القراءة إذا مات الميت، على(6/155)
ص -148- ... ختمة أو ختمات عند القبر وغيره، فقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهداؤها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة؛ وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. انتهى. وقال في الشرح: ولا يجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، كالحج والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، وعن أحمد: تصح. وأجازه مالك والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، متفق عليه، وقال: " أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله " 1، رواه البخاري. انتهى.
[ الدعاء للميت والتصدق له ]
وأما الدعاء للميت والتصدق له، فجائز؛ قال في الكافي: فإن دعا إنسان لميت أو تصدق عنه، أو قضى ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ]الحشر:10[
الآية، وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: " أينفع أمي أن أتصدق عنها؟ قال: نعم "، وإن فعل عبادة بدنية، كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه ذلك أيضاً، لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر فكان إجماعاً. انتهى.
وأما إذا خرجوا مع الميت بطعام يقسمونه عند القبر، أو إذا جمع أهل الميت قراء وصنعوا لهم طعاماً، فقال في المبدع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5737).(6/156)
ص -149- ... يستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم " 1، رواه أحمد والترمذي وحسنه، ولا يصلحون هم طعاماً للناس، فإنه مكروه، لما روى أحمد عن جرير قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة "، وقيل يحرم. قال أحمد: ما يعجبني. ونقل المروذي: هو من أفعال الجاهلية، وأنكره إنكاراً شديداً.
فرع
[ الذبح عند القبر والأكل منه ]
يكره الذبح عند القبر والأكل منه، لخبر أنس: " لا عقر في الإسلام " 2 رواه أحمد، وفي معناه الصدقة عند القبر، فإنه محدث؛ فقد علمت أن الصدقة عند القبر، وجمع أهل الميت قراء وصنع الطعام لهم، محدث مكروه، والله أعلم.
حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن أو بعضه كل يوم وإهداء ثوابه للميت؟ وهل يرفض نص الواقف بذلك؟
فأجاب: الوقوف والوصايا على هذا الوجه المذكور، لا تصح، لأن من شرط الوقف على جهة: أن يكون على بر، وقربة؛ وليست قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الأموات قربة، ولهذا لم يعرف مثل ذلك عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وغاية ذلك أن يكون جائزاً.
وفي مثل هذه الأوقاف مفسدة، وهي حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الجنائز (998), وأبو داود: الجنائز (3132), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1610).
2 أبو داود: الجنائز (3222), وأحمد (3/197).(6/157)
ص -150- ... قال في الاختيارات: وأما هذه الأوقاف التي على الترب، ففيها من المصلحة: بقاء حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونة على ذلك، وحاضة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر، من حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة؛ فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز، وإلا توجه النهي عن ذلك والمنع وإبطاله.
[ إهداء ثواب البدن للميت ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إهداء ثواب البدن للميت، من قرءاة وصلاة وحج وغير ذلك؟
فأجاب: هذا فيه خلاف بين العلماء، هل يصل إلى الميت أو لا؟ ولا ينكر على من فعله أو تركه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما كون الإنسان يطوف ما أحب، ويهدي ثوابه لحي أو ميت، فهذا جائز، وكذا لو صلى ركعتين أو صام وجعل ثوابه لغيره، جائز عند كثير من العلماء، وكذلك إهداء ثواب القراءة لميت أو حي؛ وأفضل من ذلك كله، الدعاء لهم والصدقة.
وأجاب أيضاً: وأما ما ذكر من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب، على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد(6/158)
ص -151- ... غير صحيح. وأما ما رواه الكحال عن أحمد، قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه؛ ويتعين حمله على إلاحتمال الثاني لوجهين: أحدهما: أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدل على أن هذا معنى الرواية عندهم. الوجه الثاني: أنهم لما نصوا على أنه إذا أحرم عن اثنين وقع عن نفسه، قاسوا ذلك على الصلاة، فدل على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين، لا خلاف فيه عندهم، لأنهم جعلوه أصلاً، وقاسوا عليه الحج؛ فدل على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب.
ولما ذكر ابن القيم وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب، وربعه إلى الميت، فأجاب بوجهين: أحدهما: منع الملازمة، الثاني: التزام ذلك، والقول به نص عليه الإمام أحمد، من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا، أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعه، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى(6/159)
ص -152- ... أربعة مثلاً تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز، كما لو أهداه إلى غيره.
إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب
وسئل: عن إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب، مثل الحج والتضحية، وكذا الرقيق الذي لا يدري عن والديه... إلخ؟
فأجاب: إهداء ولد الزنى لوالديه المسلمين جائز حسن، إن شاء الله تعالى، أعني: إهداء جميع القرب والتضحية عنه والحج وغير ذلك. والرقيق الذي لا يعلم حال والديه، لا بأس بدعائه لهما، وكذا إهداء القرب.
[ الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية؟
فأجاب: هذا حسن لا بأس به، إذا قصد به صدقة لوجه الله، يفرق على المساكين والأقارب.
وأجاب في موضع آخر: العيد الذي يفعلونه عند موت الإنسان، إن كان أهل الميت يجعلونه وليمة يدعون إليها، كوليمة العرس، فهذا من أنكر المنكرات؛ من فعله بعد ما عرف أنه لا يجوز، أدب أدباً يزجره وأمثاله. فإن كان أنهم يذبحون لقصد إعطاء الذبيحة المساكين تقرباً إلى الله، وقصدهم أن الله يجعل ثواب الصدقة للميت، فهذا لا بأس به، وهو مثل كونهم يتصدقون عنه بطعام أو دراهم.(6/160)
ص -153- ... وسئل: عن صنع الطعام من أهل الميت؟
فأجاب: صنع الطعام من أهل الميت خلاف السنة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما ما ذكره السائل، من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم الغني والفقير، فليس هذا من دين الإسلام، بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى، من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه. انتهى.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الصدقة للميت؟
فأجاب: الصدقة من الطعام وغيره، جائزة يصل ثوابها للميت.
وأجاب أيضاً: وأما صدقة المال، فهي يصل ثوابها إلى الميت باتفاق العلماء.
وأجاب أيضاً: الصدقة عن الميت من ماله الذي خلف حسن، والصدقة المالية تصل إلى الميت باتفاق أهل العلم، بخلاف صدقة المنة بإهداء الأعمال البدنية، فإن ذلك مختلف فيه، بخلاف الأول فهو بالاتفاق. وأما إذا كان في الورثة صغار، لم يجز لأوليائهم أن يتصدقوا لأبيهم من الميراث،(6/161)
ص -154- ... فإذا أراد الكبار أن يتصدقوا لميتهم، فليجعلوا ذلك من نصيبهم خاصة.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: ظاهر كلام الشيخ في المختصر، أن إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة; وأما الصدقة عن الميت المسلم، فهي تصل إليه بالنص والإجماع.
وأجاب في موضع آخر: والصدقة عن الميت من مال الأيتام لا تجوز.
[ من مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام ]
سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم، يفعلها ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يسب ويلعن أو يكف عنه؟ وهل يجوز لولده الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، ومن أدركها ومات معادياً لهذا الدين وأهله؟
فأجابا: من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى عنه، ولا يتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله: فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة،(6/162)
ص -155- ... فأمره إلى الله. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية.
وأجاب الشيخ عبد الله أيضاً: الذي مات قبل ظهور الإسلام في هذه الأوطان، فإن كان قد مات على التوحيد وإخلاص العبادة لله، والتزام طاعة الله ورسوله، فإنه يدعى له، ويتصدق عنه; وإن كان قد تلطخ بالشرك، ويفعل ما يفعل غالب الناس، فلا ينبغي الدعاء له، ويترك ويوكل أمره إلى الله.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: ومن أحسن ما تفعل إذا أردت الصدقة للميت أن تعطي - صدقتك له - قريبه الحي؛ فالحي ينتفع بها، والثواب يحصل للميت إن شاء الله، وإحسانك أيضاً إلى قريب الميت صلة للميت؛ فهذا أحسن ما أرى لك. فإن أعطيت الحي شيئاً وقلت: تصدق بهذا عن ميتك، فحسن لك. وقد يكون الحي محتاجاً، فإعطاؤك إياه الشيء له ينتفع به بنفسه، وتنوي ثوابه للميت أحب عندي، هذا إذا أردت الإحسان إلى أموات قرابتك، وصلتهم بالصدقة عنهم، وأنت على الثواب والأجر إن شاء الله بإحسانك إلى الميت والحي؛ ولكن كون غالب صدقتك تبقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1393), والنسائي: الجنائز (1936), وأبو داود: الأدب (4899), وأحمد (6/180), والدارمي: السير (2511).(6/163)
ص -156- ... ثوابها لك وحدك، وتعطي قريباً محتاجاً ينتفع بها فهو أحسن، ومع هذا فلا تنسى الأموات ببعض الشيء صلة لهم، وتخص نفسك بالكثير، فهو الأولى، والأفضل.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: ولا نعلم أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً؛ وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى }الآية [سورة التوبة آية: 113]؛ هذا مذهب الشيخ وأهل العلم من أتباعه.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: وأما قول السائل: ويقولون لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا، واسكتوا وكفوا عنهم، فإن كان مراد هؤلاء الذين يطعنون على مشائخ المسلمين، تارة بالظلم، وتارة بالعدوان والزور والبهتان، وتارة بالجهل وعدم العلم بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها وعلماء المسلمي، الذين ساروا على منهاج أهل السنة والجماعة، أن المشائخ يقولون: لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا وظاهرهم الإسلام، ولم ندر ما ماتوا عليه، فهذا القول من هؤلاء الجهلة، قد قاله قبلهم من بهت شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، بأنه ينهي أتباعه عن الاستغفار والتضحية لمن ماتوا من آبائهم(6/164)
ص -157- ... وأقاربهم، ولم يدركوا دعوته، كما ذكر ذلك عثمان بن منصور في المطاعن التي طعن بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث قال: والويل كل الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه أو ضحى لهم. فأجابه شيخنا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، بقوله: فهذه القولة الضالة كأخواتها السابقة، فيها من نقض عهده الذي جعله على نفسه، وفيها من البهت والكذب وطلب العنت للبرآء، ما يقضي بفسوق القائل؛ فنعوذ بالله من استحكام الهوى والضلال بعد الهدى. فمن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً، وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113]؛ هذا مذهب الشيخ، وأهل العلم من أتباعه.
وأما التخليط والتحكم، والظن والهذيان، فذلك من طوائف الشيطان، يصدهم به عن سبيل العلم والإيمان. وفي قول المعترض: الذين لم يدركوا دعوته، أن من تقادم عهده وتطاول عصره داخل في عموم كلامه، وأن الشيخ ينهى عن(6/165)
ص -158- ... الاستغفار له، وإطلاق هذا يتناول القرون المفضلة ومن بعدهم، وليس هذا ببدع من كذبه وبهته، وحسابه على الله وأمره إليه، قال تعالى {ِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105]. شعراً:
لي حيلة فيمن ينـ ... ـمّ وليس في الكذّاب حيلةْ
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
أين ميثاقه وعهده؟! قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102].
حلفتْ لنا أن لا تخون عهودها ... فكأنها حلفت لنا أن لا تفي
انتهى.
والعهد الذي ذكر شيخنا: الشيخ عبد اللطيف عن ابن منصور: أنه أخذ على نفسه أن لا ينقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا ما صح عنده بنقل العدول الأثبات؛ إذا عرفت هذا، فالبهت الذي بهتوا به الشيخ، رحمه الله، إنما هو بمجرد الاستغفار والتضحية لوالديهم الذين لم يدركوا دعوته، وأما هؤلاء فأطلقوا لفظ البر، وهو أعم من الاستغفار والتضحية، فيدخل فيه جميع أنواع البر.
وأما قولهم: واسكتوا وكفوا عنهم، فالجواب عن ذلك أن نقول: قد تقدم في جواب أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسائل ما فيه الكفاية، وفيه: وإن(6/166)
ص -159- ... كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا أن يكون أحداً من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية.
فصل زيارة القبور
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الذي شرعه الله عند زيارة القبور، إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم والاستغفار له، وسؤال العافية، كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقولوا: " السلام على أهل الديار "، وفي لفظ: " عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية " 2. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " 3. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 4، رواه مسلم.
فإذا كنا نصلي على جنازة ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى; فبدل أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1393), والنسائي: الجنائز (1936), وأبو داود: الأدب (4899), وأحمد (6/180), والدارمي: السير (2511).
2 مسلم: الجنائز (975), والنسائي: الجنائز (2040), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547), وأحمد (5/353, 5/359).
3 أبو داود: الجنائز (3199), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1497).(6/167)
4 مسلم: الجنائز (947), والترمذي: الجنائز (1029), والنسائي: الجنائز (1991), وأحمد (3/266, 6/32, 6/40, 6/97, 6/231).(6/168)
ص -160- ... الشرك قولاً غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: عن أهل بلد، إذا كان يوم العيد نهضوا من مصلاهم إلى المقابر، الصغير والكبير، يقولون: نزور أهلنا، ترد عليهم أرواحهم يوم العيد؟
فأجاب: هذا الاجتماع في هذا اليوم لزيارة القبور بعد صلاة العيد، من دسائس الشيطان، ومن البدع المحدثة في الإسلام، بل هو من وسائل الشرك وذرائعه، لأن هذا الصنيع لم يكن يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أسبق الناس إلى كل خير؛ ولا يجوز لأحد أن يعتقد أن الله خصه بمعرفة هذه الفضيلة، وحرمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، أي: مردود عليه.
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله، على قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً " 2 قال: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام، على وجه معتاد، عائداً إما لعود السنة، أو لعود الأسبوع، أو الشهر ونحو ذلك. وقال ابن القيم، رحمه الله: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270).
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780), والترمذي: فضائل القرآن (2877), وأبو داود: المناسك (2042), وأحمد (2/367).(6/169)
ص -161- ... إلى آخر كلامه. فإذا فهمت هذا، علمت أن هذا الفعل الذي يعتاده أهل بلدكم في يوم العيد من كل سنة بعد صلاة العيد لزيارة القبور، أمر مبتدع محدث، لم يكن يفعله أحد من الصحابة؛ ولو كان أمراً مستحباً أو مندوباً إليه، لكان أسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مَن كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم ". وإذا كان هذا الفعل لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقل عن السلف الصالح ومن بعدهم من علماء الأمة وأئمتها، فهو بدعة وضلالة؛ ولو كان خيراً لكان الصحابة أولى بفعله منا وأرغب فيه.
وأما قولهم: إنها ترد عليهم أرواحهم يوم العيد، فهذا تعليل فاسد؛ ولو قدر أنها ترد عليهم في هذا اليوم بخصوصه، لكان هذا الاعتياد بدعة محرمة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم يمر على قبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فتخصيص رد أرواحهم عليهم في هذا اليوم، دسيسة من الشيطان، لكي(6/170)
ص -162- ... يعتادوا زيارة القبور في هذا اليوم المخصوص. والله أعلم. فإن تركوا ذلك فهو المطلوب، وإلا فاذكر لنا، ويجيئهم ما يردعهم ويزجرهم من المشائخ ومن الإمام، لأن هذا لا يجوز فعله.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " 1، هل عمت الرخصة النساء؟ أم الخطاب خاص للرجال؟
فأجاب: هذا من العام المخصوص بقوله: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وابن ماجة والترمذي. واحتج شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على تحريمه بلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، وصحح الحديث؛ فعلى هذا، يكون الإذن مخصوصاً بالرجال دون النساء، والمعارض لا تقوم به حجة ولا يفيد النسخ.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كان طريق على حد المقبرة، هل يكره للنساء المرور معه؟
فأجاب: إذا كان للناس طريق على حد المقبرة، ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس، لأنها لا تسمى زائرة.
[ التوسل بذوات الأموات ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن دعاء الزائر بقوله: يا ربنا، بحرمة نبيك ووليك، اقض حاجتي... إلخ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571), وأحمد (1/452).
2 الترمذي: الصلاة (320), والنسائي: الجنائز (2043), وأبو داود: الجنائز (3236), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575), وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337).(6/171)
ص -163- ... فأجاب: هذا من التوسل بذوات الأموات، وهو من البدع المنكرة، والذرائع الموصلة إلى الشرك؛ ولذلك لم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين، ولا من الصحابة؛ فلو كان حقاً لسبقونا إليه، فإنهم أعظم الناس سبقاً إلى كل خير، فتركهم ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم مع قربهم من قبره، يدل على أنه من البدع التي يجب تركها؛ يحقق ذلك أنهم لما أجدبوا في خلافة عمر، لم يأتوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم يستسقون به، كما كانوا يستسقون به في حياته، واستسقوا بعمه العباس، وقال عمر: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا اليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون ".
ففرقوا بين حال الحياة والوفاة، خوفاً من الوقوع فيما نهوا عنه، من الغلو في الأموات؛ ولكن الاستسقاء بالشخص إنما هو بدعائه، بخلاف حال الميت، فإن الدعاء متعذر في حقه، وهذا من غزارة علم الصحابة، رضي الله عنهم، وقوة إيمانهم، وتمسكهم بما شرع لهم، وتركهم ما لم يشرع؛ وهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115].
قال الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، يعزي بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب، والتعزي بعزاء الله تعالى، فقد قال بعض العلماء: إنك لن تجد أهل
...(6/172)
العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجاً عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقاً عند النوازل، وما ذاك إلا لما أوتوا مما حرمه الجاهلون، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-156]؛ فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في العاجلة والآجلة؛ فإنها تضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته: أولا: أن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى يتصرف فيه، حيث جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية، والمعير مالك قاهر قادر. وهو محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة. الثاني: أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق، الذي له الحكم والأمر، ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره، ويأتي فرداً بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات؛ ومن هذه حاله، لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقود. وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة، وقد قيل:
ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدرِ
وتعلمي أن المقدّر كائن ... يجري عليك عذرتِ أم لم تعذرِ(6/173)
ص -165- ... ومن صفات المؤمن: أنه عند الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور; ومما يخفف المصائب برد التأسي، فانظروا يميناً وشمالاً وأمام ووراء، فإنكم لا تجدون إلا من قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها، ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت. أعوذ بالله من الخسران. ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه، لم ير إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام ليل، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، حالها انتقال، وسكونها زوال، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته، كما قال بعض السلف: " لولا مصائب الدنيا، لوردنا الآخرة مفاليس ". والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه، ولا ليعذبه، ولكن امتحاناً لصبره ورضاه عنه، واختباراً لإيمانه، وليراه طريحاً ببابه لائذاً بجنابه، منكسر القلب بين يديه; فهذا من حيث المصائب الدنيوية; وأما ما جرى عليكم، فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية، ولعمر الله أن من سلم له دينه، فالمحن في حقه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات. وأما المصيبة والخطب الأكبر،(6/174)
ص -166- ... والكسر الذي لا يجبر، والعثار التي لا تقال، فهي المصيبة في الدين، كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ... وما من الله إن ضيعته عوضُ
وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لمن أراد به خيراً، أن يقدم الابتلاء بين يديه.
وقال الشيخ حمد بن عتيق، في تعزيته لبعض إخوانه: قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 34]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [سورة آل عمران آية: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". والصبر هو مفزع المؤمنين، و الرضى بالقضاء هو محط رحال العارفين، طمعاً فيما وعد به رب العالمين، قال الله تعالى:{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة آية: 155-157].
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن يعزي أخاً له في ابنه: فموجبه: التعزية في الابن عبد الله. اللهم أحسن عزاهم فيه، وأعظم لهم الأجور، وألهمهم التسليم للمقدور، نقول جميعاً كما قال الصابرون: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [سورة البقرة آية: 156].(6/175)
ص -167- ... فالله الله! أوصيك أخي أن تتدرع بالرضى، وتسلم للقضاء؛ فالمصاب من حرم الثواب. واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره، وتجلب له صبره، وتهون خطبه، وتذكره ربه، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}إلى قوله: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [سورة البقرة آية: 155-157]، وقال: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [سورة الزمر آية: 10].
وفي الصحيح عن صهيب مرفوعاً: " عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له " 1. وكان أيوب، عليه السلام، كلما أصابته مصيبة، يقول: اللهم أنت أخذت، وأنت أبقيت، مهما تبقى نفسي أحمدك على بلائك. وفي الحديث: " إن كل مصيبة آخرها الصبر، ولكنه إنما يحمد عند حدوثها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان ".
وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: " من يرد الله به خيراً يصب منه " 2، وعنه مرفوعاً: " ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة " 3. وأخرج النسائي عن أبي سلمى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بخ بخ لخمس، ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمؤمن فيحتسبه " 4، إلى غير ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزهد والرقائق (2999), وأحمد (4/332, 4/333, 6/15) , والدارمي: الرقاق (2777).
2 البخاري: المرضى (5645), وأحمد (2/237), ومالك: الجامع (1752).
3 الترمذي: الزهد (2399), وأحمد (2/287, 2/450).
4 أحمد (4/237).(6/176)
ص -168- ... مما فيه تسلية للمؤمن. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما يقولون إنه صلى الله عليه وسلم قال: " من مات بالحرمين بعث يوم القيامة آمناً "؟ فأجاب: هذا كذب لا أصل له.
توفي رجل وضرب النساء الدف
سئل بعضهم: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف... إلخ؟
فأجاب: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف، فإن كان لأجل الميت فهذا بدعة ويحرم فعلها، فإن كان لأجل عرس فلا بأس إن شاء الله به، لتشييع النكاح، ولا أعلم يحرم عليهن عند موت الميت إلا النياحة وتوابعها، إلا زوجة الميت فيحرم عليها الأمر الذي ما يخفاكم، لأجل إحدادها.
... كتاب الزكاة(6/177)
ص -169- ... كتاب الزكاة
الوقف الذي تجب فيه الزكاة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الوقف الذي تجب فيه الزكاة... إلخ؟
فأجاب: الوقف الذي تجب فيه الزكاة، هو الوقف على معين، وأما الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحو ذلك، مثل المؤذن والصُّوّام والسراج ونحو ذلك، فلا زكاة فيه. فإذا كان النخل وقفاً على المسجد، فلا زكاة في عمارته التي تؤخذ لأهل المسجد.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد: الذي يسبل على الفقير من صلبه، فمثل هذا ليس فيه زكاة، لأنه في الحقيقة غير معين، والمعين أن ينص رجلاً بعينه، أو رجلين أو أكثر.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا تجب الزكاة إلا في وقف على معين، كوقف الإنسان على أولاده، أو على زيد ونحوه، إذا حصل من غلة الوقف نصاب، وأما الوقف على جهات الخير فلا زكاة فيه.(6/178)
ص -170- ... وأجاب أيضاً: إن كان الوقف على معين واحد أو جماعة، وحصل لكل واحد نصاب، زكاة، وإن كان الوقف على غير معين، لم يجب فيه شيء.
[ هل تجب الزكاة في مال الأيتام ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل تجب الزكاة في مال الأيتام... إلخ؟
فأجاب: مال الأيتام ما فيه زكاة، حتى يتم لكل واحد منهم نصاب.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عمّا يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة؟
فأجاب: لا نعلم شيئاً يجب عليه إلا الزكاة، في أصح قولي العلماء، مع أن بعض أهل العلم ذكر أنها لا تجب عليه الزكاة، وهو قول مرجوح.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: وأما دراهم الأيتام فتجب فيها الزكاة، لأن النقدين لا يشترط في وجوب الزكاة فيها نية التجارة، بل مجرد الملك والحول والنصاب.
اشتراط الحول في الزكاة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل حصل له غنيمة، أو أجرة في بيت المال، أو غيره، هل يشترط فيه الحول؟
فأجاب: يشترط فيه الحول، ولا يزكيه إلا إذا مضى(6/179)
ص -171- ... باب الاستسقاء
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذكر في السيرة أن أهل مكة طلبوا آيات، وأن الله منع إجابتهم رحمة; والفائدة: كون الإنسان يعرف أنه حري يمنع شيئاً من دعائه رحمة به، ولو يعطى ما طلبه كان عذاباً عليه كثعلبة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الدعاء بظهور اليدين؟
فأجاب: وأما الدعاء بظهور اليدين فهو جائز، ويكون قد ترك السنة لأنه ثبت عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله: " إذا دعوت فادع بباطن كفيك ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح بها وجهك " 1، رواه أبو داود وابن ماجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الصلاة (1485), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1181).(6/180)
ص -171- ... عليه الحول، فإن أراد أن يضيفه إلى ماله ويزكيه فهو حسن.
اشتراط النصاب في الزكاة
وسئل: عمن له ثلاثون ريالاً مثلاً، وحصل له غنيمة أو ثمن أرض قيمتها ثلاثمائة، أو امرأة لها دون نصاب تمر، ثم حصل لها مهر... إلخ؟
فأجاب: إذا كان عند واحد من هؤلاء دراهم أو عروض لا تتم النصاب، وبعد ذلك استفاد ما ذكرت، فلا تجب فيه الزكاة إذا تم النصاب إلا بعد الحول.
وسئل: عمن يحسب نفقته... إلخ؟
فأجاب: أما الذي يحسب نفقته، فالذي قبل الحول يحسبه، وإذا حال الحول فيزكي الذي في يده، ولا يطرح منه النفقة المستقبلة، لا كسوة ولا غيرها.
زكاة الدين
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عمن له دين مؤجل، وقال: لا أزكيه إلا بعد قبضه؟ فأجاب: صاحب الدين المؤجل، إذا قال: ما أزكيه إلا بعد قبضه، فوافقوه.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عمن له دين على مليء... إلخ؟
فأجاب: إذا كان الدين على مليء، فإن شاء زكاه عند رأس الحول وهو أفضل، لأنه مقدور عليه، وإن شاء أخر(6/181)
ص -172- ... زكاته حتى يقبضه؛ فالتأخير رخصة في ذلك.
وأجاب أيضاً: إذا غاب مال الإنسان عنه، ثم جاءه، زكاه لما مضى من السنين إذا كانت غيبته في تجارة، مثل البضاعة ونحوها، وكذا إن كان ديناً على مليء باذل. وأما إن كان صاحبه هو الذي أخره على المدين، ولو أراد أخذه منه أعطاه إياه متى طلبه، فهذا يزكيه لما مضى من السنين.
وسئل: عمن له مائة ريال مثلاً على مليء أو غيره؟
فأجاب: زكاة الدين، الذي عليه العمل عندنا أنه يزكيه إذا قبضه مليئاً أو غير مليء، فإن أراد أن يزكيه فهو أحوط وأحسن؛ ودين المليء يزكيه لما مضى من السنين.
وسئل: هل تجب في دين السلم ويقوم بدراهم؟ أم تجب في رأس ماله، لأنه عرضة للفسخ؟
فأجاب: الذي عليه العمل أنه مثل غيره من الدين، لا تجب فيه زكاة حتى يقبض، فإن أراد صاحبه زكاته زكى رأس ماله.
وسئل: عمن له ألفا وزنة تمراً مثلاً، تساوي خمسين، وباعها بمائة مؤجلة؟
فأجاب: إن كان حصلها من كده وزكيت زكاة حرث، فلا زكاة فيها حتى يحول على ثمنها الحول، فيزكيها(6/182)
ص -173- ... إذا قبضها، فإن كان التمر للتجارة فيزكيها زكاة تجارة وقت الزكاة، قيمة ما تساوي.
[ هل يزكى المال المجحود أو الضال إذا قبض ]
وسئل: عن المال المجحود أو الضال إذا قبضه، هل يزكيه لما مضى أو سنة واحدة؟
فأجاب: الظاهر أن فيه الزكاة إذا قبضه صاحبه.
[ هل يزكى المال الذي حال عليه الحول وهو في الذمم ]
وسئل بعضهم، رحمه الله تعالى: عن الذي له مال حال عليه الحول... إلخ؟
فأجاب: الذي له مال حال عليه الحول، وهو دين عند معسر أو موسر، فإن زكاه وهو في الذمم فحسن، وإلا فلا يلزمه أن يزكي إلا ما قبض منه.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: صفة إخراجه: أن المال الحاصل في يده يزكيه، وأما الدين فلا يجب عليه إخراج زكاته إلا إذا قبضه، سواء كان على مليء أو غيره؛ لكن الأحسن له إخراج زكاة الدين الذي على مليء، فإن أخر زكاته فالتأخير رخصة ولا بأس بها، ومتى قبضه زكاه لما مضى من السنين. ودين السلم إذا كان للتجارة مثل ذلك: إن زكاه في الحال فحسن، وإلا زكاه إذا قبضه لما مضى.
وأما ما يفعله بعض الجهال، يزكي رأس ماله فقط، فهذا لا يبرئ الذمة، بل عليه أن يقوم الدين الذي في ذمة الغريم ويزكي قيمته، فإن لم يفعل فليؤخر الإخراج حتى يقبض(6/183)
ص -174- ... الدين ثم يزكيه لما مضى. وأما الدين الذي على المعسر، فهذا فيه خلاف، هل يزكيه إذا قبضه لما مضى؟ وهو المذهب، أو يزكيه لعام واحد؟ وهو قول مالك وعمر بن عبد العزيز؛ وإليه ميل شيخنا، رحمه الله، وأفتى به وأنا أسمع، أو لا زكاة عليه بل يستقبل به حولاً؟ وهو اختيار الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى.
[ هل يزكى دين السلم ]
وسئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهم الله: إذا كان لرجل مال سلماً إلى أجل، فهل إذا جاء وقت الزكاة قبل حلول السلم يزكي رأس مال السلم؟ أم يؤخر الزكاة حتى يحل السلم؟
فأجاب: قال في الفروع: ويزكي المبيع بشرط الخيار، أو في خيار المجلس، من حكم له بملكه ولو فسخ العقد. ودين السلم، إن كان للتجارة ولم يكن أثماناً، وثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضها، ولو انفسخ العقد، جزم بذلك كله جماعة، لأن الطارئ لا يضعف ملكاً تاماً، كمال الابن معرض لرجوع أبيه وتملكه. وقال في الرعاية: إنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض، وعنه أو مميز لم يقبض، قال: وفيما صح تصرف ربه فيه قبل قبضه، أو ضمنه بتلفه، وفي ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما.
ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثماناً، والمبيع في مدة الخيار قبل القبض روايتان; قلت: فذكر في وجوب الزكاة(6/184)
ص -175- ... فيه روايتين، وقال في الإقناع: ومن له دين على مليء باذل من قرض، أو دين عروض تجارة، أو مبيع لم يقبضه بشرط الخيار أو لا، أو دين سلم إن كان للتجارة ولم يكن أثماناً، أو ثمن مبيع أو رأس مال سلم قبل قبض عوضهما ولو انفسخ العقد، أو صداق أو عوض خلع، أو أجرة، جرى في حول الزكاة بالعقد قبل القبض وإن لم تستوف المنفعة.
قلت: فتبين بهذا، أنه إذا جاء وقت الزكاة وجبت عليه زكاة رأس المال، لكن لا يجب إخراجها إلا إذا قبضه، فيزكيه لما مضى عندهم إذا كان على مليء باذل، وقيل يزكيه لسنة واحدة وهو المعمول به عندنا؛ وهذا إنما يكون إليه بفسخ أو كان مجلس العقد قبل القبض وفسد العقد، فقد صار ملكاً للمسلم إليه، فأما إذا قبض المسلم فيه، فهو على ثلاثة أقسام: إما أن يكون للتجارة فالحكم فيه ما ذكرنا، إن كان على مليء باذل وحال عليه الحول، وجبت فيه الزكاة إذا قبضه لما مضى. وان كان أثماناً فلا يعتبر كونها للتجارة، بل يزكيها بشرطه إذا قبضها. وإن كان بغير التجارة كالذي يسلم فيه لطعامه وطعام أهله، فلا زكاة فيه، والله أعلم.
[ مات وله مال في ذمة مفلس أو مماطل ]
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن مات وله مال في ذمة مفلس أو مماطل... إلخ؟
فأجاب: الذي مات وغالب ماله إما في ذمة صاحب عقار معسر، أو مماطل، فإذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون،(6/185)
ص -176- ... من وجوب الزكاة في الدين الذي على غير المليء، كعلى المليء لصحة الحوالة عليه، والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل: فإن كان قد مضى على الدين المذكور حول فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصاباً؛ قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة، أخذت من تركته، نص عليه، لقوله عليه السلام: " فدين الله أحق بالقضاء " 1. وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولاً من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث، ثم إن كان قد مضى من مدته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصاباً، زكاه صاحبه كذلك. وإن لم يحل عليه الحول، أو حال ولم يبلغ نصاباً، فإنه لا زكاة فيه؛ هذا على المقطوع به من الروايات عند المتأخرين عن أحمد في المسألة. وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقاً، صححها في التلخيص، ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب، والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابنه، لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى. وعنه رواية ثالثة: إن ما يؤمل رجوعه كالدين على الغائب المنقطع خبره، والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه، كالمسروق والمغصوب، فلا زكاة فيه؛ قال أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1953), ومسلم: الصيام (1148), وأبو داود: الأيمان والنذور (3307, 3310) , وأحمد (1/224, 1/227, 1/258, 1/362).(6/186)
ص -177- ... العباس: وهذا أقرب إن شاء الله تعالى، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الدين الذي في ذمم الناس، فلا يجب الإخراج عنه حتى يقبضه صاحبه، فإذا قبض شيئاً أخرج زكاته؛ وأما إخراجها إذا حال الحول قبل قبضه فهو أفضل، لكن لا يجب إخراج الزكاة قبل قبضه.
[ حكم زكاة الصداق ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الصداق في ذمة الزوج... إلخ؟
فأجاب: لا زكاة فيه قبل القبض، واختلف الفقهاء في زكاته بعد قبضه، هل يزكى لما مضى من السنين؟ أم يزكى لسنة واحدة، أم لا زكاة فيه؟
وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إن كان الإبراء صحيحاً فزكاة الصداق عليها، وإن كان الشقاق منه وهي تود الاستقامة معه، فإذا استوفت منه تزكيه، وكذلك الغريم.
[ عليه دين ينقص النصاب وحال عليه الحول ]
سئل الشيخ محمد بن عبدالوهاب: عمن عليه دين ينقص النصاب، وحال عليه الحول قبل أن يقضيه؟
فأجاب: التجارة إن كان صاحبها أوفى قبل الحول فلا زكاة عليه، وإن كان ما أوفى فعليه الزكاة ولو كان مديوناً.
[ هل يمنع الدين وجوب الزكاة ]
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يمنع الدين وجوب الزكاة؟(6/187)
ص -178- ... فأجاب: الدين لا يمنع وجوب الزكاة عندنا، لا في الأموال الظاهرة ولا الباطنة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما من عليه دين وله مال، فإن أوفى الدين من المال قبل مضي الحول، ونقص المال عن النصاب، فليس عليه زكاة، وإن تم الحول ولم يوف الدين، فإنه لا يزكي إلا إذا تمت فيه شروط وجوب الزكاة، ولو كان عليه دين؛ هذا هو المفتى به عندنا.
وسئل: هل الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة؟
فأجاب: المسألة فيها ثلاث روايات عن أحمد، ليس كما ذكر صاحب الشرح، حيث ذكر أن الدين يمنع وجوب الزكاة رواية واحدة. والروايات الثلاث حكاها في الفروع والإنصاف: الأولى - وهي المذهب -: أن الدين يمنع وجوب الزكاة. والثانية: لا يمنع مطلقاً، كما هو مذهب الشافعي. والثالثة: الفرق بين الحالّ وغيره: فالحال يمنع وجوب الزكاة، بخلاف المؤجل; واختار هذه الرواية بعض الأصحاب، وهي ظاهر أثر عثمان، لأنه قال: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضه ثم ليزك ما بقي "، وهذه الرواية هي التي عليها ظاهر الفتوى.
سئل بعضهم: عن ربح التجارة إذا نتج في الحول... إلخ؟(6/188)
ص -179- ... فأجاب: ربح التجارة إذا نتج في الحول، وجبت الزكاة فيه مع رأس ماله الأصلي.
[ هل ينكل من أخر أداء الزكاة ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أخر أداء الزكاة، هل تؤخذ من كل ثمرة؟ وهل عليه نكال أو لا؟
فأجاب: أما الناس الذين أسلموا العام في رجب، ولا جاءهم من يأخذ الزكاة، فالزكاة تؤخذ من كل ثمرة حصلوها، ولا عليهم نكال، لأجل أنهم ما منعوا الزكاة، ولا جاءهم من يأخذها.
فصل
[ فيما إذا رعت الماشية أكثر السنة ]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الذي عنده خمس سوان ما هن للبيع، إن رعت أكثر من نصف السنة ففيها شاة، والذي عنده ناقتان أو أكثر أو أقل، وهو فلاح وله تجارة، وهن للبيع، يحسبن مع تجارته.
وسئل: عمن له ثلاثون ريإلا وإبل وغنم... إلخ؟
فأجاب: الذي له ثلاثون ريالاً وله مع البدو إبل وغنم، ولا ينصب كل واحد منها، فإن كانت للتجارة قومت بعد الحول، وأضيفت إلى الثلاثين الريال، وزكى الجميع ربع العشر، وإن كانت الإبل والغنم ليست للتجارة، زكيت زكاة خلطة إن كان معها تمام النصاب بعد الحول.(6/189)
ص -180- ... وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا كان لرجل بعيران مثلاً، ليس له غيرهما، ورعيا أكثر من نصف السنة خلطة مع غيرهما، ففيها خلاف بين العلماء، والأحوط أنه يزكيها زكاة خلطة. وأما الحوض والمراح والمرعى والحول، فبعض العلماء يشترط ذلك، وبعضهم لا يشترط، ولا أستحضر دليلاً على ذلك.
وأجاب الشيخ حسن بن الشيخ محمد: الذي نفتي به: الراعي والحوض، وأما الحول فإذا وجدهم العامل خليطين فهو يأخذ.
[ زكاة الخلطة ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: من أي المالين تؤخذ الزكاة في الخلطة؟
فأجاب: أما زكاة الغنم الخلطة، فالعامل يأخذ من أي المالين شاء، ويرجع المأخوذ منه على خليطه بقدر زكاة ماله، لقوله عليه السلام: " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " 1. وسواء كان لكل منهما نصاب، أو كان لأحدهما نصاب دون الآخر، أو كانا لا يبلغان النصاب إلا باجتماعهما، ومتى اختلطا حولا بالشروط المذكورة في كتب الفقه، وبلغت غنمهما نصاباً، فالخلطة تصير المالين كالمال الواحد، ويأخذ العامل الزكاة من مال أحدهما، ويرجع على خليطه بقدره. وأما الخلطة في غير السائمة، كالدراهم والحرث، فالذي يترجح من أقوال العلماء: أنه لا يجب فيه زكاة حتى يبلغ نصيب كل واحد من الشركاء نصاباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1451).(6/190)
ص -181- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الذين لهم غنم، ويفرقونها فراراً من الزكاة، فلا تسقط الزكاة عنهم، بل يجب عليهم زكاة جميع مالهم، ولا ينفعهم فرارهم من الزكاة. فإن كان لهم مال متفرق من غير قصد الفرار، وأن الذي هو معه يزكيه مع ماله، فلا بأس.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر: هل الخلطة تؤثر في الأثمان... إلخ؟
فأجاب: اختلف العلماء في ذلك: فقال بعضهم، لا تؤثر الخلطة في غير السائمة، وهو قول الجمهور، وقال بعضهم: تؤثر في غير السائمة أيضاً.
... فصل في زكاة الحبوب والثمار(6/191)
ص -182- ... فصل في زكاة الحبوب والثمار
سئل بعضهم: عن البن، هل هو من الحبوب وتجب فيه الزكاة؟
فأجاب: أما البن، فقد تقدم أنه من الحبوب، وحكمه حكمها لأنه مكيل ومدخر.
وسئل: عن السمن؟
فأجاب: أما السمن فليس فيه زكاة، لأن الأغنام تزكى، وهو من نتاج الغنم والبقر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن نصاب الحب والتمر؟
فأجاب: أما نصاب الحب والتمر، فهو قدر خمسة أوسق، فيصير فيه نصف العشر.
وأجاب أيضاً: نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما تقديره بصاعنا فهو معروف عند عمال الزكاة، وصاعنا يزيد على الصاع القديم.(6/192)
ص -183- ... والمشهور عند الحنابلة أن النصاب فيها تحديد، فلو نقص يسيراً ولو نحو نصف صاع سقطت الزكاة. وعن أحمد رواية ثانية: أن النصاب فيها تقريب، فلا يؤثر النقص اليسير، قال في الإنصاف: وهو الصواب.
وسئل عن نصاب الحب والزبيب؟
فأجاب: نصاب الحب والزبيب، قيمة ثلاثمائة تنقص عشرين صاعاً، بصاع الوادي 1.
وأجاب أيضاً: وأما العنب فما أكله أهله منه رطباً فلا زكاة فيه، ويخرص عليه الباقي بعد أكله؛ فإذا بلغ خمسة أوسق وجبت فيه الزكاة، وأهل العلم ذكروا اعتبار النصاب بعد التصفية، فإذا صار مصفى صالحاً للأكل، فمتى بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة.
وأجاب أيضاً: إذا كان المغل مبلغه نصاب، وفيه مقيظ صاحبه، ثم نقص عن النصاب، فلا زكاة فيه، وأما إذا كان المغل نصاباً وفيه صبرة، أو مشترك، فعادتنا نأخذ الزكاة على كلام من أوجبه.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن "الوسمة" إذا كانت في ملك إنسان وبيعت بثمن، هل تجب فيها الزكاة في الحال، وعن ثمر السدر إذا كان منها نصاب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وادي الدواسر, وهو ضعف صاع العارض.(6/193)
ص -184- ... فأجاب: اعلم أن زكاة الخارج من الأرض ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وأجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب؛ حكاه ابن المنذر وابن عبد البر. وتجب الزكاة فيما اجتمع فيه الكيل والادخار من الثمر والحبوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 1، متفق عليه. وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان قوتاً في حال الاختيار. انتهى ملخصاً من الشرح.
وقال في الكافي: ولا تجب الزكاة في الخارج من الأرض إلا بخمسة شروط: أن يكون حباً أو ثمراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق " 2، رواه مسلم. الثاني: أن يكون مكيلاً، لتقديره بالأوسق. الثالث: أن يكون مما يدخر لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر، فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة، المقتاتة منها، والقطاني، والبزور، وفي التمر والزبيب واللوز، والفستق، والعناب. ولا زكاة في تبن ولا ورق ولا زهر، لأنه ليس بحب، ولا ثمر ولا مكيل. الرابع: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه؛ والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح، ولم يكن ملك حينئذ فلم تجب زكاته. الخامس: أن يبلغ نصاباً خمسة أوسق لقوله: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 3. انتهى ملخصاً.
وقال في الإقناع: تجب في كل مكيل مدخر من قوت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1447), ومسلم: الزكاة (979), والترمذي: الزكاة (626), والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487), وأبو داود: الزكاة (1558, 1559), وابن ماجة: الزكاة (1793), وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97), ومالك: الزكاة (575, 576), والدارمي: الزكاة (1633).(6/194)
2 البخاري: الزكاة (1459), ومسلم: الزكاة (979), والنسائي: الزكاة (2475, 2483، 2484, 2485), وأحمد (3/86), والدارمي: الزكاة (1634).
3 البخاري: الزكاة (1447), ومسلم: الزكاة (979), والترمذي: الزكاة (626), والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487), وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793), وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97), ومالك: الزكاة (575, 576), والدارمي: الزكاة (1633).(6/195)
ص -185- ... فتجب في كل الحبوب، وتجب في كل ثمر يكال ويدخر، كالتمر والزبيب، لا في عناب وقطن وزعفران وورس، ونيل وفوة وغبيراء 1 وحناء. ولا تجب في الخوخ والسفرجل والرمان والنبق. انتهى ملخصاً.
فإذا تأملت كلام هؤلاء العلماء، وما احتوى عليه من الأدلة، وجدت شجر الوسمة، وهي: نبت يخضب بورقه، ويقال هو العضلم، قاله في المجمع، وفي القاموس: الوسمة: ورق النيل، أو نبات يخضب بورقه. انتهى. وجدت أنه لا زكاة فيه، لأنه غير مكيل ولا حب مدخر، ولا قوت آدمي للادخار، وإنما تجب الزكاة في ثمنه إذا بيع بشرطه.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: ونعرفك بأنه ذكر لنا: أن بعض نوابكم في الزكاة أو كلهم، يأخذون الزكاة من الحبوب والثمار التي ما بلغت النصاب، ويقال ل:ي إن هذا أمر من دونك، وهو الظن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 2، وخمسة الأوسق: ثلاثمائة صاع; هذا مما لا خلاف فيه بين أئمة الإسلام، ونقلة الشرع، ولا يسع أحداً أن يتجاوز ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } [سورة الأحزاب آية: 36]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي: حشيشة الصباغين.
2 البخاري: الزكاة (1447), ومسلم: الزكاة (979), والترمذي: الزكاة (626), والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487), وأبو داود: الزكاة (1558, 1559), وابن ماجة: الزكاة (1793), وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97), ومالك: الزكاة (575, 576), والدارمي: الزكاة (1633).(6/196)
ص -186- ... وقال جل ذكره: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [سورة النور آية: 63]؛ قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك؛ أجارنا الله وإياكم من أسباب الهلاك.
وقد نبهت الإمام على مثل هذا، وقال: أبرأ إلى الله، لا آمر به، ولا أرضاه; اذكروا لي من هو واقع منه; وأحببنا تنبيهكم، لأني أظن أنه يكفي في مثل هذا الأمر الظاهر في حكم الله ورسوله.
سئل بعضهم: هل تجب الزكاة في زرع الميت ونخله بعد ملك ورثته؟ وإذا زاد على الخرص هل تجب في الزائد؟
فأجاب: أما خرص زرع الميت بعد ملك ورثته، فبلى، لأن الثمار والحبوب تزكى، سواء كان صاحبها حياً أو ميتاً، إذا بلغت نصاباً. وإذا زاد نخل الرجل أو زرعه على الخرص، وجبت عليه زكاة الزائد.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل تضم ثمرة العام الواحد... إلخ؟
فأجاب: زرع العام الواحد يضاف بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، وتؤخذ من زرع القيظ زكاته إذا أضيف لزرع الربيع.
وأجاب أيضاً: وأما الحبوب، فالذي عليه العمل: أنه(6/197)
ص -187- ... يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، ولو اختلف الجنس، إذا كان ذلك في عام واحد.
وأجاب أيضاً: إذا كانت من جنس واحد، فإنه يضم بعضها إلى بعض بلا إشكال. فإن كانت من جنسين فاختلف الفقهاء في ضم بعضها إلى بعض، والذي عليه الفتوى اليوم، أنه يضم بعضها إلى بعض: فتضم الحنطة إلى الشعير، وتضم الذرة إلى الدخن; وأما معنى الضم فالمراد به إذا كانت الثمرة لا تبلغ نصاباً، ثم جاءت الثمرة الثانية، فإنها تضاف إلى الأولى، فإذا بلغ نصاباً أخرج زكاته.
وأجاب أيضاً: ضم ثمرة العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، المراد به عند بعضهم: أن يزرع زرعين في عام واحد، ولو كان ذلك دون السنة الهلالية، بأن يحصل ذلك في نحو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو دون ذلك، ولا ينظر إلى كون الزرع الأول في آخر السنة الأولى، والزرع الثاني في أول السنة الثانية، لأن ذلك حساب عام واحد. واحترازهم بقولهم: ثمرة العام الواحد، إشارة إلى كون إنسان يزرع زرعاً في سنة، ثم يزرع في السنة التي بعدها، بعد مضي اثني عشر شهراً، فهذا لا يضم ثمرة هذا إلى هذا؛ فإذا كمل النصاب عنده بضم ثمرة إلى ثمرة في عام واحد، وجبت عليه الزكاة؛ هذا هو المفتى به عندنا.
وأجاب أيضاً: ظاهر كلام الحنابلة، أن العام هو السنة(6/198)
ص -188- ... الواحدة، فيضم الشتاء إلى الصيف، والصيف إلى الشتاء; قال في المنتهى وشرحه: وتضم أنواع الجنس الواحد من زرع العام الواحد، بعضها إلى بعض في تكميل النصاب: فيضم العلس إلى الحنطة لأنه نوع منها، والسلت إلى الشعير لأنه نوع منه؛ جزم به جماعة، منهم الموفق والمجد؛ قال في الفروع: لأنه أشبه الحبوب في صورته، لا جنس آخر على الأصح، كالثمار والمواشي، فيعتبر النصاب في كل جنس منفرداً. وتضم أيضاً ثمرته، أي: ثمرة العام الواحد، إذا كانت من جنس واحد، ولو كانت الثمرة مما - أي من شجر - يحمل في السنة حملين في الأصح، بعضها إلى بعض، لأنها ثمرة عام واحد، فضموا بعضها إلى بعض كزرع العام الواحد، وكالذرة التي تنبت مرتين. وأما قدر العام، فلم نقف فيه للحنابلة على حد.
وقال في شرح المنهاج للأذرعي من الشافعية: وزرعا العام يضمان، والأظهر اعتبار وقوع حصاديهما في سنة، فما كان منه في وقت واحد يضم بعضه إلى بعض قطعاً، ولا أثر لامتداد وقت الزراعة؛ وقد يمتد شهراً وشهرين وأكثر، وهو زرع واحد. وأما ما يزرع في السنة مرتين أو أكثر، كالذرة، فإنها تزرع في الخريف، وفي الربيع، والصيف، فيضم بعضها إلى بعض.
وفي المعتبر في ذلك عشرة أقوال، أكثرها منصوص؛ أظهرها ما ذكره، لأن الحصاد وقت استقرار الوجوب، فكان(6/199)
ص -189- ... اعتباره أولى. والثاني: اعتبار زرعهما في سنة. والثالث: اعتبار الزرعين والحصادين أقل من اثني عشر شهراً عربية. الرابع: إن وقع الزرعان والحصادان، أو حصد الأول وزرع الثاني في سنة، وإلا فلا. والخامس: يعتبر أن الزرعين والحصادين في سنة، وهذا ما جعله الرافعي عبارة عن القول الرابع، لا قولاً غيره. والسادس: الحصادان في فصل. والسابع: الزرعان في فصل. والثامن: الزرعان والحصادان في فصل، أن يكون حصادهما في فصل وزرعهما في فصل; قالوا والمراد بالفصل: أربعة أشهر. والتاسع: إن زرع بعد حصد الأول لا يضم، كحمل الشجرة. والعاشر - خرجه أبو إسحاق -: أن ما يعد سنة واحد يضم، ولا أثر لاختلاف الزرعين والحصادين، وهو حسن; قال في الشامل: إنه أشبه الأقوال; وقال البندنيجي: إنه المذهب; وعلى هذا فالمراد بالسنة سنة الزرع، وهي من خمسة أشهر إلى ثمانية، وقال البندنيجي: أكثرها ستة أشهر.
وأجاب بعضهم: وأما زكاة الثمار فلا تجب إلا على من كملت عنده في الحول خمسة أوسق، لأن ثمرة العام يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ضم ثمرة العام الواحد وزرعه بعضه إلى بعض لتكميل النصاب: فأما الثمار، فلا يضم جنس منها إلى آخر،(6/200)
ص -190- ... كالتمر إلى الزبيب بإجماع العلماء، وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض. وأما الزرع، فالمشهور من مذهب أحمد أنه لا يضم جنس منه إلى آخر؛ وهو مذهب الشافعي، وهو قول الحنفية. وعن أحمد رواية أخرى: بضم الحنطة إلى الشعير، والقطاني بعضها إلى بعض؛ واختار هذه الرواية الخرقي، وأبو بكر، وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية ثالثة: تضم الحبوب بعضها إلى بعض مطلقاً، والله أعلم. والقطاني: اسم لحبوب كثيرة، منها: الحمص والعدس واللوبيا، والدخن والأرز والباقلا.
وأجاب أيضاً: وأما ضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب فالحكم كذلك عند العلماء، واستدلوا على ذلك بعموم الأحاديث، كقوله: " فيما سقت السماء العشر " 1، وقوله: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 2، قالوا: وهذا يعم ما إذا كان في فصل أو فصلين من السنة. واختلفوا: هل يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب، كضم الحنطة أو الشعير إلى الذرة أو الدخن؛ فيه عن أحمد روايتان.
وأجاب أيضاً: إذا كان عند إنسان نصاب في الشتاء، وبعض نصاب في القيظ 3، أخرج زكاة نصاب الشتاء، ولم يجب عليه شيء في زرع القيظ إذا لم يبلغ نصاباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1483), والترمذي: الزكاة (640), والنسائي: الزكاة (2488), وأبو داود: الزكاة (1596), وابن ماجة: الزكاة (1817).
2 البخاري: الزكاة (1447), ومسلم: الزكاة (979), والترمذي: الزكاة (626), والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487), وأبو داود: الزكاة (1558, 1559), وابن ماجة: الزكاة (1793), وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97), ومالك: الزكاة (575, 576), والدارمي: الزكاة (1633).
3 زرع الشتاء: الحنطة والشعير، وزرع الصيف: الدخن والذرة.(6/201)
ص -191- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن تأثير الخلطة؟
فأجاب: هذه المسألة مبنية على مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض، فإن قلنا: تضم، فمتى كمل النصاب أخرج زكاته. وأما ديوان الأرض الذي يأخذه المالك، فينبني وجوب الزكاة فيه، على القول بتأثير الخلطة في غير السائمة; والذي عليه الجمهور: أنها لا تؤثر في غير السائمة. وعن أحمد رواية ثانية: أنها تؤثر في الحبوب والثمار؛ وهو قول إسحاق، واختارها الآجري وابن عقيل؛ فعلى هذا تؤخذ الزكاة.
وأما على قول من قال: إن الخلطة لا تؤثر في الثمار، فيخرج صاحب الزرع أجرة الأرض ثم يزكي الباقي إن بلغ نصاباً، لكن الأحوط في هذا إخراج الزكاة ولو نقص النصاب بإخراج الديوان، وذلك لأن الديوان أجرة في ذمة المستأجر وليس صاحب الأرض شريكاً له في الزرع، وأن الذي له أجرة معلومة في ذمة المستأجر؛ والفقهاء يمثلون الخلطة في الثمار نحو اشتراكهما في الزرع، ونحو اشتراط المالك جزءاً معلوماً من الثمرة نحو ربع الثمرة أو خمسها.
وأما مسألة إجارة الأرض بآصع معلومة، فهي بعيدة من مسألة الخلطة في مثل هذا؛ فإن صاحب الزرع إذا كمل عنده النصاب أخرج زكاته، ثم دفع ديوان الأرض إلى مالكها، ولا ينقص شيئاً من الزكاة.(6/202)
ص -192- ... وأجاب أيضاً: وأما أخذ صاحب الأرض ديوانه، قبل إخراج الزكاة أو بعده، فهذا ينبني على تأثير الخلطة في الزرع: فإن قلنا: تؤثر، أخرجت من رأس المال، ويكون على صاحب الأرض من الزكاة قدر ما يحصل له من الديوان. وأما إن قلنا: لا تؤثر الخلطة في الزرع، فلا زكاة على صاحب الديوان إلا أن تبلغ حصته نصاباً.
وسئل أيضاً: عن الشركاء في الزرع، لا يتم ما بينهم نصاب، ولكل واحد شيء يخصه؟
فأجاب: إذا حصل لكل واحد قيمة نصاب، أخذت منه الزكاة، وإلا فلا.
وسئل: عن صاحب الأرض، هل يؤخذ من نصيبه زكاة؟
فأجاب: إن كان بسهم فعليه حصته من الزكاة، وإن كان بديوان دفع إليه الشيء المشروط.
وأجاب في موضع آخر: الخلطة تؤثر في الماشية بالحديث الصحيح، وأما غير الماشية فالذي عليه أكثر أهل العلم أن الخلطة لا تأثير لها في الحبوب. وإذا كان بين اثنين زرع قدر مائتي صاع، لكل واحد مائة، وله قدر خمسين أو أزيد من زرع آخر مختص به عن شريكه، فهذا لا زكاة فيه على القولين جميعاً، لأنا إن قلنا: إن الخلطة لا تأثير لها في(6/203)
ص -193- ... غير الماشية فواضح، وإن قلنا تؤثر فهما لم يشتركا في نصاب، لأن المشترك لم يبلغ نصاباً فلا زكاة فيه.
فإذا اقتسما وأضاف كل واحد منهما نصيبه إلى ما حصل له من الزرع الآخر الذي اختص به عن شريكه، نظرنا: فإن بلغ نصاباً زكاه، وإلا فلا.
وأجاب أيضاً: وأما الناس المشتركون في النخل، وكلٌ عارفٌ حقه منه، وكل يسقي حقه وحده، فيحسب كل نصيب رجل وحده، فإن بلغ النصاب أخذت منه الزكاة، وإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة عليه.
وأجاب أيضاً: وأما النخل المتميز بين الشركاء، ولا شركة بينهما إلا أن الماء واحد، فالذي نفهم أن شركة الماء لا تؤثر، بل كل ملكه يخرص على حدة.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: أما تأثير الخلطة في غير الماشية في باب الزكاة، فالخلاف في ذلك مشهور بين القائلين بتأثير الخلطة في الماشية؛ والمشهور في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك: عدم تأثير الخلطة في الجملة. وعن أحمد رواية بتأثير خلطة الأعيان في غير السائمة، وهو مذهب الشافعي. وعلى هذا، فهل تؤثر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب، ودليل كل من القولين مذكور في محله، وإن كانت حجة القول الأول أظهر، والقول(6/204)
ص -194- ... به أكثر. وأما إذا زرع إنسان لغيره بجزء من الزرع، فلا يلزم العامل إلا زكاة حصته خاصة، لكن إن شرط الزكاة على العامل فهل يصح أو لا؟
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عما سقي بِمؤونةٍ بعضَ الوقت، وبعضه بغيرها؟
فأجاب: الأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف العشر " 1، رواه البخاري. وأما إذا سقي النصف بكلفة، والنصف بغير كلفة، فذكر الفقهاء فيه ثلاثة أرباع العشر؛ قالوا: وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً. وأنت فاهم أن الإجماع حجة. وذكروا أيضاً: أنه إذا جهل أي الكلفة أو غير الكلفة أكثر، أنه يجب العشر احتياطاً، نص عليه.
وأجاب أيضاً: الذي ثمرته على السقي وعلى السيل، يسأل أهل المعرفة، فإن كان نفع السيل أكثر فعليه العشر تاماً، وإن كان السقي أكثر نفعاً فعليه نصف العشر، وإن استويا فثلاثة أرباع العشر.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وزكاة الذي يسقى بالسواني نصف العشر، والذي يسقى بالعيون أو السيل ففيه العشر تاماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1483), والترمذي: الزكاة (640), والنسائي: الزكاة (2488), وأبو داود: الزكاة (1596), وابن ماجة: الزكاة (1817).(6/205)
ص -195- ... وسئل: متى تجب؟
فأجاب: المشهور عند أهل العلم أن الزكاة تجب إذا اشتد الحب، ولا يستقر الوجوب إلا إذا جعل في البيدر؛ فإن تلف بعضه سقطت الزكاة فيما تلف وزكى الباقي، ولا أعلم أحداً من العلماء قال بوجوبها فيما تلف قبل الحصاد؛ بل الذي عليه أكثر العلماء أو كلهم، بل أظنه إجماعا: أن الزرع إذا هلك بآفة سماوية قبل حصاده، والثمرة إذا هلكت قبل الجذاذ، فالزكاة تسقط فيما تلف. وأما إذا جذّت الثمرة ووضعت في الجرين، أو حصد الزرع وجعل في البيدر، ثم أصابته آفة سماوية كالريح، والنار التي تأكله قبل التمكن من إخراج الزكاة، فهذه المسألة هي محل الخلاف: فبعضهم يقول بوجوب الزكاة، وبعضهم يقول بسقوطها، ويقول شرط الوجوب التمكن من الإخراج وهو لم يحصل.
وسئل: عمن يدفع زكاة البر سنبلاً؟
فأجاب: ظاهر كلامهم عدم الجواز، لأنهم نصوا على أنه لا يخرج الحب إلا مصفى، ولا التمر إلا جافاً.
وسئل: عمن اشترى عيشاً وزكى به؟
فأجاب: أما شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره فلا علمت فيه خلافاً، والذي فيه المنع: إذا شراها من الفقير بعدما يدفعها إليه; وأما كونه يخرج عيشه للديانين، ويشتري مثله ويعطيه أهل الزكاة، فلا أرى به بأساً.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: وأما الذي يتسلف(6/206)
ص -196- ... عيشاً ويخرجه عن زكاته، فلا بأس بذلك، فإنه يملكه بالقرض، وإذا ثبت ملكه له جاز تصرفه فيه بأي وجه كان. ولعل الذي أشكل عليك أنه لا يجوز إخراج الزكاة إلا من الذي وجبت فيه، وهذا ليس بلازم؛ فإنها تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة، فتكون كالدين، فحينئذ سواء أخرجها من الذي وجبت فيه أو من غيره، فكل هذا جائز.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إنكار الخرص؟
فأجاب: الخارص عليه الاجتهاد والتحري، والخرص فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يبعث عماله إلى الثمار يخرصونها عند استوائها، وقد قال الله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [سورة الأحزاب آية: 21].
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عما يدعه الخارص... إلخ؟
فأجاب: وأما ترك الخارص الثلث أو الربع، فأرجح الأقوال عندي، قول أكثر أهل العلم: أنه غير مقدر، بل يترك له قدر ما يأكله ويخرجه رطباً باجتهاد الخارص؛ وعلى هذا وردت الأدلة ويصدق بعضها بعضاً.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يؤمر الخارص أن يدع الثلث أو الربع لأهل النخيل يأكلونه ويهدون منه ويتصدقون، وبعض أهل العلم يقول: يدع لأهل النخيل قدر حاجتهم، كل(6/207)
ص -197- ... إنسان على قدر حاجته; فما كان يحتاجه للأكل قبل الجذاذ ويهديه لأقاربه ونحوهم، أو يتصدق به فلا زكاة فيه، وما عدا ذلك ففيه الزكاة؛ فتبين لك أنما أخرجه بلا عوض يعود إليه فلا زكاة فيه، وما باعه وأهداه هدية يطلب عوضها ففيه الزكاة.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الترك في الخرص، هل هو خاص بالنخل دون الزرع؟
فأجاب: الذي يترك في الخرص: الثمر، لأجل أن أهله يتسعون في القيظ، وتأخر الثمرة عن النجاح، والزرع بخلاف ذلك؛ ولو قدر أن أهله يحتاجون للأكل قبل الحصاد، فالذي نرى أنه يترك لهم ما يأكلونه كالثمر.
وسئل: هل يترك الخارص قدر ما يخرج الإنسان من أكله وأهل بيته، ويعم الهدية والتقسيم على المساكين، وكذا الحمير، والأجير، ونحو ذلك؟ وهل التحديد بالربع أو الثلث؟ أم على كلام الآمدي، وابن عقيل: يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف؟
فأجاب: الذي نرى أن مثل الحمير لا تدخل، والسبب أن أهل العلم يذكرون حاجته، وكذا الذي ينفق شيئاً هدايا ونحوه فلا يحسب، والأجير تبع لأهل البيت. وقولك: هل يزكي ثمنه إذا باعه؟ فليس الأمر كذلك، بل يزكي نفس الثمرة التي باعها.(6/208)
ص -198- ... وأجاب أيضاً: كل ما يأكله صاحب النخل من المقيظ هو وعياله، وما يهديه لقريب، وما يتصدق به على فقير، فكل هذا لا زكاة فيه، ويؤمر الخارص بترك ذلك فلا يخرصه على أهل النخيل، ويخرص الباقي.
وأجاب بعضهم: وأما النخلة التي يتصدق بها صاحبها، فالذي أشرفنا عليه من كلام أهل العلم، أن عامل الصدقة إن كان يخرص على أهل الثمرة مع أول الثمرة حين يطيب أكلها، أنه يترك من الثمرة قيمة ما يأكلون ويتصدقون به، كالربع أو الثلث أو دون ذلك، على اختلاف العلماء، والباقي يزكى. وإن كان الخارص ما يخرص إلا قريب الجذاذ، فالظاهر أنه يخرص ما وجده، لأن النفقة والأكل قد مضيا، وأما ما يباع أو يعطى أجرة، فهذا يخرص مع النخل.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا ترك الساعي في الخرص لرب المال شيئاً من كمال النصاب، كما إذا كان عنده خمسة أوسق فترك منها وسقاً، فقد ذكروا: إن كان رب المال أكل هذا الوسق المتروك، فلا يجب عليه شيء في الأربعة الأوسق الباقية، وإن لم يأكل هذا الوسق المتروك، زكى الأربعة الأوسق فقط.
وأجاب بعضهم: ثمر النخلات التي تعطى الفقراء لا زكاة فيها، ولا فيما أكل صاحب الثمرة.(6/209)
ص -199- ... [ زكاة العسل ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن زكاة العسل... إلخ؟
فأجاب: وأما العسل فيؤخذ منه العشر زكاة، ويعرف هذا بالكيل والوزن.
وأجاب بعضهم: وأما العسل، فمذهب أحمد وغيره من العلماء: أن فيه العشر: إذا بلغ قدر عشر قرب، أخرج منه عشره.
[ زكاة الخضراوات ]
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن الخضراوات، هل تجب فيها الزكاة؟
فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء أنها لا تجب فيها الزكاة; وقال أبو حنيفة: تجب فيها الزكاة. والصحيح: القول الأول، وعليه يدل عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وعمل خلفائه الراشدين بعد وفاته، لمن تدبر ذلك، وعلم سيرة القوم.
إغلاق الباب وقت الحصاد
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن إغلاق الباب وقت الحصاد؟
فأجاب: وأما إغلاق الباب وقت الحصاد، فلا أتجرأ على الجزم بتحريمه، ولكن أظنه لا يجوز لما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، من ذلك ما ذكر الله في سورة "ن" عن أصحاب الجنة :{ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا(6/210)
ص -200- ... مُصْبِحِينَ } [سورة القلم آية: 17]؛ وهم لم يغلقوا الباب، ولكن تحيلوا بالصرام وقتاً لا يأتي فيه المساكين.
وأجاب بعضهم: وأما قوله:{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [سورة الأنعام آية: 141]، قال ابن جرير: قال بعضهم في الزكاة المفروضة، ثم رواه عن أنس بن مالك، وكذا قال ابن المسيب، وقال العوفي عن ابن عباس: " وذلك أن الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج منه شيئاً، فقال الله:{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } "، وقال الحسن: ?" هي الصدقة من الحب والثمار "، وقاله قتادة وغير واحد. وقال آخرون: هي شيء آخر سوى الزكاة، قال أشعث عن ابن سيرين ونافع عن ابن عمر في الآية: " كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة "; وعن عطاء: ?" يعطى من حضر يومئذ مما تيسر، وليست الزكاة ".
وقال ابن المبارك عن سالم عن سعيد بن جبير: ?":{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }، قال: هذا قبل الزكاة للمساكين، القبضة والضغث لعلف الدابة ". وفي حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً في الآية، قال: " ما سقط من السنبل ". وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه بالعشر ونصف العشر، حكاه ابن جرير عن ابن عباس، وابن الحنفية وإبراهيم وغيرهم، واختاره - يعني ابن جرير -.
وقد ذم الله الذين يصرمون ولا يتصدقون، كما ذكره في سورة "ن". انتهى; وأما الاستحباب فلا يخفى، وإنما اختلافهم في(6/211)
ص -201- ... البر، ثم الشعير، ثم الأقط، وقيل: أفضلها ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعاً.
ولا يخرج حباً معيباً كمسوس ومبلول، لقوله تعالى:{ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [سورة البقرة آية: 267]، ولأن السوس يأكل جوفه، والبلل ينفخه; ولا يخرج قديم تغير طعمه، ولا قيمته لأنها خلاف المنصوص، فإن خلط الجيد ما لا يجزي، فإن كثر لم يجزه، فإن قل زاد بقدر ما يكون المصفى صاعاً؛ فإن أحب تنقية الطعام كان أكمل، والله أعلم.
الوجوب، فلا ينبغي لمن أعطاه مولاه نعمة أن لا يؤدي حقها، والمال يعتريه حقوق كثيرة غير الزكاة.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف: من طلب من الثمرة عند الجذاذ، يعطى إذا كان فقيراً أو مسكيناً ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة، فيعطى بحسب الزكاة وقدرها، وكثرة المساكين.
كتب الشيخ حسين وإبراهيم، وعبد الله، وعلي: أبناء الشيخ محمد، وحمد بن معمر: إلى الأخ عبد العزيز، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإن الله تبارك وتعالى أوجب على جميع الخلق أداء الزكاة من أموالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين مراد الله من ذلك، وقدر النصاب في جميع الأموال، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة " 1.
وأجمع العلماء أن الزكاة تجب في وزن خمس أواق، ولا تجب فيما دونها. وحرر الفقهاء من جميع المذاهب أن زنة خمس الأواق مائة وأربعون مثقالاً، وحرر المثقال بأنه وزن اثنين وسبعين حبة من الشعير المتوسط، وحررناه فوجدناه كما ذكروا. وحررنا النصاب بالريالات، لأجل أنها أخلص ما يوجد من الفضة، والحكم على الخالص، فصار الريال ثمانية مثاقيل محررة. وسألنا الصاغة عن غش الريال، فحرروه لنا السدس، وأسقطنا من كل ريال سدساً، فصار النصاب من الفضة الخالصة: سبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/212)
1 البخاري: الزكاة (1405), ومسلم: الزكاة (979), والترمذي: الزكاة (626), والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487), وأبو داود: الزكاة (1558, 1559), وابن ماجة: الزكاة (1793), وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79 , 3/86, 3/97), ومالك: الزكاة (575, 576), والدارمي: الزكاة (1633).(6/213)
ص -202- ... عشرة ريالاً ونصف ريال، ومن المغشوشة إحدى وعشرون ريالاً.
وفي حياة الشيخ، عفا الله عنه، والريال ما هو بعبرة لنا حتى يحرره لنا، وعبرة الناس ذلك الوقت الزرور، والجديدة، وصرف الزر ذلك الوقت تسع جدد، أو قريب منها، وعشرون الزرور، ومائتا الجديدة متقاربان. وفي وقتنا هذا سقط صرف الحمر، وصار الريال هو الأغلب، وحررنا نصاب الذهب من الحمران: سبعة وعشرين زراً. وأما الجدد فلا فيها من الفضة إلا القليل، فتصير عرضاً من العروض، وتقوم بقيمتها من الريالات، وكذلك سائر العروض تقوم بالريالات، لأنه هو الأحوط في الزكاة. والذي عنده ذهب زرور أو غيرها، فنصابها ما ذكرناه لكم، يزكيها إذا بلغته. وأحببنا ننبهك لتنبه الناس عن شيء يخل عليهم، والزكاة فيما ذكرنا لك، ربع العشر، على الحالة التي تمشون عليها؛ ولكن المراد التنبيه على قدر النصاب الذي تجب الزكاة ببلوغه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن محمد أيضاً: وأما نصاب الذهب والفضة، فنصاب الفضة من الريالات: قدر واحد وعشرين ريالاً، هذا أول نصابها، وزكاتها: نصف ريال يزيد ربع عشر الريال، وما زاد على ذلك بحسابه. وأما نصاب الذهب، فالذي نعمل عليه عندنا أنها: قدر سبعة وعشرين زراً، من الحمران المعروفة عندنا، ومن المشاخص: قدر عشرين مشخصاً.(6/214)
ص -203- ... وأجاب في موضع آخر: ذكر أهل العلم أن نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، وحررناه بالوزن فصار: مقدار سبعة وعشرين زراً. وأما الفضة فنصابها: مائتا درهم، وحررناه فوجدناه: إحدى وعشرين ريالاً. وأمرنا من كان عنده من الذهب أو من الفضة هذا المقدار، وقد حال عليه الحول، أن يزكيه.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: تقدير نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، وحررناه: قريب سبعة وعشرين زراً، بزرور الناس العابرة بينهم اليوم، ونصاب الفضة: مائتا درهم، وحررناه: قريب إحدى وعشرين ريالاً من ريالات الناس التي يتعاملون بها اليوم، وهي من الجدد: قدر مائة جديدة تزيد قدر خمس جدد؛ فإذا صار عند المسلم من هذا ما ذكرناه، زكاه إذا حال عليه الحول.
وأجاب أيضاً: وأما نصاب الأريل، فالذي عليه الفتوى أنه: قدر واحد وعشرين ريالاً تقريباً، والله أعلم.
إخراج الجدد في الزكاة
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن إخراج الجدد في الزكاة، هل يجوز؟
فأجاب: هذه المسألة أنواع: أما إخراجها عن جدد مثلها، فقد صرحوا بجوازه، فقالوا إذا زادت القيمة بالغش، أخرج ربع العشر مما قيمته كقيمته. وأما إخراج المغشوش عن(6/215)
ص -204- ... الخالص، مع تساوي القيمة، فهذه هي التي ذكر بعض المتأخرين المنع منها، وبعضهم يجيز ذلك؛ وهو الصحيح، بدليل ما تقدم في إخراج القيمة 1 أنه يجزي، فإن إخراج المغشوش يجيزه من لا يجيز القيمة؛ بل قال الشيخ تقي الدين: نصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمان، من خالص ومغشوش، وصغير وكبير. وأما إخراج المغشوش عن الجيد مع نقصه، مثل الجنازرة التي تساوي ثماني لأجل الغش بالفضة عن جنازرة تساوي أكثر لقلة الغش، فهذا لا يجوز.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: الجدد عرض تقوم بالفضة.
وأجاب ابنه الشيخ سليمان: أما إلحاقها بالنقدين فلا يصح، لأنها ليست بنقد أصلاً، فكيف يلحق ما ليس نقداً بالنقد؟ ولا أظن أحداً يقول ذلك؟ والأولى عندي أن يقال: هي وما أشبهها ملحقة بالمغشوش، فينظر فيها: فإن بلغ ما فيها من الفضة نصاباً بنفسه، أو بالضم إلى فضة أخرى، أو نقول بضم الفضة إلى الذهب، كما هي رواية عن أحمد، وقول مالك وأبي حنيفة، فإنه يزكيها زكاة النقدين. وإن لم يبلغ ما فيها من الفضة نصاباً، ولو بالضم إلى فضة أخرى، أو كان عنده ذهب، ولم نقل بضم الفضة إلى الذهب، فإنه يزكيها زكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويأتي في فصل إخراج الزكاة صفحة: 232.(6/216)
ص -205- ... تجارة، كما قاله المجد في المغشوش إذا كان للتجارة أنه يزكيها زكاة تجارة، على أني لم أر أحدا من الأصحاب ذكر ذلك غيره، بل ذكروا أن المغشوش ليس فيه زكاة حتى يبلغ نصاباً مطلقاً؛ هذا ما ظهر لي على أني لم أجد فيها كلاماً لأحد. انتهى.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: اعلم أن المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة، كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا؛ وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططاً، إذ كيف يلحق ما ليس نقداً بالنقد؟ وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها خالص فضة، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد، باطل.
وأجاب سعيد بن حجي: لا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس في الحلي زكاة "، رواه الطبراني؛ وهو قول ابن عمر وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر وجماعة من التابعين. ويباح للنساء من الذهب كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر. وقال ابن حامد: إذا بلغ ألف مثقال حرم، وفيه الزكاة. ويجوز للمرأة التحلية بدراهم ودنانير معراة، أو في مرسلة في وجه، وعليها تسقط الزكاة. انتهى(6/217)
ص -206- ... من المبدع. وقال في الإقناع: ولا زكاة في حلي مباح، ويباح للنساء من ذهب وفضة ما جرت عادتهن بلبسه، كطوق وخلخال وسوار، ولو زاد على ألف مثقال، حتى دراهم ودنانير معراة وفي مرسلة. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي: قوله: هل تجب الزكاة في الحلي المباح؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وهو الأظهر، لأن " عائشة تحلي بنات أخيها يتامى في حجرها، فلا تخرج منها الزكاة "، رواه في الموطإ. وفي جواز التحلي بالدراهم والدنانير المثقوبة التي تجعل في القلادة، وجهان: أصحهما الجواز، قال الأسنائي: وحكاية الخلاف ممنوعة، بل يجوز لبس ذلك للنساء بلا كراهة، وصرح به في البحر. انتهى. فقد علمت أن المسألة المسؤول عنها، وهي: لبس المشاخصة مع الحلي، لا زكاة فيها تبعاً للحلي، أو مفردة بالشروط المتقدمة، لكن إن كان متخذ المشاخصة مع الحلي، مراده فراراً من الزكاة، ففيها الزكاة.
... فصل: في العروض(6/218)
ص -207- ... فصل: في العروض
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن العروض، ما الواجب في زكاتها؟
فأجاب: العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، لأن العروض تقوم بالأحظ للفقراء من عين أو ورق، كما نص عليه الفقهاء. والعروض اسم للسلع المعدة للتجارة، فكل شيء يشتريه الإنسان يريده للربح، فهو عرض تجارة من جميع أنواع المال.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن رجل له بعيران، وله تجارة، وهما للبيع... إلخ؟
فأجاب: الذي عنده ناقتان أو أكثر أو أقل وهو كَدّاد، وله تجارة وهن للبيع، يحسبن مع تجارته، والذي عنده عيش أو تمر للبيع، إذا حال عليه الحول يزكيه مع التجارة، وما فضل من قوت الرجل وهو ناويه للتجارة فيحسبه مع تجارته، إلا إن كان ناويه قوتاً وفضل شيء فلا زكاة فيه حتى ينويه للبيع ويحول عليه الحول.(6/219)
ص -208- ... وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: وأما الإبل التي يجعلها صاحبها عديلة مع البدوي، وقصده تناسلها عنده ولا له نظر في بيعها وتقليبها للتجارة، فهي تزكى زكاة سائمة لا زكاة تجارة، وكذلك الغنم. وأما إن كان قصد صاحبها التجارة، ويظهرها مع البدوي، فإذا سمنت باعها، فهذه تزكى زكاة تجارة. وأما العيش والتمر، فإن كان حصله صاحبه من حرثه، فلا فيه زكاة بعد ما يزكيه زكاة الحرث، ولو بلغ أحوالاً، ومتى باعه استقبل بثمنه حولاً.
وأما إن كان حصله من دين على الناس، مثل ما يفعله التجار، فهذا يزكي كل حول، ويقوم عند رأس الحول كغيره من عروض التجارة؛ وهذا معنى قول الفقهاء: ولا تكرر زكاة معشرات، ولو بلغت أحوالاً ما لم تكن للتجارة. وإذا كانت الذلول للتجارة، فهي عرض تقوم عند رأس الحول، وإن كانت لغير التجارة بل جعلها صاحبها للحرفة عليها، أو الجهاد، أو الحج، ونحو ذلك، فينظر في ذلك: فإن كانت لم ترع غالب الحول عند الوديع فلا زكاة فيها، وإن كانت قد رعت الحول كاملاً مع إبل الوديع وجبت فيها الزكاة زكاة خلطة. وأما العوامل التي قال أحمد: ليس فيها زكاة، فهي التي تركب، مثل زوامل البدو. والذي يخرج عن العروض دراهم تقوم بها، فإذا قومت بالدراهم أخرج زكاتها.
وسئل: عن ثمن أرض يتيم... إلخ؟
فأجاب: لا تجب(6/220)
ص -209- ... الزكاة في الأرض التي تباع إلا إذا حال على ثمنها الحول، فإن كانت بدراهم مؤجلة زكاها إذا قبضها.
وسئل: عن ثمن القطن؟
فأجاب: إذا كان للتجارة، فهو يحسب مع المال إذا كان له مال، وإلا فإذا حال الحول على ثمنه، أو عليه بعدما يحصله.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا حال عند رجل تمر أو عيش مزكى زكاة الحرث، فإن كان أراده للتجارة فهو يزكيه زكاة التجارة، يحسبه بقيمته وقت حلول زكاة التجارة، وإن كان أراده للأكل له ولبهائمه فليس عليه زكاة، ولو أقام عنده سنين؛ وإن نقص عن قيمة النصاب، ولم يكن عنده ما يضيفه إليه من الذهب والفضة أو العروض، فلا زكاة فيه؛ هذا هو الذي عليه الفتوى والعمل عندنا.
وسئل: عن امرأة باعت سلعة من حليها قاصدة أنها تشتري بثمنها سلعة غيرها، وجعلت تبيع وتشتري في ثمن السلعة، وحال الحول قبل أن تشتري، هل يجب عليها زكاة؟
فأجاب: نعم تجب الزكاة إذا حال على الثمن الحول وهو باق بحاله، سواء اتجرت فيه أم لا.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عما إذا خلف الميت عروضاً ساحلياً، وقهوة، أو شبهها، هل تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، قبل أن يتصرف فيها الوارث ببيع، أم لا؟(6/221)
ص -210- ... فأجاب: أما إذا خلف الميت عروضاً ساحلياً، وقهوة أو شبهها، فلا تجب فيها الزكاة، ولا تجري في حولها ما دامت عروضاً عند الوارث، فإن باعها الوارث بنقود مطلقاً، أو عروض، ناوياً بالمستبدلة التجارة، وجبت فيها الزكاة؛ وابتداء الحول من حين الاستبدال.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن تقويم العروض؟ فأجاب: العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، ولأن العروض تُقَّوم بالأحظ للفقراء من عين أو وَرِق، كما نص عليه الفقهاء.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما إخراج زكاة العروض من قيمتها لا من نفسها فهو المذهب، وهو مذهب مالك، ومشهور مذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة وصاحبيه: يجوز إخراج ربع عشر العرض، وهو قديم قولي الشافعي، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وعن أحمد رواية: يجوز إخراج القيمة في الزكاة، قال بعض الأصحاب: إن قلنا بهذه الرواية أجزنا إخراج زكاة العروض منه.
وأجاب أيضاً: لا شك أن الأفضل أن يخرج عين الذهب والفضة منها لا من غيرها، لكن إذا كان الشيء قليلاً والمستحق كثيراً، فأرجو أنه يجوز إخراج القيمة تمراً وحباً.
... فصل في صدقة الفطر(6/222)
ص -211- ... فصل في صدقة الفطر
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن تجب عليه زكاة الفطر؟
فأجاب: تجب على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، صاعاً من الطعام.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن ليس عندها إلا حلي، أو ليس له إلا عوامل يستعلمها... إلخ؟
فأجاب: الفطرة لا تجب إلا على من يقدر عليها. والتي عندها حلي فتجب عليها ولو باعت منه. والذي ليس عنده إلا عوامل يستعملها ما عليه شيء. والذي له ثمرة تجب عليه ولو كانت مرهونة. والذي ليس له إلا ذمته لا يستدين إلا إن أراد. والتمر يؤخذ ولو كان فيه رطوبة، إذا طلع عن اسم الرطب. وتفريقها قبل صلاة العيد.
وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: الفقير الذي لم يقدر على زكاة الفطر عند وقت وجوبها، ليست بواجبة عليه، وما دفع إليه لا يجب عليه الإخراج منه، لقصة المظاهر، والذي وقع على زوجته في رمضان، ولم يأمر(6/223)
ص -212- ... النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهما بإخراج الكفارة التي هي واجبة عليه ومتمكن من أدائها، ولا أمرهما بأدائها إذا قدرا عليها؛ فدل على أنه لا حرج على الفقير إذا دفع إليه أن لا يخرج ولا يؤمر بقضاء.
[ مقدار زكاة الفطر ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن مقدار زكاة الفطر... إلخ؟
فأجاب: أما الذي ثبت في مقدارها، فهو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من أقط؛ وأما البر، فجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل نصف الصاع من البر قائماً مقام الصاع من غيره من الأجناس المذكورة، والحديث رواه أحمد وأبو داود; والذي في الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك، والقول به مذهب كثير من أهل العلم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين; وتقدير الصاع من التمر بالوزن لا يحتاج إليه، لأن التمر مكيل، فإن أخرج وزنتين عن الصاع فهو كاف.
وأجاب في موضع آخر: الذي يظهر لنا أن صاع التمر قدر وَزْنَةٍ ونصف.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزئ إلا صاع كامل، من أي صنف من الأصناف(6/224)
ص -213- ... المذكورة في حديث أبي سعيد، وابن عمر وغيرهما، وهي: الطعام، والشعير، والتمر، والأقط، والزبيب; وذهب جمع إلي جواز الإخراج من غالب قوت أهل البلد، أَي قوتٍ كان، كالذرة، والأرز، ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي: البر، يجزي عن صاع من غيره؛ وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأياً له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قدر الفطرة من الثمرة المكنوزة، فالذين جربوه يقولون: قدر وزنتين إلا ثلث.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز إخراج زكاة الفطر من الذرة والدخن، مع وجود التمر والبر والشعير، أم لا؟
فأجاب: خص الشارع صلاة الله وسلامه عليه، إخراج التمر والشعير والزبيب والطعام والأقط، فمن العلماء من أجاز جميع هذه الأجناس مطلقاً لظاهر الحديث، ومنهم من قال لا يخرج إلا غالب قوت البلد، لأن هذه الأجناس كلها كانت مقتاتة بالمدينة في ذلك الوقت؛ ولفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق. وقال في المنح الوفية: شرعت الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ فاللغو: الكلام(6/225)
ص -214- ... الباطل، والرفث: كل ما يستحى من ذكره. قال ابن العربي: الصوم موقوف على زكاة الفطر، فإن أخرجت قبل صومه.
وروى أبو داود - ولم يضعفه هو ولا المنذري - وابن ماجة من حديث ابن عباس، قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " 1. انتهى. فإذا كانت طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، فمن الطيب أحسن وأجمل، لا سيما مع قوله تعالى:{ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [سورة البقرة آية: 267]، قال ابن عباس: " أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده، ونهاهم عن التصدق برذال المال ودنيه، وهو خبيثه ".
إذا ثبت هذا، فقال في المبدع: زكاة الفطر واجبة، لما روى ابن عمر قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " 2، متفق عليه. والواجب فيها: صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، إجماعاً، ومن الأقط في إحدى الروايتين؛ هذا المذهب، لما روى أبو سعيد الخدري قال: " كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الزكاة (1609), وابن ماجة: الزكاة (1827).
2 البخاري: الزكاة (1503, 1504, 1507, 1509, 1511, 1512), ومسلم: الزكاة (984, 986), والترمذي: الزكاة (675, 676, 677), والنسائي: الزكاة (2504), وأبو داود: الزكاة (1611, 1613, 1614), وابن ماجة: الزكاة (1826), وأحمد (2/5, 2/55, 2/63, 2/66, 2/67, 2/102, 2/114, 2/137, 2/151, 2/154, 2/157), ومالك: الزكاة (627), والدارمي: الزكاة (1661, 1662).(6/226)
ص -215- ... شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط " 1، متفق عليه.
ولا يجزئ غير هذه الأصناف المذكورة، مع قدرته على تحصيلها، إلا أن يعدمه، فيخرج مما يقتات عند ابن حامد، كلحم، ولبن، وعند أبي بكر - وهو أشبه بكلام أحمد -، وظاهر كلام الخرقي: يخرج صاعاً مما يقوم مقام المنصوص عليه من كل حب، كذرة ودخن، أو تمر يقتات كتين يابس، ونحوه. واختار الشيخ تقي الدين: يجزئ قوت بلده، مثل الأزر ونحوه، وأنه قول أكثر العلماء، لقوله تعالى:{ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [سورة المائدة آية: 89]، وجزم به ابن رزين. انتهى.
وقال في حاشيته على شمس الإيضاح: قال أبو حنيفة، الواجب نصف صاع، ولحديث معاوية؛ وحجة الجمهور حديث أبي سعيد، لقوله: " صاعاً من طعام "، والطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة. ووقع في رواية لأبي داود: " أو صاعاً من حنطة " 2. وأجمعوا على أنه يجوز البر والزبيب، والتمر والشعير، إلا في البر خلاف لا يعتد به، وفي الزبيب لبعض المتأخرين، والأقط وجهان؛ وقال أشهب لا تخرج إلا هذه الخمسة. وعن مالك رواية: أنه لا يجزئ غيرها، وقاس مالك على هذه الخمسة كل ما هو قوت أهل كل بلد، من القطاني وغيرها. ولا يجوز عند عامة الفقهاء إخراج القيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1506), ومسلم: الزكاة (985), والترمذي: الزكاة (673), والنسائي: الزكاة (2512, 2513, 2518), وأبو داود: الزكاة (1616), وابن ماجة: الزكاة (1829), وأحمد (3/98), ومالك: الزكاة (628), والدارمي: الزكاة (1664).
2 البخاري: الزكاة (1506), ومسلم: الزكاة (985), والترمذي: الزكاة (673), والنسائي: الزكاة (2511, 2512, 2513, 2514, 2517, 2518), وأبو داود: الزكاة (1616, 1618), وابن ماجة: الزكاة (1829), وأحمد (3/23, 3/73, 3/98), ومالك: الزكاة (628), والدارمي: الزكاة (1664).
...(6/227)
وأجازه أبو حنيفة، قلت: قال أصحابنا: جنس الفطرة: كل حب وجب فيه العشر. انتهى.
وأما كلام المالكية، فقال في الشرح الكبير: وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. انتهى. وقال الفشني المالكي في كتاب المنح الوفية على المقدمة العزية: زكاة الفطر واجبة، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث ابن عمر وأبي سعيد المتقدمين، إلى أن قال: وهي صاع من غالب قوت البلد، هذا مذهب المدونة، وسواء كان قوتهم مثل قوته، أو أدنى، أو أعلى. انتهى. وقال عبد الله بن زيد القيرواني في الرسالة: زكاة الفطر فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل صغير وكبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين، صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من جل عيش أهل ذلك البلد، من بر أو شعير، أو تمر أو أقط أو زبيب، أو دخن أو ذرة، أو أرز. انتهى كلامه. وأما كلام الشافعية، فقال محمد بن قاسم على أبي شجاع - لما ذكر وجوب زكاة الفطر - قال: فيخرج صاعاً من قوت بلده، فإذا كان في البلد أقوات غلب بعضها، وجب الإخراج منه. انتهى. وقال شهاب الدين أحمد بن الحجازي في شرحه على الزبد، لما ذكر المصنف الفطرة ووجوبها وقدرها، وقال:
وجنسه القوت من المعشّر ... غالب قوت البلد المطهّر(6/228)
ص -217- ... وجنسه، أي: الصاع، القوت من المعشر، أي: الذي يحب فيه العشر، أو نصفه، لأن النص ورد في جنس المعشرات، كالبر والشعير، والتمر والزبيب؛ وقيس الباقي عليه بجامع الاقتيات، غالب قوت البلد المطهر، المخرج، ويختلف ذلك باختلاف النواحي. انتهى.
فتلخص من كلام هؤلاء العلماء: أن الذي ورد فيه النص يقدم في الإخراج إذا وجد غالباً، فإذا عدم، أخرج مما يقوم مقام المنصوص عليه من الحبوب والثمار، كالذرة، والدخن، والأرز، والتين إذا كان يابساً، فإن عدم أخرج من غالب قوت البلد مطلقاً، والذرة والدخن ليسا منصوصاً عليهما، وليسا من غالب قوتنا الآن، فإن غالب قوت أهل نجد الآن: التمر والبر والشعير.
وأما الأفضل: فقد ذكر العلماء أن الأفضل إخراج التمر مطلقاً، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، لفعل ابن عمر، رواه البخاري. وروى مجاهد قال: " قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، فقال: إن أصحابي سلكوا طريقاً، وأنا أحب أن أسلكه "، فآثر إلاقتداء بهم على غيره، وكذا رواه أحمد واحتج به لأنه قوت وحلاوة، وأقرب تناولاً، ثم البر لأنه أكثر نفعاً وأجود، وبه قال الشافعي، ثم ما هو أنفع للفقراء؛ وفي المحرر: وأفضلها التمر، ثم الزبيب، ثم(6/229)
ص -218- ... البر، ثم الشعير، ثم الأقط، وقيل: أفضلها ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعاً.
ولا يخرج حباً معيباً كمسوس ومبلول، لقوله تعالى:{ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [سورة البقرة آية: 267]، ولأن السوس يأكل جوفه، والبلل ينفخه; ولا يخرج قديم تغير طعمه، ولا قيمته لأنها خلاف المنصوص، فإن خلط الجيد ما لا يجزي، فإن كثر لم يجزه، فإن قل زاد بقدر ما يكون المصفى صاعاً؛ فإن أحب تنقية الطعام كان أكمل، والله أعلم.(6/230)
ص -219- ... سئل الشيخ سعيد بن حجي الشيخَ عبد الله، وحمد بن ناصر: عن تحرير الصاع؟
فأجابا: وما ذكرت من تحرير الصاع، أن الذي تحرر لكم فيه: أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل في الخلقة، فالأمر على ما ذكرت؛ وهو الذي ذكره العلماء، كصاحب النهاية والقاموس. وأما كون صاعنا يزيد السدس على الصاع الأول، الذي هو أربع حفنات، فلم يظهر لنا أن الزيادة تسع أو عشر، على ما تحرر لنا بالحفنات. وأما الوزن، فلم نعتمد عليه، لأن الحب يختلف بالرزانة وعدمها، والعمدة على ما حرره العلماء بالحفنات، وزيادة الصاع على الحفنات يسيرة، فلهذا تركنا الأمر على عادته القديمة، والاعتبار بالصاع الموجود. وأما الذي نفتي به: فهو العمل على أربع الحفنات، وبالاعتبار بالصاع نجعل التسعة الآن عشرة؛ وأما دون ذلك مشكوك فيه، وإلاحتياط في العبادة أولى.
وسئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهم الله: هل صاع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث بالعراقي؟ أم ثمانية أرطال؟ وما قدر الرطل؟ وما بين الوزنة والصاع؟
فأجاب: أخرج أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني، وأخرجه البزار أيضاً بإسناد صحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكيال على(6/231)
ص -220- ... مكيال أهل المدينة، والوزن على ميزان أهل مكة " 1.
إذا عرفت ذلك، فقال أبو داود عن أحمد بن حنبل، قال: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث، وقال أبو داود: هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذكر أبي أنه عبر مد النبي صلى الله عليه وسلم بالحنطة فوجدها رطلاً وثلثاً في المد، قال: ولا يبلغ من الثمر هذا المقدار. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة، أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذ به الصدقات رطل ونصف.
وقال أبو محمد ابن حزم: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان، في أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي تؤدى به الصدقات ليس أكثر من رطل وربع، وقال بعضهم، رطل وثلث، وليس هذا اختلاف، لكن على حسب رزانة المكيل من التمر والبر والشعير، قال: وهذا أمر مشهور بالمدينة، منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما نقل أهل مكة الصفا والمروة. فالمعترض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة، ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع؛ وهذا خروج عن الديانة والمعقول. قلت: وهذه مبالغة منه كجاري عادته.
وقال في الإقناع: والصاع خمسة أرطال وثلث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: البيوع (4594), وأبو داود: البيوع (3340).(6/232)
ص -221- ... بالعراقي، وقال أبو حنيفة ومن تبعه: المد رطلان; فعلى هذا، يكون الصاع ثمانية أرطال بالعراقي. وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، ووافق أهل القول الأول لما دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها، واحتجوا على قولهم هذا بأشياء لا تصح:
الأول: حديث رواه شريك القاضي: عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجزئ في الوضوء رطلان " 1، مع الأثر الصحيح أنه عليه السلام " كان يتوضأ بالمد " 2.
والجواب من وجهين: الأول: ما في شريك من المقال، فإنه وإن كان واسع العلم فقيهاً، فقد ضعفه كثير من أئمة الحديث، كابن المبارك ويحيى بن القطان وغيرهما، ووثقه طائفة. الثاني: أن ذلك لو صح لا يدل على أن ذلك المد رطلان؛ فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكال له الماء للوضوء، فلو صح لما كان فيه دليل على أنه لا يجزئ أقل من رطلين، وأبو حنيفة وأصحابه أول موافق لنا في هذا، فمن توضأ عندهم بنصف رطل أجزأه.
الثاني: حديث رواه موسى الجهني، قال: "كنت عند مجاهد فأتى بإناء يسع ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال، فقال: قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بهذا "،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الجمعة (609), وأبو داود: الطهارة (95), وأحمد (3/179).
2 البخاري: الوضوء (201), ومسلم: الحيض (325).(6/233)
ص -222- ... مع الأثر الثابت أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع.
والجواب: أن موسى قد شك في ذلك الإناء، هل يسع ثمانية أرطال، أو عشرة أرطال، وهم يقولون الصاع لا يزيد على ثمانية أرطال ولا درهماً، وأيضاً، فإن ذلك ظن وتخمين من موسى.
الثالث: رواه أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن رجل عن موسى بن طلحة، أن القفيز الحجاجي: قفيز عمر، أو صاع عمر. الرابع: ما رواه مجالد عن الشعبي قال: القفيز الحجاجي: صاع عمر. الخامس: قول إبراهيم: عبرنا صاع عمر، فوجدناه حجاجياً. والسادس: ما رواه الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن إبراهيم، قال: كان صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال، ومده رطلين.
والجواب عن الثالث: أن من بين أبي إسحاق وبين موسى بن طلحة لا يدرى من هو. وعن الرابع: بأن مجالداً ضعيف، ضعفه الناس، أولهم أبو حنيفة. وعن الخامس: أن إبراهيم لم يدرك زمن عمر. ثم لو صح كل ذلك لم يكن لهم فيه حجة، لأن النّزاع لم يكن في صاع عمر ولا قفيزه، وإنما النّزاع في صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، وقد يكون لعمر صاع وقفيز ومد رتبه لأهل العراق، كما كان لمروان بالمدينة مد اخترعه، ولهشام بن إسماعيل مد اخترعه. وكما قال البخاري في(6/234)
ص -223- ... الصحيح: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن عن السائب بن يزيد، قال: " كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مداً وثلث مدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز ". وقال مالك عن نافع: " كان ابن عمر يعطي زكاة الفطر من رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول "، فصح أن بالمدينة صاعاً ومداً غير صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، ولو كان صاع عمر هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم لما أضيف إلى عمر دون أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن السادس: بأنه لا يحتج به من يحسن مواضع الاحتجاج، لوجهين: الأول: أن الحجاج بن أرطاة ضعيف مدلس. والثاني: أنه مرسل. وفي المسألة طول، وفي هذا القدر كفاية، والله أعلم.
وأما قدر الرطل العراقي من المثاقيل، فاعلم أولاً: أن زنة المثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم، وبالحب: اثنتان وسبعون حبة شعير متوسطة، وقيل: ثنتان وثمانون حبة من الشعير المطلق، ذكر ذلك في الإقناع وغيره; قال: ولا تنافي بينهما. إذا علمت ذلك، فالرطل العراقي من الدراهم: مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وبالمثاقيل: تسعون مثقالاً؛ ذكر ذلك في شرح الإقناع.
وأما ما بين الوزنة وصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفت قدر الصاع النبوي بالدليل؛ واعتبار ذلك بالوزنة يعسر على مثلي.(6/235)
ص -224- ... وأيضاً: فالظاهر أن ذلك لا يمكن، لأن الثمر يختلف اختلافاً كثيراً بالرطوبة واليبوسة، فقد تبلغ الوزنة من التمر الخفيف صاعاً، وقد تكون من الثقيل نصف صاع.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: هل يجزي إخراج زكاة الفطر من النقدين؟
فأجاب: إخراج زكاة الفطر من النقدين لا يجزئ، ولو تعذرت أجناس الطعام؛ لكن إذا عدم المجزي قضى إذا وجده، ولو بعد وقت الإخراج.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن توديع الفطرة عند جار ونحوه... إلخ؟
فأجاب: وما يفعله بعض الجهال من توديعهم الفطرة عند جار ونحوه، إلى أن يجيء الذي يعطونها إياه، فهذا لا يجزئ، لأنهم لم يخرجوها، فلا تسقط.
وسئل: عن دفع زكاة الفطر إلى الأخ وابن العم ونحوهم؟
فأجاب: يجوز دفع صدقة الفطر إلى من ذكر إذا لم تجب نفقتهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن دفع صدقة الفطر للمعلم؟
فأجاب: الذي ذكر أهل العلم، أنها لا تدفع إلا إلى(6/236)
ص -225- ... الفقراء والمساكين ونحوهم، ممن يجوز له أخذ زكاة الأموال؛ فإن كان هذا المدرس فقيراً وأعطي منها لأجل فقره فهذا حسن، وإن كان إنما أعطي لأجل التدريس فلا يجوز; ولا ينبغي للإنسان أن ينتفع بزكاته ولا يجعلها وقاية لماله، فإن فعل ذلك لم تجز عنه. والصدقة إن جعل الأمير لها جابياً يجباها دفعها إليه، فإن لم يكن لها جاب، فليدفعها إلى من اشتدت حاجته إليها من الفقراء والمساكين، ولا يجوز دفعها إلى غني، ولا يستخدم بها الفقير.
وإذا أعطى الجماعة أحداً من الفقراء قدر فطرته، لا أزيد ولا أنقص، فهذا لا بأس به إذا كان معطى من غير فطرته التي دفعها، بل بعض أهل العلم يجوز له أن العامل يرد عليه ولو زكاته بنفسه إذا بلغت العامل. وهل الأفضل خلط فطرة أهل البلد؟ أم تفريقها في أوانيها؟ فالأفضل المبادرة بإخراجها إلى مستحقها، سواء خلطت أم لا.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: أين تخرج صدقة الفطر؟
فأجاب: زكاة الفطر يخرجها في البلد الذي هو فيه.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والفطرة يخرجها في البلد الذي استهل له فيه هلال شوال، ولو لم يصم فيها إلا يوماً واحداً، وفطرة من تلزمه فطرته يخرجها حيث أفطر.(6/237)
ص -226- ... فصل في إخراج الزكاة
قال أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسين وإخوانه، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، قال الله تعالى:{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [سورة البينة آية: 5]، وقال تعالى:{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [سورة النور آية: 56]، وقال تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [سورة التوبة آية: 103]. والزكاة فرضها الله على عباده في أموالهم، وهي أحد أركان الإسلام التي بني عليها؛ وأمر الله تعالى بقتل من لم يزك حتى يؤديها، قال الله تعالى:{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [سورة التوبة آية: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل " 1، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة; فالزكاة حق المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (25), ومسلم: الإيمان (22).(6/238)
ص -227- ... والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ".
والآيات والأحاديث في وجوب الزكاة، وفي الوعيد الشديد فيمن لم يزك، كثيرة مشهورة، فمن ذلك: قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ }إلى قوله:{ تَكْنِزُونَ } [سورة التوبة آية: 34-35]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: " نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة من المسلمين ". قال ابن عمر: " كل مال أديت زكاته فليس بكنْز، وإن كان مدفوناً، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنْز، وإن كان على وجه الأرض ". قال الله تعالى { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ سورة آل عمران آية: 180].
في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد " 1، وفي الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رزقه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوق به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنْزك، ثم تلا قوله تعالى:{ وَلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزكاة (987), وأبو داود: الزكاة (1658), وأحمد (2/262, 2/383).(6/239)
ص -228- ... يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية? " 1.
وقال ابن مسعود، في قوله تعالى:{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ }الآية، قال: " لا يوضع دينار على دينار، ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده، حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته ".
والله سبحانه - وله الحمد - وسع عليكم وأغناكم، وأعطاكم الكثير، وطلب منكم اليسير، ونفعه عائد إليكم، والله غني عنه،{ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [سورة محمد آية: 38]. والزكاة سميت زكاة، لأنها تزكي المال وتنميه؛ فإخراجها سبب لزيادة المال، والبخل بها سبب لهلاكه، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته "، والمال غربال، وفتنة، قال الله تعالى:{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورة التغابن آية: 15-16].
والموجب لما ذكرنا: أن بعض الناس لما نظرنا في حالهم، إذا عندهم أموال ما أخرجوا زكاتها، ولا وصل عامل الزكاة منهم شيء بالكلية، وبعض الناس غني وفي يده مال كثير، ولا أعطى العمال إلا القليل؛ والزكاة أمرها أمر عظيم 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1403), والنسائي: الزكاة (2482), وأحمد (2/355).
2 آخر ما وجدناه.(6/240)
ص -229- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن منع بعض زكاته، هل يثاب على ما أخرج... إلخ؟
فأجاب: وأما المانع لبعض الزكاة، فذكر الشيخ أنه يثاب على ما فعل، ويعاقب على ما ترك، إلا إن كان له تطوع يجبر نقص الفريضة، مستدلاً بالحديث: " أول ما ينظر فيه من عمل العبد: صلاته، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا فهل له من تطوع؛ ثم يفعل بسائر الأعمال كذلك " 1.
وقال أبناؤه: الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي: ومنها: أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر على المنع يحبسها؛ والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام أو نائبه، على الأمر المشروع.
وقالوا في موضع آخر: وأما من ترك أداء الزكاة، فإن كان تحت قبضة الإمام أخذها منه قهراً، وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أنها تؤخذ منه وشطر ماله، ولفظه: " ومن منعها، فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا " 2. وأما إن كانوا طائفة ممتنعة، وقاتلوا الإمام على دفعها، فإنهم يكفرون، ويقاتلون، كما أجمع عليه الصحابة، رضي الله عنهم، ولهذا قال الصديق لعمر: " والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها "، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. ولم ينقل عن الصحابة أنهم قالوا لأحد من مانعي الزكاة: هل أنت مقر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1425).
2 النسائي: الزكاة (2444, 2449), وأبو داود: الزكاة (1575), والدارمي: الزكاة (1677).(6/241)
ص -230- ... بوجوبها، أو جاحد لها؟ بل قاتلوهم لما امتنعوا من أدائها، وسموهم أهل الردة، وقاتلوا مقاتلتهم حتى رجعوا إلى الإسلام، وسمحوا بأدائها إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وسئل أيضاً: الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ، رحمهم الله: هل للإمام طلب الزكاة من الأموال الباطنة؟
فأجابا: هذه المسألة اختلف فيها العلماء: فمنهم من يقول: للإمام أخذ الزكاة من الأموال الباطنة كالظاهرة، ويجب دفعها إليه؛ وهو قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وأما الأموال الظاهرة، فيجب دفعها إلى الإمام العادل إذا طلبها؛ وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. واتفقوا على أن للإمام طلب الزكاة من الأموال الظاهرة والباطنة، وإنما الخلاف في وجوب الدفع إليه، وهل يجزئ عن صاحبها إذا لم يدفعها إليه أو لا؟
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن إخراج الإنسان زكاته، أو بعضها بنفسه؟
فأجاب: ذكر العلماء أنه لا يجوز أن يخرجها ولا بعضها، إذا كان الإمام عدلاً يضعها في أهلها، بل يجب دفعها إليه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن رجل مات وأخرج وكيله زكاة ماله... إلخ؟(6/242)
ص -231- ... فأجاب: للورثة تغريم الوكيل، لأن المال انتقل إلى الورثة بموت ربه، وأيضاً، فإخراج الزكاة يحتاج إلى نية من الموكل، وإذن للوكيل.
وأجاب أيضاً: صرحوا بأن الإنسان إذا دفع عمن لا تلزمه زكاته بإذنه صحت، وبغير إذن الحي لا تصح، وأطلقوا ذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عمن ادعى نقص الزرع أو الثمر عن الخرص؟
فأجاب: إذا نقص الزرع أو الثمر عن الخرص، فالذي يعمل به عندنا أن الذي لا يتهم في الزكاة، ويعرف بالديانة والأمانة، يصدق في دعواه، ومن لا فلا.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: قال صلى الله عليه وسلم: " لا تستحلفوا الناس على صدقاتهم "، وتابعه عمر، فمعنى الحديث - والله أعلم -: إذا كان العامل يظن له مالاً، فلا يحلفه على مجرد ظنه، وأما إذا عرف له مال وجحده، أو ادعاه لغيره ممن هو غائب، فالتهمة قائمة، فيجتهد العامل، إلا أن يكون موثوقاً به، يعرف منه الصدق والديانة، فلا يحلف؛ فالمسألة لها صور ثلاث، ولها صورة رابعة، وهي: ما إذا عرف أن هذا الذي في يده من المال ليس لغيره، فتؤخذ منه الزكاة على كل حال.(6/243)
ص -232- ... سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل تؤخذ الزكاة من خيار المال، أو من رديئه... إلخ؟
فأجاب: تؤخذ من أوساط المال، ولا تؤخذ من خياره، ولا من رديئه، فإن كان صاحب المال دفعها من خيار المال فحسن.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن العروض، هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها؟
فأجاب: المسألة فيها روايتان عن أحمد: إحداهما: المنع، لقوله: " في كل أربعين شاة: شاة، وفي مائتي درهم: خمسة دراهم " 1، وأشباهه. والثانية: يجوز، قال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخله؟ فقال: عشره على الذي باعه، قيل: يخرج ثمراً أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمراً، وإن شاء أخرج من الثمن. إذا ثبت هذا، فقد قال بكل من الروايتين جماعة، وصار نزاع فيها، فوجب ردها إلى الله والرسول؛ قال البخاري في صحيحه: باب العرض في الزكاة: وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: " ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وأما خالد، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " 2، ثم ذكر في الباب أدلة غير هذا.
فصار الصحيح: أنه يجوز، واستدلال من منعه بقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزكاة (621), وأبو داود: الزكاة (1568), وابن ماجة: الزكاة (1798, 1805), وأحمد (2/14, 2/15), والدارمي: الزكاة (1620, 1626).
2 البخاري: الزكاة (1468), ومسلم: الزكاة (983), وأبو داود: الزكاة (1623).(6/244)
ص -233- ... " في كل أربعين شاة: شاة " 1 وأمثاله، لا يدل على ما أراد، ولأن المراد نفع الفقراء وقد حصل، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر المستجمر بثلاثة أحجار، بل نهى أن ينقص عن ثلاثة أحجار، لم يجمدوا على مجرد اللفظ، بل قالوا: إذا استجمر بحجر واحد له ثلاث شعب أجزأه؛ ولهذا نظائر أنه يأمر بالشيء، فإذا جاء مثله أو أبلغ منه أجزأ.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أخذ العرض في الزكاة عن الدنانير، أو الدراهم والدنانير عن زكاة الحبوب، والتمر، أو عن زكاة الإبل والغنم، قد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الحنفية وغيرهم إلى جواز ذلك، ووافقهم البخاري، فقال: باب العرض في الزكاة، وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: " ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة، مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تصدقن ولو من حليكن "، فلم يستثن صدقة العرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي قرطها وسخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العرض.
ثم ذكر حديث أنس في كتاب الصدقة، الذي كتبه أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: " هذه فريضة الصدقة، التي أمر الله ورسوله "، وفيه: " ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين. فإن لم يكن عنده بنت مخاض على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزكاة (621), وأبو داود: الزكاة (1568), وابن ماجة: الزكاة (1798, 1805), وأحمد (2/14, 2/15), والدارمي: الزكاة (1620, 1626).(6/245)
ص -234- ... وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء " 1.
فاحتج البخاري، رحمه الله، بهذه الأحاديث والآثار، على جواز أخذ العرض في الزكاة، قال في شرح البخاري: قوله: "بعرض" ما عدا النقد، وقوله: "خميص" بفتح الخاء المعجمة وآخره صاد، بيان السابقة، أي: خميصة، قال الكرماني: كساء أسود مربع له علمان، والمشهور "خميس" بالسين، قال أبو عبيد: هو ما طوله خمسة أذرع، قوله: "أو لبيس" بفتح اللام وكسر الباء الموحدة، قيل: بمعنى: ملبوس، قوله: "هو أهون": أسهل عليكم، "وخير" أي: أرفق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، لأن مؤنة النقل ثقيلة، فرأى الأخذ في ذلك خيراً من النقل؛ وهو موافق لمذهب الحنفية، في جواز دفع القيم في الزكاة، وإن كان المؤلف كثير المخالفة لهم، لكن قاده إليه الدليل; وهذا التعليق وإن كان صحيحاً إلى طاووس، لكنه لم يسمع من معاذ، فهو منقطع. نعم إيراد المؤلف له في معرض الاحتجاج، يقتضي قوته عنده؛ وقد حكى البيهقي عن بعضهم أنه قال فيه عن الجزية بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاحتجاج به، لكن المشهور الأول رواية الصدقة.
قوله: "خالد" أي: ابن الوليد، سيف الله، "واحتبس" أي: وقف، وحبسته واحتبسته بمعنى واحد، "وأعتده" بضم الفوقانية، جمع العتاد، وهو: آلة الحرب. فإن قلت كيف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1448), والنسائي: الزكاة (2447, 2455), وأبو داود: الزكاة (1567), وابن ماجة: الزكاة (1800), وأحمد (1/11).(6/246)
ص -235- ... دلالته على الترجمة؟ قلت: معناه لولا وقفه لهما لأعطاهما في وجه الزكاة، ولما صح صرفهما في سبيل الله وقفاً، صح صرفهما زكاة، لأنها أيضاً سبيل الله، لأن سبيل الله أحد مصارفه الثمانية المذكورة في قوله:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } [سورة التوبة آية: 60]، قال النووي: إنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده، ظناً منهم أنها للتجارة، فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة فقال: إنكم تظلمونه، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة لأعطاها، لأنه قد وقف أمواله متبرعاً، فكيف يشح بواجب عليه؟
قال: وفيه دليل صحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلا بعض الكوفيين. قوله: "بنت مخاض" بفتح الميم والخاء والضاد المعجمتين: الأنثى من الإبل، وهي التي تم لها عام. فإن قلت: فما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: ليستدل عليه من حيث جواز إعطاء سن من الإبل، بدل سن آخر، ولما صح إعطاء العامل الجبران، صح العكس أيضاً؛ ولما جاز أخذ الشاة بدل تفاوت سن الواجب، جاز أخذ العرض بدل الواجب.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن مذهب الأئمة الثلاثة، مالك والشافعي وأحمد، على أن إخراج قيمة الزكاة لا يجوز، ولا(6/247)
ص -236- ... يجزي؛ قال في الفروع: ولا يجزي إخراج قيمة الزكاة طائعاً، وفاقاً لمالك والشافعي، أو مكرهاً خلافاً لمالك، لقوله عليه السلام لمعاذ: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر " 1، رواه أبو داود وابن ماجة، وفيه انقطاع.
والحيوانات المقدرة في خبر الصديق الذي رواه البخاري وغيره، يدل على أن القيمة لا تشرع، وإلا كانت عبثاً، وكسمينة عن مهزولتين، وكالمنفعة، وكنصف صاع جيد عن صاع رديء، أو نصف صاع تمر عن صاع شعير مثله في القيمة وفاقاً لهم، مع تجويز المخالف ثوباً ثمن الإطعام في الكفارة بطريق القيمة، وكعدوله من السجود الواجب إلى وضع الخد، أو عن الركوع، إليه، وإن كان أبلغ في الحضور، أو عن الأضحية إلى الضعفاء قيمتها؛ وعنه: تجزي القيمة وفاقاً لأبي حنيفة، وعنه: في غير زكاة الفطر، وعنه: تجزي للحاجة أو مع تعذر الفرض ونحوه؛ نقلها وصححها جماعة.
وأجاب أيضاً: الذي عليه أكثر أهل العلم: عدم الجواز، وهو الذي يفتي به عندنا؛ اللهم إلا أن يكون ذلك من حاجة، بأن لا يوجد الفرض المقدر في الشرع، فهنا يتوجه القول بجواز ذلك.
وقال أيضاً: وقولكم إن الله ورسوله سنوا زكاة المواشي منها، وأنتم تأخذون من رب المال، فنقول: أما أخذ القيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الزكاة (2450, 2451, 2452, 2453), وأبو داود: الزكاة (1599), وابن ماجة: الزكاة (1803, 1814).(6/248)
ص -237- ... في الزكاة فقد اختلف العلماء فيها: فمنعها بعضهم وأمر بأخذ الزكاة من كل صنف من المال، وأجاز ذلك بعضهم، واحتج بما ذكره البخاري في صحيحه: أن معاذ بن جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من أهل اليمن قيمة الصدقة، وقال:" ذلك أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الزكاة، واحتج عليها بأحاديث صحيحة تدل عنده على الجواز.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت، أكثر العلماء لا يجيزونه، وأجازه شيخ الإسلام وهو إمام جليل.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: المشهور في المذهب: أنه لا يجزئ إخراج القيمة، وهو مذهب الشافعي، وفي رواية يجزئ إذا كان أنفع لأهل الزكاة؛ وهذا قول مالك، وأبي حنيفة؛ والقول بالإجزاء عند عدم العين وسط بين القولين.
[ نقل الزكاة من بلد إلى بلد ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن نقلها؟
فأجاب: الذي نفهم أن الذي نقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الزكاة، زكاة البادية، وأما زكاة القرى، فيذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نقلها هو ولا أصحابه، إلا إذا لم يجدوا في أهل البلد من(6/249)
ص -238- ... يستحق؛ لكن في وقتنا نقلها للمصلحة، وأظن أن الشيخ تقي الدين اختار جواز ذلك للمصلحة.
وأجاب ابنه عبد الله: والزكاة تدفع إلى أهل البلد الذي فيه المال، وإذا دفع مال إلى أحد مضاربة وحال عليه الحول، والمال بيد المضارب، ببلد غير بلده، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم، أنه متى أخرجها أجزأت، سواء كان بنفسه في بلده أو المضارب؛ ونرجو أن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.
وأجاب أيضاً: إذا كان ببلد وله مال ببلد آخر، فإنه يخرج زكاة كل مال في بلده أحوط، لا سيما إن كان المال الخارج من الأرض.
وأجاب أيضاً: وأما نقل الزكاة من بلد إلى بلد، فبعض العلماء يرى جواز ذلك، لأجل المصلحة إذا رآه الإمام؛ وهو الذي نعمل عليه. وأما ذكر السائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلا نعرفه من وجه صحيح. وأما قول السائل: إنه ذكر في الخبر أنه جاءته صدقة خراسان، فلم أر لهذا أصلاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا كان في بلد وماله(6/250)
ص -239- ... في آخر، أخرج زكاة المال في بلده، أي المال؛ نص عليه، لأن المال سبب الزكاة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأخوك يجوز إعطاؤه، ولكن نقلها في هذه المسافة فيه اختلاف بين العلماء، وأرجو أن القول بجوازه للقريب ونحوه صواب، وأرجو أنه لا بأس إذا أرسلت إليه شيئاً من الزكاة أو لعياله.
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى جناب الأخ الحبيب: عبد الرزاق الطبيب، سلك الله بنا وبه الصراط المستقيم، وجنبنا وإياه أهل الجحيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فما سألت عنه فهذا جوابه:
أما مشروعية إخراج الزكاة وصرفها في بلدها، فلا إشكال فيه، لما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: ?" إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم(6/251)
ص -240- ... وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم: أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " 1.
والضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: " وترد على فقرائهم " عائد على المذكور في صدر الحديث، وهو قوله: " قوماً من أهل الكتاب "، فإن المسلمين لم يجر لهم ذكر في صدر الحديث حتى يقال: يعود الضمير إليهم.
ومما يدل على هذا أيضاً: ما رواه الترمذي من حديث أبي جحيفة، وقال: حديث حسن، قال:? " قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاماً يتيماً، فأعطاني منها قلوصاً "; وروى أبو داود، وابن ماجة عن عمران بن حصين: " أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: أو للمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعه ".
وأما نقلها: فمنعه الجمهور، لما تقدم، وجوزوه إذا استغنى عنها أهل بلدها، أو فضل شيء عن كفايتهم، جمعاً بين الأخبار؛ بل جوزه المحققون أيضاً، لرجحان الحاجة، وهو المعمول به عندنا، وفيه - كما لا يخفى - أيضاً جمع بين الأخبار المذكورة، والأخبار الدالة على النقل; فإنه قد علم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1496), ومسلم: الإيمان (19), والنسائي: الزكاة (2435), وأبو داود: الزكاة (1584), وأحمد (1/233), والدارمي: الزكاة (1614).(6/252)
ص -241- ... بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة، ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار.
وقد جوز نقلها مطلقاً: الليث بن سعد، وأبو حنيفة، وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، وهو ظاهر صنيع البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه، وهو رواية عن أحمد؛ لكن الصحيح ما تقدم. وأما الأحاديث التي ذكرت: فما يدل منها على النقل، فمحمول على الاستغناء عنها، وأنه شيء فاضل عن كفاية أهل البلد، أو لرجحان حاجة فقراء المهاجرين والأنصار، جمعاً بينها وبين ما تقدم.
وأما تأثيم صاحب الروض المربع، لمن نقلها فوق مسافة قصر، فهو بناء على أن النقل المذكور محرم، ولا ريب في تأثيم فاعل المحرم، مع أن تحديد مسافة النقل المختلف فيه بمسافة القصر لا دليل عليه، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، واختار تحديده بالإقليم.
وأما مصرف الزكاة، فالرب سبحانه وتعالى، هو الذي تولى قسمها بنفسه، قال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [سورة التوبة آية: 60].(6/253)
ص -242- ... فجعلها تعالى لهؤلاء الثمانية، فإن "إنما" للحصر، وهي تثبت المذكور، وتنفي ما عداه، كقوله تعالى:{ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [سورة النساء آية: 171]، فإن معناه: لا إله إلا الله؛ فيكون معنى الآية: ليست الصدقات إلا للفقراء والمساكين... إلى آخرها. وقد ذكر بعض العلماء الإجماع على ذلك، إلا ما روي عن أنس، والحسن: أنها تجعل في الجسور; والصحيح الأول، للآية الكريمة.
وأما جبايتها وتفرقتها، فإلى الإمام إذا طلب ذلك؛ ويجب عليه صرفها مصارفها الشرعية، كما يدل على جميع ذلك ما تقدم من الأخبار؛ فإن فعل فهو المتعين عليه شرعاً، وإن خالف أثم، وبرئت ذمة الدافع إليه من عهدة الزكاة، وأجزأت في حقه.
وأما الجهاد، فإن الله تعالى أوجبه على جميع العباد بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم؛ والنصوص من الآيات والأحاديث على فرضية الجهاد كثيرة تدل على وجوب الجهاد في الأموال، وهو حق آخر غير حق الزكاة، ثم ما يصير إلى الإمام من الأموال الأخر، غير الزكاة هي في المصالح؛ ومن المعلوم أن أهمها وأعظمها: أمر الجهاد، كما يعلم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين. والمقصود: أن الجهاد ليس هو مصرف الزكاة.
وأما الفقير والمسكين، فقيل: إنهما وصفان لموصوف(6/254)
ص -243- ... واحد، وقيل: بتغاير موصوفيهما وهو أشهر؛ فقيلك المسكين أشد حاجة من الفقير، وقيل: العكس، وهو أظهر، فإن الفقير أشد حاجة، فإنه من لا يجد الكفاية، والمسكين من لا يجد تمام الكفاية.
ومما يدل على ذلك: الاشتقاق، فإن الفقير: فعيل بمعنى: مفعول، من الفقر، وهو انقطاع الظهر، فكأنه لشدة فاقته قد انقطع ظهره. وأما المسكين فهو مفعيل من السكون وهو عدم الحركة، فكأنه لحاجته، وعدم ما يتصرف فيه بقي لا حركة له. ومن المعلوم أن الأول، وهو انقطاع الظهر يستلزم الثاني، وهو السكون وترك الحركة، بخلاف العكس.
ومما يدل عليه أيضاً: البداءة بالفقير في الآية؛ والقرآن نزل بلغة العرب، وهم إنما يبدؤون بالأهم، قال سيبويه: العرب لا يبدؤون إلا بما هم به أعنى وبشأنه أهم.
وهذا الفرق إنما هو عند اقتران الاسمين كما في آية الصدقات، وأما إذا أفرد أحدهما فإنه يدخل فيه الآخر، كقوله:{ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ } [سورة البقرة آية: 271]، فإنه يدخل فيه المسكين، وكقوله:{ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [سورة البلد آية: 16]، فإنه يدخل فيه الفقير؛ ولهذا نظائر، كالإسلام والإيمان، وغير ذلك مما يختلف مدلوله بالاقتران والانفراد.
وأما مسألة إرسال زكاة مالك إلينا بخصوصها، فاعلم،(6/255)
ص -244- ... وفقنا الله وإياك: أنا لا نعلم أحداً شرقاً ولا غرباً، تجب طاعته وإمامته، وتجب دفع الزكاة إليه، إلا هذا الإمام، الذي أقام الله تعالى به علم الجهاد، وكبت به أهل البغي والعناد، ونشر به علم السنة النبوية، وطمس به جميع الأوثان الشركية، والبدع المخالفة للشريعة المحمدية، ونصر الله به الموحدين، وانتشرت في ولايته كتب العلماء المحققين.
فنسأل الله أن يمتع المسلمين ببقائه، ويثبته على الدين القويم، وينصر به شريعة هذا النبي الكريم؛ وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين.
[ حكم تأخير الزكاة ]
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن تأخيرها؟
فأجاب: وأما تأخير الزكاة فلا يجوز، ومن استدل بحديث: " هي علي مثلها " 1، فقد أخطأ خطأ ظاهراً: الأول: أن الحديث لا يدل على المسألة المسؤول عنها، هل يحل لصاحب المال تأخير الزكاة عن وقتها لحاجة أو غيرها؟ والمسألة التي قال بعض أهل العلم إن الحديث يدل عليها ليست هذه، بل إذا أراد الإمام أو الساعي أن يؤخر الزكاة لمصلحة؛ وهذه المسألة غير الأولى، والدليل على هذا: أن أحمد سئل عن تأخير الزكاة، فمنعه.
وسئل عن الساعي إذا أراد تأخيرها في سنة مجدبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1468), ومسلم: الزكاة (983), والترمذي: المناقب (3761), والنسائي: الزكاة (2464), وأبو داود: الزكاة (1623).(6/256)
ص -245- ... فرخص له واستدل بفعل عمر، مثال ذلك والي اليتيم إذا قيل إنه يجوز لوليه بيع عقاره لمصلحة، هل يحل لأحد أن يستدل بهذه المسألة، إذا كان عنده ليتيم دار أو أرض، فأراد أن يعطي اليتيم أو الولي عنها لمصلحة المعطى، هل يقول أحد إن هذا جائز؟ ولو استدل على ذلك بجواز بيع وليه عقاره لمصلحة، لعده الناس ضحكة.
فينبغي لطالب العلم أن يتفطن لصورة المسألة، في الدليل الذي يدل عليها، ويجيل نظره في ذلك؛ فإن كثيراً من الأغاليط وقعت في مسائل واضحة جداً. وتستدل بشيء من القرآن وهو لا يدل على ذلك، كما فعله الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم، وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [سورة آل عمران آية: 7].
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما تأخير الزكاة إلى أجل معلوم، فإن رأى العامل في ذلك مصلحة جاز له فعله.
وأجاب بعضهم، رحمه الله: وأما من عليه زكاة وسافر قبل أن يخرج زكاته، فلا يجوز بيع شيء من ماله؛ هذا دين في ذمته إذا جاءكم، وأرى لكم التأني إذا صار غائباً حتى يحضر.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يدفعه أهل الثمار للعمال؟(6/257)
ص -246- ... فأجاب: أما الذي يهدى للعمال إن دفع ذلك دفعاً لظلمهم، فلا بأس إن شاء الله تعالى
... فصل [ في مصرف الزكاة ](6/258)
ص -246- ... فصل [ في مصرف الزكاة ]
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن مصرف الزكاة؟
فأجاب: وأما مصرف الزكاة، فعلى ثمانية أصناف: ذكرها الله في كتابه في قوله:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } [سورة التوبة آية: 60].
وأجاب أيضاً: وأما قسمة الصدقات المفروضة، فقد قسمها سبحانه في ثمانية أصناف، لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لكن اختلفوا هل المراد أنها تقسم بين الأصناف الثمانية بالسوية، كما يقسم الميراث بين أهله؟ أو أنه لا بد من تعميم الأصناف الثمانية؟ أو المراد بذلك بيان المصرف، وأنها لا تصرف إلى غير هؤلاء؟ أو أنه يجوز صرفها إلى بعض الأصناف دون بعض بحسب الحاجة والمصلحة؟
فذهب الشافعي إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الجمهور إلى جواز عدم التعميم، واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وبقوله:{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية:(6/259)
ص -247- ... 271]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " 1؛ فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفاً واحداً. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني زريق أن يدفعوا صدقتهم إلى سلمة بن صخر; وقال لقبيصة: " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " 2، ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولهذا قال الجمهور بجواز صرفها إلى صنف واحد، وهو مروي عن عمر، وحذيفة، وابن عباس؛ وبه يقول سعيد بن جبير والحسن وعطاء، وإليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي؛ وهو مذهب الإمام أحمد.
وأجاب سعيد بن حجي: اعلم أن الله حصر الزكاة في ثمانية أصناف، بقوله:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ }الآية [سورة التوبة آية: 60]، وهذا إجماع؛ قال الموفق وغيره من الحنابلة: وأربعة يأخذون أخذاً مستقراً لا يرجع عليهم بشيء: الفقراء، والمساكين، والعاملون، والمؤلفة، لأنهم ملكوها ملكاً مستقراً، وأربعة يأخذون أخذاً مراعىً: الرقاب، والغارمون، والغزاة، وابن السبيل، إن صرفوه فيما أخذوا له، وإلا استرجع منهم؛ فقد علمت أن الأربعة المتقدمة يملكون ما أخذوه من الزكاة، فعلى هذا يملكون جميع التصرفات فيه، ولا يحرم على غيرهم ما أخذه منهم هبة أو صدقة أو نحوها.
وسئل بعضهم: ما قولكم، رحمكم الله، في الزكاة، هل يجوز صرفها إلى بعض الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1496), ومسلم: الإيمان (19), والترمذي: الزكاة (625), والنسائي: الزكاة (2435), وأبو داود: الزكاة (1584), وابن ماجة: الزكاة (1783), وأحمد (1/233), والدارمي: الزكاة (1614).
2 مسلم: الزكاة (1044), والنسائي: الزكاة (2579), وأبو داود: الزكاة (1640), وأحمد (3/477, 5/60), والدارمي: الزكاة (1678).(6/260)
ص -248- ... وقد قال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ }الآية [سورة التوبة آية: 60]، و"إنما" تأتي للحصر، فبينوا لنا، رحمكم الله.
فأجاب: نقول وبالله التوفيق: قد اختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى صنف واحد مع وجود الأصناف الثمانية: فذهب جماعة، منهم الإمام الشافعي، إلى أنه لا يجوز صرفها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف؛ وأقل ما يعطى من الصنف ثلاثة، فإن لم يجد إلا واحداً صرف حصة ذلك الصنف إليه.
وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الثمانية، أو إلى شخص واحد، جاز، وقالوا: إنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاباً لقسمها بينهم؛ وهو قول الخليفة عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وبه قال الإمام أحمد، قال: يجوز أن يضعها في صنف واحد، ذكره البغوي في تفسيره، وذكره في كتاب الرحمة.
وقد قال مجد الدين بن تيمية في كتاب منتقى الأخبار، باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان، مع العدل والجور: عن أنس " أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم " 1.
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/136).(6/261)
ص -249- ... بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا؟ قال تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم " 1، رواه البخاري ومسلم، وأحمد. وعن وائل بن حجر، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " 2، رواه مسلم، والترمذي. ويروى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة بن صخر: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له، فليدفعها اليك " 3، انتهى كلامه. وأول هذه الأحاديث تدل على جواز دفعها إلى صنف واحد، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الغنى المانع من أخذ الزكاة، ما حَدُّه؟
فأجاب: الظاهر أن الغني ما عده الناس غنياً، فإذا كان عنده ما يكفيه جميع سنته فيما يحتاج إليه، فهو غني في سنته، فإن احتاج بعد ذلك جاز له الأخذ.
وسئل: عمن أعطي من الزكاة أو بيت المال؟
فأجاب: إن كان غنياً لم يجز له أن يأخذ من الزكاة، وأما بيت المال، مثل الخمس، والفيء، وهو: ما حصل بغير قتال، فهذا لا بأس أن يأخذ الغني ما أعطي منه بلا سؤال ولا إشراف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3603), ومسلم: الإمارة (1843), والترمذي: الفتن (2190), وأحمد (1/384, 1/386, 1/428, 1/433).
2 مسلم: الإمارة (1846), والترمذي: الفتن (2199).
3 الترمذي: تفسير القرآن (3299), وأبو داود: الطلاق (2213), وابن ماجة: الطلاق (2062), والدارمي: الطلاق (2273).(6/262)
ص -250- ... وسئل: عن الكفاية؟
فأجاب: نص أحمد في رواية الميموني، قال: ذاكرت أبا عبد الله: يكون للرجل الإبل والغنم، تجب فيها الزكاة، وهو فقير، ويكون له أربعين شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه، فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر: " أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا "، فقلت: فلذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال: لم أسمعه; وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان له عقار يستغله، أو ضيعة تساوي عشرة آلاف، أو أقل أو أكثر لا تقيمه، يأخذ من الزكاة؛ وذلك لأنه لا يملك ما يغنيه، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة، لأن الفقر عبارة عن الحاجة؛ ولا يقال: هذا لو بيع عقاره صار غنياً، لأن بيع العقار الذي يحتاج إلى غلته لا يلزمه، وكذلك الغنم التي يحتاج إليها، وكذلك سواني الكد ودوابه، وعروض القنية التي يحتاج إليها، فكل ذلك لا يمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة. وأما الأثمان، فإذا ملك منها ما يكفيه، لم تبح له الزكاة كما إذا كان له غلة نخل أو أرض تكفيه لا تباح له الزكاة.
وقال في المغني: اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها، ونقل عن أحمد فيه روايتان: أظهرهما: أنه ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام في مكسب وتجارة، أو أجر عقار ونحو(6/263)
ص -251- ... ذلك؛ ولو ملك من العروض، أو الحبوب، أو السائمة، أو العقار ما لا يحصل به الكفاية لم يكن غنياً، وإن ملك نصاباً؛ هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي، وابن المبارك وإسحاق.
والرواية الثانية: أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجاً حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً، وإن كان محتاجاً حلت له الصدقة وإن ملك نصباً؛ والأثمان وغيرها في هذا سواء، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها، وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان، وعروض التجارة أو السائمة. انتهى ملخصاً.
وأما إمام المسجد الذي يصلي به ويقوم به، فإنه يعطى من الزكاة إذا كان فقيراً، وإن كان غنياً فلا يجوز له الأخذ من الزكاة.
وسئل أيضاً: عن القاضي وإمام المسجد، هل يجوز لهما الأخذ من الزكاة؟ فأجاب: لا يجوز لهما الأخذ من الزكاة لأنهما ليسا من أهلها.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الغنى المانع من أخذ الزكاة: وجود ما تحصل به الكفاية، كاملة على الدوام، من مكسب أو تجارة أو أجرة عقار. فإذا ملك(6/264)
ص -252- ... من ذلك ما لا تحصل به الكفاية كاملة لم يكن غنياً، فجاز أن يعطى من الزكاة تمام كفايته. انتهى.
وسئل الشيخ علي بن حسين بن محمد، رحمهم الله: هل في كتب المذهب جواز الأخذ من الزكاة مع الغنى لمن قام بمصلحة عامة، كالقضاء ونحوه؟ أم ليس إلا عموم، كما في رواية عن أحمد: أن طلب العلم داخل في الجهاد؟
فأجاب: أكثر أهل العلم على المنع من الأخذ مع الغنى عموماً، أما مع التخصيص فلم أجد لأهل المذهب تصريحاً في الأخذ مع الغنى، غير عموم الأخذ من بيت المال وإن كثر، والأخذ من الزكاة لمن له الأخذ منها بقدر الكفاية. وأما قياسه على الجهاد، وأنه نوع منه، وأن للغازي الأخذ من الزكاة مع الغنى، والغازي مخصوص في الآية الكريمة، وهو الثامن، وليس فيه تصريح بجواز الأخذ مع الغنى لغير الغازي، إلا بفهم عمومات، كالقياس على الغازي والعامل والغارم مع الغنى.
قال القرطبي في تفسيره، عند قوله تعالى:{ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } [سورة التوبة آية: 60]: إن العامل عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج، كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها. ولا يقدر رزق عامل بالثمن، بل تعتبر الكفاية، ثمناً كان أو أقل أو أكثر، كرزق القاضي. وقال في موضع آخر:(6/265)
ص -253- ... دل قوله تعالى:{ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } [سورة التوبة آية: 60] على أن كل ما كان من فروض الكفاية، كالساعي والكاتب والقاسم والجابي وغيرهم، فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية، ولا جرم أنه يجوز له الأخذ عليها؛ وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة " 1، قاله ابن العربي. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني " 2؛ فيفهم منه: أن من كان قائماً بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء، والإفتاء، والتدريس، أن له الأخذ بما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنياً، ذكر ذلك بعض شراح الحديث. وقد بوب البخاري، رحمه الله، فقال: باب رزق الحكام والعاملين عليها. والله أعلم بالصواب. انتهى.
وقال أبناء الشيخ إبراهيم، وعبد الله وعلي، رحمهم الله تعالى: وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقه، ويعصي ويعمل على رأيه؛ والزكاة تولى الله قسمها في كتابه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوصايا (2776) وفرض الخمس (3096) والفرائض (6729), ومسلم: الجهاد والسير (1760, 1761), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2974), وأحمد (2/242, 2/376, 2/463), ومالك: الجامع (1871).
2 أبو داود: الزكاة (1635), وابن ماجة: الزكاة (1841), وأحمد (3/56), ومالك: الزكاة (604).(6/266)
ص -254- ... وجزأها ثمانية أجزاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: هل سؤال ولي الأمر داخل في السؤال المذموم؟
فأجاب: الذي عليه كثير من العلماء: أن الإنسان إذا كان له حق في بيت المال أو الزكاة، فلا بأس بكونه يسأل حقه من ولي الأمر، ولا يصير من السؤال المذموم، إن شاء الله تعالى.
وسئل عن الرجل يذكر لولي الأمر بعض أهل الحاجة، هل يجوز؟
فأجاب: هذا من الشفاعة المأمور بها في قوله تعالى:{ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } [سورة النساء آية: 85]، وقوله عليه السلام: " اشفعوا تؤجروا " 1.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر: عن سؤال إمام المسجد المعاونة من الفيء والزكاة؟
فأجاب: السؤال من حيث هو مذموم إلا في حال الاضطرار، لكن إن كان السؤال من الفيء فهو أخف، لأن الفيء للمسلمين غنيهم وفقيرهم، وما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب؛ فإذا سأل الإنسان نصيبه من الفيء لم ينكر عليه. وأما إن كان السؤال من الزكاة، فإن كان السائل غنياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1432), ومسلم: البر والصلة والآداب (2627), والنسائي: الزكاة (2556), وأبو داود: الأدب (5131), وأحمد (4/400, 4/413).(6/267)
ص -255- ... فهو حرام، ولا تحل له الزكاة، بل لو جاءته من غير سؤال لم تحل له، إلا إن كان من الخمسة المذكورين في الحديث; وذلك لأن الله تعالى قسمها بنفسه، ولم يرض فيها بقسم نبي ولا غيره; وفي الحديث: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " 1.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قول شارح بلوغ المرام، على قوله: " أو غاز في سبيل الله " 2، ويلحق به من كان قائماً بمصلحة عامة... إلخ؟
فأجاب: لم أقف على شيء من كلام أئمتنا يعضد هذا المأخذ ويومي إليه، وغاية ما رأيته ما قد أشرت إليه، من قول شيخ الإسلام، ونصه في الاختيارات: ومن ليس معه ما يشتري به كتباً يشتغل فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم، التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها. انتهى كلامه، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: هل يجزي دفع الزكاة في الجهاد الذي يؤخذ من الناس اليوم؟
فأجاب: لا يجزئ، لأنه حينئذ يكون واقياً بها ماله، بمنْزلة ما لو دفع زكاته عما وجب عليه من النفقة للأقارب ونحوهم؛ والزكاة حق مستقل، والجهاد حق آخر. وقد تولى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزكاة (652), وأبو داود: الزكاة (1634), وأحمد (2/192), والدارمي: الزكاة (1639).
2 أبو داود: الجهاد (2489).(6/268)
ص -256- ... الرب سبحانه قسمة الزكاة وحصرها في الثمانية الأصناف، فلا يجوز صرفها في غيرهم؛ لكن لو دفع الزكاة إلى الغزاة المتطوعة، الذين لا ديوان لهم ليأكلوها في حال الغزو، كان جائزاً؛ فإنهم أحد الأصناف الثمانية. انتهى ملخصاً.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن دفعها عند الاستسقاء، أو الذين يسألون في المساجد، أو في بناء المساجد؟
فأجاب: المساكين الذين يسألون في المساجد، لا بأس أن يعطيهم الإنسان من زكاة ماله، لأنهم من أهل الزكاة المذكورين في الآية. وما يخرجه من الصدقة عند الاستسقاء، إذا كان المعطى من أهل الزكاة فلا بأس أن يعطى من الزكاة. وأما النية عند الإخراج، فلا بد منها في هذا والذي قبله.
وأما دفع الزكاة في بناء المساجد، فقد ذكر الأصحاب أنه لا يجوز صرفها إلى غير الثمانية المذكورين في الآية؛ قال في الإقناع وشرحه: لا يجوز صرفها إلى غير الثمانية المذكورين، كبناء المساجد والقناطر وسد البثوق، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وغير ذلك.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: الذي ظهر لي أن صرف الزكاة في بناء المساجد، المنع منه أصح عند جمهور العلماء وأحوط. ودفعها إلى غير مسلم لا يسقط فرضها، فلا(6/269)
ص -257- ... بد من دفعها إلى مسلم من الأقسام الثمانية، التي ذكرها الله عز وجل.
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا كان فقير من بني هاشم، أو بني المطلب، وليس له ما يقوم بكفايته، هل يحل له شيء من الزكاة، إذا كان نائب الإمام لا يملك ما ينفق عليهم إلا منها؟ وإذا بعث الإمام أو نائبه أحدهم عاملاً على الزكاة، هل يعطى أجرته منها؟
فأجاب: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخ، كخ - يعني: اطرحها -؛ أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس " 2، و" لما رأى تمرة على فراشه أخذها ثم ألقاها، وقال: لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها " 3، متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد المطلب بن ربيعة، وللفضل بن عباس، وقد سألاه العمل على نصيب العامل: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " 4، رواه مسلم. وروى أبو رافع: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله. فانطلق أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم لا تحل لنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1491), ومسلم: الزكاة (1069), وأحمد (2/409), والدارمي: الزكاة (1642).
2 مسلم: الزكاة (1072), والنسائي: الزكاة (2609), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985), وأحمد (4/166).
3 البخاري: البيوع (2055) وفي اللقطة (2431), ومسلم: الزكاة (1071), وأبو داود: الزكاة (1652), وأحمد (3/184).
4 مسلم: الزكاة (1072), والنسائي: الزكاة (2609), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985), وأحمد (4/166).(6/270)
ص -258- ... الصدقة، إن مولى القوم منهم " 1، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
إذا علمت هذا، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهبت طائفة إلى التحريم مطلقاً، سواء منعوا خمس الخمس أو لم يمنعوا؛ وهم الأكثرون. وطائفة قالوا: إذا منعوا خمس الخمس أبيح لهم الأخذ من الزكاة، بشرط الحاجة والضرورة. ونحن نسوق كلام العلماء إن شاء الله تعالى:
قال النووي في شرح صحيح مسلم، على قوله: باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، وذكر حديث الحسن المتقدم، ثم قال: وفي هذا الحديث دليل على تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، و5 هم: بنو هاشم، وبنو المطلب ; وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك، رحمهما الله: هم بنو هاشم خاصة؛ قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلهم. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي. ودليل الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد "، وقسم بينهم سهم ذوي القربى.
وأما صدقة التطوع، فالشافعي يرى فيها ثلاثة أقوال: أصحها: أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل لآله. والثاني: تحرم عليه وعليهم. والثالث: تحل له ولهم.
وأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فهل تحل لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزكاة (657), والنسائي: الزكاة (2612), وأبو داود: الزكاة (1650), وأحمد (6/390).(6/271)
ص -259- ... الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: أنها تحرم، للحديث الذي ذكره مسلم، وهو حديث أبي رافع. والثاني: تحل. وبالتحريم قال أبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وبعض المالكية; وبالاباحة قال مالك. وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالاجماع؛ وليس كذلك، بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على بني هاشم، وبني المطلب، ولا فرق بينهما، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنا لا تحل لنا الصدقة " 1 ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل، وفيها الكلام السابق. انتهى.
وقال في الإنصاف: قوله: ولا بني هاشم، هذا المذهب مطلقاً نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وكالنبي صلى الله عليه وسلم إجماعاً; وقيل: يجوز إن منعوا خمس الخمس، لأنه محل حاجة وضرورة - إلى أن قال - قال في الفروع: ومال شيخنا – يعني: أبا العباس - إلى أنهم إن منعوا خمس الخمس أخذوا من الزكاة، وربما مال إليه أبو البقاء، وحكى الخلاف في العاملين، وقال: إن منعوا خمس الخمس جاز لهم الأكل، وإلا فلا، والله أعلم.
وقال في الإقناع وشرحه: ولا لبني هاشم، يعني: ولا يجوز دفع الزكاة لبني هاشم، كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم - أي بنو هاشم - من كان من سلالة هاشم، فدخل فيها آل العباس بن عبد المطلب، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل أبناء أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزكاة (657), والنسائي: الزكاة (2612), وأبو داود: الزكاة (1650), وأحمد (6/390).(6/272)
ص -260- ... طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب؛ قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس " 1. وعن أبي هريرة قال: " أخذ الحسن تمرة... " الحديث، متفق عليه. وسواء أعطوا من خمس الخمس أو لم يعطوا، لعموم النصوص، ولأن منعهم من الزكاة لشرفهم، وشرفهم باق، فبقي المنع ما لم يكونوا - أي بنو هاشم - غزاة، أو مؤلفة، أو غارمين لذات البين، فلهم الأخذ لذلك، لجواز الأخذ مع الغنى، وعدم المنة فيه.
واختار الشيخ تقي الدين وجمع، منهم القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا. وقال أبو يوسف من الحنفية، والإصطخري من الشافعية: جواز أخذهم إذا منعوا خمس الخمس، لأنه محل حاجة وضرورة.
وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين، ذكره في الاختيارات. ويجوز دفع الزكاة إلى ولد هاشمية من غير هاشمي في ظاهر كلامه، وقاله القاضي اعتباراً بالأب. وقال أبو بكر: لا يجوز، واحتج بحديث: " إن ابن أخت القوم منهم " 2. ولا يجوز دفع الزكاة لموالي بني هاشم، وهم الذين أعتقهم بنو هاشم، لحديث أبي رافع المتقدم. انتهى. وذكر ما قاله الصنعاني في شرح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزكاة (1072), والنسائي: الزكاة (2609), وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985), وأحمد (4/166).
2 البخاري: المناقب (3528), ومسلم: الزكاة (1059), والترمذي: المناقب (3901), والنسائي: الزكاة (2610, 2611), وأحمد (3/119, 3/180, 3/222, 3/276, 3/277), والدارمي: السير (2527).(6/273)
ص -261- ... البلوغ، ثم قال: فهذا حاصل ما حررناه من كلام العلماء.
إذا علمت ذلك، فالذي نراه: أن بني هاشم وبني المطلب - إذا منعوا خمس الخمس والفيء وكانوا محتاجين - لهم الأخذ من الزكاة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كما تقدم. هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن دفع الزكاة إلى أولاد الإخوة والأخوات... إلخ؟
فأجاب: وأما إعطاء عيال إخوانك وأخواتك، فهو جائز إن شاء الله تعالى. ويجوز إعطاء إخوانك وأخواتك وعماتك، وكذا بنات عيال أخيك، يجوز إعطاؤهن. وأما القوي من عيال أخيك، فإن لم يكن له كسب يكفيه، جاز أن يعطى الزكاة، فإن كان لو يحترف كفى نفسه بحرفته، لكن يترك الحرفة تكاسلاً، فلا يعطى منها.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: أما دفع الزكاة إلى أولاد البنات، فالمشهور في المذهب عدم الجواز، الوارث وغيره فيه سواء نصاً، لأن دفعها إليهم عن نفقته، ويسقطها عنه فيعود عليه نفعها، فكأنه دفعها إلى نفسه، أشبه ما لو قضى بها دينه.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: هل يعطى من عليه الدين من الزكاة؟(6/274)
ص -262- ... فأجاب: إن كان فقيراً مستحقاً أعطي، وإن كان غنياً ويعطى من الزكاة لأجل دينه، فلا يحل له أن يعطى منها.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن دفع الزكاة إلى الغريم، ثم يوفيه بها؟
فأجاب: وأما إن دفع إنسان شيئاً من زكاته إلى غريمه، ثم أوفاه بذلك من دينه الذي عليه، فقد نص الإمام أحمد على جواز ذلك ما لم يكن حيلة، فقال: إن أراد إحياء ماله لم يجز، وقال أيضاً: إن كان حيلة فلا يعجبني، وقال: إن أراد الحيلة لم يصلح، ولا يجوز.
وقال الشيخ الموفق: الذي تحصل لنا من كلام أحمد، أنه إن قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز، لأنها لله فلا يصرفها إلى نفعه. وقال القاضي: المراد بالحيلة في كلام أحمد: أن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه، فلا تجزيه، يعني: فإن ردها من غير شرط جاز؛ فكلام القاضي صريح في أنه إنما يمنع إذا كان بشرط، وكلام الموفق صريح في أنه إذا كان قصد الدافع إحياء ماله، لا سيما مع وعد القابض بردها عليه وفاء عن حقه، فإنه لا يجوز.
وسئل: هل يجزي إذا أسقط عن الفقير زكاة الدين الذي عليه؟
فأجاب: المعروف المعمول به في المذهب: أنه إذا(6/275)
ص -263- ... أسقط عن المعسر والفقير غير المعسر زكاة الدين الذي عليه، أن ذلك لا يجوز ولا يجزي.
وسئل: عن المحتاج الذي في بيته، هل هو أولى بالدفع إليه... إلخ؟
فأجاب: والمحتاج الذي في بيته لا يسأل الناس أولى من الذي يسألهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز شراء زكاته؟
فأجاب: أما شراء المزكي زكاته ففيه خلاف، والمشهور أنه لا يجوز.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن دفع زكاة الكري لصاحبه... إلخ؟
فأجاب زكاة الكري لا يحل لصاحب الكري ما يخص كراه منها؛ بل يجب عليه إخراجه، ويأخذ من غيره.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تحري الأوقات الفاضلة، كرمضان... إلخ؟
فأجاب: وأما تحري المتصدق بصدقته الأوقات الفاضلة، كرمضان والعشر الأواخر، فهذا حسن؛ والصدقة لها مزية في الأوقات الفاضلة والأماكن المعظمة، سواء كانت الصدقة من ماله، أو كان نائباً في تفريقها، إذا لم يعين له الموكل وقتاً بعينه أو مكاناً بعينه.(6/276)
ص -264- ... سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن طلب من الثمرة عند الجذاذ... إلخ؟
فأجاب: من طلب من الثمرة عند الجذاذ، يعطى إذا كان فقيراً أو مسكيناً، ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة، فيعطى بحسب الزكاة وقدرها، وكثرة المساكين.
سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن: عن صلة العاصي... إلخ؟
فأجاب: وأما صلة العاصي لقصد ما فيه من الخير، كالإسلام، أو لتأليفه، أو لدفع مفسدة ظاهرة لا تعارض الأصل، وهو المنافرة لأهل المعاصي، فلا بأس به؛ بل ربما يتأكد. ولك الأسوة الحسنة في أبي بكر رضي الله عنه بمسطح بن أثاثة، وأم حبيبة، وصلة عمر لأخيه الذي في مكة، وغير ذلك؛ ولكن لا بد مع التحلي بالحب في الله، التحلي أيضاً بالبغض فيه، ضرورة أن الباعث على الأول كونه مطيعاً لله، وهو مستلزم لبغض العصاة؛ ومعلوم أن من أحب لسبب أبغض لضده، فاستصحب هذا الأصل تنجو من معرة الطرفين، والله أعلم.
سئل الشيخ حمد بن معمر: عن الصدقة في مكة... إلخ؟
فأجاب: الصدقة في مكة لها مزية في الفضيلة، لفضيلة
...
البقعة؛ ومتحري الخير يتيسر له ذلك، خصوصاً في أيام الحج، إذا حج ناس من المسلمين، فإنه يجد مع الحاج من فقراء المسلمين ناساً محتاجين يتصدق عليهم، فيحصل فضيلة البقعة مع فضيلة أيام الحج.(6/277)
وأما الصدقة على أهلها اليوم، وهم على هذه الحال، فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر، كما يدل عليه قوله تعالى:{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورةالممتحنة آية: 8]. وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } [سورة البقرة آية: 272]، أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة. انتهى ملخصاً.
قال الشيخ محمد بن عمر بن سليم: أنشدنا شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن هذه الأبيات:
يا من له الفضل محضاً في بريته ... وهو المؤمل في الضراء والباسِ
عوَّدتني عادة أنت الكفيل بها ... فلا تكلني إلى خلق من الناسِ
ولا تذلّ لهم من بعد عزته ... وجهي المصون ولا تخضع لهم راسِي
وابعث على يد من ترضاه من بشر ... رزقي وصنِّي عمن قلبه قاسِي
فإن حبْل رجائي فيك متصل ... بحسن صنعك مقطوعاً عن الناسِ
وذكر أن الله بعث لمنشئها رزقاً بسبب فأرة خرجت من جحر وبفيها دينار، فحفره فوجد دنانير كثيرة.(6/278)
ص -266- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن حديث " سبق الفقراء..."... إلخ؟
فأجاب: أما حديث: " سبق الفقراء بخمسمائة عام "، وفي حديث: " بأربعين عاماً "، فهذا أثبت، ولكن لا يدل على فضلهم؛ بل بعض الأغنياء الذين يدخلون بعدهم، يكونون أرفع درجة منهم، وهذا له شواهد كثيرة: أن الفضيلة الخاصة لا تدل على الفضيلة العامة، والفقر والغنى موكول إلى العرف، وقوله: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء... " 1 إلخ، لا إشكال فيه أن الرجل إذا أراد أن يتصدق بماله كله، قيل له: إنك إن تذر ورثتك أغنياء، ما فيه إشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1296), ومسلم: الوصية (1628), والترمذي: الوصايا (2116), والنسائي: الوصايا (3626, 3627, 3628, 3630, 3631, 3632, 3635), وأبو داود: الوصايا (2864), وأحمد (1/168, 1/171, 1/172, 1/176, 1/179, 1/184), ومالك: الأقضية (1495), والدارمي: الوصايا (3196).
... كتاب الصيام(6/279)
ص -267- ... كتاب الصيام
صيام يوم الشك
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن قول عمار: " من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، هل هذا من قول عمار؟ أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب: بل هو من قول عمار، بدليل صيغة اللفظ، ولكنه عند العلماء في حكم المرفوع، لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وذلك كقول الصحابي: من السنة كذا، أو أمرنا بكذا.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: وقفت على نسختين لعثمان بن منصور، تتضمن التشنيع والتجهيل والتضليل، لمن نهى عن صيام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر، ويزعم: أن صيامه بنية رمضان واجب جزماً؛ ولا يخفى أن(6/280)
ص -268- ... المحققين من العلماء في مذهب أحمد من الحنابلة وغيرهم، ذهبوا إلى أنه لا يجب صيامه، بل يكره أو يحرم، فمنهم الحافظ محمد بن عبد الهادي الحنبلي.
وقد صنف في الرد على من أوجب صيامه، فإنه، رحمه الله، قال: فصل في الكلام على مسألة الغيم مختصراً: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، إيجاب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين؛ ومن ادعى ذلك فلينقله لنا بإسناد يحتج به. وكذلك لم يثبت عن الإمام أحمد، أنه أوجب صومه؛ والصحيح أنه لا يجب صومه؛ ومن قال بالوجوب من أصحاب أحمد، كالخرقي والخلال صاحبه، النجاد وابن شاقلا وابن حامد وغيرهم، فليس معهم دليل على ذلك، بل أكثر ما معهم معان مقابلة بأقوى منها، وأحاديث متشابهة لا حجة فيها، يجب ردها إلى المحكم الواضح؛ فإن العمل بالمتشابه من الآيات والأحاديث وغيرها من الأدلة، لا يجوز إذا أفضى إلى رد محكم، بل يجب العمل بالمحكم ورد المتشابه إليه.
ومتى وقع النّزاع في مسألة من المسائل بين أهل العلم، لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر بالاتفاق، بل يجب رد ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(6/281)
ص -269- ... وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59].
ولا ريب أن من قال بوجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، ليس معه دليل صحيح أصلاً.
بل الأدلة الصحيحة الصريحة التي هي غير قابلة للتأويل تدل على عدم الوجوب.
فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه، من حديث أمير المؤمنين، في الحديث شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة؛ وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. ولا ينافيه ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة: " فصوموا ثلاثين يوماً " 2، وفي لفظ: " فإن غم عليكم، فأكملوا العدد " 3، وفي لفظ: " ف إن أغمي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين " 4؛ فإن هذه الألفاظ كلها موافقة للفظ البخاري، لا مخالفة له، ومن جعلها معارضة لما رواه البخاري، فقد قصر في النظر.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني، من حديث الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).
2 البخاري: الصوم (1909), ومسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655), وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497), والدارمي: الصوم (1685).(6/282)
3 البخاري: الصوم (1907), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141, 2142, 2143), وأبو داود: الصوم 2319, 2320), وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).
4 البخاري: الصوم (1909), ومسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123), وابن ماجة: الصيام (1655), وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497), والدارمي: الصوم (1685).(6/283)
ص -270- ... عائشة، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " 1، هذا حديث صحيح صريح في المسألة، لا يقبل التأويل؛ قال الإمام الحافظ الكبير، أبو الحسن الدارقطني: هذا الإسناد صحيح، كذا قال أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله: فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، خرج لهم في الصحيح; فإن عبد الله بن قيس، ومعاوية بن صالح، من رجال مسلم؛ ولم يصب من طعن في هذا الحديث، لأجل معاوية بن صالح، وجعل الدارقطني متعصباً في تصحيحه إسناد هذا الحديث، فإن معاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة وغيرهم من الأئمة، ولم يتكلم فيه بحجة، والله أعلم.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان " 2، هذا لفظ أبي داود الطيالسي، وهذا الحديث صحيح، رواته كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح؛ قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الصوم (2325).
2 النسائي: الصيام (2189), وأحمد (1/226, 1/258), والدارمي: الصوم (1683).(6/284)
ص -271- ... صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه.
وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب من رواية ابن قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس، ثم قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً "؛ قال الحافظ أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الواضح الذي لا يحتمل التأويل.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة، جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ وهذا الحديث رواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد والنسائي، والدارقطني،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2126, 2127, 2128) , وأبو داود: الصوم (2326).(6/285)
ص -272- ... من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال: " خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني قد جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم. ألا وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين ".
ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا؛ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 1، هذا إسناد صحيح.
ومنها: ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس يقول القائل: هو من رمضان، ويقول القائل: ليس من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين "؛ وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلم فيه، فهو يصح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، قال الترمذي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909), ومسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655), وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497), والدارمي: الصوم (1685).(6/286)
ص -273- ... هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد بن حنبل، في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك، وهذا القول صحيح بلا ريب، فالقول بوجوب صوم هذا اليوم لا دليل عليه أصلاً.
والقائلون بعدم الوجوب، قد ذكروا من جهة المعنى وجوهاً عاضدة ومقوية لما تقدم من الأحاديث: الوجه الأول: قالوا: الواجب صوم رمضان، وهذا اليوم ليس من رمضان فلا يجب صومه; والدليل على أنه ليس من رمضان الحكم والمعنى. الوجه الثاني، قالوا: الشك بالغيم ليس بأكثر من الشك الحاصل بالشهادة من رد الحاكم شهادته، ثم هناك لا يجب به الصوم، فكذلك الغيم؛ يوضح هذا: أن الغيم ليس سبباً في وجوب الصوم، إنما السبب رؤية الهلال، أو شهادة برؤيته، ونحن على الأصل، والغيم لا يصلح ناقلاً. الوجه الثالث: قالوا: عبادة، فلا يجوز الدخول فيها إلا على يقين، كسائر العبادات؛ وذلك: أن الشرع لما أوجب العبادات الموقتة، نصب لها أسباباً وأعلاماً، فدخول وقت الصلاة سبب لوجوبها، فلو شك فيه لم يجز له فعلها.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة على عدم الوجوب، معارض لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن(6/287)
ص -274- ... عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا رأيتموه فصوموا، واذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له 1، فإن معنى: " اقدروا له ": ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق.
قلنا: ليس في هذا الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب؛ فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، وهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من التضييق في شيء؛ والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 2، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر أيضاً: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " 3، فإن اللام في قوله: " فأكملوا العدة " للعهد، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر بإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان وغيره. وقد روى الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال: سمعت ابن عمر يقول: " لو صمت السنة كلها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ?"، ثم ذكر الروايات عن الإمام أحمد، كما هي مذكورة فيما يأتي، نقلاً عن المغني والإنصاف. انتهى ما أردت نقله من كلام الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله.
فتأمل ما أورده في الفصل من الأحاديث التي قد تواترت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1900), ومسلم: الصيام (1080).(6/288)
2 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140,2141 2142, 2143), وأبو داود: الصوم (2319, 2320), وابن ماجة: الصيام (1654), وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).
3 البخاري: الصوم (1907), وأبو داود: الصوم (2320), ومالك: الصيام (634), والدارمي: الصوم (1684).(6/289)
ص -275- ... كثرة وصحة، فاتبعت ما ذكره في هذا الفصل بما ستقف عليه؛ قال أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وذكر صاحب المغني، رحمه الله، عن الإمام أحمد في هذه المسألة، ثلاث روايات: رواية الوجوب، ذكرها بصيغة التمريض، وضعفها شيخ الإسلام، وصاحب الفروع وغيرهما؛ قال في المغني: وروي عنه أن الناس تبع للإمام. وعنه رواية ثالثة: لا يجب صومه، ولا يجزيه عن رمضان إن صامه، قال: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " 1. انتهى.
قلت: وحديث أبي هريرة صريح في الأمر بإكمال شعبان، إذا غمي الهلال ليلة الثلاثين، كما تقدم في كلام الحافظ؛ ولو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث، لتعين الأخذ به والعمل، لصراحته وصحته. فهذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إليه وأمرهم به، فقال في الإنصاف: وإن حال دون منظره سحاب أو قتر ليلة الثلاثين، وجب صيامه عند الأصحاب، وهو المذهب، وهو من المفردات، وعنه: لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).(6/290)
ص -276- ... يجب صومه قبل رؤية الهلال، وقبل إكمال شعبان ثلاثين.
قلت: وهذه الرواية التي ذكرها في المغني بقوله: وعنه لا يجب صومه وفاقاً للثلاثة وأكثر العلماء؛ قال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: هذا مذهب أحمد الصحيح الصريح عنه، وقال: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة. انتهى. قال: ورد في الفروع جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب، وقال: لم أجد عن أحمد صريحاً في الوجوب، ولا أمر به، ولا يتوجه إضافته إليه. قلت: فأنكر صاحب الفروع على كثرة اطلاعه، على جميع ما صنف في مذهب أحمد قبله، أن يضاف إلى الإمام أحمد القول بوجوب صيامه؛ وحسبك بصاحب الفروع.
وللقائلين بالمنع من صيامه أن يحتجوا بما تقدم، وبقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فلم يتعبد عباده بصيامه إلا عند شهود الشهر، وشهوده إنما هو رؤية هلاله بلا ريب. ومما يحتج به البراءة الأصلية، وهي أن الأصل بقاء شعبان، وأما تأويلهم ما في حديث عبد الله بن عمر " فاقدروا له " بمعنى: ضيقوا له، فهذا تأويل ضعيف جداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى هذه الكلمة، وأن معناها إكمال الثلاثين، كما تقدم ذلك صريحاً في كلام الحافظ؛ وقد قال في الإنصاف، لما ذكر رواية أنه لا يجب صومه، قال: واختار هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل، ذكره في الفائق، واختارها صاحب التبصرة، واختارها الشيخ تقي الدين وأصحابه، منهم(6/291)
ص -277- ... صاحب التنقيح والفروع والفائق وغيرهم، وصححه ابن رزين في شرحه. قلت: وصاحب التنقيح الذي ذكر الحافظ: محمد بن عبد الهادي.
وقال صاحب الإنصاف: وعنه صومه منهي عنه، قال في الفروع: واختاره أبو القاسم بن منده الأصبهاني، وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم، فعلى هذه الرواية، قيل: يكره صومه، وقيل: النهي للتحريم، ونقله حنبل، وذكره القاضي. قلت: ورواية حنبل بتحريم صيامه، هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن قوله: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1 أمر منه صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان؛ والأمر بالشيء نهي عن ضده، وتقدم حديث عمار وغيره.
وكل من ذكره صاحب الإنصاف من أئمة الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وابن رزين، وابن منده، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجميع أصحابه، كلهم قد تركوا القول بالوجوب، وضعفوه، واختاروا الكراهة لصومه أو تحريمه، فوافقوا الأئمة الثلاثة في المنع من صيامه، وصححوا هذه الروايات عن الإمام أحمد، وبعضهم منع من نسبة القول بوجوبه إلى الإمام أحمد، كشيخ الإسلام وصاحب الفروع؛ فتوجه إنكار ذلك على من نسبه إليه من جهلة المتعصبين.
وقال الحافظ ابن حجر، في شرح البخاري: قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909).(6/292)
ص -278- ... العلماء في معنى الحديث: " لا تستقبلوا رمضان بصيام " على نية الاحتياط لرمضان؛ قال الترمذي لما أخرجه: والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان. انتهى. قال شارح العمدة: والمعتمد كما قال الحافظ ابن حجر، أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم؛ قال الروياني من الشافعية بتحريم تقدم رمضان بيوم أو يومين، لحديث الباب، قال الشارح قلت: ونعم ما قال، لأن النهي يقتضي التحريم. انتهى.
ما يثبت به صيام رمضان
وقال العلامة ابن القيم: فصل: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية متحققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة؛ فإن كان ذلك إخباراً فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة. فإن لم تكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صام، ولم يكن يصوم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل بأن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله، وهذا أمره.
ولا يناقض هذا قوله: " فإن غم عليكم فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال، كما قال: " فأكملوا العدة " والمراد بالاكمال: عدة الشهر الذي غم، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: " فأكملوا عدة شعبان " 2،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1900), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122), وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).
2 البخاري: الصوم (1909).(6/293)
ص -279- ... وقال: " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 1. فالذي أمر بإكمال عدته، هو الشهر الذي يغيم عند صيامه، وعند الفطر منه. وأصرح من هذا قوله: " الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه، وإلى آخره بمعناه؛ فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى. وقال: " الشهر ثلاثون، والشهر تسع وعشرون، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين "، وقال: " لا تصوموا قبل رمضان. صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال دونه غياية فأكملوا ثلاثين " 3، وقال: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا. ولا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة " 4. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته ويفطر لرؤيته، فإن غم عليه أكمل شعبان ثلاثين يوماً ثم صام " 5، صححه الدارقطني وابن حبان. وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين " 6، وقال: " لا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " 7، وقال: " لا تقدموا رمضان "، وفي لفظ: " لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه " 8.
والدليل على أن يوم الإغماء داخل في النهي: حديث ابن عباس رفعه: " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1907).
2 البخاري: الصوم (1907).
3 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2130).
4 النسائي: الصيام (2126, 2127) , وأبو داود: الصوم (2326).
5 أبو داود: الصوم (2325).(6/294)
6 البخاري: الصوم (1909), ومسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2117, 2118), وأحمد (2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/469, 2/497), والدارمي: الصوم (1685).
7 البخاري: الصوم (1906), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2121), وأبو داود: الصوم (2320), وأحمد (2/63), والدارمي: الصوم (1684).
8 البخاري: الصوم (1914), ومسلم: الصيام (1082), والترمذي: الصوم (685), والنسائي: الصيام (2172, 2173), وأبو داود: الصوم (2335), وابن ماجة: الصيام (1650), وأحمد (2/513), والدارمي: الصوم (1689).(6/295)
ص -280- ... وأفطروا لرؤيته، فإن حالت غياية فأكملوا ثلاثين " 1، ذكره ابن حبان في صحيحه؛ وهذا صريح في أن صوم يوم الإغماء من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين، صوم قبل رمضان، وقال: " لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال أو تكملوا العدة " 2، وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، قال الترمذي: حديث صحيح. وفي النسائي من حديث يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رفعه: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا. ولا تصوموا قبله يوماً، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا عدة شعبان " 4، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: " تمارى الناس في هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً ".
وكل هذه الأحاديث صحيحة، بعضها في الصحيحين، وبعضها في صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما؛ وإن كان قد أعل بعضها، فلا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض، وكلها يصدق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق عليه؛ وهذا بحمد الله هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2130).
2 النسائي: الصيام (2126), وأبو داود: الصوم (2326), وأحمد (4/314).
3 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2129), وأحمد (1/221), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683).
4 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2129), وأحمد (1/226), والدارمي: الصوم (1683, 1686).(6/296)
ص -281- ... العلم الذي يعرفه العلماء من أهل السنة والجماعة، الذين يعرفون بالعلم ويعرف بهم، وقد حفظوه بحمد الله على من بعدهم، لكن لا يهتدي له إلا من ألهمه الله رشده ووقاه شر نفسه.
وأما الذي أسف عليهم هذا الرجل المتقدم ذكره 1 من أشباهه، فإنهم من جهلهم وضلالهم ينكرون هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، حسداً وبغياً، وظلماً وجهلاً وعناداً، وهم فلان، وفلان، فالحمد لله على معرفة الخطإ من الصواب، والتمسك بالسنة والكتاب.
وأما ما احتج به بعضهم من أن بعض الصحابة صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في مطلع الهلال غيم أو قتر، فالجواب عنه من وجوه: أما ما ذكره عن ابن عمر: أنه صامه، فإنه لم يوجبه، ولا قال أحد إنه قال بوجوبه .
الوجه الأول: أنه قد صح عنه الحديث بلفظ: " فاقدروا له ثلاثين يوماً " 2، والحجة فيما روى لا فيما رأى.
الوجه الثاني: أن قول الصحابي حجة عند بعض العلماء كالإمام أحمد، ما لم يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره فليس بحجة عند الجميع؛ فكيف إذا خالف نصوص الأحاديث، والمرجع فيما اختلفوا فيه إلى الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان أسعد بالدليل فهو المصيب، وقوله هو الحق; والعمل على ما وافق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في صفحة 267.
2 البخاري: الصوم (1907), ومسلم: الصيام (1080), وأبو داود: الصوم (2320).(6/297)
ص -282- ... الدليل، وهذا هو الذي أمرنا الله به وفرضه علينا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59]. وبهذه الآية العظيمة ختمنا الجواب، لما فيها من فصل النزاع في كل دعوى ادعى بها كل مدع، وبالله التوفيق.
قال ابن رجب في كتاب اللطائف، في المجلس الثالث في صيام آخر شعبان، بعد كلام له على حديث عمران بن حصين: في صيام آخر شعبان، له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصام بنية الرمضانية احتياطياً لرمضان، فهذا منهي عنه. والثاني: أن يصام بنية النذر، أو قضاء، أو كفارة، أو نحو ذلك، فجوزه الجمهور، ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم. والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر - إلى أن قال - وفرق الشافعي، والأوزاعي، وأحمد وغيرهم، بين أن يوافق عادة أو لا - إلى أن قال - ولكراهة التقدم قبله، لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهى عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذراً مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم، وكان من السلف من يتقدم للاحتياط، والحديث حجة عليه - إلى أن قال - المعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل(6/298)
ص -283- ... بين الفرائض والنوافل، مشروع، إلى آخر كلامه.
وأجاب أيضاً: ولا يخفى أن صيامه من مفردات مذهب الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه، وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل على وجوبه، وقال: يحتمل الاستحباب والإباحة. وللإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي مصنف ذكر فيه ما ورد فيه من النهي عن صيامه، وذكر في بعض روايات ابن عمر: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وذكره عن ابن عمر أيضاً مرفوعاً، وهذا يدل على المنع من صيامه. والأحاديث صحيحة مقطوع بصحتها.
والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومن أخذ عنه. وينهون عن ذلك لوجوه أربعة:
الأول: أن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان، إلا بيقين.
الوجه الثاني: النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومن صام فقد تقدم رمضان.
الوجه الثالث: الأحاديث التي فيها التصريح بالنهي عن صيامه، وذلك قوله: " فأكملوا العدة ثلاثين " 2؛ وفي بعضها تخصيص شعبان.
الوجه الرابع: حديث عمار: " من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم ".
وسئل أيضاً عن قوله: إذا حال دون منظره غيم أو قتر، ويستدل بقوله في الحديث: " فإن غم عليكم فاقدروا له " 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909).
2 البخاري: الصوم (1907).
3 البخاري: الصوم (1900), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122), وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).(6/299)
ص -284- ... ويقول: إن القدر: التضييق، مثل قوله:{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } [سورة الطلاق آية: 7]، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صام، وصامه بعض الصحابة.
فأجاب: هذا القول أخذ به بعض الحنابلة وبعضهم مع الأئمة الثلاثة، وأكثر العلماء لا يقولون بوجوبه ولا باستحبابه؛ قال في الإنصاف: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه: لا يجب، قال الشيخ: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ولا أصل للوجوب في كلامه، ولا كلام أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، أنه صامه، إلا عبد الله بن عمر احتياطاً، قاله ابن القيم، وذكر أن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنكر عليه صيامه. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله تعالى: وقد روى من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم الشك، منهم حذيفة وابن عباس. ونص الإمام أحمد في رواية المروذي: أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم الشك، وهذا القول صحيح بلا ريب.
قال الحافظ: وليس في الحديث الذي استدل به المتأخرون دليل على وجوبه أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى اقدروا: احسبوا له قدره، وذلك بثلاثين يوماً، فهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من الضيق في شيء، والدليل على ذلك، ما في صحيح مسلم عن ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1 أي: فأكملوا العدة ثلاثين، وابن عمر هو الذي روى حديثهم الذي احتجوا به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/300)
1 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141 ,2142, 2143), وأبو داود: الصوم (2319, 2320), وابن ماجة: الصيام (1654), وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).(6/301)
ص -285- ... وصرح في هذه الأحاديث بمعناه، وهو إكمال شعبان ثلاثين.
واستدل الأئمة على تحريم صيامه بحديث عمار، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، عن طلحة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، وأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " 1. قلت: وهذا عند أهل الحديث في حكم المرفوع، وقد جاء صريحاً في حديث أبي هريرة: الأمر بإكمال عدة شعبان ثلاثين إذا غبى الهلال، وهو عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 2.
قال الحافظ: وهذا الحديث لا يقبل التأويل، وذكر أحاديث كثيرة، منها: ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه أتم ثلاثين يوماً ثم صام " 3، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته صيام الثلاثين إذا غم الهلال ليلته. فهذا وغيره من الأحاديث بين أن الحجة مع من أنكر صيام ذلك اليوم إذا غم الهلال ليلته، وأن السنة إكمال شعبان ثلاثين إذا لم ير الهلال؛ وهو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي له رسالة في تصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (686), والنسائي: الصيام (2188), وأبو داود: الصوم (2334), وابن ماجة: الصيام (1645), والدارمي: الصوم (1682).
2 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).
3 أحمد (6/149).(6/302)
ص -286- ... صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون منظره غيم أو قتر، فلا يجوز أن الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد تترك، لقول مقلد، بلا حجة ولا برهان، وأن هذا يصير هو العلم، وأن ما قرره الحفاظ المحققون بالأدلة، يقدم عليه قول مرعي ومن فوقه، أو دونه.
وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي صحح صيام يوم الشك من رمضان، فعجباً لك! كيف يمكن مرعي أو غيره يصحح ما قد ثبت فيه من رواية عمار بن ياسر: " من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم "، والحديث الذي في الصحيح: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وحديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2؛ فأمر صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان مع الإغماء، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وسياق الحديث الثاني في شعبان، وعمومه يتناول غيره من الشهور، كشهر ذي الحجة والمحرم، والكلام في هذا المحل يطول.
وأيضا، كيف يوزن مرعي بشيخ الإسلام، وابن مفلح صاحب الفروع، والحافظ محمد بن عبد الهادي، وهم المحققون المتبعون، والحجة معهم؛ فلهذا لا يسع أحداً يترك ما حققوه بالدليل، ويميل إلى غيرهم. وفي الشرح الكبير والمغني، ما ينصر قول هؤلاء الأئمة والحفاظ، فسبحان الله ما أكثر من ضل فهمه! والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909).
2 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأحمد (1/226), والدارمي: الصوم (1683).(6/303)
ص -287- ... وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور، قال: وأما قوله في مسألة صوم يوم الثلاثين، إذا حال دون المنظر غيم أو قتر، وزعمه أن هذه المسألة سلكها إمام السنة، إلى آخر ما قال في مدح الإمام أحمد، فيناقش أولاً في اللفظ، ويقال: قوله: هذه المسألة سلكها إمام السنة، عبارة نبطية ليست بعربية؛ فإن المسألة لا تسلك، إنما يسلك الطريق، والمذهب ونحوهما، ثم مدح الإمام أحمد، وقول أبي داود وغيره في تفضيله، والثناء عليه كله حق؛ لكن لا يفيد هنا، ولا يدل على أنه لا يقول إلا صواباً، فإن هذا لا يثبت إلا للمعصوم، وقد أفتى، رحمه الله، في مسائل معروفة، ورجع عنها، كالمنع من القراءة عند القبر، ولا يدعي عصمته من يعقل.
وأيضاً، فأتباع الأئمة يوردون في فضل أئمتهم مثل هذا، والمخالف يورد في فضل من لم يصم هذا اليوم ما هو أبلغ؛ فإن جمهور الصحابة والتابعين لم يصوموا، فإن كان هذا حجة فهم أسعد بها للقوة والكثرة، وإن لم يكن حجة فهذه المقدمة التي قدمها في مدحه لا دليل فيها على محل النّزاع كما هو ظاهر. ثم الخصم لا يسلم لكم أن أحمد قال بالوجوب، وليس معكم من الأدلة على ذلك دليل يجب التسليم له.
وسيأتيك نقض أدلته، ومعارضتها دليلاً دليلاً. وقد ذكر عن أحمد في هذه المسألة سبع روايات، تأتيك إن شاء الله(6/304)
ص -288- ... مفصلة، كل رواية قال بها طائفة واحتجوا لها. وترجيح من قال بالوجوب ليس دليلاً على من قال بالجواز ورجحه، أو الإباحة ورجحها، أو التحريم ورجحه، ولا يحتج بقول على قول؛ والحجة في الدليل. ومع من منع صومه من الأحاديث النبوية، التي تعددت طرقها ما لا يدفعه دافع، ولا يقاومه مقاوم، ولا يعارضه معارض، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
ونبدأ أولاً بذكر الأحاديث النبوية، الواردة في خصوص هذه المسألة، ثم نأخذ في نقض أدلة الخصم مفصلة.
فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين في الحديث، شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. فأي عذر يبقى في ترك العمل بهذا بعد بلوغه؟
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، من رواية الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909).(6/305)
ص -289- ... عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " 1. قلت: فهذا فعله صلى الله عليه وسلم والأول أمره، فثبت بهذا أنه ترك صيامه، وتركه سنة. قال الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الهادي: هذا حديث صحيح صريح في المسألة لا يقبل التأويل أصلاً. انتهى.
وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا إسناد صحيح، قال ابن عبد الهادي: كذا قال الحافظ أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله؛ فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح، ومعاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه ابن مهدي والإمام أحمد، وأبو زرعة وغيرهم، قاله الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا شهر شعبان ثلاثين يوماً، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان "، هذا لفظ أبي داود الطيالسي؛ قال ابن عبد الهادي: وهذا الحديث صحيح، ورواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيح، قال الترمذي: هو حديث صحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الصوم (2325).(6/306)
ص -290- ... حسن، وهو صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه.
وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية أبي قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال: بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه قد رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا؛ ولا تصوموا يوماً قبله "، قال الحافط أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الذي لا يحتمل التأويل. قلت: ففي هذا الحديث نهيه عن صومه نهياً صريحاً.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ قال الحافظ ابن عبد الهادي: وهذا الحديث رواته كلهم مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال، وفي لفظ رواه النسائي مرسلا " فإن غم فأتموا شعبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2126, 2127, 2128), وأبو داود: الصوم (2326).(6/307)
ص -291- ... ثلاثين، إلا أن تروا الهلال قبل ذلك " 1.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي والدارقطني، من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم، ألا وإنهم حدثوني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين " 2.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 3، وهذا إسناد صحيح.
ومنها: ما رواه الحافط أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس، ويقول القائل: ليس هو من رمضان، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين"، وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلماً فيه، فإنه يصلح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب، قاله الحافظ ابن عبد الهادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2128).
2 النسائي: الصيام (2116).
3 البخاري: الصوم (1909), ومسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123), وابن ماجة: الصيام (1655), وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497), والدارمي: الصوم (1685).(6/308)
ص -292- ... ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث ابن إسحاق عن صلة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم "، قال الحافظ ابن عبد الهادي: وقد روي من غير وجه مرفوعاً النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك؛ وهذا القول صحيح بلا ريب، فإن هذا اليوم يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وهو الأصل.
إذا عرفت هذا، فالمخالف ادعى وجوب صومه من رمضان، واحتج بأمور، منها: أنه زعم أنه مذهب الإمام أحمد، رحمه الله، ومنها: أنه زعم أنه قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت الصديق وابن العاص وأبي هريرة وأنس بن مالك. واحتج على أن عمر قال بوجوبه بما رواه العكبري: عن ثوبان عن أبيه عن مكحول، أن " عمر كان يصوم إذا كانت السماء مستغيمة ليلة الثلاثين من شعبان، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه بالتحري ". واحتج لما نسبه إلى علي بما روى عن فاطمة بنت حسين أن " علياً كان يصومه(6/309)
ص -293- ... ويقول: لأن أصوم يوماً من شعبان، أحب إلى أن أفطر يوماً من رمضان ".
واحتج لما نسبه إلى معاوية بما روي عنه، من قوله: " لأن أصوم يوماً من شعبان أحب الي أن أفطر يوماً من رمضان "، واحتج لما نسبه إلى عمرو بن العاص، بما روي أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان إذا كانت غيماً، واحتج لدعواه على أبي هريرة بقوله: "لأن أتعجل في رمضان بيوم، أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني "، واحتج لما نسبه إلى عائشة أم المؤمنين أنها كانت تصوم، وكذا عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه إذا كانت غيماً، ولما نسبه إلى ابن عمر بأنه كان يصومه، إذا حال دون منظره سحاب أو قتر.
ثم قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا كان في السماء سحاب أو علة أصبح صائماً، قال: قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به، فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به ويجزيه، ثم ذكر كلاماً يحتج به على فضل بعض الصحابة، ثم ادعى أن يوم الشك إذا كانت السماء مصفية، ليس عليها غيم ولا علة، ثم زعم أن أحمد نص على وجوب صوم يوم القتر أو الغيم، وذكر أن الخلال، وأبا بكر عبد العزيز، نصا عليه، والقاضي أبو يعلى، والخرقي، والزركشي، وابن قدامة، حكى الوجوب رواية(6/310)
ص -294- ... ثم حكى رواية عن أحمد بعدم الوجوب والإجزاء، وأجاب عنه بأن النفي هنا إثبات في الرواية الأولى، فجعل النفي هو الإثبات، وذكر عبارة الإنصاف وقوله: إن حال دون المنظر غيم أو قتر ليلة الثلاثين، وجب الصيام بنية رمضان، وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه.
ثم ذكر كلام أبي العباس ابن تيمية، في عدم الوجوب، وقد تصرف في العبارة، وستأتيك على وضعها في الجواب، ثم نقل عن ابن مفلح في فروعه روايتين، الوجوب والجواز. ثم زعم أن كلام شيخ الإسلام دائر بين الاستحباب والإباحة، وساق كلاماً له في المسألة فيه تفصيل وحكاية للأقوال، ثم تعقبه بكلام يوسف بن عبد الهادي، صاحب جمع الجوامع، وليس هو الحافظ شمس الدين، واعترض فيه على الشيخ في قوله: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، وزعم أنه من تجاهل العارف، واستدل بأن أحمد كان يصوم بنية رمضان، قال: ولا شك أنا إذا حكمنا بالصوم بنية رمضان، فالصوم حكمه حكم الصوم برؤية الهلال، قال: وكلام أحمد إن لم يكن فيه نص على الوجوب، فإن معناه الوجوب، قال: والنظر في المعاني لا إلى الألفاظ. ثم زعم المفتي أن ابن مفلح لم يرض كلام الإمام ابن تيمية، وأنه قال بعده: كذا قال، ثم جعل صاحب جمع الجوامع من أصحاب الشيخ، وأين هو من زمن الشيخ ووقته؟ فاشتبه عليه(6/311)
ص -295- ... الأمر، ولم يميز بين هذا، وبين صاحب الشيخ الذي هو محمد بن أحمد.
ثم ذكر عن أحمد، رحمه الله، كلاماً في آدم بن أبي إياس، وأنه انفرد بهذه اللفظة، يعني: أكملوا عدة شعبان ثلاثين، عن أصحاب شعبة، غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن عيسى، وابن يونس وشبابة وعاصم بن علي، والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وابن داود. وذكر عن ابن الجوزي: أنه يجوز أن يكون هذا زيادة من آدم تفسيراً للحديث، وإلا فليس للزيادة وجه، ثم قال ابن الجوزي: فيحتمل رواية الجماعة في قوله: " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين " 1 على آخر الشهر أقرب المذكور، وطعن في رواية محمد بن زياد، بأن سعيد بن المسيب خالفه، فرواه عن أبي هريرة بلفظ: " فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين " 2، وزعم أن هذه الرواية تبين المراد من الأحاديث، وأنه قد قيل: إن ذكر شعبان من تفسير ابن أبي إياس.
ثم ذكر حديث ابن عمر: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له " 3، وأن معنى اقدروا: ضيقوا، ويجوز أن يكون معناه: اعلموا، قال: وابن عمر راوي الحديث هو أعلم بمعناه، واحتج بقوله: " الشهر تسع وعشرون " 4 وأنه كالتوطئة لما بعده، قال: ولأن الصوم ثابت في ذمته بيقين، ولا يبرأ إلا بصوم ذلك. ثم ذكر كلاماً معناه ذم خصمه، وأنه يفتري على شيخ الإسلام، وأن ما قاله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (684), وأحمد (2/438, 2/497).
2 مسلم: الصيام (1081), والترمذي: الصوم (684), والنسائي: الصيام (2119), وابن ماجة: الصيام (1655), وأحمد (2/259, 2/263, 2/281).
3 البخاري: الصوم (1900), وأحمد (2/145), والدارمي: الصوم (1684).
4 البخاري: الصوم (1907), وأبو داود: الصوم (2320), ومالك: الصيام (634), والدارمي: الصوم (1684).(6/312)
ص -296- ... هو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر شعراً له في مدح الإمام أحمد،، يستحي من ذكره عند أهل الفن، وأنه راج على أخدانه وأصحابه؛ ومناقشته فيه تطول، وليس تحتها كبير فائدة كقوله:
أرى زماني يقتادني لبطاني ... يعفر مني بالجولاني
فانظر ما في هذا البيت، وما تركنا أعجب منه، وهو فاسد المعنى، فإن التدبير والتقدير أخذ بالناصية، لا قود بالبطان، وفيه النسبة إلى الزمان، وفي الحديث: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " 1، والجولان يطلق ويراد به جولان الذهن والفهم، وعدم ثباته واستقراره، ويراد به الحركة الحسية والتردد فيها. ثم لفظة "الجولان" فيها بحث يتعلق بالصحة والفساد، يعرف من كلامهم في أسماء المصادر. وقوله: أرى زماني يقتادني لبطاني، إن البطنة هي التي أوردته الموارد، وإنه يؤتى من جهتها، لأن اللام في قوله: لبطاني، للتعليل، وما أحسن ما قيل شعراً:
وإنك مهما تؤت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ثم أكثر بعد هذا من النظم والنثر، والتشكي من الجهل، لقلة العلم وتدريس الجهال، وأكثر من هذا الضرب بكلام ركيك، وأنهم دخلوا تحت قوله تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [سورة التوبة آية: 31].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246), وأحمد (2/395, 2/491, 2/499).(6/313)
ص -297- ... والجواب من طريقين: مجمل ومفصل؛ أما المجمل: فالصحابة والتابعون وأئمة الإسلام، مجمعون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالواجب الأخذ بها، وترك ما سواها من أقوال أهل العلم، من الصحابة أو غيرهم؛ قال ابن عبد البر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم، أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان؛ قال هذا أو نحوه.
وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وتقدم قول عمر بن عبد العزيز: " لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وعن الشافعي أيضاً مثله. وقد نهى الأئمة، رضي الله عنهم، عن تقليدهم، وأمروا بالنظر والاحتياط للدين؛ قال المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي، مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال أحمد لأبي داود، لما سأله أن يقلد الأوزاعي أو مالك، قال: لا تقلد دينك أحداً، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعين بعد، الرجل فيه مخير. وقال: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا، حتى يعلم من أين قلنا. وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب؛(6/314)
ص -298- ... فكيف من ترك قول الله ورسوله، لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟
وقد أراد هارون الرشيد حمل الناس على الموطإ، فنهاه مالك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلدان، فخاف أن يكون معهم من العلم ما لم يبلغه. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وسأله رجل عن حديث، فأخبره أنه قد ثبت، فقال: أتأخذ به يا أبا عبد الله؟ قال: أرأيت في وسطي زناراً؟ وهذا أدلته كثيرة، وأظن الخصم يسلمه، ومن لم يسلمه فكلام الأئمة فيه وفي تكفيره لا يخفى.
وأما استدلاله بأن الصحابة، عمر، وعلي، ومن ذكر بعدهم، قد صاموه، فالجواب عنه: أن الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي، قال: لم يثبت وجوب ذلك عن أحد من الصحابة، وأشهر ما في الباب ما نقل عن ابن عمر، وهو غير دال على الوجوب. وما نقل عن غيره، فهو إما غير ثابت عنه، وإما غير دال على الوجوب.
فأما ما نقل عن عمر، فهو يروى عن مكحول، وبين مكحول وبينه مفازة طويلة؛ فهو منقطع، ولو ثبت فهو فعل ليس فيه أمر بالصوم.
وما روي عن علي، فهو منقطع، وهو غير صريح في الوجوب، وفاطمة بنت حسين لم تدرك علياً. والمنقول عن(6/315)
ص -299- ... معاوية منقطع أيضاً، فإنه من رواية مكحول، وابن حليس وأينهما من معاوية؟ وكذا ما يروى عن عمرو بن العاص منقطع، فإن ابن هبيرة لم يدرك عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة، وليس في ذلك دلالة على الوجوب، ولأنه مجرد فعل، والمروي عن أبي هريرة ليس فيه إلا الاحتياط وترجيحه.
وما روي عن عائشة، قال أحمد في إسناده: أخطأ فيه شعبة، وعبد الله بن قيس، وليس فيه إلا استحباب الاحتياط، وكذا ما نقل عن أسماء. فقد عرف أن ما نقل عن الصحابة، بعضه لم يثبت، وما ثبت فليس فيه دلالة على الوجوب، ولو فرضنا ثبوت الوجوب، لم يكن فيه حجة مع مخالفة غيره، ومع مخالفة الأحاديث الصحيحة.
وأما احتجاجه بأنه مذهب الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد في هذه المسألة سبع روايات:
إحداها: أنه يجب الصوم جزماً أنه من رمضان، وهذا لم يثبت عن الإمام أحمد، وهو من أضعف الأقوال في المسألة، أو أضعفها، قاله شمس الدين بن عبد الهادي. وقال شيخ الإسلام: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ومن تأمل نصوصه وكلامه عرف أنه لم يوجبه.
والثانية: أنه يجب الصوم ظناً أنه من رمضان، وهذا لا دليل عليه.
والثالثة: أنه يستحب الصوم احتياطاً، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ وعلى هذا حمل فعل ابن عمر، وفعل الإمام أحمد، وقد قيل: إن هذا القول هو المشهور عن(6/316)
ص -300- ... أحمد، وهو مذهبه.
الرابعة: أنه يجوز الصوم.
والخامسة: يكره.
والسادسة: يحرم ولا يجوز، كقول الجمهور; قال الشافعي: لا يجوز صيامه من رمضان ولا نفلاً، بل يجوز صيامه نذراً وكفارة، ونفلاً يوافق عادة. وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز صيامه من رمضان، ويجوز صيامه مما سوى ذلك.
والرواية السابعة: أنه يرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر، كما هو قول الحسن وابن سيرين؛ قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام والناس، قال حنبل: سألوا ابن عمر، فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء، فقال: " أف، أف، صوموا مع الجماعة ".
إذا عرفت هذا، وأن كل رواية عليها طائفة من أكابر الحنابلة، فحينئذ يعرف بطلان قوله: قال الخلال، قال أبو بكر عبد العزيز، قال القاضي، قال الخرقي، قال الزركشي؛ وهؤلاء تقابل أقوالهم بأقوال أمثالهم، وإذا احتج من خالفهم بجمهور الأمة والأئمة، صار له الحظ من القوة والصولة، وإذا قابلت بين أقوال جمهور الصحابة، وبين أقوال الموجبين للصيام، تبين لك الفرق، وإن جئتهم من أعلى واحتججت بما سبق من الأحاديث، بطل قولهم من أصله، وتهدمت أركانه، وإن كثر عددهم.
وقد اعترض صاحب الفروع ابن مفلح، رحمه الله، القول(6/317)
ص -301- ... بالوجوب، ونسبته إلى أحمد، ونص كلامه: وإن حال دون مطلعه غيم أو قتر أو غيرهما، وجب صومه بنية رمضان؛ اختاره الأصحاب، وذكروه ظاهر المذهب، وأن نصوص أحمد تدل عليه. ثم قال بعد هذا: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب، ولا أمر به، فلا يتوجه إضافته إليه; ولهذا قال شيخنا: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الأصحاب، واحتج الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر في الوجوب، وإنما هو احتياط قد عورض بنهي.
واحتجوا بأقيسة تدل على أن العبادة يحتاط لها، واستشهدوا بمسائل، وإنما هي تدل على الاحتياط فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل، كثلاثين من رمضان; وفي مسألتنا لم يثبت الوجوب، والأصل بقاء الشهر، وما ذكروه من أن الشك في مدة المسح يمنع المسح، إنما كان لأن الأصل الغسل، فمع الشك يعمل به، ويأتي هل يتسحر مع الشك في طلوع الفجر؟ إلى آخر العبارة.
وما ذكره عن شيخ الإسلام من أنه يرى الجواز والإباحة، فنعم، قال هذا، ولكن رد على من قال بالوجوب، ونسبه إلى الإمام أحمد; وقال ابن اللحام في الاختيارات: كان الشيخ يميل آخراً إلى القول بالكراهة، للأحاديث الواردة في ذلك. انتهى; فهذا كلام شيخ الإسلام، وكلام ابن مفلح، الذي شهد له العدل الزكي الإمام الورع شمس الدين ابن قيم(6/318)
ص -302- ... الجوزية، أنه ما تحت أديم السماء من هو أعلم منه بمذهب أحمد.
وقال العلامة ابن القيم، في أثناء كلام له في هذه المسألة: وكان إذا حال دون منظره ليلة الثلاثين غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولم يصم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل أمر أن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله وأمره، ولا يناقض هذا قوله: " فإن غم عليكم، فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدور، والمراد به إكمال عدة الشهر الذي غم، كما في البخاري: " فأكملوا عدة شعبان " 2. انتهى.
وأمثل ما احتج به من قال بالوجوب، قوله في حديث ابن عمر:"فاقدروا له " فاستدلوا على الوجوب، بأن حملوا هذه اللفظة في الحديث على التضييق، وقالوا: معناها: ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، وذلك يكون لتسع وعشرين، ومن هذا قوله تعالى:{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق عليه.
والجواب عنه على ما ذكره العلامة ابن القيم، والحافظ ابن عبد الهادي، وغيرهم من الحنابلة القائلين بعدم الوجوب، والجمهور، أن يقال: ليس في الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، فهو من قدر الشيء، وهو مبلغ كميته، وليس من التضييق في شيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1900), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122), وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).
2 البخاري: الصوم (1909).(6/319)
ص -303- ... قال بعضهم في الآية: ليس المعنى بقوله:{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [سورة الطلاق آية: 7] التضييق، بل معناه: أن يكون رزقه بقدر كفايته، لا يفضل منه شيء، والله تعالى يرزق العبد ما يسعه، ويرزقه ما يفضل عنه؛ فالأول هو الذي قدر عليه رزقه، أي بقدر كفايته، والثاني هو الغني الموسع عليه.
وإن قيل: بأن معناه التضييق، فلا يتعين النقص، فإن التضييق لازم لمعنى التقدير، بمعنى أنه لا يزاد ولا ينقص عما قدر له، فيكون التضييق عدم دخول غير ما قدر، فإذا جعل الشهر ثلاثين، فقد قدر له لا يدخل فيه غيره; وهذا هو التضييق. انتهى. وهذا يتعين القول به، لما روى مسلم من حديث ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1، وما رواه البخاري من حديث ابن عمر أيضاً: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " 2.
فتعين ما قاله الجمهور، لأن المجمل يحمل على المفصل، والمشتبه على المحكم؛ وإذا تبين مراده صلى الله عليه وسلم تعين ووجب، وهو موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، لا يقال إن شعبان غير مراد، ولأنه قد نص عليه فيما تقدم من الأحاديث، ولأن اللام في قوله: " فأكملوا العدة " في رواية البخاري للعهد، أي عدة الشهر، ولم يتقدم رمضان ذكر يوجب أن تتعين إرادته، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر للإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان أو غيره، إذ لو كان شعبان غير مراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/320)
1 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302), ومسلم: الصيام (1080), والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141, 2142, 2143) , وأبو داود: الصوم (2319, 2320), وابن ماجة: الصيام (1654), وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145), ومالك: الصيام (633, 634), والدارمي: الصوم (1684).
2 البخاري: الصوم (1907), وأبو داود: الصوم (2320), ومالك: الصيام (634), والدارمي: الصوم (1684).(6/321)
ص -304- ... بينه، وذكر الإكمال عقب قوله: صوموا وأفطروا، فشعبان وغيره مراد من هذا، فرواية من روى: " فأكملوا عدة شعبان " 1 موافقة لرواية من قال: " فأكملوا العدة " 2، بل هي مبينة لها.
ويشهد لهذا بعض ألفاظ حديث ابن عباس: " فإن حال بينكم وبينه سحاب، فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، وهذا صريح أن التكميل لشعبان، كما هو لرمضان. وقد روى الإمام أحمد، رحمه الله، عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال: " سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه "؛ وقد تقدم: أن الإمام أحمد نص في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال، يوم شك.
وأجاب أيضاً: وأما مسألة السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال ليلة الثلاثين دون الهلال غيم أو قتر، فالقائلون بصومه وجوباً، أو استحباباً، يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان. والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه، والحجة لمن منع صومه مطلقا، ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ". انتهى. وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث، أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس كائناً من كان. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1909).
2 البخاري: الصوم (1907).
3 النسائي: الصيام (2129), وأحمد (1/226), والدارمي: الصوم (1683).(6/322)
ص -305- ... قال الشيخ سليمان بن سحمان: وقرر - يعني الشيخ عبد اللطيف - في مسألة صيام يوم الشك: ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وأن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس؛ فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه، ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فيا ليت شعري، أين وجدوا ذلك؟! وأي الكتب اعتمده أولئك؟! نعم قد وجدوا في بعض الروايات، الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟!
وإذا قيل لأحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم، فليت شعري، كيف ساغ لهم تقليده، رحمه الله، في هذه وغيرها من المسائل؟! ولم يسغ لهم تقليده في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. إذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " 1؛ والمقصود من هذا الكلام: إنكار إيقاع بعضهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).(6/323)
ص -306- ... بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات. انتهى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن اختلاف الأهلة بالكبر... إلخ؟
فأجاب: وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها، فلا حكم له، لأن ذلك يختلف اختلافاً كثيراً.
وكتب الشيخ حمد بن عبد العزيز للشيخ عبد الله بن فيصل: أشكل على بعض الإخوان كبر الهلال، قال: فكاتبنا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهذا جوابه تشرف عليه، لما فيه من الكفاية.
قال: وتذكر أنه حصل إشكال في الهلال لارتفاع منْزلته، وأنت فاهم حفظك الله غربة الإسلام، وما حصل من غالب الخلق، وما وقع في أنفسهم من الحرج عند الوقوف على الأمر والنهي، والعبادات مبناها على الاتباع، والمشرع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن أراد الاحتياط لنفسه في أمر العبادات، بأمر لم يحتط به الرسول، ولم يحكم به، فلازم اعتقاده وفعله ومقاله: نقص البلاغ من المشرع، وهذه مصيبة عظمى، وداهية كبرى. علق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوم والفطر بالرؤية أمراً(6/324)
ص -307- ... ونهياً، لا على المنازل وكبر الأهلة، قال صلى الله عليه وسلم في الأمر: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " 1، وقال في النهي :" لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه " 2. فالله المستعان.
وقد ابتلينا بمن بنى أمره على التلبيس والتشويش، والمخالفة أصلاً وفرعاً، حتى حكموا بالصوم بارتفاع المنْزلة، وأوجبوا ذلك على الناس، وهم قد دخلوا في العبادة بصيام شك؛ فالزم السنة واصبر نفسك،{وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [سورة الروم آية: 60].
[ رؤية الهلال ]
سئل بعضهم: ما قولكم، رحمكم الله، إذا رأى الهلال أهل بادية وأهل بلدة أخرى، هل يلزم من لم يره الصيام؟ وما الدليل على ذلك؟ والمحتج بحديث كريب بأن الصيام على من لم يره، مصيب أم لا؟ أفتونا، أثابكم الله.
الجواب: الحمد لله الموفق للهدى الملهم للصواب، فقولنا، معشر المسلمين: أن الهلال إذا رآه أهل بادية، ولو رجلاً واحداً، أو أهل بلدة، ولم يره أهل البلدة الأخرى، لزم الجميع الصيام؛ ومن أفطر لزمه القضاء.
والدليل على ذلك: هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفعله: روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رأى الهلال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).
2 البخاري: الصوم (1907).(6/325)
ص -308- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال أذن في الناس، فليصوموا غداً " 1، رواه الخمسة. وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته 2. وعن الحارث بن حاطب، قال: " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته ".
والأحاديث في هذا الباب صريحة: أنه إذا لم ير الهلال إلا رجل واحد، لزم الناس الصوم، وقوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته " 3 هذا أمر صريح لجميع الناس بالصوم، لأن الواو في قوله: " صوموا " ضمير الجميع، وقد رئي؛ ولا يعارض قوله وفعله صلى الله عليه وسلم إلا مكابر معاند، مجترئ على هتك حرمات الله، أسأل الله العافية.
والمحتج بحديث كريب، ليته استتر بسكوته، فحديث كريب ليس فيه حجة على أن أهل الناحية الواحدة، والقطر الواحد، إذا رآه بعضهم فلا يلزم الآخرين الصوم، ما أدري من أين له الدلالة على ذلك؟ ولكن مَن ادعى ما ليس فيه كذبته شهود الامتحان. وهذا القول ما يخرج من إنسان اطلع على أحكام الشريعة، وفهم معانيها؛ فودي أنه يتوب إلى الله تعالى، من مكاذبة النفس والهوى، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والهوى يضل عن سبيل الله، ويهوي بصاحبه إلى النار.
فنقول: أما حديث كريب: " لما قدم من الشام إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (691), والنسائي: الصيام (2113), وأبو داود: الصوم (2340), وابن ماجة: الصيام (1652), والدارمي: الصوم (1692).
2 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).(6/326)
3 الترمذي: الصوم (688), والنسائي: الصيام (2124), وأبو داود: الصوم (2327), وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367), ومالك: الصيام (635), والدارمي: الصوم (1683, 1686).(6/327)
ص -309- ... المدينة، سأله ابن عباس، وأخبره: أنا رأينا الهلال ليلة الجمعة، وصام الناس. وقال ابن عباس: نحن رأيناه ليلة السبت، فما نزال نصوم حتى نراه، أو نكمل العدة ".
هذا المعترض، من أين فهم الدلالة على عدم وجوب الصوم على قوم رأى الهلال بعضهم؟! وإنما الخلاف بين العلماء في الأقطار المتباينة، كالشام، والحجاز، والعراق، واليمن، إذا تباينت مطالعها: فبعض العلماء يقولون: لأهل كل قطر حكم، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، وأرباب الهيئة.
لكن الاختلاف ينبني على قولين: الهلال هو: اسم لما يظهر في السماء وإن لم يره الناس، أو لا يسمى هلالاً حتى يستهل ويظهر بين الناس، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره؛ ذكر ذلك تقي الدين ابن تيمية، قدس الله روحه.
فأما من قال: هو اسم لما يظهر في السماء، يحكم بوجوب الصوم على أهل الدنيا، الذين يبلغهم ذلك بشهادة رجل واحد.
وأما من قال: هو اسم لما يستهل ويعلمه الناس، يقول بوجوب الصوم على أهل تلك الناحية، والفطر كلهم، وعلى من اتحد مطلعهم، كمكة ونجد وعمان؛ والكلام على هذا يطول ونحن أعجل من ذلك.
وأما قول القائل: لأهل كل بلد رؤيتهم، فهذا كلام غير(6/328)
ص -310- ... صحيح، ولا عليه عمل، ولا رأيناه في كتب الحديث؛ أفلا يتقي الله هذا المعارض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله بقول كريب، فأي دلالة في حديث كريب؟! لكن نقول: من لم ينفعه علمه ضره جهله.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن قراءة آيات الصيام، أول ليلة من رمضان في العشاء؟
فأجاب: لا أعلم لهذا أصلاً، وإنما استحب أحمد في رواية عنه: قراءة سورة القلم في العشاء الآخرة أول ليلة من رمضان، واستحبه الشيخ تقي الدين; وأما قراءة آخر سورة المائدة، فلا علمنا أحداً استحبه.
وسئل: عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيدوا؟
فأجاب: أما إخبار مخبر أن أهل البلاد الفلانية أفطروا يوم كذا، فلا بد من شهادة اثنين; وهذا فيه تفصيل: إن كان البلد فيه قاض، فأخبر رجلان أن أهل البلد أفطروا كلهم وعيدوا، فالذي نرى الاعتماد على مثل هذا. وان كان البلد ليس فيه قاض، ولا يدرى عن سبب فطرهم، فلا أرى الاعتماد على فعلهم.
وسئل: عن كتاب الحكم برؤية الهلال؟
فأجاب: الذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في(6/329)
ص -311- ... ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رئي هلال رمضان بمكان، لزم جميع الناس الصوم؛ وإنما يثبت ذلك غالباً في حق غير أهل موضع الرؤية، بإخبار الثقات فرعاً عن الأصل، وخطوط القضاة؛ بل أهل موضع الرؤية ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بعضاً عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل؛ فإذا تقرر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذلك كتاب القاضي، لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلا فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة.
وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان، قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا يقبل فيه شهادة الفرع، مع إمكان شاهد الأصل؛ فدل كلامه على قبول شهادة الفرع مع الإمكان، ونظّره صاحب الفروع، بقوله: كذا قال. والذي يظهر لي: أن تنظيره إنما هو لاعتباره لقبول شهادة الفرع، مع عدم إمكان شاهد الأصل، وكما قدمنا: أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه، ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع: عند قول الماتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله تعالى، كزنى ونحوه، قال الشارح: وكالعبادات، ووجه ذلك: أنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه.(6/330)
ص -312- ... قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة، لا يحكم فيها إلا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم إجماعاً، قال في الفروع عقيبه: فدل على أن إثبات سبب الحكم، كرؤية الهلال، والزوال، ليس بحكم... إلخ، فدل ذلك: أن كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال، ليس حكماً في عبادة، ولا إثباتاً لها، وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها؛ وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان مثلاً، برؤية الهلال، ففرع على الأصل، لا فتوى.
وأفتى أيضاً، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره، إن شاء الله تعالى.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: وما جرى من البحث في مسألة الهلال، راجعت كلام بعض العلماء، وأحببت نقله لك، والمذاكرة معك. فقال في المغني: فصل: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال، أفطروا وجهاً واحداً. انتهى. وذكر مثله في الشرح الكبير، وزاد: لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين، ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.، انتهى.(6/331)
ص -313- ... فأطلقا ولم يقيداه بالغيم، فظهر عدم الفرق; وحديث عبد الرحمن بن زيد الذي أشار إليه الشارح، هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهد شاهدان ذوا عدل، فصوموا وأفطروا " 1.
[ الصيام بشهادة الشهود ]
وقال في الفروع: فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذاً أحد، أفطر، وقيل: لا، مع صحوه; واختاره في المستوعب، وأبو محمد الجوزي، لأن عدم الهلال يقين، فيقدم على الظن، وهي الشهادة. انتهى. وبعد حكاية صاحب التصحيح ما تقدم في الفروع، وذكر الخلاف فيما إذا صاموا بشهادة واحد، وأن عدم الإفطار حينئذ هو أحد الوجهين، قال: وظاهر كلامه في الحاويين، أن على هذا الأصحاب، فإنه قال فيهما: ومن صام بشهادة اثنين ثلاثين يوماً، ولم يره مع الغيم، أفطر، ومع الصحو يصوم الحادي والثلاثين؛ هذا هو الصحيح. وقال أصحابنا: له الفطر بعد إكمال الثلاثين، صحواً كان أو غيماً. انتهى.
فقد ظهر: أن قول الأصحاب هو: الفطر فيها، إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، سواء كان صحواً أو غيماً، خلافاً لأبي محمد الجوزي، وخلافاً لتصحيح صاحب الحاويين; وقدمه في الفروع أيضاً، كما تقدم، وذكر بعده الصيام مع الصحو، بصيغة التمريض.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصر الشرح: وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2116), وأحمد (4/321).(6/332)
ص -314- ... أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد; وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما: لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم; وقال في المحرر للمجد: وإذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال، لم يفطروا، كالصوم بالغيم، وقيل: يفطرون كالصوم بقول عدلين. انتهى. فذكر الخلاف في الفطر برؤية الواحد، ولم يذكر خلافاً في الفطر برؤية اثنين، ولم يفرق بين الصحو والغيم.
وقال في شرح العمدة: مسألة: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم. واستقصاء عبارات الأصحاب في ذلك يصعب، ولا أعلم لأئمة هذه الدعوة شيئاً يخالف ذلك؛ بل الذي يظهر موافقتهم في ذلك; قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره إن شاء الله. انتهى. وإن وجدت ما يخالف ذلك عمن ذكرنا أو غيرهم فاذكره، لأن القصد من المذاكرة معرفة الحكم للجميع. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مثل كلام الأصحاب، إلا أنه أوضح وأجلى وأشمل، فلأجل وضوحه وشموله إكمال شعبان، وإكمال رمضان، أسوقه.
قال، رحمه الله، في شرح العمدة: أما إذا صاموا بشهادة(6/333)
ص -315- ... اثنين، ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال، أفطروا، لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين، وذلك جائز، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا " 1 يقتضي ذلك؛ ولا يقال قد تبين غلطهما، لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع، لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام قبل، فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإغمام الهلال، لم يفطروا، إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال بأن يشهد به شاهدان، أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين، قولاً واحداً، لما تقدم من الحديث والأثر. انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شهادة الأعراب؟
فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم بشهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية.
وسئل: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان... إلخ؟
فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر; وهو قول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2116), وأحمد (4/321).(6/334)
ص -316- ... مالك، وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 1. وقيل: يفطر سراً، وهو قول الشافعي؛ قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع.
وكذلك الحكم إذا رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد؛ وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين. واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر، لحديث: " وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا " 2، رواه أحمد وغيره.
وأجاب أيضاً: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين، فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع. وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعاً.
وأجاب أيضاً: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر.
وسئل: عن حديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصوم (697), وأبو داود: الصوم (2324), وابن ماجة: الصيام (1660).
2 النسائي: الصيام (2116), وأحمد (4/321).
3 الترمذي: الصوم (697), وأبو داود: الصوم (2324), وابن ماجة: الصيام (1660).(6/335)
ص -317- ... فأجاب: استدل به من يقول: إنه لو رأى هلال شوال وحده، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثر. وقيل: يفطر سراً، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة. وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم، اختاره الشيخ تقي الدين للحديث.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا رئي الهلال في بلد... إلخ؟
فأجاب: وأما الهلال إذا ثبت أنه رئي في بعض بلاد المسلمين، عند مفت يعمل بما أثبت، لزم صيام الغرة 1. وأما بعض النواحي التي ظاهر فيها الكفر، فلا يعمل بها.
[ متى يؤمر الصبي بالصيام ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المميز، متى يؤمر بالصيام؟
فأجاب: أما الصبي الذي لم يبلغ، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه، أي على تركه.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يجب على الصبي الصوم؟
فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها، ويألف الخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغرة: أول يوم من الشهر.(6/336)
ص -318- ... [ نزول دم الحيض قبل الغروب ]
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم قبل غروب الشمس، هل تعتد بصومها؟
فأجاب: صومها ذلك اليوم غير تام.
[ صيام رمضان في السفر ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهما الأجر والثواب: عن صيام رمضان في السفر، مع إقامة المسافر في الجهاد بإزاء العدو؟ فإنه ربما حصلت المشقة بالصيام، مع الإقامة في شدة الحر، والمشي في الشمس، فهل ترى جواز الصيام؟ وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على إقامة مدة غير معلومة؟ وعلى القول بعدم الوجوب، فهل ترى استحبابه، أم الجواز فقط؟ فإن كان في المسألة آثار عن السلف، وما يستدل به من حديث، فأفيدونا به، شكر الله سعيكم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما المسألة الأولى، وهي: هل يجوز الصيام في سفر الجهاد، مع الإقامة في بلد أو مكان، مدة غير معلومة المقدار، مع وجود مشقة الصيام، لا سيما في شدة الحر والمشي في الشمس؟ فيجوز الفطر والحالة هذه، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}إلى قوله:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 183-184]. فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل: أن المريض والمسافر يفطران في رمضان، ويقضيان عدة ما أفطرا من أيام أخر.(6/337)
ص -319- ... وقد ذكر المفسرون: أن هذه الآية الكريمة، أول ما نزل في فرض الصيام، ففرض الله فيه على المؤمنين الصيام، كما فرضه على من قبلهم، وبين أن ذلك أياماً معدودات، تسهيلاً على المؤمنين، بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثير التي تفوت العد؛ ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود، كناية عن القلائل، كقوله في أيام معدودة:{ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً } [سورة البقرة آية: 80]،{ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [سورة يوسف آية: 20]؛ هذا إن كان ما فرض صومه هنا رمضان، فيكون قوله هنا:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] عنى به رمضان؛ قال أبو حيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وجمهور المفسرين.
وإن كان ما فرض صومه، هو: ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك فرضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: عنى بها هذه الأيام؛ قال: وإلى هذا ذهب ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس وعطاء وقتادة، هي: أيام البيض. قال أبو حيان: قال أبو عبد الله، محمد بن أبي الفضل المريسي: في رأيي: الظلمات، احتج من قال: إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعد، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ }يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، وكان غيره.(6/338)
ص -320- ... وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183] يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله{شَهْرُ رَمَضَانَ } ، وإذا أمكن حمله على رمضان، فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ. وأما الخبر، فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الأمة. وما ذكر من التكرار، فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض، في رمضان، في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليه القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل إلى التخيير عن التضييق يعم الكل، حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنْزلة المقيم، من حيث تغير الحكم في الصوم؛ فبين أن حالة المريض والمسافر في الرخصة والإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم، لأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ} يدل على التخيير... إلخ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً.
وعلى كلا القولين: لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني، فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، وكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النّزول. انتهى كلامه.(6/339)
ص -321- ... وقال في الفتح، أول كتاب الصيام، لما ذكر احتجاج البخاري بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }الآية [سورة البقرة آية: 183]، قال: أشار بذلك إلى مبدإ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء، فأورد ما يشير إلى المراد؛ فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان، وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء، وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهم محمول على الندب، بدليل حصر الفرض في رمضان، وهو ظاهر الآية لأنه تعالى قال:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183]، ثم بينه فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ}
وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور، وهو المشهور عند الشافعية: أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية، أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية: حديث معاوية مرفوعاً: " لم يكتب الله عليكم صياماً " 1، وسيأتي في آخر الصيام. ومن أدلة الحنفية: ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة، المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ عند مسلم: " من أصبح صائماً، فليتم صومه " 2. قلت فلم نزل نصوم ونصوّم صبياننا وهم صغار، حتى فرض رمضان... الحديث، وحديث أم سلمة مرفوعاً: " من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " 3 الحديث، وبنوا على هذا الخلاف: هل يشترط في صحة الصوم الواجب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (2003), ومسلم: الصيام (1129), ومالك: الصيام (666).
2 البخاري: الصوم (1960), ومسلم: الصيام (1136), وأحمد (6/359).
3 البخاري: الصوم (2007), ومسلم: الصيام (1135), والنسائي: الصيام (2321), وأحمد (4/50), والدارمي: الصوم (1761).(6/340)
ص -322- ... بنية من الليل أم لا؟ انتهى. هذا ما يتعلق بقوله تعالى:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184].
ثم قال تبارك وتعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فأباح سبحانه للمريض والمسافر، الفطر في رمضان، لوجود المشقة فيه غالباً، رحمة منه وتفضلاً على عباده المؤمنين، وأوجب عليهما قضاء ذلك إذا زال المرض والسفر اللذان علق بهما جواز الفطر عند الجمهور، أو وجوبه عند بعض السلف والخلف، وأخبر أنه عدة من أيام أخر؛ فدل على عدم وجوب التتابع. ثم قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، فأباح سبحانه وتعالى للذين يطيقون الفطر، وإن كانوا صحيحين مقيمين، وأوجب عليهم فدية طعام مسكين لكل يوم؛ وهذا على القراءة المشهورة، وهي الموجودة في المصاحف اليوم، وهذا قول معاذ بن جبل، وغير واحد من السلف والخلف. وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع: أنها نزلت:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها. وروى أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة. وروى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }فقال ابن عباس: " ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ".(6/341)
ص -323- ... فحاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصوم عليه، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، وأما الشيخ الفاني الهرم، الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة أم لا؟ فيه قولان للعلماء; والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نص على جواز الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء فيما علمناه، مع وجوب القضاء عليهما.
فصل
وأما إن كان المسافر مقيماً مدة غير معلومة، بل لا يدري متى تنقضي حاجته، فمتى انقضت سار من مكانه إلى مقصوده الذي يريده، فهو في حكم السفر؛ على الصحيح من أقوال العلماء، بل قد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون. انتهى.
وقد اختلف العلماء في عدد المدة التي إذا أجمع المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام والصيام اختلافاً كثيراً: فالمشهور في مذهب أحمد: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من(6/342)
ص -324- ... إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر؛ قال في الشرح الكبير: المشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام، إذا نوى الإقامة فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة، رواه الأثرم وغيره، وهو الذي ذكره الخرقي; وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، ثم حكى هذا أبو الخطاب، وابن عقيل. وعنه: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وروي عن عثمان وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً، لأن الثلاثة حد القلة، لقوله عليه السلام: " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " 1، فدل أن الثلاثة في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دونه قصر؛ ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد، لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: " إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة، فأكمل الصلاة "، ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن علي قال: " يتم الصلاة الذي يقيم عشراً، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غداً ". وعن ابن عباس أنه قال: " يقصر إذا أقام تسعة عشر يوماً، ويتم إذا زاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين؛ قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا "، رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الحج (1352), والترمذي: الحج (949), والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1455), وأحمد (4/339), والدارمي: الصلاة (1511).(6/343)
ص -325- ... وقال? الحسن: " صل ركعتين ركعتين، إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة وصم "، وقالت عائشة: " إذا وضعت الزاد والمزاد، فأتم الصلاة ". وكان طاووس إذا قدم مكة صلى أربعاً.
ولنا ما روى أنس، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نصلي ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة " 1، متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يؤم الناس؛ وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام "، وقد أجمع على إقامتها؛ فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع أكثر من ذلك أتم.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام لا يفقهه كل أحد، فقوله: أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة، وخامسة وسادسة وسابعة، ثم قال: وثامنة يوم التروية، وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس: أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة؛ فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام، وهو صريح في خلاف قول من حد بأربعة أيام.
وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف من الصحابة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1081), ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (693), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1077), وأحمد (3/282), والدارمي: الصلاة (1510).(6/344)
ص -326- ... لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم. وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة، لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثَمَّ أجمع المقام؛ وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على قول الحسن. انتهى كلامه.
وقد حمل الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس على غير ما حمله أحمد، وأن مراد ابن عباس بذلك تحديد مدة الإقامة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، فقال، رحمه الله: باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر; قوله: " ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا "، ظاهِرُه: أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد; وقد صرح أبو يعلى في روايته عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: " وإذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر "، ويؤيده صدر الحديث، وهو قوله: " أقام "; وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً " .
قوله في حديث أنس: " أقمنا بها عشراً " لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، ثم قال: وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة... " الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابعة عشر، فيكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما(6/345)
ص -327- ... قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى؛ ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا قام ببلد أربعة أيام قصر، وقال أحمد إحدى وعشرين صلاة.
وأما قول ابن رشد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، في أن إقامته عشرة داخل في إقامته تسعة عشر، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان؛ فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لا ينوي الإقامة، بل كان متردداً حتى تهيأ له فراغ حاجته ويرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة.
ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: أنه لما كان أن الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر; وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلدة على ما جاورها وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، ثم ذكر كلام أحمد في حديث أنس المتقدم.
وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لأنها المقصودة بالأصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد، والله أعلم.(6/346)
ص -328- ... وقال أيضاً قبل ذلك في حديث ابن عباس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً بلياليها " 1، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده بمكة، فكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: " سبعة عشر "، بلفظ تقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم، وقال عباد عن عكرمة: " تسعة عشر "، كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي.
ولأبي داود أيضاً من حديث عمران بن حصين: " غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " 2، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري: عن عبد الله بن عباس: " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة " 3.
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة، حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة، عد أحدهما. وأما رواية: خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق؛ وقد أخرجها النسائي في رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك; وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة؛ واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المغازي (4298), والترمذي: الجمعة (549), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
2 أبو داود: الصلاة (1229).
3 النسائي: تقصير الصلاة في السفر (1453), وأبو داود: الصلاة (1231).(6/347)
ص -329- ... وبها أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة.
وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة بكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن يزمع 1 الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه في دخول يوم الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. انتهى. وفيه نوع تلخيص وتقديم وتأخير.
وأنت، رحمك الله، إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأنه يقيم في بعضها المدة الطويلة والقصيرة، بحسب الحاجة والمصلحة، ولم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقام أحدكم أربعة أيام في مكان أو بلد أو أكثر أو أقل من ذلك، فليتم صلاته وليصم، ولا يترخص برخص السفر التي جاءت بها الشريعة السمحة، مع أن الله سبحانه وتعالى فرض عليه البلاغ المبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، تبين لك: أن الصواب في هذه المسألة، ما اختاره غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن المسافر يجوز له القصر والفطر ما لم يجمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أزمع, أي: أجمع.(6/348)
ص -330- ... على إقامة أو يستوطن، فحينئذ يزول عنه حكم السفر، ويكون حكمه حكم المقيم.
هذا هو الذي دل عليه هديه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على فوائد غزوة تبوك، قال: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر رجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة؛ وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجه عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين " 1 الحديث.
وظاهر كلام أحمد: أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح، فإنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنيناً، ولم يكن ثم أجمع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس; وقال غيره: بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك، كما قال جابر: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة " 2، رواه الإمام أحمد.
وقال المسور بن مخرمة: " أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة، يقصرها سعد ونتمها ". وقال نافع: " أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر فصلى ركعتين، وقد حال الثلج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المغازي (4300), والترمذي: الجمعة (549), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
2 أبو داود: الصلاة (1235), وأحمد (3/295).(6/349)
ص -331- ... بينه وبين القفول ". وقال حفص بن عبد الله: " أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة مسافر ". وقال أنس: " أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ". وقال الحسن: " أقمنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، يقصر الصلاة ولا يجمع ". وقال إبراهيم: " كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين وأكثر من ذلك، لا يجمعون ولا يشرقون "؛ فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصواب.
ثم ذكر مذاهب الناس التي تقدمت، وأن أحمد حمل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعُوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج; وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي؟ وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد ما حولها من العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام، ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو; ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومعلوم أن مثل هذا الثلج لا يذوب ويتحلل في أربعة أيام، بحيث تنفتح الدروب، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر الصلاة، وإقامة الصحابة برامهرمز(6/350)
ص -332- ... سبعة أشهر يقصرون؛ ومعلوم أن مثل هذا الجهاد والحصار يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام.
وقد قال أصحاب أحمد: لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة؛ وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا: شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي: ما دون الأربعة الأيام. فيقال: من أين لكم هذا الشرط؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على الأربعة الأيام يقصر بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك.
ثم ذكر أقوال الناس، ثم قال: والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا قول الشافعي في أحد قوليه: فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر، أو ثماني عشر، ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. انتهى. وهذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فيه نظر(6/351)
ص -333- ... لا يخفى، وأظن أن مراده بذلك إجماع الجمهور، والله أعلم.
فصل
الذين يجوز لهم الفطر في رمضان
والذين يجوز لهم الفطر في رمضان أنواع: النوع الأول: المجمع عليه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، في قوله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة آية: 184]، وهو المريض، والمسافر؛ فهذان نوعان، مجمع على جواز الفطر لهما في الجملة. النوع الثالث: ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، من قوله تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، وما فهموا من القراءة الأخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يكلفونه ويشق عليهم؛ وهم أنواع كثيرة:
الأول: الحامل التي تخاف على نفسها وولدها.
الثاني: المرضع التي تخاف على ولدها، سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، والولد لها أو لغيرها.
الثالث: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، اللذين يشق عليهما الصيام.
الرابع: صاحب العطش الذي يشق عليه الصيام.
فكل هؤلاء الأنواع الأربعة، ثبت عن الصحابة جواز الفطر لهم؛ فمنهم من أوجب القضاء على هؤلاء مع الفدية، ومنهم من أوجب الفدية دون القضاء. قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها، تفطر وتقضي وتطعم، أذهب إلى حديث أبي هريرة.
وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تقضي،(6/352)
ص -334- ... وكان ابن عباس يقرؤها: { يطوّقونه } قال: يكلفونه، ومن قرأ: { يطيقونه } فإنها منسوخة، نسخها قوله:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فقد ثبت عن ثلاثة من الصحابة وجوب الفدية، ولا يعرف لهم مخالف، واختلفوا في القضاء; وعن عطاء عن ابن عباس، كان يرخص في الفطر في رمضان للشيخ الكبير والحامل، والمرضع، ولصاحب العطش، أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، رواه سعيد.
وأما الظئر التي ترضع ولدها بأجرة أو بدونها، فذكر ابن عقيل أنها تستبيح الفطر، كاستباحته لولدها، لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق، فهي كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه، وطرده العمل في الصنائع الشاقة، إذا بلغت منه الجهد؛ وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه، ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من المهلكة إلا بالفطر، مثل أن يكون غريقاً، أو يريد أحد أن يقاتله أفطر. وكذلك إذا أحاط العدو ببلد، وكان الصوم المفروض يضعفهم، فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين، ذكرهما الخلال في كتاب السير.
وقال في الإنصاف: ونقل حنبل إذا كانوا بأرض العدو، وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. واختار الشيخ تقي الدين: الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب; قال: ولو خاف بالصوم ذهاب ماله، يعني أفطر; وقال في الشرح الكبير:(6/353)
ص -335- ... والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر، لأنه في معناه; قال الإمام أحمد فيمن به شهوة غالبة، يخاف أن تنشق أنثياه، فله الفطر.
وقال في الجارية: تصوم، فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض، يعني إذا حاضت وهي صغيرة؛ قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام، فيباح لها الفطر، وإلا فلا. وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حديثاً يشهد لهذه الرواية، وهو عن أبي العلاء ابن الشخير عن عائشة: " أنه أجهدها العطش وهي صائمة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يوماً "، قال: رواه حرب بإسناد جيد. انتهى. والله سبحانه أعلم.
فصل
فظهر بما ذكرناه الجواب عن قول السائل ألهمه الله الصواب: وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على الإقامة مدة غير معلومة؟ أن ذلك لا يجب على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وإنما الإشكال في الاستحباب أو الجواز، فإذا تقرر أن إقامة المسافر في مدة غير معلومة، أو معلومة لكنه لم ينو الاستقرار والاستيطان، أن ذلك لا يقطع حكم السفر؛ بقي الكلام في استحباب الصيام في السفر أو جوازه.(6/354)
ص -336- ... فاعلم أن هذه مسألة اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً: فذهب عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، أن ذلك لا يجوز، فإن صام أمر بالإعادة؛ قال أحمد، رحمه الله: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة. وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه قال: " الصيام في السفر كالفطر في الحضر "، وهو قول أبي محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصوم في السفر " 1، متفق عليه. ولأنه صلى الله عليه وسلم " أفطر في السفر، فلما بلغه أن قوماً صاموا، قال: أولئك العصاة " 2. وروى ابن ماجة بإسناده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " 3.
قال في الشرح: وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف، هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده، وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فصم " 4، متفق عليه. وحديث أنس: " كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 5، متفق عليه. قال: وأخبارهم محمولة على تفضيل الفطر. انتهى.
ففي هذا دليل على أن الشارح وغيره من الأصحاب، وافقوا على نفي الاستحباب; ومن تأمل أدلة الفريقين حق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1946), ومسلم: الصيام (1115), والنسائي: الصيام (2257, 2258 ,2260, 2261, 2262), وأبو داود: الصوم (2407), وأحمد (3/299, 3/317, 3/352, 3/398), والدارمي: الصوم (1709).
2 مسلم: الصيام (1114), والترمذي: الصوم (710), والنسائي: الصيام (2263).
3 النسائي: الصيام (2285), وابن ماجة: الصيام (1666).(6/355)
4 البخاري: الصوم (1943), ومسلم: الصيام (1121), والترمذي: الصوم (711), والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308, 2384), وأبو داود: الصوم (2402), وابن ماجة: الصيام (1662), وأحمد (6/46, 6/193, 6/202, 6/207), والدارمي: الصوم (1707).
5 البخاري: الصوم (1947), ومسلم: الصيام (1118), وأبو داود: الصوم (2405), ومالك: الصيام (655).(6/356)
ص -337- ... التأمل، وترك التعصب والتقليد، تبين له أن غاية الأمر هو الجواز، مع ما يعارضه من الأدلة، التي هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قاله الزهري وغيره في هذه المسألة; وأما الاستحباب: فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على نفي ذلك لمن تأمل، مع أنه قد قال بذلك طائفة من السلف.
وقد قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: فأما قولنا إنه لا يجوز الصوم في السفر، فإن الناس اختلفوا: فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة لا بد له من الفطر، لا يجزيه صوم. ثم افترق القائلون بتخييره: فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم، ولا بد له من الفطر. فروينا القول الأول عن علي، من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فقد لزمه الصوم، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } "، وعن عبيدة مثله، ومن طريق ابن عباس مثله، وروي عن عائشة أم المؤمنين: " أنها نهت عن السفر في رمضان "، وعن أبي مجلز، وإبراهيم النخعي مثله.
وأما الطائفة المجيزة للصوم والفطر، المختارة للصوم،(6/357)
ص -338- ... فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، فشغبوا بقول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]، واحتجوا بأخبار، منها حديث سلمة ابن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه " 1، ومن طريق ابن سعيد وأبي الدرداء وجابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وهو صائم، فترددوا، فأفطر هو عليه السلام "، وذكروا عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها " أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ". وعن أبي موسى " أنه كان يصوم في رمضان في السفر "، وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: الصوم أفضل، وعن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله، وعن طاووس: الصوم أفضل، وعن الأسود بن يزيد مثله.
واحتج مَن رأى الأمرين سواء، بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: " يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة " 2، وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون " أن رجلين سافرا، فصام أحدهما وأفطر الآخر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما أصاب " ، وبحديث أبي سعيد وجابر: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 3، وعن عطاء: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 4.
وأما من رأى الفطر أفضل، فاحتجوا بحديث حمزة بن عمرو: " هي رخصة من الله تعالى؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الصوم (2410), وأحمد (3/476, 5/7).
2 البخاري: الصوم (1943), ومسلم: الصيام (1121), والترمذي: الصوم (711), والنسائي: الصيام (2304, 2307), وأبو داود: الصوم (2402), وابن ماجة: الصيام (1662), وأحمد (6/207), ومالك: الصيام (656).(6/358)
3 مسلم: الصيام (1116), والترمذي: الصوم (712, 713), والنسائي: الصيام (2312), وأحمد (3/45, 3/50, 3/74).
4 البخاري: الصوم (1943), ومسلم: الصيام (1121), والترمذي: الصوم (711), والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308), وابن ماجة: الصيام (1662), وأحمد (6/193, 6/202, 6/207), والدارمي: الصوم (1707).(6/359)
ص -339- ... أحب أن يصوم فلا جناح عليه " 1.
وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم: سعد بن أبي وقاص؛ وصح عن ابن عمر: " أنه كان لا يصوم في السفر، وكان معه رفيق، وكان يقول: يا نافع، اصنع له سحوره. قال نافع: كان ابن عمر يقول: رخصة ربي أحب إلي، وإن آجر لك أن تفطر في السفر ".
قال أبو محمد: ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال، فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض، لأن كلها متفقة على جواز الصوم في رمضان في السفر، وهو خلاف قولنا؛ وإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك؛ فنقول وبالله نتأيد ونستعين:
أما قول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، وكذب كذباً فاحشاً، من احتج بها في إباحة الصوم في السفر، لأنه حرف كلام الله عن مواضعه؛ نعوذ بالله من مثل هذا، وهذا عار لا يرضاه محقق، لأن نص الآية:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلى قوله:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 183-184]. وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة، وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، وكان الصوم أفضل، هذا نص الآية؛ وليس للسفر فيها مدخل أصلاً، ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلاً، وبهذا جاءت السنن. ثم ذكر الأحاديث، والآثار في ذلك.
ثم قال: وأما حديث ابن المحبق: " من كانت له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصيام (1121).(6/360)
ص -340- ... حمولة... إلخ "، فحديث ساقط، لأنه من رواية عبد الصمد بن حبيب، وهو بصري لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق، وهو مجهول. وأما حديث الغطريف وأبي عياض، فمرسلان، ولا حجة في مرسل. وأما حديث حمزة بن عمرو، فإنه من رواية ابن ابنه: حمزة بن محمد بن حمزة، وهو ضعيف، وأبوه كذلك؛ وإنما الثابت من حديث حمزة، هو كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما حديث أبي سعيد، وأبي الدرداء، وجابر، فلا حجة لهم في شيء منها، لوجهين: أحدهما: أنه ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائماً رمضان؛ وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن، وقد يمكن أن يكون صائماً متطوعاً. والثاني: أنه لو كان ذلك فيها نصاً لما كان لهم فيه حجة، لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحاً لكان منسوخاً بآخر أمره عليه الصلاة والسلام، كما نذكره إن شاء الله.
وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر، لمن أهل عليه الشهر في الحضر، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فلا حجة لهم في هذه الآية، لأن الله تعالى لم يقل: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصمه، وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر، لا على من شهد بعضه.(6/361)
ص -341- ... ثم يبطل قولهم أيضاً: قول الله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]؛ فجعل السفر والمرض ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر، وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر، وهو أعلم بمراد ربه تعالى.
قال أبو محمد: فإذا لم يبق لهم حجة لا من قرآن، ولا من سنة، فلنذكر البراهين على حجة قولنا بحمد الله تعالى وقوته. ثم ذكر حجته بالآية:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]، قال: وهذه الآية محكمة بإجماع أهل الإسلام، لا منسوخة ولا مخصوصة، ثم ذكر حديث جابر: ?" أولئك العصاة "، وقوله: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، وحديث عبد الله بن الشخير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد دعاه إلى الغداء: أتدري ما وضع الله عن المسافر؟ قلت: ما وضع الله عن المسافر؟ قال: الصوم وشطر الصلاة ". قال: وهذه آثار متواترة متظاهرة، لم يأت شيء يعارضها؛ فلا يجوز الخروج عنها.
فإن قيل: فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر، وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده، قلنا: نعم، لأن النصوص قد جاءت بمثل ما قلنا، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [سورة البقرة آية: 196]؛ فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2255), وابن ماجة: الصيام (1664), وأحمد (5/434), والدارمي: الصوم (1710, 1711).(6/362)
ص -342- ... السفر ولا بد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصوم يوم عرفة، ما سنذكره إن شاء الله، وهو في السفر لمن كان حاجاً، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن أفضل الصيام صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً " 1؛ فعم ولم يخص. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه " 2؛ فحض على الصوم في السفر، فوجب الأخذ بجميع النصوص.
فخرج رمضان في السفر بالمنع وحده، وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر؛ ولا يجوز ترك نص لآخر. ثم ذكر الآثار عن عمر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والزهري وعلي بن الحسين ومحمد ابنه والقاسم بن محمد ويونس بن عبيد، أنهم أنكروا الصيام في السفر؛ فمنهم من يأمره بالقضاء، ومنهم من ينكره ولم يذكر عنه الأمر بالقضاء. انتهى ملخصاً.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد عليه الحر: " ليس من البر الصيام في السفر " 3، لما ذكر أقوال الناس في المسألة، قال: والذي يترجح: قول الجمهور؛ لكن يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة؛ وقد روى أحمد بن حنبل من طريق أبي طعمة، قال: " قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3420), ومسلم: الصيام (1159), والترمذي: الصوم (770), والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1630) والصيام (2344, 2388), وأبو داود: الصوم (2448), وابن ماجة: الصيام (1712), وأحمد (2/160, 2/190), والدارمي: الصوم (1752).(6/363)
2 البخاري: الجهاد والسير (2840), ومسلم: الصيام (1153), والنسائي: الصيام (2245، 2249, 2250), وابن ماجة: الصيام (1717), وأحمد (3/26, 3/59, 3/83), والدارمي: الجهاد (2399).
3 النسائي: الصيام (2255), وابن ماجة: الصيام (1664), وأحمد (5/434), والدارمي: الصوم (1710, 1711).(6/364)
ص -343- ... ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "؛ وهذا محمول على من رغب عن الرخصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1.
وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له; وقد أزال ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد، قال: " إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ادفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم؛ فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "، ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أبي أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وستأتي في الجهاد، ومن طريق مورق عن أنس نحو هذا مرفوعاً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في المفطرين لما خدموا الصيام: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " 2.
واحتج من منع الصوم أيضاً بما وقع في الحديث الماضي، أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.
وتعقب أولاً: بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونسب من صام إلى العصيان؛ ولا حجة في شيء من ذلك، لأن مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: النكاح (5063), ومسلم: النكاح (1401), والنسائي: النكاح (3217), وأحمد (3/241, 3/259, 3/285).
2 البخاري: الجهاد والسير (2890), ومسلم: الصيام (1119), والنسائي: الصيام (2283).(6/365)
ص -344- ... صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنَزَلنا منزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا؛ وكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر "، وهذا الحديث نص في المسألة؛ ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه، وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو.
وروى الطبراني في تهذيبه، من طريق خيثمة: " سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، فقلت له: أين هذه الآية:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعاً، وننْزل على غير شبع; وأما اليوم، نرتحل شباعاً، وننْزل على شبع "، وأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.
وأما الحديث المشهور: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " 1 فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعاً، من حديث ابن عمر، بسند ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق أبي سلمة عن عائشة أيضاً، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً، كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وعلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2285), وابن ماجة: الصيام (1666).(6/366)
ص -345- ... تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم.
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله؛ وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، وكذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب، من رواية كعب بن عاصم الأشعري، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كهيئة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم؟ أيّ وجع به؟ قالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". قال: فكان قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان في مثل تلك الحال.
وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة: أن كراهية الصوم في السفر مختصة لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينْزل قوله: " ليس من البر الصوم في السفر " 2 على مثل هذه الحال، قال: والمانعون من الصيام في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين الأدلة، السبب والسياق والقرائن، على تخصيص العام، وعلى مراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2255), وابن ماجة: الصيام (1664), وأحمد (5/434), والدارمي: الصوم (1710, 1711).
2 البخاري: الصوم (1946), ومسلم: الصيام (1115), والنسائي: الصيام (2257, 2258, 2260, 2261, 2262), وأبو داود: الصوم (2407), وأحمد (3/299, 3/317, 3/352, 3/398), والدارمي: الصوم (1709).(6/367)
ص -346- ... المتكلم، وبين مجرد حمل ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنُزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان؛ وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهو المرشد لبيان المجملات وتعيين المحملات، كما في حديث الباب. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث، على من أبى قبول الرخصة، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم؛ وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.
وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا الكامل، الذي هو أعلى مراتب البر؛ وليس المراد به إخراج الصوم عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بالطواف " 1، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غناء يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
ولا يخفى ضعف هذا المسلك، الذي سلكه الطحاوي في هذا الموضع، وقد شنع ابن حزم في شرح المحلى على قائل ذلك، وقال: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار، بنص قوله عليه السلام؛ وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره، وجب أن يبطل جميع النصوص،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1479), ومسلم: الزكاة (1039), والنسائي: الزكاة (2572), وأحمد (2/316, 2/445, 2/469, 2/505), ومالك: الجامع (1713).(6/368)
ص -347- ... وتخرج عن ظاهرها. ويقال له: إذا قلت هذا، فقله أيضاً في قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [سورة البقرة آية: 177]، ولا فرق. انتهى.
وقول الحافظ، رحمه الله، في حديث أبي سعيد: أنه نص في المسألة، من العجب، لأن أبا سعيد لم يذكر أن ذلك الصيام الذي فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي كان في رمضان؛ فهو محتمل لأن يكون صيام تطوع.
وقوله: ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه؛ وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه؛ فأي شاهد في قوله: " أولئك العصاة " في أن الفطر أفضل من الصيام، والصيام جائز لكن الفطر أفضل، وهو صريح في أنهم عصاة لله ورسوله حين صاموا، وقد نهاهم عن ذلك وأمرهم بالفطر.
والمقصود: أن القائلين باستحباب الصيام ليس معهم حجة صحيحة أصلًا، بل الأدلة الدالة على النهي عنه أظهر؛ وغاية الأدلة أن تدل على الجواز، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره، وأما الاستحباب فبعيد جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأجاب أيضاً: أما جواز الإفطار في رمضان، فيجوز الصيام والإفطار، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر في السفر.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: أما(6/369)
ص -348- ... مسألة الفطر للمسافر في رمضان والصيام، فالذي دلت عليه الأحاديث: أن المسافر إذا كان سفره مباحاً، أنه يخير بين الفطر والصيام؛ فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر. روى الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها: " أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 1، قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد، قال: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فما يعاب على الصائم صومه، ولا على المفطر فطره " 2؛ وفيه أحاديث غير هذين الحديثين.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن فطر من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟
فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن لا يعتاش إلا من الحشيش وأشباهه، ولا يقدر إلا مفطراً؟
فأجاب: إذا صار رجلاً ضعيفاً، ويعتاش من الكلإ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصوم (1943), ومسلم: الصيام (1121), والترمذي: الصوم (711), والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308, 2384), وأبو داود: الصوم (2402), وابن ماجة: الصيام (1662), وأحمد (6/46, 6/193, 6/202, 6/207), والدارمي: الصوم (1707).
2 مسلم: الصيام (1116), والنسائي: الصيام (2309, 2310), وأحمد (3/45, 3/50, 3/74).(6/370)
ص -349- ... حشيشاً وأشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطراً، فإن كان يقدر أن يعتاش بلا حرفته هذه فلا يفطر; فإن كان ليس له ما يقوم به إلا حرفته هذه، ولو يتركها لحقه الضرر، فأرجو أنه يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا له عذر، والذي يعتاش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار، إلا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه، أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: أما الراعي إذا لم يتعمد الفطر، ووجد مشقة تفضي إلى الخطر على نفسه جاز له الفطر.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا صاموا رمضان وخافوا من شدة العطش، فلا بأس أن يفطروا؛ ولكن لا يفطروا حتى يشتد بهم العطش، وأما ظن وجود ذلك فلا يكفي.
وأجاب أيضاً: الذي يرعى الإبل أو غيرها، أو يكون في عمل شاق فيعطش في نهار رمضان، فالظاهر من أصول الشرع: أن الضرورة تبيح مثل هذا، وهو: ما إذا كان صائماً فعطش فخاف إن بقي على صيامه من التلف أو حدوث علة، فحينئذ يباح له الفطر ويقضي; والفطر الذي يباح له هو الذي يسد رمقه، بمنْزلة الأكل من الميتة. وأما ترك التكسب(6/371)
ص -350- ... من أجل خوف المشقة فلا يترك، بل يسعى في طلب المعيشة ويصبر، فإن عرض له أمر ضروري فيعمل بما ذكرنا.
[ وقت النية للصوم ]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن أوجب النية للصوم الواجب من الليل، هل محلها الليل كله؟ أم تختص بوقت منه؟
فأجاب: قال في الشرح الكبير: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وفي الكافي: عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يبيِّت الصيام، فلا صيام له " 1، رواه أبو داود. وفي المبدع: لا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، لما روى ابن عمر عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " 2، رواه الخمسة. وعن عائشة مرفوعاً: " من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له " 3، رواه الدارقطني. وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه، لإطلاق الخبر؛ وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم، كالجماع والأكل، أو لا، نص عليه. انتهى. فقد عرفت: أنه متى نوى من الليل قبل الفجر في الصوم الواجب صحت منه.
[ حكم السحور ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السحور... إلخ؟
فأجاب: وأما السحور، فهو مسنون وإن قل، كما في الحديث: " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الصيام (2334) , والدارمي: الصوم (1698).
2 الترمذي: الصوم (730), والنسائي: الصيام (2333), وأبو داود: الصوم (2454), وأحمد (6/287).
3 النسائي: الصيام (2331) , والدارمي: الصوم (1698).
4 أحمد (3/12).(6/372)
ص -351- ... من يجهر بالإفطار ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أكل في رمضان؟
فأجاب: والذي يأكل في رمضان أو يشرب، يؤدب.
[ مسائل متعلقة بصحة الصيام وبطلانه ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً فوجد طعمه في حلقه نهاراً... إلخ؟
فأجاب: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً، فوجد طعمه نهاراً في حلقه، أرجو أنه لا يضره.
وسئل: عن وجود روائح الأشياء... إلخ؟
فأجاب: روائح الأشياء إذا شمها الصائم فلا بأس بذلك إلا الدخان، إذا شمه الصائم متعمداً لشمه، فإنه يفطر بقصد شم الدخان، أيّ دخان كان؛ وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمه لم يفطر، لمشقة التحرز منه.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الفصد والكحل في نهار رمضان؟
فأجاب: قال في الإقناع وغيره: ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف; وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر، لأن العين منفذ، فإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه، ولم يجد طعمه، لم يفطر؛ نص عليه. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل؛ واختاره الشيخ تقي الدين. فقد عرفت: أن الأحوط تركهما في نهار رمضان.(6/373)
ص -352- ... وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الوارد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل إذا أراد أن ينام، ثلاثاً في هذه، وثلاثاً في هذه؛ واتباعه هو السنة. وأما الاكتحال في نهار رمضان، فالزاعم أنه سنة يطالب بالحجة، فهل يجد أنه اكتحل في نهار رمضان؟ كما ورد في السواك للصائم، وقلنا به لورود الأثر به، وتركنا كلام الفقهاء أنه يترك بعد الزوال; وقال شيخ الإسلام وابن القيم: لا يكره، فأخذنا بذلك. وأما الكحل: فلا حاجة إليه، ولم يزل أهل التحقيق يتقون مسائل الخلاف، ما لم يكن معهم نص يتركون قول المخالف له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 1؛ فالأولى بل الواجب: اجتنابه في حق الصائم، لأن وصوله إلى الحلق متحقق بالتجربة.
سئل الشيخ أبا بطين: عمن قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى... إلخ؟
فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفاقاً لمالك؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يفطر بذلك، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الترعة؟
فأجاب: إذا كان صائماً فلا يدخلها؛ إذا وصلت الفم يتركها تخرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518), والنسائي: الأشربة (5711), وأحمد (1/200), والدارمي: البيوع (2532).(6/374)
ص -353- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جماعة أفطروا في يوم غيم قبل غروب الشمس؟
فأجاب: الأحوط القضاء، وهو الذي نحب.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: من أكل أو شرب ظاناً بقاء الليل، فبان بالعكس، ففي وجوب القضاء عليه اختلاف في مذهب أحمد وغيره؛ واختار الشيخ تقي الدين أن لا قضاء عليه، فنأمره بالقضاء احتياطاً، لا وجوباً.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تقليد المؤذن... إلخ؟
فأجاب: وأما تقليد المؤذن، إذا كان في السماء غيم ونحوه، فلا ينبغي تقليده، لأنه يؤذن عن اجتهاد فلا يقلد؛ بل يجتهد الإنسان لنفسه، فلا يفطر حتى يتيقن أو يغلب على ظنه الغروب، فيجوز له الفطر مع غلبة الظن. وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن قول من قال: إنه لا يجوز لأحد أن يفطر بعد مغيب الشمس، حتى يذهب شعاع الشمس من الأفق، يعني الحمرة الشديدة، التي تبقى بعد غيوب القرص؟
فأجاب: هذا القائل جاهل مركب، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ وهذا المذهب الذي يحض عليه من(6/375)
ص -354- ... تأخير الأذان والفطر إلى ذهاب شعاع الشمس من الأفق، هو مذهب الرافضة، فإنهم يؤخرون الفطور إلى هذا الوقت; وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور " 1.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عن غروب الشمس، أيجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب بقوله: الحمد لله، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم " 2. فتأمل ما ذكره، رحمه الله، من أنه إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، وأنه لا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
فإذا عرفت هذا، عرفت أن من نهى الناس عن الأذان، وعن الإفطار، إلا بعد ذهاب هذا الشعاع والحمرة الشديدة، فقد نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بسلوك طريقة الأرفاض، في تأخير الأذان والفطر إلى ظهور النجم وذهاب الحمرة؛ وقد أفصح، رحمه الله، بما يزيل الإشكال، بقوله: إذا غاب جميع القرص، فالحكم منوط بغيبوبة القرص جميعه، لا بذهاب الحمرة الشديدة، فإنه لا عبرة بوجودها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/147).
2 البخاري: الصوم (1954).(6/376)
ص -355- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن جامع في نهار رمضان؟
فأجاب: الذي يجامع فيه يقضي، وتلزمه الكفارة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكيناً.
وأجاب أيضاً: الذي وقع على امرأته بعدما تبين الفجر وهو ناس لصومه، فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن أحمد: أحدها: أن الناسي كالعامد يقضي ويكفّر؛ وهو قول مالك والظاهرية. الثاني: لا يكفّر وليس عليه إلا القضاء؛ اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثالث: لا يقضي ولا يكفّر؛ اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي؟ أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة. وبعض الفقهاء فرق بين من يكون جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع.(6/377)
ص -356- ... ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى; قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً، ولا كفارة أيضاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، بعد ذكر صوم يوم الشك الذي تقدم قوله: ولا تثبت بقية توابعه، يعني وجوب الكفارة بوطء فيه، وحلول الآجال والمعلقات ونحوه، إذا ثبت هذا، فاعلم أن المجامع يوم الشك لا كفارة عليه، وإنما عليه الصوم، لأنه إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، أي قضاء ذلك اليوم، لقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }الآية.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الجماع يوم الشك، وهو آخر يوم من شعبان، إذا غم على الهلال، أو حال دون منظره غيم أو قتر، فهي مسألة نزاع؛ وجمهور الفقهاء على وجوب الكفارة، وكلام شيخ الإسلام مشهور في عدم الوجوب، بناء على أصل، وهو أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، واحتج على ذلك بحجج من أشهرها: قصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكعبة، أو كما قال، فاستداروا إلى الكعبة كما هم، وصلوا إليها بقيه صلاتهم، فقال: هذه حجة أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، لأنهم صلوا أول الصلاة يقيناً بعد نسخ القبلة، لكن لم يبلغهم، فاجتزوا بها ولم يعيدوها.(6/378)
ص -357- ... لكن يقال: مثل وجوب الكفارة في هذه المسألة، يسوغ لمن أحسن الاجتهاد أن يفتي فيها بما بلغ اجتهاده; والرخصة في ذلك للناس في هذه المسألة، والمجاهرة بذلك، جهل قبيح عند أهل التحقيق؛ والذي يتبع الرخص زنديق، لأنه متلاعب بالشريعة، ولم نزل نرى مشائخنا يحذرونا عن ذلك، شيخنا عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وغيرهم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: من جامع يوم الشك، فالصحيح من أقوال العلماء: أن لا قضاء عليه ولا كفارة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقاً وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟
فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب: وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد؛ وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه؛ اختاره ابن بطة. وعنه: لا قضاء، اختاره الآجري والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه.
والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتكفّر في إحدى(6/379)
ص -358- ... الروايتين؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرواية الأخرى: لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي. وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى القول بفساده، فنص أحمد: لا كفارة عليها؛ وهو قول الأكثرين. وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل؛ وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور: لا كفارة عليها.
وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء; وقوله: من بين جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان، لعدم حرمة الزمان؛ قال في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. وقال في الزبد وشرحه، لما ذكر الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده(6/380)
ص -359- ... بغير جماع، أو بجماع في غير رمضان، كنذر وقضاء، لأن النص إنما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع.
سئل الشيخ حسين بن علي بن حسين: عن رجل مرض في رمضان ثم عوفي مدة يسيرة، ثم أتاه مرض ثان ومات فيه... إلخ؟
فأجاب: إذا مات رجل في رمضان، فلا يقضى عنه، إلا إذا عوفي بعد رمضان، ومضى وقت يمكنه فيه الأداء ولا فعل، فهو يقضى عنه، أو يكفّر عنه، على ما فيه من الخلاف.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا يقضى، يعني صيام الفرض إذا مات في مرضه، وأما النذر إذا كان عليه صيام نذر، لزم وليه صيامه عنه.
وأجاب أيضاً: إذا ترك المريض الصلاة مدة، فإن كان لا يشعر بذلك لأجل المرض، فهو مرفوع عنه الوجوب، وإن كان يصلي ولا يعلم بينه وبين نفسه فيحمل ذلك على أنه مصل، ولا تقضى عنه الصلاة؛ هذا الظاهر وهو الأصح. وكذلك الصوم لا يقضى، وأما النذر فهو يقضى على الأصح.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: من أفطر أياماً من رمضان لعذر، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فيطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه، لأن قضاء الصوم عن الميت يخص المنذور فقط. وأما من استمر عذره حتى مات فلا شيء عليه.(6/381)
ص -360- ... وأجاب بعضهم: وأما من دخل عليه رمضان آخر، وفي ذمته قبله قضاء من رمضان الأول، وتأخيره من غير عذر، فيطعم مع صيام ما عليه كل يوم مسكيناً، ربع صاع براً أو نصفه من غير البر. والظاهر من مذهب الشافعية: أن الإطعام يتكرر كل عام بالتأخير.
[ التتابع في قضاء رمضان ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟
فأجاب: وأما قضاء رمضان فلا يجب فيه التتابع.
[ هلال المحرم إذا حصل فيه شك ]
سئل أيضاً، رحمه الله: إذا حصل شك في هلال المحرم... إلخ؟
فأجاب: روي عن أحمد قال: إذا اشتبه علينا أول الشهر صمنا ثلاثة أيام، وأما البيض فالأمر فيها واسع، إذا حصل صيام ثلاثة أيام، حصل المطلوب من صوم ثلاثة أيام.
[ ما يفعل من الصيام والنحر في السابع والعشرين من رجب وليلة النصف من شعبان ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما يخص به يوم المولد من النحر، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيصه بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر؟
فأجاب: هذه الأمور المذكورة من البدع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وقوله في الحديث: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/240, 6/270).(6/382)
ص -361- ... محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1؛ والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم، فتكون به مردودة يجب إنكارها، لدخولها فيما أنكر الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [سورة الشورى آية: 21]؛ وهذه الأمور مما أحدثها الجهال بغير هدى من الله. وأما حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فضعفه شيخ الإسلام، لكن يحصل التوسعة بدون اتخاذه عيداً.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحديث المروي عن آدم، في فضل يوم النصف من رجب كذب لا أصل له. وأما صيام يوم النصف من شعبان فغير مشروع، وإن كانت تلك الليلة فيها فضل. وأما نهار الليلة التي يدعون أنها ليلة المعراج فلم يرد فيه شيء، وتخصيصه بالصيام بدعة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره؛ وظاهر كلام الشيخ بل صريحه: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4607), والدارمي: المقدمة (95).
2 البخاري: الصلح (2697), ومسلم: الأقضية (1718), وأبو داود: السنة (4606), وابن ماجة: المقدمة (14), وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270).(6/383)
ص -362- ... [ ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر ]
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر؟ فأجاب: ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى: أن ليلة القدر تنقل في الوتر من العشر الأواخر.
[ خروج المعتكف لغسل الجمعة ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج المعتكف لغسل الجمعة؟
فأجاب: وأما خروج المعتكف لغسل الجمعة فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن، إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه.
... كتاب الحج(6/384)
ص -363- ... كتاب الحج
[ مشروعية التطوع بالحج والعمرة وزيارة المسجدين ]
قال الشيخ سليمان بن سحمان: اعلم وفقني الله وإياك لمعرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل المؤمنين، أنه ليس مع من خالف في مسألة التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين، وقال بالمنع من ذلك، إلا ما ورد من النهي العام عن مجامعة المشركين ومساكنتهم، والإقامة بين ظهرانيهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 2، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في المنع من الإقامة. وقد أجمع العلماء على ذلك إلا مع إظهار الدين، وهذا حق لا مرية فيه، وبه ندين الله؛ وقد خالف في ذلك من أعمى الله بصيرة قلبه، واتبع هواه. { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } [سورة القصص آية: 50].
ولكن قد ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخصص المساجد الثلاثة، ويخرجها عن عموم النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: " لا تشد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: السير (1604), وأبو داود: الجهاد (2645).
2 أبو داود: الجهاد (2787).(6/385)
ص -364- ... الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " 1 الحديث. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال، وإعمال المطي إلى غير هذه المساجد الثلاثة نهياً عاماً، وأخبر أن الصلاة الواحدة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه. وأخبر صلى الله عليه وسلم " أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين العمرة والحج، فإنهما ينفيان الفقر " 3، ولما قال سراقة بن مالك: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل لأبد الأبد " 4، فأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يخصص زماناً دون زمان، ولا وقتاً دون وقت، ولا حالاً دون حال، بل أطلق وعمم.
وقد علم الله أنه سيكون فيها كفر وشرك، ولكن لما كان لهذه المساجد الثلاثة من المزية والفضل ما خصها الله به من بين سائر مساجد الأرض وبقاعها، لأن ذلك الفضل والمزية وصف لازم لها لا ينفك عنها أبداً، كانت مستثناة من عموم النهي، بخلاف سائر المساجد والبقاع الفاضلة، كالثغور فإن ذلك الوصف عارض لها؛ فإن كون البقعة ثغراً للمسلمين، أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لا اللازمة لها، بمنْزلة كونها دار إسلام، أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم، أو دار جهل ونفاق، فكذلك تختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك، كما ذكره شيخ الإسلام في بعض أجوبته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1189), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410).
2 البخاري: الحج (1773), ومسلم: الحج (1349), والترمذي: الحج (933), والنسائي: مناسك الحج (2622, 2629), وابن ماجة: المناسك (2888), وأحمد (2/246, 2/461, 2/462), ومالك: الحج (776).(6/386)
3 الترمذي: الحج (810), والنسائي: مناسك الحج (2631), وأحمد (1/387).
4 البخاري: الحج (1785) والتمني (7230), ومسلم: الحج (1216), والنسائي: مناسك الحج (2805), وأبو داود: المناسك (1787), وابن ماجة: المناسك (2980).(6/387)
ص -365- ... إذا عرفت ذلك: فإنشاء السفر للحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيها، سفر مشروع مطلوب مندوب إليه، محبوب لله مرضي له، لعبادة الله فيها، وإقامة ما شرعه الله ورسوله فيها، ولما في ذلك من الفضل والأجر العظيم، والعبادات التي لا يصح الإتيان بها إلا فيها، ولا يمكن فعلها في غيرها، كالطواف بالبيت والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بالمشعر الحرام، وإراقة الدماء في أيام منى، إلى غير ذلك من إقامة شعائر الله. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج آية: 32]. فمن رام تعطيل ما شرعه الله ورسوله، وحرم على الناس الحج والعمرة، وزيارة المسجدين، بغير دليل شرعي يجب التسليم له، فقد ظلم نفسه؛ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [سورة البقرة آية: 114]، وهذا بخلاف إنشاء السفر للتجارة، فإن ذلك ليس مطلوباً شرعاً مندوباً إليه، مرغباً فيه محبوباً لله، بل مباحاً في الجملة; فإن أفضى إلى معصية، كان ذلك ممنوعاً شرعاً لمن لم يقدر على إظهار دينه.
وقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً، في مسألة الإقامة بين أظهر المشركين والسفر إلى ديارهم، فمنعوا منها إلا مع إظهار الدين، وبعضهم منع مطلقاً، ولم يمنع أحد من العلماء في قديم الدهر وحديثه، من التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيهما، إلا إذا أفضى إلى إسقاط فرائض الله، كترك الصلاة وإضاعتها، أو إضاعة أوقاتها(6/388)
ص -366- ... وجُمعها، على غير الوجه الشرعي؛ فقد ذكر بعض العلماء: أن ذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك يصيبه في حجه، حرم عليه الحج، رجلاً كان أو امرأة. وأما كونه لا يقدر على إظهار دينه فيها، فهذا لا يمنع من إقامة ما شرعه الله ورسوله، من الحج والعمرة؛ ولا يمكن أحداً من الناس أن يحرم على الناس، ما لم يحرمه الله ورسوله، بمفهومه، من غير دليل شرعي يجب المصير إليه، والتسليم له، خصوصاً إذا عجز عن إظهار دينه. فمن حج أو اعتمر، فعليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يفعل ما أمكنه من إظهار دينه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ والقول بالمنع من التطوع بالحج والعمرة، قول مبتدع محدث، لم يقل به أحد فيما نعلم من علماء الأمة وأئمتها.
[ الاستنابة في الحج ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الاستنابة... إلخ؟
فأجاب: اعلم، وفقني الله وإياك لطاعته، أن من استكملت فيه شروط وجوب الحج لا يخلو، إما أن يكون صحيح البدن وهو الغالب، فيلزمه السعي إلى الحج فوراً إذا تمت شروطه، كأمن الطريق، وإما أن يكون مريضاً ونحوه، والمريض إما أن يرجى برؤه فلا يجوز له الاستنابة بحال، فإن برئ حج بنفسه، وإن مات أقيم من يحج عنه من رأس ماله. وإن كان المريض لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه، كالكبير الذي يشق(6/389)
ص -367- ... عليه السفر مشقة غير محتملة؛ قال في الإنصاف: وإن عجز عن السعي لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه من بلده. انتهى.
قلت: وأصله: حديث ابن عباس: " أن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً " 1 الحديث، وهذا الحكم خاص بمن كان بعيداً عن الحرم، ولم يتلبس بالإحرام من الميقات; أما من أحرم منه، فليس له أن يستنيب من يحج عنه بحال، إذا أحصر بعدو، أو مرض ونحوه، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أجاز لمن أحصر أن يستنيب، فيما أعلم؛ وحكم من حصره عدو، أو ضل عن الطريق: التحلل بهدي إن وجده، وإلا صام عشرة أيام، للآية الكريمة; هذا إذا لم يشترط في ابتداء إحرامه.
وهل يجوز له إذا لم يشترط، أن يتحلل بالمرض وذهاب النفقة؟ المذهب أنه لا يحل حتى يقدر على البيت؛ فإن فاته الحج تحلل بعمرة، وفيه احتمال يتحلل كمن حصره عدو؛ قال في الإنصاف: وهو رواية اختارها الشيخ تقي الدين. انتهى. وهذا فيمن إحرامه تام; أما من أحصر عن طواف الإفاضة فإنه لا يتحلل حتى يطوف؛ قال في المنتهى وشرحه: ومن أحصر عن طواف الإفاضة فقط، لم يتحلل حتى يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو أحصر عن السعي فقط، لأن الشرع ورد بالتحلل بإحرام تام، يحرم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1513), ومسلم: الحج (1334), والترمذي: الحج (928), والنسائي: مناسك الحج (2635, 2641) وآداب القضاة (5390), وأبو داود: المناسك (1809), وابن ماجة: المناسك (2907), وأحمد (1/213, 1/219, 1/251, 1/359), والدارمي: المناسك (1831, 1832, 1833).(6/390)
ص -368- ... جميع المحظورات؛ وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به، ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى وتم حجه.
إذا علمت ذلك، فالواجب على من ينتسب إلى معرفة شيء من أحكام الشرع، أن لا يأتي في مسألة حتى يعرف حكمها بالنص عليها في كلام العلماء، رحمهم الله. فعلى هذا، لا تصح الاستنابة عن طواف الإفاضة بحال، ويلزم من لم يطف للإفاضة بنفسه أن يعتزل النساء حتى يرجع، فيحرم من الميقات بعمرة، فإذا طاف طواف العمرة وسعى، طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى.
وأجاب أيضاً: وقع من بعض الحاج أنهم تركوا طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج الأربعة التي لا يتم الحج إلا بالإتيان بجميعها؛ وبعض من تركه للمرض أو خوفه، استأجر من يطوف عنه، وهذا لا يجزي عن أحد بكل حال، لوجوه منها: أن العلماء، رحمهم الله، نصوا على أنه لا يجوز الاستئجار على فعل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالصلاة والطواف ونحو ذلك; ومنها: أنه وإن جاز للمريض مرضاً لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره أن يقيم من يحج عنه، فمحله إذا كان في بلده، لأنه لا يحتمل مشقة طول السفر، بخلاف من أحرم من الميقات، فإنه لا يجوز له الاستنابة، سواء كان مرضه يرجى برؤه أم لا؛ ولو أن من وجب عليه الحج، وهو في بلده مرض بها، مثل هذا المرض(6/391)
ص -369- ... الذي وقع بمكة، فإنه لا يستنيب ما دام حياً، لأن مثل هذا المرض إن سلم صاحبه من الموت عوفي قريباً منه غالباً، فلا يجوز أن يستنيب داخل مكة، هذا لا يقوله أحد من العلماء فيما نعلم.
وإنما اختلف العلماء في مريض أحصر عن الحج بمرضه، فالأصح في مذهب أحمد: أنه لا يحل حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة؛ هذا إذا كان إحرامه تاماً لم يتحلل التحلل الأول، أما من أحصر عن طواف الإفاضة، أو السعي، أو هما، فإنه لا يتحلل حتى يأتي بما بقي عليه من طواف أو سعي؛ نص عليه في المنتهى وشرحه; وهو الصحيح في مذهب الإمام أحمد.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن مرض فلم يطف طواف الإفاضة... إلخ؟
فأجاب: من مرض فلم يطف طواف الإفاضة، فمثل هذا يطاف به محمولاً، ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلاً جاز له أن يستنيب مطلقاً. والذي توفي وباق عليه بعض مناسك الحج، فإنها تفعل عنه بعد موته، ولا فرق بين الفرض والنفل، ولا كونه عن نفسه أو غيره.
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف: هل يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان الحج فريضة؟ مثل إذا أصاب إنساناً مرض ونحوه؟(6/392)
ص -370- ... فأجاب: لا يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان فريضة، بل يطاف به راكباً أو محمولاً، فإن لم يفعل فعليه دم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن السفر بالأجنبية... إلخ؟
فأجاب: الرجل الذي يسافر بامرأة أجنبية يؤدب، لأنه لا يجوز أن يسافر بها بلا محرم.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: ماذا على المرأة إذا سافرت مسافة قصر بغير محرم؟
فأجاب: إن تابت فالتوبة تجُبُّ ما قبلها، وإن لم تتب زجرت بما يردعها هي وأمثالها.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله: عمن توفي ووجد بعده ثمانية حمران... إلخ؟
فأجابا: الرجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته، وعند موته حصل له ثمانية حمران، من ناس علمهم القرآن، وقال: اجعلوها في حجة، وله ورثة، فتكون الحمران بين الورثة.
وسئل: إذا مات الرجل وهو غني، ولم يحج ولم يوص بحجة، هل تؤخذ من المال ويحج عنه؟ أم تسقط؟
فأجاب: يؤخذ قدرها من ماله، وينظر في قرابته من يحج لوجه الله، ويعطى الدراهم يستعين بها.(6/393)
ص -371- ... وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عمن توفي وخلف قدر خمسة عشر أو عشرين ريالاً، وأوصى بحجة، وعمن لم يوص بشيء، هل تقدم الحجة على الميراث والحالة هذه، أم لا؟
فأجاب: لا يخفاك كلام أهل العلم، ولكن مشكل علي كون مثل هذا يؤخذ من ماله، وتصح الوصية به والحالة هذه؛ والذي ذكره أهل العلم: أن من شروط وجوب الحج، أن يملك زاداً وراحلة، وما يحتاج إليه في سفره، بشرط أن يكون ذلك فاضلاً عن قوته وقوت عياله، حتى قال بها أكثر الحنابلة على الدوام، وفاضلاً عن وفاء دينه، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، أو لله أو لغيره. وأتحرى أن مثل هذا الذي تذكر ما يوجد فيهم هذه الشروط، وعلى كل حال لا يؤخذ من مالهم شيء؛ ولو أوصى به أحد منهم ما صحت وصيته.
وأجاب أيضاً: الذي مات وعليه حج، يحج عنه من ماله.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما من مات ولم يحج، فإن كان قد وجب عليه الحج قبل موته، لاستكمال شروط الوجوب في حقه مع سعة الوقت، وجب أن يحج عنه من رأس ماله، أوصى به أو لا. وإن كان الميت لم يجب عليه الحج قبل موته، لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقه في حياته، لم يجب أن يحج عنه من ماله إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه؛ هكذا ذكره أصحابنا وغيرهم.(6/394)
ص -372- ... قال أصحابنا: من لزمه حج أو عمرة، فتوفي قبله، وجب قضاؤه، فرط أو لا، من رأس ماله، كالزكاة والدين، ولو لم يوص به؛ واحتجوا بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما: " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء " 1، رواه البخاري.
وسئل: إذا مات وفي ذمته دين وحجة الإسلام، وماله لا يفي بهما؟
فأجاب: وأما من مات وعليه حجة الإسلام، بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه، حج عنه من ماله. فإن كان عليه دين وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء، يقسم بالحصص. انتهى.
وأما مسألة أخذ الجعالة على الحج، فاختلف العلماء، رحمهم الله فيها، وأبطل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، منها ما أبطله السلف، وهو أنه لا يحج إلا لأن يعطى أجرة أو جعلاً على ذلك، فهذا عمله باطل ولا ثواب له في الآخرة، لأنه قصد بعمله الدنيا؛ ومن قصد بعمله الذي يبتغى به وجه الله الدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب. وصحح في الشرح الكبير والمغني: أنه لا يجوز الاستئجار للحج، قالا: وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق، لأنها عبادة يختص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1852), والنسائي: مناسك الحج (2633).(6/395)
ص -373- ... فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة.
قال الشيخ تقي الدين: والمستحب أن يأخذ الحاج من غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ، ومثله: كرزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من قصد الدين، والدنيا وسيلة، والأشبه: أن عكسه ليس له في الآخرة من نصيب.
والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجز الإجارة عليها، لأنها بالعوض تقع غير قربة؛ وإنما الأعمال بالنيات، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه; ومن جوز الإجارة، جوز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها، لما فيها من نفع المستأجر. انتهى. ذكره عنه في الاختيارات.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما المال الذي يجعل لمن ينوب في الحج، فإن أخذه ليحج صح، وأما إذا حج ليأخذ فلا يصح؛ كذلك ما يصح له أن يوكل غيره، لا في بلد الميت ولا في غيرها، فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت، فهذا لا يصح أيضاً. وقولك: من يأخذ ذلك لاشتياقه إلى البيت ومشاعر الحج، وللعمل الصالح، لما فيه من زيادة الفضل، فهذا هو الذي تصح نيابته كما تقدم، فإن كان قصده التوصل إلى البيت، فله(6/396)
ص -374- ... أجر لقصده ذلك، وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج، وواجبات، وسنن، فثوابه له، وأما الأركان والواجبات والسنن، فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه، وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالاً من عمان لصاحب له في نجد، فلا يجوز، لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة.
وقال أيضاً: وقد نشرت لطلبة العلم، ولمن سألني من عوام المسلمين، أنها لا تصح النيابة في الحج، إذا أخذ ما أوصى به الموصي، إلا إذا أخذ ليحج، فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله، رغبة في رؤية البيت والطواف به، وكثرة ثواب العمل فيه، كما قال الخليل عليه السلام{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [سورة إبراهيم آية: 37]. وبعض الناس مولع بزيارة هذا البيت، فيطلب ما يتوصل به إليه، فتصح نيابته في الحج والعمرة على هذا الوجه، وأما إذا حج ليأخذ الأجرة فلا يصح حجه، وإن سماه بعض الفقهاء جعلاً، فهو استئجار بلا ريب؛ وقد نص الفقهاء، رحمهم الله، على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على عمل يكون قربة يتقرب به إلى الله، كالأذان والصلاة؛ وأظن أكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني، والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد. فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به، ونفتي به المستفتين، ونبينه للجاهلين بحسب القدرة والطاقة.(6/397)
ص -375- ... وسئل بعضهم: عن الحج عن الغير لوفاء دينه بما يحصل له من الجعل؟ فأجاب: قد اختلف العلماء أيهما أفضل، والأظهر أن الأفضل الترك؛ فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد، رحمه الله: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء، ولو كان هذا العمل صالحاً لكانوا إليه مبادرين. والارتزاق بأعمال البر ليس من أعمال الصالحين، أعني إذا كان مقصوده بالعمل اكتساب المال. وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي دينه به، خيراً له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه. ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين: إما رجل يحب الحج ويودّ رؤية المشاعر وهو عاجز، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج، أو رجل يحب أن تبرأ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة كانت بينهما، أو لرحمة عامة المؤمنين، أو نحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك.
وجماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ، هكذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم أو يعلم أو ليجاهد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل الذين يُقرئون أمتي ويأخذون أجورهم، كمثل أم موسى في الإرضاع "، بخلاف المستأجرة على الرضاع، إذا كانت أجنبية; وأما من اشتغل بصورة العمل(6/398)
ص -376- ... الصالح لأن يرتزق، فهذا من أعمال الدنيا؛ ففرق بين أن يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصده والدين وسيلة، والأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: وما ذكرت من أخذ النيابة من أناس من أهل الكويت، تعرفهم وتعرف عقائدهم، وأنهم على عقائد أهل السنة، وأنك ما أخذت إلا من أجل الحاجة، مستأنساً بكلام شيخ الإسلام في الاختيارات، بأن النيابة تجوز مع الحاجة، وأن بعض من لديك من الإخوان أنكر ذلك، وقال: ما في الكويت إلا مشرك، أو أخو المشرك، فاعلم: أن أخذ النيابة فيها ما فيها، وكلام أهل التحقيق فيها معروف، كما هو مبسوط في رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن سحيم، وجواب ابن غنام عن ذلك؛ لكن إذا كان المحجوج عنه مسلماً، تعرفون عقيدته وديانته، وأنه ليس بمشرك، فلا بأس بها على الوجه الذي أباحه العلماء.
فإن الذي عليه سائر العلماء من أهل السنة والجماعة، أن الإنسان إذا دخل في الإسلام، وحكم بإسلامه، لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر، كالسرقة والزنى وشرب المسكر، وأخذ الأموال ظلماً وعدواناً; وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر: الشرك بالله، وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين، بعد معرفته لذلك، وإقامة الحجة(6/399)
ص -377- ... عليه؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية: 48]، فثبت بهذه الآية المحكمة: أن جميع الذنوب ما خلا الشرك بالله متعلقة بالمشيئة، وقد يغفرها الله لمن يشاء من عباده؛ وأما الشرك بالله فلا يغفره إلا بالتوبة، ومن مات عليه فهو من أهل النار المخلدين فيها، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، ولا ينفع مع الشرك بالله عمل البتة.
فإذا عرفت هذا، فهذا الرجل الذي من أهل الكويت، عاص لله بإقامته في هذا البلد الذي هو بلد كفر، لا يجوز للمسلم الإقامة فيه، لكنه بهذه الإقامة إنما يكون عاصياً، ولا يكفر بهذا الذنب إلا جنس الخوارج المكفرين بالذنوب. فقول القائل: إنه من إخوان المشركين بهذه الإقامة، خطأ محض، وأخاف أن يكون قد دخل في جملة من يكفِّر بالذنوب، نعوذ بالله من القول على الله بلا علم، ومن الجراءة على الأحكام الشرعية بلا دليل.
وأخذ النيابة عن المسلم الموحّد، المؤمن بالله ورسوله على الوجه الذي أباحه العلماء لا مانع منه ولا محذور فيه، وإن كان عاصياً أو فاسقاً، أو ظالماً أو مكّاساً أو غير ذلك من الذنوب التي لا تخرجه من الملة; ومعاداة من أخذها، ومقاطعته، والتفريق بين الإخوان واختلاف كلمتهم، مما يوجب التباغض والتشاحن والتدابر، لا يجوز، وهو مما يسخط الله ولا يحبه؛ ولا ينبغي هذا بين الإخوان، بل هذا(6/400)
ص -378- ... من دسائس الشيطان أخرجها في هذا القالب، والله المستعان.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: أقام زيد عمراً نائباً عن بكر، يسميه في العمرة والحج له عن عمرة الإسلام وحجة الإسلام، فيحرم من الميقات بنية العمرة والحج قائلاً عند دخوله في الإحرام: لبيك، عمرة عن فلان، ويسميه، ويلبي حتى يطوف بالبيت طواف العمرة سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأول، ثم يصلي ركعتين خلف المقام. ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويرقى على الصفا، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط; ثم يحل من عمرته بالحلق أو التقصير.
ثم إذا أراد الخروج إلى منى في اليوم الثامن، طاف بالبيت، وصلى ركعتين، وأحرم بالحج، وقال: لبيك، حجاً عن فلان، ويسميه، ويخرج إلى عرفات، ولا يدفع منها إلا بعد غروب الشمس. ثم يفعل ما فعل الحاج، فإذا أتى منى يوم العيد، رمى جمرة العقبة خاصة; ثم يذبح الهدي هدي التمتع، وأدناه جذع من الضأن له ستة أشهر. ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الزيارة، وهو ركن، ويسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن أيضاً. ثم يرجع إلى منى ويبيت بها ليالي منى، ويرمي الجمار الثلاث كل يوم إذا زالت الشمس، كل جمرة سبع حصيات صغار أكبر من الحمص. ثم إذا أراد أن يخرج طاف طواف الوداع، فإذا فعل ذلك تم حجه وعمرته عمن استنيب عنه.(6/401)
ص -379- ... وسئل: عمن حمل الرافضة إلى مكة؟
فأجاب: من حمل الرافضة إلى مكة، فقد عصى الله تعالى، وأصر على كبيرة من الكبائر، فمن كان كذلك صار فاسقاً.
[ الحج على حيوان مغصوب ]
سئل الشيخ حسن بن حسين: عمن أنشأ الحج على حيوان مغصوب؟
فأجاب: أما التحريم فمطلقاً، وأما عدم الصحة فظاهر كلامهم ما صرح به في الغاية، حيث قال: أو حج بغصب عالماً به ذاكراً له وقت عبادة لم تصح، وإلا صحت، ويتجه لو تاب في حج قبل دفع من عرفة أو بعده، إن عاد فوقف مع تجديد إحرام الصحة، لتلبسه بالمباح حال فعل الأركان. انتهى.
[ عقد الرداء عند الإحرام لحاجة ]
سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن عقد الرداء عند الإحرام لحاجة؟
فأجاب: الظاهر - والله أعلم - أن ذلك لا يجوز على ظاهر المذهب، واختار الشيخ الجواز لحاجة. وقال أيضاً في النسك: يجوز عقد ردائه عند الإحرام لحاجة. وأما الاستظلال بالشمسية ونحوها، فظاهر المذهب المنع من ذلك، وفي رواية للإمام أحمد ما يفهم جوازه. والذي يظهر: أنه إن كان لحاجة فلا بأس، وإن كان لغير حاجة، فلا، لقول ابن عمر: " اضح لمن أحرمت له ". انتهى(6/402)
ص -380- ... وسألت شيخنا: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق؟ فقال: الراجح الجواز للحاجة في المسألتين.
[ كشف رأس الأقرع ]
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن كشف رأس الأقرع؟
فأجاب: إن كان إذا كشف رأسه يخشى عليه ضرر مرض أو غيره فيجوز أن يغطيه بشمسية أو غيرها، ويلزمه فدية صيام ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة، هو بالخيار. وإن ترك الكشف حياء من الناس من غير مضرة، فليس له رخصة، وإن غطاه فهو عاص آثم.
[ هل الْحِجْر من البيت ]
سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر: عن الحِجْر، هل هو من البيت؟
فأجابوا: الحِجْر من البيت، لما روت عائشة، رضي الله عنها، قالت: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجر، أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فَلِمَ لَمْ يدخلوه البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعلوا ذلك ليدخلوا من يشاؤوا، ويمنعوا من يشاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهدهم في الجاهلية أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض " 1،
وعنها قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه؛ فإن بدا لقومك من بعدي، فهلمي لأريك ما تركوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1584), ومسلم: الحج (1333), والدارمي: المناسك (1869).(6/403)
ص -381- ... منها؛ فأراها قريباً من سبعة أذرع " 1، رواهما مسلم. وعنها قالت: " قلت: يا رسول الله، إني نذرت أن أصلي في البيت، قال: صلي في الحجر، فإن الحجر من البيت "، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بالبيت جميعه، ولم يصح طوافه، كما لو ترك الطواف ببعض البناء؛ وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر، وهو مذهب الإمام أحمد.
[ استلام الأركان وتقبيلها ]
وسئلوا: عن استلام الأركان، وتقبيلها؟
فأجابوا: الحجر الأسود يقبل ويستلم، والركن اليماني يستلم ولا يقبل، وفيه قول عند الحنابلة أنه يقبل أيضاً؛ والصحيح الأول، لأن تقبيله لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والعراقي والشامي لا يقبلان، ولا يستلمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبلهما ولم يستلمهما، بل قال ابن عمر: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني "، وقال: " ما أراه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يقم على قواعد إبراهيم، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك "، ولهذا أنكر ابن عباس على معاوية استلامهما، فقال: " لِمَ تستلم هذين الركنين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من هذا البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }، فقال معاوية: صدقت ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحج (1585), ومسلم: الحج (1333), والترمذي: الحج (876), والنسائي: مناسك الحج (2900, 2901), وأحمد (6/113, 6/247), ومالك: الحج (813).(6/404)
ص -382- ... وأجاب الشيخ عبد الله بن محمد أيضاً: إذا طاف بالبيت وهو مُحْدِث، فإن كان طواف الزيارة فإنه يعيد، وإن كان قد خرج إلى بلده جبره بدم. وإن كان غير طواف الزيارة ففيه قولان: أحدهما: أن الطهارة شرط لصحته، والثاني: ليست بشرط، ويجبره بدم.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا طاف بالبيت، ثم التفت بوجهه إلى شيء من الأركان والميزاب؟
فأجاب: أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عمر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الحجر الأسود، والركن اليماني في كل طوفة "؛ فعلى هذا، لا يمكن الاستلام إلا بالالتفات، ولم نجد في كلام الفقهاء أن الالتفات في الطواف يضر، أو يلزمه فيه شيء، مع أن الخشوع في الطواف مطلوب، وهو أتم وأحسن، لأن الطواف شبه بالصلاة في غالب الأحوال.
[ سعي الحائض قبل الطواف ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الحائض إذا قدمت مكة، هل تسعى قبل الطواف؟
فأجاب: لا يصح السعي إلا بعد طواف نسك من الأنساك، أما الْمُفْرِد والقارن، فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما، كما يجزئ القارن لعمرته.
وأما المتمتع، فيسعى بعد طواف العمرة، ولا يجزيه للحج إلا أن يسعى بعد الإفاضة بعد طواف؛ قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده، والمختار: أنه لا يطوف للقدوم،(6/405)
ص -383- ... وليس عليه إلا طواف الزيارة، وعليه أن يسعى بعده للحج، فإن سعى قبله لم يجزئه؛ قالوا: ويجب أن يكون بعد طواف واجب أو مستحب، هذا كلام الحنابلة لا خلاف بينهم في ذلك.
وقال الشافعية: لو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئاً من الطواف لم يصح سعيه، فيلزمه أن يأتي ببقية الطواف، فإذا أتى ببقيته أعاد السعي؛ نص عليه الشافعي، وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومما يستدل به لذلك: حديث عائشة، رضي الله عنها، وفيه: " فلما كنا في بعض الطريق حضت، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: ارفضي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلّي بالحج " 1، ومعنى ارفضي العمرة: ارفضي أعمالها؛ فلو صح سعي قبل الطواف لما منع منه حيضها، كما لا يمنع من سائر المناسك.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والتي حاضت بعد الإحرام، فهذه تفعل كما فعلت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم: تدخل الحج على العمرة، وترفض أعمال العمرة، ولا تطوف بالبيت حتى تقضي حجها، فتكون قارنة؛ وأما اعتمارها بعد انقضاء الحج، فاختار الشيخ وابن القيم أنه لا يشرع.
والجواب عن فعل عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها تطييباً لنفسها، لما قالت: يرجع الناس بنسكين، وأرجع بنسك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الحيض (317, 319) والحج (1556), ومسلم: الحج (1211), والنسائي: مناسك الحج (2764), وأبو داود: المناسك (1778), وابن ماجة: المناسك (3000), وأحمد (6/177), ومالك: الحج (940).(6/406)
ص -384- ... ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة غيرها فيما نعلم. انتهى.
[ إحرام المكي ]
وسئل الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهما الله: هل على المكي الإحرام من الحل... إلخ؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والذي عليه الأكثر جواز ذلك واستحبابه، واختار الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم: أنه لا يسن ولا يستحب، لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه سوى عائشة، فإنه أذن لها في ذلك تطييباً لقلبها، ولو كان ذلك سنة لفعله الصحابة وبادروا إليه، وهم الأسوة والقدوة في الدين.
[ مباهاة الله بأهل عرفة ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن حديث " إن الله يباهي بأهل عرفة " 1؟
فأجاب: هذا الحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث مشهور.
[ شهود عدول برؤية هلال ذي الحجة ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا شهد عدول برؤية هلال ذي الحجة، ولم ير ليلة إحدى وثلاثين... إلخ؟
فأجاب: الذي نص عليه العلماء، رحمهم الله، أن الناس إذا وقفوا الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم، نص عليه أحمد؛ ودليله: حديث أبي هريرة مرفوعاً: " فطركم يوم تفطرون، وإضحاكم يوم تضحون " 2، رواه أبو داود والدارقطني، وروى أيضاً من حديث عائشة مثله، قال الخطابي في معالم السنن:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/224).
2 الترمذي: الصوم (697), وأبو داود: الصوم (2324), وابن ماجة: الصيام (1660).(6/407)
ص -385- ... معنى الحديث: أن الخطأ موضوع عن الناس فيما سبيله الاجتهاد؛ فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت أن الشهر تسع وعشرون، فإن صومهم وفطرهم ماض؛ وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة، فإنه ليس عليهم إعادة، وتجزيهم ضحاياهم.
[ هل يكفي المتمتع سعي واحد ]
سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: عن المتمتع هل يكفيه سعي واحد؟ أم يجب عليه سعيان؟
فأجاب: المتمتع يكفيه سعي واحد، وعليه جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان كثير من العلماء اختار أن عليه سعيين، لكن من زعم أن تركه ذلك مخل بالحج، فقد أبعد عن الصواب؛ فلعله ظن أن جعل الأصحاب السعي للعمرة من أركانها يقتضي فساد الحج، وهذا خطأ لأن مرادهم العمرة المطلقة. أما المتمتع فلم يقصدوه، وإنما قالوا: ويسعى المتمتع سعيين. والخلاف في هذه المسألة مشهور، حتى ذكر الشيخ تقي الدين في منسكه الأخير، أنه أصح قولي العلماء، وأصح الروايتين عن أحمد، رحمه الله.
وذكر أن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة، وساق ما رواه أحمد بسنده إلى ابن عباس، أن المفرد والقارن والمتمتع، يجزئه طواف(6/408)
ص -386- ... بالبيت وسعي بين الصفا والمروة، وذكر ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، قال: " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً: طوافه الأول " 1، وردّ ما روي عن عائشة أنهم طافوا طوافين، وذكر أنه زيادة في آخر الحديث من قول بعض الرواة؛ وكلامه في هذه المسألة وكلام تلميذه وغيرهما من المحققين معروف، والدليل معهم ظاهر بحمد الله.
فالمنكر في الحقيقة إنما أنكر على السلف، ومن ألف العادة من غير بصيرة ولا ورع استنكر الحق، ولو قال: هذا خلاف ما عليه العمل، أو أن الفتوى على خلافه لكان أسهل، فالحق الذي لا مرية فيه أن مثل هذا إذا صدر من طلبة العلم، فالإنكار عليه والتشديد في أمره، إنكار في الحقيقة على من عمل به من الصحابة فمن بعدهم.
[ رمي الجمار ]
سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن رمي الجمار دفعة واحدة... إلخ؟
فأجاب: الذي رمى الجمرة دفعة واحدة ولم يستأنف أيام منى، فعليه دم شاة تذبح في مكة. وإذا رماها مع الجهل فقد خالف السنة، وليس عليه شيء.
[ استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان... إلخ؟
فأجاب: والمرأة التي استدخلت ذكر زوجها وهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الحج (1215), والترمذي: الحج (947), والنسائي: مناسك الحج (2986), وأبو داود: المناسك (1895), وابن ماجة: المناسك (2972, 2973), وأحمد (3/387).(6/409)
ص -387- ... محرمان، مرادكم: وهو نائم، هل يجب عليه كفارة أو لا؟ وهل تحملها عنه الزوجة كالنفقة أو لا؟ فالظاهر وجوب الفدية عليه، لأن هذا نوع إكراه والمكره عليه الفدية على الصحيح من المذهب؛ قال في الإنصاف، في باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة، عند قول المصنف: وإذا جامع في نهار رمضان... إلخ: فشمل كلام المصنف المكره؛ وهو الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب. وسواء أكره على فعله أو فعل به من نائم وغيره - إلى أن قال - وحيث فسد الصوم بالإكراه، فهو في الكفارة كالناسي على الصحيح من المذهب. وقيل: يرجع بالكفارة على من أكرهه، قلت: وهو الصواب. انتهى.
فتبين بذلك: أن المذهب وجوب الكفارة على من استدخلت زوجته ذكره وهو نائم، وأنها لا تتحملها عنه على الصحيح من المذهب، كما تتحمل عنه نفقة القضاء، والقول بوجوب الكفارة من المفردات.
[ مَن لم يطف يوم العيد وأراد أن يطوف بعده ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: عن رجل أفتى أن من لم يطف يوم العيد، وأراد أن يطوف بعده، فعليه أن يحرم بعد رميه جمرة العقبة والذبح والحلق؟
فأجاب: الذي أفتى، عفا الله عنه، لحديث بلغه، ونحن ما جسرنا على الفتيا به، لأجل أنه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ما روت أم سلمة، قالت:(6/410)
ص -388- ... " كانت ليلتي التي يصير إليّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إليّ، فدخل علي وهب بن زمعة، ومعه رجال متقمصين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب بن زمعة: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: انزع عنك القميص، فنَزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولِم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة، أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا صرتم حرماً، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به "؛ قال بذا جماعة، رواه أبو داود بإسناد صحيح; قال البيهقي: لا أعلم أحداً من القدماء قال به، قال النووي: فيكون الحديث منسوخاً دل الإجماع على نسخه.
[ الْجُبْرَان في الحج ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الجبران... إلخ؟
فأجاب: جبران الصلاة وهو سجود السهو، أدخل في الجبر من جبران الحج، وهو الدم، لأن جبران الصلاة يتعدى إلى صلاة المأموم من صلاة الإمام، فيلزم المأموم إذا سها إمامه سجود السهو، وإن لم يسهُ هو، بل يلزمه أن يسجد إذا لم يسجد إمامه، بعد إياسه من سجوده على الصحيح من المذهب؛ ومن هنا علم: أن جبران الصلاة أدخل في الجبر من جبران الحج.(6/411)
ص -389- ... [ أركان الحج ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قولهم: أركان الحج: الوقوف، وطواف الزيارة... إلخ؟
فأجابه: قولهم أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة بلا نزاع فيهما؛ فإن ترك طواف الزيارة رجع معتمراً، لأنه على بقية إحرامه، فهذا في حق من تركه; قال في الإنصاف: وأما المحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة، فليس له أن يتحلل، ومتى زال الحصر أتى بطوافه وتم حجه، وذبح هدياً في موضع حصره، وهذا المذهب; واختار ابن القيم في الهدي: أنه لا يلزم المحصر هدي; وأما من أحصر بمرض أو ذهاب نفقة، لم يكن له التحلل حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة، ويحتمل أنه يجوز له التحلل، كمن حصره عدو؛ وهو رواية عن أحمد، اختارها الزركشي، ولعلها أظهر، واختارها الشيخ تقي الدين.
قال ومثله: حائض تعذر مقامها وحرم طوافها، ورجعت ولم تطف لجهلها بطواف الزيارة، أو لعجزها عنه، ولو لذهاب الرفقة. وقال في الفروع: وكذا من ضل الطريق، ذكره في المستوعب. هذا حاصل ما ذكره في الإنصاف، في حكم من فاته طواف الزيارة لهذه الأسباب، وأما إذا أحصر عن فعل واجب، فإنه لا يتحلل على الصحيح من المذهب، وعليه دم له، وحجه صحيح.
وقال القاضي: يتوجه فيمن حصر بعد تحلله الثاني يتحلل; قلت: ولعل مراده أنه لم يبق عليه من المناسك(6/412)
ص -390- ... شيء، إلا أن يكون طواف الوداع، أو رمي الجمار والمبيت بمنى؛ وهذه الأمور يأتي بها الحاج بعد التحلل كله. وأما إذا بقي عليه شيء من المناسك، التي محلها قبل التحلل الثاني، فإنه يبقى محرماً ليأتي بها، كما يأتي بها من لم يحصر عن واجب، كالمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، فلا يجوز أن يأتي بذلك إلا وهو محرم؛ فتدبر.
وسئل أيضاً: من نفر من الحج ولم يطف طواف الزيارة والسعي، ثم أراد السفر لقضاء ما تركه، فهل يحرم بعمرة مفردة، ثم يأتي بما بقي عليه؟ وهل يجوز إن كان الوقت لم يتسع أن يحرم بالحج، فإذا فرغ أتى ببقية أعمال حجه الأول؟
فأجاب: قال في شرح المنتهى: فلو تركه، أي طواف الزيارة، وأتى بغيره من فرائض الحج، وبعد عن مكة مسافة القصر، رجع إلى مكة معتمراً، فأتى بأفعال العمرة، ثم يطوف للزيارة. انتهى. وهذه مسألة السائل، أحد أجزائها، فيحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فإذا فرغ من أعمالها أتى بما تركه من طواف وسعي. أما إذا ضاق الوقت بأن لم يمكنه قدوم مكة قبل الوقوف، فيحرم قارناً أو مفرداً، فإذا رمى جمرة العقبة وأفاض إلى مكة وطاف طواف الزيارة وسعى بعده، رجع إلى البيت فأتى بما تركه عام أول من طواف وسعي. فإن قدم الطواف والسعي الذي تركه على طواف حجه الذي هو في(6/413)
ص -391- ... أعماله جاز ذلك، لأن وقت طواف الزيارة والسعي موسع، فمتى فعله وقع أداء. هذا ما تقتضيه قواعد مذهبنا، وأصوله.
وأجاب الشيخ أبا بطين: وأما من خرج من مكة ولم يطف للوداع، فإن كان قد بعد عن مكة وجب عليه دم يرسله لمكة إن أمكن، فإن لم يمكنه ذبحه في مكانه.
سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا لم يطف للوداع... إلخ؟
فأجاب: إذا كان حجه فريصة، فالظاهر أنه لا يستنيب في طواف الوداع، بل إذا عجز طيف به راكباً أو محمولاً؛ فإن لم يفعل فعليه دم.
[ شرب ماء زمزم والتبرك به ]
سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر، رحمهم الله: عن شرب ماء زمزم والتبرك به... إلخ؟
فأجابوا: شرب ماء زمزم، والتبرك به، مستحب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه أتى بني عبد المطلب وهم يسقون، فناولوه دلواً فشرب منه ". ومن شرب لغرض من هذه الأغراض المذكورة في السؤال لم ينكر عليه، للحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ماء زمزم لما شرب له " 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة: المناسك (3062), وأحمد (3/357, 3/372).(6/414)
ص -392- ... فصل
وسئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر: عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم... إلخ؟
فأجابوا: إن كان زيارة هذا الزائر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح، فيها شد رحل، فهي زيارة بدعية، ووسيلة من وسائل الشرك؛ وقد اختلف العلماء في جواز قصر الصلاة في هذا السفر: فمنهم من يجوز القصر، ومنهم لا يجوزه، ويقول: هذا سفر معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة، لما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " 1. وإن كانت الزيارة بغير شد رحل فهي مستحبة، كزيارته صلى الله عليه وسلم القبور، وأمره بها; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه سن للزائر أن يقول: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم " 2. هذه هي الزيارة الشرعية التي فعلها صلى الله عليه وسلم وأمر بها، وهي دعاء الله للميت المسلم لا دعاء الميت نفسه، ولا يتحرى الدعاء عند قبره؛ فإن دعاء الزائر صاحب القبر شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام، وهو شرك عابدي الأصنام قبل بعث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1189), وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410).
2 مسلم: الجنائز (975), والنسائي: الجنائز (2040), وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547), وأحمد (5/353, 5/359).(6/415)
ص -393- ... الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحري دعاء الله عند القبر ذريعة إلى ذلك، ولكن لا يكون شركاً. والنبي صلى الله عليه وسلم سد الذرائع إلى ذلك، حذراً من فعل هؤلاء القبوريين المفتونين بعبادة أهل القبور قديماً وحديثاً، إما أن يدعوهم، وإما أن يوهمهم الشيطان أن دعاء الله عندهم مستجاب، حتى يوقعهم في الشرك بهم، وفي عكس المراد من الزيارة للقبور، وهي: الاتعاظ، ودعاء الله لأهلها، وهذا هو دعاء أهل القبور لا دعاء لهم.
وقول السائل: إن قصده التبرك، ومعناه أنه يقع له فضل من الله ببركة زيارته، فهذا اللفظ موهم، والعدول عنه إلى ما هو أصرح وأبعد عن الإيهام هو الأحسن؛ فإن حقه أن يقال: قصده اجتلاب الأجر في الدعاء لأخيه، أو يقال: قصده امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك مما لا يكون فيه إيهام; وأما لفظ "التبرك"، فهؤلاء الجهال في هذا الزمان، لا يفهمون منه إلا الشرك، فإذا أنكر عليهم، قالوا: هذا التبرك بالصالحين، أو هذا ببركة هذا الرجل الصالح؛ كما أن شياطينهم المتسمين بأنهم علماء، قلبوا اسم الشرك، وقالوا هذا التوسل بالصالحين، قلبوا اسم الإله وسموه بالسيد، ولو سموها ما سموها، فالحقيقة بحالها لم تتغير.
وسئلوا: عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
فأجابوا: الذي اتفق عليه السلف والخلف، وجاءت به الأحاديث الصحيحة: هو السفر إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وطلب الوسيلة، وغير ذلك مما أمر الله به(6/416)
ص -394- ... ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين، وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا: إنه يستحب السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن مرادهم بالسفر إلى زيارته، هو السفر إلى مسجده; وذكروا في مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مرادهم، ولفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، فإن قبر غيره يوصل إليه، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور من سنة أو بدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلى قبره.
ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك التابعون، ولا يعرف هذا من كلامهم؛ وما ورد من الأحاديث في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم، ولم يرو أحد من أهل السنة المعتد بقولهم شيئاً منها، ولم يحتج به أحد من الأئمة، بل مالك إمام أهل السنة، الذي هو أعلم الناس بحكم هذه المسألة، كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو كان هذا اللفظ مشروعاً عندهم، أو معروفاً، أو مأثوراً عنه صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك. والذي تضافرت به النصوص عن السلف، وأجمعت عليه الأمة قولاً وعملاً هو: السفر إلى مسجده المجاور لقبره، والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غيره. انتهى ملخصاً من كلام بعض شيوخ الإسلام.
وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: وما سوى(6/417)
ص -395- ... هذه المساجد الثلاثة، لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم. وإذا كان السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممتنعاً شرعاً، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع؛ ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، التي أحدثها الملوك وأشباههم. والأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره عليه السلام، كلها مكذوبة موضوعة، باتفاق غالب أهل المعرفة، منهم ابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن عبد البر، وأبو القاسم السهيلي، وشيخه ابن العربي المالكي، والشيخ تقي الدين وغيرهم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، وكذا تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يروون بخلافه. وإنما رخص صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور مطلقاً بعد أن نهى عنها، كما ثبت في الصحيح، لكن بلا شد رحل وسفر إليها، للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك.
وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، دخلت زيارة القبر تبعاً، لأنها غير مقصودة استقلالاً; وحينئذ، فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها، بشرط عدم فعل محذور عند القبر، قال ابن حجر: ينوي الزائر المتقرب السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وشد الرحل، لتكون زيارة القبر تابعة. انتهى. واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، هو الْمُوقِع لكثير من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك.
فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كوَدّ(6/418)
ص -396- ... وسواع ويغوث ويعوق، وتماثيل طلاسم الكواكب ونحو ذلك، يزعمون أنها تخاطبهم وتشفع لهم؛ والشرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل المعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو بحجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيراً ما يتضرعون ويخشعون عندها، ما لا يخشعون لله في الصلاة، ويعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم والاستغاثة بهم، وسؤال النصر على الأعداء، وتكثير الرزق، وإيجاده، والعافية وقضاء الديون، ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، أو دفع ما خافوه، مع اتخاذها أعياداً، والطواف بقبورهم، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على تربتها، وغير ذلك من أنواع العبادات والطلبات التي كان عليها عباد الأوثان، يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم.
فهؤلاء يسأل كل منهم حاجته وتفريج كربته، ويهتفون عند الشدائد باسمه، كما يهتف المضطر بالفرد الصمد، ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران، وأنها تجُبُّ ما قبلها من الآثام؛ بل قد وجد هذا الاعتقاد في الأشجار والغيران، يهتفون باسمها، واسم من تنسب إليه من المعتقدين بما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وأكثر ما يكون ذلك عند الشدائد.(6/419)
ص -397- ... وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: بعض العلماء قد قال بجواز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وهذا القول لصاحب المغني، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله: " فزوروها ". وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث، من قوله: " من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي "، فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث. وأما ما يقوله بعض الناس: إنه حديث: " من حج ولم يزرني فقد جفاني "، فهذا لم يروه أحد من العلماء؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ومثله حديث: " من زارني ضمنت له على الله الجنة "، قال الشيخ: وهذا أيضاً باطل باتفاق العلماء.
قال: والصحيح: ما ذهب إليه المتقدمون، كأبي عبد الله ابن بطة، وأبي الوفاء ابن عقيل، وطوائف من المتقدمين، من أن هذا السفر منهي عنه، لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد؛ وحجتهم: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1، وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته، والعمل به في الجملة؛ فلو نذر رجل أن يصلي في مسجد أو مشهد، أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى، لصلاة أو اعتكاف، وجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (1189) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410).(6/420)
ص -398- ... عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعي وأحمد، كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية.
إذا عرفت أقوال العلماء في هذه المسألة، فاعلم أن الزائر إذا نوى الزيارة التي فيها شد الرحل لسفر زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صار ذلك به سفر طاعة بإجماع العلماء، ويحصل له به زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً إذا وصل المسجد، وفعل ما هو المشروع من البداءة بتحية المسجد، ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على صاحبيه، رضي الله عنهم؛ وذلك لا محذور فيه بوجه، بل هو مصلحة محضة. فأي محذور في تحصيل المصلحة المطلوبة على وجه صحيح بالإجماع؟
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع: الاجتماع في وقت مخصوص، على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقاداً أنه قربة مخصوصة مطلوبة دون علم السير، فإن ذلك لم يرد. ومنها: الاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح، والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان، وراتب الحداد ونحوهما؛ بل قد يشتمل على شرك أكبر، فيقاتَلون على ذلك، فإن سلموا من الشرك، أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة، فإن أبوا عزرهم الحاكم بما يراه ردعاً.(6/421)
ص -399- ... قال الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما ما يحكى من حال سبب وضع الشباك على الحجرة، فله سبب ولا أستحضر صورته الآن، ونقل عن السيد السمهودي، في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، عن الكمال الإسنوي الشافعي، في الباب التاسع عشر من الخلاصة المذكورة، من الحوادث الغريبة، والوقعات العجيبة في المدينة المنورة، والحجرة الشريفة. وكذلك المطري ذكر ذلك، فقال: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن قسنقر التركي، في سنة 557 إلى المدينة، بسبب رؤيا رآها: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ليلة، ثلاث مرات، وهو يشير إلى رجلين أشقرين، ويقول: أنجدني! أنقذني من هذين!
فأرسل إلى وزيره، وتجهزا في بقية ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفراً، واستصحب مالاً كثيراً، فقدم المدينة في ستة عشر يوماً، فزار، ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم، وصار يتصدق عليهم، ويتأمل تلك الصفة، إلى أن انقضت الناس، فقال: هل بقي أحد؟ فقالوا: لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة، فطلبهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن منْزلهما، فأخبر أنهما برباط بقرب الحجرة، فأمسكهما ومضى إلى منْزلهما، وذكر القصة - إلى أن قال - وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة، ثم أمر(6/422)
ص -400- ... بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيماً إلى الماء حول الحجرة كلها، وأذيب ذلك الرصاص وملئ به الخندق، فصار حول الحجرة سور رصاص.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما ذكر الشيخ من أمر الصخرة؟
فأجاب: ما أشكل من أمر الصخرة، فما ذكر الشيخ لا إشكال فيه، ولا يدل على أنها على الأرض ولا بعضها - كما توهمه صاحب الهامش - لأن ارتفاع الصخرة زمن سليمان عليه السلام اثنا عشر ذراعاً بذراع الإنسان، ذراع وشبر وقبضة، لكن دفنها بختنصر، فإنه أمر عسكره أن يملأ كل إنسان منهم ترسه تراباً ويقذفه ببيت المقدس، وبعده الروم استولوا على بيت المقدس، وطرحوا الزبل والتراب الكثير على الصخرة، مغايظة لبني إسرائيل. فلما فتحها عمر رضي الله عنه بسط رضي الله عنه رداءه، وجعل يكنس التراب والزبل فيه، فأخذ المسلمون يكنسون معه، ويفعلون ما فعل. فإن قصد صاحب الهامش أنها كانت على الأرض قبل أن تكشف فصحيح، وإلا فوهم، والله أعلم.
... باب الأضاحي(6/423)
ص -401- ... باب الأضاحي
الأضحية عن الميت
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: أيما الصدقة عن الميت أو الأضحية؟
قال: الأضحية. وأجاب في موضع آخر: وأستحسن الصدقة عن الميت على الأضحية.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هذه المسألة اختلف العلماء فيها: فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء، إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل؛ وهذا القول أقوى في النظر، وذلك لأن التضحية عن الميت لم يكن معروفاً عن السلف، إلا أنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك. والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره، وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، فإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها. فإذا كان هذا صورة المسألة، فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله.(6/424)
ص -402- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والصدقة بثمن الأضحية، ذكر بعض العلماء: أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها مطلقاً.
[ هل يضحي عن الغير قبل أن يضحي عن نفسه ]
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل له أن يضحي عن غيره قبل أن يضحي لنفسه؟ وهل له أن يضحي وعليه نذر قبل أن يوفي بنذره؟
فأجاب: التضحية عن الغير قبل أن يضحي لنفسه لا أعلم فيها بأساً، وإنما المنع فيمن عليه حجة الإسلام، فليس له أن يحج عن غيره قبل أن يحج فريضة الإسلام.
وأما تقديم الأضحية على النذر، فالواجب تقديم النذر على النافلة، فإذا كان المنذور أضحية ذبحها قبل أضحية التطوع، فإن تطوع وترك النذر الواجب، وجب عليه أن يذبح الواجب أيضاً، أما إذا أراد أن يذبحهما جميعاً، لكنه قدم التطوع على النذر فلا أعلم في هذا بأساً.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا لم يعق عنه ولا ضحى لنفسه، هل يضحي لوالديه... إلخ؟
فأجاب: إذا ضحيت، فضح لك ولوالديك وأهل بيتك، لأن الأمر واسع.(6/425)
ص -403- ... فضل الأضحية
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قوله: " استفرهوا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم "؟
فأجاب: هذا الحديث ليس من الأحاديث المعروفة، ولا هو مخرج في الكتب المعتمدة، وإنما أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبد الله عن أبي هريرة، رفعه بهذا؛ ويحيى ضعيف جداً عند أهل الحديث. وقال بعضهم: هذا الحديث ليس معروفاً ولا ثابتاً فيما علمناه. وقال ابن العربي المالكي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح، ومنها قوله: " إنها مطاياكم إلى الجنة "، ذكر ذلك السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة. فمثل هذا الحديث لا يحتج به، وإن ذكره بعض أهل العلم، فعادتهم يتساهلون في فضائل الأعمال، في ذكر الأحاديث الضعيفة، فلا ينبغي أن يجزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، بل يذكر بصيغة التمريض. وأما معناه، فقيل إنها تسهل الجواز على الصراط.
[ اشترى شاة ونواها أضحية ]
سئل الشيخ عبد الله العنقري: إذا اشترى شاة ونواها أضحية... إلخ؟
فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد; الأولى - وهي المذهب عند أصحابه -: أنها لا تعين أضحية إلا باللفظ لا بالنية، كقوله: هذه أضحية، وينوي مع ذلك. الثانية: إذا اشتراها ونواها أضحية، تعينت بذلك، ولو لم يقل: هذه أضحية؛ وهذا اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية، وبه قال مالك وأبو حنيفة. فعلى هذا، لا يصح بيعها ولا هبتها إذا تعينت.(6/426)
ص -404- ... [ وقت الأضحية وما يجزئ فيها ]
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله: " البدنة عن سبعة " ... إلخ؟
فأجاب: قوله: " الجزور عن سبعة " يعني: التضحية بالإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية: عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح. وقال عن حديث ابن عباس، الذي رواه الترمذي والنسائي: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة " 1: إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم: " الجزور عن سبعة " 2. قال في المغني عن حديث رافع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير " 3 هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى.
وقد أخذ كثير من العلماء بمفهوم الناسخ، فقال: لا تجزي البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة، فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية، ذبحوا شاة وأجزأتهم؛ قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، ونقله ابن القاسم، وعليه أكثر الأصحاب. وقال مهنا: تجزي عن سبعة ويرضون الثامن، ويضحي، وهو قول في الرعاية. قال في حاشية التنقيح: قوله: عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: ويعتبر أن يشترك جماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة، وقالوا: من جاء يريد الأضحية شاركنا، فجاء قوم فشاركوهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأضاحي (1501), والنسائي: الضحايا (4392), وابن ماجة: الأضاحي (3131).
2 أبو داود: الضحايا (2807).
3 البخاري: الشركة (2488).(6/427)
ص -405- ... لم تجز إلا عن ثلاثة. انتهى. وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته.
وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن: في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد " 1 دليل على أن الشاة الواحدة، تجزي عن الرجل وأهله وإن كثروا. وروي عن أبي هريرة وابن عمر كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق; وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة. انتهى. قال في الفتاوى المصرية: أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء؛ وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فإن الصحابة كانوا يفعلون، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، فذكر الحديث. وترجم جده في المنتقى: باب الاجتزاء بالشاة الواحدة لأهل البيت، ثم ذكر حديث علي بن يسار عن أبي أيوب. وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاد، كأن يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده البدنة والبقرة والشاة.
وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزي عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب؛ نص عليه أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم; وقيل: لا تجزي، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب لا في الإجزاء. انتهى. والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد؛ قال في المنهاج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الأضاحي (1967), وأبو داود: الضحايا (2792), وأحمد (6/78).(6/428)
ص -406- ... وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم تجز; والأحاديث في ذلك كحديث: " اللهم هذا عن محمد وأمة محمد " 1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى.
وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة: إن الشاة الواحدة لا يضحى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم؛ وعلى هذا حمل ما روي: " أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد " 2. وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن الضحية كذلك، وأنها مسنونة لكل أهل بيت،؛وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب، لأنه قال: " وأمة محمد " .
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما كون البدنة أو البقرة تجزي عن سبع من الغنم، فهذا في الإجزاء، وأما في الفضل فقد ذكر العلماء أن الشاة أفضل من سُبْع بدنة. وقال: إذا أراد إنسان أن يضحي بأضحية عن جماعة، جاز تشريكهم فيها؛ وتكفي النية، فلا يشترط أن يسمي من أرادهم بالأضحية، لكن تستحب تسميتهم، فيقول بعد التسمية والتكبير: عن فلان، وفلان، وعن أهل بيتي، أو عن والدي ونحوه. وأما مسألة التشريك في سبع البدنة أو البقرة، فلم أر ما يدل على الجواز ولا عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك، لكني ما رأيت ما يدل عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/391).
2 مسلم: الأضاحي (1967), وأبو داود: الضحايا (2792), وأحمد (6/78).(6/429)
ص -407- ... وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: ما ذكرت من حال التعريض بالخلاف بين العلماء، فلا خلاف مع وجود النص، لقوله صلى الله عليه وسلم: " البدنة عن سبعة " 1؛ والتشريك في السبع زيادة على النص، فلا يجوز؛ فانتبه.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: الظاهر: المنع من التشريك في السبع.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ضحى بعد صلاة الإمام ولو لم يصل هو... إلخ؟
فأجاب: وأما الذي ضحى بعد صلاة الإمام، فأضحيته مجزية ولو لم يصل، لأن العبرة بصلاة الإمام، لا صلاة كل إنسان بنفسه.
وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: عن التضحية بسبع البدنة عن عدة أشخاص، هل يجوز ذلك كالشاة، أم لا؟
فأجاب: لا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته "، وإلى ظاهر الحديث ذهب أحمد، وإسحاق; وذهب أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة، ومالك، إلى أنه لا يجوز التضحية بالشاة عن أكثر من واحد، قياساً على الهدي، وهو أيضاً مذهب الشافعي، كما قاله الرافعي، وأن معنى الحديث عندهم - إذا ضحى الرجل من أهل البيت -: تأتّى الشِّعار والسنة لجميعهم، كرد السلام من واحد يجزي عن الجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الحج (1318), والترمذي: الحج (904) والأضاحي (1502), وأبو داود: الضحايا (2809), وابن ماجة: الأضاحي (3132), وأحمد (3/293, 3/316, 3/353), ومالك: الضحايا (1049), والدارمي: الأضاحي (1955).(6/430)
ص -408- ... وقد حكى النووي وابن رشد: اتفاق العلماء على ذلك، وهو غلط، إذ السنة واضحة في جواز الاشتراك في الشاة، كما هو مذهب أحمد، وقول كثير من العلماء.
أما الاشتراك في سبع البدنة، فلم أر أحداً من أهل العلم يقول به؛ بل أفتى الرملي الشافعي وبعض فقهاء نجد قبل هذه الدعوة بالمنع، لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: " تجزي الشاة عن الرجل وأهل بيته "، ولأن الشاة دم مستقل، بخلاف سبع البدنة، فإنه شركة في دم، ولعدم مساواته لها في العقيقة والزكاة، فحينئذ يقتصر على مورد النص، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق؟
فأجاب: وأما الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق، ففيه خلاف، والراجح أنه يجوز.
وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: إذا مضى يومان مع يوم العيد، فقد مضى وقت الأضحية؛ والذي رجح ابن كثير: أنها ثلاثة أيام مع يوم العيد، وهو قول الشافعي، رحمه الله. وهذا قول قوي جيد يؤخذ به، وأما ما عدا ذلك فلا نرى التضحية فيه مجزية.
[ دفع الأضاحي من بلاد المسلمين إلى من هو مقيم في بلاد المشركين ]
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن ضحايا في بلدان سدير، وأهلها في الزبير، وطلبوها ولهم أقارب بعيدو النسب... إلخ؟(6/431)
ص -409- ... فأجاب: دفع الأضاحي من بلاد المسلمين إلى من هو مقيم في بلاد المشركين لا يجوز، لأن الاستيطان في بلاد الشرك معصية لله ورسوله، ومعرضة للردة عن الإسلام؛ فلا يعطى من هذه حاله ما يستعين به على معصيته، بل تدفع للقريب الذي في بلاد الإسلام، ولو بَعُد.
[ هل للوكيل أن يجعل الأضحية أثلاثاً كصاحبها ]
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل للوكيل أن يجعلها أثلاثاً، كصاحبها... إلخ؟
فأجاب: لا يفعل ذلك إلا أن يجعل صاحبها ذلك للوكيل.
من أهدي إليه جلد الأضحية أو لحمها
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أهدي إليه جلد الأضحية، أو لحمها... إلخ؟
فأجاب: وأما الذي يتصدق عليه بجلد الأضحية أو لحمها، أو يهدى إليه ذلك، فإنه يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره.
... فصل في العقيقة(6/432)
ص -410- ... فصل في العقيقة
العقيقة عن الكبير
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يعق عن الكبير... إلخ؟
فأجاب: العقيقة عن الكبير ما علمت لها أصلاً.
الصدقة عن المولود
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن الصدقة إذا ولد المولود... إلخ؟
فأجاب: الصدقة التي تخرج إذا ولد المولود لا بأس بها، والسنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن يذبح عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة " 1.
[ هل يعق الإنسان عن نفسه ]
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا لم يعق الأب، هل للابن أن يعق عن نفسه؟
فأجاب: العقيقة مشروعة في حق الأب فقط عند الجمهور، واستحب جماعة من الحنابلة أنه يعق عن نفسه إذا بلغ، وهي مشروعة ولو بعد موت المولود.
[ العقيقة عن السقط ]
وسئل: عن العقيقة عن السقط... إلخ؟
فأجاب: والعقيقة إنما تشرع فيمن ولد حياً.
[ التسمي بمالك ونافع ومحسن ]
سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهما الله: عن تسمية مالك، ونافع، ومحسن، ومحمد رفيع الدين، أو محمد الصادق؟
فأجابا: لا بأس بالتسمي بمالك، ونافع، ومحسن، ومحمد رفيع الدين، ومحمد الصادق، لأنه لم يرد في الحديث النهي عن ذلك؛ وقد كان في الصحابة من اسمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأضاحي (1516), والنسائي: العقيقة (4215, 4216, 4217, 4218), وأبو داود: الضحايا (2834, 2836), وابن ماجة: الذبائح (3162), والدارمي: الأضاحي (1966).(6/433)
ص -411- ... مالك، ونافع، ومحسن، وفي التابعين جعفر الصادق وغيره.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قوله في كتاب التوحيد: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، حاشا عبد المطلب، ما الحكمة في هذا الاستثناء... إلخ؟
فأجاب: سبب الاستثناء أن بعض العلماء أجاز التسمية بعبد المطلب، لظاهر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة حنين، لما انهزم عنه أصحابه إلا قليلاً: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " 1. فلما حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كل اسم معبد لغير الله، استثنى التسمية بعبد المطلب من ذكر الإجماع، لأجل ما تقدم عن بعض العلماء.
[ معنى لفظتي: السيد والمولى ]
سئل الشيخ أبا بطين: عن معنى لفظتي: السيد والمولى؟
فأجاب: لهما معان كثيرة، ذكر النووي للمولى ستة عشر معنى، منها: المالك، والناصر، والقريب، والصديق، والمعتق، والعتيق، والحليف، والجار؛ والناس يستعملونه، وبعض أهل العلم يكره أن يقال: يا مولاي، ويشدد فيه، وبعضهم يبيحه، والله أعلم. وأما لفظة: السيد، فكره بعض أهل العلم إضافتها إلى غير الله، وأجازه الأكثرون؛ وفي الحديث: " وليقل: سيدي "، يعني: المملوك لمالكه. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن ابني هذا سيد " 2، وقال: " قوموا إلى سيدكم ".
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما قول: يا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2864), ومسلم: الجهاد والسير (1776), والترمذي: الجهاد (1688), وأحمد (4/280, 4/281, 4/289, 4/304).
2 البخاري: الصلح (2704), والترمذي: المناقب (3773), والنسائي: الجمعة (1410), وأبو داود: السنة (4662), وأحمد (5/37, 5/44, 5/51).(6/434)
ص -412- ... سيدي، ومولاي... إلخ، فهذه الألفاظ تستعملها العرب على معان، كسادة الرياسة والشرف. والمولى يطلق على: السيد، والحليف، والمعتق، والموالي بالنصرة، والمحبة، والعتق. وأطلق السيد على الزوج، كما قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } [سورة يوسف آية: 25]. فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر؛ وفي السنة من ذلك كثير. وأما إطلاق ذلك في المعاني الحديثة، كمن يدّعي أن السيد هو الذي يُدْعَى ويعظم، والولي هو الذي ينبغي منه النصر والشفاعة، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة، فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك.
[ هل يدعى المسلم لأمه ]
وسئل: عمن يدعو المسلم لأمه؟
فأجاب: إن الله عز وجل ذكره، قال: في شأن زيد بن حارثة، لما دعاه الناس: زيد بن محمد: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } [سورة الأحزاب آية: 4-5]. وهذه الآية الكريمة دلت على وجوب دعاء الرجل لأبيه، فإن جهل فيدعى بالأخوة الإسلامية، أو بمولى فلان، أو آل فلان، ولم يذكر قسماً رابعاً، وهو دعاؤه لأمه. ونسبة الرجل إلى أمه تأنف منه العرب وأهل المروءة، فضلاً عن أهل العلم والدين، لما في ذلك من غمص والده، والتنويه بأمه بين الأجانب؛ وما ظننت عاقلاً يرضى هذا ويستحسنه، فضلاً عن(6/435)
ص -413- ... أن ينكر على من كرهه ونهى عنه. والآية الكريمة، وإن كانت نصاً في دعوى الرجل إلى من تبناه غير أبيه، فهي عامة في دعائه لأمه، لأن قوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } [سورة الأحزاب آية: 5] نص في أنه لا يدعى لغيره، ولا شك في دخول الأم في الغير؛ وعلى هذا فالنص عام، ولو قيل بخصوصه أخذاً من خصوص السبب، فلا مانع من إلحاق النظير. والجمهور يرون في هذه المسألة أن عموم اللفظ مقدم في الاعتبار على خصوص السبب؛ والأول قال به بعض الأصوليين. وجماهير أهل العلم والتأويل قد رجحوا الثاني؛ وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } عام في ترك دعائهم لغيرهم، وإن كان المدعو إليه أُمًّا؛ فتفطن.
[ تلقيب الإنسان ]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن لقب الإنسان... إلخ؟
فأجاب: قال النووي: باب النهي عن الألقاب التي يكرهها صاحبها: قال تعالى: { وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } [سورة الحجرات آية: 11]، واتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه، سواء كان صفة له، كالأعمى والأعمش، أو صفة لأبيه، أو غير ذلك مما يكرهه، واتفقوا على جواز ذلك على سبيل التعريف، لمن لا يعرف إلا بذلك. ثم قال: باب استحباب اللقب الذي يحبه صاحبه: فمن ذلك علي رضي الله عنه، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده نائماً في المسجد،(6/436)
ص -414- ... وعليه التراب، فقال: قم أبا تراب، قم أبا تراب " 1، فلزمه هذا اللقب الحسن الجميل، وكان أحب أسمائه إليه. انتهى. فقد عرفت الفرق بين اللقب الذي يحبه صاحبه، واللقب الذي يكرهه صاحبه، فإنه ينهى عنه.
وقال الشيخ تقي الدين: وأما الألقاب، فكانت عادة السلف الأسماء والكنى، فإذا أكرموه كنوه بأبي فلان، وتارة يكنى الرجل بولده، وتارة بغير ولده، كما يكنون من لا ولد له إما بإضافة اسمه، أو أبيه، أو أبي سميه، أو إلى أمر له به تعلق، كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة باسم ابن اختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان، لموافقته اسم داود الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كني إبراهيم أبا إسحاق، وكما كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة باسم هرة كانت تكون معه؛ ولا ريب أن الذي يصلح من الكنى، ما كان السلف يعتادونه. انتهى. فقد عرفت أن هذه الألقاب التي يكرهها صاحبها، ليست من عادة السلف، وهم القدوة، والخير في اتباعهم.
[ نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم ]
وسئل: هل نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم، من العقوق؟
فأجاب: قال في كتاب الأذكار: باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ، أن ينادي أباه، أو معلمه، أو شيخه باسمه: روينا في كتاب ابن السني: عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام، فقال: يا غلام من هذا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (441), ومسلم: فضائل الصحابة (2409).(6/437)
ص -415- ... قال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه "؛ قلت: معنى " لا تستسب له " أي: لا تفعل فعلاً تتعرض فيه لأن يسَب أبوك زجراً وتأديبا على فعلك القبيح. وروينا فيه عن عبد الله بن زحر، قال: كان يقال من العقوق أن تسمي أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطريق. انتهى.
وأما القرابة غير الوالدين، فلا أعلم في ندائهم بأسمائهم بأساً.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
انتهى الجزء الخامس
ويليه الجزء السادس
وأوله:كتاب البيع(6/438)
الدرر السنية - المجلد السادس
كتاب البيع
... كتاب البيع(7/1)
ص -5- ... كتاب البيع
الإيجاب والقبول
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عمن كتب إلى آخر ببلد بإيجاب في بيع أو قبول ؟
فأجاب: هذه المسألة لم أر من ذكرها إلا صاحب الإقناع فيه، حيث قال: وإن كان المشتري غائبا عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله: أني بعتك داري بكذا، أو أني بعت فلانا داري بكذا، فلما بلغه الخبر قبل البيع، صح العقد; قال شارحه: لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن القبول، بخلاف ما إذا كان حاضرا، ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب، بينما إذا كان المشتري حاضرا وبينما إذا كان غائبا.
وهذا يوافق رواية أبي طالب في النكاح، قال في رجل مشى إليه قوم، فقالوا: زوج فلاناً فلانة، فقال: زوجته على ألف، ورجعوا إلى الزوج وأخبروه بذلك، فقال: قد قبلت ; هل يكون هذا نكاحا؟ قال: نعم؟
قال الشيخ تقي الدين: ويجوز أن يقال: إن كان العاقد الآخر حاضرا، اعتبر قبوله في(7/2)
ص -6- ... المجلس، وإن كان غائبا جاز تراخي القبول عن المجلس، كما قلنا في ولاية القضاء، قال شارحه: ولم أر المسألة ههنا في الفروع، ولا في الإنصاف، ولا غيرهما
البيوع المنهي عنها
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: وهذه الصور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم في البيع. نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكل ما حرم أكله، وبيع الميتة، وبيع الأصنام وبيع الحر، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والمعاومة، والثنيا، وبيع الثمرة قبل الصلاح، وبيع الطعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنجش، والتصرية، وبيع حاضر لباد، وتلقى الركبان، والغش، والكذب والاحتكار، وأكل الربا وتوكيله، وبيع الذهب بمثله متفاضلا. وبيع الفضة بمثلها متفاضلة، والبر بالبر متفاضلا والذهب بالذهب نسأ، والفضة بالفضة نسأ، والتمر بالتمر نسأ، والشعير بالشعير نسأ، والبر بالبر نسأ، والملح بالملح نسأ، والذهب بالفضة نسأ، والتمر بالبر نسأ، والتمر بالشعير نسأ، والتمر بالملح نسأ، والبر بالشعير نسأ، والبر بالملح نسأ، والشعير بالملح نسأ، واشتراط ليس في كتاب الله، وكل ما تقدم ذكر في الصحيحين، أو أحدهما.(7/3)
ص -7- ... قوله: المزابنة، وهي: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمرٍ كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بطعام كيلا، نهى عن ذلك كله، ويروى المزابنة: أن يباع ما في رؤوس النخل بتمر كيلا مسمى، إن زاد فلي وإن نقص فعلي، قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رؤوس النخل بمائة فرق مثلا، والمخابرة: كرى الأرض بالثلث أو الربع, والمعاومة: أن يبيع حمل الشجر المستقبل أعواما.
قوله: المنابذة، وهي: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، قوله: الملامسة، وهي: لمس الثوب لا ينظر إليه. قوله حبل الحبلة، وكان بيعا يبيعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها; وقيل: إنه كان بيع الشارف ; وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي ببطن ناقته، وقوله: بيع الحصاة، وهو أن يقول: أي موضع وقعت عليه هذه الحصاة من هذه الأرض، فهو لي.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين عن ثمن الكلب ومهر البغي: الخ؟
فأجاب: ثمن الكلب هو أخذ العوض عنه ; ومهر البغي هو الجعل الذي تأخذه على زناها، وحلوان الكاهن:(7/4)
ص -8- ... هو ما يأخذه الكاهن في مقابلة إخباره بالمغيبات، وثمن السنور: هو أخذ العوض عنه، وكسب الحجام: هو ما يأخذه أجرة على حجامته، فأما ما يعطاه بغير شرط فرخص فيه بعض العلماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الذي حجمه، قالوا: ولو كان حراما لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم، وحملوا النهي على الاشتراط خاصة، وتحريم بيع الخمر ظاهر، وهو المعاوضة عنه ; وكذا حكم كل مسكر، وبيع الميتة وما حرم أكله، لما في الحديث المشهور "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه" وثمن الحر ظاهر، وهو أخذ العوض عنه، وبيع عسب الفحل: وهو أخذ العوض عن ضرابه، كما يفعله كثير من الناس في أخذ العوض على نزو الحصان على الرمكة.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن بيع الحصاة وبيع الغرر... الخ؟
فأجاب: وأما بيع الحصاة، فهو أن يقول: إرم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت، أو دابة، فهو لك بكذا، وفسر بأن يقول: أبيعك من هذه الأرض ما تبلغ هذه الحصاة، إذا رميت بها بكذا، وبيع الغرر يدخل تحته صور كثيرة، منها: بيع العبد الآبق، والدابة الشاردة، ومنها بيع الدين لغير من هو في ذمته، إذا كان غير مليء، ويدخل تحته كل مبيع لا يدري مشتريه، أيحصله أم لا، وأما بيع حبل الحبلة، ففيه تفسيران: أحدهما أن أهل الجاهلية كانوا يشترون الجزور ونحوها إلى أن تلد الناقة، ثم يلد ولدها، فيكون النهي لأجل(7/5)
ص -9- ... جهالة الأجل، وقيل: هو أن يبيعه نتاج ما في بطن هذه الناقة، وهو ولدها، لما فيه من الغرر.
وأما بيع الملامسة: فنحو أن يقول: أي ثوب لمسته فهو لي بكذا، فيشتريه من غير نظر إليه ولا تقليب ; وأما بيع المنابذة: هو أن يقول-: كل ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا، والعلة في ذلك جهالة المبيع وقت العقد، ولهذا اشترط العلماء لصحة البيع، معرفة المبيع، ونهيه عن الثنيا إلا أن تعلم، فهو أن يبيعه عددا من الدواب أو الثياب ونحوها، ويستثنى منها غير معين، نحو أن يقول: بعتك هذه الغنم بكذا، ولي منها واحدة أختارها، وفيه صور كثيرة.
وقال رحمه الله تعالى: وأما بيع المضامين والملاقيح، فقيل في المضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الفحول، وفسر بالعكس، وبيع الغنيمة قبل القسمة، المراد به: الإنسان يبيع نصيبه من الغنيمة قبل تمييزه وقبضه.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن بيع المكره بحق ؟
فأجاب: وأما قوله: إلا أن يكره بحق، كما يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا لا بأس بالشراء منه، سواء رضي بذلك أو لم يرض.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن سكوت المرأة عن بيع نصيبها من العقار، هل يوجب صحة البيع أم لا؟(7/6)
ص -10- ... فأجاب: لا يجب به بيع، لعدم وجود الرضا منها صريحا وهي على ملكها، والمشتري يرجع على من باعه، سواء أدرك منه الثمن أم لا، والمرأة لا رجوع عليها والحالة هذه، وما استغل من عقارها رده عليها، أو مثله إن تلف.
بيع الفضولي
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عن تصرف الفضولي ؟
فأجاب: اختلف الفقهاء، فمنهم من قال: لا ينعقد البيع أصلا، ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف، بل الملك باق على ملك صاحبه، ولا ينتقل بتصرف الفضولي، ونماؤه لمالكه، وأما قوله، إذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما لحقك من الغرامة، هل يلزمه غرامة النماء ؟ فنقول: إن كان المشتري جاهلا أن هذا مال الغير، أو كان عالما لكن جهل الحكم وغره الفضولي، فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النماء الذي تلف تحت يده، فهو على الضامن الغارم.
وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: الأشبه بالقواعد الشرعية، ما اقتضته المعاقد المذهبية، من تحريم التصرف في مال الغير بغير إذنه إذا علم بالحال، وأن حكمه حكم الغاصب، لتعديه بتناوله المحظور عليه شرعا بغير إذن مالكه، فنصحح تصرفه، يعني أن الربح الحاصل بتصرفه لمالك المال كأصله، لأنه نماء ملكه ونتيجته، وليس للمتصرف من الربح شيء، ونص عليه الإمام
...(7/7)
ص -11- ... أحمد في المتجر بالوديعة في رواية الجماعة، قال ابن نصر: نصوص أحمد متفقة على أن الربح للمالك.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى، عن قوله: "لا تبع ما ليس عندك" 1 ؟
فأجاب: أهل العلم ذكروا أن النهي يقتضي الفساد، فقالوا: لا يصح أن يبيع ما ليس في ملكه، ثم يمضي فيشتريه ويسلمه للمشتري، فعلى هذا: إذا خالف وفعل لم يصح البيع، وتكون على ملك الذي اشتراها من السوق، فإن تلفت بيد المشتري الثاني ضمنها بقيمتها، لا بثمنها الذي اشتراها به، فإن كانت مثلية مثل المكيل والموزون، ضمنه بمثله.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما ربح ما لم يضمن، فهو أن يبيع ما لا يدخل في ضمانه، كأن يشتري طعاما ويبيعه قبل اكتياله.
وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عن الرجل يقول: من أراد منكم أبيعه ثمن العشرة بأربعة عشر إلى أجل، ويذهب مع المشتري إلى السوق فيشتري ثم يقبضه.
فأجاب: هذا العقد لا يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن ؟ وقال لحكيم بن حزام "لا تبع ما ليس عندك" 2 أي لا تبع ما ليس في ملكك، والحديثان صحيحان، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من شروط البيع: أن يكون البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4613) , وأبو داود: البيوع (3503) , وأحمد (3/402 ,3/434).
2 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4613) , وأبو داود: البيوع (3503) , وأحمد (3/402 ,3/434).(7/8)
ص -12- ... مالكا للمبيع حالة العقد، أو مأذونا له فيه كالوكيل ونحوه، والمقصود: أن هذا البيع باطل محرم.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: عمن باع شيئا من عقار بيت المال حال وضع يده عليه ثم رجعت في بيت المال، هل يحكم برد الثمن؟
فأجاب: نعم، لأن البيع غير صحيح.
سئل بعضهم: عن بيع فضل الماء ؟
فأجاب: الذي اطلعت عليه من الكلام على مسألة بيع فضل الماء، لا يخفاك أن الأحاديث في ذلك مطلقة في الصحيحين وغيرهما، وقد فهم أئمة الحديث من ذلك العموم، كما في حديث: "الناس شركاء في ثلاث" 1 الخ، ولم يخصصوا من هذا العموم إلا ما كان منه محرزا في آنية فإنه يجوز بيعه، قياسا على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب، وهذا على مذهب من يجوز التخصيص بالقياس، وأما شراء نصف رومة من اليهودي، فقد أجاب المحققون: أن هذا كان في صدر الإسلام، وأيضا: فالماء تبع للبئر، قال في مختصر الشرح: ولا يجوز بيع كل ماء عد، كمياه العيون، ونقع، ولا ما في المعادن الجارية، ولا ما نبت في أرضه من الكلأ والشوك، وأما نفس البئر وأرض العين، فهي مملوكة والماء غير مملوك.
والوجه الآخر: يملك، وروى عن أحمد نحو ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3477) , وأحمد (5/364).(7/9)
ص -13- ... فإنه قيل له: رجل له أرض ولآخر ماء، يشتركان الزرع يكون بينهما؟ فقال: لا بأس، وكذا النابت في الأرض، فكله يخرج على الروايتين في الماء، قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن قوم بينهم نهر، فشرب منه أرضوهم، لهذا يوم ولهذا يومان، فيتفقون عليه بالحصص، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أُكْرِيه بدارهم؟ قال: ما أدري، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد نهى عن بيع الماء، فقيل له: إنما نكريه، فقال: إنما احتالوا بهذا ليحبسوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟، انتهى يؤيده ما روى أبو عبيد: أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع فضل الماء إلا ما يحمل منه" 1.
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، عن بيع النهر ؟
فأجاب: جواز بيعه مبني على ملك الماء وعدمه، والصحيح أن الماء يملك بالعمل فيه، لا نفس النقع، فإنه لا يملك إذا لم يكن نبع في ملكه، والعمل هو احتفار السواقي وإصلاحها، وبعث الآبار وعمارتها، فبهذا تكون مملوكة، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشرح، قال: أما الأنهار النابعة في غير ملك، كالأنهار الكبار فلا تملك بحال، ولا يجوز بيعها، ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك، كالطير يدخل في أرضه، ولكل واحد أخذه ويملكه، إلا لأن يحفر منه ساقية، فيكون أحق بها من غيره، وأما ما ينبع في ملكه، كالبئر والعين المستنبطة، فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض، والماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1565) , والنسائي: البيوع (4660 ,4670) , وابن ماجه: الأحكام (2477) , وأحمد (3/338 ,3/339 ,3/356).(7/10)
ص -14- ... المذهب، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي.
والوجه الآخر: يملك، لأنه نماء الملك، وقد روي عن أحمد نحو ذلك، فإنه قيل له: في رجل له أرض، ولآخر ماء، يشترك صاحب الماء وصاحب الأرض الزرع، يكون بينهما، فقال: لا بأس، اختاره أبو بكر، وهذا يدل من قوله: على أن الماء مملوك لصاحبه، وجواز بيع ذلك مبني على ملكه، قال أحمد: لا يعجبني بيع الماء البتة، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأل عن قوم بينهم نهر، فشرب منه أرضوهم، لهذا يوم ولهذا يومان، فيتفقون عليه بالحصص، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أكريه بدارهم؟ قال: ما أدري، أما النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فنهى عن بيع الماء، قيل له: إنه ليس يبيعه إنما يكريه، قال: إنما احتالوا بهذا ليحبسوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟!.
وروى الأثرم بإسناده عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاث، الكلأ والنار والماء" 1 فإن قلنا يملك جاز بيعه، وإن قلنا لا يملك، فصاحب الأرض أحق به من غيره، لكونه في ملكه، والخلاف في بيع ذلك إنما هو قبل حيازته، فأما ما يحوزه من الماء في إنائه، أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحرزه في رحله، أو يأخذه من المعادن، فإنه يملكه بذلك بغير خلاف بين أهل العلم، وليس لأحد أن يشرب منه، ولا يأخذ ولا يتوضأ إلا بإذن مالكه لأنه ملكه، قال أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3477) , وأحمد (5/364).(7/11)
ص -15- ... قراره، ويجوز بيع البئر نفسها والعين، ومشتريها أحق بمائها.
ثم ذكر حديث بئر رومة، وقال بعد ذكره: وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها، وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها بالمهايأة، وكون مالكها أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق، وليس بمملوك ملك مياه الأمطار، فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار يجمع فيها ونحوها من البرك وغيرها، فالأولى أن يملك ماؤها ويصح بيعه، لأنه مباح حصل بشيء معد له، فملكه كالصيد يحصل في شبكته، والسمك في بركة معدة له ولا يحل أخذ شيء منه بغير إذن مالكه، وكذلك إن أجرى من نهر غير مملوك ماء إلى بركة في أرضه يستقر الماء فيها لا يخرج منها، فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة قياسا عليه، انتهى ملخصا، وقد عرفت ما قدمناه.
وسئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، عمن عنده فضل ماء، وإلى جنبه من هو محتاج إليه هل يجوز بذل ذلك الفضل، بجزء مما يخرج من الزرع الذي بجواره، أو بدراهم معلومة، أو آصع معلومة؟
فأجاب: أما فضل الماء، فالسنة واضحة في المنع من بيعه، ووجوب بذله مجانا، لكن ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله: إمكان التحيل على المعاوضة عنه بحيلة جائزة.
قال رحمه الله تعالى: المثال الثامن والثلاثون، إذا استنبط في ملكه، أو أرض استأجرها عين ماء ملكه، ولم(7/12)
ص -16- ... يملك بيعه لمن يسوقه إلى أرضه، أو يسقي بها بهائمه، بل يكون أولى به من كل أحد، وما فضل منه لزمه بذله لبهائم غيره وزرعه، فالحيلة على جواز المعاوضة: أن يبيعه نصف العين، أو ثلثها، أو يؤجره ذلك، فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك، ويدخل الماء تبعا لملك العين أو لمنفعتها، ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهي عن بيع الماء، فإنه لم يبعه، وإنما باع العين، ودخل الماء تبعا، والشيء قد يستتبع ما لا يجوز أن يفرد وحده، انتهى، فلا بد فيما ذكره من بيع جزء من البئر مثلا، أو إجارته، وشروط البيع والإجارة غير خافية عليك.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله، هل يملك المفلا 1 الخ؟
فأجاب: المفلا لا يملك ولو بالشراء.
سئل الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله، عما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء... الخ؟
فأجاب: وأما ما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء إذا كان فيها من يصيد من المسلمين وغيرهم، يحتمل أن يكون الصائد له مسلما، فمن قال: إن الأصل فيما دخل أسواق المسلمين الإباحة، أجازه، ومن جعل الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المفلا: مرتع المواشي.(7/13)
ص -17- ... استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، أبقى الصيد على أصله في التحريم، حتى ينقله ناقل.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد دلنا الشارع على تعليق الحكم به- يعني بالوصف- في قوله في الصيد "وإن وجدته غرقا فلا تأكله، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" 1 وقال في الكلاب: "ولا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره" 2 لما كان الأصل في الذبائح التحريم، ونشك هل وجد الشرط المبيح أم لا؟ بقى الصيد على أصله، انتهى، إذا تبين هذا، فالأحوط: اجتناب ما يتطرق إليه الاحتمال الذي صورنا، حتى يتحقق أن الصائد مسلم، على ما قرره ابن القيم رحمه الله.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن فرس شريت بمال حرام وحلال، هل يصح الشراء... الخ؟.
فأجاب: وأما الفرس التي شريت بمال حرام وحلال، إن اشتراها بعين المال الحرام المخلوط بالحلال، لم يصح الشراء، وإن اشتراها في ذمته، ثم نقد ذلك الثمن صح البيع، وعليه إثم الحرام، ووجب عليه رد نظيره إلى صاحبه، فعلى القول بعدم صحة البيع، فولدها وولد ولدها على فذلك، وعلى القول بالصحة، فالجميع ملكه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عمن باع ما لم يره..... إلخ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1469).
2 البخاري: الوضوء (175) والبيوع (2054) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والنسائي: الصيد والذبائح (4264 ,4269 ,4270 ,4272 ,4273 ,4274 ,4275) , وأبو داود: الصيد (2854) , وأحمد (4/380) , والدارمي: الصيد (2002).(7/14)
ص -18- ... فأجاب: ومن باع ما لم يره ثبت له خيار الرؤية، إذا كان ما استوفى صفات البيع.
وقال الشيخ: حسن بن حسين بن علي: أهل العلم ذكروا أن البيع بالصفة ينقسم إلى قسمين، موصوف معين، وموصوف في الذمة، فالأول كأن يقول: بعتك عبدي التركي، أو من أمتعتي التي في ظروفها، أو تمري الذي على رؤوس النخل، ويصفه له بما يميزه، فهذا لا يشترط فيه قبض ثمن ولا مثمن، ويصح أن يكون ثمنه دينا كالحاضر،
والثاني: يشترط فيه قبض الثمن أو المثمن بالمجلس، فلا يصح أن يكون ثمنه دينا، كأن يقول: بعتك عبدا تركيا أو ثمرا من ذمتي ويصفهما، هذا ما ظهر من كلامهم.
وسئل: عمن اشترى طعاما لم يره، ولم يوصف له... إلخ؟
فأجاب: إذا اشترى من ذمته زادا لم يره، ولم يوصف له، بثمن مؤجل، لم يلزمه العقد، وليس بصحيح، وهو من بيع الدين بالدين، وإن كان رأى الزاد، أو وصفه له، انعقد فيما إذا رأى الزاد، وأما الموصوف، فإن كان موصوفا معينا انعقد أيضا وإن كان في الذمة لم يصح، ولم ينعقد إلا بقبض الثمن في المجلس قبل التفرق.
سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق: إذا باع رجل جملا، واشترط حملانه إلى موضع معين، هل يصح؟ وإذا تلف هل ضمانه على المشتري أو البائع؟
...(7/15)
ص -19- ... فأجاب: إذا باع الجمل واشترط حملانه إلى موضع معين، صح الشرط، كما دل عليه حديث جابر، فإن تلف في يد البائع، فضمانه على المشتري، وليس على البائع ضمان، لأنه أمانة في يده، إن تلف بغير تعد منه فلا ضمان عليه، ثم بعد أن كتبنا هذا الجواب: عثرت على كلام لابن القيم رحمه الله في هذه المسألة، وقرر: أن ضمان البعير في هذه الصورة على البائع، وعلل بأن قبض المشتري والحالة هذه غير تام، فليراجع كلام ابن القيم رحمه الله، وهو في كتاب الإعلام في آخره.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: أما البيع بالصفة، فالبيع صحيح، ولو تلف قبل القبض كان من ضمان البائع، لكن للمشتري الخيار إذا بان بخلاف ما وصف له.
سئل الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهم الله: إذا اشترى رجل من شخص ناقة بصفة، وتركها مع البائع ثم نتجت بنتاج منفصل، هل النتاج للبائع في مقابلة الضمان أم لا؟
فأجاب: إن كان المشتري قد قبضها ثم تركها مع البائع، فيد البائع يد أمانة لا ضمان عليه فيها، فيكون النتاج للمشتري لذلك، وإن كان البائع لم يمكنه من القبض، لأنه لم يعطه الثمن ونحو ذلك، فالنماء للبائع في مقابلة ضمانه، إذ لو(7/16)
ص -20- ... تلفت في هذه الحال لانفسخ فيها العقد، هذا فيما إذا كانت معينة، كما هو ظاهر السؤال، والله أعلم.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن بيع التمر بظروفه.
فأجاب: قال في المنتهى وشرحه: ويصح بيع ما بوعاء، كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة، كل رطل بكذا، أي: سواء علما مبلغ الوعاء أو ما به أو لا، لرضاه بشراء الظروف كل رطل بكذا، كالذي فيه، ويصح ما بوعاء دونه، أي: الوعاء، مع الاحتساب بزنته، أي الوعاء على اشتراط، إن علما حال العقد مبلغ كل منهما وزنا، لأنه إذا علم أن ما بالوعاء عشرة أرطال، وأن الوعاء رطلان، واشترى كذلك كل رطل بدرهم، صار كأنه اشترى العشرة التي بالوعاء باثني عشر درهما، فإن لم يعلما مبلغ كل منهما لم يصح البيع، لأدائه إلى جهالة الثمن، انتهى، فتأمله فإنه صريح في المسألة، وافهم الفرق بين الصورتين.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، إذا باع رجل شقصا، واستثنى سهما معلوما من غلة الشقص مدة... إلخ؟
فأجاب: لا يصح هذا الاستثناء، فإن استثناء الغلة مدة سنين، لا أعلم أحدا قال بجوازه من العلماء، وإنما إلخلاف بينهم فيما إذا باع نخلا لم يؤبر، واستثنى البائع غلته الموجودة تلك السنة، فمالك رحمه الله، قال: لا يجوز، والحنابلة(7/17)
ص -21- ... يقولون: بالجواز، وعللوا ذلك بأنه بيع حال العقد، فصح استثناؤه كغيره من العين المبيعة، وأما استثناء الغلة مدة سنين معلومة، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن الثنيا إلا أن تعلم" 1 بل منع كثير من الفقهاء استثناء الحمل، الذي في بطن الدابة أو الأمة مع كونه موجودا حالة العقد، كما هو المشهور في المذهب، فإذا كان هذا كلامهم في الموجود حالة العقد، فما ظنك بالمعدوم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن اشترى فرسا، واستثنى شيئا لم يخلق؟.
فأجاب: من باع فرسا واستثنى شيئا لم يخلق، فهذه ثنيا باطلة، للحديث: "نهى عن الثنيا إلا أن تعلم" 2.
وأجاب أيضا: وأما بيع الخيل بالمثاني فهو حرام، لا تجوز الشهادة عليه، ولا الكتابة بينهم.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى عضوا من الذبيحة قبل الذبح ؟
فأجاب: العضو إذا اشتري من الذبيحة فهو غرر، هذا إذا كان قبل الذبح.
وأجاب: الشيخ عبد الله العنقري: والذي يبيع حيوانا مما يؤكل ويستثنى منه عضوا، فهذا لا يجوز، فإن كان المستثنى رأسا أو جلدا أو سواقط، أو يكون المستثنى سهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الأيمان والنذور (3880).
2 النسائي: الأيمان والنذور (3880).(7/18)
ص -22- ... مشاعا، كالربع ونحوه، فلا بأس بذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز بيع ما هو مستتر في الأرض، كالبصل ونحوه؟
فأجاب: المسألة فيها روايتين وجزم الشيخ بالجواز.
قال الشيخ: عبد الله أبا بطين: ومن بيع الغرر بيع اللبن في الضرع، نحو أن يشتري من حليبها أسبوعا أو شهرا، ونحو ذلك.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن البيع بما ينقطع به السعر.... إلخ؟
فأجاب: الرجل الذي باع على ما ينقطع به سعر فلان، فالشيخ يصححه، وغالب العلماء ما يصححونه.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: عن بيع الصبرة فيها كذا وكذا بالدراهم، هل يجوز ؟
فأجاب: لا يجوز، واحتجوا بما روى الأثرم بإسناده عن الحكم، قال: "قدم طعام لعثمان رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهبوا إلى عثمان نعينه على طعامه فقال عثمان: إن في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سميت الكيل فكل" واحتج به أحمد، فعلى هذا إذا أعلمه بالكيل والوزن، ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن زاد أو نقص لم يجز.
وسئل بعضهم: عن بيع الصبرة جزافا... إلخ؟(7/19)
ص -23- ... فأجاب: يجوز ويصح، قال ابن أبي عمر: لا نعلم فيه خلافا، لقول ابن عمر "كنا نشتري الطعام جزافا" قال ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا، وقال مالك: لا يصح في الأثمان، لأن لها خطرا، ولا يشق وزنها ولا عددها، وإن كان البائع يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافا، وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد، وبه قال مالك وإسحاق، وقال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، ولم ير الشافعي بذلك بأسا، لأنه إذا جاز مع جهلهما فمع العلم من أحدهما أولى، وروى الأوزاعي "أنه صلى الله عليه وسلم قال: من عرف مبلغ شيء، فلا يبعه جزافا حتى يبينه" قال القاضي وأصحابه: هذا بمنْزلة التدليس، إن علم به المشتري فلا خيار له، انتهى.
وأجاب الشيخ: حمد بن عبد العزيز، وأما كون البائع قبض تمره، وآواه إلى منْزله، ثم باعه، يشاهده المشتري، بثمن معلوم، فهذا يدخل في بيع الصبرة، وهو جائز، ولا يخرجه عن بيع الصبرة كونهما يعلمان وزنه الأول، أو كونهما اتفقا على إسقاط وزان عن نقصه، كل ذلك لا يخرجه عن كونه صبرة مشاهدة، بيعت بثمن معلوم، وذلك جائز عند الفقهاء، انتهى.
قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: وأما الذي قال أنا أعطيك بعشرة هذه الزرور، التي في ذمة هذا الرجل عشرة آصع، فلا يجوز هذا، لأنه غرر.
سئل بعضهم: عمن قال لمن اشترى سلعة بعشرة، أنا أعطيك مثلها بتسعة... إلخ؟(7/20)
ص -24- ... فأجاب رحمه الله تعالى: وأما من قال لمن اشترى سلعة بعشرة:
أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو قال لمن باع سلعة بتسعة، عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع ويعقد معه ; فهذه المسألة لها صور، فإن الأولى تسمى: بيع الرجل على بيع أخيه، والصورة الثانية: الشراء على شراء أخيه وفعله حرام، ويتصور ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط وهو محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" 1 ومثله أن يقول: أبيعك خيرا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري، ليفسخ البيع ويعقد معه، فلا يجوز ذلك للنهي عنه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه" 2 متفق عليه، وهذا في معنى الخاطب، فإن خالف وفعل، فالبيع الثاني باطل للنهى عنه، والنهي يقتضي الفساد.
وفيه وجه آخر: أنه يصح، لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري، وذلك سابق على البيع، ولأن النهي لحق آدمي، فأشبه بيع النجش، وهذا مذهب أحمد، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ عوضها.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما بيعه على بيع أخيه، فهو أن يقول لمن اشترى سلعة من مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2150) , والنسائي: البيوع (4496) , وأبو داود: البيوع (3443) , وأحمد (2/420 ,2/465).
2 البخاري: النكاح (5142) , ومسلم: النكاح (1412) , والترمذي: البيوع (1292) , والنسائي: النكاح (3243) , وأبو داود: النكاح (2081) , وأحمد (2/21) , ومالك: النكاح (1112) , والدارمي: النكاح (2176).(7/21)
ص -25- ... بعشرة مثلا: أبيعك مثلها بتسعة، ليفسخ البيع ويعقد معه، وقيد بعضهم ذلك بمجلس الخيار، وقال بعض العلماء: هذا ممنوع بعد التفرق من المجلس، لأن ذلك يوجب للمشتري التحيل على رد البيع وفسخه، وأما النجش، فهو: أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها، ليغر المشتري ويضر به، انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وقوله: لا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه، إذا فعل ذلك في مجلس الخيار، وكذلك الإثم في تلقي الركبان حاصل لهم، ولا أدري عن صحة البيع أو عدمها.
قال الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد رحمهم الله: ومنها، أي: المعاملات الربوية، أن يبيعه سلعة بنسيئة، ثم يشتريها منه بأقل مما باعها به نسيئة.
وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: الذي ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في صفة العينة المحرمة، هي المسؤول عنها، قال علماؤنا رحمهم الله: ومن باع سلعة بنسيئة، أو بثمن لم يقبضه، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن قصد بالعقد الأول الثاني، بطل الأول والثاني جميعا، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وهذه هي مسألة العينة المشهورة، وروي تحريمها(7/22)
ص -26- ... عن ابن عباس وعائشة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وإسحاق وأصحاب الرأي.
واحتجوا على ذلك: بما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم الزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينْزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم" 1 وهذا وعيد شديد، يدل على التحريم، وروى غندر عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن امرأته العالية، قالت: "دخلت وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأة، على عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، فقالت: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب" رواه الإمام أحمد، وسعيد بن منصور.
قالوا: والظاهر أنها لا تقدم على مثل هذا الوعيد الشديد، إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح به بيع ألف بخمسمائة، ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في مثل هذا، أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، ولم يستثنوا من ذلك إلا أن تتغير صفتها بما ينقصها، أو ينقص ثمنها، مع أن أحمد رحمه الله توقف في رواية مهنا، فيما إذا نقص في نصه، لأن علة المنع باقية.
واختار الموفق وغير واحد من أصحاب أحمد: الجواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3462) , وأحمد (2/42 ,2/84).(7/23)
ص -27- ... إذا تغيرت الصفة، وذلك مثل هزال العبد، أو نسيان الصنعة، أو تخرق الثوب، وذلك لأن الثمن لنقص البيع، لا للتوسل إلى الربا، فهذه الصورة مما استثنوها من بيع العينة المحرمة;
الصورة الثانية: إذا كان بيعها الأول بعرض، قال في المغني: لا نعلم فيه خلافا.
الصورة الثالثة: إذا كان بيعها الأول بنقد واشتراها بعرض، قال- في المغني: لا نعلم فيه خلافا.
الصورة الرابعة: إذا كان باعها بنقد، واشتراها بنقد آخر، فقيل: يجوز، وقال الموفق وغير واحد: لا يجوز، قال في الإنصاف: وهو الصواب.
الصورة الخامسة: إذا باعها بمثل الثمن الأول، من غير زيادة ولا نقصان، فإن ذلك جائز، قاله غير واحد من علمائنا رحمهم الله.
الصورة السادسة: إذا باعها بأكثر من ثمنها الأول جاز أيضا فإن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه، فهي كمسألة العينة.
الصورة السابعة: إذا وجدها تباع من غيره، إلا أن يكون وكيلا له، وقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز إلا أن تتغير السلعة، لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا، فهي كمسألة العينة، ونقل أبو داود عن أحمد: يجوز بلا حيلة; وأما إن اشترى السلعة التي باعها، بنقد بسلعة أخرى، أو بأقل من ثمنها، أو بمثله، جاز، فإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها، فهو كمسألة العينة أيضا; ونقل المروذي فيمن يبيع الشيء ثم يجده يباع، أفيشتريه بأقل مما باعه بالنقد؟ قال لا، ولكن بأكثر لا بأس،
قال الموفق رحمه الله: يحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إذا لم يكن مواطأة ولا حيلة، بل وقع(7/24)
ص -28- ... اتفاقا بلا قصد، ومن مسائل العينة أيضا: إذا باعه شيئا بثمن لم يقبضه، ثم اشتراه بأقل مما باعه نقدا على الخلاف المتقدم، لم يصح، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، وهو ظاهر كلام أحمد، قاله في الإنصاف.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما بيع السلعة بنسيئة، ثم يشتريها البائع بأقل مما باعها به نقدا، نحو أن يبيعه إياها بخمسين إلى أجل، ثم يشتريها بثلاثين نقدا قبل قبض الخمسين، فهذه مسألة العينة، لكن اشترط الفقهاء لعدم الجواز، أن لا تتغير صفتها، فإن تغيرت بهزل أو نحوه، فلا بأس أن يشتريها بأقل مما باعها به نقدا.
وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا تغير المبيع جاز بأكثر أو أقل.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: صاحب الدار الذي عجز عن بعض ثمنها، وقال للمشتري: خذها بما بقي من ثمنها، إن كانت تغيرت عن حالها الأولى ولو يسيرا فلا بأس بذلك، وإلا فيبيعها على غير البائع.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن أخذ العروض عن النقود وبالعكس... إلخ؟
فأجاب: إن كان المراد أخذ العروض عن النقود التي في الذمة عن ثمن ربوي، كما إذا باع تمرا أو نحوه بأحد النقدين إلى أجل، ثم أخذ عما في الذمة من جنس المبيع،(7/25)
ص -29- ... أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، فهذا لا يصح على المعتمد، وإن كان غير ذلك، كقيمة متلف أو أجرة ونحو ذلك، فيجوز أن يأخذ عما في الذمة عن النقد عرضا وبالعكس، بل يجوز أخذ أحد النقدين عن الآخر بسعر يومها، كما في حديث ابن عمر.
وقال أبناؤه: ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله كثير من الناس، يبيع الطعام نسيئة، فإذا حل ثمنه أخذ عنه طعاما بسعر الواقع، وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز، لأنه حيلة وذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة.
وقالوا أيضا: ومنها كونه يبيع تمرا أو عيشا إلى أجل، فإذا حل الأجل أخذ منه بتلك الدراهم تمرا أو عيشا، وهذا حرام عند أكثر العلماء، لا سيما إذا قصد في ابتداء العقد، وعرف أنه لا يستوفي منه إلا تمرا أو عيشا.
وأجاب الشيخ: عبد الله أيضا، وأما من باع طعاما بدراهم إلى أجل معلوم، فهذا لا بأس به، ولا يجوز أن يأخذ عن الدراهم طعاما، من جنس ما باع عليه بالدراهم.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، تحت رسالة أعمامه في الربا والحيل المحرمة، الأعمام رحمهم الله: اختاروا عدم التفصيل خوفا من الاسترسال، وردعا للعامة الذين لا يحسنون التفصيل، ولا يفهمون الشروط عن الوقوع في الربا الصريح، فحسموا المادة حسما تاما.(7/26)
ص -30- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز بيعه به نسيئة، ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوزاه، واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل الزمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاما، ما أوفاه، فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك، لأن هذا حاجة أبلغ من احتياجه إلى الطعام، والحنابلة يتوصلون إلى إجازة ذلك، بأن يشتري الذي له الدين من غريمه الطعام بثمن في الذمة، فإذا ثبت الثمن في ذمة المشتري الثاني، قال لغريمه: في ذمتك لي مثلا ريال، وفي ذمتي لك ريال، فهذا بهذا ويسمون هذا مقاصة، وهو جائز عندهم.
وأجاب أيضا: وأما أخذ الطعام عن الدراهم ثمن السمن، فالخلاف في هذه المسألة مشهور في زمن السلف، هذا إذا كان الطعام حاضرا ليس مؤخرا، وأرى في هذه المسألة الغفلة عن الفاعل.
وأجاب أيضا: الذي يأخذ عن الدراهم ثمن الغنم زادا، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، فإن كانت الدراهم ثمن لحم، فلا ينبغي أخذ الزاد منها، خروجا من الخلاف.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن باع ربويا بدراهم نسيئة، فلما حل الأجل أعسرت الدراهم على(7/27)
ص -31- ... المبتاع، وهو موسر بحب أو تمر، هل يحل أخذ الطعام بسعر الدراهم؟
فأجاب: هذه المسألة مسألة خلاف بين العلماء، والمذهب في ذلك المنع، وهو الذي عليه مشايخنا، وجوز ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية إذا لم يكن بينهما حيلة، والثانية صفة الأولى، لكن المباع قهوة، هل يحل أخذ الطعام بسعره مع عدم الدراهم؟
فالجواب عن هذه المسألة جواب ما قبلها.
وسئل: إذا كان عند إنسان طعام، أو قهوة أو نحو ذلك، وأتاه رجل وقال: أعطني سعر ريال بريالين نسيئة، هل يصح؟
فأجاب: يصح بغير خلاف.
وسئل: إذا قال اشتر لي هذه الدابة ونحوها بثمن عاجل، وبعنيه بالمثلين آجلا، هل يصح ؟
فأجاب هذه المسألة مسألة العينة، التي وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بتحريمها، وأنها عين الربا.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: رجل عليه دين لرجل، أو يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به، أو يتاجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه، ثم يبيعه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شراه، ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟.
فأجاب: من كان له عليه دين، فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه(7/28)
ص -32- ... عليه بمعاملة ولا غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة، أو التجارة فيها، جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم، فيشتريها بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى التورق، قال أبو عمر بن عبد البر: التورق أخية الربا.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، هل يحبس أحد عن الموسم... إلخ؟
فأجاب: أما الموسم الذي يقع فيه البيع والشراء، فلا يحبس عنه أحد، ولا يجبر البائع على بيع سلعته في بلاد معينة، بل يترك يبيع سلعته في القرية التي يريدها من قرى المسلمين.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، عن الاحتكار... إلخ؟
فأجاب: أما الاحتكار، فإذا اشترى أحد من الأسواق ينتظر الغلا، فهو الاحتكار.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، المحتكر: من يشتري ولا يبيع، مع حاجة الناس إليه، فيضيق عليهم، وأما من يشتري ويبيع في الحال، فالجالب مرزوق ليس محتكرا.
وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين، وأما الاحتكار فنحو إذا كان بالناس حاجة إلى الطعام، فيشتري إنسان ما يجلب(7/29)
ص -33- ... للبلد من الطعام ليبيعه على أهل البلد، فنهى عن ذلك لما فيه من التضييق عليهم.
وسئل: عمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه ؟
فأجاب: الذي يظهر لنا أن هذا يتناول المكثر من الحلف بالله، بحيث إنه لا يبيع شيئا ولا يشتري إلا مع الأيمان، وإن لم يكن متعمدا للكذب، فمن كان كذلك فلا بد أن يقع في اليمين الكاذبة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، عن رفع الصوت بالذكر في مجالس الناس، كالأسواق ونحوها؟
فأجاب: لا أعلم فيه دليلا شرعيا، ومن ادعى المشروعية طولب بالدليل، فإن أتى بدليل سلم إليه، والعبادات مبناها على أمر الشارع صلى الله عليه وسلم وأما مجرده من غير رفع صوت، فهو مأثور.
وقد سألنا الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف عن هذه المسألة، فلم ير رفع الصوت في الأسواق بالذكر.
... باب الشروط في البيع(7/30)
ص -34- ... باب الشروط في البيع
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن كان له في ذمة رجل دراهم، واشترى من آخر شيئا، بشرط أن يقبل الثمن من ذمة غريمه؟
فأجاب: وأما إذا كان في ذمة رجل لرجل دراهم، واشترى من آخر شيئا بشرط شرط له: يقبل الثمن من ذمة فلان، فلا أرى فيه بأسا.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ، إذا اشترط قوة الكيل، ورضي البائع؟
فأجاب: إذا اتفق البائع والمشتري على ما ذكر، ولا غرر في ذلك، فلا مانع، وقد نص أحمد على كراهة الزلزلة عند القبض، لاحتمال زيادة على الواجب، قال الفتوحي في شرح المنتهى: ولأن الرجوع في كيفية الاكتيال إلى عرف الناس في أسواقهم، ولم تعهد فيها، انتهى.
قال الشيخ منصور: وفيه نظر، بل عهد ذلك في بعض الأشياء، فعليه لا يكره فيها كالكشك، انتهى، قلت: وعليه أيضا: لا يكره في القهوة ونحوها، لكون العرف فيها زلزلة المكيال، وذكر الشيخ(7/31)
ص -35- ... محمد الخلوتي: أن الآية محمولة على ما يتضمن أخذ زيادة، لا تسمح بها النفوس عادة.
وسئل الشيخ: أبا بطين عمن اشترى قهوة مثلا، وكالها كيلا جيدا، فلما باعها اشترط أن يكيلها هو، أو فلان، والحال أنه أنقص من الأول... إلخ؟
فأجاب: الذي أرى- والله أعلم- أنه إذا قال للمشتري أكيل أنا، أو فلان، والحالة أن كيله أو كيل فلان، أنقص من الكيل الأول الذي اكتاله البائع، أن ذلك لا يمنع، وأما إذا اشترط البائع على المشتري: أنه لا يكيلها إلا أنت، أو فلان، فهنا الشرط غير صحيح; ويجوز أن يتولى الكيل غير المعين المشروط، كما قالوا إذا اشترط في السلم مكيالا معينا له عرف، أنه لا يصح هذا الشرط، ولا يلزم التعيين.
سئل بعضهم: إذا اشترط شرطين... إلخ؟
فأجاب: رحمه الله إذا اشترط المشتري على البائع شرطين، كحمل الحطب وتكسيره، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، إحداهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد: أن ذلك جائز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله، واحتج من أبطل ذلك بما روى عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا تبع ما(7/32)
ص -36- ... ليس عندك" 1
أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
واختلف أهل العلم في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان، ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا، وشرط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله، إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل، وكذلك فسر القاضي الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير،
وكذلك روى عن أحمد: أنه فسر الشرطين، أن يشتريها على أنه لا يبيعها لأحد ولا يطوها، ففسره بشرطين فاسدين، ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فأما إن كانا من مصلحة العقد، كشرط الرهن والضمين فإن ذلك يصح، اختاره الموفق والشارح والمجد وغيرهم من العلماء، انتهى.
وقال الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى: عبارة الشرح في تفسير الشرطين، وكذا عبارة الإنصاف التي نقلت أشرفنا عليها، والذي عليه الفتوى: أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين.
وأجاب أيضا: وأما البيعتان في بيعة، فالمشهور عن أحمد: أنه اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر، كبيع أو إجارة أو صرف الثمن، أو قرض ونحو ذلك. وعنه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560).(7/33)
ص -37- ... البيعتان في بيعة، إذا باعه بعشرة نقدا، وعشرين نسيئة، وقال في "العمدة" البيعتان في بيعة، أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح، أو بعشرين مكسرة، أو يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا، انتهى، فجمع، بين الروايتين، وجعل كلا الصورتين، دخلا في معنى بيعتين في بيعة.
وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا" 1 فهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله، للناس في البيعتين في البيعة تفسيران، أحدهما: أن يقول هو لك بكذا بنقد، أو بنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة" 2 قال سماك: هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا، وبنقد بكذا وكذا، رواه الإمام أحمد.
وعلى هذا فله وجهان، أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهما، ويتفرقا على ذلك، وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه يتعذر من هذا الحديث، فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم، والثاني أن يقول: هي بنقد بكذا، وأبيعه بنسيئة بكذا، كالصورة التي ذكرها ابن عباس، قال: إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3461).
2 أحمد (1/398).(7/34)
ص -38- ... ومعنى استقمت: أي قومت السلعة، يعني إذا قومت السلعة بنقد فلا تبعها بنسيئة، معناه: إذا قومتها بنقد بعشرة مثلا، يجعلها بأكثر نسيئة، يعني إذا قلت هي بنقد بكذا وأبيعها بنسيئة بكذا، فيكون قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة، وجعل النقد معيار النسيئة، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم "فله أوكسهما أو الربا" 1 فإنه مقصوده حينئذ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الربا فهو مربي.
التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن، على أن يشتري المشتري منه ذلك الثمن، وأولى منه: أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك، وهذا أولى بلفظ البيعتين في بيعة، فإنه باع السلعة وابتاعها، أو باع الثمن وابتاعه، وهذه صفقتان في صفقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة وما أشبهها، مثل أن يبيعه نسأ ثم يشتري بأقل منه نقدا، أو بنقد ثم يشتري بأكثر منه نسأ ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصفقتين، إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه، فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين، وهو النقد، فإن ازداد فقد أربى، انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا على هذا الحديث.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيعتين في بيعة" 2 وقال: "لا يحل سلف وبيع" 3 وقد ذكر العلماء رحمهم الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3461).
2 الترمذي: البيوع (1231) , والنسائي: البيوع (4632).
3 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560).(7/35)
ص -39- ... لذلك صورا كثيرة، وضابطها: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على صور من ذلك، نحو أن يشترط أحدهما على صاحبه سلما، أو إجارة أو بيعا، أو قرضا أو شركة، أو صرفا للثمن أو غيره، قال الأصحاب: وكذلك كل ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك كذا بكذا، بشرط أن تزوجني ابنتك، أو أزوجك ابنتي، وكذا أن تنفق على عبدي أو دابتي، أو نصيبي من ذلك قرضا أو مجانا، وذكروا صورا.
فإذا عرفت ضابط المسألة، تبين لك تفصيلها وأنواعها، فإذا أجره أرضه أو زارعه عليها، وشرط عليه أن يقرضه أو يبيعه كذا، أو ساقاه على نخله وشرط أن يبيعه أو يسلم إليه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهذا ونحوه، من نحو بيعتين في بيعة، وصفقتين في صفقة، وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صفقتين في صفقة" 1 2.
وأجاب أيضا: وأما النهي عن بيعتين في بيعة، فنحو أن يقول: أبيعك دابتي هذه بكذا، بشرط أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا، أو تؤجرني دارك بكذا، أو يسلم إليه في طعام، ويشترط أن يشتري منه شيئا، ومنه أن يقول: أشتري دابتك هذه بعشرة مثلا، ويشترط عليه أن يأخذ عن العشرة أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/398).
2 وله جواب آخر في الطبعة الأولى شبيه بهذا فحذف هنا خشية التكرار.(7/36)
ص -40- ... بعضها ثوبا أو صرفها أو نحو ذلك، كما يفعله كثير، وضابطه: أن يشتري شيئا، ويشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر;
وأما النهي عن سلف وبيع، فنحو أن يشتري منه سلعة، أو يسلم إليه في طعام أو غيره، ويشترط عليه أن يقرضه شيئا.
وأما اشتراط صاحب الأرض ونحوها على مستأجرها، أن يستسلم منه فلا يجوز، وهو كبيعتين في بيعة كما تقدم، وأما إذا اشترط البائع على المشتري اشتراء سلعة من غيره، فالذي يظهر أن هذا شرط فاسد.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ، إذا قال إن جئتني بحقي في مدة كذا، وإلا فالرهن لك.
فأجاب: الرجل الذي رهن رهنا، وقال له المرتهن إن لم تقضني في هذه المدة أو مضت المدة ولا قضيتني، فهي لي بالذي عندك، فهذا لا يجوز، وهذا يسمى غلاق الرهن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن" 1.
وأجاب أيضا: إذا قال إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك، فهو رهن فاسد، وهذا ينافي مقتضى العقد، فإذا اشترط هذا فسد العقد، ويتخرج لا يفسد، والأول أظهر.
وسئل عن بيع العربون ؟
فأجاب: هذه المسألة ورد فيها حديث، رواه أبو داود وابن ماجه، وفيه راو لم يسم، وسمي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).(7/37)
ص -41- ... في رواية، فإذا هو ضعيف، وله طرق ولا تخلو عن مقال، قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان" 1 وفسره مالك بصورة المسألة، قال في سبل السلام: اختلف الفقهاء في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر، ودخوله في أكل المال بالباطل، وروي عن عمر وابنه وأحمد جوازه، انتهى، قلت: وضعف أحمد حديث العربون في النهي عنه،
قال في الشرح، الثالث: أن يشترط شرطا يفسد البيع، كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي فلان، فلا يصح، وكذلك إذا قال: إن جئتك بحقك في محله، وإلا فالرهن لك، فلا يصح البيع إلا بيع العربون، فقال: أحمد لا بأس، لأن عمر فعله.
وسئل أيضا: إذا اشترط البراءة من جميع العيوب هل يبرأ.
فأجاب: إذا شرط البراءة من كل عيب لم يبرأ، وعنه يبرأ إلا إذا علم البائع العيب فكتمه.
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: المثال الثاني والثلاثون، إذا رهنه رهنا بدين، وقال: إن أوفيتك الدين إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بما عليه، صح ذلك، وفعله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة، واحتجوا بقوله "لا يغلق الرهن" 2 ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبه في الجاهلية: أن المرتهن يتملك الرهن بغير إذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3502) , وابن ماجه: التجارات (2192).
2 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).(7/38)
ص -42- ... المالك إذا لم يوفه، فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول، فلم يبطله كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس صحيح، ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه: أنه بيع علق على شرط ونعم، فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المتراهنين، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله، ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن، من تكليفه الدفع إلى الحاكم، وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه، والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه، سوى الخسار والمشقة، فإن اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول، كان أصلح لهما وأنفع، وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة، والحيلة في جواز ذلك، بحيث لا يحتاج إلى حاكم أن يملكه العين التي يريد أن يرهنها منه، ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته، ثم يقول: إن وفيتك الثمن إلى كذا وكذا، وإلا فلا بيع بيننا، فإن وفاه وإلا انفسخ البيع، وعادت السلعة إلى ملكه، وهذه حيلة حسنة، محصلة لغرضها من غير مفسدة، ولا يتضمن لتحريم ما أحل الله ولا تحليل ما حرم الله، انتهى.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عمن باع دابة، وشرط مرضا... إلخ؟
فأجاب: وأما المرض الذي يذكره البائع للمشتري، فإن(7/39)
ص -43- ... أطلق عم جميع أنواع المرض، وإن خص مرضا دون غيره فماتت الدابة، ولم يعلم المشتري هل هو من المرض المشروط، أو من غيره، فهنا تتوجه اليمين على المشتري، {وَالصُّلحُ خَيْر}، [النّساء: 128].
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن قولهم: من اشترى متاعا فوجده خيرا مما اشترى. إلخ؟
فأجاب: وأما قولهم: من اشترى متاعا فوجده خيرا مما اشترى، فعليه رده، فهذا كما لو اشترى عباءة، يقول صاحبها إنها صوف أو قز، فوجدها المشتري قيلانا، والبائع جاهل الحال، كما لو اشتراها قيلانا فوجدها المشتري صوفا، ونحوه فله ردها، وكما لو اشترى "غازيا" على أنه ناقص فوجده وافيا لزمه رده، والظاهر أنه إذا أخبر صاحبه بالحال، فسمحت به نفسه، جاز.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عن قولهم: ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فلا يملك به.
فأجاب: معنى ذلك أن العقود الفاسدة التي نهى عنها الشرع، يحرم تعاطيها، ولا ينتقل الملك بها، ولو تراضيا على ذلك المتعاقدان، فقولهم: ويحرم ذلك، يعنون أن من فعل ذلك فهو آثم، لأنه فعل ما لا يجوز له، ومع الإثم لا يتم به ملك أيضا، لئلا يظن الجاهل أن من فعل ذلك فسد عقده(7/40)
ص -44- ... فقط، بل يقال: يأثم ويفسد العقد ولا يملك به، فيجب رد السلعة إلى البائع، وصور العقد الفاسد كثيرة لا تنضبط، يدخل فيه كل بيع نهي عنه، سواء كان من الربويات أو من غيرها، كالطعام الذي يباع قبل قبضه، وكالعينة، وكما لو جمع بين سلف وبيع، أو شرطين في بيع، أو باع ما ليس عنده.
فكل هذه العقود يحرم تعاطيها، ولا ينتقل الملك فيها، بل يبقى الثمن على ملك المشتري، والمثمن على ملك البائع، ويرد كل مال إلى مالكه بزياداته إن كان قد زاد، وهذا مذهب أحمد والشافعي، وأما أبو حنيفة: فعنده إن تقابضا حصل الملك، قال: وللبائع المطالبة في رد المبيع، فيأخذه بزيادته المتصلة، وأما قبل القبض فلا يحصل الملك بالعقد الفاسد، كما ذهب إليه الشافعي، وأحمد.
وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، كل موضع فسد العقد فيه لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد، أشبه ما لو كان المثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المتصل والمنفصل، وأجرة مثله مدة مكثه تحت يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، قاله في الكافي.
وقال في الإنصاف منافع المقبوض بعقد فاسد، كمنافع المغصوب، تضمن بالفوات والتفويت، انتهى.(7/41)
ص -45- ... وقال في الإقناع والمقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه فيه ويضمنه كالغصب، ويلزمه رد النماء المتصل والمنفصل، وأجرة مثله مدة بقائه في يده، وإن نقص ضمن نقصه، وإن تلف فعليه ضمانه بقيمته،
وقال في باب الغصب: وإن كان للمغصوب منفعة تصح إجارتها، فعلى الغاصب أجرة مثله مدة بقائه في يده، استوفى المنافع أو تركها تذهب، وإن ذهب بعض أجزائه في المدة، كخمل المنشفة لزمه الأجرة وأرش نقصه، وما لا تصح إجارته مما لا منفعة له لم يلزمه له أجرة، انتهى، فقد عرفت أنه يلزم المشتري بالعقد الفاسد الأجرة وأرش النقص معا.
وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: قال في الإقناع: ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا فلا يملك به ولا ينفذ تصرفه، ويضمنه وزياداته بقيمته، كمغصوب لا بالثمن، انتهى ; وقال الموفق في الكافي- لما ذكر الاختلاف في الشروط في البيع- وكل موضع فسد العقد فيه لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد أشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب، انتهى.
وقال في الإنصاف "فائدة" ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فلو فعلا لم يملك به، ولا ينفذ تصرف على الصحيح(7/42)
ص -46- ... من المذهب؟
وقال الشيخ تقي الدين: يترجح أن يملك بعقد فاسد، فعلى المذهب حكمه حكم المغصوب في الضمان، وقال ابن عقيل وغيره: حكمه حكم المقبوض على وجه السوم، وعلى المذهب أيضا يضمنه بقيمته، وذكر أبو بكر: يضمنه بالمسمى، واختاره الشيخ تقي الدين، انتهى، وكلامه في المبدع قريب من كلام الإنصاف، فهذه عبارات الحنابلة كما ترى.
وأما كلام الشافعية: فقال في كتاب الأنوار "تكملة" حيث فسد البيع وحصل القبض لم يملكه المشتري، ولم ينفذ تصرفه فيه، ولزمه الرد ومؤنته، وأجرة المثل بمدة وضع يده وإن لم ينتفع، وأرش النقص إن نقص، وأقصى القيم من القبض إلى التلف إن تلف، والزوايد مضمونة عليه، ولو أنفق مدة لم يرجع إن جهل الفساد، انتهى
وقال في الحاوي: وحيث فسد لو قبض المشتري فهو كالمغصوب، أي في موضع فسد البيع، بانضمام شرط فاسد، أو للإخلال بشرط، أو ركن لو قبض المشتري المبيع بذلك البيع الفاسد، فالمشترى المقبوض مثل المغصوب، وإن قبضه بإذن البائع حتى لا يجوز تصرفه فيه، ولزم أقصى القيم أو المثل، ويجب عليه مؤنة الرد؛ ولا يرجع بما أنقق، سواء علم الفساد أو ظن الصحة، ويجب عليه أجرة المثل لمدة التصرف، سواء استوفى المنفعة أو لا، ورد الزوائد متصلة كانت أو منفصلة، انتهى.(7/43)
ص -47- ... وأما كلام المالكية: فقال أبو الجودي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد، المسمى: "إيضاح المسالك على المشهور من مذهب مالك" ص " وكل بيع فاسدا، فضمانه من البائع، فإن قبضه المبتاع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه، فإن حال سوقه أو تغير في يده، فعليه قيمته يوم قبضه، ولا يرده، وإن كان مما يوزن أو يكال فعليه مثله، ولا يفيت الرباع حوالة سوق " ش " إذا وقع عقد المبيع فاسدا، فضمان المبيع على البائع، لأن البيع الفاسد لا ينقل الملك، فإن قبضه المبتاع انتقل الضمان إلى المبتاع، فإذا فسد رد المبيع إلى بائعه، ولا شيء على المبتاع مما اغتله لأنه خراج، والخراج للضامن، فإن تعذر الرد لفوات عين المبيع، ضمن قيمته في الْمُقَوَّم ومثله في المثلي، والمشهور: أن التقويم يوم القبض لا يوم الفوات، انتهى، ثم ذكر أنواع الفوات.
وقال محمد بن غانم البغدادي الحنفي، في كتابه "مجمع الضمانات" البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، ولو هلك المبيع في يد المشتري، كان أمانة عند بعض، وعند البعض يكون مضمونا، لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء- إلى أن قال- والفاسد: يفيد الملك عند القبض، ويكون المبيع مضمونا في يدي المشتري، يلزمه مثله إن كان مثليا، والقيمة إن كان قيميا، كما في الهداية، انتهى، وذكر في المقبوض بعقد غير صحيح من الخلاف، ما يطول(7/44)
ص -48- ... ذكره عند الحنفية، فمن تأمل هذه العبارات، اتضح له الحق، والله الموفق.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن رجل اشترى ذهبا بعضه نسيئة، وأعطى زوجته الذهب فباعته وأخذت ثمنه، ثم مات الزوج وضاقت التركة عن وفاء دينه، فتبينا أن العقد فاسد، وقد أتلفت المرأة الذهب، ولم يعلم المشتري الثاني، فمن يستقر الضمان عليه؟.
فأجاب: لبائع الذهب تضمين من شاء من الثلاثة، المشترى منه، وزوجته، والمشتري منها إن علم، ويستقر الضمان عليه، فلو ضمنه المالك القيمة، رجع على المرأة بما دفع من الثمن فقط، هذا هو الظاهر من كلام الأصحاب وغيرهم، حيث شبهوا المقبوض بعقد فاسد بالمغصوب، فيقتضي ذلك المشابهة في جميع الأحكام، إلا ما استثنى بعضهم من نفوذ العتق في المقبوض بعقد فاسد، وبعضهم استثنى صحة عبادة فيه، قال في القواعد: المعروف في المذهب أنه غير منعقد وتترتب عليه أحكام الغصب، وما قلنا من جواز تضمين المالك من شاء من الثلاثة، واستقرار الضمان على من تلف في يده، صرح به في الشرح الكبير.
فقال: إن باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح، لأنه باع ملك غيره بغير إذنه، وعلى المشتري رده إلى البائع الأول لأنه مالكه، ولبائعه أخذه حيث وجده، ويرجع المشتري الثاني(7/45)
ص -49- ... بالثمن على الذي باعه، ويرجع الأول على بائعه، فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبة من شاء منهما، لأن الأول ضامن، والثاني قبضه من يد ضامنه بغير إذن صاحبه، فكان ضامنا، فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمنها الثاني، لم يرجع بالفضل على الأول، لأن بالتلف في يده استقر الضمان عليه، وإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني، انتهى.
قلت: قوله في القواعد: تترتب عليه أحكام الغصب يدل لذلك، ولذلك ذكر مرعي في "الغاية" اتجاها جازماً به، لو تلف عند قابضه الآخر، فللمالك مطالبة كل منهما، وقرار ضمان على التالف عنده، لأن تفصيله كغصب كما يأتي، إلا في صحة عبادة فيه، لإعراض ربه عنه بطيب نفسه، انتهى.
إذا تقرر ذلك: فللبائع تضمين الزوجة قيمة الذهب، وترجع بها في تركة زوجها، فتضرب بها مع الغرماء، ومقتضى ما ذكرناه أنها لا ترجع مع علمها بفساد العقد، وقولنا بضمان القيمة، إنما هو إذا كان الذهب مصوغا أو مغشوشا، وأما إذا كان خالصا غير مصوغ، ضمنه بمثله، ويشترط في ضمان غصب بالقيمة: أن تكون من غير الجنس أيضا.
وأجاب أيضا: إذا باع الرجل بيعا فاسدا، وقبض الثمن، ودفعه إلى غيره عن دين عليه أو اشترى به منه شيئا، فإن صاحب الثمن الذي دفعه في الشراء الفاسد، يرجع(7/46)
ص -50- ... بثمنه على من هو في يده، أو على البائع لكون قبض البائع الثمن- والحالة هذه- قبضا فاسدا، فيرجع دافع الثمن على من أحب، على البائع أو من قبضه من البائع، هذا في البيع الفاسد; وأما إذا كان فسخ البيع لأجل عيب في المبيع، فإن المشتري يرجع بثمنه على البائع فقط، لا على من قبضه من البائع، لكون قبض البائع قبضا صحيحا لصحة العقد، فليس له مطالبة غير البائع بالثمن، سواء كان معسرا أم لا.
وأما إذا غرم المسروق ماله شيئا بسبب ذلك، فإنه يرجع به على السارق، لكونه السبب في ذلك، كما قاله الشيخ تقي الدين، فيما إذا مطله غريمه فاحتاج إلى الشكاية، فما غرم بسببه لزم المماطل، وقالوا: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، رجع به على الكاذب، انتهى.
فمسألتنا أولى بالرجوع، وقد صرح بعض المتأخرين، بأنه لو لم يحصل له ما سرق منه، إلا ببذل بعض المال لحليف ونحوه، أنه يرجع بذلك على السارق.
... باب الخيار(7/47)
ص -51- ... باب الخيار
خيار المجلس
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى: ما خيار المجلس؟ وما صورته ؟.
فأجاب: خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين ولم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع، فقد وجب البيع" والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم.
وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر: خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع" والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم.(7/48)
ص -52- ... سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: ما يثبت في خيار المجلس من العقود؟.
فأجاب: يثبت في البيع في قول جمهور العلماء، خلافا لمالك وأصحاب الرأي، للأحاديث الصحيحة، ويثبت في الصلح بمعنى البيع، وفي الهبة إذا شرط فيها عوضا معلوما، ويثبت في الإجارة، وفي الصرف، وفي السلم، كل هذا يثبت فيه خيار المجلس، ولا يثبت في سائر العقود، كالنكاح، والوقف، والهبة بغير عوض، فكل هذا لازم لا خيار فيه، وكذلك الرهن لازم في حق الراهن وحده، لا خيار فيه، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما، وكذلك الحوالة، والأخذ بالشفعة عقد لازم، لا خيار فيهما على المشهور.
وأما المساقاة والمزارعة، فإن قلنا: إنهما عقد لازم على القول الراجح، ثبت فيهما خيار المجلس؟ وإن قلنا: إنهما عقد جائز، فلا خيار فيهما، لأن الخيار مستغنى عنه حينئذ.
وأجاب أيضا: إذا وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها خيار، وإن كانت لا تلى العقد ثبت فيها خيار.
وسئل بعضهم: إذا أبطل خيار المجلس أيبطل أم لا؟
فأجاب: وإذا شرطا أن ليس بينهما خيار مجلس، يلزم البيع، ويبطل الخيار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2112) , ومسلم: البيوع (1531) , والنسائي: البيوع (4472) , وأحمد (2/119).(7/49)
ص -53- ... يعني: لزم البيع، قال في الشرح: وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح- إن شاء الله- لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وسئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن اشتراط الخيار في السلم ؟.
فأجاب: اشتراط الخيار في السلم لا يصح، على الصحيح من المذهب، وعند بعض العلماء يصح، اختاره ابن الجوزي، وعند الشيخ تقي الدين: يصح اشتراط الخيار في كل العقود، وهذا بخلاف خيار المجلس، فإنه يثبت في السلم والصرف، ونحوهما.
سئل الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد: عمن قال: بعني هذه النخلات بمالي عليك، ولك الخيار إلى شهر؟.
فأجاب: إذا قال بعني هذه النخلات بالذي عليك، ولك الخيار شهرا، يملكها إذا انقضت مدة الخيار، ويكون البيع صحيحا، إن شاء الله تعالى.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: من باع عقارا بثمن في ذمته، وجعل له أجلا معلوما، فإن حل الأجل قبل وفائه لزم البيع، إذا كان صدر من جائز التصرف بإيجاب وقبول، فهو صحيح مطلقا، لازم بحلول الأجل قبل الوفاء، ولا ينازع في ذلك إلا من نازع في صحة البيع بالجملة.(7/50)
ص -54- ... وأجاب الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: أما بيع الخيار دارا، أو نخلا ثمنه دين في الذمة وكل واحد منهما ما قصد حقيقة البيع، البائع يريد دفع الغريم إلى وقت، لعله أن يجد فيه قضاء الدين، والمشتري ما قصد حقيقة الشراء، وإنما قصده استخراج حقه، فهذا البيع يغلب فيه حكم الرهن.
سئل الشيخ: حسين، وعبد الله ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن اشترى نخلا بثمن معين، ونذر متى جاء البائع بثمنه أرجع إليه نخله؟
فأجابا: هذا العقد المذكور في السؤال عقد باطل، وهو حيلة باطلة، والحيل لا تجوز في الدين، ويجب على المشتري رد الثمن، ويعود النخل على بائعه، وأما ما أكل في حال كفره وجهله من غلة النخل، فإنه لا يطالب بذلك.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد: هل يصح الخيار المجهول؟
فأجاب: لا يصح سواء كان أبدا، أو مدة مجهولة أو أجلا مجهولا، أو تعليقا على مشيئة، أو على نزول مطر ونحوه، كما صرح بذلك الفقهاء.
خيار الشرط
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: ما يثبت فيه خيار الشرط من العقود؟
فأجاب: أما خيار الشرط فيثبت في البيع، والصلح(7/51)
ص -55- ... بمعنى البيع، والهبة بعوض، والإجارة في الذمة ونحو ذلك، ولا يثبت في الصرف والسلم ونحوهما، وقال الشيخ تقي الدين: يثبت خيار الشرط في كل العقود، فيثبت عنده في الصرف والسلم إذا تقابضا، ثم جعلا الخيار لهما، أو لأحدهما مدة معلومة.
وأجاب أيضا: لا يثبت خيار الشرط إلا في البيع والصلح، والإجارة في الذمة، أو على مدة لا تلي العقد، ويثبت في أشياء غير ذلك.
وأجاب أيضا: أما بيع الحيوان وغيره إلى أجل، ويشترط البائع الخيار إلى الأجل، إما بدراهم وإما بتمر، فهذا فيه تفصيل، فإن كان البيع بدراهم، أو بتمر حاضر، فهو جائز، ولا إشكال فيه، وأما إن جعله رأس مال سلم في تمر، وشرط الخيار، فهذا فيه خلاف، والمشهور في المذهب: أن السلم لا يجوز فيه خيار الشرط، وذكر في الشرح أنه رواية واحدة، واختار الشيخ تقي الدين الجواز، وعليه عمل الناس اليوم عندنا.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما اشتراط الخيار في السلم، فلا يصح على الصحيح من المذهب، وعن بعض الأصحاب يصح، اختاره ابن الجوزي، وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح اشتراط الخيار في كل العقود، وهذا بخلاف خيار المجلس، فإنه يثبت في السلم والصرف ونحوهما.(7/52)
ص -56- ... وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: المساقاة إذا قلنا إنها عقد لازم، ثبت فيها خيار الشرط، قياسا على الإجارة، وقد اختار أبو العباس ثبوت خيار الشرط في كل عقد.
سئل الشيخ:- محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن البيع إذا انقطع الخيار، وصار بدون القيمة، هل يصح؟
فأجاب: والبيع يصح إذا انقطع الخيار، ولو كان بدون القيمة.
وسئل عن ضمان المبيع في مدة الخيار ؟
فأجاب: وضمان المبيع في مدة الخيار للمشتري ونماؤه له.
وأجاب أيضا والنماء المتصل للبائع، إذا فسخ المشترى.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله، ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار، فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان" 1 فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: ما حصل من غلات المبيع ونمائه مدة الخيار، فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).(7/53)
ص -57- ... قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه.
وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن علي، وأما النماء في مدة الخيار فهو للمشتري، أي النماء المنفصل، لقوله: "الخراج بالضمان" 1.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله تعالى: بيع الخيار إن كان ثمنه منقودا للبائع، فالثمرة للمشتري في مدة الخيار، وإن كان الخيار ثمنه دين ساقط من ذمة البائع، فالثمرة للبائع، لأن هذا البيع زيادة في التوثيق على الرهن، لأنه ينطر فيه بعد حلول الأجل، هل فيه غبن أم لا.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن التصرف في المبيع في مدة الخيار ؟
فأجاب: لا يجوز التصرف في المبيع في مدة الخيار، إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن كان لأحدهما صح، وبطل خياره.
وسئل عن التصرف في الثمن: إذا كان معينا في مدة الخيار ؟
فأجاب: نعم يؤخذ ولا يتصرف فيه في مدة الخيار، وإذا أعتق المشتري في مدة الخيار،، ينفذ عتقه ويبطل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).(7/54)
ص -58- ... خياره، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة، والرواية الأولى أظهر، ويرجع البائع- بثمنه.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: إذا اشترى رجل نخلا والخيار فيه للمشتري، وحدث قطع في النخل... إلخ؟
فأجاب: إذا فسخ المشتري قبل قطع النخل صح الفسخ، فإن ثبت قطع شيء منه قبل الفسخ فعلى المشتري، لأن الملك للمشتري فضمانه عليه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل يبطل خيار الشرط بالموت؟
فأجاب: وأما خيار الشرط فلا يبطل بموت أحدهما، ويرثه ورثته.
وأجاب ابنه الشيخ حسين، ولا ينقطع الخيار بموت مشترطه.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن تلقي الركبان ؟
فأجاب: وأما تلقي الركبان للمشترى منهم ما جلبوه، فيلزم منعهم من ذلك.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وما سألت عنه، من ثبوت الخيار في البيع في صورة تلقي الركبان، والنجش،(7/55)
ص -59- ... والمسترسل إذا غبنوا غبنا يخرج عن العادة، والمسترسل الذي يثبت له الخيار، هو الجاهل بقيمة السلعة، وأما العارف الحاذق إذا غبن لأجل عجلته، فلا خيار له.
وأجاب أيضا: وأما تلقي الركبان فهو ظاهر، والبائع بالخيار إذا قدم البلد، كما في الحديث، وبيع الحاضر للبادي معروف، والبادي من لا يكون من أهل البلد، من غير اشتراط أن يكون بدويا، واشترط بعض العلماء لذلك شروطا مذكورة في مواضعها.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الذي عليه أكثر الأصحاب، كما نقل عنهم صاحب الإنصاف وغيره، وجزم به في الإقناع: لا يثبت لغير المسترسل، وقال صاحب المذهب فيه، لو جهل الغبن فيما اشتراه لعجلة وهو لا يجهل، ثبت له الخيار أيضا، قال في الإنصاف: وجزم به في النظم، وعنه يثبت أيضا لمسترسل مع بائع لم يماكسه، اختاره الشيخ تقي الدين، وذكره المذهب، وقال في الانتصار: له الفسخ ما لم يعلمه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن التصرية ؟
فأجاب: التصرية معروفة، وهو الذي يسمى التحيين، 1 وهو حرام، وأما الغش فأنواع كثيرة، وضابطه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التحيين: حبس اللبن في الضرع, ليغتر بذلك المشتري.(7/56)
ص -60- ... إذا كان المبيع غير متساو، بأن أظهر الحسن للمشتري وأخفى الذي دونه، أو يخفي عيبا في المبيع ويكتمه عن المشتري، أو يفعل فعلا في المبيع فيحسنه في عين المشتري، وهو غير ثابت في المبيع، كتحمير وجه الجارية المبيعة، وتسويد شعرها ونحو ذلك.
وأما خلط البر بالشعير، فقد ورد فيه حديث بالنهي عن خلطه للبيع لا للبيت، انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: أما خلط البر بالشعير فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: أما خلط البر بالشعير للبيت فيجوز، وأما للبيع ونحوه فمكروه، لما فيه من الغش والتدليس، وضابط الغش المحرم: اشتمال المبيع ونحوه على وصف نقص، لو علم به المشتري امتنع من شرائه، وأكثر الناس لا يعلمون قدر المشوب، وإن شاهدوه، وروى ابن ماجه، وابن عساكر، عن صهيب مرفوعا: "ثلاث فيهن البركة، البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع" 1 لكن قال الحافظ الذهبي: إنه واه جدا، وقال البخاري فيما نقله عنه ابن حجر: أنه موضوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: التجارات (2289).(7/57)
ص -61- ... سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، بن عبد الرحمن: عن مبيع غبن صاحبه الثلث أو الربع... إلخ؟
فأجاب: الغبن في صور مخصوصة، فإذا كانت المسألة تدخل في إحدى الصور المنصوص عليها، فالغبن المشهود به، أي الثلث أو الربع غبن فاحش، وإذا توجه الحكم به، فالبائع له الخيار بين الإمضاء والفسخ، ولا تلتفت إلى قول المشتري أنا أدفع قيمة الغبن، ولا يفسخ البيع، لأن المغبون يملك الفسخ إن أراده، وأما سقوط الغبن إذا أسقطه البائع، فالظاهر سقوطه إذا كان البائع عالما به، وأما إذا لم يعلم به وإنما قال ذلك على ما يعتاد بعض الناس، فلا أدري هل يسقط أم لا
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: دعوى الغبن لا يثبت إلا لثلاثة، كما هو مقرر في كتب أهل العلم، المتلقى، والمسترسل الذي لا يحسن أن يماكس، وبزيادة الناجش الذي لا يريد شراء، وما سوى هذه المسائل الثلاث لا يثبت فيه غبن قل أو كثر.
... فصل في خيار العيب(7/58)
ص -62- ... فصل في خيار العيب
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن قصاب اشترى بعيرا أعور، ولم يعلم به إلا بعد ذبحه ؟
فأجاب: والبعير إذا ذهبت عينه، وهو مثل فاطر، وذبحها ولا علم القصاب أن عينها ذهبت إلا بعد ذبحها، فليس له مطالبة.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: إذا ذبح الجزار ناقة، وصارت أنقص مما ظن فيها، هل يثبت له خيار؟
فأجاب: مثبت الخيار له غالط، والفقهاء ذكروا خيار الغبن في ثلاث صور، وهذا يثبت صورة رابعة، وهي: ما إذا اشترى جزافا فبان دون ما ظنه، كمشتري الصبرة جزافا، فبانت أقل مما ظنه، فكذلك مشتري الجزور، ظانا أنه يحصل منها مثلا ثلاثون رطل شحم، فبان أقل من ذلك، وقد تنازع فقهاء نجد وغيرهم في الهزال، هل هو عيب ؟ فقال سليمان بن علي، وابن ذهلان: إنه عيب، وقال عبد الوهاب وابن عطوة ليس بعيب، لكن قال الأولون: إذا كان قيمتها بعد(7/59)
ص -63- ... الذبح، تقارب ثمنها الذي اشتريت به، فلا فسخ ولا رد، وبكل حال فهذا القول غلط.
سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الدبرة 1 إذا قطرت، ولا علمت ورؤيت إلا بعد الذبح؟
فأجاب: يرجع فيه إلى قول أهل الخبرة والحذق، لأنه مرض خفي، ولا يعلم هل هو قبل العقد أو بعده، ولا ملازمة بين وجود الدبرة وتقطيرها، فإذا ثبت بقول أهل الخبرة والمعرفة: أن مثل هذا لا يكون إلا قديما قبل العقد، عمل بقولهم، وإن كان محتملا فيحلف البائع على نفيه قبل البيع، مع أنا نميل إلى الصلح في مثل هذه الصورة.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن حكم عيب الجرب... إلخ؟
فأجاب: وأما عيب الجرب فحكمه حكم سائر العيوب، فإذا ادعى المشتري انتقال المبيع بذلك العيب ولا بينة، حلف المشترى على ما ادعاه على الأصح.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما عهدة الحيوان إذا بان فيه جرب بعد البيع بمدة، فقول أهل الخبرة بذلك، أنه يمكن حدوثه في هذه المدة، مقبول، وإن ثبت تقدمه على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الدبرة" في لغة أهل نجد: قرحة تحدث في الدابة أثر قتب ونحوه. وقوله: قطرت, أي: نفذت إلى داخل الدابة.(7/60)
ص -64- ... البيع أثبتنا الرد بفسخ البيع، وإن احتمل الأمرين: أوجبنا اليمين على البائع بنفي تقدم الجرب، على إحدى الروايتين من أن القول قول البائع بيمينه على البت، إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان محتملا الأمرين.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عمن اشترى بعيرا وسافر به، ثم ظهر به عيب وشهد عليه شهود، بأن هذا العيب فيه عند مالكه الأول، وبائعه ليس معه ليرده عليه؟
فأجاب: الذي اشترى بعيرا وسافر عليه من الخرج للأحساء، ثم بعد ذلك تبين له عيبه، وهو في أثناء الطريق، وشهد عنده الشهود بأن هذا العيب عند البائع، فأشهد على فسخ البيع، ولكن ركبه لأجل حاجته، فالذي يظهر لي من كلام الفقهاء: أن مثل ذلك لا يمنع الرد، إذا لم يكن عنده ما يركبه غيره، لكن عليه أجرة ركوبه لمالكه، إن ثبت له الرد، بأن يكون منتقلا إلى المشتري بهذا العيب.
قال في الشرح: وإن استعمل المشتري المبيع، أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفا دالا على الرضا به، قبل علمه بالعيب، لم يسقط خيار الرد، لأن ذلك لا يدل على الرضا به معيبا، وإن فعل بعد علمه بعيبه بطل خياره، في قول عامة أهل العلم انتهى.
ومراده: إذا فعل ما يدل على الرضا بعد علمه بالعيب، لأن ركوب المشتري لهذا البعير وهو في الطريق، لا يدل على رضاه به، خصوصا إذا أشهد على الفسخ والمطالبة بالعيب.(7/61)
ص -65- ... ثم قال صاحب الشرح: وكذلك إن ركب الدابة لينظر سيرها، أو استخدم الأمة ليختبرها، أو لبس القميص يعرف قدره، لم يسقط خياره، لأن ذلك ليس برضا، ولهذا لا يسقط به خيار الشرط، وإن استخدمها استخداما كثيرا بطل رده، وإن كان يسيرا لم يبطل الخيار، قيل لأحمد: إن هؤلاء يقولون، إذا اشترى عبدا فوجده معيبا فاستخدمه، بأن يقول: ناولني هذا الثوب، بطل خياره، فأنكر ذلك، وقال: من أين لهم هذا؟ ليس هذا برضا، حتى يكون شيء بين، ويطول، انتهى، فانظر إلى تصريح أحمد، بأنه لا بد أن يتصرف فيه، ويستعمله استعمالا يدل على رضاه به.
وأجاب بعضهم: إذا اشترى سلعة ليسافر به، ثم وجد بها عيبا، فالوجه المناسب في هذه الصورة: أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد، فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل، وإلا أودعها عند ثقة.
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن العيب إذا عاد بعد برئه؟
فأجاب: إذا كان في الدابة عيب، مثل ضلع في يد أو رجل أو غيره، فبرأت منه، ثم باعها ولم يعلم المشتري به من البائع ولا من غيره، فعادها ذلك العيب، فللمشتري الفسخ.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا اشترى دابة، ثم علم بها عيبا وركبها ليردها على صاحبها... إلخ؟(7/62)
ص -66- ... فأجاب: الركوب الذي لا يدل على الرضا لا يمنع الرد، وإذا اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، فلا يثبت له الخيار، وإذا اشترى دارا فوجد جار سوء، فالجار السوء عيب يرد به المبيع.
وسئل: عمن اشترى جارية فاطلع على عيب... إلخ؟
فأجاب: إذا اشترى جارية، فاطلع على عيب لم يعلم به وقت البيع، ثم وطئها بعد علمه، فلا خيار له، وإذا وطئها ثم علم بالعيب، فله الخيار بين الإمساك وأخذ أرش العيب، وبين الرد وأرش البكارة.
وسئل: عمن اشترى شيئا ثم باعه، ثم علم بعيب منتقل به من البائع فهل يثبت له الأرش؟
فأجاب: إذا علم المشتري الثاني العيب فله رده، وكذلك المشتري الأول إن لم يكن عالما بالعيب، ولم يوجد منه ما يدل على الرضا، فكذلك له رده، فإن أرادا الأرش فلهما ذلك.
وسئل أيضا: عن الأرش ما هو ؟
فأجاب: الذي ذكره العلماء أنها 1 تقوم بالثمن الذي اشتريت به، قال في الإقناع، والأرش: قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب، فيرجع بنسبته من ثمنه، فيقوَّم المعيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: السلعة ونحوها.(7/63)
ص -67- ... صحيحا، ثم يقوَّم معيبا، فإذا كان الثمن مثلا مائة، فقوم المعيب صحيحا بمائة، ومعيبا بتسعين، فالعيب نقص عشرة، نسبتها إلى قيمته صحيحا عشره، فينسب ذلك إلى المائة تجده عشرا، وهو الواجب للمشتري، هذا على القول بأنه مخير بين الرد وأخذ الأرش مع الإمساك، وأما على المفتى به عندنا، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، واختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله: أن المشتري إذا وجد بها عيبا لم يعلمه، فليس له إلا الإمساك بلا أرش، أو الرد.
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قلنا إنه ليس إلا الرد أو الإمساك في المعيب، كما هو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة، وكان ظهور العيب بموضع ضرورة كالمسافر على الدابة، وراكب السفينة، فهل يتعين الأرش في هذه الحال على هذا القول، حضر البائع أو غاب؟
فأجاب: لا ريب أن القائلين بهذا القول كأبي حنيفة والشافعي، وأبي العباس يقيدونه بما إذا لم يتعذر رده، لكن الذي يظهر من كلامهم، أن ما ذكرته في السؤال، ليس من صور التعذر الذي عنوه، وإنما الذي أرادوه، كعتق العبد، وإباقه، وقتله، وموته، ونحو ذلك مما ييئس معه من الرد، غير عالم بعيبه، أما ما ذكرته فلا يظهر أنه تعذر، ولا يوصف بموضع الضرورة، لاندفاعه بالإمساك مجانا، لا سيما واللزوم والجواز عارض، ثم رأيت بعض القائلين بهذا القول، صرح في كتابه باعتبار اليأس من الرد، وانحصار أسباب يستحق معها(7/64)
ص -68- ... الأرش في ثلاثة أمور، فقال: ولغير مقصر، أيس من رد، بتلف، ونكاح، وتعيب، لا بيع أرش، انتهى.
قال شارحه: قوله "أرش" مبتدأ خبره: ولغير مقصر أيس، ويجوز أن يجعل قوله "أرش" فاعلا لفعل مقدر، دل عليه قوة الكلام، وأيس صفة لغير، والمعنى: ويثبت لغير مقصر في أداء المعيب أرش، وأفاد انحصار الأسباب في الأمور الثلاثة، انتهى، من بعض كتب الشافعية; وقوله: " لا بيع" جرى على أحد القولين عندهم، من أن البيع لا يحصل به اليأس من رد المعيب، لأنه ربما عاد، والقول الثاني لهم: أن البيع أثر رابع يحصل به اليأس، كالتلف والنكاح والتعيب.
إذا تقرر لك ما ذكرناه، فاعلم: أنه إن كان من التزام ما يلزم، أن يقوى عندنا من المذهبين في هذه المسألة، ما عليه جماهير أصحاب الإمام أحمد، من القول بالأرش مع الإمساك مطلقا، أو الرد سواء أمكن الرد أو تعذر، لأنه أمكن تقرير العقد من غير ضرر; قال في الشرح الكبير: ولأنه ظهر على عيب لم يعلم به، فكان له الأرش كما لو تعيب عنده، انتهى، ولرضا المتعاقدين على أن العوض في مقابلة المعوض، فكل جزء من العوض مقابله جزء من المعوض، ومع العيب فاته جزء، فيرجع ببدله وهو الأرش، انتهى من شرح المنتهى لمنصور.
وأجابوا عن حديث المصراة، الذي استدل به المانعون(7/65)
ص -69- ... من الإمساك مع الأرش، سوى ما ذكروه، بأن البيع في المصراة ليس فيه عيب، إنما ثبت له الخيار بالتدليس، لا لفوات جزء كما في المعيب، فلم يستحق شيئا، انتهى، وحيث اختير الرد على كل من المذهبين، فإنه لا يفتقر إلى حضور البائع، كما لا يفتقر إلى رضاه، والمبيع بعد فسخ أمانة، ذكره في المنتهى وغيره. وأجاب شيخنا: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى: يخير بين الإمساك بلا أرش، أو الرد، وقضى به غير مرة، وأنا أسمع.
وسئل: عن أخذ المسلَم فيه المعيب مع أرشه، ما صورته؟
فأجاب: صورة ذلك فيما يظهر لي، أنه إذا وجد المسلم فيه معيبا بالسوس مثلا، أو غير ذلك من الفساد، كما إذا أسلم في مائة صاع تمر مثلا، فقبض المسلم فيه فوجده مسوسا، فإنه ينظر في قدر ما ينقص العيب هذا التمر، لو كان سليما من الفساد، فإذا كان ينقصه العشر، رجع بعشر المائة تمرا صحيحا، ولا يرجع بأرش العيب من النقدين، ولا من غير جنس المسلم فيه، لأنها حينئذ تجيء مسألة الاعتياض عن دين السلم بغير جنسه، وفيها الخلاف المعلوم، ومقتضى كلام الأصحاب، أن ذلك لا يصح، وفد عرفت مما ذكرنا: أن هذا في العيب كالسوس مثلا، وأما إذا وجد المسلم فيه رديئا،(7/66)
ص -70- ... فليس له إلا قبوله أو رده، كما نبهوا عليه، فراجعه في محله.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا كان في المبيع عيب وتلف إلخ؟
وأجاب: إذا كان في المبيع عيب ولا علم به المشتري، وتلف المبيع بسببه، مثل الإباق في العبد، أو الشرادة في الدابة، فإن كان البائع علمه وكتمه، فهم يذكرون أنه يضمن البائع، لأنه غره.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلف رجع الموكل بالتدليس، على الوكيل في أرش التدليس، وإذا أعتقه ثم علم بالعيب، فله الأرش.
وأجاب أيضا: هو، والشيخ حمد: المبيع المعيب إذا زال ملك المشترى عنه، بعتق، أو موت، أو وقف، تعذر رده، وكان تصرف ذلك قبل علمه بالعيب فله الأرش، لتعذر الرد في هذه الصورة، والخلاف المشهور بين الفقهاء فيما إذا أمكن الرد، وامتنع المشتري وطالب بالأرش.
وأجاب أيضا الشيخ عبد الله: إذا زال ملك المشتري بعتق، أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش هذا المذهب، وعليه الأصحاب.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن النماء في مدة خيار العيب؟(7/67)
ص -71- ... فأجاب: النماء المتصل للبائع في خيار العيب، وكذا لو اشترى ناقة أو غيرها فهزلت عنده، أو طالت مدة الثوب رده، ورد نقصه.
وأجاب أيضا: والنماء المتصل للبائع في خيار العيب، ولا يقبل إقرار الوكيل على موكله في العيب، لكنه يصير شاهدا.
وأجاب أيضا: وأما إذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو خاطه وهو معيب وثبت أنه معيب عند البائع فهو يرده، وله قدر صبغه أو نسجه أو خياطته وقت الرد، وللبائع قدر استعماله.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا تبايع رجلان، ثم ترافعا بعد ذلك إلى الحاكم وبطل العقد، والعين قائمة، فأراد البائع أو المشترى الرد، ولها نماء منفصل، هل يرد معها؟
فأجاب: الذي صححه كثير من العلماء: أن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فعلى هذا يكون نماؤه المنفصل له، لأن ضمانه عليه سواء كان فيه خيار أو لم يكن، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي مرفوعا، إلى النبي صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان" 1 قال الترمذي: حديث صحيح. فإذا كان ضمانه عليه، لزم أن يكون خراجه له، وذلك هو النماء المنفصل، فعلى هذا يكون النماء المنفصل للمشتري، هذا إذا رد بخيار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).(7/68)
ص -72- ... وأما إذا تعيب المبيع عند المشتري، فالذي عليه أكثر الحنابلة: أن للبائع الأرش، وهو قيمة نقص عيبه عند المشتري، اللهم إلا أن يكون البائع دلس العيب على المشتري، فعن أحمد يرده بلا أرش، قال في الإنصاف، قال الزركشي: هذا المذهب المنصوص المعروف، حتى قال القاضي ولو تلف المبيع عنده، ثم علم أن البائع دلس العيب، رجع بالثمن كله، نص عليه في رواية حنبل، قال أحمد: في رجل اشترى عبدا فأبق، وأقام البينة أن إباقه كان موجودا في يد البائع، يرجع على البائع بجميع الثمن، لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان، انتهى، قلت: وهذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، انتهى كلامه.
وأما إن تلفت العين، ولم يدلس البائع العيب، فإنه يرجع إلى قيمة مثلها، سواء كانت مثلية أو غير مثلية، هذا الذي عليه أكثر أصحاب أحمد، قال في الإنصاف، قال في التلخيص: ثم يرد عين المبيع عند التفاسخ إن كانت باقية وإلا فمثلها، فإن لم تكن مثلية فقيمتها، فاعتبر المثلية، فإن لم تكن مثلية فالقيمه، والجماعه أوجبوا القيمة وأطلقوا.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما قولكم إذا نقصت الناقة بالاستعمال، والثوب كذلك، فهذا النقص الحاصل في المبيع، يرجع على البائع بأرش العيب الأول، والعيب عند التجار: ما نقصت به القيمة وعده التجار نقصا.(7/69)
ص -73- ... وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن اشترى دابة واستعملها بركوب وغيره، ثم بان له عيب قديم هل يرد معه قدر استعماله... إلخ؟
فأجاب: إذا رد المبيع فلا يخلو، إما أن يكون بحاله، أو يكون قد زاد أو نقص، فإن كان بحاله رده وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد، أو حصلت له فائدة، فإن كانت الزيادة متصلة، كالسمن والحمل والثمرة قبل الظهور، فإنه يرده بنمائه، لأنه يتبعه في العقود والفسوخ، وإن كانت الزيادة منفصلة، فإن كانت من غير المبيع كالكسب والأجرة، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، وهو معنى قوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" 1 ولا نعلم في هذا خلافا.
وروى ابن ماجه عن عائشة: "أن رجلا اشترى عبدا فاستعمله ما شاء الله، ثم وجد به عيبا فرده، فقال يا رسول الله: استعمل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان" 2 رواه أبو داود، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كانت الزيادة من عين المبيع، كالولد والثمرة واللبن، فهو للمشتري أيضا، ويرد الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي، إلا أن الولد إذا كان لآدمية لم يملك ردها دونه، وعنه ليس له رده دون نمائه المنفصل، قياسا على النماء المتصل.
فإن اشتراها، أي: الدابة، حاملا فولدت عند المشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).
2 أبو داود: البيوع (3510) , وابن ماجه: التجارات (2243).(7/70)
ص -74- ... فردها، رد ولدها معها، لأنه من جملة المبيع، والولد هنا نماء متصل، وإن نقص المبيع، فسيأتي حكمه، انتهى من الشرح الكبير، وحكمه: أن يرد مع المعيب أرش النقص عنده، كأن وطئ البكر، أو قطع الثوب، أو هزلت الدابة، ونحو ذلك مما تنقص به قيمته، صرح به في المغني وغيره، قال في شرح الإقناع: لما روى الخلال بإسناده، عن ابن سيرين: أن "عثمان قال في رجل اشترى ثوبا فلبسه، ثم اطلع على عيب، يرد وما نقص، فأجاز الرد مع النقص" وعليه اعتماد أحمد، انتهى.
وقال في الإنصاف- عند قول المقنع: وعنه ليس له رده دون نمائه، أي المنفصل- فلو صدر العقد وهي حامل فولدت عنده، ثم ردها، رد ولدها معها، وأما إذا حملت وولدت بعد الشراء، فهو نماء منفصل بلا نزاع، والصحيح من المذهب: أنه لا يردها إلا بولدها، فتعين الأرش جزم به في المحرر، انتهى، فقد عرفت أنه إن كان بحاله رده مجانا وأخذ ثمنه، وإن زاد ففيه التفصيل، أو نقص فإنه يرد معه أرش ما نقص عنده.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن قوله: "الخراج بالضمان" ؟
فأجاب: وأما حديث "الخراج بالضمان" 1 وفي لفظ آخر "الغلة بالضمان" 2 فهذا الحديث، وإن كان واردا في صورة رد المبيع بالعيب فيتناول بعمومه صورا كثيرة، ذكرها الفقهاء في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243).
2 أحمد (6/80).(7/71)
ص -75- ... مواضعها، غير صورة الرد بالعيب، كالنماء الحاصل في مدة الخيار، وكذا المبيع إذا رجع بالإقالة وقد حصل منه غلة، أو نماء عند المشتري، وكذا الشقص المشفوع إذا أخذه الشفيع، وقد نما عند المشتري، والعين عند المفلس إذا استردها بائعها، وكذا هبة الأب لولده، إذا رجع فيها وقد نمت عند الولد، وكذلك الصداق إذا نمى بيد الزوجة، ثم رجع نصفه إلى الزوج بطلاق قبل الدخول ونحوه، وغير ذلك من الصور، يعرفها من تتبع مظانها من كتب الفقه.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى ثوبا فصبغه، ثم بان معيبا... إلخ؟
فأجاب: وأما إذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو خاطه، وهو معيب عند البائع، فهو يرده وله قدر صبغه، أو نسجه أو خياطته وقت الرد، ويدفع إلى البائع بقدر استعماله له.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا صبغه أو نسجه، فظهر معيبا فله الأرش، ولا رد له في أظهر الروايتين.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن اشترى شيئين صفقة واحدة، فوجد بأحدهما عيبا؟
فأجاب: أما من اشترى شيئين صفقة واحدة، فإذا ثبت العيب أنه عند البائع فله الرد، هذا إذا تلف الصحيح، وإن لم يتلف فالأرش، ومثله عيب بعض المبيع عند المشتري، إذا كان فيه عيب، هل يمنع الرد أم لا؟(7/72)
ص -76- ... سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا اختلف في حدوث العيب... إلخ؟
فأجاب: إن كان لا يحتمل حدوثه، كالاصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها، أو الجرح الطري الذي يحتمل كونه قديما، فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين، للعلم بصدقه وإن احتمل قول كل منهما، كالخرق في الثوب، والرفو، ونحوهما، ففيه روايتان، إحداهما: القول قول المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراها وبها هذا العيب، وأنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، وقال به بعض الأصحاب، والثانية: القول قول البائع مع يمينه، وكأن الرواية الثانية أظهر، لأنه مُنكِر.
وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: على رواية أن القول قول المشتري بيمينه، تكون اليمين على البَتّ، وأما على الرواية الأخرى التي عليها الفتوى، وفاقا للثلاثة، وهي: أن القول قول البائع بيمينه، فتكون اليمين على حسب جوابه، على الصحيح من المذهب.
وسئل بعضهم: عن رجل قضى رجلا جديدة مثلا، والذي عندهم أنها صحيحة، وأخذت أياما عنده يعبرها وترد عليه، وأخرجها من يده، وربما رفعها عند أهله، ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه، فأنكرها ولم تكن بينة؟
فأجاب: الذي يظهر من كلامهم في هذه الصورة، أن(7/73)
ص -77- ... القول قول الدافع بيمينه، أنها ليست جديدته التي دفعها، إذا كانت قد خرجت من يده، وأما إذا لم تخرج من يده، ففيها قولان في المذهب، أحدهما- وهو المشهور في المذهب- أن القول قول المشتري مع يمينه، قال في الإنصاف: لو باع سلعة بنقد أو غيره، معين حال العقد وقبضه، ثم أحضره وبه عيب، وادعى أنه الذي دفعه إليه المشتري، وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به، ولا بينة لواحد منهما، فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته، وعدم وقوع العقد على هذا المعين.
ولو كان الثمن في الذمة، ثم نقده المشتري، أو قبضه من قرض أو سلم، أو غير ذلك مما هو في ذمته، ثم اختلفا كذلك ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو القابض مع يمينه على الصحيح، لأن القول في الدعاوى قول من الظاهر معه، والظاهر مع البائع، لأنه ثبت له في ذمة المشتري، ما انعقد عليه العقد غير معين، فلم يقبل قوله في ذمته- إلى أن قال- ومحل الخلاف: إذا لم يخرج عن يده، انتهى، ومراده: أنه إذا أخرجه البائع من يده، كما في الصورة المسؤول عنها، فالقول قول المشتري وهو الدافع، بلا خلاف عندهم.
وسئل بعضهم: إذا اشترى سلعة فوجدها معيبة، فقال البائع: العيب حدث عند المشتري وقال المشتري: هي معيبة قبل الشراء، ولا بينة لهما؟(7/74)
ص -78- ... فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد، إحداهما: أن القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعى أنه يستحق فسخ البيع، والبائع ينكره، والقول قول المنكِر; والرواية الثانية: أن القول قول المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، اختارها الخرقي، لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، واستحقاق ما يقابله من الثمن، والقول الأول أظهر، قال في الإنصاف: ومحل الخلاف: إذا لم تخرج عن يده، فإن خرجت من يده إلى غيره لم يجز له ردها، نقله مهنا، واقتصر عليه في الفروع، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا علم المشترى بالعيب، وأمسكه ليرجع بالأرش فهل يقبل قوله بلا بينة؟
فأجاب: اختلف في هذه المسألة فقهاء نجد، فبعضهم يقول: يقبل بيمينه، وبعضهم يقول: لا يقبل قوله إلا ببينة أشهدها حين بان له العيب، وهذا الذي يترجح عندي.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله في شرح الزاد: ويقبل قول قابض في ثابت في ذمة، من ثمن، وقرض، وسلم ونحوه، إن لم يخرج عن يده؟
فأجاب: معناه: أنه إذا ثبت على عمرو لزيد عشرة آصع مثلا، سواء كانت ثمن مبيع باعه زيد على عمرو، أو(7/75)
ص -79- ... قرض أقرضه زيد عمرا، أو دين سلم في ذمة عمرو لزيد، أو أجرة دار في ذمة عمرو لزيد، أو قيمة سلعة، أتلفها عمرو لزيد، فثبت غرمها في ذمته، فبعد ما قبضه زيد من عمرو، رده بعيب وجده فيها، وأنكر عمرو كون الآصع المردودة، هي الآصع التي دفعها، فإن القول في هذه الصور التي صورنا، قول القابض للثابت، وهو قول زيد بيمينه، لأن الأصل بقاء شغل الذمة بهذا الحق الثابت، والقاعدة: أن القول قول مدعي الأصل، وإنما عبرنا لقابض، ليشمل البائع والمقرض والمسلم، والمؤجر والمتلف ونحوهم.
فصل
(باعه مرابحة على أن ثمنها مائة ويربح عشرة ثم بان أن ثمنها تسعون)
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: إذا باعه مرابحة، على أن ثمنها مائة ويربح عشرة، ثم بان أن ثمنها تسعون؟
فأجاب: إذا علم ببينة أو إقرار، أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع في الزيادة على الثمن وهو عشرة، وحصتها من الربح وهو درهم، ويبقى له تسعه وتسعون.
[اشترى بثمن مؤجل أو ممن لا تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة]
وسئل: إذا اشترى بثمن مؤجل إلخ؟
فأجاب: إذا اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك، فمتى علم بذلك فهو(7/76)
ص -80- ... بالخيار، إن شاء رده، وإن شاء أمسكه وأخذه بثمنه مؤجلا، حكى ذلك ابن المنذر عن الإمام أحمد، وفيه رواية ثانية: إن شاء رده، وإن شاء أخذه بثمنه الذي وقع عليه العقد حالا، والأظهر الأول.
اختلاف المتبايعين
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا اختلف المتبايعان... إلخ؟
فأجاب: قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن وليس بينهما بينة، تحالفا، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه، فيبدأ بيمين البائع، ثم إن شاء المشتري أخذ المبيع، وإن شاء حلف وفسخ; وإن تلف المبيع فالقول قول المشترى.
وأجاب الشيخ محمد أيضا: وإذا اختلف المتبايعان والمتصارفان، فالقول قول المنكِر مع يمينه.
وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله، إذا اختلفا في قدر الثمن ولا بينة لأحدهما، تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر، انفسخ البيع، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك.
وعن أحمد: أن القول قول البائع، أو يترادان البيع،(7/77)
ص -81- ... لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع" 1 رواه سعيد وابن ماجة. قال الزركشي: هذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها ومال إليها.
وأجاب أيضا: إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة، ولأحدهما بينة حكم بها، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، فيبدأ بيمين البائع، لأنه منكِر؛ إذا أقام كل منهما بينة وتعادلت بينتاهما، ثبت العقد للمشتري، وإذا اختلفا في قدر الثمن، والسلعة تالفة، ففيه روايتان، إحداهما: يتحالفان، والثانية: القول قول المشترى مع يمينه، واختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري، والأوزاعي وأبي حنيفة. وأجاب أيضا: المشتري إذا ادعى أنه اشترى بنسيئة فعليه البينة، وإلا حلف البائع أنه حاضر.
وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، إذا اختلف المتبايعان، والسلعة تالفة، فالمسألة ذات قولين، المقدم في المذهب أنهما يتحالفان، ويكون للبائع القيمة وقت العقد ; والقول الثاني: أن القول قول المشتري بيمينه، وكلا القولين قوي في النظر والاستدلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1270) , والنسائي: البيوع (4648) , وأبو داود: البيوع (3511) , والدارمي: البيوع (2549).(7/78)
ص -82- ... فصل (لزوم البيع)
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: هل يلزم البيع بالعقد؟
فأجاب: يلزم البيع بالعقد، وأجاب أيضا: وأما الذين يبيعون الثمرة وقت الجذاذ، فبيعهم صحيح، ولو ما نقد المشتري الثمن وقبض الثمرة، فإنه يلزم إذا خلّى بينه وبينها ويكون قبضا، لأن قبض هذا بالتخلية.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يلزم البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضا المشتري.
وأجاب أيضا: المبيع الذي يتعلق فيه توفية، مثل المكيل والموزون، فهذا يلزم بالعقد، ولا يحصل فيه فسخ إلا بتراضيهما.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا اشترى رجل من آخر مائة صاع مثلا، وواعده يكيلها من الغد، فلما أتاه قال: بدا لي، ولم ينقد الثمن، فالبيع يلزم بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضا المشتري، ولا يجوز بيعه(7/79)
ص -83- ... قبل قبضه، لقوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1 متفق عليه. انتهى.
وقال أبناء الشيخ: حسن وإبراهيم وعبد الله وعلي، رحمهم الله، ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله بعض الناس: إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم، استوفى منه بثمرة يأخذها خرصا في رؤوس النخل ثم يبيعها، وهذا لا يجوز، نص عليه العلماء ونهوا عنه، وذكروا أن من اشترى بالكيل والوزن، لا يحصل قبضه إلا بكيله أو وزنه، فإن قبضه جزافا كان قبضا فاسدا، لا يجوز بيعه حتى يكال أو يوزن. لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله" 2 وفي الحديث الآخر: أنه "نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري" 3 وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "إذا سميت الكيل فكل" ومنها: ما يفعله بعض الناس في الأحساء وغيره، يشتري طعاما من أهل بيت المال، أو من غيرهم، ثم يبيعه قبل قبضه، وهذا لا يجوز، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وقال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" 4
وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله بن الشيخ، ذكر الفقهاء أن الفقير لا يملك الزكاة، ولا يتصرف فيها بالبيع قبل قبضها، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع، رواه أحمد وابن ماجه. وأجاب في موضع آخر: لا يجوز بيعه قبل قبضه، لقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).
2 مسلم: البيوع (1525) , والنسائي: البيوع (4597) , وأبو داود: البيوع (3496).
3 ابن ماجه: التجارات (2228).
4 البخاري: البيوع (2133) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4596) , ومالك: البيوع (1336) , والدارمي: البيوع (2559).(7/80)
ص -84- ... النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما بيع الطعام قبل قبضه، إن كان بيعه على الكيل، فقبضه اكتياله، وإن كان جزافا، فقبضه بالتخلية، لكن لا يبيعه حتى ينقله من مكانه.
وأجاب أيضا: وأما ربح ما لم يضمن، فهو: أن يبيع ما لا يدخل في ضمانه، كأن يشتري طعاما ويبيعه قبل اكتياله.
[قبض المبيع]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله هل يباع ما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب، قبل قبضه؟
فأجاب: لا يجوز بيعه قبل قبضه، والرواية الثانية: الجواز.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن باع طعاما قبل قبضه وجعل ميزانين... إلخ؟
فأجاب: ما أحدثه بعض الناس عند بيع الطعام، من جعلهم ميزانين، زعموا أن أحدهما للقبض، والثاني للبيع، فليس قبضا شرعيا، ولا يكون فاعله خارجا عما نهي عنه، من بيع الطعام قبل قبضه، فإن الأحاديث مصرحة بالنهي عنه، لحديث ابن عمر: "من اشترى طعاما، فلا يبعه، حتى يستوفيه" 2 متفق عليه وعند مسلم من حديث "ابن عمر: كنا نبتاع الطعام، فيبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا: بانتقاله من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).
2 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526 ,1527 ,1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).(7/81)
ص -85- ... المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" 1 ولأحمد من حديث ابن عمر: "من اشترى طعاما بكيل أو وزن، فلا يبعه حتى يقبضه" 2 ورواه أبو داود، والنسائي، بلفط: "نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل، حتى يستوفيه" 3 وحديث جابر: "نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري" 4.
هذه الأحاديث: ظاهرة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، بألفاظ مختلفة، والمراد منها واحد، ففيها حتى يستوفيه، وحتى يقبضه، وفيها: وكان يأمر بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن يبيعه، فليس بعد ذلك بيان.
وقول القائل: هذا خاص بما بيع جزافا، فمردود بقول الشارع صلى الله عليه وسلم "حتى يستوفيه" و "حتى يقبضه" وبقوله: "من اشترى طعاما بكيل أو وزن، فلا يبعه حتى يقبضه" 5 ولفظ القبض، والاستيفاء: يكذب معنى التخصيص بالجزاف; وقد ذكر الفقهاء: أن قبض المكيل بالكيل، والموزون بالوزن.
فيقال لصاحب الميزانين: من أين جئت بهذا، أو في أي كتاب وجدته؟ فإنا لم نجد ذلك لأحد من العلماء المتقدمين، ولا المتأخرين، وإنما فسرتم ألفاظ النصوص بما تهوونه وتحبونه، ولم تذكروا ذلك عن أحد من العلماء، فهل يكون ذلك حجة شرعية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2124) , ومسلم: البيوع (1527) , والنسائي: البيوع (4605) , وأبو داود: البيوع (3493) , وابن ماجه: التجارات (2229) , وأحمد (2/112 ,2/142).
2 البخاري: البيوع (2133) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559).
3 البخاري: البيوع (2126 ,2136) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4604) , وأبو داود: البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).
4 ابن ماجه: التجارات (2228).
5 البخاري: البيوع (2133) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559).(7/82)
ص -86- ... وأبلغ من ذلك: أن مذهب محمد بن إسماعيل البخاري، وطائفة: أن استيفاء المبيع المنقول، وتبقيته في منْزل البائع، لا يكون قبضا شرعيا، حتى ينقله المشتري إلى مكان اختصاص البائع به، قال وهو منقول عن الشافعي، ودليله ما رواه أحمد عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبتاع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" 1 وفي صحيح مسلم: "كنا نبتاع الطعام، ويبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله، من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" 2 وقد تقدم.
فيا عباد الله: أين عقولكم؟! ويا طلبة العلم أين أفهامكم؟! قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ سورة النور آية: 63].
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يبيعه بكيله الأول؟
فأجاب: وإذا كال المشتري الطعام، ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول من غير كيل، فالمشهور جوازه، إذا كان المشتري الثاني حاضرا، شاهدا الكيل الأول، وفيه وجه: لا يجوز إلا بكيل ثان، وهو مذهب الشافعي، لما روى ابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري" 3.
وسئل: عن صفة القبض للطعام ونحوه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2131 ,2137) والحدود (6852) , ومسلم: البيوع (1527) , والنسائي: البيوع (4608) , وأبو داود: البيوع (3499) , وأحمد (2/157).
2 البخاري: البيوع (2124) , ومسلم: البيوع (1527) , وأبو داود: البيوع (3493) , وابن ماجه: التجارات (2229) , وأحمد (1/56 ,2/112) , ومالك: البيوع (1337).
3 ابن ماجه: التجارات (2228).(7/83)
ص -87- ... فأجاب: أهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا، بيع كيلا أو وزنا، قبضه بكيله أو وزنه، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله" 1 رواه مسلم وأما قول السائل: وهل القبض يحصل بالكيل والوزن، وإن لم ينقل؟ فنعم، كما نبه عليه منصور في شرح الإقناع والمنتهى، وهو ظاهر الحديث المتقدم.
وأجاب أيضا: القبض كيله أو وزنه، والرواية الثانية: أنه التخلية مع التمييز.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عمن اشترى مكيلا، فكال منه وزنة بالميزان، ثم أخذ الباقي وزنا؟
فأجاب: إذا انتفى الغرر، وحصل العلم بالمبيع المكيل وزنا، فلا مانع من صحة القبض، لنص الفقهاء على جواز قبض المكيل وزنا، وبالعكس في غير بيع الجنس الواحد بعضه ببعض، وفي غير اقتضاء دين السلم، في رواية المروذي، واختارها جمع، منهم ابن أبي عمر، وجزم به في الوجيز، وتقدم قول المنتهى وشرحه، كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة، مع أن كل مائع مكيل.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما أنه يباع مثلا أربعة آصع، ثم يوزن سنبل وزنا، فلا يجوز، لأنه قد ينقص، فلو باعه وزنا، ولو كان مكيلا، كما يباع التمر اليوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البيوع (1528).(7/84)
ص -88- ... وزنا، وأصله مكيل، كان أهون.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى تمرا في الجصاص 1 جزافا، هل يبيعه قبل نقله؟
فأجاب: والذي يشتري التّمر في الجصاص، لا ينفذ البيع إلا إذا نقله صاحبه.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الصبرة المشتراة جزافا، فلا يجوز بيعها حتى ينقلها المشتري من مكانها إلى آخر، ويكفي في ذلك أن ينقلها من موضع في السوق، إلى آخر.
وأجاب أيضا: وأما الصبرة، فإذا بيع الطعام جزافا، فقبضه نقله، ولا يجوز بيعه قبل نقله، لحديث ابن عمر المتفق عليه.
وأجاب أيضا: وأما إذا اشترى رجل من رجل، سمنا أو غيره من أنواع الطعام مجازفة، ثم أراد بيع الطعام نسيئة إلى أجل معلوم فلا بأس بذلك إذا كان قد نقله من مكانه الذي اشتراه فيه، ولا يجوز له أن يبيع الطعام الذي اشتراه مجازفة، في المكان الذي وقع عقد البيع والشراء فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع جصة: مكان يجعل فيه التمر يسمى بذلك; لأنه يبنى من الجص.(7/85)
ص -89- ... سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن ضمان المكيل والموزون، إذا لم يقبضه.
فأجاب: وأما الشيء المشترى إذا لم يقبض، إذا كان مكيلا أو موزونا، فضمانه على البائع.
وأجاب أيضا: وإذا تلفت المواشي قبل التمكن من القبض، فمن ضمان البائع، وإن تلفت بعد التمكن، فمن ضمان المشتري، وأما الصبرة إذا كان المشتري متمكنا من القبض، فإنها تصير من ضمان المشتري.
الإقالة
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل الإقالة تجوز بأقل من الثمن، أم لا تجوز إلا بمثله؟
فأجاب: لا تجوز إلا بمثل الثمن، عند كثير من أهل العلم.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن الإقالة في غير السلم بأكثر من رأس المال ؟
فأجاب: لا تصح مع زيادة على ثمن معقود به، أو مع نقصه أو بغير جنسه، لأن مقتضى الإقالة رد الأمر على ما كان عليه، ورجوع كل منهما إلى ماله، فلو قال: ولك كذا ففعل، فكرهه أحمد لشبهه بمسائل العينة، لأن السلعة ترجع إلى صاحبها، ويبقى له على المشترى فضل دراهم.
قال ابن رجب: لكن محذور الربا هنا بعيد، انتهى من المنتهى وشرحه.(7/86)
ص -90- ... ولا فرق فيما قبل القبض أو بعده، حتى في مكيل أو موزون، لكونها فسخا على المشهور المختار للأصحاب، لإجماع العلماء، كما حكاه ابن المنذر على جوازها في السلم، مع النهي عن بيع الطعام قبل قبضه.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: هل الإقالة لها خيار مجلس؟
فأجاب: ليس لها خيار مجلس، لأنها ليست بيعا ولا بمعناه، وإنما هي فسخ للعقد من أصله، فليس فيها خيار مجلس، وتجوز الإقالة في دين السلم، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم، لأنها فسخ للعقد إذا قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة، هذا المختار عند الموفق والشارح وصاحب المبدع وغيرهم، يعني قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن قولهم: ومؤنة رد مبيع تقايلاه على بائع ؟
فأجاب: وأما ما ذكره الفقهاء من أن مؤنة رد مبيع تقايلاه على بائع، فهو المشهور.
... باب الربا(7/87)
ص -91- ... باب الربا
قال الشيخ حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد رحمهم الله، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}[سورة البقرة آية: 275] وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[سورة البقرة آية: 276] والنبي صلى الله عليه وسلم "لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه" 1.
وأجاب: أيضا عبد الله بن الشيخ، المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، والمحلل والمحلل له" 2 قال الترمذي حديث صحيح، فالاثنان ملعونان; وكان أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل، قال له: أتقضي أم تربى؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال والأصل واحد.
وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الزينة (5103).
2 مسلم: المساقاة (1597) , والترمذي: البيوع (1206) , وأبو داود: البيوع (3333) , وابن ماجه: التجارات (2277) , وأحمد (1/394 ,1/402 ,1/430).(7/88)
ص -92- ... في أن هذا محرم، فإن الأعمال بالنيات والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة، والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهذا موجود في المعاملات الربوية.
وإذا حل الدين وكان الغريم معسرا، لم يجز بإجماع المسلمين أن يلزم بقلب، لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمور: تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية، بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقط الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها، وفى دينه منها بحسب الإمكان.
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: اعلم وفقنا الله وإياك، أن الله تعالى نهى عباده عن أكل الربا، وأنزل بتحريمه القرآن المجيد، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] وزجر عنه عباده بضروب من التحذير والتهديد والوعيد الشديد، فقال عز من قائل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] قال ابن عباس في معنى(7/89)
ص -93- ... الآية: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق" رواه ابن أبي حاتم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 281] قال البخاري رحمه الله في صحيحه: قال ابن عباس: "هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ}[سورة آل عمران آية: 130] الآية، إلى غير ذلك من الآيات المحكمات.
وقد جاءت السنة الصحيحة بالزجر عنه والتحذير، وإيضاح ما أجمل منه بالبيان والتفسير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 1 رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء" 2 رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوصايا (2767) , ومسلم: الإيمان (89) , والنسائي: الوصايا (3671) , وأبو داود: الوصايا (2874).(7/90)
2 مسلم: المساقاة (1598) , وأحمد (3/304).(7/91)
ص -94- ... رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج، رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت ما هذا؟ فقال الذي رأيته في النهر: آكل الربا" 1 رواه البخاري في صحيحه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشتري الثمرة حتى تطعم" 2 وقال: "إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ; وفي حديث الإسراء: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ليلتئذ، بأقوام لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم؟ فقيل هؤلاء أكلة الربا" 3 رواه البيهقي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا قال قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره" 4 رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا" 5 رواه ابن ماجه والحاكم في مستدركه، وزاد "أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" 6 وقال على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ; ورواه محمد بن نصر عن ابن مسعود موقوفا، قال: "الربا بضع وسبعون بابا، والشرك نحو ذلك" ورواه أيضا عن أبي هريرة موقوفا قال: "الربا سبعون حوبا أدناهن مثل ما يقع الرجل على أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه" 7 وروي أيضا عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2085).
2 البخاري: البيوع (2196) , ومسلم: البيوع (1536) , والنسائي: البيوع (4524 ,4550).
3 ابن ماجه: التجارات (2273).
4 النسائي: البيوع (4455) , وأبو داود: البيوع (3331) , وابن ماجه: التجارات (2278) , وأحمد (2/494).
5 ابن ماجه: التجارات (2275).
6 ابن ماجه: التجارات (2274).(7/92)
7 ابن ماجه: التجارات (2274).(7/93)
ص -95- ... أبي هريرة مرفوعا قال: "ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ من المال بحل أم بحرام" 1 ورواه البخاري ولفظه: "لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام" 2.
وعن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض; ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز" 3 رواه مالك والبخاري، والنسائي.
وللبخاري: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء" 4 وعن سالم بن عبد الله، عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن أبا سعيد حدثه مثل ذلك، حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر، فقال يا أبا سعيد: ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في "الصرف" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل" 5 رواه البخاري.
وقال محمد بن نصر المروزي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا روح بن عبادة، حدثنا حبان بن عبد الله العدوي، وكان ثقة قال: سألت أبا مجلز عن "الصرف" فقال: "كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا، ما كان منه يدا بيد، فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: إلى متى؟ ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2059 ,2083) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435) , والدارمي: البيوع (2536).
2 البخاري: البيوع (2059) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536).
3 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4570) , وأحمد (3/4 ,3/61) , ومالك: البيوع (1324).(7/94)
4 مسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4565) , وأحمد (3/4 ,3/49 ,3/66 ,3/97).
5 البخاري: البيوع (2176) , والترمذي: البيوع (1241) , وأحمد (3/53).(7/95)
ص -96- ... تتقي الله، حتى متى توكل الناس الربا؟ أما بلغك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- وهو عند زوجته أم سلمة- إني لأشتهي تمر عجوة فبعث بصاعين، فأتي بصاع عجوة، فقال. من أين لكم هذا ؟ فأخبروه، فقال: ردوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا فقال ابن عباس: جزاك الله الخير يا أبا سعيد، ذكرتني أمرا كنت نسيته، فاستغفر الله وأتوب إليه" قال: فكان ينهى عنه بعد، قال روح، وكان حبان رجل صدق.
ربا الفضل والبيوع الربوية
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءا بسواء، عينا بعين" 1 رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" 2 رواه مسلم والنسائي
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا" 3 رواه البخاري، والنسائي،
وله في رواية: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، إلا عينا بعين، سواء بسواء، ولا نبيع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1587).
2 مسلم: المساقاة (1588).
3 البخاري: البيوع (2182) , ومسلم: المساقاة (1590) , والنسائي: البيوع (4578) , وأحمد (5/38 ,5/49).(7/96)
ص -97- ... الذهب بالذهب، إلا عينا بعين سواء بسواء" 1.
وعن مجاهد أنه قال: "كنت مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة، وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم" رواه مالك والنسائي.
وعن سعيد بن المسيب، عن بلال قال: "كان عندي تمر دون، فابتعت به من السوق تمرا أجود منه بنصف كيله، فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت كاليوم تمرا أجود منه، من أين لك هذا يا بلال؟" قال فحدثته بما صنعت، فقال: انطلق فرده إلى صاحبه، وخذ تمرك، فبعه بحنطة أو شعير، اشتر به من هذا التمر قال ففعلت، ثم أتيته به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فما كان من فضل فهو ربا" رواه الإمام محمد بن نصر المرزوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: البيوع (4579).(7/97)
ص -98- ... فتضمنت هذه النصوص: تحريم بيع الجنس من هذه الأجناس الستة ونحوها بجنسه، ما لم تعلم مساواته للآخر، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحلال والحرام، بقوله: "مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء، وزنا بوزن، عينا بعين" 1 وأكد ذلك بقوله: "فما كان من فضل فهو ربا" وبقوله: "فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" 2 فليس فوق هذا البيان بيان.
وبهذا يعلم: أن الصور في بيع الجنس الربوي، ثلاث صور، صورة منها تحل، وهي: ما إذا علم بالتماثل، وحصل التقابض في المجلس، وصورتان لا تحلان، وهما: إذا جهل التماثل، أو علم التفاضل، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة، وبه صرح العلماء رحمهم الله تعالى،
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: وافترض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يباع الذهب، أو الفضة بشيء من نوعه، إلا عينا بعين، وزنا بوزن، وأن لا يباع شيء من الأصناف الأربعة، بشيء من نوعه، إلا كيلا بكيل، وعينا بعين، فإذا بان في أحد الأنواع المذكورة خلط شيء مضافا إليه، فلا سبيل إلى بيعه بشيء من نوعه، عينا بعين، ولا كيلا بكيل، ولا وزنا بوزن، لأنه لا يقدر على ذلك أصلا، انتهى.
وقال العماد بن كثير رحمه الله، في تفسيره: قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، انتهى، وهذا الذي حكاه العماد رحمه الله عن الفقهاء رحمهم الله، يكفينا عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1587).
2 مسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4565) , وأحمد (3/49 ,3/66 ,3/97).(7/98)
ص -99- ... تتبع أقوالهم، قال في الشرح الكبير: وأما ربا الفضل، فيحرم في مكيل أو موزون بيع بجنسه، وإن كان يسيرا وإن لم يأت فيه الكيل أو الوزن، إما لقلته كالحبة والحفنة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالصبرة العظيمة،
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن ذلك لا يجوز، إذا كان من جنس واحد، وفي الكافي وغيره الربا: في كل ما كان جنسه مكيلا أو موزونا، وإن تعذر الكيل فيه والوزن، إما لقلته كالتمرة والقبضة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، وإما لعظمته كالزبرة العظيمة، وإما للعادة كلحم الطير، لأنه من جنس فيه الربا.
وفي المنتهى: يحرم ربا فضل في كل مكيل أو موزون بجنسه وإن قل، كتمرة بتمرة، قال المحشي: قوله: وإن قل، لعدم العلم بالتساوي، انتهى،
وفي الكافي: وما جرى الربا فيه اعتبرت فيه المماثلة، في المكيل كيلا، وفي الموزون وزنا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والبر بالبر كيلا بكيل، والشعير بالشعير كيلا بكيل" رواه الأثرم، قال: ولا يجوز بيع خالصه بمشوبه، كحنطة فيها شعير وزوان، بخالصة، أو غير خالصة، ولبن مشوب بخالص أو مشوب، أو عسل بشمعه بمثله، إلا أن يكون الخلط يسيرا لا وقع له، كيسير التراب ; و"الزوان" الذي لا يظهر في المكيل، ولا يمكن التحرز منه.(7/99)
ص -100- ... وقال بعضهم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم، اتباع الحق المبين، والتمسك بسنة سيد المرسلين ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ وبعد: فاعلموا أن الله تعالى حرم على عباده الربا في المعاملات، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات، وقد قال تعالى في كتابه العزيز، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42].
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[سورة البقرة آية: 275] أي: أنه يكون يوم القيامة كالمجنون {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(7/100)
ص -101- ... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [ سورة آل عمران آية: 130-132].
فتدبروا ما في هذه الآيات من الوعيد الشديد.
وفي الحديث: "لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه" 1 وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، بحلال أم بحرام" 2 وعنه قال صلى الله عليه وسلم "الربا سبعون حوبا، أدناهن مثل ما يقع الرجل على أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه" 3 وعن عبد الله بن مسعود قال: "الربا بضع وسبعون بابا، والشرك نحو ذلك" وقد روي هذا عن ابن مسعود من طرق، وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب ربا إلا ها وها، والبر بالبر ربا إلا ها وها، والتمر بالتمر ربا إلا ها وها، والشعير بالشعير ربا إلا ها وها" 4 أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو عند زوجته أم سلمة "إني لأشتهي تمر عجوة فأتي بصاع عجوة، فقال: من أين لكم هذا ؟ فأخبروه فقال ردوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل ثم قال وكذا ما يكال ويوزن أيضا".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1597) , والترمذي: البيوع (1206) , وأبو داود: البيوع (3333) , وابن ماجه: التجارات (2277) , وأحمد (1/393 ,1/394 ,1/453).
2 البخاري: البيوع (2083) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536).
3 ابن ماجه: التجارات (2274).(7/101)
4 البخاري: البيوع (2134) , وابن ماجه: التجارات (2253).(7/102)
ص -102- ... بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" 1.
رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا" 2 رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد، قال: "اشتريت يوم خيبر قلادة بإثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل" 3 رواه مسلم وأبو داود.
وعنه أيضا قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع: فيها خرز معلقة بذهب، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينه وبينه فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينهما" 4 رواه أبو داود.
وأنتم اليوم: وقعتم فيما نهيتم عنه، من ذلك: يباع السيف المحلى بالفضة بريالات ولا يحصل تمييز الفضة من غيرها، فلا يحصل تساو في الفضة، ولا يدا بيد; وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: أنه لا بد من التماثل والتقابض، فإذا لم يحصل ذلك، فهو الربا الذي حرمه الله ورسوله، فتدبروا ما في حديث فضالة، من قول المشتري: إنما أردت الحجارة، فقال صلى الله عليه وسلم "لا حتى تميز بينهما" وقد جاءتكم الموعظة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1587) , والنسائي: البيوع (4560 ,4561 ,4562) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/320).
2 صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1588) , وسنن النسائي: كتاب البيوع (4569).
3 مسلم: المساقاة (1591) , والنسائي: البيوع (4573) , وأبو داود: البيوع (3352) , وأحمد (6/21).
4 أبو داود: البيوع (3351).(7/103)
ص -103- ... فانتهوا عما حرمه الله عليكم، فإن فيما أحل الله لكم غنى عما حرم عليكم، فإن البركة في الحلال، وفي السلامة من الوعيد والوبال، فإياكم والتعرض لسخط الله.
فإذا اشترى أحدكم سيفا أو غيره مما فيه من الفضة، فافصلوا الفضة واقبضوا عوضها في مجلس العقد يدا بيد، فإن كانت بريالات وفضتها فضة الريال، فبيعوها وزنا بوزن وإلا فبيعوها بغير الفضة يدا بيد، فإن في ذلك السلامة من اللعنة والنار، ومحق البركة، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية: 100] وكونوا من معاصي الله على حذر، فإن للمعاصي عقوبات عاجلا وآجلا، أجارنا الله وإياكم من المعاصي وعقوباتها، ووفقنا وإياكم لتقوى الله، والعمل بما يحبه ويرضاه.
أكل الربا وتأكيله والشهادة عليه وكتابته
وقال الشيخ: عبد الله أبا بطين، وأما أكل الربا وتأكيله، والشهادة عليه وكتابته، فإنما يستحق هؤلاء الثلاثة اللعن إذا علموا به، كما في الحديث.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف - رحمه الله -: ومن أعظم الكبائر التي تمحق البركات، ويسعى بها صاحبها في حرب الله تعالى، المعاملات الربوية، وقد فشت وكثرت في الناس، وأكثر من غرهم بعض المنتسبين عياذا بالله، وقد شدد صلى الله عليه وسلم في الربا وغلظ فيه، وبين شعبه وأنواعه، وألحق(7/104)
ص -104- ... وسائله بأصوله في التحريم، قال صلى الله عليه وسلم "الربا سبعون بابا أسهلها مثل من يأتي أمه علانية"
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن الربا يختص في المطعومات ؟.
فأجاب: مذهب الشيخ وابن القيم: أن الربا يختص في المكيل والموزون بالمطعوم، والذي قال: أنا أعطيك عن ثلاثين هذا الحمر، التي في ذمة هذا الرجل الغائب عشرين زرا، فهذا عين الربا، كيف يشكل هذا عليك؟ وقد اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل جميعا.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن بيع جنس بجنسه؟.
فأجاب: وأما بيع الحب بحب مثله متفاضلا. فلا يجوز ; وأما إذا كان من جنسين، كشعير بحب، وحب بشعير، فإنه يجوز التفاضل فيه، ولا يجوز بيع بعض ببعض في الذهب والفضة والمطعومات، إلا بشرط التقابض في المجلس، كما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثلا بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" 1 والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون أنه يباع البر بالبر إلا مثلا بمثل، وباقي الأصناف المذكورة في الحديث كذلك، فإذا اختلفت الأجناس، فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4561) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/320).(7/105)
ص -105- ... بأس أن يباع بعضها ببعض متفاضلا، بشرط التقابض في المجلس.
وأجاب أيضا: وأما بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، فلا يجوز إلا سواء بسواء، يدا بيد، إلا إذا اختلفت الأجناس، فيجوز الزيادة لكن يدا بيد.
وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: هذه المسألة اختلف فيها كثير من العلماء، يقولون إن العلة في الذهب والفضة، كونها موزونتي جنس، فيطردون العلة في كل موزون من جنس واحد، فلا يجوز بيع الصفر بالصفر، والرصاص بالرصاص، والنحاس بالنحاس، والحديد بالحديد; وكذلك الأصناف الأربعة: البر والشعير، والتمر والملح، المنصوص عليها في حديث عبادة، المخرج في صحيح مسلم، والذهب والفضة، يقولون: العلة في البر والشعير، والتمر والملح "الطعم والكيل" فيطردون في كل مكيل مطعوم.
وأما المطعوم الذي لا يكال ولا يوزن، كالمعدودات كالبطيخ، والرمان، وكالبعير والفرس، وما جرى هذا المجرى، فيجوز التفاضل في ذلك، إذا كان يدا بيد، ولا يجوز بيع ذلك بعضه ببعض نسأ، هذا قول أكثر العلماء، وعليه الفتوى عندنا، واستدلوا على ذلك، بما روى الإمام أحمد في المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الدينار، بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع(7/106)
ص -106- ... بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء" 1.
وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، الرجل يبيع الفرس، بالأفراس، والنجيبة بالإبل، فقال "لا بأس إذا كان يدا بيد" 2.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الأصناف الستة الربوية المذكورة، فلا يجوز بيع واحد منها بجنسه، إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأما بيعه بغير جنسه، فيجوز التفاضل فيه، بشرط التقابض في مجلس العقد.
وسئل: عن بيع الشاة بالشاة، وبيع اللبن في الشاة... إلخ؟.
فأجاب: وأما بيع اللبن في الشاة على هذه الصورة، فكثير من العلماء يمنعه، وأباحه بعضهم، وبيع الشاة بالشاة فلا بأس به.
وسئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عن بيع اللحم بالشحم، أو عكسه؟.
فأجاب: اللحم والشحم أجناس، فمن الأصحاب من جوز بعضه ببعض متفاضلا، وقال القاضي هما جنس واحد، لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، - رحمه الله -: عن بيع التين متفاضلا؟.
فأجاب: بيع التين متفاضلا، لا يجوزه الشيخ وابن القيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/109).
2 أحمد (2/109).(7/107)
ص -107- ... سئل الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود عن الربا، هل هو في الستة الأنواع المنصوص عليها؟ أم ليس هو إلا في النسيئة؟.
فأجاب: الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة، هو: ربا النسيئة في الأنواع الستة، التي في حديث عبادة: "البر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والملح بالملح" 1.
وأما ربا الفضل مع عدم النسيئة، فالذي عليه كثير الأمة: تحريمه; ودليلهم عليه أحاديث كثيرة مشهورة، في الصحيحين وغيرهما، وخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قيل إنه رجع عن ذلك، لما ناظره أبو سعيد الخدري، وغيره من الصحابة.
وأما من باع متاعا بأكثر من سعر يومه، لأجل النسيئة مع اضطرار المشتري إليه، هل يحل أم لا؟ فهذه المسألة تسمى "بيع المضطر" وهي جائزة عند أكثر العلماء، لظاهر قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}[سورة البقرة آية: 275] فإن كان المشتري متورقا، فمسألة "التورق" اختلف العلماء فيها، وجمهورهم على جوازها، ومنعها عمر بن عبد العزيز، وبعض التابعين، وأحمد في رواية عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4561 ,4562 ,4564) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/314) , والدارمي: البيوع (2579).(7/108)
ص -108- ... سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، - رحمه الله -: عن بيع النوى بحب، أو تمر؟.
فأجاب: أما بيع النوى بتمر فيه نوى، ففيه روايتان: إحداهما- وهو المذهب- يجوز، قال في الإنصاف: صححه في التصحيح وغيره واختاره ابن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي وغيرهم، قال في الشرح: وعلى القول بالجواز: يجوز متفاضلا ومتساويا، وعلى الرواية الأخرى لا يجوز; وأما بيع النوى بالمكيل من غير جنسه نسيئة فيجرى على الخلاف في علة الربا، فعلى القول: بأن العلة الكيل والوزن، على المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة، فلا يجوز ذلك، وعلى القول الثاني: أن علة الربا الطعم، وفي الذهب والفضة الثمينة، يجوز بيع النوى بكل مكيل وموزون وغيره، لأن النوى ليس من طعام الآدمي.
والقول: بأن العلة الطعم مع الكيل والوزن، اختارها الموفق، والشيخ تقي الدين، ومالك خص الربا بالقوت وما يصلحه، ورجحه ابن القيم - رحمه الله -، فعلى هذين القولين أيضا: يجوز بيع النوى بغيره نسيئة، لعدم وجود العلة فيه، فيمتنع على القول الأول، ويجوز على ما بعده من الأقوال.(7/109)
ص -109- ... سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن معنى مد عجوة؟.
فأجاب: هو جنس يباع بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، كدرهم ومدين، أو بمد ودرهم، وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز، نص عليه أحمد في مواضع كثيرة، وقيل: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه.
وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: ومن صورها مد ودرهم، بدرهمين، فالجمهور من الفقهاء قالوا بعدم الجواز، بناء على أن جملة المد والدرهم في مقابلة الدرهمين، فلم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين، ولا ما يقابل المد، وإنما الجملة قابلت الجملة، فلا تحصل المماثلة بين الجنس الذي هو لغة للجمل بما يقابل كلا، وكذلك إذا وزعت الأفراد على الجمل، كما إذا اعتبر الدرهم الذي مع المد في مقابلة مجموع الجملة من الدرهمين، والمد كذلك، فلم يتميز ما يقابل الجنس من جنسه، هل هو درهم، أو أقل، أو أكثر; والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
وذهب شيخ الإسلام: كأبي حنيفة، إلى الجواز، فوزعوا الأفراد على الأفراد، فصار الدرهم يقابل درهما من غير زيادة، والمد يقابل الدرهم الآخر، فحصلت المماثلة والتساوي في الجنس، وهو مشكل، والله أعلم.(7/110)
ص -110- ... فصل
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز بيع الذهب والفضة بعرض، كالجدد وغيرها نسيئة؟.
فأجاب: لا يجوز ذلك إذا كان العرض جدد، لأنها بمنْزلة الأثمان، إذا اختلفت أجناسها، يجوز بيع بعضها ببعض ولا يجوز نسيئة، وأما العروض التي ليست بأثمان، فلا بأس بذلك، ولا أعلم في هذه المسألة نزاعا بين العلماء.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - تعالى: عن صرف الريال بالجدد؟.
فأجاب: ظهر لنا بعد التحري، أن في عشرين الجديدة من الفضة الخالصة، مثل ما في الريال من خالص الفضة، ورفعنا الأمر لتركي - رحمه الله -، ومنع الناس من المصارفة بأكثر أو أقل، فحصل منهم الامتثال في الظاهر دون الباطن، فدخل في الأمر ما أفسده وهو: تقطيع الريال، وسكه عشرين قطعة أو أكثر، فصار الناس يتصارفون الريال بفضة مقطعة مضروبة، فوقعوا في الربا الصريح، ببيع الفضة الخالصة بالفضة الخالصة متفاضلا. فلما صارت المفسدة أكبر نهيناهم عن ذلك، لأن المفسدة فيه أعظم، لكونه صريح الربا، وسكتنا عن الأمر الأول، وهو: المصارفة بالجدد الأولى المغشوشة، لوجهين:
الأول: أنه قد تقدم منا النهي، وصار معلوما عند الخاص(7/111)
ص -111- ... والعام، وأني صنفت في ذلك مصنفا.
الوجه الثاني: أن فيه ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، فصرنا لا نأمرهم ولا ننهاهم، وكنا سابقا قد بلغناهم، وفي تلك الحال لم يحصل امتثال.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن بيع الحديد بالنحاس، واللحم بالتمر نسيئة؟.
فأجاب: ومسألة الحديد بالنحاس، واللحم بالتمر نسيئة، ما ندري عنها، والورع تركه. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي يعمل عليه أكثر أهل العلم، أنه لا يجوز، وينهى عنه، وهو الذي نعمل عليه.
وأجاب أيضا: وأما إذا باع ذرة، ببر نسأ، فهذا لا يجوز، وهو ربا إلا إن كان يدا بيد، وأما بيع السمن بالحب مؤجلا، فلا ينبغي فعله.
وأجاب أيضا: وأما بيع الحيوان بالتمر نسأ، فلا أرى به بأسا، وأما بيع الدهن بالتمر، أو البر نسأ، فلا يجوز عند جمهور العلماء، وأجازه نفاة القياس، القائلون بقصر الربا على الأنواع الستة، المذكورة في حديث عبادة، لكن قول الجمهور أولى وأحوط، وأما إذا بيع ذلك يدا بيد فهو جائز، لقوله عليه السلام فإذا اختلفت هذه الأجناس إلخ، وأما بيع الدراهم بالحب، وبيع الحب بالدراهم مؤجلا، فجائز إذا حضر أحد النوعين.(7/112)
ص -112- ... وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: أما بيع اللحم بالطعام نسيئة، فإن كان الطعام مكيلا، فهو من باب بيع الموزون بالمكيل، لأن اللحم من الموزونات، فيجوز حالاًّ مقبوضا بلا ريب، وأما إذا اشترى به مكيلا نسيئة، ففيه روايتان: إحداهما يجوز وهو المذهب، صححه في الخلاصة وغيرها، وهو الذي ذكرته عن شيخنا: الشيخ حمد بن ناصر - رحمه الله -، أنه أفتاك به، والرواية الثانية: أنه لا يجوز، قطع به الخرقي وصاحب الوجيز، وصححه في التصحيح، وهذه الرواية تجري على مذهب مالك، إذا كان كلاهما من القوت، وتجري أيضا على الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وقول الشافعي وابن المسيب أن العلة الطعم، فتأمله يظهر لك أقواهما.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن بيع اللحم بالحيوان... إلخ ؟
فأجاب: وأما بيع اللحم بالحيوان، فهو من مراسيل سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الإمام أحمد حديثا مرفوعا: "لا يباع حي بميت"
واختلف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة: يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقا، ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وفي بيعه بغير جنسه خلاف، المشهور في المذهب الجواز، وأما بيعه بحيوان غير مأكول، ففيه قول بعدم الجواز، وقال الشارح ظاهر قول أصحابنا الجواز، وهو قول عامة الفقهاء.(7/113)
ص -113- ... وسئل الشيخ: سعيد بن حجي: عن بيع النوى بالتمر، أو البر نسأ ؟.
فأجاب: يجوز بيع النوى بالتمر، أو بالبر نسأ، لأن ما انعدم فيه الطعم فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، وذلك كالتبن والنوى والقت، والماء والطين ونحو ذلك، قاله في الشرح، فعلى هذا يجوز بيع النوى بالتمر، وبالبر ونحوهما نسأ، لأن النوى لا يدخله الربا.
وسئل: عن رجل نهى أن يبيع عشرة آصع من البر وغيره، بعشرين صاعا نسأ، فاحتال وقال: أعطيك قروشا على عشرين، واشتر بها مني على عشرة؟.
فأجاب: لا يجوز بيع الربوي بالربوي، إلا يدا بيد، فإن كان جنسا واحدا كالتمر بالتمر، والبر بالبر ونحوها، اشترط فيه المساواة والتقابض في مجلس العقد، وإن كان جنسا بجنس آخر، كالتمر بالبر ونحوهما، اشترط التقابض في المجلس، ولم تشترط المساواة، فيجوز صاع تمر بصاعي بر، ونحو ذلك بشرطه المتقدم.
وأما الحيلة المسؤول عنها: فلا تجوز، لا سيما إذا كان يعامل بالربا ثم نهى عنه، قال في الشرح: وأما الحيل فهي محرمة كلها، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي، وقال أبو حنيفة: هي جائزة إذا لم يشترط عند العقد ولنا(7/114)
ص -114- ... أن الله عذب أمة بحيلة احتالوها، وجعل ذلك {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة آية: 66] يتعظون بهم انتهى، وذكر في الإقناع نحوا من ذلك، وهل إذا أسلم عليه القروش. وتقابضا، واشترى منه بذلك الثمن ربويا يجوز؟ أما إذا لم يتقابضا شيئا فالبيع فاسد.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن بيع البعير بالبعيرين نسأ؟
فأجاب: والبعير بالبعيرين إلى أجل فيه اختلاف، الأصح أنه يجوز للحاجة.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما بيع الإبل بالحيوان نسيئة ففيه خلاف، ومن منعه احتج بالحديث المروي في ذلك: أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ومن أجازه احتج بالحديث الصحيح في قصة وفد هوازن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومن لم تطب نفسه، فله بكل فريضة ست فرائض، من أول ما يفيء الله علينا" والتفريق بين ما كان معد للحم وغيره، عند مالك وغيره إنما هو في مسألة بيع اللحم بالحيوان، هل يصح ذلك أم لا؟ فمنعه مالك فيما كان معدا للحم، دون ما هو معدا للركوب وغيره.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله: بعض العلماء ذكر ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا، لما روي أن عليا رضي الله عنه باع بعيرا، يقال له عصيفير، بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم.(7/115)
ص -115- ... سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن بيع ثوب بثوبين نسأ ؟ فأجاب: يجوز بيع ثوب بثوبين.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: إذا حل لرجل دراهم، وأراد أن يقلبها بزاد وأخرج دراهم وصحح بها وأوفاه بها؟
فأجاب: قد ذكرت لك أن هذه من الحيل الباطلة، التي أنكرها الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وأغلظوا القول فيها وأهلها، وذلك: أن عندهم لا بد من كون رأس مال السلم مقبوضا في مجلس العقد، وعندهم أن كونه دينا، أعني رأس مال السلم ربا، وهذه مسألتكم بعينها، لأنه لما اعترف بكونه ربا، أحضر من بيته عدة من الدين المقلوب وعقد به، والعاقدان والشهود ومن حضرهم، يعلمون أن المكتوب هذا الدين الحال، والتاجر يقول له، أوفنى أو اكتبها 1 والمشتري يقول: وردت له دراهم وكتبتها منه، ويفهمون أن الدراهم الحاضرة غير مقصودة، ويسمون هذا العقد التصحيح، هذا لا ينكره إلا مكابر معاند.
وحينئذ فعبارتهم: والحيل التي تحل حراما، أو تحرم حلالا، لا تجوز في شيء من الدين; وهو أن يظهرا عقدا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكتب: السلم و "اكتبها" اجعلها سلما,في لغة بعض أهل نجد.(7/116)
ص -116- ... صحيحا، ومرادهما التوصل به إلى غير صحيح، وهذه عبارة الإقناع وشرحه، فإن جادلكم أحد: أن هذه الصورة غير داخلة في ذلك، فقل له: ما صورة الحيلة المحرمة؟ فإنه لا يذكر شيئا من الصور، إلا ومسألتكم مثلها، أو أشد بطلانا; وأعجب من هذا: أن ابن القيم، ذكر في أعلام الموقعين، في صورة لو أراد أن يجعل رأس مال السلم دينارا، يوفيه إياه في وقت آخر، بأن يكون معه نصف دينار، ويريد أن يسلم إلى رجل دينارا في كر حنطة، فالحيلة: أن يسلم إليه دينارا غير معين، ثم يوفيه نصف دينار؛ وهذه الحيلة من أقبح الحيل، فإنهما توصلا إلى ذلك بالقرض، الذي جعلاه صورة مبيحة لصريح الربا، ولتأخير رأس مال السلم، وهذا غير القبض الذي جاءت به الشريعة، وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبا بحدود الله، انتهى كلامه.
فإذا كان هذا كلامهم، فيمن أراد أن يسلم إلى رجل مائة "محمدية" 1 من بيته باطنا وظاهرا، لكن لم يحضر في المجلس إلا خمسين، وكتبها عليه، ثم استقرضها وكتبها أخرى، إلى أن يخرج بالخمسين آخر النهار، أو بكرة، فكيف بكلامه في التحيل على قلب الدين، وجعله رأس مال السلم؟ ! وإذا كان هذا كلامه في أعلام الموقعين، وهم ينسبون عنه: أنه إذا أراد أن يشتري دابة بخمسين، وجاء رجل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحمدية: نقود متداولة في زمن الشيخ.(7/117)
ص -117- ... وأربحه في الخمسين خمسة، أو أكثر، قال: أنا موكلك تشتريها لي، ثم تبيعها على نفسك، وهذه الحيلة الملعونة، التي هي مغلظ الربا، أو الحيلة التي استباح بها أكثر المطاوعة إلى الآن الربا الصريح، ونسبوها إلى أعلام الموقعين، وحاشاه منها، بل هذا صفة كلامه في رأس مال السلم الحاضر، إذا تأخر قبض بعضه إلى آخر النهار، فضلا عن هذه المسألة وأمثالها، ومع هذا كله: فإن الله تعالى لا مرد لحكمه، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [سورة يونس آية: 96-97].
وأجاب أيضا: ورد الدين على المعسر ما يجوز، إن كان ثمن زاد أو غيره.
قلب الدين على المعسر
وقال أبناء الشيخ: حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي ومنها: أي المعاملات الربوية، قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحا، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه، والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه.
فعليكم بتقوى الله ( واحذروا عقوبته، فإن هذه(7/118)
ص -118- ... المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته، وعاقبته في الآخرة أعظم مما يعاقب به صاحبه في الدنيا، من عدم البركة فيه، فإذا حل الدين على المعسر، لم يجز لغريمه التحيل على قلبه عليه، كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}1 وإن كان الغريم مليا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه دراهم، ويقبضها البائع، ويذهب بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال، فإذا تملكها وأخذت عنده يوما أو يومين، بحيث يتصرف فيها بما يشاء، ثم أوفاه منها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.
وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي لكم، لأنه ذريعة إلى الحيل، والحيل كلها محرمة; وكذلك إذا حل التمر على الكَدَّاد، فلا بد من قبضه بالقبض الشرعي، وأما التحيل على قلبه على صاحبه، فلا ينبغي أيضا، بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه شيئا، لا كثيرا ولا قليلا، فإن أحب البيع فليبعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه، فتحصل المعاملة، ويحصل التنَزه والاحتياط عن الحيل، التي لا يجوز تعاطيها.
وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله: إذا كان في ذمة الكداد دراهم للتاجر أو الأجير، وأراد أن يقلبها عليه في زاد فهذه المسألة خطرها كبير، فينبغي التفطن فيها، لئلا يقع الإنسان في الربا وهو لا يشعر، وصورة المسألة: أن العلماء اختلفوا هل للتاجر أن يسلم إلى غريمه دراهم يستافي بها عن دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 280.(7/119)
ص -119- ... فمنعه مالك، وقال: ما خرج من اليد وعاد إليها فهو لغو، وجوده كعدمه، ومذهبه - رحمه الله -: أن هذا التصحيح الذي يفعله الناس اليوم لا يجوز.
وأما الأئمة الثلاثة، فيفرقون بين المليء الباذل، وبين المعسر المماطل، فالمعسر لا يجوز قلب الدين عليه، والواجب إنظاره، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280] وأما الملي الباذل فظاهر كلامهم جواز السلم إليه، ولو أوفاه من الدراهم التي أسلمها إليه، إذا كان على غير وجه الحيلة ومن أعظم ما يكون، وأشده خطرا: قلب الدين إذا عجز عن استيفائه، فتجد الرجل يطلب الفلاح دراهمه، فإذا عجز عن استيفائها، كتبها عليه وصحح فيها، وهو لو يطمع أن دراهمه تحصل له بتمامها، ولو بعد سنة، ما كتبها عليه بزاد ولكن إذا علم أنه لا يحصل له دراهم، وعرف أنها باقية في ذمة الكداد، قلبها عليه لئلا يفوته الربح، وهذه من الحيل الباطلة، المتضمنة للربا.
والواجب: على كل من يداين الناس، أو يفتيهم، التفطن لهذه الأمور، وكثير من الناس يعقد عقودا ظاهرها الصحة، وهي باطلة، لأجل الحيلة، فينبغي لمن أسلم إلى غريمه أن يدفعها إليه، ولا يستافى منها بشيء في مجلس العقد، بل يدفعها إليه، ويمضي بها إلى بيته، فإذا حازها وتملكها، وصارت الدراهم مالا له، يتصرف فيها كسائر ماله، فلا بأس إذا أوفاه بها بعد ذلك.
... فصل بيع الدين بالدين(7/120)
ص -120- ... فصل بيع الدين بالدين
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله -: وأما بيع الدين بالدين فله صور، منها ما هو منهي عنه بالاتفاق، ومنها ما هو مختلف فيه، وهو ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط; فالذي لا شك في بطلانه: بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع ما في الذمة مؤخرا، بشيء في الذمة مؤخرا، فإن الكالئ هو المؤخر، فإذا أسلم شيئا في ذمته، في شيء في ذمة الآخر، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز باتفاق العلماء.
ومثال الساقط بالساقط: صورة المقاصة، فإن اتفق الدينان جنسا وأجلا فلا بأس بها، وإن اختلف الجنس، كما لو كان لكل واحد من الاثنين دين على صاحبه من غير جنسه، كالذهب والفضة، وتساقطا ولم يحضرا شيئا، فهذا فيه خلاف، المنصوص عن أحمد: أنه لا يجوز إذا كانا نقدين من جنسين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز.
وأما الساقط بالواجب، فكما لو باعه دينا في ذمته، بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين الحال ممن هو في ذمته، بدين لم يقبض، وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو كان لرجل دراهم في ذمة رجل آخر، فجعل الدراهم سلما في طعام في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه دين غيره ;
وقد حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم: أنه لا يجوز،(7/121)
ص -121- ... وليس في ذلك إجماع، بل قد أجازه بعض العلماء، لكن القول بالمنع هو قول الجمهور.
وأجاب أيضا: من كان له دين على مليء أو مفلس وأراد صاحب الدين أن يسلم على المدين ويقضيه إياه، هل يجوز أم لا؟ فإذا كان المدين مفلسا فلا يجوز ذلك. لأن ذلك يكون حيلة على الربا، والحيل لا تجوز في الدين، وأما إذا كان المدين مليا، وكل من أراد أن يسلم عليه في ذمته فعل، سواء كان رب الدين أو غيره وكل يود أن يسلم إليه، لأجل ملاءته، فلا أعلم في ذلك بأسا عند أكثر العلماء، واشترط بعض المالكية: أن يدفع إليه رأس مال السلم، ويذهب به عن مجلس العقد إلى بيته، أو إلى السوق، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يوفيه إياه فعل.
فصل (قلب الدين على المدين)
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: قلب الدين على المدين لا يخلو من ثلاثة أحوال:
الحال الأول. أن يضيق المال عن الدين، فهذا مفلس في عرف العلماء رحمهم الله، إذا سأل غرماؤه الحاكم، أو بعضهم لزمه الحجر عليه في ماله، وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجورا عليه بدون حكم حاكم، وهذا لا يجوز قلب الدين عليه بحال، لعجزه عن وفاء ما عليه من الدين.
الحال الثاني. أن يكون ماله أكثر من دينه، لكن لا يقدر على وفاء دينه إلا بالاستدانة في ذمته، وهذا يشبه(7/122)
ص -122- ... الأول، لا يجوز قلب الدين عليه، لأنه غير مليء، ولا يخفى أن المليء عند العلماء، هو الذي إذا طلب ما عليه بذله من غير مشقة عليه، وهو الواجد للوفاء.
الحال الثالث. أن يكون عليه دين، وفي يده مال يقدر على الوفاء من غير استدانة، وهذا مليء ولكن منع بعض العلماء قلب الدين عليه حسما للمادة، وسدا للذريعة.
قال شيح الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وقد سئل عن المعاملات التي يتوصل بها إلى الربا فمن ذلك: أن يكون المدين معسرا فيقلب الدين إلى معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمر في هذا؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد؟
فأجاب: المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعن المحلل والمحلل له، وكان أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، يقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون ; وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع أن هذا محرم، والآثار عنهم بذلك كثيرة.(7/123)
ص -123- ... والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية، فإذا حل الدين وكان الغريم معسرا، لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب عليه الدين، بل يجب إنظاره وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب، لا مع يساره ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمر: تعزير المتعاملين بالمعاملات الربوية، أن يأمروا المدين بأن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي دينه منها، وفي دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم، انتهى كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى-، فتأملوا قوله: إن كان معسرا وله مغلات كيف سماه معسرا، مع وجود عقار يستغله.
ومن صور قلب الدين: أنه إذا حل أجل ما في ذمة المدين من الدراهم وعلم صاحب الدين أنه لا يجد دراهم يدفعها إليه قال له: بعني طعاما في ذمتك علي بكذا وكذا، فيسلم إليه الدراهم بطعام في ذمته، فإذا قبض منه رأس المال ردها إليه وفاء، وحقيقة الأمر: أن الذي في ذمته الأول، قلبه طعاما فينمو المال في الذمة، والأصل واحد.
وأجاب أيضا: وأما قلب الدين على المدين، فمن صوره: أنه إذا كان له على شخص دراهم ثمن زاد، أسلم إليه دراهم في زاد ليستوفى منه بتلك الدراهم، وكل منهما يعلم أن رأس المال راجع إلى صاحبه، فتكون حقيقته تربية الدين في ذمة المدين، وهذه الصورة وأمثالها:
ذكر شيئ(7/124)
ص -124- ... الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى، المنع منها وأمثالها.
وسئل أيضا: رجل اشترى تمرا بنسيئة من آخر، ثم رده عليه عما في ذمته؟
فأجاب: إن كان قبضه قبضا صحيحا، جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه من غيره، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته، واضطره إلى أن يستدين من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين،
أحدهما. أن المعسر يجب إنظاره وهذا ضرر به يزيد به عسرته؛
الثاني. أنه من قلب الدين الذي نص العلماء رحمهم الله، كشيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز.
وسئل أيضا: عن مليء عليه دين لآخر، فأسلم عليه دراهم قضاه دينه منها ؟
فأجاب: إن هذه الصورة من صور قلب الدين، وقد نص على أنه يضارع الربا، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف منعوا منه، وأفتى هو بالمنع، وكذا شيخنا الإمام - رحمه الله - تعالى، وذلك لأنه تنمية للدين في ذمة المدين بمجرد القلب، وهو بمعنى ربا الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن تربى.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: قلب الدين على المعسر لا يجوز، لأنه إنما قلبه عليه لعجزه عن الوفاء،(7/125)
ص -125- ... فكأنه حيلة، فإن كان مليا ولم يكن المسلم شرط عليه الوفاء بها، فإذا قبضها البائع، وذهب بها إلى بيته قدر اليومين أو الثلاث، وتملكها تملكا تاما، بحيث يتصرف فيها بما شاء فلا بأس أن يوفيه بها عما في ذمته له من الدراهم، وكونها قرضا لا يضر، وأما إن كان أخذها من أمانته بغير إذن صاحبها، فإنه لا يصح، اللهم إلا أن يعلم منه الرضا بذلك، هذا ما ظهر لنا، والله أعلم.
وسئل: ما ضابط الإعسار الذي يحرم قلب الدين على من قام به؟
فأجاب: اختلف في ضابطه، ولعل أقرب الأقوال فيه: أنه عدم القدرة على الوفاء، بإعدام أو كساد متاع ونحوه، وكون موجوده أقل من دينه، قال الشيخ تقي الدين، بعد كلام سبق: وإن كان معسرا وله مغلات يوفى منها، أو في دينه بحسب الإمكان، فسماه معسرا وله مغلات.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما قلب الدين، فشيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر حكم القلب على المعسر في الصورة التي لا خلاف فيها، أي في عدم جوازها، وعلله بالإكراه، وأما غيرها من صور القلب التي لا إكراه فيها،، وربما يجوزها من لا يمنع بعض الحيل، من الحنفية والشافعية، فلم يصرح بها في هذا الموضع، وكلامه معروف في إبطال الحيل، وصنف في ذلك كتابه المعروف،(7/126)
ص -126- ... وهو قول الإمام مالك، والإمام أحمد وأصحابهما، وقول أئمة الحديث، وبعض أهل زماننا: أخذ من قول الشيخ في المسألة، أنه إذا كان ذلك برضا الغريم فلا بأس به.
والذي نرى ونفتي به: المنع في الصورة التي يسميها العامة التصحيح، فيما إذا كان لإنسان على آخر عشرة مثلا، فقال: ما عندي ما أعطيك ولكن يقول في لفظ العامة: إما اكتبها 1 علي فيقول: كتب الذي في ذمته ما يجوز، ولكن نصحح: أكتب عليك عشرة توفيني بها إذا قبضتها، أو يقول ذلك في العادة المستمرة والعرف المطرد، كالتواطي: أنه يرد عليه دراهمه في المجلس غالبا، فيكون ذلك في العادة مواطأة، والقابض للدراهم لا يتصرف فيها، فلا يصير ملكه تاما عليها، بل يردها عليه بعينها في الحال، فدراهمه رجعت إليه ويصير رأس مال السلم الذي في الذمة، وربما يكون أصل الدين عشرة، فيصل بالقلب مرة بعد مرة، إلى مائة أو أكثر.
وذكر الإمام مالك - رحمه الله - في الموطأ، مسألة تشبه هذه المسألة، فقال: من اشترى طعاما بثمن معلوم إلى أجل مسمى فلما حل الأجل، قال الذي عليه الطعام لصاحبه: ليس عندي طعام فبعني الطعام الذي علي إلى أجل، فيقول صاحب الطعام: هذا لا يصح، لأنه قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اكتبها: اجعلها سلما.(7/127)
ص -127- ... عن بيع الطعام حتى يستوفى، فيقول الذي عليه الطعام لغريمه: فبعني طعاما إلى أجل حتى أقضيك، فهذا لا يصح، لأنه إنما يعطيه طعاما ثم يرده إليه، فيصير الذهب الذي أعطاه ثمن الطعام الذي كان عليه، ويصير الطعام الذي أعطاه محللا فيما بينهما، ويكون ذلك إذا فعلاه بيع الطعام قبل أن يستوفى، انتهى.
وفي مسألتنا: تكون الدراهم التي يعطيه ثم يردها إليه وفاء محللا، ويكون رأس مال السلم ما في ذمة غريمه، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم.
وأجاب أيضا: ونذكر لكم صورة من صور قلب الدين، ذكرها مالك في الموطأ يفعلها بعض الناس، إذا صار له على آخر مائة مثلا وطلبها منه قال: ما عندي نقد لكن بعني سلعة بثمن مؤجل كما يقول بعضهم: العشر اثنا عشر فيبيعه سلعة بمائة وعشرين مؤجلة تساوي مائة نقدا ثم يبيعها المشتري ويعطيه ثمنها مائة؛ قال مالك - رحمه الله -: في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا، بمائة وخمسين إلى أجل؛ قال مالك هذا بيع لا يصلح، ولم يزل أهل العلم ينهون عنه.
قال: إنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره له آخر مدة،(7/128)
ص -128- ... ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه، فهذا مكروه لا يصلح، وهو يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية، أنهم كانوا إذا حلت ديونهم، قالوا للذي عليه الدين: إما أن تقضني وإما أن تربى، فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم، وزادوهم في الأجل، انتهى، والسلف يعبرون كثيرا بالكراهة فيما هو محرم عندهم، وقوله: إنما يعطيه ثمن ما باعه، يعني: أن مشتري السلعة يبيعها على غيره، ويعطيه ثمنها مائة، وأخبر - رحمه الله -: أن أهل العلم لم يزالوا ينهون عن ذلك.
وأجاب أيضا: الذي له على إنسان دراهم وأراد أن يأخذ منه دراهم في تمر أو حب، والغالب من الناس أنه يقول لغريمه: عندنا لك كذا وكذا، نأخذهن بتمر أو حب، ونود بهن منك لا من غيرك، فإذا صار له عليه مثلا عشرة أريل1، أعطاه إياهن بمائتي صاع مثلا، ويرد إليه العشرة في المجلس وفاء، فدراهمه رجعت إليه وصارت العشرة التي في الذمة بمائتي صاع، هذا حجة من منع هذه الصورة، والأحوال تختلف، وفي المسألة إشكال، والله أعلم، وإذا كان جعل ما في الذمة رأس مال سلم غير جائز قال أعطيك كذا سلما وتردها علي، فيتخذه حيلة على ما منع منه.
وأجاب أيضا: وإذا استلم رجل من آخر دراهم ثم اشترى بها منه طعاما فهذا إذا كان بشرط أو مواطاة فلا يجوز، وأما إذا أخذ دراهمه وذهب ليشتري بها من غيره فلم يجد عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ريالات.(7/129)
ص -129- ... غيره شيئا ثم رجع فاشترى منه فلا بأس بذلك.
وأجاب أيضا: وبيع الكالئ بالكالئ، له صور كثيرة مذكورة. في كتب الفقه، منها: ما هو متفق عليه، ومنها ما فيه خلاف وهو بيع مؤخر بمؤخر، ومنها أن يسلم إليه في طعام أو نحوه، ولم يقبض رأس مال السلم في المجلس، ومنه عند كثير من العلماء: أن يكون له في ذمته دراهم، ويكتبها عليه في طعام في ذمته؛ والمسألة التي يسمونها "التصحيح" إنما يفعلونها حيلة إلى التوصل إلى ذلك، لأنه يعطيه ريالا بكذا طعاما ثم يرده إليه، فيرجع برياله وهو لم يعطه إياه، ويملكه إياه تمليكا تاما، بل إنما أعطاه إياه بشرط أن يرده إليه في الحال، فيكون العقد وقع على ما في الذمة من الدراهم.
وأجاب أيضا: وأما قلب الدين إذا كان له على آخر دراهم، وطلب منه الوفاء، وادعى العسرة، فقال أسلم إليك دراهم في طعام توفيني بها، فإن كان المسلم إليه معسرا، وأكرهه غريمه على ذلك، فهو حرام باتفاق الأئمة، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، قال: لأنه مكره بغير حق، وإن كان المسلم إليه غير معسر، فالذي يظهر لنا عدم الجواز، لأن ذلك يتخذ حيلة على جعل الدين رأس مال سلم.(7/130)
ص -130- ... وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لا يجوز قلب الدين، ولا يفرق بين الغني وغيره، بل قلبه هو صريح الربا.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: لا يجوز قلب الدين لمن هو عليه مطلقا.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما مسألة الدراهم ثمن التمر، إذا حل الأجل أسلمها عليه، ثم ردها عليه قضاء للدين في زعمه فهذا عين الربا، لأن الحقيقة رأس ماله التمر الأول، فكأنه باع خمس عشرة وزنة بثلاثين، ولا يفعل هذا من يخاف الله ويتقيه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: لا يجوز قلب الدين. لا على معسر ولا موسر، بل ذلك كله من الربا الذي ورد الوعيد عليه، ومن فعل ذلك فليس له إلا رأس ماله.
وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: ويذكر أمور ما تصلح، ولا يجوز السكوت عليها، منها: بعض المعاملة الفاسدة مثل الإنسان الذي يحل له على غريمه دراهم، ثمن تمر أو حب، ثم يجعلها في ذمة غريمه بزاد، وهذا أمر ما يجوز، والذي يفعل هذا ما يمكن من أخذ الزاد من المدين، ولا يحصل له إلا رأس ماله يرده عليه المدين.
وأجاب الشيخ عبد الله بن فيصل: والضامن إذا لم يحصل له من المضمون عنه إلا أن يقلب عليه، فالظاهر عدم جوازه.
... فصل (الوفاء في العقد الفاسد)(7/131)
ص -131- ... فصل (الوفاء في العقد الفاسد)
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: عن الوفاء في العقد الفاسد... إلخ ؟
فأجاب: وإذا أوفاه بالعقد الفاسد مثل الرد على المعسر، فليس له إلا رأس ماله.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها على صاحبها، وربا الجاهلية موضوع، وأما قبض الدراهم في مقابلة نفع دراهمه، في جاهلية أو بعد إسلام المدين قبل أن يبلغه النهي، فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279].
وعقود الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يُقَرَّان على ما مضى منه، لأن الإسلام يهدم ما قبله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275] وأما الذي له دراهم أخذ بها في الأعشار، فالشيء الذي أخذ في الجاهلية منها، لا يحسب عليه من رأس ماله، وأما الذي دخل عليه بعدما أسلم من(7/132)
ص -132- ... الثمار، فهو يحسب عليه من رأس ماله، وبقية رأس ماله الذي يقدر من المسلمين يوفيه، والذي ما يقدر يلزمه الصبر حتى يوسر، فإن كان دفع لهم من رأس المال عروضا، مثل بقر أو عيش أو سلاح أو إبل، فهم يردون عليه مثله، وأما الذي ما عنده إلا عقارات مرهونة، رهنها تاجر آخر داخل فيها بدراهم، فهي فاسدة، ربا، ويصير له رأس ماله، وما أكل من ثمارها بعدما أسلم، يحسب عليه من رأس ماله.
وأجاب أيضا: وأما رهون الجاهلية من الربا والرهون، التي لا تجوز في الإسلام، فليس لصاحبها إلا رأس المال، فإن كان الذي عليه الحق معسرا، لزم صاحب الدين إنظاره إلى ميسرة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وكذلك عقود الربا، إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التقابض، فليس لصاحب الدين إلا رأس ماله، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}[سورة البقرة آية: 279] وأما المال المقبوض، فلا يطالب به القابض إذا أسلم، لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275].
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام، قد انقضت بالتقابض في أكثرها... إلخ، فيظهر: مما قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - في آية الربا، في قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 275].(7/133)
ص -133- ... فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى، كان مغفرة ذلك الذنب والعقوبة عليه، وأمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له وإلا عاقبه، ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] إلا أنه يستثنى منها ما قبض، وهذا الحكم ثابت في حق الكافر، إذا عامل كافرا بالربا، وأسلما بعد القبض، وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له به، كسائر ما قبضه الكافر بالعقود التي يعتقدون حلها.
وأما المسلم: فله ثلاثة أحوال، تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم، أما الأول والثاني ففيه قولان: إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل يرد ما قبض كالغاصب، وقيل لا يرده وهو أصح، لأنه إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه، مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر له، إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك، فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله.
وأما المسلم الجاهل، فهو أبعد لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شر من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من(7/134)
ص -134- ... الواجبات، التي لم يعرف وجوبها، هل عليه قضاء؟ قولين: أظهرهما لا قضاء عليه، وأصل ذلك، أن أصل الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب ؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل، أو صلى وقد أكل لحم الجزور، ثم تبين له النص، هل يعيد؟ على روايتين.
وقد نصرت في موضع: أنه لا يعيد وذكرت على ذلك أدلة متعددة، منها: قصة عمر، وعمار، لما كانا جنبين، فصلى عمار ولم يصل عمر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة; ومنها المستحاضة التي قالت: منعني الصوم والصلاة، ومنها الأعرابي المسيء في صلاته، الذي قال: والله ما أحسن غير هذا، أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة، لأن وقتها باق، وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك، ومنها الذين أكلوا حتى تبين الخيط الأبيض من الأسود، ولم يأمرهم بالإعادة.
والشريعة: أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب، فكذلك النهي، فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم، ثم علم، لم يعاقب؟ وإذا عامل بمعاملات ربوية يعتقدها جائزة، وقبض منها ما قبض، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرا من الكافر، والكافر إذا غفر له ما قبضه لكونه قد تاب، فالمسلم بطريق الأولى، والقرآن يدل على هذا بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ(7/135)
ص -135- ... فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}[سورة البقرة آية: 275].
وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف، انتهى ملخصا من كلامه - رحمه الله -، وبه يظهر للسائل تفصيل ما أجمله في السؤال، فليتأمل.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف - رحمه الله -: لا يخفى أن الله تبارك وتعالى حرم الربا، وأوضح تحريمه في مواضع كثيرة من كتابه، وأذن بحرب من لم يلتزم حكمه فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] وهذا صريح في تحريم أخذ الزيادة على رأس المال، لأن قوله: {(وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [سورة البقرة آية: 278] يعني ما فضل على رؤوس الأموال، فيلزم من قبض شيئا في معاملة ربوية رد ما زاد على رأس ماله، لأنه قبض غير صحيح، ولا يقال في مثل هذا العقد فاسد، بل باطل، وما قبضه بسببه فهو قبض بغير حق، والعفو إنما كان فيما قبض في الجاهلية قبل التحريم.
وما ذكرته من الإشكال فيما قبض بمعاملة ربوية، وقيل برده هل يصار إلى القيمة إذا تعذر المثل؟ أعني القيمة وقت القبض، فكلام الشيخ كما ذكرت صريح في ذلك في الغصب، لا سيما إذا تغير السعر، ولا تغير أعظم مما حصل في هذا الزمان، ولا تعذر في المثل أشد، وذلك المقبوض(7/136)
ص -136- ... أكثر ما يقال فيه إنه كالغصب، ولو قيل بالقيمة اليوم لما تعذر المثل، لكان فيه اجتياح على القابض.
... فصل (حكم التعامل بالجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل)(7/137)
ص -136- ... فصل (حكم التعامل بالجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل)
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: عما يتعامل به أهل نجد، من الجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل؟
فأجاب: هي صورة مسألة مد عجوة لا بد فيها من أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره على الرواية القائلة بالجواز، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فعلى هذا: إذا كان الذي في الجدد من الفضة أكثر من فضة الريال، فلا يجوز بيعها به على كلا الروايتين، والوفاء بالزررة عن المشاخصة جائز، بشرط كونه وفاء باطنا وظاهرا.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله، أما رد البدل إذا اقترض ريالية، ودفع إليه البدل زرورا، أو بالعكس فهذا جائز، لأنه أخذ به نقدا عن نقد آخر، لحديث ابن عمر: "ولكن بسعر يومه" وكذلك لو أخذ بدل القرض برا، أو شعيرا، أو تمرا، أو كان القرض طعاما فأخذ عنه دراهم، فكل ذلك جائز إن شاء الله تعالى، لكن لا يلزم إلا بالقبض، لئلا يكون بيع دين بدين.
وأجاب أيضا: هو والشيخ عبد الرحمن بن حسن: "الجدد" لما رخصت، وصار فيها من الفضة أكثر مما في(7/138)
ص -137- ... الريالات المقابل لها في المصارفة، محرم إذا قلنا بأن هذه الصورة من صور مد عجوة، فلا بد أن يكون المفرد أكثر من الذي معه، وهذا الشرط يجري على الرواية القائلة بالجواز، اختارها شيخ الإسلام، وأما إذا كان ما يقابل الريال من الجدد، أكثر فضة من الريال، فلا يجوز صرفه بها قولا واحدا، لما في ذلك من التفاضل في الفضة من غير مقابلة بشيء، وهذا صريح الربا، ا هـ.
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: إن مما كثر البحث عنه والسؤال، فيما عمت به البلوى بين العوام من الجهال: الاعتياض بالنقود المسماة بالجدد عن الريال، وقد ورد علينا ونحن بالديار المصرية، من بعض أعيان بلادنا النجدية، كتاب يتضمن السؤال عن ذلك، ويستدعي الجواب عما وقع هنالك؟
فأجاب شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الأئمة الأعلام: عبد الله بن الشيخ الإمام، شيخنا محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، بما حاصله: إذا كان يعرف بين أهل الخبرة والاستعمال، أن ما يبذل منه هذا النقد في الريال، يشتمل من الفضة على أكثر مما فيه، فهذا ربا بلا إشكال، وكذا إذا كانت الزيادة من الفضة، أو المساواة يتطرق إليهما الاحتمال، فهو من الربا باتفاق أهل النظر والاستدلال، لأن من أصول هذا الباب، عند ذوي العقول والألباب: أن الجهل بالتماثل، كالعلم بالتفاضل، بغير شك ولا ارتياب.(7/139)
ص -138- ... ولما يسر الله رجوعي من تلك الديار، وحصل لي بالوطن مكث واستقرار; رأيت أن مما يتعين علي: تنبيه إمام المسلمين وفقه الله لطاعته، بأن يصرف الهمة إلى منهج الصواب والسداد، لما في ذلك من صلاح البلاد والعباد، فبادر إلى ما أشرت إليه، فدفع إلى من يرضى أمانته، عشرين من تلك النقود، وأمره أن يختبر ما فيها من الفضة، بالسبك على الوجه المعهود، فحضرت تصفيتها مع ذلك الثقة المأمور، فحصل من العشرين خمسة بزنة المثقال، وهذا القدر لا يزيد عما في الريال منها ولا ينقص بحال، فأفتيت بعد ذلك التحرير والاختبار، بأن هذه المصارفة لا تحل إذا زادت الجدد عن ذلك المقدار.
ثم ذكر أدلة تحريم الربا، وتقدم- إلى أن قال- قلت فتأمل كيف أفاد: أن ما يخل من الخلط بالتماثل، يمنع من بيع الجنس بجنسه، وهو صريح كلام الجميع، ولا يخفى أن النحاس المخالط للفضة في الجدد، يخل بالتماثل، وما يخل بالتماثل لا يجوز.
فصل
ومن نظائرهما: ما نص عليه في الشرح والمغنى والكافي وغيرهم، من أنه لا يجوز بيع الزبد بالسمن، قالوا: لأن في الزبد لبنا يسيرا يخل بالتماثل قلت: فإذا كان الخلط اليسير من اللبن في الزبد، يخل بالتماثل، فالنحاس مع الفضة من باب أولى، لكونها أصلا وذلك فرع ; فإن قال قائل: إن الفضة فيها تبع قلت: هذا باطل من وجوه: الأول أنه لا(7/140)
ص -139- ... قيمة للنحاس الذي فيها، إذ لو صفت الفضة عنه لعاد خبثا،
الثاني: أن الفضة أصل في الربا وفي الثمنية، وهو فرع فيهما، فلا يجعل ما هو أصل تبعا لفرعه وأيضا فالفضة جوهر ثمين، فلا تكون تابعة لما ليس كذلك، قال ابن حزم: وحبة ذهب أو فضة لها بال عند المساكين، نعم وعند التجار، وعند أكثر الناس، ولا يحل أن يزيدهما في الموازنة، انتهى، وما أسلفته من الأحاديث، يبطل هذا الاعتراض.
فإن قيل: قد جوز الفقهاء درهما فيه نحاس، بنحاس واختلاف، قلت: هذا عليكم لا لكم، لأن الفضة ليست من جنس النحاس، واختلاف الجنس لا يمنع التفاضل بالاتفاق، وأما ما كان من النحاس في الدرهم، فقد أخرجته الصنعة عن أصله، وما أخرجته الصنعة مما أصله الوزن، فلا يجري فيه الربا غير الذهب والفضة، نص عليه في المنتهى ; فإن قيل: قد أجازوا بيع درهم بمساويه في غش ؟ قلت: وهذا أيضا من الحجة عليكم، لأنه لا سبيل إلى العلم بتساوي الدرهمين المتساويين وزنا في الغش، إلا من جهة العلم بتساويهما في الفضة، وبالعلم بالتساوي يزول المانع، بخلاف مسألتكم فإن التساوي فيها غير معلوم.
فإن قيل: قد رأيناهم جوزوا بيع التمر فيه النوى بمثله، قلت: هو كذلك، ولكنه قد اشتمل على شيئين بأصل الخلقة، وما اشتمل على شيئين كذلك جاز، نص عليه في الكافي وغيره، ففارقت هذه المسألة، وقد نص الفقهاء(7/141)
ص -140- ... رحمهم الله تعالى: على أنه لو نزع النوى من التمر، لم يجز بيع التمر المنْزوع منه النوى، بتمر فيه نوى، سواء ترك معه أولا، ومسألتكم أولى بالمنع ولا بد،
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، قد صرح في الفتاوى المصرية أنها إذا كانت الفضة المغشوشة أكثر من المفردة، فإنه لا يجوز بيع إحداهما بالأخرى، وهي مسألتكم بعينها، وعلى المنع منها اتفق العلماء رحمهم الله.
وأما مسألة: مد عجوة ودرهم التي منع الجمهور منها فللبطلان فيها مأخذان، أحدهما: سد ذريعة الربا، وفي كلام الإمام إيماء إلى ذلك; الثاني: وهو مأخذ القاضي وأصحابه: أن الفضة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة، يقسط الثمن على قيمتيهما، وهذا يؤدي هنا إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتساوي، وكلاهما مبطل للعقد، فإنه إذا باع درهما ومدا يساوي درهمين، بمدين يساويان ثلاثة، فالدرهم في مقابلة ثلثي مد، ويبقى مد في مقابلة مد وثلث وذلك ربا فلو فرض التساوي، كمد يساوي درهما ودرهم بمد يساوي درهما، ودرهم لم يصح أيضا لأن التقويم ظن وتخمين، فلا تحقق معه المساواة والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، انتهى عثمان م ص. 1.
وأجازها: أبو حنيفة وأحمد فى رواية عنه، وعليه فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ملخصا من حاشية عثمان بن قائد, على شرح منصور للمنتهي.(7/142)
ص -141- ... تشبه هذه المسألة بحال، فإن المجوزين لها اشترطوا شروطا، لم يوجد واحد منها في هذه المسألة، فمنها: أنهم يشترطون: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، وبعضهم اشترط أن يكون الزائد يسيرا بقدر قيمة ما مع الجنس، وهذا الثاني نص عليه الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في الفتاوى المصرية، فقال: إذا كانت الفضة المفردة أكثر من الفضة المغشوشة بشيء يسير بقدر النحاس، فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء، انتهى.
فافهم كلامه: أنه إذا لم توجد القيود الثلاثة امتنع الجواز، وذلك في أربع صور أحدها: أن لا تكون المفردة أكثر، وذلك بأن علم أنها أقل أو جهل، وأن تكون أكثر بشيء غير يسير، أو بيسير أكثر من قيمة النحاس.
ومسألتكم لا تخرج عن هذه الأربع، فلا تجوز ومنعه المتأخرون كصاحب المستوعب، ومن يشترط في مسألة مد عجوة، إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي، جعله لكل جنس في مقابلة جنسه، قال في الإنصاف: وهو من جعل الجنس في مقابلة غيره لا سيما مع اختلافهما في القيمة، انتهى.
واشترطوا أيضا: أن لا يكون حيلة على الربا، وبعضهم اشترط أن لا يكون الجنس الذي مع غيره مقصودا كالسيف المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
وعلى كل: فالمجوزون لمسألة مد عجوة محجوجون عند الجمهور بما تقدم من الأحاديث، وبما في السنن وغيرها(7/143)
ص -142- ... من حديث فضالة بن عبيد، قال أبو داود في حلية السيف: تباع بالدراهم؛ والقلادة فيها الذهب والفضة،
حدثنا محمد بن عيسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع، قالوا حدثنا ابن المبارك، وحدثنا ابن العلاء، أنبأنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد، حدثني خالد بن أبي عمران، عن فضالة بن عبيد، قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع، فيها خرز معلقة بذهب، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير، قال صلى الله عليه وسلم لا، حتى تميزوا بينها فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، حتى تميزوا بينها" 1 قال ابن حزم: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتف بنيته، في أنه إنما غرضه الخرز، ويكون الذهب تبعا، ولا راعى كثرة من قلة، وأوجب التمييز في الموازنة ولا بد، انتهى.
قال الشيخ: فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة، وقد أتينا في هذه الرسالة بما لعلك لا تجده مجموعا في غيرها، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فصل (حكم التعامل بالجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر وأجاب أيضا: وأما إذا كانت الفلوس فيها فضة مثل قروش محمد علي، 2 وتصرف بدراهم من الفضة، فإن هذه الصورة من أفراد مسألة مد عجوة، فمن جوزها قال: تجوز هذه، ومن لا فلا، وشرط جوازها عند من يقول به: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، واختار شيخ الإسلام الجواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3351).
2 خديوي مصر, المعروف.(7/144)
ص -143- ... بشرطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة.
والرواية الأخرى: لا يجوز، وهو المذهب، قال في الإنصاف: وللأصحاب في توجيه المذهب مأخذان أحدهما- وهو مأخذ القاضي وأصحابه- أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة، يقسط الثمن على قيمتيهما، وهذا يؤدي هنا إما إلى يقين التفاضل، وإما إلى الجهل بالتساوي وكلاهما مبطل للعقد في باب الربا، فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح واقع، كبيع مائة درهم في كيس، بمائتين، جعلا للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهما فمنع من ذلك وإن كانا مقصودين حسما لهذه المادة وفي كلام أحمد إيماء إلى هذا المأخذ، والله أعلم.
وأما معنى المكسرة في كلام الفقهاء؟ فالجواب: أني وقفت على عبارة في غاية مرعي، تبين ذلك، فإنه قال: ومن اشترى شيئا بنصف دينار لزمه، ثم إن اشترى آخر بنصف آخر لزمه، ويجوز إعطاؤه عنها صحيحا، انتهى.
فيقال على الريال هذا صحيح، وعلى النصفين ريال مكسر، وكذا الأرباع، والله أعلم.
وسئل: عمن أراد أن يسعر ببعض الريال فقال لمن أراد أن يأخذ منه شيئا بنصفه: خذ هذا وأعطني بنصفه، ورد علي النصف الآخر نصفا.
فأجاب: هذا جائز إذا قبض النصف قبل التفرق، لأنه(7/145)
ص -144- ... صارفه بالنصف مثلا بمثل يدا بيد، وليس هذا من أفراد مسألة مد عجوة، لأن صاحب الطعام يستحق نصف الريال ثمنا، والنصف الآخر أخذه مصارفة، ودفع عنه ما يماثله، فافهم هذا، قال في الأنصاف: فلو دفع إليه درهما، وقال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم، وبنصفه فلوسا، أو حاجة أخرى جاز، انتهى.
وأجاب الشيخ: سليمان بن عبد الله بن الشيخ رحمهم الله، هذه الجدد قد قيل إنها ملحقة بالعروض كالفلوس، لكن هذا عندي لا يتوجه على المذهب، لوجهين،
أحدهما: ما فيها من الفضة من غير اعتبار له،
الثاني: أن قاعدة المذهب تحريم مسألة مد عجوة، ومعنى مسألة مد عجوة- كما هو مقرر- أن يبيع جنسا فيه الربا بجنسه، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، ويلزم من ألحقها بالعروض أن يبيح مد عجوة، فيخالف فيها المذهب، كما هو الواقع في صرفها بالفضة الآن، فعرفت أن إلحاقها بالعروض خلاف المذهب، لكنه يتمشى على القول بإباحة مسألة مد عجوة، إما مطلقا، أو بشرط أن يكون الذي مع الجنس الآخر غير مقصود، إن فسر القصد بأن يكون مقصود الصياغة ونحوها، إذ الفضة في الجدد غير مقصودة لصياغة ونحوها، أو بشرط أن يكون مع كل واحد من غير جنسه، وقد اختار هذين القولين، في مسألة مد عجوة، الشيخ تقي الدين في موضعين من كلامه.
ووجه ثالث: وهو أن الفلوس التي ذكر الأصحاب، أنها(7/146)
ص -145- ... كالعروض ليس فيها ذهب ولا فضة، فكيف يصح إلحاق ما فيه شيء منهما بالفلوس، التي فيها شيء منهما، مع وجود الفارق؛ وأما إلحاقها بالنقدين فلا يصح أيضا، لأنها ليست بنقد أصلا، فكيف يلحق ما ليس بنقد بالنقد؛ ولا أظن أحدا يقول ذلك.
والأولى عندي أن يقال: هي وما أشبهها ملحقة بالمغشوش، فينظر فيها، فإن بلغ ما فيها من الفضة نصابا بنفسه، أو بالضم إلى فضة أخرى، أو نقول بضم الفضة إلى الذهب، كما هو رواية عن أحمد، وقول مالك وأبي حنيفة، فإنه يزكيها زكاة النقدين، وإن لم يبلغ ما فيها من الفضة نصابا، ولو بالضم إلى فضة أخرى، أو كان عنده ذهب ولم نقل بضم الفضة إلى الذهب، فإنه يزكيها زكاة التجارة، على أني لم أر أحدا من الأصحاب ذكر ذلك غيره، بل ذكروا أن المغشوش ليس فيه زكاة، إلا أن يكون نصابا، هكذا ذكروه ولم يقيدوا، فظاهر كلامهم: أنه لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابا مطلقا، هذا ما ظهر لي على أني لم أجد فيها كلاما لأحد، وأما جعلها رأس مال السلم، فيصح ذلك لانتفاء المانع، لأنها معلومة.
وأما اشتراط القبض في مجلس الصرف، فيشترط ذلك على كل تقدير، لاتحاد علة الصرف فيه قبل القبض، لكن ينبغي أن يعرف أن صرفها بفضة لا يجوز، إلا على القول بجواز مسألة مد عجوة وقد عرف ما فيها من الخلاف.(7/147)
ص -146- ... فصل
وسئل الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا كان لرجل على آخر فضة، كريالات الناس وللآخر عليه مثلها فتصارفا بالقول؟
فأجاب: ليس هذا بصرف، وإنما هو تساقط، وليست هذه الصورة التي ذكر صاحب الشرح، بقوله: إذا كان رجل في ذمته لآخر ذهب، وللآخر عليه دراهم فاصطرفا لم يصح، لأنه بيع دين بدين، لأنه تصارف في الذمم، وهذا تساقط فيصح، قال في المنتهى وشرحه: ومن استحق على غريمه مثل ماله عليه من دين، جنسا وقدرا وصفة حالين، بأن اقترض زيد من عمرو دينارا مصريا ثم اشترى عمرو من زيد شيئا بدينار مصري حالين أو مؤجلين أجلا واحدا، كثمنين اتحد أجلهما، تساقطا إن استويا، أو سقط من الأكثر بقدر الأقل، إن تفاوتا قدرا بدون تراض، لأنه لا فائدة في أخذ الدين من أحدهما ثم رده إليه، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كان لرجل على آخر ريالات وأراد أن يعطيه عنها نوعا من الفضة، مثل هذه التي يسمونها المجيديات، أو غيرها.
فأجاب: هذا حرام بلا شك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط المماثلة في بيع الفضة بالفضة، في أحاديث كثيرة، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد مرفوعا "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا(7/148)
ص -147- ... بمثل، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض" 1.
والأحاديث في مثل هذا كثيرة، ولم يستثن من ذلك صورة، كما استثنى العرايا من المزابنة بشروطها، فمن ذا الذي يجترئ على تخصيص هذه العمومات بالرأي؟ والنبي صلى الله عليه وسلم سمى مبادلة الذهب بالذهب، والفضة بالفضة بيعا.
ولا فرق بين كون العوضين عينا، أو أحدهما في الذمة لوجود المبادلة فيها، التي عرف بها الفقهاء البيع، فقالوا في حده: هو مبادلة مال بمال، وقالوا بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته، فسموا المبادلة بما في الذمة بيعا، والفقهاء يسمون الاعتياض عما في الذمة من أحد النقدين بجنسه صرفا، كما قالوا: فيما إذا انفسخ عقد السلم، أنه يرد رأس ماله إن كان موجودا، أو يرد عوضه إن لم يوجد، فإن كان رأس مال السلم نقدا وأخذ عنه نقدا من جنسه، فصرف له حكمه، وقالوا فيما إذا اقترض دراهم مكسرة، وحرمها السلطان، ورد المقترض فضة، فصرف تعتبر له شروطه، وقال في الشرح الكبير في مسألة اقتضاء أحد النقدين عن الآخر: أنه يشترط لجواز ذلك، أن يكون بالسعر، وأنه قول الجمهور خلافا لأصحاب الرأي، واستدل لقول الجمهور بحديث ابن عمر، وعلله بأن هذا جرى مجرى القضاء، فتقيد بالمثل كالقضاء من الجنس، قال والتماثل هنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، انتهى.
فكلامه صريح في أنه إذا كان من الجنس، فلا بد من التماثل بالصورة، وجعل ذلك أصلا لمسألة الخلاف، فدل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , والترمذي: البيوع (1241) , وأحمد (3/4) , ومالك: البيوع (1324).(7/149)
ص -148- ... على أنه لا بد من التماثل في الصورة، إذا كان القضاء من الجنس بلا خلاف، وهذا أمر ظاهر، وقد علمتم كلام الفقهاء: أن من اشترى طعاما بكيل لا يصح قبضه جزافا، لحديث "إذا سميت الكيل فكل" 1 وغير ذلك.
وليس في حديث جابر، وهو "أن جابرا طلب من غرماء أبيه أن يقبلوا ثمر حائطه، ويحللوا أباه" ما يستدل به للجواز، وقد استدل به ابن عبد البر وجماعة، على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه، إرفاقا بالمدين، وإحسانا إليه، وهذا شبه مسألة ذكرها الفقهاء في الصلح، فيما إذا أقر إنسان لآخر بدين في ذمته، فصالحه بجنسه بأقل أو أكثر على سبيل المعاوضة لم يجز، وإن صالحه بأقل على سبيل الإبراء أو الهبة، لا بلفظ الصلح، فهو جائز، وقولهم إن الناس لا مندوحة لهم عن ذلك، حجة فاسدة، وللناس عن ذلك مندوحة: بأن يشتري بالمجيديات أو القطع، ولا يسمى الريالات، لكن الشيطان يضيق طرق الحلال، ويفتح طرق الحرام، نسأل الله لنا ولكم الهداية والسداد.
وأجاب في موضع آخر: أما صرف الريالات بالقرانات 2 فحرام صرح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفضة بالفضة مثلا بمثل" 3 وقال: "من زاد أو ازداد فقد أربى" 4 والتفاضل بين الريالات والقرانات معلوم، ولو فرض الجهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: التجارات (2230).
2 نقود معروفة, وبعضهم يسميها: غرانات, جمع غران, بتخفيف الراء.
3 الترمذي: البيوع (1240) , وأحمد (5/319).
4 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4560 ,4561 ,4562 ,4563 ,4564) , وأبو داود: البيوع (3349) , وأحمد (5/314) , والدارمي: البيوع (2579).(7/150)
ص -149- ... بالتماثل، فالجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل مثلا بمثلا فاشترط لجواز ذلك العلم بالتماثل، وأما صرف الريالات بالجدد، فالذي رأينا من كلام العلماء، في بيع الدراهم المغشوشة بعضها ببعض، أنه لا يجوز إلا إن علم تساويها في الفضة، ونقل غير واحد عن مذهب الحنفية أنهم يجعلون الحكم للغالب، فإن كان غالب الدراهم نحاسا، فهي نحاس تباع بالفضة الخالصة، فعلى هذا يجوز صرف الجدد والمحاليق 1 بالريالات، واقتضاء أرباع القرش عن الريال صرف لا يجوز وإن كان ذلك بهذه الأنصاف الحمر، فأرجو أنه جائز.
وأجاب أيضا: وأما صرف الريال بالجدد، فالذي يظهر لي أنه ليس من مسائل مد عجوة، لأن النحاس الذي في الجدد غير مقصود، وإن قيل إن له قيمة، فيجعل في مقابلة وزن نحو سدس جديدة من فضة الريال تبقى، ففضة الريال الكثيرة في مقابلة يسير فضة الجدد، وفي أثناء كلام لشيخ الإسلام تقي الدين - رحمه الله - على نحو هذه المسألة، قال بعد كلام سبق: لو باع حنطة فيها شعير، بحنطة فيها شعير يسير، فإن ذلك يجوز عند الجمهور، وكذلك إذا باع الدراهم التي فيها غش بجنسها، كان الغش غير مقصود، والمقصود بيع الفضة بالفضة، وهما متماثلان، فجعل العلة في الجواز تماثل الدرهمين، فيؤخذ من كلامه: أنه لو فقد التماثل لم يجز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقود أيضا.(7/151)
ص -150- ... وقال أيضا: إذا باع دراهم خالصة بمغشوشة، فإن كانت فضة الدرهم الخالص تزيد على فضة المغشوش زيادة يسيرة، بقدر النحاس الذي في الآخر، جاز ذلك في أحد قولي العلماء، فدل كلامه: أن المسألة ذات قولين، الجواز وعدمه، واقتصاره على حكاية القول بالجواز، دليل على أنه يقول به بشرطه المذكور، وهو: أن فضة الدرهم الخالص، تزيد على فضة المغشوش زيادة يسيرة، بقدر النحاس الذي في الآخر، وهذا مختلف بين الريال والجدد، هذا مع اختياره - رحمه الله - في مسائل مد عجوة: أنه إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره كمدي بر بمد ودرهم، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه، كمد ودرهم، بمد ودرهم، وكلامه المتقدم: يدل على أن الدراهم المغشوشة بالفضة المتفاوتة، ليست كهذه المسألة التي اختار جوازها ويستدل لعدم الجواز، بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الفضة بالفضة مثلا بمثل" 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، والذي يظهر لي، أن صرف الريال بالجدد، يتمشى على مذهب الحنفية، الذين يعتبرون النقود المغشوشة بالغالب، إن كان غالبها فضة فهي فضة، وإن كان غالبها نحاسا فهي نحاس.
وأجاب الشيخ: عبد الله العنقري: الذي عنده لآخر ربابي، فدفع إليه ذهبا أو عرضا، أو طعاما أو غير ذلك، من غير الفضة، فهذا لا بأس به بشرط القبض في مجلس العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1240) , وأحمد (5/319).(7/152)
ص -151- ... سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل تتعين الدراهم والدنانير بالتعيين أم لا؟ وما فائدة الخلاف؟
فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد، والمذهب أنها تتعين، وأما فائدة الخلاف، فذكروا له فوائد كثيرة: منها أنه لا يجوز إبدالها إذا عينت، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، ويحكم بملكها للمشتري بمجرد التعيين فيملك التصرف فيها، وإن تلفت فمن ضمانه، وإن وجدت معيبة من غير جنسها بطل العقد، إلى غير ذلك من الفوائد، كما نبه على ذلك في الإنصاف وغيره.
وسئل: إذا دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا، أو ثمن مبيع ثم مضى بها الذي دفعت إليه، فلما أخذ مدة أتاه بدراهم قد ظهرت زيوفا، فأنكرها فمن القول قوله؟
فأجاب: القول قول الصارف، أو المشتري مع يمينه، فيحلف بالله: لقد أوفيتك الدراهم صحاحا ويبرأ.
... باب بيع الأصول والثمار(7/153)
ص -152- ... باب بيع الأصول والثمار
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن نخل اشتري بحقوقه، وفيه منازل... إلخ؟
فأجاب: أما النخل الذي اشتري بجميع حقوقه وتوابعه، فالمتعارف بين أهل الوقت، أن المنازل من آكد التوابع.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن دفع أرضه لإنسان ليغرسها، بما اتفقا عليه من نصيب كل منهما فهل يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس؟
فأجاب: يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس، لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام البائع، في إلزام العامل بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد، وإذا تلف نصيب الغارس من النخل رفع يده عن الأرض، لأنه ليس له فيها حق، بل لو اشترط في ابتداء العقد، أن له شيئا من الأرض فسد العقد بلا خلاف بين العلماء، والمشتري من مالك الأرض، إن كان(7/154)
ص -153- ... إنما اشترى نصيبه من الغرس، فهو صحيح كما ذكرنا، وإن كان الشراء لنصيبه من الغرس، وجميع الأرض، فالذي أرى أنه لا يصح، لأنه ما يمكنه تسليم الأرض والحالة هذه.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا باع رجل على آخر أرضا أو نخلا أو غير ذلك ثم أراد المشتري بيعها على غير من اشتراها منه... إلخ؟
فأجاب: له بيعها على من شاء من الناس، ولا يلزمه بيعها على من اشتراها منه.
وسئل: إذا باع رجل نخلا مؤبرا فأراد مالك الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها؟
فأجاب المسألة فيها روايتان الأولى: لا تباع الثمرة قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم وهي رواية عن مالك وأحد الوجهين للشافعي والثانية: عدم المنع.
وأجاب بعضهم: إذا باع نخلا قد تشقق طلعه، ولم يشترط المشتري الثمرة ثم تنازعا بعد ذلك في الثمرة فأكثر أهل العلم على أن الثمر إذا تشقق، ثم بيع النخل بعد ذلك ولم يشترط المشتري الثمرة، فإنها تكون للبائع، سواء أُبِّرت أو لم تؤبر، وبالغ الموفق - رحمه الله - في ذلك، وقال: لا خلاف فيه بين العلماء، وعن أحمد رواية ثالثة: وهو أن الحكم منوط بالتأبير، وهو التلقيح، لا بالتشقق، فعليها لو(7/155)
ص -154- ... تشقق ولم يؤبر تكون الثمرة للمشتري، ونصر هذه الرواية الشيخ تقي الدين، واختارها في الفائق.
وأما قبل التشقق، فهي للمشتري، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى هي للمشتري في الحالين، وقال أبو حنيفة والأوزاعي هي للبائع في الحالين، ووجه الأول: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع" 1 وهذا صريح في قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه، لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة، فيكون ما قبله للمشتري، وإلا لم يكن حدا ولا كان التأبير مفيدا.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن استثناء حمل النخل قبل اطلاعه.
فأجاب: وأما استثناء حمل النخل قبل اطلاعه، فالذي ظهر لنا أن ذلك غير صحيح لشبهه بالمعدوم، وأما ما استدل به القائل من عبارة شرح الإقناع، فلعدم فهمه لعبارته، وليست عبارته مخالفة لعبارة الأصحاب، ومراده- والله أعلم- أن قوله قبل ظهوره من غلافه، أي: كافوره، أي قبل تشققه وتلقيحه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن بيع الثمر قبل الجذاذ هل يلزم ولو لم ينقد الثمن؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2204 ,2206) , ومسلم: البيوع (1543) , والترمذي: البيوع (1244) , والنسائي: البيوع (4636) , وابن ماجه: التجارات (2210) , وأحمد (2/54 ,2/82) , ومالك: البيوع (1302).(7/156)
ص -155- ... فأجاب: أما الذين يبيعون الثمر وقت الجذاذ يصح البيع ولو لم ينقد الثمن، ولم يقبض المشتري الثمر فهو لازم ولو ما نقد، لأنه إذا خلى بينه وبينه فهذا قبض.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؟
فأجاب: أما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فهو منهي عنه، فإن فعل فهو فاسد ويرد الثمن إلى المشتري، ويلزم الإنكار على من فعله والثمرة إذا بيعت في رؤوس النخل ثم حدث بها عيب لم تجر به العادة مثل ";السعيف" 1 الكثير، و "الخنان" 2 فهذا من ضمان البائع، وتثبت الجائحة عليه، يطالبه المشتري بذلك، وأما بيع العنب رطبا فلا بأس به إذا بدا منه الصلاح.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا باع الثمره بعد بدو صلاحها بشرط القطع، فقدم في الشرح وغيره: يجوز هذا الشرط، وهو ظاهر، إذا تلفت والحالة هذه، فإن كان تلفها قبل تمكين المشتري من أخذها، فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التمكن من أخذها، فهي من ضمان مشتر لتفريطه، وقد صرح الأصحاب: فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة سماوية بعد تمكنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التواء ويبوسة قبل وقت اليبوسة.
2 مرارة يعسر معها الابتلاع.(7/157)
ص -156- ... من قطعها، فهي من ضمانه، وإن تلفت قبل تمكنه من قطعها، فهي من ضمان بائع، لعموم الحديث؛ وصرحوا أيضا فيما إذا اشتراها بعد بدو الصلاح، ولم يشترط القطع في الحال، بأنها من ضمان بائع، ما لم يؤخرها المشترى عن وقت أخذها المعتاد، فإن أخر أخذها عن الوقت المعتاد، فالثمرة التالفة من ضمان مشتر لتفريطه.
وسئل: عن رجل اشترى ثمر نخلة ثم خرفها نحو ثلاث خرفات ثم أهضبت 1 فأراد الفسخ، فأبى البائع وقال: اخرفها، وأبدله تمرا صحيحا وهل يقبل قوله في قدر ما خرف؟
فأجاب: الظاهر أن للمشتري الفسخ، وأن القول في قدر الذي أخذ من النخلة قوله بيمينه لأنه غارم، والقول قول الغارم بيمينه، وذلك حيث لا بينة لأحدهما.
وأجاب بعضهم: إذا باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها، بشرط القطع لنفي الضمان لا حقيقة الشرط، فإن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته، وإنما قصدوا إبطال ما أثبته الله ورسوله، من وضع الجائحة، لأن المقصود إلى العقود معتبر، والأعمال بالنيات، ومن اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وكذلك إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهضاب, والسعيف, عند أهل نجد, بمعنى: التواء ويبوسة قبل وقت اليبوسة.(7/158)
ص -157- ... اشترط شرطا لا حقيقة له، وإنما قصده ونيته غير الشرط، وقد ذكر الشيخ تقي الدين، وتلميذه ابن القيم من ذلك صورا كثيرة.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد عمن اشترى ثمر نخلة بآصع بر معلومة، وأسلمها في مجلس العقد وهو يريد نخلة مقيظا ولا يقدر... إلخ؟
فأجاب: الذي يظهر أن ذلك لا يجوز، إلا بشروط، على ما ذكر أهل العلم في شروط العرية; وأما إذا كان عنده ثمن غير البر من الأثمان أو العروض، فالذي يظهر: أن ذلك لا تجوز له العرية، وأما إذا لم يكن عنده غير العيش، وتمت الشروط التي ذكر أهل العلم فإنه جائز.
وسئل: عن بيع الزرع الأخضر، لمالك الأرض ؟
فأجاب: هو كبيع الثمر، على روايتين، منهم من قال بالصحة، ومنهم من لم يقل، وممن قال بالصحة أبو الخطاب; وبيع الزرع قبل حصاده بالدراهم إذا اصفر جائز.
وسئل أيضا: إذا باع رجل على آخر زرعا أخضر أو أثلا ونحوه، بشرط جزه في الحال إلخ؟
فأجاب: إذا باعه بشرط القطع، ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو زادت قيمة الأثل، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز أو اشترى عرية ليأكلها رطبا(7/159)
ص -158- ... فأتمرت، فالظاهر أنه يبطل البيع في الرواية الأولى، والثانية لا يبطل البيع، ويشتركان في الزيادة، والرواية الثالثة يتصدقان بالزيادة، وأما بيع غلة الأرض سنين معلومة فهذا لا يجوز ولا يصح.
وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: إذا كان لرجل أرض، وفيها قطن وخضراوات، فلا أعلم شيئا يدفع صحة البيع، إذا بيع من أصوله، لكن الزرع الأخضر لا يجوز بيعه منفردا، إلا بشرط قطعه في الحال.
وأجاب بعضهم: وأما بيع الزرع فلا يجوز قبل اشتداد حبه، إلا بشرط القطع في الحال، لما روى مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة" 1 نهى البائع والمشتري، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا يعدل عن القول به، نعم لو باعه مع الأرض جاز.
وأما بيعه منفردا لمالك الأرض، فوجهان، أحدهما: يصح وهو المشهور عن مالك، والثاني: لا يصح لأنها تدخل في عموم النهي، بخلاف بيعهما معا، وبيع القت قبل تمامة، فمتأخروا الفقهاء منعوا من ذلك، قال في الإقناع وشرحه: وكذا حكم رطبة وبقول، فلا يباع شيء منها منفردا بعد بدو صلاحه، إلا جزة جزة، بشرط جزه أي قطعه في الحال، لأن الظاهر منه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر، بخلاف ما في الأرض، فإنه مستور مغيب، وما يحدث منه مجهول فلم يجز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البيوع (1535) , والترمذي: البيوع (1227) , والنسائي: البيوع (4551) , وأبو داود: البيوع (3368).(7/160)
ص -159- ... بيعه، كالذي يحدث من الثمرة، انتهى، قال ابن أبي عمر: ولا يجوز بيع الرطبة والبقول، إلا بشرط جزه، ولا القثاء ونحوه إلا لقطة لقطة، إلا أن يبيع أصله، ورخص مالك في شراء جزتين وثلاث، انتهى.
وقال الشيخ - رحمه الله -: يجوز بيع اللقطة الموجودة والمعدومة إلى أن تيبس المقثاة
قال ابن القيم - رحمه الله -: ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله جمعه ولا في كلام أحد من الصحابة، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام ولا بمعنى خاص، إنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، وفيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودا أو معدوما- إلى أن قال- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر، حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" 1 انتهى.
فكلام ابن القيم يؤيد قول مالك، وقول شيخه - رحمه الله -: أن بيع الرطبة ونحوها جائز، لأنه وإن كان معدوما فليس فيه غرر، لأنه يقدر على تسليمه فلا غرر.
وأجاب بعضهم: اعلم أن في هذه المسألة قولان للعلماء، أحدهما: أنه لا يجوز حتى يقلع، كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، قالوا: لأن هذه أعيان غائبة لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجهاد (2694).(7/161)
ص -160- ... ترَ، الثاني: جواز بيعه وإن لم يقلع، وهذا هو الصواب، لأن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون أيضا بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم..
وأيضا: العلم بالمبيع شرط في كل شيء بحسبه، فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقة إذا خرج، اكتفى بظاهره، كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك، وأيضا: إن ما احتيج إلى بيعه، فإنه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب، كما رخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل بجنسه إذا، ولم يكن ذلك من المزابنة المنهي عنها.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين - رحمه الله -: عن بيع المخاضرة والمعاومة ؟
فأجاب: بيع المخاضرة، هو بيع الزرع الأخضر قبل اشتداد حبه، وبيع المعاومة نحو: أن يشتري منه ثمرة هذا النخل سنتين أو أكثر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ظاهر.
وسئل: عمن ساقى على نخل وعمل فيه مدة، ثم جاء(7/162)
ص -161- ... آخر فاشترى منه عمله في سقيه للنخل تلك المدة، ونزل منْزلته في المساقاة؟
فأجاب: إن كانت الثمرة قد ظهرت، فإنه لا يجوز بيعها، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، إلا إن باعها لمالك الأصل، فيصح على الصحيح من المذهب، وإن كانت الثمرة لم تظهر فباع عمله وتعبه.
فقد نص الإمام أحمد على أنه لا يجوز للمزارع بيع عمله قبل ظهور الزرع، قال لأنه لم يجب له شيء.
وسئل الشيخ: عبد الله بن ذهلان: عن بيع العامل تعبه إذا أراد الظهور؟
فأجاب: بأن ذلك لا يصح، لكن إذا كانت المساقاة صحيحة، فعليه تمام العمل، قال: فلو دفع إليه شيئا وقال أنا أقوم مقامك، ثم يتحاسبان صح ذلك، انتهى.
فليتأمل قوله ثم يتحاسبان، ولعل مراده: أنه إذا دفع إليه شيئا ثم حاسبه بعد ذلك بما غر في سقيه، ويحسبه مما دفع إليه، فيصح على هذا الوجه لا على وجه البيع.
وسأل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن رجل أخذ آصعا يبذرها وله نصف، ولصاحب البذر النصف وقال كل منهما من يعطيني قدر تعبي وذهابي وأجرة الأجير، وله نصيبي من الزرع؟
فأجاب: وما ذكرت من المسألة وفتواك فيها، فالظاهر(7/163)
ص -162- ... صحة ما أفتيت به من عدم صحة البيع، وأنه داخل في بيع الزرع الذي لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع، والإشكال الواقع في نفسك، إن كان بسبب كلام لأحد من أهل العلم فاذكره لي، لأن هذه المسألة كثيرة الوقع.
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي عن النماء المنفصل في ثمرة النخل ؟
فأجاب: الظاهر أنه وجود الطلع، وقبله نماء متصل، وفي ذلك خلاف مشهور قرره الشيخ منصور في حاشيته.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل صلاح بعض الشجر صلاح لكل نوع ؟
فأجاب: هذه المسألة على روايتين، والصحيح أن صلاح البعض صلاح للكل.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما قوله في النخل: أن تحمار وتصفار فهو الذي تراه بعينك، انقلابه بعد الخضرة إلى الحمرة والصفرة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن بيع القطن وهو في رؤوسه قبل أن يخرج ؟
فأجاب لا يجوز حتى يتبين صلاحه ويزول عنه الغرر.
... باب السلم(7/164)
ص -163- ... باب السلم
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا دخلت باء البدلية على الْمُسْلَم فيه وكان بلفظ البيع هل يكون بيعا أم سلما؟
فأجاب: اعلم أن أصل تأسيس القاعدة المذكورة اختلاف وقع في الثمن، هل هو النقد أو ما اتصلت به الباء؟ وإن كان أحد العوضين نقدا فهو الثمن وإلا يكن فأدخلت عليه الباء، فيه أقوال ثلاثة إذا عرفت ذلك، فالمذكور سلم لأنا إن قصرنا القاعدة على بيوع الأعيان دون غيرها بقرينة ذكرهم لها في قبض المبيع أو التصرف للاحتياج فيها أي في بيوع الأعيان إلى تمييز الثمن من المثمن المعينين الحاضرين، فهي لا تتناول عقد السلم، ويرجحه ما نبه عليه بعضهم من أن قواعد الأصحاب كلية وأكثرية، وإن لم نقصر القاعدة على بيوع الأعيان، لكوننا لم نجده صريحا في كلامهم، وإن صرح به غيرهم في قولهم: لما تساوى الثمن المعين والمبيع، احتيج إلى معرفة الثمن من المثمن بالباء، انتهى، فالذي أظهره إمام التصحيح في التنقيح، أولى(7/165)
ص -164- ... بالترجيح، حيث قال: وقيل إن كان أحدهما نقدا فهو الثمن، وإلا تميز بالباء، وهو أظهر.
سئل الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد رحمهم الله: عن السلم في الجدد ؟
فأجاب: وأما السلم فيها أي: الجدد المغشوشة، فلا يجوز لوجهين، الأول: أن السلم لا يجوز إلا فيما يمكن ضبطه، وهي لا يمكن ضبطها إذ هي تختلف بالصغر والكبر، والطول وصفائها، وخضرتها، وقلة الفضة وكثرتها والثاني: أن فيها فضة، ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: هل يصح السلم بالعروض كحيوان وغيره؟
فأجاب: يجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض، على الصحيح.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عمن أسلم إلى آخر في عناقين... إلخ؟
فأجاب: وإذا دين ريالا في ذمة رجل في عناقين، موصوفة بالسن والأجل، فلا بأس به، وأما شراء اللبن في الضرع فلا يجوز، إلا أن يباع كيلا معلوما في ذمته.
وأجاب بعضهم: وأما إذا باع رجل على آخر سلعة،(7/166)
ص -165- ... بغنم مؤجلة من الربيع ونحوه، وهي مسننة، فهذا بيع صحيح إن شاء الله.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر عن البعير بالبعيرين أو أقل أو أكثر إلى أجل ؟
فأجاب: بعض العلماء كره ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا لما روي: "أن عليا باع بعيرا يقال له "عصيفير" بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم".
سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف عمن أسلم في الحيوان على الوصف المشروع ولم يوجد في وقته عند من استلم سنه، وعنده أسن منه، هل يأخذه المسلم بزيادة قيمته أم لا؟
فأجاب: لا يأخذه المسلم بزيادة يدفعها إلى المسلم إليه بل له أخذه مجانا.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عمن أسلم عجلا في بقرة موصوفة، فلما حل الأجل وجدت الصفة في عين رأس المال، هل يجزي دفعه ويلزم قبوله؟
فأجاب: إذا اتحدا صفة، ولم يفعل ذلك حيلة لينتفع بالعين، أجزأ ولزم قبوله، قطع به في الإقناع.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أسلف لرجل في حمل حيوان معين؟(7/167)
ص -166- ... فأجاب: هذا لا يصح في أصح الوجهين، للجهالة، ولأن الصفة لا تأتي عليه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن السلم في التمر... إلخ؟
فأجاب: ما ذكرت من جهة السلم في التمر، وقولك أرجو صحته فى التمر والعيش، كأن عليك فيه إشكالا، فالذي نفتي به قلة التفريق بين التمر والعيش، والسلم في الكل صحيح إن شاء الله، إذا كان وزنا معلوما، وكيلا معلوما، إلى أجل معلوم، وأما الشروط: فليس إلا العرف، 1 إذا صار أن العيش يوفي الدّيّان عن ديّانه، فلا للديان إلا هو، وكذا شرط الوفاء من هذا النخل، قال صلى الله عليه وسلم للذي أراد تعيين وفائه من نخل بني فلان "أما من نخل بني فلان فلا، ولكن وزنا معلوما، أو كيلا معلوما".
وأما إذا أسلم في ذمته، وأوثقه ثمرة نخله، أو وعده الذي يأتيه من هذا الرجل، أو من هذا المغل، فلا بأس، لأنه يعطيه إن جاء منه، وأكثر الواقع: أنه يدين الإنسان في ذمته، ولا يعين النخل ويوثقه الثمرة، ويعرف أنه إن أغل أخذ ثمرته، وإن لم يغل فمن غيره، فيبين عدم التعيين، والفرق بين الذمة ونخل بني فلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا قال أهل الخبرة: هذا من الوسط الذي تبرأ به الذمة.(7/168)
ص -167- ... سئل الشيخ: عبد الله الخليفي عن السلم في السنبل، هل يجوز أم لا
فأجاب: الظاهر عدم الصحة، لأن من شروط السلم معرفة قدر المسلم فيه، وصفته، وأن ينضبط بالصفة، والسنبل معدوم فيه ذلك، لأنا نعلم أن الكعب ليس مقصودا لذاته في السلم قطعا، وليس بقليل يعفى عنه، مع أنه لو قصد لا ينضبط. وأما الحب الذي في باطنه، فلا يعلم قدره ولا صفته إلا بعد تصفيته من الكعب، مع أن السلم في ذلك، إما بالوزن أو الكيل، والسنبل لا يتحقق فيه الكيل ولا الوزن، هذا الذي يظهر مما ذكر الفقهاء رحمهم الله، في باب السلم. قال في المغني والشرح الكبير: ولا يسلم فيه- أي البر- إلا مصفى، وكذلك الشعير... إلى آخر عبارته، وقال في الإقناع وشرحه: ولا يسلم فيه- أي البر- إلا مصفى من تبنه وعقده وكذلك الشعير... الخ، والله أعلم.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: هل يصح السلم في السمن بمطعوم، مكيل أو موزون؟
فأجاب: إن قلنا إن السمن موزون، جاز أن يسلم فيه بمكيل، وإن قلنا إنه مكيل، جاز أن يسلم فيه بموزون، وبعض الأصحاب يقولون: إن السمن إذا كان جامدا موزون، وإن كان مائعا فهو مكيل، فعلى هذا إن أسلم مكيلا في(7/169)
ص -168- ... سمن، اشترط أن يقبضه جامدا وزنا، إن أسلم فية موزونا، اشترط أن يأخذه مائعا كيلا، هذا الذي يظهر، بناء على المشهور في المذهب، من أنه يجوز بيع المكيل بالموزون نسيئة، وعلى القول الآخر: لا يجوز مطلقا.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف: هل يصح السلم في الصمغ؟
فأجاب: يجوز لأنه يضبط بالصفة.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عما إذا وعده أن يوفيه قبل الأجل... إلخ ؟
فأجاب: وأما السلعة التي تباع بعشرة، ويعده الوفاء قبل الأجل، فلا علمت به بأسا.
سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا أسلم إنسان إلى آخر شيئا، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى كذا... إلخ؟
فأجاب: إذا أسلم إلى آخر دراهم معلومة، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل علق إلى حصول الثمرة الأولى، فهذا لا يجوز عند جمهور العلماء، من الحنابلة وغيرهم، وذكروا: أن هذا بيعتان في بيعة.
وسئل: عن الأجل إلى الجذاذ والحصاد؟
فأجاب: وأما الأجل إلى جذاذ الثمرة والحصاد، ففي(7/170)
ص -169- ... هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما: لا يجوز، والثانية: يجوز إلى الحصاد والجذاذ، وإن منعناه في المجهول، لأنه في العادة لا يتفاوت كثيرا، قال في الإنصاف: وهو الصواب، قلت: فأما الأجل إلى فتح بغداد والبصرة، فلا يجوز.
وأجاب أيضا: وأما إذا باع إلى الحصاد والجذاذ، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، لازم للأجل المعلوم عند بعض أهل العلم، واختلافه يسير.
سئل الشيخ: محمد بن ناصر بن معمر: إذا اختلفا في حلول الأجل، من القول قوله؟
فأجاب: القول قول المسلم إليه، لأنه منكِر والأصل معه، إذ الأصل في السلم التأجيل. وهذا بخلاف الأداء، إذا قال المسلم إليه: أديت إليك دينك، فإن القول قول المسلم، لأنه منكر والأصل معه، وهو ثبوت الدين في ذمة المسلم إليه، انتهى.
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: (أحل الله البيع وحرم الربا) على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي لكل مؤمن أن يسأل عما أحل الله في البيع وحرم فيه، ومنه الأمور المحرمة في البيع، إذا أراد تاجر أن يسلم إلى كدّاد، أسلم إليه في نخل معين، ولا يحصل له من غيره، إن أوفاه حاصل النخل إلا صبر إلى السنة الأخرى، وهذا أمر ممنوع في(7/171)
ص -170- ... الشرع، فإذا فعله أحد فسد بيعه وشراؤه، وليس له إلا رأس ماله، فإن رهن النخل وأسلم عليه في ذمته فلا بأس، فإن رهن الثمرة قبل ظهورها فلا يصح ذلك، والجائز أن يسلم عليه في ذمته، ويسترهن نخله أو مكدته، والذين يفعلونه بعد ما نبهناكم وبان لهم أنه ما يجوز، يستحقون الأدب البليغ.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، أو في نتاج فحل بني فلان أو غنمه، لم يصح، لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه، أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معلوم، أو صنجة بعينها،
ودليل الأصل: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه يهودي، من ثمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما من حائط بني فلان فلا" رواه ابن ماجه، ورواه الجوزجاني في المترجم، وقال: أجمع العلماء على كراهة هذا البيع، قال ابن المنذر: المنع منه كالإجماع، لاحتمال الجائحة، ونقل أبو طالب وغيره: يصح إذا بدا صلاحه واستحصد، ويعارضه ما سب، انتهى من المبدع.
وعبارة الشرح الكبير: وقال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، كالإجماع من أهل العلم، منهم الثوري ومالك والشافعي والأوزاعي، وأصحاب الرأي، انتهى، وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك، فقد علمت: أن المسؤول عنه ليس بصحيح، وأن الخلاف فيه ضعيف، والله أعلم.(7/172)
ص -171- ... وأجاب بعضهم: من أسلم في ثمرة نخل بعينه ست سنين فالسلم والحالة هذه باطل،
قال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم، وممن حفظنا ذلك عنه الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، قال: وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أسلم إليه رجل من اليهود، دنانير في ثَمر مسمى، قال اليهودي من ثمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما من ثمر حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى" رواه ابن ماجه وغيره، ورواه الجوزجاني في المترجم، وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما السلم في ثمرة نخل بعينه، أو زرع بعينه، فهذا لا يجوز، بل لا بد أن يكون السلم في ذمته، وإن أسلم إليه في ذمته، واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله أو زرعه، فقد أجاز الشيخ تقي الدين هذا الشرط، وأما منع السلم في زرع غير معلوم، أو كيل غير معلوم، فلما فيه من جهالة المسلم فيه، ومن شروط السلم ما في الحديث "من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".
تعذر التسليم في السلم
سئل الشيح عبد الله بن الشيخ: إذا تعذر تسليم المسلم فيه، فهل ينفسخ بنفس التعذر؟
فأجاب: إذا تعذر تسليم المسلم فيه، ففيه روايتان،
إحداهما: أن المسلم بالخيار بين الصبر، وبين أخذ الثمن إن(7/173)
ص -172- ... كان موجودا، وإلا فمثله إن كان مثليا.
والثانية: أنه ينفسخ بنفس التعذر، والرواية الأولى أظهر.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا أسلم إلى محل يوجد فيه عاما، فانقطع وتحقق بقاؤه لزم تحصيله ولو شق، كبقية الديون، وإن تعذر أو بعضه بأن لم يوجد، خير المسلم بين الصبر إلى وجوده، أو الفسخ ويرجع برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن عدم، هذا حكم المسألة، لكن الذي أرغب الناس فيه: ترك المضايقة في ذلك، والتجاوز في التقاضي كما ورد.
الإعتياض عن دين السلم
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أسلم إلى آخر في طعام معلوم، ثم طلب منه أن يبيع عليه أرضا يملكها، بدين السلم المذكور في مجلس عقد السلم؟
فأجاب: لا يصح البيع المذكور، لأنه اعتياض عن دين السلم قبل قبضه، وهو غير صحيح.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أسلم إلى آخر دراهم في طعام، وخاف عدم الوفاء، فاشترى منه شيئا بثمن مؤجل بأجل دين السلم، مراده: إن لم يحصل وفاء، اقتضى حقه من ثمن ذلك المبيع.
فأجاب: إن كان هذا المبيع مشروطا مع عقد السلم، فالسلم صحيح، وأما البيع فليست صورته صورة خيار، وإنما(7/174)
ص -173- ... هو تعليق للبيع على شرط عدم وفاء دين السلم، وتعليق البيع على شرط مستقبل، لا يصح عند الجمهور.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن استدان سلما أو غيره، ورهن نصيبه من الثمرة، ثم احتاج إلى زيادة مؤنة فأتى إلى المسلم في الثمرة، وقال: أقرضني أو أسلم علي، وإلا استلمت من غيرك وقدمته في الثمرة الموجودة، والثمرة لا تفي بجميع ذلك؟
فأجاب: الذي أرى - والله أعلم- أنه يؤمر المرتهن بتقويم الكداد ببيع أو نحوه، دفعا لضرره، إن لم يخف فوات مال المرتهن المقوم عند الكداد، فإن خيف فوات مال المقوم، فلا يُزال الضرر بالضرر، فإما أن يقال للكداد ساق على كدك، أو استأجر من يسقيه ويقوم عليه، وكذلك إذا عجز المقوم بأن لم يبق في يده ما يخرجه على الفلاح، فإما أن يترك له بعض الكد، ويترك بعضه لمن يقوم بقية المدة، أو نحو ذلك مما يزال فيه ضرر الكل.
وأما قول بعض الناس للمقوم، إذا عجز أو خاف تلف ماله: أنفق وإلا قدمنا عليك من يقوم الكد، فليس هذا بصواب; كيف يزال ضرر الكداد، بضرر غريمه المنفق عليه؟! والذي نرى في مثل هذا: النظر إلى حال الاثنين، ودفع الضرر مهما أمكن عنهما، ولا يزال ضرر أحدهما بارتكاب ضرر الآخر.(7/175)
ص -174- ... رأس مال السلم
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد - رحمه الله -: إذا أراد أن يسلم إلى آخر دراهم، وعرفا السعر ودفع المسلم بعض الدراهم إلى المسلم إليه، وبعضها أعطاها أجير المسلم إليه أو غريمه، أو تقاولا على سعر وفرقها أو استوفى بها... إلخ ؟
فأجاب: إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان مائة مثلا، أو ساومه وعرفا السعر، ثم دفعها إليه متفرقة، أو أعطاها أجيره أو غريمه، فاعلم أن الذي عليه جمهور العلماء، أن من شرط صحة السلم: قبض رأس المال في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد، فإن أخر رأس المال في مجلس آخر، وتراضيا على إمضاء العقد، وأسلمها إليه صح ; فإن أسلم إليه بعض الدراهم، صح فيما أسلم إليه، وبطل فيما لم يقبض، فإذا أحضره بعد ذلك، ودفعه إلى المسلم إليه، وقبله، صح كالذي قبله، وأما إذا لم يكن أسلم إليه رأس المال، بل دفعه إلى أجير المسلم إليه أو غريمه، ولم يقبضه المسلم إليه، فإن ذلك لا يصح عند الجمهور.
وأجاب أيضا: لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وأكثر، ما لم يكن شرطا.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا افترقا في بيع السلم قبل قبض الثمن... إلخ ؟(7/176)
ص -175- ... فأجاب: وأما إذا طلب رجل من آخر، أن يسلم إليه، فلما كان بعد ذلك بيوم جاءه بالدراهم، يريد أن يسلم إليه، فأبى وقال: بدا لي، فإنه لا يلزمه ذلك، لأنه لابد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي; ومالك: يجوز أن يتأخر بعد يوم أو يومين وأكثر، ما لم يكن ذلك شرطا.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما إذا باع إنسان على آخر طعاما بالكيل، وهو موصوف في الذمة، فيشترط لصحته قبض الثمن في المجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، وإن كان الطعام ليس في الذمة، بل هو موجود في منْزل صاحبه، وباع هذا الطعام المعين بكيل معلوم، والمشتري قد رآه أو وصف له، فهذا يصح العقد فيه، وإن لم يقبض الثمن في المجلس، ويلزم العقد فيه بالتفرق من المجلس.
وسئل: عمن أقرض رجلا دراهم، ثم أسلم المقترض إلى غريمه دراهم في طعام، يوفيه بها عن القرص؟
فأجاب: هذا يمنع منه، لأن هذا يتخذ وسيلة إلى أن يسلم إليه الذي في ذمته، فلما علموا أن هذا لا يجوز، وهو إسلام ما في الذمة، اتخذوا هذا حيلة، ولو لم يكن ذلك مقصودا لهما، فإن هذا من باب سد الذرائع عن التحيل إلى إسلام ما في الذمة.(7/177)
ص -176- ... وسئل: عمن استسلم من آخر دراهم، ثم اشترى بها منه طعاما... إلخ؟
فأجاب: إن كان بشرط أو مواطأة فلا يجوز، وأما إذا أخذ الدراهم وذهب ليشتري بها من غيره، فلم يجد عند غيره شيئا ثم رجع فاشترى منه، فلا بأس بذلك.
وسئل: إذا أسلم إلى آخر، مثل ما أسلم فلان... إلخ ؟
فأجاب: إذا أسلم رجل على آخر، مثل ما أسلم فلان فهذا سلم فاسد، بل لا بد من تقديره بالكيل، أو الوزن في مجلس العقد، والحديث الصحيح نص في ذلك، وأما ما ذكره الشيخ تقي الدين، وابن القيم رحمهما الله: من صحة البيع بما ينقطع به السعر، وبما باع به فلان، فلا يقولان بذلك في السلم فيما أظن، لأنهما إنما ذكرا ذلك في البيع فقط، مع أن الشارح قال: لا نعلم في اشتراط ذلك خلافا.
سئل الشيخ: سليمان بن عبد الله بن الشيخ، عن الجدد المغشوشة، هل تصح رأس مال سلم ؟
فأجاب: وأما جعلها رأس مال سلم، فيصح ذلك لانتفاء المانع، لأنها معلومة.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن جعل رأس مال السلم عرضا.(7/178)
ص -177- ... فأجاب: يجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض، على الصحيح.
... فصل (بعض صور المعاملات الربوية)(7/179)
ص -177- ... فصل (بعض صور المعاملات الربوية)
قال الشيخ: حسن، وإبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله: ومنها- أي المعاملات الربوية- ما يجري في بعض البلدان، إذا حل دين السلم باعه صاحبه على الذي هو في ذمته قبل قبضه فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه؟
وهذا لا يجوز، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه: ولا فرق بين من هو عليه وغيره، وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن ربح ما لم يضمن" 1 فإذا باع إنسان طعاما على بائعه، فقد باعه قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه، فصار في هذا مخالفا لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع قبل القبض، وأخذ ربح ما لم يضمن.
وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله: وكذلك إذا حل أجل التمر، وعرف أنه إن أراد أن يأخذ تمره من الكداد، لم يحصل له، وخاف أن يقول إن أخذت تمري وقفت، فإذا تحقق أنه لا يحصل له تمر يأخذه، قال اشتره مني، وجاءه التاجر في نخله، ووزنه ورده عليه، وهذه من الحيل الباطلة، المفضية إلى الربا، فالتمر إذا حل ينبغي أن ينظر في حال ديّانه، فإن علم منه أنه يوفيه تمره بتمامه، ولو ما باع عليه منه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1234) , وأبو داود: البيوع (3504) , وابن ماجه: التجارات (2188) , وأحمد (2/205) , والدارمي: البيوع (2560).(7/180)
ص -178- ... شيئا، ووزن له وصار مالا للتاجر، إن أراد أخْذَه، أخذه ونقله من عنده، فهذا لا بأس أن يبيعه عليه بعد قبضه، وإن كان ما يحصل له أن ينقله، وعرف أنه إن لم يبعه، عليه لم يوفه، فهذا لا يجوز بيعه، فإن باعه فهو بيع فاسد، والحيل ما تحل الحرام، ولا تجوز في أمور الدين.
وأجاب أيضا: إذا كان لإنسان عند آخر تمر، فباعه على الذي هو في ذمته قبل قبضه، فهو بيع فاسد بالسنة الثابتة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع الطعام قبل قبضه" وهو عام في النهى عن بيعه ممن هو عليه، أو من أجنبي، ولأنه إذا باعه لمن هو في ذمته، فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، وحكى في المبهج رواية عن أحمد: أنه يجوز بيعه من بائعه قبل قبضه، رواية ضعيفة في المذهب، لأنها تخالف ظاهر السنة، وتخالف ما عليه الجمهور، بل أكثر العلماء: أنه لا يجوز الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه قال في المغني: فأما بيع المسلم فيه من بائعه، فهو أن يأخذ عما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى، فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فرضي أن يأخذ الشعير مكان(7/181)
ص -179- ... البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها: البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه، وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه، يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عباس قال: "إذا أسلم في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلمت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين،" رواه سعيد; ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم "من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره" 1 رواه أبو داود، وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له، فلم يجز، كبيعه من غيره، انتهى.
فتبين بما ذكرناه: أن بيع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز، ولو لمن هو في ذمته، كما هو ظاهر الأحاديث، ومن أجاز ذلك احتج بكلام ابن عباس، وكلام ابن عباس لا تعارض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فقوله: ولا تربح مرتين، يخالف ظاهر الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، لأنه نهى عن ربحه مطلقا، والمسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، فلا يباح ربحه قبل قبضه.
وسئل أيضا إذا باع العامي دين السلم قبل قبضه؟
فأجاب: لا يجوز ذلك، كما نص عليه في الشرح، واستدل عليه بالحديث الصحيح، وأما الرواية الثانية، التي اختارها الشيخ، فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط لا مطلقا، بدليل تعليل الشيخ بذلك، قال في المبدع وغيره: رواية بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).(7/182)
ص -180- ... يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، اختاره الشيخ، وقال هو قول ابن عباس، لكن يكون بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن قال: وكذا كره أحمد في بدل القرض، انتهى.
وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف، عند قول صاحب المقنع: ومن اشترى مكيلا أو موزونا، لم يجز بيعه حتى يقبض، هذا هو المذهب مطلقا، وعليه الأصحاب. وعنه: يجوز لبائعه، اختاره الشيخ، وجوز التولية فيه والشركة، انتهى.
فدل ذلك على أن المراد بيعه من بائعه، والصحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلا، لمخالفته للحديث: "نهي عن بيع الطعام قبل قبضه" ثم رأيت كلام الشيخ في الاختيارات على عمومه، كما ذكره صاحب الإنصاف في السلم، فقال: يصح بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عباس لكن يكون بقدر القيمة، لئلا يربح فيما لم يضمن.
وأجاب أيضا: وإذا كان لإنسان عند آخر تمر، وأمر صاحب التمر الذي هو عنده، أن يبيعه على أجنبي أو غيره، فهذه مسألة استنابة من عليه الحق للمستحق، وهي جائزة، لكن لا يجوز له بيعه حتى يقبضه من نفسه لموكله، فإذا قبضه ثم باعه جاز، ولا بد من وزن ثان، إلا أن يكون المشتري قد حضر الوزن الأول، فيجري فيه الخلاف الذي تقدم، وتقدم في باب البيع.(7/183)
ص -181- ... وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: وكذلك بيع دين السلم، لا يجوز إلا بعد قبضه، ولو على من هو في ذمتة، وهذا قول جمهور العلماء، وهو الأصح إن شاء الله تعالى.
وأجاب أيضا: وأما إذا قبض دين السلم قبضا تاما، يتمكن من التصرف فيه، جاز له أن يبيعه على من أوفاه به مطلقا، وليست هذه من صور عكس العينة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما دين السلم فلا يباع قبل القبض، ولا يؤخذ ممن هو عليه عوض عن دين السلم، في قول أكثر العلماء.
وأجاب أيضا: أما بيع دين السلم لمن هو عليه، فأكثر أهل العلم لا يجوزونه، والشيخ ابن تيمية يرى الجواز.
وأجاب أيضا وأما بيع دين السلم المستقر لمن هو في ذمته، فيشترط لصحته: أن يكون بسعر يومه، وأن يقبض العوض في المجلس، كما إذا أخذ عن الذهب فضة وعكسه.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما قولكم: إن حل الربا أفتى به الشثري... الخ، فلا يخفى عليك أن التحليل والتحريم، إذا كان مخالفا للكتاب والسنة، وفعل ذلك متعمدا، فهذا كفر; وقد ذكر العلماء: أن من أحل ما حرمه الله، وحرم ما أحله الله، فهو كافر، وأما إذا كانت الفتوى في المسائل(7/184)
ص -182- ... الخلافية، وأخذ بأحد أقوال العلماء، إما مجتهدا، أو مقلدا، فهذا لا ينكر عليه ولا يضلل، فضلا عن كونه يرمى بأعظم من ذلك.
وأما المسألة التي أفتى بها، فقد سبقه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وطائفة من العلماء، فقال في الجواب لما سئل عن رجل باع قمحا بثمن مؤجل، فلما حل الأجل لم يكن عند المدين إلا قمح، هل يجوز له أن يأخذ قمحا؟
فأجاب: نعم يجوز له أن يأخذ قمحا، وليس في ذلك ربا عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، إذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين، فالأفضل أخذه، انتهى، قال الموفق: والذي يقوى عندي جوازه، إذا لم يفعله حيلة، ويقصده في ابتداء العقد، انتهى.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في جواب له، المسألة الأولى: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز بيعه به نسيئة، ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوازه.
واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل الزمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاما، ما أوفاه فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك ; لأن هذا حاجة أبلغ إلى احتياجه إلى الطعام، إلى آخر كلامه.
إذا تحققت هذا: فلا ينبغي الاعتراض على الشثري فيما(7/185)
ص -183- ... أفتى به، لأنه أخذ بكلام من ذكرنا من أهل العلم، ولو وجهنا العتب عليه، لتوجه العتب على من قاله من العلماء قبله، ولا ينبغي لنا أن نتعرض على من تقدمنا من العلماء، ولا من تأخر ما لم يكن مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة، يسلمها في الثمرة وبعد ذلك احتاج، وقال: رد علي دراهمي، ويصير لك الطعام المؤجل ؟
فأجاب: هذا بيع لدين السلم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن التولية في دين السلم... إلخ ؟
فأجاب: لا تصح، لكونها من أنواع البيع، لكنها اختصت بهذه الأسماء، كاختصاص الصرف والسلم بأسمائها، والجميع بيع، فالتولية: البيع برأس المال، والشركة: بيع بعضه بقسطه من الثمن، ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، قال في المغني والشرح: بغير خلاف نعلمه، لنهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن أخذ الشعير عن البر في السلم ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).(7/186)
ص -184- ... الاختلاف في حلول الأجل
فأجاب: وأما أخذ صاع شعير عن صاع بر فلا يجوز.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أخذ دابة ونحوها عما في الذمة... إلخ ؟
فأجاب: وأما أخذ الدابة عما في ذمة المدين من الطعام، فلا يجوز على قول جمهور العلماء، لأنه صرف للسلم إلى غيره، وهو منهي عنه، وأجازه ابن عباس إذا كان أقل من قيمة الطعام، فإنه قال: "خذ عرضا أنقص ولا تربح مرتين".
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن دين السلم الثابت في الذمة، هل يصح الشراء به من الذي هو في ذمته عرضا ؟ كأرض أو نخل أو غير ذلك ؟
فأجاب: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضا عن دين السلم ممن هو في ذمته، واحتجوا بحديث "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1 وعن أحمد رواية أخرى: أنه يجوز أن يأخذ عرضا بدون حقه، اختاره الشيخ لقول ابن عباس: "إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا خذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" وعند مالك: يجوز أن يأخذ غير الطعام يتعجله ولا يتأجله، فبان لك أن الجمهور على المنع مطلقا، واختيار الشيخ الذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى.
سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).(7/187)
ص -185- ... باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه هل يجوز أن يعتاض عنها ربويا، على كلام الفقهاء ؟
فأجاب: أما إذا باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه، فاعتاض عنها ربويا، فإنه لا بأس بذلك، لأنه إنما منع من الاعتياض عن ثمن الربوي، بما لا يباع به نسيئة من منعه، لكونه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، وهذا إنما يتصور بين البائع والمشتري، والاعتياض في مسألتنا، إنما هو بين المشتري والمحال عليه، وهو أجنبي من العقد الأول، الواقع بين البائع والمشتري.
وسئل أيضا: عن بيع العجم- وهو النوى- بالطعام نسيئة ؟
فأجاب: أما بيع العجم بالطعام نسيئة فلا يصح لكونه مكيلا بناء على المشهور عند أصحابنا الحنابلة رحمهم الله تعالى، من أن علة ربا الفضل في الطعام كالتمر ونحوه، هي الكيل فقط، وأما عند من يجعل علة ربا الفضل في التمر ونحوه، هي كونه مكيلا مطعوم آدمي، كما هو اختيار الموفق، والشيخ تقي الدين، ومن يجعل العلة هي الطعم فقط، ومن لا يعلل، كالمانعين من القياس، المخصصين الأعيان الواردة في حديث عبادة بالربا، فلا بأس بذلك.
وأجاب بعضهم: وأما إذا أسلم رجل على آخر ريالا(7/188)
ص -186- ... بحب إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل أعسر صاحب الحب، فنقول: هل يجوز أن يأخذ عرضا عن الحب ؟ حيوانا أو غيره ؟ فهذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد، الأولى- وهي المقدمة عندهم- ليس له إلا ما أسلم فيه، لقوله عليه السلام "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1 والرواية الثانية: يجوز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لقول ابن عباس: "إذا أسلمت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" والله أعلم أن المراد بقدر القيمة.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عرض علينا أحمد العجيري كتابا فيه حكم سعيد بن عيد، بصحة العقد والبيع الذي صدر من سهل بن باتل، في بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه، وكتب على هذا الحكم بأنه لا ينقض إذا حكم به من يراه، وقد حكم به شيخنا محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، كما حدثني به الوالد عفا الله عنه، وقال بصحته شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم رأيت ابن عوين تعرض لهذا ولم ينشرح له صدره ; لأنه رأى خلافا لبعض الفقهاء، نسبه لكل العلماء، ولم ينظر ما قالوه في أن حكم القاضي لا ينقض بمثل هذا الخلاف، وهو في كتابه الذي نقله، إذا عرفت هذا: فالعمل على ما حكم به سعيد لا ينقض، والله أعلم.
وسئل: إذا اتفقا على تقويم الرهن بثمن حاضر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).(7/189)
ص -187- ... وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته، بدراهم، على صاحب الرهن ؟
فأجاب: هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا وليس له إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح والتقويم بسعر الوقت، فهذا لا يصح.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل على آخر طعام، فلم يجد عنده ما يوفيه، فأعطاه دراهم على السعر عن الطعام الذي في ذمته... إلخ ؟
فأجاب: لا يجوز ذلك، وهو قول جمهور العلماء، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، أعني إذا كان الطعام سلما أو مبيعا، وإن لم يكن سلما وكان عمارة نخل، أو قرضا أو أجرة أو قيمة متلف، فهذا يجوز لصاحبه أن يأخذ ثمنه ممن هو في ذمته، بشرط قبضه في المجلس، لئلا يكون بيع دين بدين ; لأنه ليس مبيعا، وأما السلم والمبيع، فلا يجوز بيعه قبل قبضه ولو لبائعه، وذلك لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه. فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1 وفي لفظ في الصحيحين "فلا يبعه حتى يكتاله" 2 فإذا باعه رب الدين لبائعه قبل قبضه، فقد خالف النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين
أحدهما: أنه باعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335).
2 البخاري: البيوع (2132) , ومسلم: البيوع (1525) , والنسائي: البيوع (4597) , وأبو داود: البيوع (3496).(7/190)
ص -188- ... قبل قبضه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، ولم يفرق بين بيعه لمن هو عليه وبين غيره، ومن زعم أن بيعه لمن هو عليه جائز، فعليه الدليل الذي يخصص العموم، وإلا فلا يجوز مخالفته السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس.
الثاني: أنه قد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، فإذا باعه لبائعه بربح فقد ربح فيما لم يضمن، لأنه لا يدخل في ضمانه إلا بعد قبضه، فيصير هذا الربح حراما، وقد أخذ جمهور العلماء بظاهر الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأجروها على ظاهرها وعمومها، وشمولها للبائع وغيره، حتى إنهم منعوا من الاعتياض عن المسلم فيه، فقالوا: لا يجوز أن يأخذ عنه عوضا، ولا يستبدل به، واحتجوا لذلك بما روى أبو داود، وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1.
وغاية ما يحتج به من أجاز بيعه لبائعه قبل قبضه: كلام الشيخ تقي الدين - رحمه الله -، الذي حكاه صاحب الإنصاف وغيره، أنه أجاز ذلك، واحتج بكلام ابن عباس الذي رواه عنه ابن المنذر، ومثل هذا لا تعارض به النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في منع بيع الطعام قبل قبضه، والشيخ رحمه الله من الأئمة المجتهدين، لكن إذا خالف كلامه الحديث الصحيح، وجب الأخذ بالحديث الصحيح دون ما خالفه، وما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283).(7/191)
ص -189- ... أحسن ما قاله الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، ومعلوم: أن الشيخ - رحمه الله - قد اطلع على هذه الأحاديث، في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأنه تأولها.
لكن إذا لم نعلم وجه تأويله، ولم يتبين لنا رجحان دليله، لم يجز لنا أن نخالف هذه الأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، بل نجريها على عمومها للبائع وغيره، حتى يثبت عندنا دليل راجح يخصص هذا العموم، وإلا فلا يجوز لنا أن نتركها تقليدا للشيخ - رحمه الله -، ولا غيره، بل يجب اتباع النص.
فإذا أفتى بعض المفتين بخلافها، وعارض الأحاديث بكلام الشيخ، وكلام ابن عباس، أجيب بما أجاب به ابن عباس لمن خالفه في المتعة، حيث يقول: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر" وأبلغ من هذا في الزجر عن مخالفة النصوص، لقول بعض العلماء، قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، كما استدل بها الإمام أحمد، فقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.(7/192)
ص -190- ... فالواجب فيما تنازع فيه العلماء: رده إلى الله وإلى رسوله، كما قال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[سورة النساء آية: 59] فإذا وجدنا مسألة قد اختلف فيها العلماء، وجب علينا الرد إلى النصوص، فما وافق النصوص وجب الأخذ به، وما خالفها وجب رده.
وأما تركها لقول بعض العلماء، والتعليل بأنهم أعلم منا بمعانيها، فلا يجوز، بل هذا عين التقليد المذموم الذي أنكره شيخنا - رحمه الله -، كما أنكره العلماء قبله.
وسئل أيضا: إذا أراد أن يشتري له طعاما من السوق فقال صاحب الطعام أعطني ثمن طعامي الذي لي عليك، ذهبا أو فضة، على ما كان يباع في السوق ؟
فأجاب: أما إذا أسلم على رجل في طعام، ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول، فلا يجوز له أن يأخذ عن الطعام دراهم على السعر، هذا الذي يترجح عندي في المسألة.
وسئل إذا دفع إلى آخر دراهم، وقال اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي ؟
فأجاب: الأظهر عدم الصحة.
وأجاب أيضا: إذا كان لرجل تمر على آخر، ودفع إلى(7/193)
ص -191- ... غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه، فهذه المسألة فيها تفصيل، قال في المغني: ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم، وقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي، لم يصح ; لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو، فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته، فهو كتصرف الفضولي، وإن قال اشتر لي بها طعاما، ثم اقبضه لنفسك ففعل جاز، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يكون قابضا من نفسه لنفسه، انتهى.
فتبين بما ذكرناه: أن الذي يجوز في مسألة السؤال، أن يدفع إليه الدراهم ويأمره أن يشتري بها للدافع، فإذا اشترى بها طعاما لموكله قبضه الوكيل للموكل ثم أذن له الموكل أن يقبضه لنفسه قبضا ثانيا، وفعل ذلك جائز، ومنعه أصحاب الشافعي.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: لا يصح أن يدفع إليه دراهم عن الذي له عليه من التمر، وطريق الصحة أن يقول: اشتر بها طعاما واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك فيصح.
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: يجري عندكم مسألتان، الأولى: صورة المقاصة، يريد بعض الناس أن يحتال على المنهي عنه، من بيع الطعام قبل قبضه، ويقول للشريك - إذا جاء بدراهم - بعها علي بتمر، قدر الذي في(7/194)
ص -192- ... ذمته، ثم يتساقطان، ويجعل هذا من المقاصة المباحة ; وكذلك ذكروا: إذا اشترى منه سلعة، وشرط عليه أن يوفيه بها، صح العقد وفسد الشرط، وبعض الناس: يريد أن يجعل هذه حيلة إلى قلب الدين الذي في ذمته دينا آخر، وينسب الصحة إلى الإقناع والمنتهى، وهما من أشد الناس كلاما وتحريما لمثل هذا، حتى إنهما يحرمان صورا مع كون المتعاقدين لم يقصدا الحيلة، لئلا يتخذ ذريعة، مثل العينة وغيرها.
وأنا قد ذكرت لكم مرارا: إذا ادعى أحد في هذا وأمثاله الجواز، فاسألوه عن الحيل المحرمة التي هي مخادعة لله، ما معناها وما صورتها ؟ مثال ذلك: أنك تسألني عن رجل اشترى منك سلعة بعشرين مشخصا وهي تساوي العشرين ثيابا أو طعاما أو غيرهما، قلت لك: هذا صحيح بالإجماع ; فإذا قلت: إنه لم يشتر مني، ولم أبرئه إلا لأنه يريد أن يقرضني مائتي مشخص، بربح عشرين مشخصا، وقال لي: هذا ربا لا يصح، ولكن بعني سلعة تساوي عشرين، ثم بعد ذلك أبرئني منها، قلت لك هذا صريح الربا، والمخادعة لله بلا شك وكذلك أشباه هذه الصورة، فالذي يجعل التحيل على بيع الطعام قبل قبضه من المقاصة، أو يجعل بيع السلعة ليوفيه بها، حيلة إلى جعل كون رأس مال السلم دينا، مع تصريحهم بتحريمه بلا هذه الحيلة، اسألوه: ما الفرق بين هاتين الصورتين وبين تلك؟، فإنه لا يجد فرقا إلا بالمكابرة.(7/195)
ص -193- ... وههنا فائدة: ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الحيل على الربا قد نشأتم عليها أنتم ومشايخكم، وتسمونها "التصحيح" والأمور التي نشأ الإنسان عليها، صعب عليه مفارقتها بالكلية، والاستجابة لله والرسول، وترك مذهب الآباء وما عليه المشايخ، أمر عظيم لا يوفق له أكثر الخلق، فأمر الحيل ومسائله مثل أمر الشرك، فكما أنكم لم تفهموا الشرك أول مرة، ولا ثانية ولا ثالثة، ولم تفهموه كله إلى الآن، فكذلك الحيل، لأجل نشأتكم عليها، وتسميتها التصحيح تحتاج منكم إلى نظر وفطنة، فأكثروا التدبر لها، والمطالعة والتمثيل في إغاثة اللهفان وغيرها.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما مسألة المقاصة، فتفهم كلامهم فيها، وصرح صاحب المغني بجواز المقاصة، لكن ذكر الخلوتي بحثا، فقال: لعل ذلك ما لم يكن حيلة، ومراده في صورة المقاصة، فيما إذا اشترى بثمن نقده ثم أوفاه به، ولا يبعد المنع من ذلك مع الحيلة.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن اشترى تمرا نسيئة من غريمه، ثم رده عليه عما في ذمته ؟
فأجاب: إن كان قبضه قبضا صحيحا، جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته، واضطره إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين،
أحدهما: أن(7/196)
ص -194- ... المعسر يجب إنظاره، وهذا إضرار به يزيد به عسرته
الثاني. أنه من قلب الدين الذي نص عليه العلماء رحمهم الله- كشيخ الإسلام ابن تيمية- أنه لا يجوز.
الحوالة بدين السلم
سئل الشيح عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا أسلم رجل دراهم بتمر أو حب، فلما حل الأجل وخاف صاحب السلم أن التمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله، وقال صاحبه: ما أبغي إلا رأس مالي إلى أجل، ولولا الأجل ما رضي صاحب الدين.
فأجاب: هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، والأحسن والأحوط تركها.
وسئل عن الحوالة بدين السلم ؟
فأجاب: أما الحوالة بدين السلم، فقال في المغني: وأما الحوالة به فغير جائزة، ومعنى الحوالة به: أن يكون لرجل طعام من سلم، وعليه مثله من قرض أو سلم أو بيع، فيحيل من عليه الطعام على الذي له عنده السلم، فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، انتهى كلامه.
واختار الشيخ تقي الدين: جواز الحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، فعلى القول بجوازه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه، فلا بد أن يقبضه من(7/197)
ص -195- ... نفسه قبل البيع، فإذا قبضه ثم بعد ذلك باعه لموكله، فلا بأس إن شاء الله ; وأما الشافعية فلا يجوزون القبض في مثل هذه الصورة ; وأما الحوالة بالمسلم فيه، فالأكثرون لا يجوزونه، وأجازه الشيخ تقي الدين لأنه لا محذور فيه ; لأن الحوالة ليست بيعا.
الإقالة في السلم
وسئل هل تجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه، أو تجوز في البعض ؟
فأجاب: حكى ابن المنذر على جوازها الإجماع، وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض.
وسئل: إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر ؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع.
وسئل: إذا تقايلا دين السلم، فهل يجوز التفرق قبل قبض رأس المال ؟
فأجاب: قال في المنتهى ويجوز إقالة في السلم وبعضه، بدون قبض رأس ماله، أو عوضه إن تعذر في مجلسه، لأنه إذا حصل الفسخ ثبت الثمن في ذمة البائع، فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض، وفيه وجه: يشترط، انتهى، قلت: هو الذي جزم به في مختصر الشرح، والله أعلم.(7/198)
ص -196- ... وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها في جميعه، وفي البعض روايتان عن أحمد، ولا بد من قبض رأس المال في مجلس الإقالة.
أخذ الثمار في السلم خرصا
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن رجل له تمر معلوم المقدار على رجل آخر فلما حضرت ثمرته أخذه خرصا بلا وزن بتراض منهما، ورجل له آصع معلومة كيلا، فاستوفى منها سنبلا وزنا، دق منه زنبيلا وكالوه، فلما عرفوا قدره كيلا أخذ باقيه وزنا بقدره ؟
فأجاب: الاستيفاء أوسع من غيره، فلم ير به بأسا.
وأجاب أيضا: وأما أخذ الثمار في السلم خرصا، فالذي يتوجه عندنا الجواز، إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين، لحديث جابر المخرج في الصحيح، فيكون من باب أخذ الحق والإبراء عما بقي.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافا، مثل أن يأخذ ثمرة من التمر خرصا على رءوس النخل، أو في البيدر ; قال البخاري - رحمه الله - تعالى: باب إذا قاص أو جازف في الدين فهو جائز، تمرا بتمر أو غيره، ثم روى بإسناده عن جابر: "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل(7/199)
ص -197- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديقة فمشى فيها، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف الذي له فجَذَّه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضل له سبعة عشر وسقا، فجاء جابر النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها" 1 انتهى.
فترجمة البخاري، والحديث الذي ذكره، دال على جوازه، وهو اختيار شيخنا - رحمه الله -، وترجم البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقه وحلله فهو جائز، انتهى ; وباب الإيفاء عندهم أوسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع.
وأما كلام الفقهاء، فقال في المغني والشرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلا إلا بكيل، ولا وزنا إلا بوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد، لأن الكيل والوزن يختلفان، فإن قبضه بذلك، أي قبض المكيل وزنا، والموزون كيلا، فهو كقبضه جزافا، ومتى قبضه جزافا، فإنه يأخذ قدر حقه ويرد الباقي، ويطالب بالنقص إن نقص، وهل له أن يتصرف في قدر حقه من قبل أن يعتبره ؟ على وجهين، انتهى.
فمعنى كلامهم: أنه إذا قبضه جزافا فلا بأس به، لكن لا يتصرف فيه ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به، وهذا على الرواية الأولى التي هي المذهب عندهم، وقد عرفت أن الراجح الجواز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434).(7/200)
ص -198- ... وأجاب أيضا: وأما إذا قبض التمر خرصا، بأن يكون في ذمة زيد لعمرو تمر قرضا أو سلما، فأراد أن يأخذ منه نخلة بخرصها من الدين الذي في ذمته، فلا أعلم فيه منعا إذا تراضيا على ذلك، ولم يكن بينهما شرط عند العقد، فأما مع الشرط فلا يجوز خصوصا في مسألة القرض، فهو أبلغ، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
وقال أيضا: ومن الأمور المنهي عنها: أن التاجر يأتي فأخبره، ويأخذ نخله منه خرصا أو بعضه، وفي ذمته له شيء معلوم، فيصير أخذ مجهولا عن معلوم، وهذا ربا، وكذلك أعظم من هذا: أن يشتريه منه كدّاد النخل أو غيره، وهو في رءوسه، بلا كيل ولا وزن ولا قبض، وهذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، فالذي ننصحكم به التواصي بالحق، والقيام على الجاهل وردعه، ورده إلى الحق
وأجاب أيضا: هو والشيخ عبد الرحمن بن حسن: ومن ذلك أخذ الثمار في السلم خرصا، فيتوجه عندنا جواز ذلك، إذا كان المأخوذ أنقص مما في الذمة، لحديث جابر، فيكون من باب أخذ بعض الحق والإبراء عما بقي، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: وأما أخذ بعض دين السلم خرصا، فالجمهور على المنع، وذكر ابن عبد البر عن بعض العلماء، أنه يجوز إذا أخذ دون حقه،(7/201)
ص -199- ... وبه أفتى شيخنا الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى.
وأجاب أيضا: قال البخاري - رحمه الله -: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز، زاد في رواية كريمة تمرا بتمر أو غيره، وساق حديث جابر أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي، ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى... الحديث ; وبه استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه، إرفاقا بالمدين وإحسانا إليه، وسماحة بأخذ الحق ناقصا، وترجم البخاري بهذا الشرط، فقال: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق حديث جابر أيضا.
فأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه، أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا، لا سيما إذا كان دين سلم، لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1 ومضمون هذا الحديث عام، وبه أخذ الجمهور، وقد يقال إن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجح المنع بهذا سدا للذريعة، لا سيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل، والجراءة بأدنى شبهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأحمد (1/222) , والدارمي: البيوع (2583).(7/202)
ص -200- ... وسئل أيضا: إذا خاف صاحب الدين عدم الوفاء، فطلب من الغريم أن يعطيه الثمرة عما في ذمته ؟
فأجاب: إذا كان الأمر كذلك، جاز أن يأخذ الثمرة خرصا على رءوس الشجر، إذا كان دون حقه، ودليله ما أشرت إليه من حديث جابر، قال البخاري - رحمه الله - تعالى: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز ; وساق حديث جابر: "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى" 1 وساق الحديث بتمامه، وبه استدل ابن عبد البر أيضا وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز ذلك، فلا بد من تحقق الشرط المذكور.
وأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو أكثر، فهذا لا يجوز لما عرفت من الحديث الصحيح "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 2 هذا هو الأصل، ودل حديث جابر على جواز أخذها خرصا، لما في ذلك من الإرفاق بالمدين وبراءة ذمته من الدين، بأخذ الغريم له ناقصا.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: حديث جابر حديث صحيح مشهور، خرجه الجماعة وترجم له تراجم متعددة، بحسب ما تضمن من الفقه ; فقال البخاري: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين تمرا بتمر وغيره وذكره، وقال باب إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434).
2 الترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأحمد (1/222) , والدارمي: البيوع (2583).(7/203)
ص -201- ... وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة، قال وهب بن كيسان: "إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف له الذي له فَجَذَّه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها" 1.
وقبل هذا قال رحمه الله: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي" إذا عرف هذا بطل قول السائل، وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه ; لأن الحديث صريح في أن تمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بورك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول السائل: وهو ممنوع شرعا ; عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434).(7/204)
ص -202- ... بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير ربا الفضل، إذا حصل التراضي ; لأن للمدين أن يزيد و"خيركم أحسنكم قضاء" 1 ولرب الدين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب "ضع الشطر" وأنت امنع هذه المسألة، لما فيها من الضرر والغرر في المبايعات والمعاملات، هذا ما ظهر لي وهو المعروف من القواعد الشرعية، فانتبه لا زالت قريحتك وقادة زكية.
الرهن والكفيل بالمسلم فيه
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يجوز الرهن والكفيل، بالمسلم فيه؟
فأجاب: الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الأصح من الروايتين، والمعتمد في الفتوى عندنا: أنه يصح، وفاقا للأئمة الثلاثة.
وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما أخذ الرهن والضمين بدين السلم، ففيه عن أحمد روايتان، إحداهما: لا يجوز أخذ الرهن، ولا أخذ الكفيل بذلك، وهذا هو المشهور في المذهب ; والرواية الأخرى: يجوز ; اختاره الموفق وغيره، وهو قول أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ; وقوله: بثمنه، أي رأس مال السلم إذا فسخ عقد السلم، ورجع إلى رأس ماله، فلا يصح أخذ الرهن والضمين به، على المشهور في المذهب، والصحيح الجواز.
وأجاب أيضا: وأما الرهن والضمين في السلم، فيجوز شرطهما عند أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوكالة (2306) , ومسلم: المساقاة (1601) , والنسائي: البيوع (4618 ,4693) , وأحمد (2/416 ,2/456).
...
باب القرض
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن حديث القرض الذي يقال إنه بثمانية عشر ضعفا، صحيح أم لا؟
فأجاب: حديث القرض لا يصححه الحفاظ.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا كسدت السكة بتحريم السلطان لها أو بغيره، أو رخصت... إلخ ؟
فأجاب: قد بسط القول في هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها، فنتحفك بنقل كلامهما ملخصا، قال الناظم:(7/205)
والنقد في المبيع حيث عينا ... وبعد ذا كساده تبينا
نحو الفلوس ثم لا يعامل ... بها فمنه عندنا لا تقبل
بل قيمة الفلوس يوم العقد ... والقرض أيضا هكذا في الرد
أي: إذا وقع العقد بنقد معين، كدراهم مكسرة أو مغشوشة، أو بفلوس، ثم حرمها السلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها، لم يلزم البائع قبضها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد، وكذلك لو أقرضه نقدا أو فلوسا، فحرم
...
السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض لم يلزم المقرض قبوله، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد، إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطى عنها دنانير، وبالعكس لئلا يؤدي إلى الربا.
ومثله من رام عود الثمن ... من رده المبيع خذ بالأحسن
قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور ... الصور والنص في القرض عيانا قد ظهر
مثل ما تقدم، أي: من اشترى معيبا ونحوه، بدراهم مكسرة أو مغشوشة أو فلوسا، وأقبضها للبائع فحرمها السلطان، ثم رد المشتري المبيع لعيب ونحوه، وكان الثمن باقيا فرده، لم يلزم المشتري قبوله منه لتعيبه عنده، والأصحاب ذكروا هذه الصور بالقياس على القرض، والنص عن الإمام، إنما ورد في القرض في الدراهم المكسرة، قال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه ; وقال مالك والليث والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه ; لأن ذلك ليس بعيب حدث بها، فهو كرخص سعرها، ولنا أن تحريمها منع نفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها.
والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى الصور ... كدانق عشرين صار عشرا
يعني أن النص في رد القيمة، إنما ورد من الإمام فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها، لا فيما إذا زادت قيمتها
...
أو نقصت، مع بقاء التعامل بها وعدم تحريم السلطان لها، فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، إلى أن قال:(7/206)
وشيخ الإسلام فتى تيمية ... قال قياس القرض عن جلية
الطرد في الديون كالصداق ... وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص العقد ... ونحو ذا طرا بلا اختصاص
أي قال شيخ الإسلام بحر العلوم: أبو العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، في شرح المحرر، قياس ذلك - أي القرض - فيما إذا كانت مكسرة أو فلوسا وحرمها السلطان، وقلنا يرد قيمتها في جميع الديون في بدل المتلف والمغصوب مطلقا، والصداق والفداء والصلح عن القصاص والكتابة انتهى. قال: وجاء في الدين نص حرره الأثرم إذ يحقق ; يعني قال ابن تيمية: إن الأصحاب إنما ذكروا النص عن أحمد في القرض، قال وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الديون، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل: عن رجل له على رجل دراهم مكسرة أو فلوس، فسقطت المكسرة، قال: يكون له بقيمتها من الذهب.
وقولهم إن الكساد نقصا ... فذاك نقص النوع عيب رخصا
قال ونقص النّوع ليس يعقل ... فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
يعني في تعليل القاضي ومن تابعه والأصحاب، بوجوب رد قيمة الفلوس إذا كسدت، لمنع السلطان التعامل بها، بأن
...
الكساد يوجب النقصان وهو نوع عيب، معناه عيب النوع، إذ ليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، هذا معنى كلام الشيخ تقي الدين في الاستدلال، لما ذكره المصنف عنه، في البيتين المذكورين، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى - إلى أن قال:
وخرج القيمة في المثلى ... بنقص نوع ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماض ... خوف انتظار السعر بالتقاضي(7/207)
ثم نقل الشارح كلام الشيخ - إلى أن قال: إذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، قال: ويخرج في جميع الديون من الثمن والصداق، والفداء والصلح عن القصاص، مثل ذلك كما في الأثمان، انتهى ملخصا ;
وكثير من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين في إلحاق سائر الديون بالقرض ; وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضا ; وهو أقوى، فإذا رفع إلينا مثل ذلك، وسطنا بالصلح بحسب الإمكان، هيبة الجزم بذلك.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا غلت الدراهم المتعامل بها، أو رخصت الخ ؟(7/208)
ص -207- ... فأجاب: قد ذكر الأصحاب رحمهم الله، أنه إذا وقع البيع بنقد معين، كدراهم مكسرة أو مغشوشة، أو فلوسا، ثم حرمها السلطان، فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها، لم يلزم البائع قبضها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد، وكذا لو أقرضه نقدا أو فلوسا، فحرم السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض لم يلزم المقرض قبوله، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد إن أفضى إلى ربا الفضل.
ووجه رد القيمة فيما ذكرنا: أما في مسألة البيع، فلأنها من ضمان المشتري حتى يقبضها البائع، وقد تعيبت بيد المشتري فلم يلزم البائع قبولها، وأما في مسألة القرض، فلأنها بقيت في ملك المقترض فلم يملك ردها، وإنما يملك القيمة والحالة هذه على المذهب، فيما إذا منع السلطان المعاملة بها خاصة، أما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها، فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، هذا حاصل المذهب في المسألة عند أكثر الأصحاب.
وقال شيخ الإسلام: تقي الدين رحمه الله: قياس القرض فيما تقدم جميع الديون، من بدل المتلف والمغصوب، والصداق والصلح عن القصاص، والكتابة ; قال: وكذا نص أحمد في جميع الديون، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل، له على رجل دراهم مكسرة، فسقطت المكسرة أو(7/209)
ص -208- ... فلوس، قال: يكون له عليه قيمتها من الذهب، انتهى.
وقال الشيخ أيضا: وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة، إذا منع التعامل بها، فالواجب القيمة، فيخرج في سائر المتلفات كذلك في الغصب والقرض، فإنه معلوم أنه ليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، فإذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص، وأما الأنواع فلا عيب فيها بالحقيقة، وإنما نقصانها كعيبها، انتهى.
فالحاصل: أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض، والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها، ولا فيما إذا غلت أو رخصت ; وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين، وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقا، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات، والله أعلم.
...
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عن رجل عنده لآخر جدد، حال كون صرف الريال خمسا من الجدد، فطالت المدة حتى بلغ مبلغا هل يحكم له بالقيمة حال الاستدانة، أو القرض... إلخ ؟
فأجاب: قال في شرح المفردات عند قول الناظم:
والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها(7/210)
ما لفظه، أي: أن النص إنما ورد عن الإمام أحمد، فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها، لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت، مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، وسواء كان الغلاء والرخص كثيرا، بأن كان عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق وعكسه أو قليلا، لأنه لم يحدث فيه شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت، قال:
والشيخ في زيادة أو نقص ... مثلا كقرض في الغلا والرخص
أي: وقال الشيخ الموفق، إذا زادت قيمة الفلوس أو نقصت رد مثلها، كما لو اقترض عرضا مثليا، كبر وشعير ونحاس وحديد، فإنه يرد مثله ولو غلا أو رخص ; لأن علو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المستقرض، فلا يوجب المطالبة بالقيمة، وهذا معنى ما تقدم، من أن نص الإمام بالقيمة إنما هو إذا أبطل السلطان المعاملة بها، لا في(7/211)
ص -210- ... زيادة القيمة أو نقصانها، انتهى ; وحكى فيه مذهب مالك والشافعي والليث القول بالمثل، ثم قال: ولنا أن تحريمها منع نفاقها، وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، انتهى.
وقال الشيخ: تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد، انتهى، وكلام الشيخ هذا، هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا، فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال، التفريق بين ما إذا حرمها السلطان، فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت، فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص، مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثلي والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها: اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى.
تنبيه: في المثلي الذي اختار أبو العباس القيمة فيه أوجه، أصحها: أن المثلي ما حصره كيل أو وزن، وجاز السلم فيه، فإن وجد أحد الوصفين دون الآخر فليس بمثلي، وذكر معناه في الروض وغيره من كتب الأصحاب، وعلى هذا فالجدد ليست مثلية ; لأنه لا يجوز السلم فيها لعدم الانضباط، فإنها تختلف بالكبر والصغر، والثقل والخفة،(7/212)
ص -211- ... والطول والصفاء والخضرة، وقلة الفضة وكثرتها ; وأيضا ففيها فضة، ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر، لكن رأيته جزم في الإقناع بأن الدراهم المغشوشة مثلية، والجدد مثلها فيما يظهر لي، والله أعلم.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل يجوز طلب ما أقرض ؟
فأجاب: وأما قولك: هل يجوز للمقرض أن يطلب المقترض ما أقرضه، إذا أخر الرد وأبطأ عليه، فلا علمت به بأسا، وهذا الذي يقوله العوام: إنه لا يجوز طلبه، ما علمت له أصلا، والذي ذكره الفقهاء، وحكوا فيه القولين: إذا أقرضه إلى أجل معلوم، هل يجوز طلبه قبل الأجل ؟ فعند الحنابلة وكثير من الفقهاء، أن القرض لا يتأجل بالتأجيل، والقول الثاني: أنه يتأجل بالتأجيل، فلا يطلبه قبل حلول الأجل الذي أجله إليه.
وقال أيضا هو والشيخ حسين وإبراهيم، وعلي أبناء الشيخ: ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله بعض الناس إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا، وليس هذا بالقرض المسنون، إنما هذا إبدال تمر بتمر نسيئة، وإبدال التمر بتمر نسيئة لا يجوز، بل هو ربا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، والقرض المندوب إليه: قصد(7/213)
ص -212- ... المقرض الإرفاق بالمقترض ونفعه، أما إذا كان قصده نفع نفسه إبدال تمر بتمر آخر، فليس بقرض إنما هو بيع نهى عنه ; لأنه بيع تمر بتمر، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه "السلف على ثلاثة أوجه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله ; وسلف تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك ; وسلف لتأخذ به طيبا بخبيث، فذلك الربا"
ومنها ما يفعله بعض الناس: يقرض غريمه دراهم وغيرها، ويتسامح عنه في الاستيفاء، فيسامحه الغريم، فالمبايعة إذا بايعه فلعميله بيع، ولغيره بيع من الناس أغلى منه، لأن العميل يقرضه ويسامحه في الاستيفاء، فيقول فلان فلان، يسلف ويتسامح، ويأخذ ويدع، ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وكل قرض جر منفعة فهو ربا، ولأنه إذا زاده في البيع لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه، كان ما أخذه في مقابلة التأخير ربا، من جنس ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه، وقد ذكر العلماء: أن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حال، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء، فإنه لا يقبلها بل يردها، فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المهدي.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يقبل، إلا أن يكون جرى بينه وبينه معاملة قبل ذلك" 1 قال عبد الله بن سلام: "إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2432).(7/214)
ص -213- ... حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قَتّ1، فلا تأخذه فإنه ربا"
وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله، إذا كان عند إنسان تمر أو حب، وكسد في يده لأجل رخصه، وأراد أن يسلفه إنسانا إلى الثمرة المقبلة، لأجل منفعة ثمرة المقبل، فهذا لا يجوز ; لأنه قرض يجر نفعا إليه، وكل قرض يجر منفعة فهو ربا. وأجاب أيضا: وإذا اقترض منه ليوفيه، فالمسألة فيها خلاف، والأظهر الكراهة لا التحريم، وإذا أقرض فلاحه في شراء بقرة أو بذر، فالظاهر المنع ; لأنه قرض جر منفعة.
وأجاب أيضا: إذا أعطى آخر دراهم معلومة ينتفع بها، بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، فهذا من أنواع الربا، بل كل قرض جر نفعا فهو ربا، ويجب على من أخذ الدراهم أن يردها إلى صاحبها، ثم ينظر في حال الدافع والمدفوع إليه، فإن كانا يعتقدان أن هذا لا يجوز، وأن ما فعلاه حرام عليهما، وجب على الأمير تأديبهما بما يزجرهما وأمثالهما عن ذلك، وما قبضه دافع الدراهم في مقابلة الدراهم، وجب رده إلى ربه، ولا يباح لقابضه ; لأنه ربا.
وأجاب أيضا: وأما الذي يعطي إنسانا دراهم، ويأكل عليها شيئا معلوما، ورأس ماله باق، فهذا حرام لا يجوز، ويعطي رأس ماله، ولا يحتسب عليه ما أكله قبل الإسلام، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح القاف وتشديد التّاء، وهو علف الدّواب، كما في فتح الباري، انظر: باب مناقب عبد الله بن سلام من صحيح البخاري.(7/215)
ص -214- ... صاحب الدراهم يعطي رأس ماله ولا ينجم، بل يعطاه حاضرا، إلا إن كان من عليه الدراهم معسرا، فينظر إلى ميسرة، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280].
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: عن الرهون التي استعملها كثير، إذا احتاج إنسان: أخذ مالا من آخر، لا بعقد القرضة بل على سبيل الإباحة والتراضي، ودفع المحتاج إلى صاحب المال أرضه بالمزارعة، لأجل المال الذي في ذمته... الخ ؟
فأجاب: قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" 1 رواه أبو داود والترمذي، وصححه.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل أن يقرض الرجل الرجل ويبيعه ليحابيه، لأجل ذلك القرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560).(7/216)
ص -215- ... وهو من أكثر حيل الربا وقوعا، كما إذا أقرضه ألفا، وباعه ما يساوي مائة بخمسين، لأجل ذلك القرض ; وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين: تحريم الهدية بعد عقد القرض قبل الوفاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقرض أحدكم قرضا، فأهدى إليه أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبلها، إلا أن يكون بينه وبينه قبل ذلك" 1 رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال: "إنك بأرض الربا فيها فاش، فإن كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا" رواه البخاري في صحيحه، وروى مثله سعيد بن منصور في سننه عن أبي بن كعب، وروى عن ابن مسعود نحو ذلك، وعن سالم بن أبي الجعد، قال: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما، فأهدى إلي سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما، فقال خذ منه سبعة دراهم" رواه سعيد في سننه بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر، أنه "أتاه رجل فقال: إني أقرضت رجلا بعيرا فأهدى إلي هدية جزلة، فقال: رد إليه هديته أو احسبها له" رواه سعيد أيضا ; فإذا كان هذا فيما يتبرع به للمقرض بعد القرض، فكيف إذا تواطآ على التبرع، مثل أن يقرض من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2432).(7/217)
ص -216- ... يعيره داره، أو يرهنها عند من يأذن له في سكناها، أو يضاربه بأقل من جعل مثله، أو يبتاع منه الشيء بأضعاف قيمته، أو يكري داره بثلث كراها، أو يدفع إليه شجرة مساقاة بأضعاف جعل مثله، انتهى.
فتأمل رحمك الله: هذا الكلام بعين الإنصاف، ليتبين لك أن الرهون التي تفعل عندكم لأجل المال الذي في ذمته، فيصبر عليه، وينظره ما دام يستغل الشجر أو الأرض، هو حيلة على أكل الرهن والانتفاع به، لأجل القرض، ولو لم يكن في ذمته ذلك المال لم يتركه يستغل أرضه، وربما تركها له بدون قيمة مثلها، فهذا هو المحاباة، وهو الربا الذي نص العلماء على تحريمه، سواء سمي ذلك المال قرضا أو غيره، أو كان دينا في ذمته، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام، إذا كان لأحدهم دين على رجل إلى أجل، فحل الأجل قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيده هذا في المال، ويزيده هذا في الأجل، فحرم الله ذلك ; فلولا أن الأرض أو الشجر أو الدار ينتفع بها، لما صبر عليه وأنظره.
وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها" 1 متفق عليه وقال الخطابي رحمه الله "جملوها" معناه: أذابوها حتى تصير ودكا، فيزول عنها اسم الشحم ; قال: وفي هذا الحديث بيان، أن كل حيلة يحتال بها للتوسل إلى محرم، فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: البيوع (2223) , ومسلم: المساقاة (1582) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4257) , وابن ماجه: الأشربة (3383) , وأحمد (1/25) , والدارمي: الأشربة (2104).(7/218)
ص -217- ... وأما إن كان صاحب المال لا يقدر على وفائه، فينجمه عليه صاحب الدين بقدر غلته عليه كل سنة، ويأخذ الغلة ويحسبها بسعر يومها، ولا بأس بذلك إذا خلت عن المحاباة، والله أعلم.
وأجاب أيضا: وأما الأرض ورهونها، فيجوز أن تعطوا الرجل أرضه لمن يحرثها، ولصاحب الأرض جزء معلوم من الثمرة ; وأما أن يرهنها رجل آخر بدراهم معلومة، ويأخذ صاحب الدراهم غلتها من كل الثمرة، فهذا لا يجوز، سواء كان من الثمرة أو غيرها من بقية الثمار.
وأجاب أيضا: وأما الرهون التي تؤكل غلتها بغير بذر ولا حرث، فلا يجوز، ويرد صاحب الأرض على المرتهن ما قبضه من دراهم كانت أو طعاما، فإن كان معسرا لزمه إنظاره إلى ميسرة، فإن قدر على وفاء البعض أوفاه بما قدر عليه.
وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: وأما الذي ما عنده إلا أرض مرهونة، رهنها تاجر آخر، داخل آخر فيها بدراهم، فهي فاسدة ربا، ويصير رأس مال، وما أكل من ثمارها بعد ما أسلم يحسب عليه من رأس ماله، فإن كان ما عند صاحب الدين إلا أرضه، وأراد أن يتراضيا هو وإياه على قطعة منها يوفيه بها فحسن، ويحضرهما اثنان عدلان يعرفان القيمة، إن كان له رأس مال فهو يرد ما أسلم من يده، الدراهم دراهم، والعروض عروضا، وإن كان ما له إلا قدر معيشته(7/219)
ص -218- ... وعياله، فلا يأخذ صاحب الدين إلا ما فضل من كفاية عياله، ويستوفى منه بقدر السهم الذي يأخذ منه أولا، ودين الربا الذي مضى في الشرك، إن كان يقدر يوفيه رأس ماله فيوفيه، وإلا ما له إلا ما فضل عن معشيته وعياله، وبقره الذي يحرث عليها، لا يأخذها إذا كان أخذها يضر به ويعطل حرثه.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، وقول أحمد: أكره قرض الدور... إلخ، وذلك لأنه قرض جر منفعة، وبعض الناس يتوصل إلى ذلك بحيلة باطلة، إذا أراد أن يرتهن دارا، أو أرضا في قرض، وينتفع بها، أظهروا صورة بيع، وهو في باطن الأمر رهن، فيبيعه ما يساوي مائة بخمسين، أو أقل أو أكثر بأقل من قيمتها، ويشترط الخيار، وهذا يسميه بعض الناس: بيع الأمانة، وأما إذا كان بيعا حقيقيا ظاهرا وباطنا، بأن يبيعه إياها بقيمتها من غير نقص، ويشترط الخيار، فلا بأس بانتفاعه بالمبيع في مدة الخيار، كما نص عليه أحمد ; وهذه العقود المنهي عنها حرام عند العلماء، وقالوا: يحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فإذا كان العقد فاسدا، فتعاطيه حرام على المتعاقدين جميعا.
سئل الشيخ: حسين وعبد الله ابنا الشيخ محمد: عمن اشترى نخلا بثمن معين، ونذر نذرا لله على أنه متى دفع البائع دراهمي أن أرجع إليه نخله وإذا ادعى البائع في النخل هل له أخذه... الخ ؟.
فأجابا: هذا العقد المذكور في السؤال عقد باطل، وهو(7/220)
ص -219- ... حيلة على الربا، وهو من باب " كل قرض جر نفعا فهو ربا" وتحيله بهذا العقد والنذر لا يحل له الربا، وهي حيلة باطلة، والحيل لا تجوز في الدين ; ويجب على المشتري رد الثمن، ويعود النخل إلى بائعه، وأما ما أكل في حال كفره وجهله من غلة النخل، فإنه لا يطالب بذلك.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن قول الصحابة وغيرهم، فيما إذا أهدى الغريم لصاحب الدين شيئا وأخذه، فهو ربا ؟
فأجاب: هذا كذلك ذكر الفقهاء أنه لا يجوز أخذه، إلا أن يعاوضه عنه، أو يحسبه من دينه، إلا إن كان شيئا جرت عادة به قبل دينه، فلا بأس.
وأجاب أيضا: وأما المنفعة التي يجرها القرض، فهي حرام، ومنها الهدية لأجل إقراضه إياه، إلا أن يحسبها من دينه فلا بأس، وكذلك لو قضاه خيرا مما أخذ منه، من غير شرط ولا مواطاة، فلا بأس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرا، ورد خيرا منه، وقال: "خيركم أحسنكم قضاء" 1.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن صاحب السفينة إذا أقرض أجيره ؟ وقوله: سلفني... إلخ ؟
فأجاب: وأما صاحب السفينة، وقوله: سلفني، فلا، ولو يجعله من الأجرة، ويقدمها عليه جاز.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أخذ في الجاهلية أو غيرها نفع دراهم... إلخ ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390) , ومسلم: المساقاة (1601) , وأحمد (2/416 ,2/456).(7/221)
ص -220- ... فأجاب: إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم، أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها إلى صاحبها، وربا الجاهلية موضوع ; وأما قبض الدراهم في مقابلة نفع دراهمه في جاهليته، أو بعد إسلامه قبل أن يبلغه النهي، فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] وعقود الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يقران على ما مضى منه ; لأن الإسلام يهدم ما قبله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 275].
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: إذا اختلف المقرض والمقترض... إلخ ؟
فأجاب: وإذ اختلفا فقال المقرض أقرضتك، وقال الآخر وهبتني، فالقول قول المقرض مع يمينه.(7/222)
ص -221- ... باب الرهن
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن رهن ما في ذمة الغير.
فأجاب: الرهن على ما في ذمة الغير من أجرة وما أشبهها، فغير صحيح.
صيغة الرهن
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عما إذا قال: دينك قادم في نخلي أو زرعي... الخ ؟
فأجاب: إذا توفرت شروط الصحة واللزوم، واطرد العرف بهذه الصيغة، أو بالمعاطاة فيما يتناول، أو بالتخلية المعتبرة في نحو ما ذكر بدون صيغة لفظية، فلا مانع، قال في الغاية، وينعقد بلفظ ومعاطاة، انتهى ; فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر، قاله أبو العباس.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: هذا ليس برهن، وإنما هو وعد، فيصير المقول له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن له غريم غيره، فيستحب الوفاء بوعده، ولا يجب عند أكثر العلماء.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال أنا مقدمك في ثمرة هذا النخل، بعد التأبير، أو الزرع الأخضر، اعتبر فيه مقاصدهما، وأما في عرف لسان أهل زماننا، فإن كان ذلك يدل على الرهن اعتبر، وإلا فلا.(7/223)
ص -222- ... وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عمن له على آخر دراهم، فقال: هذا بعيري مثلا، قضابة لك، فيه دراهمك إلى نصف شهر، فإن مضى ولم أخلصك، فبعه وخذ دراهمك... الخ ؟
فأجاب: الذي قال بعيري قضابة لك في دراهمك، فإذا مضى نصف الشهر فبعه، فالظاهر أن هذا توكيل في البيع المذكور، فإذا احتاط لنفسه وباعه، وأشهد على البيع فلا بأس.
أحكام المرهون
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عما يصح الرهن فيه في الإسلام إلخ ؟
فأجاب: الرهن الصحيح في الإسلام، أن يرهن عنده شيئا يقبضه، من عروض ودواب، أو أرض أو نخل أو دار، ولا ينتفع بشيء من الرهن ما دام مرهونا، فإن انتفع بشيء من غلته حسبه من الدين.
وسئل: هل يجوز رهن الصبرة من الطعام الذي لا يعرف قدره بالكيل والوزن ؟
فأجاب: ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع.
وسئل: عن رهن المبيع في مدة الخيار أو رهن مشتريه ؟
فأجاب: لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره.(7/224)
ص -223- ... وسئل: عن رهن الوارث تركة الميت... الخ ؟
فأجاب: وإذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها، وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله.
وسئل: إذا استعار من آخر شيئا، أو غصبه فأراد صاحبه رهنه ؟
فأجاب: يصح رهنه في العارية، والمغصوب إذا أراد غاصبه رده.
وسئل: عن رهن المكيل والموزون قبل قبضه ؟
فأجاب: وأما رهن المكيل والموزون قبل قبضه، ففيه خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز قياسا على البيع، قال في الإنصاف: ظاهر ما قطع به المصنف في باب الرهن، عدم جواز رهنه، حيث قال: ويجوز رهن غير المكيل والموزون قبل قبضه، قال في القاعدة الثانية والخمسين: قال القاضي في المجرد وابن عقيل، لا يجوز رهنه ولا هبته، ولا إجارته قبل قبضه، كالبيع ; ثم ذكر في الرهن عن الأصحاب: أنه لا يصح رهنه قبل قبضه، انتهى ; واختار القاضي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين.
وأما رهن الثمرة المعدومة، كأن يرهن الثمرة قبل أن تخلق، فهذا لا يصح ; لأنه معدوم، فإذا أراد أن يرهن الثمرة دون الأصل، والثمرة لم تخلق لم يصح، إلا أن يرهن الأصل، فيصح حينئذ، وتكون الثمرة التي تستحدث رهنا ; لأن نماء الرهن يكون رهنا تبعا لأصله ; والخلاف بين(7/225)
ص -224- ... الفقهاء، إنما هو في رهن الثمرة الموجودة قبل بُدُوّ صلاحها.
قال في الإنصاف: وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، والزرع الأخضر، فيجوز في أحد الوجهين، وهو المذهب جزم به في الوجيز، واختاره القاضي، وهو من مفردات المذهب ; والوجه الثاني: لا يجوز انتهى ملخصا ; وأما رهن أجرة المؤبر فالظاهر عدم الصحة، لأن الأجرة دين في ذمة المؤجر، ليست عينا معينة، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.
وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: يجوز رهن ثمرة النخل قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر، قال الموفق: باب ما يصلح رهنه وما لا يصلح، إلى أن قال: ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقا، وبشرط التبقية ; لأن الغرر يقل فيه لاختصاصه بالوثيقة، مع بقاء الدين بحاله، خلاف البيع، انتهى، وكذا قال غيره من فقهاء الحنابلة، ولا شيء يرده.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، بعد كلامه على مسألة بيع العمل في المساقاة، قال: وأما الرهن فحكمه حكم البيع، فما صح بيعه صح رهنه، وقد نصوا على أنه لا يصح رهن الثمرة قبل ظهورها، فعدم صحة رهن العمل أولى.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال لا أضمن إلا أن ترهنني كذا وكذا ؟(7/226)
ص -225- ... فأجاب: الذي يظهر الصحة فيما ذكر، لكونه تبرع بالتزام حق، إنما يلزم ويثبت ويجب بالتزامه، فإذا التزمه وطلب الوثيقة عليه صح.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما رهن الضامن فلا يصح ; لأنه لم يثبت له حق عند المضمون عنه، ولا يعلم أنه يئول إلى الثبوت.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن رهن عقاره، وعليه دين كثير... الخ ؟
فأجاب صورة المسألة أولا: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، وقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع ; ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فهو خارق للإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس.
إذا ثبت هذا: فنحن ما أفتينا بلزوم هذا الرهن، إلا لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، في إيجاب العدل وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن.(7/227)
ص -226- ... وأما قولك: لم أجد الخلاف إلا في الصدقة والهبة، فهذا هو العجب، تراهم يبطلون العتق الذي هو من أحب الأشياء إلى الله، ويسري في ملك الغير، ويردون الصدقة بعد ما يأخذها الفقير، لأجل العدل ووفاء الدين، ويمنعونه في الرهن ولو كان صحيحا.
وأما قولك: إن صح هذا لم يحتج إلى الحجر ; فيقال: إن الحجر يمنع تصرفه مطلقا، ولو كان فيه إصلاح لنفسه وللغرماء، وأما هذه المسألة فتصرفه صحيح كله، إلا ما عصى الله فيه ورسوله، وخان أمانته وظلم الناس.
وهذا هو المطابق للعقل والنقل، ولكن هذا وحشة الغربة، كما استوحشوا من إنكار الشرك.
لزوم الرهن بالقبض ورهن المواشي
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن رهن المواشي وعن القبض ؟
فأجاب: أما رهن المواشي هل يجوز أم لا ؟ فالجواز ظاهر لا يخفى، كما دلت عليه السنة الصحيحة، وإنما الإشكال في القبض، هل هو شرط لصحة الرهن أو غير شرط، والمشهور عند أهل العلم: أن القبض شرط لصحة الرهن وأما استدامة القبض، فهل هي شرط أم لا ؟ فعلى قول من يشترط الاستدامة فالأمر ظاهر، وعلى القول الثاني إذا قبضه المرتهن، فلا بأس أن يأذن للراهن في الانتفاع به، فيكون تحت يد الراهن ينتفع به والرهن بحاله.
وأجاب أيضا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على(7/228)
ص -227- ... قولين، بل أقوال ; والمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض، كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم، وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض، وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه، أجبر عليه كالبيع ; وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه، أجبر الراهن على رده، انتهى.
وأما قول السائل: هل استدامته شرط في اللزوم ؟ فهذا ينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور: الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق، انتهى ملخصا.
وأجاب ايضا: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لا يلزم رهنه إلا بالقبض ; وفيما عداهما روايتان، إحداهما: لا يلزم إلا بالقبض ; والثانية: يلزم بمجرد العقد، والأول أصح، واستدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن ; وقال مالك: لا يزول الرهن ولو(7/229)
ص -228- ... أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم.
وأجاب أيضا هو والشيخ حمد بن ناصر: قد اختلف العلماء، هل من شرط صحة الرهن القبض ؟ أم يصح ويكون رهنا بمجرد العقد ؟ فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه: أنه لا يلزم إلا بالقبض، وقبل القبض يكون جائزا لا لازما ; ومذهب مالك رحمه الله: يلزم بمجرد العقد قبل القبض كالبيع. فإذا علمت الخلاف في أصل المسألة ; فالقائلون باشتراط القبض، اختلفوا فيما إذا أخرجه المرتهن باختياره، هل يزول لزومه ويبقى العقد كأنه لم يوجد فيه قبض ؟ فمذهب الحنابلة يزول لزومه، فإن عاد إلى المرتهن عاد لزومه بحاله بحكم العقد السابق، وهذا مذهب أبي حنيفة ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، وذلك لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم تشترط استدامته، وهذا هو المفتى به عندنا.
وأجاب أيضا الشيخ حمد بن ناصر: المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين، بل أقوال، فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم ; وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض ; وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد(7/230)
ص -229- ... نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالمبيع، وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده.
وأما استدامته فينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه: أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: إذا رهن نخله أو زرعه، واحتاج لما يصلح الرهن وامتنع المرتهن من مداينته ؟.
فأجاب: هذا القول مبني على لزوم الرهن وإن لم يقبض، والصحيح خلافه، وأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، والاستدامة، كما هو شرط للزوم أيضا على المختار عند عامة الأصحاب، قال في الشرح الكبير: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وسواء في ذلك المكيل والموزون وغيرهما ; وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون رواية أنه يلزم بمجرد العقد، وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وبه قال مالك، ووجه الأولى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283].(7/231)
ص -230- ... فعلى هذا: إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض ; وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما على قول من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فالأولى أن يقال: الاستدامة غير مشروطة، انتهى ملخصا.
وفي الإنصاف: ولا يلزم إلا بالقبض، فشمل مسألتين ; إحداهما: أن يكون موصوفا غير معين، فلا يلزم إلا بالقبض، وهذا المذهب وعليه الأصحاب، فعلى هذا يكون قبل القبض جائزا، وقال الزركشي: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى والقاضي، وابن عقيل: أن القبض شرط في صحة الرهن.
الثانية: أن يكون معينا كالعبد والدار ونحوهما، فالصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض كغير المتعين، قال في الكافي وابن منجا وغيرهما: هذا هو المذهب، ونصره أبو الخطاب، والشريف أبو جعفر وغيرهما واستدامته شرط في اللزوم، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط واختاره في الفائق، انتهى ملخصا.
وقد علمت: أن المذهب الصحيح المنصور، عند أكثر(7/232)
ص -231- ... الأصحاب، اشتراط القبض واستدامته للزوم، والغالب أن مثل هذا الرهن، كرهن العقارات والثمار والمواشي، لا تقبض أو لا يستديم الراهن قبضها، كما هو الواقع في هذه الأقطار، فعلى القول الصحيح لا يقع على الراهن أضرار لزوال اللزوم، وله أن يتصرف فيه برهن وغيره، فإذا تصرف بطل الرهن الأول، وصح الثاني، ولا يلزم إلا بشرطه المتقدم، ولا يسع الناس إلا هذا.
وقد رأينا مما يترتب على القول الثاني، من التضييق والخصومات والتشاجر ما الله به عليم، والقائل من أصحابنا بأنه يلزم بمجرد العقد لا دليل معه، وإنما قوي عنده هذا القول لما رأى عمل عوام الناس على استعمال هذه الرهون، واعتقاد لزومها، فيظن أنه قد أفتاهم من هو من العلماء، ولو سلمنا صحة صدور تلك الفتوى عن عالم، فليس حجة في العدول عن القول الصحيح ; لأن الحجة التي تنفع المستدل، إنما هي الأدلة الشرعية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، والاستصحاب على خلاف فيه ; وما سوى الخمسة ليس دليلا شرعيا، والإجماع: هو اتفاق مجتهدي العصر على قول واحد.
وأما المقلد فليس معدودا من أهل العلم، كما ذكره أبو عمر بن عبد البر، والعلامة ابن القيم وغيرهما ; فلا إله إلا الله، كم غير من أحكام الشرع بعرف العوام، وكم دار من تتبع الرخص بين الجهال والطغام، وكم حمل على المشائخ(7/233)
ص -232- ... مما يقولونه بمجرد الظنون والأوهام، فإذا أوردت ما في المسألة من الدليل، للقول الصحيح الجليل، فأجارك الرحمن من إثم ما تسمعه من التأويل.
فإن قيل: القول الذي ذكرتموه واخترتموه، قد خالفه بعض الأئمة الكبار، من أهل الاجتهاد والاعتبار، أجيب: بأن المجتهد معذور ; لأنه على كلا الحالين مأجور، وأما من ليس من أهل الاجتهاد، فلا يحل له أن يختار قولا بلا دليل، وليس معه إلا حسن الظن بالمتبوع، وأشياء من التأويل، ولا شك أنه على خطر عظيم، ولو ظن السلامة فما هو بسليم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأجاب أيضا: الصحيح من أقوال العلماء، أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن، قال في الشرح: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا، يجوز للراهن فسخه ; وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون، رواية أنه يلزم بمجرد العقد، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وهو مذهب مالك، ووجه الأولى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع، أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره(7/234)
ص -233- ... له، زال لزومه، وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض، انتهى ; قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الأصحاب ; وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط، واختاره في الفائق، انتهى ملخصا.
فقد عرفت الأصح من الأقوال، الذي عليه أكثر العلماء رحمهم الله، فعليه لا ضرر على الراهن لبطلان الرهن بالتصرف، إذا لم يكن في قبضة المرتهن، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أيضا: أن المرتهن لا يختص بثمن الرهن إلا إذا كان لازما، وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب ; وليس مع من أفتى به إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم، ورأوه لازما ; وأنت خبير بأن هذا ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو: اتفاق مجتهدي العصر على حكم، ولا بد للإجماع من مستند، والدليل الرابع: القياس الصحيح ; وكذا الاستصحاب علي خلاف فيه ; فلا إله إلا الله، كم غلب على أحكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح.
وقد ادعى بعضهم: أن شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان يفتي بلزوم الرهن وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا رحمه الله، ولو فرضنا(7/235)
ص -234- ... وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة، لقول أحد كائنا من كان، وأهل العلم معذورون، وهم أهل الاجتهاد، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد زعم هذا الزاعم: مَنَّ الله علي بالوقوف على جواب شيخنا الإمام رحمه الله، فإذا هو جار على الأصح الذي عليه أكثر العلماء، وصورة جوابه: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع، ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فقد خرق الإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس، إذا ثبت هذا: فنحن إنما أفتينا بلزوم هذا الرهن، لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته، لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إيجاب العدل، وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن، انتهى المقصود.
فذكر رحمه الله في هذه الفتيا: أن الراجح الذي عليه أكثر العلماء، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وأنه إنما أفتى(7/236)
ص -235- ... بخلافه لضرورة وحاجة ; وأنه رجع إلى قول الجمهور، لما قد ترتب على خلافه من الخروج عن العدل ومن الخيانة ; وهذا الذي أشار إليه رحمه الله، من الخروج عن العدل، وأكل أموال الناس بالباطل، والخيانة في الأمانة، قد رأيناه عيانا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة، وقد قرر رحمه الله في هذه الفتيا: أن قول الجمهور أقرب إلى العدل، فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذا القول المقرر هنا، والله أعلم.
وأجاب أيضا: وأما مسألة الرهن، فقد تكرر السؤال عنها، فنقول: الذي عليه جمهور العلماء، والصحيح من مذهب الإمام أحمد، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فلو تصرف فيه الراهن قبل قبضه صح تصرفه، واستدلوا بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] واستدامته شرط في اللزوم للآية، فإن أخرجه المرتهن عن يده زال لزومه، فإن رده الراهن إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق; لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول، فإن أزيلت يد المرتهن بعد، كأن غصب ونحوه، فالرهن بحاله، لأن يده ثابتة حكما، هذا ما ذكره العلماء رحمهم الله، ومن كتبهم نقلنا، انتهى.
وأجاب الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: في لزوم الرهن مطلقا من غير قبض، قولان ; أحدهما: وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله(7/237)
ص -236- ... تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] وقولنا مطلقا، أي: سواء كان موصوفا غير معين، كعبد ودار، أو كان معينا كهذا العبد والدار والسيف ونحو ذلك، وسواء كان من الرقيق والدواب، أو كان من السلاح والثياب ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد في المتعين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وقال الفخر بن تيمية في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن من المرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد ولقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون عند شروطهم" وأجابوا عن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] أنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له.
إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، ولزومه إذ لم يكن في القرآن نص على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكر: أن المشقة تجلب التيسير، فإذا كان لا يمكن القبض، ولا الاعتياض من الراهن في مثل الدور والعبيد، والزروع والثمار والدواب، إذ لو قيل للمرتهن: اقبضها، ما أراد ذلك، وكان عليه من المشقة ما لا يخفى ; ولو قيل للراهن اقبضها لم يستطع ; لأنه إنما يستدين فيما رهنه، فلا تمتنع الفتيا باللزوم ; لأنها من طرق الترجيح،(7/238)
ص -237- ... فاعلم ذلك ; وإن كان الأولى هو القول الأول.
وسئل: هل استدامة القبض شرط في الرهن ؟
فأجاب: أما على المشهور في المذهب فنعم، وأما على الثاني الذي رجحنا فليس بشرط، وقد تقدم ترجيحها، فعلى الثاني متى رده المرتهن على الراهن، بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده، لما ذكرنا سابقا في عدم اشتراط القبض لصحة الرهن.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: أشهر الروايتين عن أحمد: لا يلزم إلا بالقبض، مع أنه صحيح ; وعنه: يلزم في المتعين بدونه، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وأما استدامته هل هي شرط أم لا ؟ فأما على المذهب فنعم، وأما على الثاني فلا.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما اشتراط القبض للزوم الرهن، فهذا نعمل به في المنقولات، وأما العقار ونحوه، فالذي عليه العمل عندنا: عدم اشتراط القبض للزوم، وبعض أصحابنا من أهل العصر يشترط فيه القبض، ويقول: إن القبض في العقار: أن لا يمنع الراهن المرتهن من دخوله، وإذا حصلت الثمرة صار نظره عليها، ويجعل هذا قبضا ; ولا يظهر لي كون ما ذكر قبضا ; لأن القبض في هذا ونحوه بالتخلية، ولم تحصل ; لأن التخلية أن يرفع المالك يده عن الرهن، ويخلى بينه وبين المرتهن، وهو(7/239)
ص -238- ... الذي حملنا على عدم اشتراط القبض في ذلك، لقلة ما في أيدي الناس، ولاضطرارهم إلى ذلك، إذ لا يمكن صاحب العقار أن يرفع يده عن عقاره، لأن معيشته فيه.
وأما مذاهب العلماء في ذلك: فالمشهور في مذهب أحمد عند أكثر أصحابه، اشتراط القبض مطلقا، وكذلك استدامته ; ومذهب مالك عدم اشتراطه ; وعن أحمد رواية أخرى: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، قال القاضي في التعليق هذا قول أصحابنا، وقال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره.
وأجاب أيضا: وأما رهن المعسر داره في دينه، أنت تعرف المذهب في أن دار المعسر لا تباع في دينه، لكن إذا رهنها في دين عليه اختيارا، فنحن نفتي ببيعها لوفاء ذلك الدين، فإذا كان هو فيها، ولم يخل بين المرتهن وبينها، فلا يخفاك ما في اشتراط القبض للزوم الرهن من الخلاف ; والمشهور في المذهب: اشتراطه مطلقا، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يشترط في المتعين، اختارها كثير من الأصحاب، وقال بعضهم: إنها هي المذهب ; والذي أدركنا عليه من قبلنا: عدم اشتراط القبض في مثل الدار، والعقار ونحوهما، ويقضون بلزومه في مثل ذلك، من غير اشتراط قبض، ونحن نقضي به فيما مضى، والشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: يشترط القبض في الجميع، كما هو(7/240)
ص -239- ... المشهور عند أكثر الأصحاب.
وأجاب الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده، ولزومه وعدمه: اتفقوا على أن من شروطه، أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك: إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان، الواقعة في جميع البياعات، إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة ; وعنده: يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا الكتابة.
واشترط الشافعية في الرهن: ثلاثة شروط،
أحدها: أن لا يكون دينا، فإن الدين لا يرهن بعين؛
الثاني: أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك ;
الثالث: أن لا يكون لزومه متوقعا ;
وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع: ضربان ; شروط الصحة، وشروط الفساد، فأما شروط الصحة، فشرطان
أحدهما متفق عليه. في الجملة ;
والثاني: مختلف في اشتراطه ; أما القبض فاتفقوا في الجملة، على أنه شرط في الرهن، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] واختلفوا هل هو شرط للتمام، أو شرط للصحة ؟ وفائدة الفرق: أن من(7/241)
ص -240- ... قال هو شرط للصحة، قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن.
وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر: إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] وعند مالك: أن من شروط صحة الرهن، استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم ; وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عم الشرط على ظاهر ما لزم، من قول الله تعالى: { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] وشرط وجود القبض واستدامته ; والشافعي يقول: إذا وجد القبض، فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد، أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة.
وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص، فهو أن يرهن الرجل رهنا، على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يغلق الرهن" 1
ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437).(7/242)
ص -241- ... الغلة، هل يدخل في الرهن أولا ؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل، لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي ; وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري ; وأما مالك ففرق، فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل، على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام، انتهى ما لخصته.
فتبين من هذا: أن ما اعتمد القاضي حسين لنفسه، من دعواه أنه أحق بالثمرة، من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء ; فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم ; وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم، إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذهب أحمد، ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق: إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور: ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة، وعلى كل حال فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو(7/243)
ص -242- ... يكون فاسدا، وعلى كلا الحالين، فلا يختص بشيء من ثمرة المدين.
وأجاب أيضا: اعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته، فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام، فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: اعلم أن في لزوم الرهن الذي لم يقبض قولين، أحدهما: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وقول الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا، وقال الفخر بن تيمية في التلخيص هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن للمرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى: {وْفُوا بِالْعُقُودِ}[سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد، ولقوله عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم" وهذا شرط، وأجابوا عن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] إنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له.
إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، إذ لم يكن في القرآن نص(7/244)
ص -243- ... على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكروا: أن المشقة تجلب التيسير ; فإذا كان لا يمكن القبض من المرتهن، ولا الإقباض من الراهن، في مثل العقار والعبيد والزروع والثمار والدواب، لم تمتنع الفتيا باللزوم ; لأن هذا من طرق الترجيح فاعلم ذلك، وهذا هو الذي نفتي به والحاجة إليه داعية، ولا سيما في قرى نجد لقلة ما في أيديهم، وضعف أماناتهم وفساد معاملاتهم.
وأجاب أيضا: وأما الرهن فإن كان في دابة فهو صحيح ولو لم يقبض، بحيث أن المرتهن يمنع الراهن من التصرف فيه، وليس بلازم حتى يقبض، بحيث لو باعه الراهن لم يملك المرتهن الرجوع عليه، ولا على المشترى، انتهى.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قبض العقار في الرهن كغيره ؟
فأجاب: قبض المرتهن له بالتخلية، بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما، بحيث لا يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن يتولى سقيه أو زرعه، أو إجارته زال لزوم الرهن.
الزيادة في الرهن
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: هل للمرتهن أن يزيد دراهم، يكون الرهن بها وبالدين الأول ؟
فأجاب: المشهور عدم الجواز، وعبارة الإنصاف: يجوز الزيادة في الرهن، ويكون حكمها حكم الأصل، ولا(7/245)
ص -244- ... يجوز زيادة دين الرهن ; لأنه رهن مرهون.
وسئل أيضا: إذا قال الراهن للمرتهن، ويكون الذي عندك به رهنا ؟
فأجاب: الأظهر في هذه المسألة عدم المنع.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رهن إنسان شيئا معلوما بدين معلوم وأراد الراهن أن يستدين من غير المرتهن، ويرهن عنده ما فضل بعد قدر دين المرتهن الأول، فهذا رهن فاسد ; لأن من شرط صحة الرهن أن يكون معلوما، وهذا ليس كذلك، وقد اختلف الفقهاء فيما إذا رهن إنسان شيئا في دين له ثم قال الغريم بعني كذا بكذا، ويكون الرهن الذي عندك رهنا به وبالدين الأول، والمذهب أن ذلك لا يصح.
وأما الصورة المسئول عنها: فلا أظن أحدا يجوزها، وقد ذكر في الشرح وغيره عدم صحة رهن المجهول، كما لو قال: رهنتك هذا الجراب بما فيه، ونحو ذلك، ولم يذكر في ذلك خلافا ; والمسألة المسئول عنها أولى بعدم الجواز ; لأنه لا يعلم هل يبقى منه شيء بعد استيفاء المرتهن الأول حقه أم لا، وهذا ظاهر لا خفاء به ولله الحمد.
وأجاب أيضا: ما يفعله بعض الناس اليوم إذا كان عنده رهن في مائة مثلا، ثم استدان من المرتهن دينا آخر وأدخله في الرهن، فالأكثر من العلماء لا يجوزون ذلك، وهو المشهور في المذهب ; وفيه قول آخر بالجواز، وعمل الناس(7/246)
ص -245- ... عليه ويحكم به، والله أعلم.
تصرف الراهن والمرتهن في الرهن
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا استدان زيد من عمرو دينا ورهنه به رهنا ثم استدان عمرو من بكر دينا فرهن به مرهون زيد برضا زيد، هل يصح ؟ أم لا بد من فسخ عمرو للرهن، ويقع عقد الرهن بين زيد وبكر ؟
فأجاب: ظاهر كلامهم صحة رهن المرتهن للمرهون، بإذن راهنه عند أجنبي، ويكون فسخا للرهن الأول، كالبيع بالإذن ; وأما قولهم: المشغول لا يشغل، والمرهون لا يرهن، فمرادهم به: جعله مرهونا بالدينين معا، فاعلمه.
وسئل: عن السيف ونحوه، إذا رهنه شخص عند آخر ثم رهنه المرتهن عند غيره بغير إذن راهنه الأول... الخ ؟
فأجاب: يزول لزومه عنهما معا، أما المرتهن فلإخراجه باختياره، واستدامة قبضه شرط للزومه، فانتفى المشروط بانتفاء شرطه، قال في شرح الإقناع: فإن لم يكن المرهون في يده زال، انتهى، وأما الثاني وهو راهنه، فلأنه ممنوع التصرف مطلقا بغير إذن المرتهن، صرح به في شرح الإقناع وغيره.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل يجوز رهن ثمرة العقار الموقوف قبل الصلاح كالطلق أم لا ؟(7/247)
ص -246- ... فأجاب: نعم، يجوز رهنها، كما يجوز رهن ثمرة الطلق، فإن ثمرة الوقف مملوكة للموقوف عليه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: إذا باع الراهن العين المرهونة بغير إذن المرتهن... الخ ؟
فأجاب: البيع فاسد بلا خلاف بين العلماء، فإن أمكن المرتهن استرجاع الرهن استرجعه، وهو رهن بحاله، وإن لم يتمكن من استرجاعه، لزم الراهن دفع قيمته للمرتهن، فتكون رهنا سواء كانت القيمة مثل الثمن الذي بيع به، أو أقل أو أكثر.
تلف الرهن
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا تلف الرهن... الخ ؟
فأجاب: إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، فإن تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه.
وأجاب أيضا: إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء والزهري، والأوزاعي والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر، فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدين، بل هو ثابت في ذمة الراهن، لأن(7/248)
ص -247- ... الدين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه.
وأما القرض الذي فيه رهن، فلا يجوز تملك الرهن ولا استعماله، فإذا حل الأجل وامتنع أن يوفيه أمر الأمير عليه، ويباع ويعطى صاحب القرض، وإن بقي شيء رجع على صاحبه.
وأجاب أيضا: المفتى به عندنا: أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء، فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن، بيع واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله ولا إجباره على المناجمة ; ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضا المرتهن.
وأجاب أيضا: إذا أذن له في البيع جاز، وإلا باعه الحاكم إن أمكن ووفاه حقه منه، ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه.
وأجاب أيضا: إذا رهن عند رجل دارا في عشرة مثلا وأعطاه الراهن عن العشرة بقرة قيمتها ثمانية، ورضي بذلك فهذا صحيح، وإن خسرت البقرة فهي عليه، وإن ربحت فهي له.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين، وأبى أن يأذن في بيع الرهن، وتعذر(7/249)
ص -248- ... إجباره، وتعذر الحاكم... إلخ، فقال الشيخ تقي الدين: جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرهن إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفى حقه إذا تعذر الحاكم، ولم يكن الراهن أذن للمرتهن في بيع الرهن بعد حل الأجل، انتهى، وهذا قول حسن إن شاء الله، تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان، والأزمان.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما بيع الرهن وأن الراهن طلب التقويم، فلا يجبر المرتهن على أخذ البعض بالتقويم، بل يلزم صاحب الرهن الوفاء، وإن تعذر بيع الرهن بإذنه، فإن امتنع بيع بإذن الحاكم الشرعي.
إغلاق الرهن
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن إغلاق الرهن ؟
فأجاب: وأما إغلاق الرهن المنهي عنه، ففسره كثير من أهل العلم، بأن يقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بالدين في الأجل، وإلا فالرهن لك بما لك فيه ; فإن كان فعل ذلك في الشرك، فلا يطالب بما فعل في الشرك، ويكون الرهن لمن قبضه، وأما في الإسلام فلا يفعل ذلك، لكن إذا حل الدين بيع الرهن في الدين الذي ارتهن فيه.(7/250)
ص -249- ... فصل: (اختلاف الراهن والمرتهن)
سئل الشيخ عبد الله أيضا: إذا اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن: هو رهن عندك ; وقال المرتهن: بل بعتنيه.
فأجاب: المشهور في هذه المسألة، أنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على نفي ما ادعاه الآخر، ويأخذ الراهن رهنه ; وعبارة أهل المذهب: وإن قال رهنتك ما بيدك بألف ; فقال: بل بعتنيه، أو قال بعتكه، فقال رهنته بها، حلف كل على نفي ما يدعيه عليه، وأخذ الراهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: وأما إذا ادعى المرتهن، أنه اشترى الرهن وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن، إلا إن أقام المرتهن بينة على الشراء.
وسئل: إذا كان على رجل ألفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن، فقضى ألفا، وقال: قضيت الألف الذي فيه الرهن، وقال المرتهن: بل قضيت الآخر ؟(7/251)
ص -250- ... فأجاب: القول قول الراهن مع يمينه، سواء اختلفا في نية الراهن بذلك أو في لفظه ; لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول الباقي بلا رهن، والقول قوله في أصل الرهن، فكذلك في صفته، والخلاف بين الفقهاء فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا، فبعضهم يقول: له صرف الألف إلى أيهما شاء، كما لو كان له مال حاضر وغائب، فأدى قدر زكاة أحدهما، كان له أن يعين عن أي المالين شاء ; وقال بعضهم: يقع عن الدينين معا، عن كل واحد نصفه، لأنهما قسط في القضاء، فقسط في وقوعه عنهما، هذا إذا أطلق ; وأما إذا ادعى أنه نواه عن الألف الذي فيه الرهن، فالقول قوله، لأنه أعلم بنيته.
وسئل بعضهم: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فقال الراهن: الرهن في ثمانية ; وقال المرتهن: في عشرة ; ولا بينة لهما ؟
فأجاب: قد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن، ما لم يدع أكثر من ثمن الرهن أو قيمته، وحكى ذلك عن الحسن وقتادة، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، قالوا: لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتابة والشهود التي تنطق بالحق، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك، بطلت التوثقة من الرهن به، وادعى الراهن أنه رهنه على أقل شيء، فلم يكن في الرهن فائدة ; ولأن الله أمر بكتابة الدين، وأمر بإشهاد الشهود، ثم أمر بعد ذلك بما تحفظ به الحقوق، عند عدم القدرة على الكتابة والشهود،(7/252)
ص -251- ... وهو السفر في الغالب، فقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[سورة البقرة آية: 283] فدل ذلك دلالة بينة: أن الرهن قائم مقام الكتابة والشهود، شاهد مخبر بالحق، كما يخبر الكتاب والشهود، فلو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين، لم يكن الرهن وثيقة ولا حافظا لدينه ; ولا بد من الكتابة والشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته على درهم ونحوه، وهذا القول هو أرجح القولين.
والقول الثاني: أن القول قول الراهن، وبه قال النخعي والثوري، والشافعي والبستي، وأبو ثور وأصحاب الرأي ; قالوا: لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكِر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو يعطى الناس بدعواهم لأخذ قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" 1 رواه مسلم ; وفي الحديث الآخر: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" 2 ولأن الأصل براء الذمة من الزائد، فكان القول قول من ينفيه، كما لو اختلفا في قدر الدين.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: هل يجوز لمرتهن الدار أن يسكنها بنفسه؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، فإن سكنها بغير إذن الراهن حرم، فإن كان بإذنه وأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع من غير عوض، وكان دين الراهن قرضا لم يجز ; لأنه يصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363).
2 الترمذي: الأحكام (1341).(7/253)
ص -252- ... قرضا جر منفعة، وذلك حرام ; وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو دين غير قرض وأذن له الراهن بالانتفاع جاز ذلك، وكذلك إن كان انتفاعه بعوض، مثل أن يستأجرها بأجرة مثلها من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض، بل بالأجرة، فإن حاباه في داره فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، فلا يجوز في القرض، ويجوز في غيره.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الرهن إذا كان محلوبا أو مركوبا، فإن المرتهن يحلب ويركب بقدر نفقته متحريا للعدل، وأما غير المحلوب والمركوب، فلا ينتفع به بغير إذن صاحبه.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأما مسألة المرأة التي أذنت لبعض بنيها يرهن نخلها في دين عليه، وبعد موتها فك بعضه، فإذا صار النخل مشاعا فالذي فك بين الورثة، والذي بقى: في الرهن.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا أعار رجل رجلا سلعة يرهنها فقال المعير: أذنت لك في رهنها بدينار ; وقال المستعير: بل أذنت في الرهن من غير تقييد بشيء ; من القول قوله ؟
فأجاب: هذه المسألة القول فيها قول المالك صرحوا بذلك في باب الرهن.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن المرتهن إذا(7/254)
ص -253- ... أحرز الرهن في غير بيته فتلف وقد كان المرتهن قبل ذلك يستعمله أحيانا، فهل يضمنه ؟
فأجاب: الرهن أمانة في يد المرتهن، يضمنه بتعديه أو تفريطه ; قال في الإقناع: فإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرته، وإن تلف ضمنه للتعدي، انتهى.
قلت: ويؤخذ من صريح كلامهم، في باب الرهن والوديعة: أنه إذا أخرجه عن يده لغير مالكه، يقوم مقامه بلا عذر ضمنه، فعليه: يكون جعله في غير بيته، بغير إذن الراهن تفريطا، يوجب الضمان، والله أعلم.(7/255)
ص -253- ... باب الضمان
سئل بعضهم: عن ضمان المجهول، كمن ضمن على إنسان دينا لا يعلم قدره، ثم علم ذلك ؟
فأجاب: الصحيح في هذه المسألة صحة ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار الشيخ وابن القيم، لقول الله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[سورة يوسف آية: 72] وحمل البعير غير معلوم، بل يختلف باختلاف المحمول عليه، ولعموم قوله عليه السلام "الزعيم غارم" 1 ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالنذر ; وقال الثوري والليث، وابن أبي ليلى والشافعي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وأحمد (5/267)(7/256)
ص -254- ... وابن المنذر: لا يصح ; لأنه التزام فلم يصح مجهولا، كالثمن.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن رجل ضمن على رجل ريالا مثلا، فلما حل الأجل لم يعطه المضمون عنه الريال ؟
فأجاب: لصاحب الريال مطالبة الضمين بالريال، والضامن يرجع على المضمون عنه بالريال خاصة، فإن أعطاه زيادة فهي عليه.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا ضمن رجل على آخر، وادعى المضمون عنه أنه أعطى الضامن، فلصاحب الحق مطالبة من شاء الضامن والمضمون عنه، وبه قال الشافعي والثوري وإسحاق، وأصحاب الرأي وأبو عبيد، لقوله عليه السلام "الزعيم غارم" 1 فإذا أدى المضمون عنه برئت ذمة الضامن، وإن أدى الضامن الدين، ونوى الرجوع رجع إلى المضمون عنه، لما أداه لصاحب الحق، وهو مذهب مالك والشافعي.
وسئل بعضهم: إذا طالب صاحب المال المشتري وترك الضامن ؟
فأجاب: الذي ذكره العلماء أن صاحب الحق مخير فيمن شاء منهما، قال في مختصر الشرح: لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في حال الحياة والموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وأحمد (5/267).(7/257)
ص -255- ... وسئل الشيخ صالح بن محمد الشثري: إذا قال رجلان لآخر ضمنا مالك على فلان ؟
فأجاب: اعلم أن المعاني قوالب الألفاظ، فإذا قالا: كل واحد منا ضامن لك ما عليه، فهو ضمان اشتراك في انفراد، له مطالبة كل واحد منهما بما عليه، ومطالبتهما معا، فإن قضاه أحدهما لم يصر له رجوع إلا على الآخر، وإن قالا ضمنا مالك عليه، فهو بينهما بالحصص.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل على آخر طعام، وقال اشتر لي واضمن الثمن ؟
فأجاب: ظاهر المذهب صحة الضمان ; لأن غايته أن يؤول الضمان، إلى نقد الثمن عن المضمون عنه، وقد صرحوا في باب القرض، بأنه إذا قال: أقرضني دراهم، اشتري لك بها البر الذي علي لك، أنه جائز ; وهذا هو المذهب، وفيه رواية بالكراهة، وكرهه سفيان كراهية شديدة، أعني في مسألة القرض.
سئل الشيخ: حمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عن الضمين إذا أخذ للمضمون عنه ؟
فأجاب: الضمين إذا أخذ للمضمون عنه فهو على الضامن، إلا أن يذكر وقت العقد أنه لفلان، بحضور البينة أو المشتري.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن صاحب الرشوة، الذي(7/258)
ص -256- ... سلم له الضمين من ماله قبل الإسلام، ثم بعد الإسلام، امتنع المضمون عنه أن يسلم للضمين ؟
فأجاب: صاحب الرشوة الذي سلم له الضمين قبل الإسلام ثم بعد الإسلام امتنع المضمون عنه، فالإسلام لا يبطل مثل هذا ; لأنه سلم من ماله، فلزم المضمون عليه أن يسلم للضمين ما سلم الضمين.
وأجاب أيضا: إذا ضمن رجل على رجل، وعجز عن وفاء دينه، لزم الضمين وفاء دينه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن عليه دينان بضمين وغير ضمين، ووفى أحدهما فادعى صاحب الدين، أن المقبوض غير المضمون ؟
فأجاب: وأما الرجل الذي عليه دين شيء بضمين، وشيء ما عليه ضمين، ودفع إليه بعض الدين، وادعى صاحب الدين: أنه ليس من الدين المضمون، فالقول قول المضمون عنه مع يمينه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ثبت عليه لآخر دين، ثم ثبت على من له الحق دين لآخر وقال للمدين الأول: لا تعطه دينك إلا بحضرتي، فإني قارع ما عندك له في يدك، وأوفى غريمه، هل يلزمه ضمان ما قرع في يده ؟
فأجاب: لم أر للفقهاء في هذه المسألة نصا، ومقتضى(7/259)
ص -257- ... أصولهم: أنه لا يلزم المقول له إيفاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه، لم يكن ضامنا ; لأنه ليس ضامنا ولا محالا عليه، ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "أد الأمانة إلى من ائتمنك" 1 وجوب الدفع إلى المستحق حقه، ولا يمنعه حقه بمجرد قول إنسان لا تعطه، وقد يثبت لهذا القائل حق، وقد لا يثبت، ولكن ينبغي للمدعي رفع الأمر للحاكم إن كان ثم حاكم، وينظر الحاكم فيه بمقتضى الشرع، إن رأى الحكم على الغائب، وقضى للمدعي بما ادعى به، وإن أمكن إحضار المدعى عليه أحضره مع خصمه، ونظر في أمرهما، هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597).(7/260)
ص -257- ... باب الحوالة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن أقام بينة أنه أحاله...الخ ؟
فأجاب: إذا أقام بينة أنه أحال عليه لزمه الدفع إلى المحال، فإن لم يكن له بينة وأنكر المدعى عليه، فهل يلزمه اليمين ؟ فيه وجهان ; وإذا لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه، فهذه المسألة فيها وجهان،
أحدهما: يلزمه الدفع ; لأنه مقر بدينه ;
والثانية: لا يلزم الدفع إليه ; لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فله الاحتياط لنفسه.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أحال إنسان على(7/261)
ص -258- ... آخر، ولم يعلم بذلك حتى قضاه دينه أو قضى من أحاله عليه ثانيا ؟
فأجاب: قد برئت ذمة المدين من الدين إذا دفعه إلى صاحبة، أو إلى من أذن له صاحبه في الدفع إليه لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزمه قبل العلم شيء للأول، وبعد العلم قد برئت ذمته من الدين، فيرجع المحال الأول على غريمه إذا كان هو الذي قبض الدين، وعليه أو على الثاني إذا كان هو الذي قبضه، ولا رجوع على المحال عليه لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، كما قرره شيخ الإسلام رحمه الله، في قاعدته المعروفة عند أهل هذا الشأن.
وأجاب أيضا: قد برئت ذمة المدين إذا دفعه إلى صاحبه، أو إلى من أذن له أن يدفعه إليه، لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدين ; لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القاعدة، وقرر أدلتها، فعلى هذا: يرجع من أحيل أولا بدينه على المحيل، كما قبل الحوالة.(7/262)
ص -259- ... باب الصلح
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن صلح جرى في الجاهلية... الخ ؟
فأجاب: والفعل الذي قد أصلح فيه، بدية أو غرامة في الجاهلية، من دم أو غيره، فهو يسلم ويتم في الإسلام.
وسئل: عن الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ؟
فأجاب: وأما الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، فالذي يظهر لي الصحة.
وأجاب أيضا: إذا كان لرجل على آخر عشرة أريل مثلا، وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي، ففيها خلاف مشهور بين العلماء، قال في الإنصاف، ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح، هذا هو المذهب، نقله الجماعة عن أحمد، وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصح، واختاره الشيخ تقي الدين، لبراءة الذمة هنا، وكدين الكتابة، جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور، انتهى.(7/263)
ص -260- ... والذي يترجح عندي هو القول الأخير، وهو الذي اختاره الشيخ ابن تيمية قدس الله روحه، وأما إذا كان الدين حالا فوضع بعضه وأجل باقيه، فقال في الإنصاف: صح الإسقاط دون التأجيل، أما الإسقاط فيصح على الصحيح من المذهب، وعنه لا يصح الإسقاط، وأما التأجيل فيصح على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب لأنه وعد، وعنه لا يصح، وذكر الشيخ تقي الدين رواية بتأجيل الحال في المعاوضة لا التبرع، قال في الفروع: والظاهر أنها هذه الرواية، والله أعلم.
وسئل بعضهم: عمن له ريالان عند رجل نسيئة، وأخذ ريالا ونصفا ؟
فأجاب: الأئمة الأربعة لا يجوزونه، وأفتوا لنا عيال الشيخ بالجواز، وهو الذي نعمل عليه الآن.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما إذا اصطلحا أن الدين يكون نجوما... الخ ؟
فأجاب: هذا ليس بصلح، ولا يدخل في حد الصلح، كما نص عليه الحجاوي وغيره بل هو وعد يستحب الوفاء به على المشهور، وكونه فيه إرفاق فذلك لا يغير الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمى الصلح، كما لا تدخله الهبة والعطية.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها؟
فأجاب: الظاهر عدم الصحة.(7/264)
ص -261- ... سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا اصطلح اثنان في خصومة، ثم بعد ذلك ظهرت البينة بصحة الدعوى لمن هي له ؟
فأجاب: تسمع البينة ويحكم بها، ويبطل الصلح.
وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا وجد أحد المتداعيين بينة على ما ادعاه، بعد صدور الصلح الذى لم يرض به إلا لعدم اطلاعه على البينة، فالذي اطلعنا عليه من كلام بعضهم: أن المذهب عدم نقض الصلح، واختيار الشيخ تقي الدين نقض الصلح ; لأنه إنما صالح مكرها في الحقيقة، إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا أراد أن يجري ساقية في أرض غيره بغير إذنه... الخ ؟
فأجاب: قال في المغنى، وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره، لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه، وإن كان لضرورة مثل أن تكون له أرض للزراعة، لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره، فهل له ذلك ؟ على روايتين، إحداهما: لا يجوز بغير إذنه، كما لو لم تدع إليه ضرورة ; والأخرى يجوز، ثم ساق الأثر المروي عن عمر، حيث قال لمحمد بن مسلمة: "لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع ؟ والله ليمرن به ولو على بطنك" فأمره عمر أن يمر به ففعل، رواه مالك في الموطأ، انتهى ; والقول الأول هو المذهب، ومال إليه في المغنى والشرح، وقال هو أقيس، والقول الثاني هو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله.(7/265)
ص -262- ... سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن إجراء السيل مع أرض الغير ؟
فأجاب: مجرى السيل مع أرض الغير قده عندكم 1 في بلدكم، وافق الشيخ حمد رحمه الله: بإجرائه إذا لم يتعد الضرر، وحجته قوية، قصة عمر لمحمد بن مسلمة، لما قال له: أجره ولو على بطنك، والعمل عليها.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما صاحب الأرض الذي أرادوا إجراء النهر على أرضه، فهذه المسألة فيها روايتان، إحداهما وهي المذهب أنه لا يجبر ; والثانية: أنه يجبر، فعلى هذه الرواية ينظر، فإن كان لا طريق لذلك النهر إلا مع تلك الأرض، أجرى معها مجانا بلا ضرر يعود على صاحب الأرض، فإن كان له طريق غير تلك الأرض، فالظاهر أنه لا يجبر.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن طريق أقام المدعى بينة، أنهم يعرفون أنهم يستطرقون معه... الخ ؟
فأجاب: هذا لا يثبت لهم به طريق، حتى تشهد البينة أن لهم طريقا ثابتا ; لأن الملك إذا لم يكن محصنا بالبناء، لا يدل الاستطراق معه على حق ثابت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: عند الشيخ عبد الله بن فيصل, ساكن بلد "القرينة" وهو إذاك قاضي بلد "المحمل".(7/266)
ص -263- ... سئل الشيخ: عبد الله بن محمد: إذا بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام، هل يصح ؟
فأجاب: إذا كان نافذا ليس بسد مشترك، فإن له بناه بإذن الإمام، بشرط أن لا يكون به ضرر.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا غير الطريق النافذ مسجدا، هل هو جائز أم لا ؟
فأجاب: الذي رأينا من كلام العلماء رحمهم الله، كصاحب الإنصاف وغيره، أنه لا يجوز البناء في طريق نافذ مطلقا، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا ; قال شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية، لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء، حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط، إلا أن يدخل في حده بقدر الجص انتهى، فعلى هذا يكون مغصوبا لا تصح الصلاة فيه، بخلاف ما إذا كانت الطريق واسعة، ولا ضرر في البناء، فإنه يجوز ; قال البخاري في صحيحه: "باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس" وبه قال الحسن وأيوب ومالك ; قال القسطلاني: وعليه الجمهور، وأما ما رواه عبد الرزاق عن علي وابن عمر من المنع، فسنده ضعيف لا يحتج به.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا كان باب رجل في أول الدرب، فأراد نقله إلى أدخل منه، فهل له ذلك ؟
فأجاب: إذا كان على طريق نافذ فله ذلك.(7/267)
ص -264- ... سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا بنى رجل بيتا، وبنى فيه مدابغ... الخ ؟
فأجاب: إن كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره، ولا حدثت دار جاره إلا بعد بناء الكنيف والمدابغ، فلا تزال ; لأنها سابقة علي ملك الجار، والجار هو الذي أدخل الضرر على نفسه، وفي إزالة ضرره إضرار بجاره، فلا يزال الضرر بالضرر ; فإذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار لم تزل، وإن أضرت بالجار، وأما إذا بناها بعد بناء جاره، وأقام جاره بينة أنها تضر به، فيمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" 1 فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، فإنه يمنع للحديث، وهذه المسألة عكس التي قبلها في الصورة والحكم.
وأجاب بعضهم رحمه الله: وأما إذا كانت الأرض محددة مملوكة، فلا يجوز لأحد أن يأخذ من ملك أخيه شيئا، لا من الهواء ولا من تحت الأرض، ولا يجوز للجار أن يحدث في ملكه ما يضر جاره، كالمرحاض الذي له رائحة كريهة، وأشباه ذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لأحد علو بيت، ولآخر أسفله، فانهدم البيت، هل يلزم صاحب العلو البناء معه ؟
فأجاب: الظاهر أنه يجبر على البناء معه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326).(7/268)
ص -265- ... سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا كان لإنسان بناء مشرف سابق، وطلب الجار ستره ؟
فأجاب: لم نقف للعلماء على تفرقة بين البناء المتقدم والحادث، وإنما ذكروا في المغني والشرح وغيرهما، أنه إذا كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره ; لأنه إضرار بجاره، فأشبه ما لو اطلع عليه من خلل بابه، وقد دل على المنع قوله صلى الله عليه وسلم "لو أن رجلا اطلع عليك، فخذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح" 1 لكن قال في الإقناع والروض: فإن استويا اشتركا، وأيهما أبى أجبر مع الحاجة إلى السترة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن مسجد أحدث عليه بعض جيرانه بناء، يمنع الشمس زمن الشتاء، وادعى أهل المسجد بالضرر ؟
فأجاب: بأن البناء والحالة هذه تجب إزالته.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عن معنى قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا إضرار" 2.
فأجاب: قال أبو الفرج ابن رجب، في شرح الأربعين: اختلفوا هل بين اللفظتين أعني - الضرر والإضرار - فرق أم لا ؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور: أن بينهما فرقا ; ثم قيل: إن الضرر الاسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الديات (6902) , ومسلم: الآداب (2158) , والنسائي: القسامة (4861) , وأبو داود: الأدب (5172) , وأحمد (2/243 ,2/428).
2 مالك: الأقضية (1461).(7/269)
ص -266- ... والإضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك ; وقيل: الضرر أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع به هو، والإضرار أن يدخل على غيره ضررا مما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ; وقيل إن الضرر أن يضر بمن لا يضر به، والضرار أن يضر بمن قد أضر به، بوجه غير جائز.
وبكل حال: فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق، فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق، وهذا على نوعين.
أحدهما: أن لا يكون في ذلك غرض سوى ضرر بذلك، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ; وقد ورد النهي في القرآن عن المضارة في مواضع - إلى أن قال: - وأما النوع الثاني: أن يكون له غرض صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع في ملكه توفرا، فيتضرر الممنوع.
فأما الأول: فإن كان على غير الوجه المعتاد، مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف فيحترق ما يليه، فإنه متعد بذلك وعليه الضمان، وإن كان على الوجه المعتاد، ففيه(7/270)
ص -267- ... للعلماء قولان مشهوران،
أحدهما: لا يمنع من ذلك وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وغيرهما ;
والثاني: المنع وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور.
فمن صور ذلك: أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو أن يبني عاليا ليشرف على جاره ولا يستره، فإنه يلزمه يستره نص عليه أحمد، ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي، قال الروياني منهم في كتاب الحلية، يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعفن في الفساد، قال وكذلك القول في إطالة البناء، ومنع الشمس والقمر، وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، حديثا طويلا في حق الجار، وفيه: "ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه"
ومنها: أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فيذهب ماؤها، فإنها تطم في مذهب مالك وأحمد، وأخرج أبو داود في المراسيل، من حديث أبي قلابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تضاروا في الحفر، وذلك: أن يحفر الرجل إلى جنب بئر الرجل ليذهب بمائه"
ومنها: أن يحدث بما يضر بملك جاره، من هز ودق ونحوهما، فإنه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية.(7/271)
ص -268- ... ومنها: أن يكون له ملك في أرض غيره، ويتضرر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنه يجبر على إزالته، ليدفع به ضرر الدخول، وخرج أبو داود في سننه، من حديث أبي جعفر محمد بن علي، أنه حدث عن سمرة بن جندب، أنه كان له عضيد من نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة يدخل إلى أهله، فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، أمرا أرغبه فيه، قال فقال: أنت مضار ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: "اذهب فاقلع نخله" 1 وقد روى عن أبي جعفر مرسلا.
قال أحمد: في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث، فما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السلطان، ولا يضر بأخيه في ذلك إذا كان من فعاله، وذكر حديثا من نحوه، ثم قال: ففي هذا والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في شركه، وعلى وجوب العمارة على الشريك الممتنع من العمارة، وعلى إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة، بكون المقسوم يتضرر بقسمته، وطلب أحد الشريكين البيع، أجبر الآخر وقسم الثمن، نص عليه الإمام أحمد، وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأقضية (3636).(7/272)
ص -269- ... وأما الثاني: وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والارتفاق به، فإن كان ذلك يضر بمن انتفع بملكه فله المنع، وأما إن لم يضر به، فهل يجب عليه التمكين، ويحرم عليه الامتناع أم لا ؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك من التصرف في ملكه وإن أضر بجاره، قال هنا للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه، ومن قال هناك بالمنع، فاختلفوا هاهنا على قولين، أحدهما: المنع هاهنا وهو قول مالك ; والثاني: أنه لا يجوز المنع، وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره، ووافقه الشافعي في القديم.
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره" 1 قال أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم" "وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة: أن يجري ماء جاره في أرضه، وقال ليمرن ولو على بطنك" وفي الإجبار على ذلك روايتان عن أحمد، ومذهب أبي ذر الإجبار على إجراء الماء بأرض جاره، إذا أجراه في قناة في باطن أرضه، نقله عنه حرب الكرماني - إلى أن قال:
وقال عبد الرحمن الحضرمي الشافعي، في شرح الأربعين، في الكلام على هذا الحديث "فائدة" يؤخذ من هذا الحديث قاعدتان عظيمتان، وهما رعاية المصالح ودرء المفاسد، ويتفرع منهما أيضا قواعد أخر، كقولهم: الضرر يزال، وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المظالم والغصب (2463) , ومسلم: المساقاة (1609) , والترمذي: الأحكام (1353) , وأبو داود: الأقضية (3634) , وابن ماجه: الأحكام (2335) , وأحمد (2/240 ,2/274 ,2/327 ,2/396 ,2/447 ,2/463) , ومالك: الأقضية (1462).(7/273)
ص -270- ... التيسير، والضرر يبيح المحظورات، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، والضرر لا يزال بالضرر، وقولهم: يراعى أخف الضررين، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والحاجة العامة أو الخاصة، تنْزل منْزلة الضرورة، وكل واحدة من هذه القواعد، لها فروع منتشرة في كتب الفقه، لا يمكن حصرها.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن قول الفقهاء: الضرر لا يزال بالضرر... الخ ؟
فأجاب: قول الفقهاء الضرر لا يزال بالضرر، فهذا كما قالوا: في أن الجار لا يملك وضع الخشب على جدار جاره، إلا عند الضرورة إليه، فإن كان جدار الجار يتضرر بوضع الخشب عليه فلا يجوز ; لأن الضرر لا يزال بالضرر، وكما لو كان مع إنسان طعام أو شراب هو مضطر إليه، وإنسان آخر مضطر إلى ذلك، فصاحبه أحق به، فلا يزال ضرر غير المالك بإدخال الضرر على المالك، ويدخل في ذلك صور كثيرة.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لا يجوز له منعه من غرز خشبه في جداره، سواء كان الأول قديما أو حديثا هذا بالنص، كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/274)
ص -271- ... سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا كان لرجل بئر وأرض، ولجاره أرض ليس لها ماء... الخ ؟
فأجاب: إذا امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء، فإنه يجبر على إجرائه.
وسئل بعضهم: إذا فضل ماء هل لمالكه منعه ؟
فأجاب: وأما من حفر بئرا أو قناة، فإنه أحق بمائها من غيره، ولا يجوز له منع فضل مائها. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما الذي له قليب مستغن عن مائها، لا يجوز له منع جاره منها، إذا لم يكن عليه ولا على القليب ضرر منه.
وسئل: عن الجزوى ؟ 1
فأجاب: وأما الجزوى إذا قل الماء، فهي على نظر الأمير، وأهل المعرفة بمصالح البلد، فيقدم الأصلح فالأصلح، وتحتمل المضرة اليسيرة على من عنده زيادة الماء.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وأما إن رأى أهل الخبرة والإنصاف، أن الجزوى في سنين المحل أصلح لحال الملك، لزمتهم لتوفير الماء عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي ترك السني في بعض الأوقات لتوفير الماء.(7/275)
ص -272- ... باب الحجر
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن مفلس أراد أن يبيع أو يرهن بعض ما في يده، هل يحجر عليه... الخ ؟
فأجاب: إذا كان رجل معروفا بالفلس، ويعامله الناس مع ظهور فلسه، وأراد رهن بعض ما في يده، أو أوفى به بعض الغرماء، وطلب الغرماء من الحاكم الحجر عليه، لزمه إجابتهم، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عن رهن المفلس... الخ ؟
فأجاب: والذي مستغرق دينا، لا يصح له رهن إلا بإذن الديانين.
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، عن رهن المفلس قبل الحجر ؟
فأجاب: في نفوذ تصرفه قبل الحجر عليه قولان، هما روايتان، إحداهما: أنه يصح تصرفه وينفذ، قاله في الإنصاف، على الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه(7/276)
ص -273- ... جماهير الأصحاب ; وقيل لا ينفذ تصرفه، ذكره الشيخ تقي الدين، وحكاه رواية واختاره، وسأله جعفر - يعني الإمام أحمد - من عليه دين يتصدق بشيء ؟ قال الشيء اليسير، وقضاء دينه أوجب عليه، قلت: وهذا القول هو الصواب، خصوصا وقد كثرت حيل الناس، وجزم به في القاعدة الثالثة والخمسين، وقال: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته، التي يرجع بها قبل الحجر، لم ينفذ تصرفه نص عليه، وذكر في ذلك ثلاثة نصوص، لكن ذلك مخصوص بمطالبة البائع، انتهى كلامه في الإنصاف، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
وسئل: عن الفلاح الذي أوفى بعض الديّانين؟
فأجاب: والفلاح الذي أوفى بعض ديانيه، وبعضهم ما أوفاهم، وهو مفلس، فالذين ما جاءهم شيء يجيئهم قدر المواساة.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وأما إذا ضاق مال الإنسان عن دينه، وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء، فإن المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء، إذا كان رهنا لازما بلا نزاع، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فإن كان الراهن حين الرهن قد ضاق ماله عن دينه، انبنى صحة رهنه على جواز تصرفه وعدمه، وهو أنه: هل يكون محجورا عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم، كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد، اختاره(7/277)
ص -274- ... الشيخ تقي الدين، أو لا يكون محجورا عليه إلا بحكم حاكم ؟ كما هو قول أبي حنيفة والشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
وأجاب الشيخ حسن بن علي: إذا رهن الغريم شيئا من ماله، عند أحد غرمائه، وهو حال الرهن قد ضاق ماله عن وفاء دينه، فالذي قرره شيخ الإسلام تقي الدين، وحكاه رواية عن أحمد، وصوبه في الإنصاف، أنه محجور على المفلس حكما، حين ضاق ماله عن ديونه، وأن حكمه حكم من حجر عليه الحاكم، فلا يصح رهنه والحالة هذه، وعليه الفتوى.
وسئل بعضهم: إذا كان لرجل على آخر سلم في تمر أو عيش وقد أعطاه حين دخوله في الفلاحة، ما يحتاج إليه في شراء نواضح وغيرها، ثم بعد ذلك احتاج الفلاح لزيادة لتمام الزرع والثمرة، فهل يجبر الغريم على إعطاء الفلاح ما يحتاج إليه أم لا ؟ وهل إذا امتنع أو غاب فاستدان الغريم من غيره، لأجل تكميل الثمرة يقدم الثاني بحقه أم لا ؟ وإن قدمه حاكم وساغ تقديمه قدم أو لا ؟
فأجاب: الذي يعمل به أنه إذا احتاج الفلاح لزيادة نفقة لإصلاح ثمرته وزرعه، وطلب ذلك من غريمه، وامتنع معتذرا أن ثمرته وزرعه لا تفي بما عليه، قائلا: لا أخرج مالي يذهب علي مجانا لإصلاح غيري، أنه إن أمكن التوفيق بينهما بما فيه منفعة للفلاح، من غير ضرر يلحق الغريم، وتطيب به(7/278)
ص -275- ... نفسه فعلنا ; وإن لم يكن إلا بضرر ظاهر يلحق الغريم، فلا نجبره على المعاوضة أو القرض، لأجل مصلحة المدين ; لأن من شرط ذلك التراضي ولا مسوغ للإجبار، وليس هذا موضع ضرورة.
وإن سميت ضرورة فلا يزال الضرر بالضرر، لحديث "لا ضرر ولا ضرار" 1 وسواء وعده عند دخولهما في المعاملة أو لم يعده، فلا يترتب على ذلك حكم، لكن إن تيسر التوفيق بما لا ضرر فيه على الكل فحسن، كأن يجعل للأول بعض الزرع، أو الثمرة في مقابلة حقه، ويصير الباقي لمن ينفق عليه آخر المدة، أو يعطى رهنا أو ضمينا في حقه، أو نحو ذلك مما تطيب به النفس، فإن تعذر ذلك: بأن غاب الغريم، أو تعذر بنفاد ما في يده، أو خوفا من ذهاب ماله، بأن ليس عند المدين مقابلة لجميع ذلك ونحو ذلك، فلا نرى جواز التقديم بغير رضا الغريم ; لأنه ربما استغرق حق الثاني جميع الثمرة والزرع، فيذهب الأول بلا شيء، وهذا يرده حديث "لا ضرر ولا ضرار" 2.
وقد أمكن دفع الضرر، بأن يدفع لكداد آخر كده معاملة، بما يتراضيان عليه إلى تمامه، أو يستأجر من يقوم به، وقد استقر حكم الشريعة العادلة، أن صاحب الحق يعطى حقه وإن تضرر بذلك الغريم، فلم تعتبر الشريعة تضرر المدين بأداء الحق إلى مستحقه، ومن أدخل غريما ثانيا على أول، وقدمه بحقه، فقد عكس حكم الشريعة: "خذوا ما وجدتم"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326).
2 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326).(7/279)
ص -276- ... وبيع مال معاذ لوفاء دينه، وبيع عتيق واسترق، وبيع مال الأسيفع، ولم ينظر إلى كونهم يتضررون بذلك، ولهذا ذهب مالك والشافعي: إلى أن جميع مال المفلس يباع لوفاء دينه، حتى مسكنه وخادمه، ومذهب الإمام أحمد المشهور عنه: أنه لا يباع المسكن ولا الخادم، إلا إذا كانا نفيسين، وكذلك إذا كان ذا حرفة ترك له ما يحترف به، وإن لم يكن ذا حرفة ترك له ما يتجر به لمؤنته، وهذا من مفردات المذهب.
قال الشارح: وهذا محمول على الشيخ الكبير، وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرماء أسوة، ما عدا صاحب المتاع إذا وجده بعينه عند المفلس، وألحق به الفقهاء المرتهن، أنه يقدم بقيمة رهنه، لتعلق حقه بالعين والذمة، فلا يجوز لنا أن نقدم من لم يقدمه الله ورسوله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، واستقر عند الناس في نواحينا: تقديم صاحب البذر، والأجير في هذه المسألة، ويرون الحكم بغير ذلك جائرا، لكونهم لا يعرفونه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سئل بعضهم: إذا وجد معسر قد اقتسم غرماؤه ماله، وبقي لهم عليه بقية من حقوقهم بعد أن أخذوا ما في يده، ثم استدان وثبت في ذمته حقوق ضاق ماله عن وفائها، وربما كان للمتجددة حقوقهم رهن، فهل إذا حلت حقوقهم يشاركهم الأول، أم لا ؟
فأجاب: إنما يرد هذا السؤال على القول الذي ذكرتموه(7/280)
ص -277- ... عن الشيخ تقي الدين، وحكاه رواية عن أحمد، وصوبه في الإنصاف من أنه محجور عليه حكما، وعليه الفتوى، فيكون المدين في حالتيه الأولى والثانية محجورا عليه حكما، حين ضاق ماله عن ديونه، فالظاهر - والحالة هذه - أن حكمه حكم من حجر عليه الحاكم في كلتي حالتيه، فإن كان للذين تجددت حقوقهم رهن صحيح لازم، فهم أحق بالرهن أو قيمته ; وإن لم يكن لهم رهن شاركهم غرماء الحجر الأول ; لأن حقوق الجميع متعلقة بذمته، هذا قول الجمهور، وهذا المذهب.
وقول غرماء الحجر الثاني: ما في يده إنما نتج من أموالنا ؟ جوابه: أن مالكم هو ما في ذمته، وأما دراهمكم ونحوها، فهي ماله من حين صارت في يده، وأن الذي لكم في ذمته ; وعند مالك: أن غرماء الحجر الأول، لا يشاركون غرماء الحجر الثاني، إلا أن يكون له فائدة مواريث، أو تجني عليه جناية، وهذا كله في محجور الحاكم ; والظاهر: أن حكمهما سواء، وبعض من أدركنا من القضاة يقضي بنحو قول مالك ; وأفاد سؤالكم أنه يترجح عندكم القول بعدم اشتراط القبض للزوم، وهذا هو الذي نفتي به، والحاجة إليه داعية.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، هل يبيع الحاكم مال المفلس فورا... الخ ؟
فأجاب: أما بيع الحاكم مال المفلس، فقال الأصحاب(7/281)
ص -278- ... رحمهم الله يبيع كل شيء في سوقه، قال الشيخ تقي الدين وغيره: ولا يبيعه إلا بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر على الفور، ذكره في الإنصاف، واقتصر عليه في الفروع، والضمير في قولهم: في وقته راجع للبيع، أي: في وقت البيع، فدل كلامهم على أن الحاكم إذا باع مال المفلس، يجب عليه الاستقصاء وعدم العجلة، حتى يبذل في الجميع قيمته في ذلك الوقت، فهذا ما دل عليه كلامهم، خلاف ما فهمه من لا علم عنده، من أن مرادهم أنه إذا كانت العين المبيعة من مال المفلس، في وقت قد رخص فيه مثلها، بعد زمن كانت غالية فيه، أنها لا تباع زمن الرخص، رجاء أن تعود قيمتها إلى ما كانت في الزمن الماضي ; فهذا لم يدل عليه كلامهم، بل هو مخالف لصريح قولهم في وقته، أي وقت البيع، ولم يعتبروا قيمته في غير ذلك الوقت، وأوجبوا الفورية في البيع، كما تقدم في كلام الشيخ وغيره.
قال في الإقناع وشرحه، ويجب عليه، أي: الحاكم، ذلك أي بيع مال المفلس، وقسم ثمنه على غرمائه، ويكون ذلك على الفور ; لأن تأخيره مطل وفيه ظلم لهم، وقال في المنتهى وشرحه: وبيعه بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر من ثمن مثله إن حصل فيه راغب، وقسمه أي الثمن، فورا حال من قسم وبيع ; لأن هذا جل المقصود من الحجر عليه، وتأخيره مطل وظلم للغرماء، انتهى ; وكذا حكم المرهون، لا يبيعه الحاكم أو العدل إلا بثمن مثله، فإن باعه بدون ثمن(7/282)
ص -279- ... المثل صح البيع، وضمن البائع النقص على المذهب، قاله في الإنصاف، وعلى قياسه مال المفلس، إذا بيع بدون ثمن المثل، قال الشيخ منصور: ومقتضى القواعد أنه إذا بيع بدون ثمن المثل، صح البيع وضمن البائع النقص، وكذلك حكم مال اليتيم إذا دعت الحاجة إليه، لم يبعه الولي إلا بثمن المثل، فإن نقص عن ثمن المثل، فهل يبطل البيع أو يصح ويضمن الولي النقص ؟ فيه وجهان، والمغصوب يضمن بقيمته مطلقا يوم تلفه، على الصحيح من المذهب.
وأما قولكم: هل القيمة وصف قائم بالمتقوم ؟ أو هي ما تنتهي إليه رغبات الراغبين ؟ قال الغزي الشافعي: والصحيح أن ثمن المثل ما تنتهي إليه الرغبات المعتادة في الغالب، ومرادهم: ما تنتهي إليه رغبات الراغبين في ذلك الوقت ; وفرق طائفة منهم بين المرهون ومال المفلس، على تفصيل عندهم، وهذا التفريق لم أره لأصحابنا.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عمن وجد عين ماله... الخ ؟
فأجاب: والرجل إذا وجد عين ماله وقد زادت قيمته، أو نقصت لم يكن له الرجوع.
وأجاب: ابنه الشيخ عبد الله: إذا وجد أحد الشيئين إلخ، فهذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد، قال في الشرح الكبير: وإن كان المبيع عينين، كعبدين أو ثوبين تلف(7/283)
ص -280- ... أحدهما، أو نقص، ففي جواز الرجوع في الباقي روايتان، إحداهما لا يرجع نقلها أبو طالب عنه، قال لا يرجع ببقية العين، ويكون أسوة الغرماء ; لأنه لم يجد المبيع بعينه، فأشبه ما لو كان عينا واحدة ; لأن بعض المبيع تالف، فلم يملك الرجوع فيه، كما لو قطعت يد العبد ; ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: إن كان ثوبا واحدا فتلف بعضه، فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزما، فتلف بعضها، فإنه يأخذ بقيتها إذا كان بعينه ; لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه، فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنه مبيع وجده البائع بعينه، فكان للبائع الرجوع، كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعضه أو وهبه أو وقفه، فهو بمنْزلة تلفه ; لأن البائع ما أدرك ماله بعينه.
وسئل: عما إذا زادت قيمته ؟
فأجاب: من شرط الرجوع في السلعة إذا وجدها صاحبها عند المفلس، أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة، كالسمن والكبر، وتعلم صنعه، فإن هذا يمنع الرجوع، وهو اختيار الخرقي ; وعن أحمد رحمه الله: أن ذلك لا يمنع ; قال في الشرح الكبير: وهو مذهب مالك والشافعي، إلا أن مالكا قال يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة، أو ثمنها الذي باعها به، واحتجوا بالخبر، يعني قوله: "من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به" 1 ولأنه فسخ لا يمنع الزيادة المنفصلة، فلم يمنع المتصلة كالرد بالعيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/474) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/284)
ص -281- ... قال: ولنا أنه فسخ بسبب حادث، فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائد زيادة متصلة، كفسخ النكاح بالإعسار، أو الرضاع، ولأنها في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة، انتهى ; والذي يترجح عندي: مذهب مالك رحمه الله، وهو أن الغرماء يخيرون بين أن يعطوه السلعة بعينها، وبين أن يعطوه الثمن الذي باعها به ; فعلى هذا: إن كان لهم مصلحة في زيادتها المتصلة، أعطوه ثمنه، وأخذوا السلعة، وتكون الزيادة المتصلة للمفلس، يستوفى بها الغرماء.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: المسألة فيها روايتان عن أحمد، إحداهما: أنه يرجع في العين الباقية، جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف أنه الصحيح من المذهب ; لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية: أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه، والرواية الثانية: أن المتعين كغيره، إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء، لتعذر كل العين قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة، انتهى ; وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الغريم إذا أعسر... الخ ؟
فأجاب: إذا كان له فلائح لا تفي بكفايته وكفاية من(7/285)
ص -282- ... تحت يده، ولا يقدر على حرفة غير ذلك تغنيه وتغني أولاده ومن تحت يده، فلا يجوز لصاحب الدين يأخذ ذلك ويتركه يضيع ومن تحت يده، بل يصبر إلى أن الله يغنيه، أو يصالحه على شيء يعطيه إياه كل سنة لا يضر به.
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين ما يترك للمفلس ؟
فأجاب: الغريم إذا ضاق ماله عن الديون التي عليه، فالمشهور في المذهب فيها معروف، وأنه يترك له المسكن والخادم، إذا كان مثله يخدم، ما لم يكونا عين مال غريم ; ويشتري أو يكتري له بدلهما، ويترك له ما يتجر به إن كان تاجرا، أو يترك له آلة محترف إن كان ذا صنعة، ومقتضى قولهم: أنه إذا كانت حرفته الحراثة، أنه يترك له ما يحرث عليه، من سوان وآلة الحراثة، ومقتضى قولهم: أنه إذا لم يكن له حرفة وله عقار أنه يترك له، إذا لم يكن له فيه فضل عما يقوم به معاشه، والذي أرى: أنه ما يمكن العمل اليوم بالمذهب في بلدان نجد، لقلة أموالهم، والغالب على الحراثين الفقر، ويمكن أحدهم أن يستدين من الناس أموالهم، ويشتري بها دارا وعقارا، أو يشتري بها سوان، فإذا طلب أهل الحقوق حقوقهم، لم يجدوا إلا هذه التي ذكرنا، أيقال: تترك له الدار، أو يترك له العقار يعيش به، إذا لم يكن له ما يعيش به، أو تترك له السواني ؟ وإن كان تاجرا وفي يده رأس مال، قيل يترك له ما يتجر به ؟ وهذا فيه إشكال.(7/286)
ص -283- ... وأما ما سوى مذهب أحمد، فأبو حنيفة يقول: يترك له المسكن فقط، وقال مالك والشافعي: تباع ويكترى له بدلها، لحديث "خذوا ما وجدتم" 1 والقول بأنه يترك له ما يتجر به إن كان تاجرا، أو آلة الحرفة إن كان له صنعة من مفردات المذهب ; ونقل عبد الله عن أبيه: يباع الكل إلا المسكن، وما يواريه من ثياب وخادم يحتاجه، وفي رواية يترك له ما يقوم به معاشه ; قال في الشرح: وهذا في حق الشيخ، وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، ومع ذلك قال أصحابنا: إن كانت أمواله كلها أعيان أموال الناس، أفلس بأثمانها، أخذوها بشروطها، لقوله صلى الله عليه وسلم "من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به" 2 لكن إن كانت الدار ونحوها رهنا، ففي حكمها على المذهب تردد ; قال في الغاية: إن كانت الدار ونحوها رهنا توجه احتمالان، والله أعلم.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: إذا استأجر أرضا للزرع ونحوه، ثم رهنه فقصرت الثمرة عن الدين والأجرة وأجرة الحداد والخراز والذي يعمل في الزرع.
فأجاب: إذا انتفى اللزوم بعدم القبض أو الاستدامة، تحاصوا في الثمرة وغيرها، على قدر مالهم من دين أو أجرة ; لأن محل ذلك ذمة المدين، وتقديم أحدهم على غيره، ترجيح من غير مرجح، وما اشتهر بين الناس من تقديم العامل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساقاة (1556) , والترمذي: الزكاة (655) , والنسائي: البيوع (4530 ,4678) , وأبو داود: البيوع (3469) , وابن ماجه: الأحكام (2356) , وأحمد (3/36 ,3/58).(7/287)
2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519 ,3523) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/228 ,2/247 ,2/249 ,2/258 ,2/347 ,2/385 ,2/410 ,2/413 ,2/468 ,2/474 ,2/487) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/288)
ص -284- ... في الزرع ونحوه بأجرته، لم نقف له على أصل يوجب المصير إليه.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا ضاق مال الإنسان عن دينه، وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء، فإن المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء، إذا كان لازما بلا نزاع ; قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا ; فإن كان الراهن حين الرهن قد ضاق ماله عن دينه، انبنى صحة رهنه على تصرفه وعدمه، وهو أنه هل يكون محجورا عليه، إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم ؟ كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين ؟ أو لا يكون محجورا عليه، إلا بحكم حاكم ؟ كما هو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه ؟
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن تقديم الأجير... الخ ؟
فأجاب: والأجير يقدم على الغرماء.
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن بيع عقار الميت لوفاء دينه، إذا خيف عليه التلف ؟ وهل للمسغبة تأثير في البيع ؟
فأجاب: بيع العقار إذا خيف عليه التلف، خير وأولى من تلفه، والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه، وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كسادا ينقصه عن مقاربة ثمن المثل ويضر بالمالك، فلا يباع حتى تعود الرغبة، وهذا القول محله إذا أمن التلف، ولم يرج زوال الرغبة مع حياة المدين، وأما(7/289)
ص -285- ... مع موته فلا حق للورثة إلا فيما أبقته الديون والوصايا، وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين والحالة هذه.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل يباع الملك في وقت كساد الأملاك وغور المياه والجدب، بغير اختيار من المالك، لوفاء دينه أم لا ؟.
فأجاب: لا يباع العقار في الدين بكساد لأنه يرجى نفاقه بثمن المثل في العادة الماضية أو قريب منها ; وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى عدم الإجبار على البيع، إذا حصل الكساد الخارج عن العادة لجدب ونحوه ; وعليه: فلا يلزم بيعه والحالة هذه.
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن امتناع ورثة المدين من قضاء دينه ؟
فأجاب: كثير من الناس لو يخلى ونفسه ما دان الله بقضاء دينه، فضلا عن دين غيره، ولكن الواجب عليك القيام بما يلزم، وإجبار مثل من حكيت حاله على بيع العقار وقضاء الدين، لا سيما إذا كان المدين ميتا فقضاء دينه على الفور، فكيف والغريم له رهن ؟ ولو كان الراهن موجودا، وامتنع من بيع الرهن بعد حلول الدين، باع عليه الحاكم كما لا يخفى، فهذا أولى.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل يحل الدين المؤجل بالموت ؟(7/290)
ص -286- ... فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، فمنهم من قال: لا يحل بالموت، ومنهم من قال: يحل ; والأظهر أنه لا يحل بالموت، فمن قال يحل بالموت، قال: يحل جميع الطعام المسلم فيه ; ومن قال بعدم حلوله بالموت، قال إلى الأجل الذي بينهما.
وأجاب أيضا: المسألة فيها قولان في المذهب، والأظهر أنه لا يحل بالموت إذا وثقه الورثة.
وأجاب بعضهم: لا يحل الطعام المسلم إليه فيه بموته أو الدين، كما لا تحل الديون التي له بموته، لقوله عليه السلام "من ترك حقا أو مالا فلورثته" 1 والأجل حق للميت، فينتقل إلى الورثة كسائر حقوقه ; والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد، أنه يحل وفاقا للأئمة الثلاثة.
سئل الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي رحمه الله: هل ينفك حجر المفلس إذا أخذ الغرماء ما تحت يده ؟
فأجاب: المفلس إذا أخذ الغرماء ما تحت يده انفك عنه الحجر، وإذا انفك عنه الحجر صح تصرفه، ببيع الرهن أو غير ذلك، فإن كثر دينه بعد ذلك أعيد الحجر عليه، فإذا أعيد الحجر عليه، قدم من كان له رهن صحيح على غيره، وما فضل بعده فهو أسوة الغرماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2398) , ومسلم: الفرائض (1619) , والترمذي: الجنائز (1070) , والنسائي: الجنائز (1963) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2955) , وابن ماجه: الأحكام (2415) , وأحمد (2/290) , والدارمي: البيوع (2594).(7/291)
ص -287- ... فصل:(دفع إلى السفيه أو الصبي أو المجنون ماله ببيع أو قرض)
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عمن دفع إلى السفيه أو الصبي أو المجنون ماله ببيع أو قرض، هل يرجع بعد فك الحجر عنهم ؟
فأجاب: لا يضمنون شيئا من ذلك، إلا إن حصل في يد أحدهم بغير رضا صاحبه، كالغصب أو الجناية، فعليه ضمانه، وإن أودع عند الصبي أو المجنون، أو أعارهما، فلا ضمان عليهما، وإن أتلفاه، فوجهان: قال في الشرح الكبير: الضرب الثاني: المحجور عليه لحظ نفسه، وهو الصبي والمجنون والسفيه، فلا يصح تصرفهم، ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض، رجع فيه ما كان باقيا، فإن أتلفه واحد منهم فمن ضمان مالكه لأنه سلطه عليه برضا، علم الحجر أو لم يعلم، فإن حصل في يده برضا صاحبه من غير تسليط، كالوديعة والعارية، فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان، إن كان تلفه بتفريطه، ويحتمل أن لا يضمن، وأما ما أخذه من ذلك بغير اختيار المالك، كالغصب أو الجناية فعليه ضمانه.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يدفع إلى اليتيم ماله ؟(7/292)
ص -288- ... فأجاب: إذا بلغ خمسة عشر، أو نبتت العانة، أو احتلم مع رشده، فإذا ظهر رشده في المال، دفع إليه.
وسئل أيضا: عن ولاية الصغير ؟
فأجاب: الصغير قبل البلوغ، لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج يعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عن تصرف المرأة ؟
فأجاب: يجوز للمرأة البيع والشراء في مالها، بلا إذن زوجها.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والمرأة إذا كانت رشيدة يصح لها التصرف في مالها، ولا يمنعها زوجها عن التصرف في مالها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: من يتولى اليتيم ؟
فأجاب: ومال اليتيم ينظر فيه الأمير والجماعة بالمصلحة، ويجعل بيد من يحفظه ولا يعترض بشيء.
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة ؟ أم هو أسوة غيره من الأولياء ليس له النظر إلا فيما فيه مصلحة ؟
فأجاب: الواجب على كل من كانت له ولاية: أن يتقي الله فيها، ويصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين ; وفي(7/293)
ص -289- ... الحديث: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1 بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه، وإنفاقه في غير مصلحة، وهو من الإسراف، إلا أن الوالد ليس كغيره في العزل، ورفع اليد إذا ثبت رشده.
وأجاب أيضا: وأما اليتيم إذا كان له مال، فيتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي، فيجب على الحاكم الشرعي، وهو قاضي البلد أو الأمير: أن يولي على ماله من يحفظه، من أهل الأمانة والديانة.
سئل بعضهم رحمه الله: عن ولاية أم الأيتام على أولادها ؟
فأجاب: إن كانت مصلحة في ولايتها، فهي تأكل من مالهم بالمعروف بغير إسراف، بشرط أنها محتاجة، فإن كانت غنية فالترك لها أحسن، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[سورة النساء آية: 6].
وأجاب بعضهم: إذا كان النخل لليتيم، فليس لأمه ولا لأخته تصرف، فأما إذا احتاج فإن رأى الولي بيعه باع، وإن رأى الرهن رهن.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن بيع عقار اليتيم ؟
فأجاب: ومسألة الصغير الذي ورث عصبا له، فإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/54 ,2/111).(7/294)
ص -290- ... الأمير يقول إن بيعه أصلح، فلا أمنع منه ; وإن كان الأمير والجماعة يقولون: عدمه أصلح، فالذي أرى أن البيع لا يتم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل يصح لغير أبي الصغير إذا كان وليا لليتيم التصرف بنفسه من نفسه، بأن يتولى طرفي العقد، فيبيع عقاره على موليه ؟
فأجاب: لا يصح ذلك، كما هو المشهور، المفتى به، وهو المذهب
باب الوكالة
تأليف: الشيخ عبدالرحمن بن قاسم
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الأب إذا عجز عن القيام في أمور دنياه، لكثرتها أو عجزه، وأقام وأحدا من أولاده ممن تحرى فيه العدالة والثقة، وجعله وكيلا على ماله ؟
فأجاب: هذه وكالة صحيحة، حكمها حكم وكالة الأجنبي، يقبل قوله فيما ذكر من النفقة وغيرها، ما لم يدع نفقة تخرج عن العادة، وفيما أنفق على ماله، وما استفاده بيمينه دون ما ادعاه من الزمن، فلا يقبل إنفاقه إلا ببينة على ابتداء الزمن، فإن لم يجد البينة، فعلى الورثة يمين: أن مورثهم ما وكله إلا من وقت كذا.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: هل للوكيل أن يبيع لنفسه ؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، وقال بعض الأصحاب:(7/295)
ص -291- ... شراء الوكيل من نفسه غير جائز، فأما الوكيل في البيع، فشراؤه من نفسه جائز بشرط أن يزيد في مبلغ ثمنه في النداء، أو وكل من يبيع وكان هو أحد المشترين، فذلك جائز، والرواية الثانية: أن شراءه من نفسه جائز بشرط أن يتولى النداء غيره، وهو رواية عن الإمام أحمد.
سئل بعضهم: هل يغرم الوكيل إذا أعسر المشتري.. إلخ ؟
فأجاب: وأما الوكيل إذا أمره موكله ببيع شيء نسيئة، ثم أعسر المشتري أو غاب، فالوكيل لا يغرم.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له ؟
فأجاب: قال في الاختيارات قال في المحرر، وإذا اشترى الوكيل أو المضارب، بأكثر من ثمن المثل، أو باع بدونه صح، ولزمه النقص في مسألة البيع ; قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي، والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك، قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل ; وأبين من هذا: الناظر والوصي، والإمام والقاضي، إذا باع أو أجر أو زارع، أو ضارب ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفا ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن(7/296)
ص -292- ... يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة في خلافه ; وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشريك، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية، قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، ولا لوم عليه ولا تضمين بمثل هذا، انتهى.
فقد عرفت: أن اختيار الشيخ عدم تضمينه إذا لم يفرط، ومقتضى كلام الشيخ هو القول المشهور في المذهب، وهو صحة البيع، وتضمين الوكيل النقص، وشرط الشيخ في ذلك إذا فرط وهو الأظهر عندنا.
وأما إذا فرط: فحينئذ يتوجه القول بالبطلان وعدم انعقاد البيع، كما هو قول أهل العلم.
وأجاب أيضا: السلعة تلزم الموكل، وإذا اختلف الوكيل والموكل، فإن كان مع الوكيل بينة، وإلا حلف الموكل ما أمرتك بهذا ولا صح بيعه.
سئل بعضهم: عمن وكل رجلا في بيع سلعة بعشرة فباعها بثمانية ووكله في شراء سلعة بثمانية، فاشتراها بعشرة ؟
فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد ; إحداهما: أن حكمه حكم من لم يؤذن له في البيع، فيكون تصرفه كتصرف الأجنبي، فلا يصح البيع، وهذا قول أكثر أهل العلم، واختاره الموفق رحمه الله، قال في(7/297)
ص -293- ... الشرح: وهو أقيس ; لأنه بيع غير مأذون فيه، أشبه بيع الأجنبي، وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفا لموكله، فحكمه حكم تصرف الأجنبي ; والرواية الثانية: أن البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص ; لأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه.
قال في الاختيارات: قال في المحرر، إذا اشترى المضارب أو الوكيل بأكثر من ثمن المثل، صح ولزمه النقص أو الزيادة نص عليه، قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف، وبيت المال ونحو ذلك، قال وهذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإمام والحاكم، وأبين من هذا الناظر والوصي، إذا باع أو أجر أو زارع، ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفا ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع ; وكذلك الشريك والمضارب، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية، قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، ولا لوم عليه فيها، وتضمين مثل هذا فيه نظر.
وقال أبو حفص في المجموع: وإذا سمى له ثمنا فنقص منه، فنص الإمام أحمد في رواية منصور، إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباع بأقل، قال: البيع جائز وهو ضامن، قال أبو(7/298)
ص -294- ... العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن ; لأنهما يدعيان فساد العقد، وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص، انتهى من الاختيارات ملخصا.
وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال بعها بعشرة فباعها بزيادة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة ؟
فأجاب: لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، ولا يستحق شيئا من الزيادة.
وسئل: عمن يجبر رفاقته على الشراء من رجل، ليحصل له زيادة ؟
فأجاب: وأما من قال لصاحب السلعة: إن أسقطت عني من قيمة ما يشتري به رفقتي، أو جعلت لي جعلا أجبرتهم على الشراء منك، فهذا لا يحل، وإجبارهم لا يجوز ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة، فيستحق ما جرت به العادة للدلال.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا دلس الوكيل ثم تلف المبيع في يد المشتري ؟
فأجاب: إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلفت رجع الموكل بالتدليس على الوكيل في أرش التدليس.(7/299)
ص -295- ... وسئل: إذا باع الوكيل ثم ظهر به عيب، وأقر الوكيل وأنكر الموكل ؟
فأجاب: إن كان العيب مما يمكن حدوثه وأقر به الوكيل، وأنكر الموكل فقال بعض الأصحاب: يقبل إقراره على موكله بالعيب، لأنه أمر استحق به الرد، فيقبل إقراره على موكله ; وقال بعضهم: لا يقبل وهو اختيار الموفق، وبه قال أصحاب أبي حنيفة والشافعي.
وسئل: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها، ولا وارث له سواه فصدقه، هل يلزمه الدفع إليه ؟
فأجاب: إذا أقام البينة أنه وارثه ولا وارث له غيره لزمه الدفع، وفيها قول ثان، والأول أظهر.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: إذا اختلف الوكيل والموكل، من القول قوله ؟
فأجاب: إذا اختلف الوكيل والموكل، فالقول قول الوكيل.
وأجاب أيضا: والدلال لا يضمن إلا إذا فرط، ويقبل قوله في دعوى التلف بيمينه.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما كونه مشكلا عليك الوكيل والمضارب، إذا ادعيا رد المال، هل القول قولهما(7/300)
ص -296- ... أم قول المالك ؟ فالقول قول المالك على الراجح عند متأخري الحنابلة، وكذا الوكيل بجعل، والذي نفهم من كلامهم صوابه، ولا نعلم شيئا يرده من الكتاب والسنة، وذلك: أن الدليل دل على أن القول قول المنكِر بيمينه، والبينة على المدعي، كما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذه قاعدة عظيمة، وكلمة جامعة من جوامع الكلم التي اختص بها نبينا صلى الله عليه وسلم ومعلوم: أن الوكيل والمضارب قد أقرا بوصول المال لهما، ثم ادعيا وصوله إلى صاحبه، فإن أقرا بالواصل فلا كلام، وإن أنكرا فالقول قوله بيمينه ; لأن الأصل عدم الوصول حتى تقوم البينة بذلك، والوكيل بجعل من هذا الباب.
باب الشركة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجلين اشتركا بأموالهما، من عقار وعروض وأثمان وغيرها، هل هذه شركة صحيحة، أو فاسدة ؟
فأجاب: قال في الإنصاف: من شرط صحة الشركة أن يكون المالان معلومين، وإن اشتركا في مختلط بينهما شائع صح ; إن علما قدر ما لكل واحد منهما، ثم قال: ويشترط أن يعملا فيه أو أحدهما على الصحيح، لكن يشترط أن يكون له أكثر من ربح ماله، وهي شركة عنان على الصحيح من(7/301)
ص -297- ... المذهب. وقيل مضاربة ; فإن شرط له ربحا قدر ماله فهو إبضاع.
وأما الشركة في العقارونحوه، فلم أر في كلامهم تصريحا بجوازه، وقضية إطلاقهم الأموال، يقتضي جوازه في العروض والعقار، فإذا عرفا قدر ماليهما، واشتركا في العمل فيه، ثم فسخ أحدهما تقاسما الربح على قدر ماليتهما، ورجع العقار إلى مالكه الأول.
وأما المسألة التي أشكلت عليك، وهي: أن أهل بلدكم يجعلون للأجير الذي يسقي الزرع جزءا مشاعا، وأنك نهيتهم عن ذلك ; لأنك وقفت على كلام لبعض أهل العلم، في اشتراط معرفة الأجرة - وإن كانت مجهولة لم يصح- فاعلم أن الذي يظهر من كلام أهل العلم، أن مثل هذه المسألة لا بأس بها، ويكون ذلك من باب المشاركة، لا من باب الإجارة، كما إذا دفع أرضه لمن يزرعها بجزء مشاع من الزرع، أو نخله لمن يقوم عليه ويصلحه بجزء من ثمره، أو ثوبه إلى من يخيطه، أو غزلا إلى من ينسجه بجزء منه مشاع، فقد نصوا على أن مثل هذا جائز، وكذلك إذا دفع ثوبه إلى من يخيطه، أو غزلا إلى من ينسجه بجزء من ربحه، فإن هذا جائز.
قال في المغنى: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها له وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا(7/302)
ص -298- ... بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه، وهذه المسائل أبلغ في الجهالة والضرر من مسألتكم، فمسألتكم أولى بالجواز، والجهالة في مثل هذه المسائل مغتفرة، كما اغتفرت في المزارعة والمساقاة، التي ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوازها، وهي في الحقيقة أجرة للأرض، والله أعلم.
سئل الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ: عن أخوين اقتسما ما ورثاه نصفين من نخل وأرض، ودراهم ودواب وغيرها، ثم اشتركا في ذلك مشاعا بينهما، وقاما على النخل بالسقي والعمل، فأثمر الكبير ونما الصغير، وركزا وأخذا على ذلك سنين طويلة، ثم اختلفا هذه السنة في شركة العقار، وأقرا بالشركة فيما سواه ؟
فأجاب: الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين ; إما أن يقال: إنهما اشتركا بعد القسمة الأولى في النخل، والأرض تبعا لسائر المال، من الدواب والدراهم وعروض التجارة، فيطلق عليهما الاشتراك بعد الافتراق في جميع المال، وإن كانا قد أشهدا في ابتداء الشركة، أن العقار على القسمة الأولى، فشاهد الحال الواقع منهما، بتصرف كل واحد منهما في مال الآخر، بالغرس والقلع والسقي وبناء الجدار والبئر والدار، يدل على أنهما اشتركا في العقار تبعا لغيره.
وأما ما أشكل عليك أنهما لم يشهدا على الاشتراك في العقار، فشاهد الحال أعدل البينات وأبينها، ومعلوم بالضرورة(7/303)
ص -299- ... أنها لا تطيب نفس أحد من أهل هذا الزمان، أن يفعل ذلك في ملك غيره مجانا، والبينة ما بين الحق، ويدل على ذلك أن من تدبر أصول الشريعة، وجدها موافقة لذلك، فمن ذلك: أن الشارع صلى الله عليه وسلم جعل البينة في اللقطة أن يصف مدعيها عفاصها ووكائها فتدفع إليه إذا وافق الوصف، ومن ذلك الحكم بالاستفاضة في كثير من القضايا، ومن ذلك الحكم باللوث الظاهر في الدماء، وغير هذا كثير لمن تدبره، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من هذا كثيرا في الطرق الحكمية.
وأما قولك: هل يكون هذا في حكم الهبة المقبوضة ؟ كما يدل عليه قرائن الحال، فهذا بعيد لا سيما لمن عرف حال الشخص وشريكه، وشح كل واحد منهما بماله عن الآخر، فيبعد أن يظن فيه أنه عمل هذا العمل الكثير بالنفقة الكثيرة إلى المدة الطويلة، وأنه قصد بذلك الهبة، هذا لا يقع من أجود الناس فضلا عن مثل أهل هذه القضية، فلا يكاد يتطرق إلى ظن أن مثله يجود بمثل هذا، ويدل عليه تغير حاله، ومظنة افتتانه لما قيل له ذلك. الأصل الثاني: إن قيل بعدم الاشتراك في العقار، فيقال كل واحد مساقا ومساق لصاحبه، فتعطى هذه الشركة حكم المساقاة، وحكم المناصبة والمغارسة ; لأن هذه الشركة أقرب شيء لشركة المفاوضة، وقد ذكر الفقهاء ذلك في موضعه، وشاهد الحال يدل على الاشتراك في الجميع بالفعل، وإن لم يوجد بالقول ; لأن الشركة كالبيع والإجارة، تنعقد بكل ما عده(7/304)
ص -300- ... الناس شركة، من قول أو فعل من متعاقب ومتراخ.
قال صاحب الإقناع: إذا كان الغراس من العامل، فصاحب الأرض بالخيار بين قلعه ويضمن نقصه، وبين تركه في أرضه ويدفع إليه صاحب الأرض قيمته، كالمشتري إذا غرس في الأرض، ثم أخذها الشفيع، وإن اختار العامل قلعه فله ذلك، سواء بذل له القيمة أو لا، وإن اتفقا على إبقائه ودفع أجرة الأرض جاز، وقيل يصح كون الغراس من مساق ومناصب ; قلت: هو الصحيح وعليه العمل، انتهى كلامه ;
ولو تتبعنا ما يدل على صحة هذه الشركة، وعدم إبطالها، لوجدنا ما يدل على ذلك كثيرا، والذي أحب لك: أن مثل هذه المسألة إذا كان فيها إشكال، تجتهد فيها بالصلح، عن الخطر في القدوم على الفتيا في أمر ليس بصريح لك، فهو أسلم.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا اشتركا في جمع زرعيهما، يداسان معا، ويكون نصفين، ولأحدهما زيادة دراهم ؟
فأجاب: شرط زيادة الدراهم يبطل الشركة، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حكم ما يغرس أو ينبت من النخل ونحوه على ماء الشريك في المشاع، إذا أراد الشركاء القسمة ؟(7/305)
ص -301- ... فأجاب: أما ما غرسه الشريك في الأرض المشاع بغير إذن شريكه، فقد صرح الأصحاب بأن حكمه حكم غرس الغاصب، ونص على ذلك الإمام أحمد، فإنه سئل عمن غرس نخلا في أرض بينه وبين قوم مشاعا، قال إن كان بغير إذنهم قلع نخله; قال في الإنصاف: قلت وهذا مما لا يشك فيه; قالوا: وكذلك لو غرس نوى فصار شجرا، فحكمه حكم الغرس لا كالزرع، على الصحيح من المذهب.
وأما قول الشيخ رحمه الله: من زرع بلا إذن شريكه، والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم، ولربها نصيب، قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك، فالظاهر أن هذا في الزرع خاصة دون الغرس، ولجريان العادة بذلك.
وأما إذا نبت في الأرض المشاعة شجر بغير فعل صاحب الماء، وإنما نبت على مائه بغير فعل منه، فلم أر في كتب الأصحاب ذكرا لهذه المسألة بعينها، ورأيت جوابا للشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان النجدي، في هذه المسألة ما نصه: اعلم أن الغرس النابت في الأرض المؤجرة أو الموقوفة، لم نظفر فيه بنص، وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلباني أظنه غير محرر.
وأرسلنا من زمن طويل للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشافعي، المفتي بالأحساء، فيمن استأجر أرضا مدة طويلة، فنبت فيها غراس، الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل مستأجر، ما حكمه؟(7/306)
ص -302- ... فأجاب: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق أن النوى ملكه، وإن لم يتحق أنه ملكه، أو أعرض عنه، وهو ممن يصح إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإن نما بعمل مستأجر، هذا جوابه; ومن جواب محمد بن عثمان الشافعي: الودي النابت في الأرض، لمالكها لا للمستأجر، وإن حصل نموه بفعل المستأجر من سقيه وتعاهده، انتهى.
وقال في الشرح: وإن رهن أرضا فنبت فيها شجر فهو رهن، لأنه من نماء الأرض، سواء نبت بفعل الراهن أو بغيره، وكذا قال في المغني وغيره، فتعليلهم أن النابت من نماء الأرض ربما يلحظ منه شيء، والله أعلم. 1
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يصح قسم الدين في الذمم ؟
فأجاب: يصح قسم الدين في الذمم.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما قسمة الدين في الذمم، فالمسألة فيها روايتان: الأولى المنع، والثانية الجواز، وقال الشيخ بالجواز.
وسئل إذا أشركه أحدهما، فقال بعضهم له ثلث حصتهما، وقال بعضهم له ثلث حصته، فليس له إلا ثلث حصته، وليس على الشريك الثاني تبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويأتي أيضا: هذا الجواب وغيره في المساقاة.(7/307)
ص -303- ... فصل (المضاربة بالعروض والمغشوش)
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن المضاربة بالعروض، والمغشوش هل تصح؟
فأجاب: روي عن أحمد أن المضاربة لا تصح بالعروض، اختاره جماعة، ولم يذكروا على ذلك حجة شرعية نعلمها; وعن أحمد: أنه يجوز، وتجعل قيمة العروض وقت العقد رأس المال، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسئل عن المضاربة بالمتاع، فقال جائز، واختاره جماعة، وهو الصحيح، لأن القاعدة في المعاملات: أن لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، لقوله "وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها"
وأما المغشوش: فقد تقدم أن الصحيح جوازه بالعروض، وهي أبلغ من المغشوش، وقد أطلق الموفق في المقنع الوجهين، ولم يرجح واحدا منهما، ولكن الصحيح جواز ذلك لما تقدم، وما ذكر في السؤال من غش ذهب المعدن، فهذا غش لا قيمة له، فأين هذا من غش قيمته: أبلغ من قيمة الفضة الخالصة أو مثلها؟
وسئل: هل تصح المضاربة بالدين ؟
فأجاب: وأما جعل الدين مضاربة، فبعض العلماء يجوزه، والاحتياط أنه لا يضارب إلا بشيء حاضر.(7/308)
ص -304- ... وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: إذا جعل قيمة العروض رأس مال المضاربة ؟
فأجاب: يشترط في المضاربة، وشركة العنان: أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير، وهو المذهب، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنها تصح بالعروض; واختارها أبو بكر وأبو الخطاب، وصاحب الفائق وغيرهم،
قال في الإنصاف: قلت وهو الصواب، وعلى هذه الرواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد، كما جعلنا نصابها قيمتها، وسواء كانت مثلية أو غير مثلية.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عما يفعله بعض الناس يدفع إلى آخر سلعة، يقول قيمتها كذا وكذا، وهي مضاربة ؟
فأجاب: هذا لا يسمى بيعا، وإنما هو مضاربة بمسمى العروض، وذلك لا يجوز عند أكثر العلماء،
وجوزه طائفة منهم، لكن بشرط أن يجعل رأس المال قيمة العروض وقت العقد; وبعض من يفعل ذلك يجعل رأس المال أكثر من قيمتها، وذلك لا يجوز.
وسئل: إذا أخذ رجل من آخر مجيديات فضة مضاربة، واشترى بها عروضا، وظهر ربح هل يدفع ريالات؟
فأجاب: وأما مسألة المضاربة فإن طلب المالك من(7/309)
ص -305- ... العامل أن يرد رأس ماله، كما أخذه لزمه ذلك بطريق مباح; وأما إذا رضي رب المال بقبض الريالات الرائجة، فالذي أرى أن هذا جائز لا محذور فيه، لأنه عين ماله انقلب بالتجارة فيه من نوع إلى نوع آخر، لم يكن في ذمة العامل، بل رأس المال والمنضوض 1 ملك لرب المال، فإن كان قد ظهر ربح قوم، وأعطى العامل حصته من الربح من الناض، لا من رأس المال.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن الدراهم التي يباع فيها بنصف الربح إذا تلفت بموت المواشي أو ضياع؟
فأجاب: إذا كان الذي يبيع فيها ويشتري، يجتهد فيها مثل ما يجتهد لنفسه ولم يفرط، فليس عليه غرامة ولو تلفت.
وأجاب أيضا: وإذا أخذ من رجل بضاعة على أنه يسافر بها ثم بعد ذلك سافر بها وأخذت أو ضاعت بلا تفريط، فليس عليه غرامتها.
وسئل: عن رجل أعطى آخر خمسين زرا وضاربه والزر إذ ذاك بثمان، ونزل السعر، هل يرجعان إلى القيمة ذلك الوقت؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المنضوض: المصفى, وتنضيضه تصفيته من العروض, بجعله نقدا, والناض: الحاصل, يقال: ما نض بيده شيء, أي: ما حصل.(7/310)
ص -306- ... فأجاب: الذي رأيناه مذكورا في كتب الفقه، أنهما لا يرجعان إلى القيمة، وليس له إلا دراهمه التي دفعها إليه، وتغير السعر بالغلاء والرخص، يكون من الربح الذي يقتسمانه بينهما، لأن صاحب خمسين الحمر مثلا، إذا نقصت قيمتها عن يوم الدفع، يطالبه بالنقص ليجبره من الربح، فكذلك إذا زادت القيمة، طالبه المضارب بأن له بعض الزائد، كما لو دفع له عروضا بسعر يومها، ثم زادت أو نقصت، فمعلوم أن النقص يؤخذ من الربح، والنقص يكون بينهما.
وهذا: لا يشبه ما اختاره الشيخ تقي الدين، في مسألة الديون والمغصوب والصلح، وعوض الخلع، وما أشبه ذلك، يكون بقيمته يوم العقد، مع أن أكثر العلماء لا يوافقه في ذلك، لكن كلامه له وجه واضح; والحنابلة لم يذكروا الرجوع إلى القيمة في هذه المسائل، إلا إذا حرمها السلطان بالكلية، وأما إذا نقصت القيمة، كدانق يساوي عشرين زرا يوم العقد نقص النصف، وصار لا يساوي إلا عشرة، فليس له إلا الدراهم المعقود عليها، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف وغيره.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أخذ من رأس المال شيء أو خسر، ففسخ العامل، هل عليه أن يعمل فيه حتى يكمل رأس المال؟
فأجاب: ليس عليه أن يعمل فيه بعد فسخ المضاربة،(7/311)
ص -307- ... لكن نقل في القواعد الفقهية، عن ابن عقيل ما حاصله: أنه لا يجوز للمضارب الفسخ، حتى ينض رأس المال ويعلم به ربه، لئلا يتضرر بتعطل ماله عن الربح، وأن المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الربح، ولا يسقط به حق العامل، قال: وهو حسن جار على قواعد المذهب، في اعتبار المقاصد وسد الذرائع، ولهذا قلنا: إن المضارب إذا ضارب لآخر من غير علم الأول، وكان عليه في ذلك ضرر، ردّ حقه من الربح في شركة الأول، انتهى.
أقول مراده بقوله: حتى ينض رأس المال، يعني أنه إذا لم ينقص، أما إذا نقص فليس على المضارب إلا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال، لأن المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعد المضارب ولا تفريطه، فلا يضمنه.
وأجاب بعضهم: وأما قسمة العامل الذي يبيع في رأس المال من الربح، فلا أرى إلزامه إلا برضاه.
اختلاف المضارب ورب المال
سئل بعضهم: إذا دفع إنسان مالا مضاربة، فاشترطا لأحدهما ثلث الربح، وللآخر الثلثين، ثم اختلف العامل ورب المال فيمن له الثلث، ولا بينة لهما؟
فأجاب: قال في الشرح، إذا اختلفا فيما شرطا للعامل، ففيه روايتان، إحداهما: القول قول رب المال، نص عليه أحمد في رواية منصور، وسندي، وبه قال الثوري(7/312)
ص -308- ... وإسحاق وأبو ثور، وأصحاب الرأي وابن المنذر، لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل، والقول قول المنكر; والراوية الثانية: أن العامل إن ادعى أجرة المثل، وما يتعامل الناس به، فالقول قوله، لأن الظاهر صدقه، إن ادعى أكثر فالقول قول رب المال، فيما زاد على أجرة المثل، كالزوجين إذا اختلفا في الصداق.
وقال الشافعي: يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد، فيتحالفان كالمتبايعين، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "ولكن اليمين على المدعى عليه" 1 ولأنه اختلاف في المضاربة، فلم يتحالفا كسائر اختلافهما، والمتبايعان يرجعان إلى رءوس أموالهما، بخلاف ما نحن فيه.
باب المساقاة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: إذا دفع إنسان إلى آخر أرضه يغرسها، وشرطا بينهما مدة سنين... إلخ؟
فأجاب: الذي عليه كثير من العلماء، أن مثل هذا لا يصح، سواء سمي مساقاة، أو مزارعة، أم لا؟ والذي اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله: جواز ذلك، وهو الذي تقتضيه الأصول والقواعد في المساقاة والمزارعة، على النصف أو الثلث أو الربع، كما ثبتت السنة بذلك قي قصة خيبر.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وذكرت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363).(7/313)
ص -309- ... لك أن الأصل في العقود الصحة، ووجد مع الأصل ظاهر، وهو الكتب على العقد، فلا يسعنا نقول في الصحيح أنه فاسد، بل يتعين أن نذكر لك ما يظهر لنا; وأما ما ذكرت أن مستندك في القول بفسادها: أنهم جعلوا للعامل بعض الأرض، وهذا تفسد به المغارسة; فاعلم يا أخي: أنه ليس في الأصل الذي بين أيديهم ما يقتضي ذلك، ولو قدر أن الخصم ادعاه وثبتت به دعواه، فالمعتمد الذي عليه شيوخنا، القول بجوازه; وما علمت أن أحدا منهم قال بفساده، لا ابتداء ولا دواما، ودليلهم في ذلك: أن هذا عقد من العقود، وقد أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، والأصل في المعاملات الإباحة، ولنا في ذلك القول سلف من الأئمة.
قال في الاختيارات: ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه، وهو ظاهر مذهب أحمد، ثم قال: ومقتضى قول أبي حفص: أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض، كما جاز النسج بجزء من الغزل نفسه; وقال في الفروع: وظاهر نص الإمام أحمد جواز المساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه بجزء معلوم من الشجر والثمر كالمزارعة، واختاره أبو حفص، وصححه القاضي في التعليق، واختاره في الفائق، والشيخ تقي الدين رحمه الله.
قال في الإنصاف: لو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد وجها واحدا، قاله المصنف رحمه الله تعالى والشارح(7/314)
ص -310- ... والناظم وغيرهم، وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب صحته; قال في الفائق، قلت: وصحح المالكيون المغارسة في الأرض الملك لا الوقف، بشرط استحقاق العامل جزءا من الأرض، مع القسط من الشجر، انتهى، فإذا عرفت أن القول بصحة المغارسة أقوى، وأن عليه جمعا من المحققين وعليه الفتوى، وهذا على تقدير ثبوت هذه الدعوى، مع وجود شهود أصل العقد بخطهم وقت المعاملة والمعاقدة، وسلامة العقد ظاهرة، فكيف لا نقول بصحته، وهذا هو الذي أوجب المراجعة، وبالله التوفيق.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان عند رجل أرض بيضاء، وأراد آخر أن يغرسها بشجر من عنده هل يجوز؟
فأجاب: ذلك جائز، وأكثر العلماء لا يجيز ذلك، ولا يظهر لنا وجه المنع.
وسئل بعضهم: إذا غارس رجل رجلا في أرض، على أن يغرس فيها قدرا معلوما من النخل والنخل من العامل، وينفق عليه العامل حتى يثمر، ثم يقتسمان النخل والأرض، هل يصح ذلك؟ أم لا يصح إلا على أن الأرض له بها والنخل بينهما؟ أو تصح في الصورتين، كما أفتى به أبو العباس رحمه الله تعالى؟
فأجاب: قال في الشرح: لو دفع أرضه إلى رجل(7/315)
ص -311- ... يغرسها، على أن الشجر بينهما لم يجز، ويحتمل الجواز بناء على المزارعة، فإن الزارع يبذر في الأرض، فيكون بينه وبين صاحب الأرض، وهذا نظيره، فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما، فذلك فاسد وجها واحدا; وقال الشيخ قدس الله روحه: قياس المذهب صحته; وبه قال مالك والشافعي، وأبو يوسف ومحمد، ولا نعلم فيه مخالفا، انتهى; وكذا قال أبو محمد في المغني، وعلل بأنه شرط اشتراكهما في الأصل، ففسد كما لو دفع إليه الشجر والنخل، ليكون الأصل والثمر بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما، انتهى.
وقال في الإنصاف: واختار الشيخ جواز المساقاة على شجر يغرسه ويعمل عليه، بجزء معلوم من الشجر والثمر، كالمزارعة، وذكر أنه هو المذهب، قال: ولو كان مغروسا، ولو كان ناظر وقف، وأنه لا يجوز لناظر بعده بيع نصيب الوقف بلا حاجة، وأن للحاكم الحكم بلزومها، ومحل النّزاع فقط والحكم به من جهة عوض المثل، ولو لم يقم به بينة، لأنه الأصل، ويتوجه اعتبار بينة،
وقال في التوضيح: وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، بجزء معلوم من الثمر أو من الشجر أو منهما، وهي المغارسة والمناصبة صح، إن كان الغرس من رب الأرض، وقيل يصح كونه من مساق أو مناصب، وعليه العمل، انتهى.
وقال في الروض المربع: ولا يشترط في المزارعة(7/316)
ص -312- ... والمغارسة كون البذر والغراس من رب الأرض، فيجوز أن يخرج العامل في قول عمر، وابن مسعود وغيرهما; ونص عليه في رواية مهنا، وصححه في المغني والشرح، واختاره أبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وعليه عمل الناس; لأن الأصل المعمول عليه في المزارعة، قصة خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين، وظاهر المذهب اشتراطه، نص عليه في رواية الجماعة، واختاره عامة الأصحاب، وقدمه في التنقيح وتبعه المصنف في الإقناع وقطع به في المنتهى، انتهى; فقد علمت: أنه فاسد في الثانية بلا خلاف، وإنما الخلاف في الأولى، وأن العمل على جوازه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن تصبير الأرض التي غورس عليها قبل أن يغل الغرس ولو لم يذكرا مدة الصبرة؟
فأجاب: نعم يجوز ذلك وعليه الفتوى عند أهل نجد، وذكرا أن عمل الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ذلك، والجهالة تغتفر في مثل ذلك للحاجة، ويؤيده: ما اختاره الشيخ تقي الدين، من جواز إجارة الأرض، والمغارسة على الشجر.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا دفع أرضه لإنسان يغرسها، هل يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس؟ ولو لم تتم المدة؟(7/317)
ص -313- ... فأجاب: يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة، لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام العامل، بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد، وإذا تلف نصيب الغارس من النخل رفع يده عن الأرض، ليس له فيها حق، بل لو شرط في ابتداء العقد أن له شيئا من الأرض فسد العقد، بلا خلاف بين العلماء، والمشتري من مالك الأرض، إن كان إنما اشترى نصيبه من الغرس فهو صحيح، كما ذكرناه، وإن كان اشترى نصيبه من الغرس وجميع الأرض، فالذي أرى أنه لا يصح، لأنه لا يمكنه تسليم الأرض والحالة هذه.
وسئل: إذا قطع الغراس هل ترجع الأرض لأهلها؟ أو تكون في يد المغارس، وهل الحكم واحد إذا بقي فيها شيء، أو لم يبقَ فيها شيء من الغرس الأول؟ إذا كان فيه خيار وفسخ المشتري لما حدث قطع في النخل؟
فأجاب: إذا قطع الغراس، فالذي أرى أن الأرض ترجع إلى صاحبها، وليس للعامل إحداث غرس، إلا بعقد جديد بتراضيهما، وأما إذا بقي شيء من الغرس قليل أو كثير، ففيه إشكال، والذي أرى: أنه يشبه مسألة من اشترى أرضا، وغرس فيها، ثم أخذت بالشفعة، أن الشفيع يدفع قيمة الغراس، إن لم يختر صاحبه قلعه; وكذا إذا انقضت مدة الإجارة وغرسه باق، مع أن التالف في هذه الحادثة يقل ويكثر،
فيحتاج أن ينظر فيما لا ضرر فيه على صاحب الأرض(7/318)
ص -314- ... والغارس، والصلح جائز بين المسلمين، وأما إذا فسخ المشتري قبل قطع النخل صح الفسخ، فإن ثبت قطع شيء منه قبل الفسخ فعلى المشتري، لأن الملك للمشتري فضمانه عليه.
سؤال: ما الحكم فيما ينبت على ماء المساقي، أو المستأجر من الشجر؟ هل يكون لمالك الأرض؟ أو مالك المنفعة، أو يشتركان فيه؟ أفيدونا؟
أجاب الشيخ عبد الرحمن: ما نبت بغير فعل لا تعدي فيه، فلصاحب الأرض تملكه من صاحبه بقيمته، أو يقلعه ويضمن صاحب الأرض نقصه.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لم أر في كتب الأصحاب ذكرا لهذه المسألة بعينها، ورأيت جوابا للشيخ عبد الله بن ذهلان النجدي، في هذه المسألة: اعلم أن الغرس النابت في الأرض المؤجرة أو الموقوفة، لم نظفر فيه بنص، وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلباني، أظنه غير محرر.
وأرسلنا من زمن طويل للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشافعي، المفتي بالأحساء، فيمن استأجر أرضا مدة طويلة، فنبت فيها غراسٌ الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل مستأجر، ما حكمه؟
فأجاب: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه(7/319)
ص -315- ... نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق أن النوى ملكه; وإن لم يتحق أنه ملكه، أو أعرض عنه وهو ممن يصح إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإنما نما بعمل المستأجر، هذا جوابه.
ومن جواب لمحمد بن عثمان الشافعي: الودي النابت في الأرض لمالكها، لا للمستأجر، وإن حصل نموه بفعل المستأجر من سقيه ومعاهدته، انتهى; وقال في الشرح: وإن رهن أرضا فنبت فيها شجر فهو رهن، لأنه من نماء الرهن، سواء نبت بفعل الراهن أو غيره، فتعليلهم أن النابت من نماء الأرض، ربما يلحظ منه شيء صورة ما ظهر للفقير حسن، عن جواب هذا السؤال الذي تفيده قواعد المذهب، وتفهمه عبائر الأصحاب: أن هذا النابت ملك للمنمي له بعمله، كما لمحه الشيخ عبد الرحمن;
وقال في المستوعب: لو أعاره أرضا بيضاء، ليجعل فيها شوكا للدواب، فتناثر فيها حب أو نوى، فهو للمستعير، وللمعير إجباره على قلعه بدفع القيمة، لنص أحمد على ذلك في الغاصب، انتهى.
وأخبرني الثقة: أن العم الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، كان يفتي أن ما ظهر على ماء الشريك المساقي يكون له، دون شريكه الذي لا ماء له.
ثم رأيت في فتاوى ابن زياد، ما صورته: مسألة عن(7/320)
ص -316- ... رجل شرك من آخر أرضا، وبذرها بدخن وعطب مشترك بينهما وبعد أن حصل زرع الدخن، سقيت الأرض ونبت فيها زرع كثير، من الحب المتناثر من الدخن المشترك، بين صاحب الأرض والشريك، والحال أن الأرض تحت يديهما معا، فهل يشتركان في الزرع المذكور والحال ما ذكر؟ مع بقاء يد الشريك، وعدم إعراضه، أم لا؟
الجواب: نعم; يكون الزرع النابت من الحب المذكور، مشتركا بين الشريك، وبين صاحب الأرض، والحال أن يد الشريك باقية على الأرض، بتجديد العمل فيها، وحيث لم يجدد العمل، فالزرع النابت لمالك الأرض، ولا تحقق يد الشريك إلا بتجديد العمل، ذكر ذلك السيد العلامة بدر الدين حسين الأهدل، انتهى; والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهما الله: عن رجل غرس أرضا وقفا، وادعى تملكها، وأخذ مدة يستغلها، ثم بعد ذلك ثبتت وقفيتها، وطالبه أرباب الوقف، واستحقوها عليه، فما حكم المغارسة والحالة هذه؟ وهل يجبر على قسمتها وإفراز نصيب الوقف إذا كان ممتنعا؟ وما حكم الغلة مدة مقامها في يده؟
فأجاب: غرس الوقف لا يصح إلا إذا كان بإذن الناظر، وبغير إذن الناظر الخاص أو العام، يفسد، ويكون حكم هذا الغرس حكم الغصب، فيفعل فيه ما يفعل في غراس الغاصب، بقلع(7/321)
ص -317- ... الشجر وتسوية الحفر على الغارس، أو يأخذه الناظر بقيمته، وعليه أجرة الأرض مدة وضع يده عليها، واختار شيخ الإسلام في مثل هذه الصورة، أن تكون مثل المغارسة الصحيحة، على ما هو المعتاد في محله; وعلى هذا تكون الثمرة كلها للوقف الماضي منها والمستقبل، حتى يتم الغراس وتصح المقاسمة بتمام العمل.
وقال الشيخ حمد بن عتيق: أرض وقف باعها أولاد أولاد الموقف فغرس المشتري وبنى وأنفق، مع علمه بأن الأرض وقف، فلما كبر النخل وأثمر، نازع البائع واعتذر عن البيع بأعذار فاسدة، واعتذر المشتري بمثلها، والوقف مشتهر عند أهل البلد، والبائع والمشتري يعلمان ذلك، واجتهدت في البحث وشاورت من حولي من الإخوان، وكاتبت أهل المعرفة والدين، واتفق الرأي على الإصلاح بما هو أقرب إلى مقصود الواقف ومصلحة الأرض، وأقل ضررا على المشتري، والنخل مائة وخمسون، أصلحنا بنصفها للوقف، والثمن الذي أخذ البائع يسقط عن المشتري، إعانة له على سقي النخل، ورضيا، وذلك بحضور جماعة من المسلمين.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: قال في المغني والشرح: وإذا زارع رجلا، أو آجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء وقت الحصاد، نبت في تلك الأرض عاما آخر، فهو لصاحب الأرض، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، ومحمد بن الحارث، وقال الشافعي: هو لصاحب الحب
...
فهو كما لو بذره قصدا.
ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف، وزال ملكه عنه، لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه، ولهذا أبيح التقاطه، ولا نعلم خلافا في إباحة ما خلفه الحصادون، من سنبل وحب وغيرهما، فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له، وصار كالشيء التافه كالتمرة واللقمة ونحوهما.(7/322)
قلت: لمن سلم من التعصب والهوى، وطلب الحق والهدى، انظر كلام صاحب المغني، وابن أبي عمر في شرحيهما، وهما بعد زمن نجم الدين، ابن حمدان رحمه الله، صاحب الرعاية، ولم يذكرا إلا قول الشافعي، وبينا اختيارهما، ولم يلتفتا إلى تقييد ابن حمدان رحمه الله، ولا ذكره أحد عنه إلا المتأخرون، ولو كان هنا عناية بما استقر عليه الحال، في زمن الدعوة الإسلامية، وعلمائنا ومشايخنا رحمهم الله تعالى، لكان بهم قدوة، ولنا فيهم أسوة، خصوصا بعد ما فهموا من تقريرات شيخهم محمد رحمه الله، وقوله في رسائله: أكثر ما في الإقناع والمنتهى، مخالف لنص أحمد، فضلا عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك من عرفه، رادّا بهذا الكلام رحمه الله، على مثل هذا البليد المعاند الطاعن بالهوى.
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد
ونزيد ذلك إيضاحا وحجة، تفهم المقصود من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: وقد سئل عمن استأجر أرضا(7/323)
ص -319- ... مدة طويلة، ونبت فيها غراس، الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل المستأجر، ما حكمه؟
أجاب: بما صورته: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق النوى ملكه، وإن لم يتحقق أنه ملكه، أو أعرض عنه وهو ممن يصح إعراضه عنه، فهو ملك لصاحب الأرض، كذا ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل إذا رهن أرضا ونبت فيها شجر، فهو رهن، لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن، انتهى كلامه رحمه الله وقدس روحه.
وقال ابن مفلح، في الفروع، في الدار المؤجرة والأرض: إذا وجد بها ركازا، أو لقطة، فهي لصاحب الأرض أو الدار، وقيل هي للمستأجر، والرواية الثانية: هي لمالك الدار أو الأرض، كالمعدن وغيره، وهو الصحيح من المذهب، انتهى، هذا الذي عليه اعتمادنا، وندين الله به، وفيه كفاية، والقصد في ذلك بيان الحق لملتمسه; وأما صاحب الهوى والمناقضات، فقد علم هذا وتحققه:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوسا أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
ونقول لمن وجد غير هذا، من كلام الله وكلام رسوله أو كلام الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الدين أرشدنا.
...
إليه وبينه، فإن الحق ضالة المؤمن، والمعصوم من عصمه الله، وقد قيل:
عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا ساقاه على النخل بسهم معلوم، كالثلث أو الربع وشرط عليه زيادة وزان معلومة، أو دراهم معلومة، أو ساقاه على نخله بخمسمائة وزنة، أو أقل أو أكثر، أو جعل بدل التمر دراهم، وآجر النخل بدراهم معلومة؟
فأجاب: هذا النوع أجازه الشيخ تقي الدين، وهو المفتى به اليوم، والجمهور على المنع، ولا أعلم دليلا يدل على المنع من ذلك، بل ظاهر الحجة مع الشيخ، وليس هذا موضع ذكرها.(7/324)
وأما الجمع بين السهم المشاع، كالنصف والثلث، وبين وزان معلومة زائدة على ذلك، أو دراهم معلومة زائدة على ذلك، فهذا لا يجيزه الشيخ، بل حكى في بعض أجوبته: أنه لا يجوز باتفاق أهل العلم.
وأجاب أيضا: وأما المساقاة فلا يجوز للمالك أن يشترط طليعة نخلة أو نخلتين، أو يشترط شيئا زيادة على السهم الذي له، فإن فعل ذلك فسدت المساقاة، وسواء في ذلك النخل والعنب والخوخ، فإذا فسدت فالحكم واضح في كلام العلماء.(7/325)
ص -321- ... وأما قولك: هل تفسد المساقاة أم يفسد الشرط وحده؟ فالعمل عندهم على أن ذلك يفسد العقد، ويستأنفون عقداً آخر.
وأجاب أيضا: إذا استثنى صاحب النخل ثمرة نخلة أو أكثر خالصة له دون العامل، فالعقد فاسد، لكن سوغ بعض متأخري فقهاء نجد، فيما إذا كانت نخلة وقفا على بركة، مثل أن يشترط للعامل جزءا يسيرا من ثمرتها، وكذا لو شرط الواقف بأن هذه النخلة على البركة، أو الساقي لا يزال عنها ذلك، فلا يزال.
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، هل تصح المساقاة من كل نخلة عذق ؟ فأجاب: لا تصح المساقاة بعذق معين، أو ثمرة نخلة معينة، وأما بالسدس أو السبع أو أقل أو أكثر، من غير تعيين الشجر فيصح.
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد لبعض معاصريه: إذا صار لرجل نخلة أو نخلتان في نخل، ولا هن سبيل، وقال: ما أوجرهن ولا أسقيهن،
وتذكر أنك سألت الشيخ عفا الله عنه، وقال: ما يجبر مالكهن على إجارتهن، ولا سقيهن، فهو على ما ذكر رحمه الله، إلا أن فعل مالكهن مضرة، كدخوله على أهل النخل، أو سقيهن وتردده لذلك، لأن هذا يعرف أن ذلك يضر بصاحب النخل الذي هو فلاحه.(7/326)
ص -322- ... سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن:، عن قول صاحب الإنصاف، نقلا عن الفروع، في جواز إجارة الشجر مفردا، إلى آخره؟
فأجاب: وما ذكرت من عبارة الإنصاف، نقلا عن الفروع، فهذه المسألة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر العلماء، فجوز إجارة الشجر مفردا بآصع معلومة لمن يقوم عليها بالسقي، وتكون الثمرة له، أي: العامل، وليس لصاحب الشجر، إلا ما وقع عليه العقد من الأجرة، سواء كانت الأجرة من جنس ما يحمل به ذلك الشجر أو غيره، كما تجوز إجارة المزارع، بجامع أن كلا منهما، إنما قصد مغله، بخلاف بيع السنين، وهو: بيع ما أثمر هذا البستان من الثمر مثلا سنة، أو سنتين فأكثر من غير أن يقوم عليه، وإنما اشترى نماء سنين معدودة، فهذا لا يجوز بالإجماع، لأن الثمرة لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، ولو كانت موجودة، فكيف إذا كانت معدومة؟ وهذا هو الذي دلت السنة على المنع منه.
واما إجارة الشجر لمن يعمل عليه لأجل الثمرة، فليس بيعا للثمرة قبل وجودها، وإنما وقع العقد على الشجر، كالأرض المستأجرة، لكن لما ورد على طريقة الشيخ، أن هذا الشجر قد لا يحمل، وقد تنقص ثمرته عن العادة، فيكون الضرر على المستأجر، أجاب عن ذلك: بأن الثمرة لو لم توجد أو وجدت ثم تلفت قبل أوان جذاذها، فلا أجرة، ويرجع بها على المؤجر إن كان قد قبضها منه، لعدم حصول(7/327)
ص -323- ... المقصود بعقد الإجارة، وإن نقصت ثمرة الشجر عن العادة انفسخ، ويرجع بالأجرة وقدر عمله أو أرش النقص، كما إذا كانت العادة أنها تثمر بألف مثلا، فلم يحصل منها هذا العام إلا نصفه مثلا، رجع بنصف الأجرة أو ثلاثة أرباعها، وكذلك الجائحة، أي: كما توضع الجوائح عن مستأجر الأرض، أو الحوانيت ونحوها، إذا أصاب الزرع جائحة من الآفات، فإنه يوضع من الأجرة عن المستأجر بقدر ما نقص المغل بالجائحة نصفا كان، أو أقل أو أكثر.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله: وهل تصح على ثمرة موجودة؟
فأجاب: معناه ما يفعله الناس اليوم، إذا أبرت الثمرة وأراد ترك الفلاحة، ساقى على ثمرة نخله بالنصف أو الثلث، فيقوم الثاني مقام الأول في تصليح الثمرة وتنميتها، وهذه المسألة فيها خلاف، والمذهب عند المتأخرين جواز ذلك، إذا بقي من السقي والكلفة ما تنمو به الثمرة، وهو المفتى به اليوم.
وسئل: إذا فسدت لشرط... إلخ؟
فأجاب: أما إذا فسدت المساقاة أو المزارعة لشرط شرط، أوجب فسادها، ثم أسقط المشترط شرطه طلبا لصحة العقد، فإن العقد لا يعود صحيحا بعد فساده، وهذا ظاهر، وقد علل الفقهاء رحمهم الله تعالى بقاء عقود فاسدة على(7/328)
ص -324- ... فسادها، بأن العقد لا ينقلب صحيحا بعد فساده، والله أعلم.
وسئل: عن المساقاة والمزارعة، هل هي لازمة، أو جائزة ؟
فأجاب: وأما المساقاة والمزارعة إذا شرط رب الأرض أن لا يخرج منها سنين معلومة، فالظاهر لزوم ذلك الشرط، كما في الحديث "المسلمون على شروطهم" 1 وكثير من العلماء يقول: إنها لازمة على المساقي والمزارع، وإن لم يشرط رب الأرض لزومه.
وسئل: هل حكم المزارعة والإجارة واحد؟
فأجاب: المذهب التفريق; فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم; ومنهم من قال: إنها لازمة صاحب العقار، لا في حق المساقي.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما المساقاة: فأكثر العلماء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ تقي الدين; وعند شيخنا: أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل، واللازم هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضا الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضا صاحبه.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الصحيح اللزوم، وهو الذي عليه الفتوى من شيخنا شيخ الإسلام، ومن أخذ عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأقضية (3594).(7/329)
ص -325- ... لا يختلف فيه اثنان منهم، واستمر الأمر على ذلك إلى الآن، وهو الصواب، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول بعض متقدمي الأصحاب، لأنه عقد معاوضة، فكان لازما كالإجارة، فيفتقر إلى ضرب مدة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الجمهور على أنها عقد لازم، فتفتقر إلى ضرب مدة معلومة كالإجارة; والقول: بأنها عقد جائز من المفردات، واختار صاحب التبصرة قولا ثالثا، وهو: أنها لازمة من جهة المالك فقط، وقيد بعض المحققين القول بجواز عقدها بقيد حسن.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: المغارسة عقد لازم، وذكرها في باب المساقاة، من أجل المشاركات اللازمة.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن المزارعة بجزء من الثمرة، إذا قيل بأنها لازمة أو جائزة، فإذا زرعها العامل وشغل الأرض بزرعه، وفوت على صاحب الأرض أجرة أرضه، فهرب... إلخ؟
فأجاب: ظاهر كلامهم أنه يجب عليه قيمة مغل الأرض لصاحبها، على ما تشارطا عليه، فإذا كانت الأرض تغل بألف صاع مثلا، وزارعه عليها بثلثها، وشغل أرضه ثم هرب العامل، وجب عليه ثلث الألف، هذا على القول بأنها جائزة، وأما على القول بأنها لازمة، فإن الحاكم يستأجر من(7/330)
ص -326- ... ماله من يقوم على الزرع; وأما إذا خرج منها قبل العمل، وقيل إنها جائزة، فليس عليه شيء.
وأجاب أيضا: وإذا خرج العامل في المساقاة، وقد مضى بعض السنة، فإذا كان قبل ظهور الثمرة فلا شيء له، وإن كان بعد ظهور الثمرة، استؤجر من ماله من يقوم على النخل إن أمكن، وإلا جيء برجل أمين يقوم مقامه في تتميم العمل، والذي قرره ابن القيم وغيره: أن الإمام ونائبه في هذا سواء، وأن تصرف الغير في مال المالك، إذا كان لمصلحة ظاهرة، ينفذ تصرفه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }[سورة التوبة آية: 91] والله أعلم.
سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهم الله: عن سقي الحائل 1 إلى آخر السؤال؟
فأجاب: العامل يقوم بتمام العمل الذي يستحق به نصيبه من النماء، ويحصل به صلاح الثمرة، والعرف الجاري إنما هو بين العمال، مع أن العادة تغيرت على قولكم، فيلزم الفلاح تصليح جميع الثمرة، ولا يمكن من ترك نصيب المالك، لأن العقد عليه، وترك نصيب المالك ينافي مقصود المساقاة.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن قطع الشجرة المثمرة بغير إذن المالك ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الذي لم يحمل.(7/331)
ص -327- ... فأجاب: الشجرة المثمرة يحرم قطعها بغير إذن المالك; وعلى من قطع الضمان بالقيمة، وكذلك إذا قطع السعف من النخل، ففيه القيمة بحسب حال البلد.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إذا اختلف الفلاح وصاحب النخل في النقص ؟
فأجاب: وأما اختلاف صاحب النخل والفلاح، فالقول قول مدعي النقص مع يمينه.
سئل ابنه الشيخ عبد الله عن قوله: إن زرعت أرضي حبا، فهي بكذا كيلا مسمى أو شعيرا بكذا، أو قطنا بكذا، وزنا معلوما ؟
فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء: أن هذا لا بأس به إذا كان كيلا معلوما، أو وزنا معلوما، أو جزءا مشاعا معلوما، كالثلث أو الربع ونحو ذلك، والله أعلم.
وأما إذا كان لرجل أرض، ودفعها لرجل يحرثها ويزرعها هو وولده من بعده، بلا أجل معلوم، وجاء الإسلام والأرض في أيديهم، فإن مالك الأرض يرجع فيها، وما أحدث الزرَّاع من شجر أو بناء أو غرس فهو له، يأخذه بقيمته إن أراد.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا كان بين شريكين نخل أو زرع، وأراد أحدهما تركه للآخر، وعوضه كيلا معلوما، أو(7/332)
ص -328- ... جزءا مشاعا من الثمر؟
فأجاب: هذا مساقاة لشريكه ولا بأس بها، فإن كان بجزء مشاع فهي مساقاة، وإن كان بكيل معلوم فهي إجارة، وفيها خلاف، والمفتى به عندنا جوازها.
سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن ماء المغارسة ؟
فأجاب: ماء المغارسة أحق به المغارس من مالك الأصل، لأجل دفع الضرر عنه، إذا دخل عليه مالك الأصل أو غيره.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما ما فضل من الماء بعد سقي الغرس فهو لمالك الأصل، إذا كان محتاجا له، وأما كون صاحب الغرس يختص به، ويسقي بفضل مائه ملكا له غير الغرس، وصاحب الأصل يحرم ذلك مع حاجته إليه، فهذا لا يكون في قاعدة الشرع، والله أعلم.
فصل (حكم المزارعة)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن جواز المزارعة ؟
فأجاب: اختلف العلماء في جواز المزارعة، فأجازها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وكرهها(7/333)
ص -329- ... أبو حنيفة والنخعي، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل، ومنعها في الأرض البيضاء، والحجة مع الجمهور، هذا إذا كان العقد على مزارعة، وهي العقد على أرض ببعض ما يخرج منها، كثلث وربع ونحو ذلك، وأما إذا كان العقد عليها إجارة لا مزارعة، فإن آجرها بدراهم معلومة فهذا جائز، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم: على أن كري الأرض وقتا معلوما جائز، بالذهب والفضة. وأما إجارة الأرض بالطعام، فينقسم ثلاثة أقسام;
أحدها. أنه يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها، فيجوز نص عليه أحمد
الثاني. أن يؤجرها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، كإجارتها بقفزان حنطة من زرعها، ففيه روايتان
إحداهما. المنع، وهو مذهب مالك
والثانية. الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي المذهب.
القسم الثالث. إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، فالمنصوص عن أحمد جواز ذلك، وهو الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الأصحاب، وقد نص أحمد فيمن قال آجرتك هذه الأرض، بثلث ما يخرج منها: أنه يصح; قال بعضهم: وهذه مزارعة بلفظ الإجارة. وقال بعضهم بل هذه إجارة، والإجارة تصح بجزء معلوم مشاع، مما يخرج من الأرض المؤجرة، كما نص عليه أحمد; قال الشيخ تقي الدين: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهو ظاهر المذهب، وقول الجمهور.(7/334)
ص -330- ... والقول الثاني: أنه لا يجوز إجارتها بجزء مشاع منها، لأنها إجارة بعوض مجهول، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، واختاره الموفق في المغني; قال في الشرح: وهو الصحيح، انتهى; وبما فصّلناه يتبين لك جواب ما سألت عنه، إن شاء الله تعالى.
وأما قولك في المزارعة: إذا كان له سهم كالربع ونحوه، وشرط زيادة عشرة آصع، أو زيادة دراهم، هل حكمها حكم المساقاة؟ فنقول: نعم، متى اشترط في المساقاة والمزارعة، ما يعود بجهالة نصيب كل منهما، أو اشترط أحدهما نصيبا مجهولا، أو اشترط مع نصيبه المعلوم دراهم أو آصعا زائدة على الربع ونحوه، فهذا كله يفسد العقد، لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه.
ومعنى قوله: لو صح فيما تقدم إجارة، أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه.
فهذه المسألة ذكرها صاحب الإنصاف، عقب المسألة المتقدمة، وهي إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم، كنصف وثلث، وذكر الخلاف بين الأصحاب، هل هذه مزارعة بلفظ الإجارة، أم هي إجارة؟ وصحح أنها إجارة وأنها جائزة، ثم قال: فوائد، الأولى: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة، فأجرة المثل.(7/335)
ص -331- ... وأما المخابرة فاختلف الفقهاء في تفسيرها، فمنهم من فسرها بما جاء في سنن أبي داود، عن زيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع" 1 ومنهم من فسر المخابرة المنهي عنها، بما في حديث رافع، قال: كنا من أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهى عن ذلك; فأما بالذهب والورق فلم ننه، متفق عليه، فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس، وهذا الذي فسر به المخابرة في حديث رافع، لا يختلف في فساده، وهذا التفسير هو الراجح، في تفسير المخابرة المنهي عنها.
وأجاب أيضا: أما الفرق بين المحاقلة، والمخابرة، فالمحاقلة بيع الحب المشتد في سنبله، بحب من جنسه، فإذا بيع هذا الزرع الذي قد اشتد حبه، بحب من جنس الحب الذي في الزرع، فهذه هي المحاقلة المنهي عنها، لأن الجهل بالتساوي، كالعلم بالتفاضل.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما نهيه عن المخابرة، ففسر بأن يدفع إليه أرضه يزرعها بالربع أو الثلث ونحوهما، وفسر بأن يزارعه على أرض بجزء معلوم كالربع ونحوه، ويشترط زرع بقعة بعينها، أو يشترط زيادة آصع معلومة على الجزء المسمى ونحو ذلك، وفي المساقاة: أن يساقيه على نخله بالربع ونحوه، ويشترط زيادة نخلة معينة أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3407).(7/336)
ص -332- ... غير معينة يختارها كما يفعله كثير، وهذا حرام عند العلماء.
وأجاب أيضا: وما أشكل عليكم من عبارة المختصر في المزارعة حيث قال: وتصح إجارة أرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها، وهذا إذا وقع العقد بلفظ الإجارة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الأرض لزرعها مدة كذا، بنصف الخارج منها أو ربعه ونحو ذلك، ويكون ذلك إجارة حقيقة لازمة، لا مزارعة جائزة، فيشترط لها شروط الإجارة، من تعيين المدة وغيره.
وقد نص: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، في رواية جماعة من أصحابه، فيمن قال: آجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها أنه يصح، فقال أبو الخطاب: ومن تبعه هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فمعنى قوله: آجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أي: زارعتك بثلث، عبر عن المزارعة بالإجارة على سبيل المجاز، وهذا على الرواية التي لا يشترط فيها كون البذر من رب الأرض.
وقال أكثر الأصحاب، عن نص أحمد المتقدم هي إجارة، لأنها مذكورة بلفظها، فتكون إجارة حقيقة، وتصح ببعض الخارج من الأرض كما تصح بالدراهم، قال في الإنصاف - بعد حكاية نص أحمد - اختار المصنف وأبو الخطاب، وابن عقيل أن هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فعلى هذا يكون ذلك على قولنا: لا يشترط كون البذر من رب(7/337)
ص -333- ... الأرض، كما هو مختار المصنف وجماعة، قال والصحيح من المذهب: أن هذه إجارة، وأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المؤجرة، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهذا ظاهر المذهب وقول الجمهور، إلى أن قال صاحب الإنصاف: وعنه لا تصح الإجارة بجزء مما يخرج من المأجور، اختاره أبو الخطاب والمصنف، قال الشارح: وهو الصحيح، قال: فعلى المذهب يشترط لها شروط الإجارة من تعيين المدة وغيره، انتهى ملخصا. فتبين: أن الصحيح من المذهب، صحة إجارة الأرض للزرع بجزء معلوم مشاع مما يخرج منها، خلافا لأبي الخطاب والموفق والشارح، وهذا معنى قوله في شرح الزاد: تصح إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، فتكون إجارة حقيقة، يثبت لها حكمها من اللزوم وغيره، والمذهب أيضا: صحة المزارعة بلفظ الإجارة، وهو مراد شارح الزاد، بقوله: تصح مساقاة بلفظ إجارة، وتكون مزارعة حقيقة لها حكمها.
وقولهم: فإن لم تزرع، سواء قلنا إنها إجارة أو مزارعة، نظر إلى معدل المغل، أي: المغل الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمى فيه، فإذا قيل(7/338)
ص -334- ... لو زرعت حصل من زرعها مائة صاع، والعقد وقع على نصف الخارج منها، فيجب لصاحبه خمسون صاعا.
وسئل: عن زرع الأرض المغصوبة هل يكون عيشها مكروها؟ وعن الشراء منه؟
فأجاب: وأما زرع الأرض المغصوبة فما علمت فيه حكما واضحا، والأولى التنَزّه عنه، ولا أحب المعاملة فيه.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا احتاج العامل إلى جعل حظيرة على زرعه، تمنع الرياح عن مضرة الزرع، ومنعه المالك معللا بأن الحظيرة تجمع التراب؟
فأجاب: الأقرب في مثل هذا، أن العامل لا يمنع عن فعل ذلك، لأن فيه منفعة مقصودة، ولكن يلزمه إزالة الحظيرة، وقلع ما اجتمع فيها من التراب الذي ألقته الريح، فتحصل المصلحة للعامل من غير ضرر على المالك.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أرض سبل في ملك إنسان... إلخ؟
فأجاب: إذا طلبت أرض السبل التي في ملك زيد، بإجارة معلومة أو سهم، فزيد أحق بها بما طلبت به.
الضرائب والمكوس ونوائب السلطان
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الضرائب التي تؤخذ من أهل البلد... إلخ؟ فأجاب: الأحسن فيها أن يجعل ذلك على قدر المال(7/339)
ص -335- ... من عقار وغيره، وتقسط النائبة على قدر الأموال، كما هو المعمول به في بلدان المسلمين.
وقال أيضا: هو وإخوته، الشيخ حسن وعلي وإبراهيم: ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء الذين لم يجعل الله عليهم شيئا.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهنا مسألة مما يتعلق بالعدل في حقوق الخلق، وهي: أن النوائب التي يضعها الأمراء والنظراء، ربما يقع فيها الجور وعدم المساواة، فمن ذلك تنويب المعسر الذي لا يقدر على وفاء جميع ما عليه من الدين، لكون جميع ماله لا يقابل دينه، فهذا لا يجوز أخذ النائبة منه، وقد بلغني أن الشيخ محمد رحمه الله: أفتى أناسا من أهل سدير وغيرهم، أن هذه النوائب توضع بالقسط على الناتج، هذا إذا كانت لمصلحة الدين كالجهاد خاصة، فتوضع بالعدل على الناتج، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[سورة النساء آية: 58] الآية.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: أشرفت على خط الوالد الشيخ رحمه الله، نقل في خطه فتوى شيخنا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، قال الوالد فيه: لا يخفاكم أن شيخنا محمدا، أفتى أهل سدير، بأن نائبة الجهاد تصير على الناتج، وكتبناها لإخوانكم من أهل البلدان، أنها لا(7/340)
ص -336- ... تخص صاحب الملك في نصيبه، كذا رأيت وكتبت، ونقلت هذه العبارة لحاجة الناس إليها، خصوصا هذه الأيام، والعدل من أوجب الواجبات حتى في النوائب، كما أفتى به شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في النوائب السلطانية، فنظراء البلد يجب عليهم النظر في هذا والتسوية بحسب الثمرة، وبحسب الجدة والتجارة، وقد ذكر سبحانه الجهاد بالمال في كتابه، وقدمه على الجهاد بالنفس في مواضع من القرآن، وإذا ترك الناس هذا مع الحاجة إليه، فقد هدموا ركنا عظيما من أركان الإسلام.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، مقام العدل والإنصاف: أن الجهاد على الغني، وأما النوائب التي ترد البلاد جميعها تكون بينهم بالسوية متجرهم وفلاحهم، والفقير العاجز الذي ليس له كسب، ليس له راحم إلا الله ثم الولاية، فلا يدخل في أوامرهم.
وأجاب أيضا: في رسالته للإمام عبد الرحمن آل فيصل: حضر عندي أهل حريملاء، وأمرهم ما يخفاك، وأهل نجد ليست نوائبهم حادثة، وبينت لهم: أن مقام العدل والإنصاف بينهم، أن الجهاد على الغني، وأما النوائب التي ترد البلاد جميعها تكون بينهم بالسوية، متسببهم، وحرّاثهم;
وكتب لهم الإمام: أن هذا كتاب الشيخ، وتعملون على ما فيه، وإن كان بعض المتسببة في السابق لا يحملون شيئا، فالموجب له أن الفلاليح بالسابق، عندهم ثمار كثيرة والوارد(7/341)
ص -337- ... قليل، والأمور اليوم كلها اختلفت، الكدّاد ما عنده محصول، والواردات كثرت، والولاية فيها بالعدل كما ذكر الشيخ.
وقال الشيخ عبد الله بن فيصل: ما ذكر الشيخ فيه كفاية، ومقنع لمن يريد العدل والإنصاف.
وكتب عليه الشيخ محمد بن عبد اللطيف ما نصه: ما أفتى به الأخ الشيخ عبد الله هو الصواب الذي تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة، وهو العدل والإنصاف، وما أفتى به هو الذي أفتى به إمام الدعوة الإسلامية: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وحفيده الوالد عبد الرحمن، والشيخ الوالد عبد اللطيف رحمهم الله، أفتوا: بأن نوائب الجهاد على الأغنياء، والفقير ليس عليه شيء منها، والنوائب تكون على الناتج، من ثمرة وعقار، ودواب، ونقود، كل تجب عليه بحسب قدرته واستطاعته، هذه نوائب الجهاد، وأما النوائب التي غير الجهاد فهي على الجميع، من فقير وغني، على قدر طاقتهم، فيجب على نظراء البلد تقوى الله، وتحري العدل، وأن لا يحملوا من لا يطيق شيئا من النوائب.
وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن علي: ذكر العلماء رحمهم الله، أن ما طلب من قرية ونحوها من الضرائب السلطانية، يكون على قدر الأموال; وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، وعلى العقار على ربه، وإن وضعت مطلقا، فالعادة، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإن وضعت(7/342)
ص -338- ... على الثمرة فعلى ربها، من مالك وعامل على قدر حصصهم، ويستوي نخيل القرية المخروص منها وغير المخروص، إذا كان به ثمرة.
أجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: الكلف السلطانية تتبع ما وضعت عليه، فإن كانت على الثمار فعليها، وإن كانت على الأملاك فكذلك، وإن كانت على الأموال فكذلك، وإذا وضعت وجبت فيها التسوية، لئلا يتكرر الظلم على الضعيف، ومن قام فيها بنية العدل فكالمجاهد في سبيل الله، ذكره شيخ الإسلام.
والنخيل التي ذكرت: حكمها حكم نخيل الجماعة، ذكرت في الخرص أو أسقطت، وإن كان النخل للأمير فكل أهل بلد وعادتهم، فإن كان نخل الأمير لا ينوب عندكم، مثل أمراء بعض البلدان فلا ينوب، وإلا حكمه حكم غيره.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن جعل نظراء فيما ينوب البلد؟
فأجاب: وأما كون العشيرة يجعلون اثنين أو ثلاثة يواسون عليهم ما ينوبهم للضيف والجهاد، فهذا سيرة المسلمين، يلزم الأمير يقدمهم ولا يقدم إلا من أهل الأمانة، وأما إذا أجمع أهل بلد على أن يجمعوا طعاما عند رجل فيما ينوبهم من جهاد أو ضيف أو دية قتيل، المسمى العشر في بلادكم، فهذا لا بأس به.(7/343)
ص -339- ... سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل على مال اليتيم شيء من النوائب ؟
فأجاب: وأما الأيتام فلا يحملون مع أهل البلد في الذي يذكر، إلا إن كان في ترك الجهاد على أهل البلاد خطر.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الأيتام الذين لهم أموال فليس عليهم من النوائب شيء، مثل الضيف وأشباه ذلك، ولا شيء عليهم إلا أن يأتي البلاد كفار يقتلون المسلمين، فهم يدخلون مع الجماعة في النائبة.
وأجاب أيضا: وأما اليتيم فليس عليه شيء من النوائب سوى الزكاة، وكذلك المرأة.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: من كان تحت يده عقار للوقف، وطلب منه نائبة للترك وغيرهم، فلا يرجع على الوقف بشيء من النوائب.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي، وأما النخل المسبل فإن كان على معين فعليه نائبة، وإن كان على غير معين، مثل سراج وصوّام وأضحية فلا يلحقه شيء من النوائب، انتهى.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الذي ينْزل به ضيف من الناس النائين عن البلد، فيما يحاسب به مما ينوب البلد من ضيف، فإن كان ما يخصه من قرى الضيف قائما به، فهو(7/344)
ص -340- ... الذي عليه، ولا ينوب ولا يحسب له ما أنفق هذا مقتضى العدل.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: من قام بما يجب عليه للضيف الذي يختص به، سقط عنه ما يوضع على البلد من جهة الضيف، إذا كان الخارج منه للضيف قدر ما يستحقه، لوجوب العدل الذي أمر الله تعالى به.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا وضع نائب الإمام على جماعته النائبة وكان بعضهم غائبا، وأخذ الأمير من رجل دراهم، وجعلها سلما في ثمر في ذمة الغائب، هل تلزمه؟
فأجاب: إذا ترافعا فالذي يظهر لي، أن هذا السلم لا يلزم الغائب، لأن الغائب معذور، وطريق الحيلة: أن يقترض عليه أو يقرضه الأمير بنفسه، فإذا قدم طالبه بما لزمه من النائبة; وأما قياسكم على صاحب الدين، إذا امتنع من وفاء دينه، وباع الحاكم لوفاء دينه، فقياس غير صحيح، وذلك أن الحاكم له تسلط على بيع مال الممتنع من وفاء دينه، إذ لا طريق للوفاء إلا بذلك، وأما هذا الغائب فلم يمتنع، بل لو كان الذي عليه الدين غائبا، لم يكن للحاكم بيع ماله.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن أخذ نائب البلد الرءوس مما ذبح فيها ؟
فأجاب: أما أخذ النائب الرءوس، فهذا لا يجوز إلا إن طابت نفوسهم، من غير إكراه ولا إلزام.(7/345)
ص -341- ... باب الإجارة
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، إذا آجر إنسان أرضه لمن يزرعها قطنا وشرط عليه أن الأجرة له في السنة الأولى، فإذا خرج عنها، فالشجر والثمر لربها عن أجرة أرضه؟
فأجاب: الظاهر أن مثل هذا لا يجوزه الفقهاء، لما فيه من الغرر، وإنما جوزوا الإجارة بشيء معلوم.
وسئل: إذا استأجر رجلا ليعمل، وشرط عليه مع ذلك أن يلقح نخله، أو يبذر أرضه أو يقلبها أو يبذر فيها علفا، وشيئا من آلة الحرث من عنده، أو غير ذلك؟
فأجاب: اعلم أن الذي عليه الفتوى أن الإجارة جائزة على المنفعة، إذا كانت المنفعة معلومة، قلت، أو كثرت، وما ذكره السائل كله من المنافع المعلومة عند المؤجر والمستأجر.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: عن إجارة الإنسان نفسه ودابته، بجزء مشاع من الثمرة، قبل ظهورها أو بدو صلاحها؟(7/346)
ص -342- ... فأجاب: اعلم أن الثمرة لا يصح بيعها قبل بدو صلاحها، ولا تجعل أجرة لعمل، لأن جعلها أجرة بيع لها، وأما إن ساقاه على الثمرة بجزء منها، فذلك صحيح قبل ظهورها وبعده.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن استئجار الرجل على تأبير نخله، كل نخلة بعذق؟
فأجاب: هذا لا يصح لأن فيه غررا، وإن كان الرجل قد أبر النخل، فأرى فيه أجرة المثل.
وأجاب الشيخ جمعان بن ناصر: كتبنا لأولاد الشيخ، فكتب لنا عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر، وذكر لنا عبد الله بن الشيخ كلاما لبعض أهل العلم، قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط، ليفصله قمصانا ليبيعها له وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا، بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه، وهذا يقاس عليه العمل المعروف لأجل الحاجة الداعية وهذه مشاركة لا إجارة وأما مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، فلم يجوزوا ذلك، نقله لنا حمد بن ناصر من كتاب المغني.
والإمام أحمد وكثير من أصحابه: جوزوا ذلك وجعلوه من باب المشاركة، وأما من جعله من باب الإجارة، فهو يمنع ذلك كله، ولكن تركنا تعرضهم لأجل الحاجة والضرورة إلى(7/347)
ص -343- ... ذلك، لكن بشرط أن لا يجعل للعامل إلا جزء مشاع من الثمرة يكثر أو يقل، ولا يجعل له زيادة على ذلك لا نخلة ولا عذق، فإن ذلك فاسد يفسد العمل، ومن جعل هذا في إجارته فأدبوه، ولا تجعلوا له ولا تعطوه شرطه المشروط، إذا كان كما وصفنا، بل يتفاسخون ويعطى قدر أجرة مدته التي قد عمل، وإلا يستأجره بأجرة جديدة بعمل صحيح، بجزء مشاع أو جزء أو بعض جزء، أو دراهم معدودة بلا شرك، أو كيل مسمى بلا شرك في الثمرة انتهى.
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: يذكر لنا أنكم تعاملون في كراء الأرض بحب معلوم، وتشترطون على الزارع جزءا من التبن، وهذه إجارة يشترط فيها أن تكون الأجرة معلومة، وشرط التبن شيء مجهول تفسد به الإجارة، وطريق السلامة في هذا: أن تزيدوا في الأجرة شيئا من الحب معلوما، وتتركوا اشتراط التبن.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: تصح إجارة الأرض بطعام معلوم من غير الخارج منها عند الأكثر، وكذا بالتبن مع الطعام، بشرط أن يكون معلوما بما يعرف به قدره، وكذا يجوز إن كان بسهم من تبنها كالمزارعة، ولأن التبن من العروض.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر: ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر، يسقي عليها زرعا بجزء من الثمرة سواء(7/348)
ص -344- ... كانت مدة السقي معلومة أو مجهولة، مثل إلى أن تهزل أو تحفى، هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها؟ أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذا لم توقت؟
فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء، ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة; فمن ذلك أنهم ذكروا: أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة، ومعرفة قدر المدة; قال في المغني: يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما، لا نعلم في ذلك خلافا، انتهى، ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها، أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من مسائل المشاركات؟
فإن قلنا: إنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة، على مدة معلومة، ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها، كثلث أو ربع، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وعللوه بأن العوض مجهول، فلا تصح الإجارة بعوض مجهول; وأجازه الإمام أحمد، فمن أصحابه من قال هو إجارة، ومنهم من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة; قال في الإنصاف: والصحيح من المذهب، أن هذا إجارة، وأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض الموجودة، وهي من مفردات المذهب، انتهى.(7/349)
ص -345- ... قال في المغني: إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب; واختار أبو الخطاب أنها لا تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو الصحيح إن شاء الله، لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول، فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى; ولأنه لا نص في جوازها، ولا يمكن قياسها على المنصوص، فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك، ولا نعلم في تجويزها نصا; وفي النصوص: جواز إجارة ذلك بذهب أو فضة أو شيء معلوم، فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة، انتهى.
وقال في المغني أيضا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد فهو بينهما، قال أكره ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفا، وذلك لأن العوض معدوم مجهول، ولا يدري أيوجد أم لا، والأصل عدمه، انتهى.
وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسئول عنها، بمسائل الشركة، وقلنا هي بها أشبه، جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها، وأنا أذكر لك بعض ما ذكره العلماء في هذا الباب، قال في المغني: وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين، أو أثلاثا، أو كيفما(7/350)
ص -346- ... شرطا صح، نص عليه في رواية الأثرم، ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي; وقال الشافعي وأبو ثور، وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا تصح والربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله.
ولنا: أنها عين نمت بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة، أو الأرض في المزارعة، وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر; وهذا يدل على أنه صار في مثل هذا إلى الجواز، لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا المضاربة ولا الإجارة; ونقل أبو داود عن أحمد، فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة، أرجو أن لا يكون به بأس، ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز.
والوجه فيما ذكرناه في مسألة الدابة، وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصا وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه، ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك; وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع،
وسئل عن الرجل: يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين قال: أكرهه(7/351)
ص -347- ... لأن هذا شيء لا يعرف، الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا، لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر" 1 قيل لأبي عبد الله: فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما؟ قال: فليجعل له ثلث وعشر ثلث، ونصف عشر، وما أشبهه، انتهى ملخصا.
وقد نص أحمد أيضا: على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له ويقول: ما زاد فهو لك ; قال في الإنصاف: ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل عليها بجزء من الأجرة، أو ثوبا يخيطه أو غزلا ينسجه، بجزء من ربحه جاز، نص عليه، وهو المذهب، جزم به ناظم المفردات وهو منها، وقال في الحاوي الصغير: ومن استأجر من يجذ نخله أو يحصد زرعه، بجزء مشاع منه جاز، نص عليه في رواية مهنا; وعنه: لا يجوز، وللعامل أجرة مثله; ونقل مهنا في الحصاد هو أحب إلي من المقاطعة، وعنه: له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه، اختاره الشيخ تقي الدين; والمذهب: لا لحصول نمائه من غير عمله، انتهى ملخصا.
وقال في المغني: وإن اشترك ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أنّ ما زرق اللهب بينهم، فعملوا فهذا عقد فاسد، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، فعلى هذا: يكون الزرع لصاحب البذر، لأنه نما ماله، ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما، انتهى;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإجارة (2286) والمزارعة (2328 ,2329 ,2331) والشركة (2499) والمغازي (4248) , ومسلم: المساقاة (1551) , والترمذي: الأحكام (1383) , والنسائي: الأيمان والنذور (3929 ,3930) , وأبو داود: البيوع (3408 ,3409) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/157) , والدارمي: البيوع (2614).(7/352)
ص -348- ... وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة، من أحدهم دابة، ومن الآخر راوية، ومن الآخر العمل، على أن ما رزق الله بينهم، صح في قياس قول أحمد، فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، على أن لهم الأجرة على الصحة، وهذا مثله، وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان، ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل، ومن آخر العمل، على أن يطحنوا بذلك، فما رزق الله بينهم، صح وكان بينهم على ما شرطوه; وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعا، وهو ظاهر قول الشافعي، انتهى; ومن تأمل ما نقلناه: تبين له حكم المسألة، والله أعلم.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عما يأخذ الجزار من الذبيحة إذا ذبحها إذا كان له عادة يأخذها معروفة، هل هو جائز، والأجنبي قد يجهله إلخ؟
فأجاب: ما يأخذ الجزار من الذبيحة أجرة له فهذا إن كان عرفا جاريا في البلد، ولا جهالة فيه بل شيء معروف، فهذا لا بأس به، وإن لم يشترطه وقت الذبح، لأن من استأجر على شيء ولم يبين، انصرف إلى أجرة المثل.
سئل بعضهم: عن جماعة آجروا رجلا، على خدمة ضيفهم بعذق من كل نخل ؟
فأجاب: هذه إجارة مجهولة، والشارع نهى عن الضرر والجهالة، وما لا يصح بيعه لا يصح أن يجعل أجرة.(7/353)
ص -349- ... فصل
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن استئجار الدابة لأجل لبنها ؟
فأجاب: استئجار الدابة لأخذ لبنها جائز.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: من استأجر الغنم مدة معلومة، بأجرة معلومة، فعند الأصحاب لا يجوز لأخذ لبنها، وعند الشيخ تقي الدين ومتابعيه: أنه لا بأس بذلك، وذلك هو الذي نرى، والله أعلم. والذي أرضع من شاته سخلة له، قدر لبن الشاة لو تؤجر مدة إرضاعه لها، يرجع في ذلك إلى المثل إن نوى الرجوع.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: هل تجوز إجارة الأرض والشجر لحملها ؟
فأجاب: لا تجوز إجارة الأرض والشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعا وجوزه ابن عقيل تبعا للأرض، والصحيح الأول إن شاء الله تعال(7/354)
ص -350- ... سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن أخذ الأجرة على من أراد أن يعلى فرسه بحصان غيره ؟
فأجاب: إن ذلك لا يجوز ولا يصح، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا استأجر أرضا ثم آجرها غيره ؟
فأجاب: إذا استأجرها وآجرها غيره، فالظاهر الصحة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: المشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغني: يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين، ومجاهد وعكرمة، والنخعي والشعبي، والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي; وأما إجارتها قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجر، في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن وقف تعطل وبيع نصفه لإصلاح النصف بمائة أحمر واستؤجر بمائة الأحمر من يسقي النصف الآخر عشر سنين فمات الذي استؤجر لما مضى سنتان وأراد ورثته أن يتموا باقي المدة وأراد المستأجر الفسخ؟(7/355)
ص -351- ... فأجاب: الإجارة صحيحة ثابتة لا تنفسخ بموت المستأجر، فإذا تمم الورثة ما على ميتهم استحقوا ما استحقه، وليس للمؤجر الفسخ; ودليل هذا: أن القول بانفساخ الإجارة، أو المساقاة قول ضعيف، رده أهل العلم بالنص الثابت، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقدا، فإذا ثبت هذا فقد أمر الله بالوفاء بالعقود بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[سورة المائدة آية: 1] وهذا لفظ عام من جوامع الكلم، فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجوز، أو لا يجوز الوفاء به لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وكذلك: أن من ادعى أن مثل هذا العقد وغيره، لا يجب الوفاء به، لأجل شرط أو ترك شيء من العقد أو غيره، فعليه الدليل، وقد كمل الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: هل تنفسخ بالموت من الطرفين ؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، والصحيح: أنها لا تنفسخ بالموت من الطرفين.
سئل الشيخ: حسين بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن منع ورثة أرضا، في غلتها آصع أو دراهم معلومة... إلخ؟
فأجاب: الورثة لا يمنعون زرعها كل سنة، بسبب أن الواقف جعل هذا في غلتها، فإن أرادوا أن يمنعوه فالأمير(7/356)
ص -352- ... يؤجرها، إلا إن كان في عرف الناس أنه أصلح للأرض، إذا حالت في بعض السنين، ولو تزرع كل سنة ملّت ونقصت عن معتادها، فأنتم انظروا الأصلح، فإن كان الأصلح للأرض قلة زرعها كل سنة، فالورثة لا يجبرون على إجارتها كل سنة.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل آجر وقفا ثم مات؟
فأجاب: إن كان هذا المؤجر قد ولي على هذا الوقف من جهة الواقف، أو من جهة القاضي، فلا تنفسخ بموت المؤجر بالاتفاق، وإن كان الذي آجره إنما وليه من جهة استحقاقه للوقف مدة حياته، فالصحيح من المذاهب أنها لا تنفسخ الإجارة بموته، وقدم في التنقيح أنها تنفسخ، لأن الوقف انتقل استحقاقه إلى غير المؤجر، والأول هو المشهور والمقدم في المذهب.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: لا تنفسخ الإجارة بموته ولا عزله، وكذا لو آجره الموقوف عليه، لأنه آجره الوقف في زمن ولايته عليه، فلا تنفسخ بموته.
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن مدة الإجارة إذا انقضت، وفي الأرض شجر أو بناء... إلخ؟
فأجاب: يبقى الشجر والغرس والبناء بأجرة المثل إن شاء رب الأرض، فإن كانت وقفا فأمرها إلى الناظر الخاص إن كان، وإلا فالحاكم الشرعي، لأن له النظر العام، ولا عبرة(7/357)
ص -353- ... بأجرة الأرض مدة الإجارة بعد انقضائها، فالذي أرى أن الأرض المغروسة تبقى على عادة المغارسة في تلك البلد، حتى يفنى الغراس، ولا يحتاج لذكر مدة، هذا إن كان فيه مصلحة للوقف، وإلا فالأمر إلى الناظر، وترك ذكر المدة مبطل للعقد.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن آجر أرضه بنصف غرسها وشرط عليه المستأجر أن يقومها سنين معلومة، فإذا مضت السنين تقاسما النخل؟
فأجاب: الذي عليه الفتوى عندنا أن هذه إجارة صحيحة لازمة، ليس فيها شيء من الغرو، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ: وأما إذا أعطاه أرضا في حال الشرك يحرثها، والعادة الجارية أنها له ولعياله ما يغير عليه، فهذا لا يجوز في الإسلام، لا بد أن يستأجر سنين معلومة، بسهم معلوم وإجارة معلومة، وما أحدث الحراث فيها من غرس أو بناء، فهو يحسب له بقيمته إن رضي صاحب الأرض، فإن لم يأخذه بقيمته أخذه صاحبه من الأرض.
وأجاب أيضا: الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك هو للفلاح، فإن أراد المالك أخذه بقيمته وتراضيا على ذلك فلهما، وإن قال اقلعه، قلعه.
وأجاب الشيخ: حسن بن حسين: إذا انقضت مدة إجارة أرض طلق أو موقوفة، استؤجرت للغراس أو البناء،(7/358)
ص -354- ... فحاصل ما ذكره العلماء رحمهم الله، في حكم هذه المسألة: أنه إن كان شرط قلع الغراس أو البناء عند انقضاء مدة الإجارة أو في وقت معين، فإن المستأجر يقلعه مجانا، ولا يسوي الحفر، ولا يغرم لمالك الأرض نقصه بالقلع، وإن لم يشرط قلعه، أو شرط بقاءه ولم يقلعه مالكه، خير مالك الأرض بين ثلاثة أمور، أخذه بقيمته، فتقوم الأرض مغروسة أو مبنية، ثم تقوم خالية منهما، فما بينهما فهو القيمة، ومحل تملكه بقيمته إذا كان مالك الأرض تام الملك، فخرج الموقوف عليه، والمستأجر والمرتهن ونحوهم، لأن ملكهم غير تام; الأمر الثاني: تركه بالأجرة; الثالث: قلعه وضمان نقصه، هذا إذا لم يختر مالكه قلعه كما تقدم، أما إن اختاره فله ذلك، قال في الغاية: ويتجه لو أبى صاحب الأرض الثلاثة، ومالك الغرس أو البناء قلعه، بيعت الأرض بما فيها كعارية، انتهى.
وكون المستأجر: وقف الغراس أو البناء في الأرض المستأجرة، لا يمنع الخيرة بين الثلاثة الأمور، وإذا لم يترك لم يبطل وقفه بالكلية، فيكون كل ما يؤخذ بسبب قلعه وضمان نقصه، أو تملكه بقيمته، ويشتري بها ما يقوم مقامه كقيمته إذا أتلف، يشتري بها ما يقوم مقامه، ذكر معناه في الفروع وغيره; قال في الإقناع: وهو ظاهر، وظاهر كلامهم لا يقلع الغراس لذا كانت الأرض وقفا، قال في شرحه: وتقدم أنه لا يتملكه إلا تام الملك، وحينئذ فيبقى بأجرة المثل، انتهى.
قال في متنه: بل قال الشيخ ليس لأحد أن يقلع غرس(7/359)
ص -355- ... المستأجر وزرعه، صحيحة كانت الإجارة أو فاسدة، بل إذا بقي فعليه أجرة المثل وفي الفائق، قلت: فلو كانت الأرض وقفا لم يتملك إلا بشرط واقف، أو رضا مستحق، انتهى قال المنقح، إذا حصل به نفع كان له ذلك.
وأجاب أيضا: الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: الوقف الذي على قدر ستين نفسا اليوم، وآجرها فلان مائة سنة وبعض الموقوف عليهم أجاز، وبعضهم لم يجز، فهذه الإجارة غير صحيحة إلا في حق من أجاز، على أحد الأقوال في صحة تصرف الفضولي مع الإجازة، لكن النظر للموقوف عليهم إذا لم يعين الواقف ناظرا.
وقول السائل: فإن قلتم بصحتها، فما حكم ما فيها من البناء ونحوه؟ فنقول: حكمه حكم الغصب على المعتمد عند أصحاب الإمام أحمد، كما هو حكم كل عقد فاسد، قال في الإنصاف: في تعريف الغصب: وشمل كلام المصنف: ما لو كان المغارس أو الباني أحد الشريكين، وهو كذلك ولو لم يغصبه، لكن بنى وغرس من غير إذن، وهو الصحيح نص عليه; وفي رواية جعفر: أنه سئل - يعني أحمد - عن رجل غرس نخلا في أرض بينه وبين قوم مشاعا؟ قال: إن كان من غير إذنهم قلع نخله، انتهى.
قال في الشرح الكبير: وإن غرس أو بنى في أرض غيره بغير إذنه، فطلب صاحب الأرض قلع ذلك لزمه، لا نعلم في(7/360)
ص -356- ... ذلك خلافا، لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس لعرق ظالم حق" 1 قال الترمذي: حديث حسن فإن أراد صاحب الأرض أخذه بغير عوض فليس له ذلك، وإن طلبه بالقيمة وأبى المالك إلا القلع فله ذلك، لأنه ملكه فملك نقله، انتهى، فقد صرحوا بأن من غرس أو بنى بغير إذن مالك الأرض، فحكمه حكم المغصوب ا هـ.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن غرس أرضا مستأجرة للغراس، ومضت مدة الإجارة... إلخ؟
فأجاب: قال في الكافي: إن استأجرها للغراس جاز وله الغرس فيها، فإن غرس وانقضت المدة، وكان مشروطا عليه القلع عند انقضائها أخذه بشرطه، ولا يلزمه تسوية الحفر، فإن لم يكن شرط القلع لم يجب القلع، وللمستأجر قلع غرسه لأنه ملكه ويلزمه تسوية الحفر، فإن لم يفعل فللمؤجر دفع قيمته ليملكه وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النقص فله ذلك، وإن اختار إقراره بأجرة مثله فله ذلك، ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنْزلته، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا، انتهى ملخصا، فتأمله فإنه كاف في الجواب عما في السؤال، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله: من استأجر أرضا لغراس أو بناء مدة معلومة...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073).(7/361)
ص -357- ... إلخ؟ فالمذهب: أن مالك الأرض يخير بين تملك الغراس، أو البناء بقيمته; أو تركه بأجرة المثل مدة بقائه، أو قلعه وضمان نقصه، فإن اختار صاحب الغراس قلعه فله ذلك; وليس لرب الأرض منعه إذا أراده، وهذا ما لم يشترط قلعه عند انقضاء المدة.
وأما صفة تقويمه: إذا اختار رب الأرض أخذه بقيمته، فقال في المغني والشرح: لا يمكن إيجاب قيمته باقيا لأن البقاء غير مستحق، ولا قيمته مقلوعا لأنه لو كان كذلك لملك القلع مجانا، ولأنه قد لا يكون له قيمة إذا قلع، قالا: ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة; والظاهر: أن الأرض تقوم مغروسة ومبنية، ثم تقوم خالية، فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء، انتهى، وجزم بذلك ابن رزين في شرحه، وتبعه في الإقناع وشرحه، وكذا في شرح المنتهى.
وبيان ذلك: إذا قومت الأرض خالية بمائة، ومغروسة أو مبنية بمائتين مثلا، صار قيمة الغراس أو البناء مائة; فإن اختار مالك الأرض القلع، مع ضمان النقص وقيمة الأرض خالية، وقيمتها مغروسة مائتان، فقيمة الغراس أو البناء مائة، فإذا قلع صارت قيمته عشرين مثلا، تبينا أن النقص بالقلع ثمانون، يدفعها صاحب الأرض لصاحب الغراس أو البناء; وهكذا الحكم لو اشترى أرضا فغرس فيها أو بنى، ثم فسخ العقد بنحو عيب أو إقالة، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب; قال: وأما البيع بعقد فاسد إذا غرس فيه المشتري(7/362)
ص -358- ... أو بنى، فالصحيح من المذهب أن حكمه حكم المستعير إذا غرس أو بنى، ذكره القاضي وابن عقيل والمصنف في المغني، وقدمه في الفروع، انتهى.
وأما العارية التي لم يشترط فيها القلع على المستعير عند رجوع المعير، فمالك الأرض: يخير بين القلع وضمان النقص، وبين أخذه بقيمته لا تبقيته بالأجرة بغير رضا المستعير; قالوا: فإن أبى المالك من أخذه بقيمته وقلعه وضمان نقصه، ولم يتراضيا على تبقيته بالأجرة، بيعا عليهما إن رضيا أو أحدهما، ويجبر الممتنع منهما إذا طلب صاحبه البيع، وقسم الثمن بينهما يقسط على الأرض والغراس كما تقدم، ولم يقولوا بالبيع والحالة هذه في صورة الإجارة السابقة، إلا أن صاحب الغاية، قال: ويتجه لو أبى صاحب الأرض الثلاثة، ومالك الغرس أو البناء قلعه، بيعت الأرض بما فيها كعارية انتهى، وقول صاحب المحرر في العارية: إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته، ومن قلعه مع ضمان نقصه، بقي في أرضه مجانا وهو وجه في المذهب.
والوجه الثاني: وهو المشهور أنه إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته، ومن قلعه مع ضمان نقصه، ولم يتراضيا على أجرة، بيع عليهما بطلب أحدهما; وما ذكرتم من عبارة التحفة، فيحتمل أن يكون مراده بالتقويم كما ذكرنا، ويحتمل أن يريد أن يقوم الغرس وحده قائما، كما هو قول لبعض أصحابنا; وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد أن(7/363)
ص -359- ... يقلع غراس المستأجر وزرعه وبناءه، صحيحة كانت الإجارة أو فاسدة، بل يبقى وعلى ربه أجرة المثل ما دام قائما فيها; وقال: فيمن احتكر أرضا بنى فيها مسجدا أو بناء وقفه عليه، فمتى فرغت المدة وانهدم البناء، زال حكم الوقف، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل، قال في الإنصاف: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك، انتهى; وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرة لم يشترط تقدير المدة، لأنهم لم يذكروا ذلك وهو ظاهر، بل يشترط تقدير أجرة كل سنة.
سئل الشيخ: حسن بن الشيخ رحمهم الله: إذا آجر إنسان أرضا من غير تقدير مدة معلومة بل قال كل سنة بكذا، هل يكون لهما أو لأحدهما الفسخ عند مضي السنة؟
فأجاب: إن أكرى الدار ونحوها كل شهر بدرهم، أو أكراه للسقي كل دلو بثمن صح العقد، فعلى هذا تلزم الإجارة في الشهر الأول بإطلاق العقد قاله في المغني والشرح، وما بعده يكون مراعا، ونبه عليه بقوله: كلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة، إن لم يفسخا الإجارة أوله، ولكل واحد منهما، أي: من المؤجر والمستأجر عقب انقضاء كل شهر الفسخ على الفور في أول الشهر، وليس بفسخ على الحقيقة، لأن العقد الثاني لم يثبت، قاله في المغني والشرح والرعاية، قال في المغني والشرح: إذا ترك التلبس به فهو كالفسخ لا تلزمه أجرة، انتهى من الإقناع وشرحه.(7/364)
ص -360- ... سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عمن يقرأ للميت بالأجرة ؟
فأجاب: سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة بعينها؟
فأجاب: أما قراءة القرآن، ففي وصوله للميت نزاع إذا قرأ لله، فأما استئجار من يقرأ ويهدي إلى الميت، فهذا لم يستحبه أحد من العلماء المشهورين، فإن المعطي لم يتصدق لله، لكن عاوضوا على القراءة والقارئ قرأ للعوض; والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز; وإنما النّزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر فلا ثواب فيه، وإن قيل يصح الاستئجار عليه، وإذا تصدق على من يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه، كان له مثل أجر من استأجره على القراءة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وينتفع الميت بذلك.
سئل بعضهم رحمه الله: هل يجوز أخذ الأجرة على عقد النكاح ؟
فأجاب: يتخرج جواب هذه المسألة على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وهو على روايتين، قال ابن أبي عمر: ولا تجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القرب، كالحج والأذان ونحوهما، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر قال عبد الرحمن بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها(7/365)
ص -361- ... المعلمون من السحت، وعنه: يصح، وأجازه مالك والشافعي، قال فإن أعطي المعلم شيئا من غير شرط جاز; قال أحمد: لا يطلب ولا يشارط، فإن أعطي شيئا أخذه، وقال: أكره أجر المعلم، انتهى.
وقال في التبيان: وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء فيه، فحكى الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: منع أخذ الأجرة عليه عن جماعة من العلماء، منهم الزهري وأبو حنيفة، وعن جماعة: أنه يجوز إذا لم يشترطه، وهو قول الحسن البصري، والشعبي وابن سيرين; وذهب عطاء ومالك والشافعي وآخرون، إلى جوازها إذا شارطه، واستأجره إجارة صحيحة، وقد جاءت بالجواز الأحاديث الصحيحة; واحتج من منعها بحديث عبادة: "أنه علم رجلا من أهل الصفة، فأهدى إليه قوسا، فقال النبي: إن سرك أن تطوق به طوقا من نار فاقبلها" 1 وهو حديث مشهور، رواه أبو داود وغيره، وبآثار كثيرة عن السلف.
وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين، أحدهما: إن في إسناده مقالا; والثاني أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئا، ثم أهدي إليه على سبيل العوض، فلم يجز الأخذ، بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم انتهى.
فإذا علمت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، أو المنع منه، علمت الجواب عن جواز أخذ الأجرة على عقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3416) , وابن ماجه: التجارات (2157) , وأحمد (5/315).(7/366)
ص -362- ... النكاح، وكذا كل قربة والمنع منه، والله أعلم، انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما أخذ الجعل على عقد النكاح، فلا بأس به إذا أعطي بغير شرط، فإن كان بشرط فلا أدري وأنا أكرهه.
وسئل: عن عمار ما انهدم ؟
فأجاب: أما من استأجر عقارا، فإنه يلزم المؤجر عمار ما انهدم من الحائط، وكذلك عمار البئر التابعة للعقار في طي ما اختلف من طيها ونحوه، ونقل ما في بطنها من تراب إن احتاج إلى ذلك، فالإجارة توافق المساقاة في أحكام، وتخالفها في أشياء أعني فيما يجب على المالك، وما لا يجب عليه.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل حكم المزارعة والإجارة واحد... إلخ؟
فأجاب: المذهب التفريق فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم ومنهم من قال: إنها لازمة في حق صاحب العقار، جائزة في حق المساقي، وأما الإجارة فالظاهر أنها عقد لازم من الطرفين، ليس لأحدهما فسخها.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الإجارة عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء، لأنها بمعنى البيع، وأما(7/367)
ص -363- ... معنى اللازم والجائز، فاللازم هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضا الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضا صاحبه.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن آجر أجيرا فحصل له مانع إلخ؟
فأجاب: إذا آجر أجيرا إلى مكان يجيء منه بشيء، فحصل له مانع لزمته الأجرة.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: الأجير الخاص لا يستحق شيئا، إذا فسخ بلا عذر.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا ترك الأجير شيئا مما التزم به... إلخ؟
فأجاب: أما مسألة الأجير، فما التزمه لصاحب النخل، فإن قام به كله فله أجرة المثل، فإن ترك شيئا مما التزمه نقص من الأجر بحسب ذلك ولكن هذا يحتاج إلى نظر من له معرفة بهذه الأمور ويتحرى فيها العدل من الجانبين لصعوبتها.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: الذي مشى عليه متأخرو الحنابلة، أنه إذا امتنع من تمام المدة لا شيء له، وكذا المستأجر إذا حوله قبل تمام المدة، لا شيء له من الأجرة، لكن قال في المبدع على المقنع، بعد ما ذكر(7/368)
ص -364- ... المذهب الذي ذكرناه، يحتمل أن له الأجرة بقسطه، وهو قول أكثر الفقهاء، لأنه استوفى ملك غيره على وجه المعاوضة، كالمبيع إذا استوفى بعضه ومنعه المالك بقيته، انتهى.
وقال الوزير في الإفصاح: واختلفوا فيما إذا حول المالك المستأجر في أثناء الشهر فقالوا له أجرة ما سكن إلا أحمد فإنه قال لا أجرة له وكذلك قال إذا تحول الساكن لم يكن له أن يسترد أجرة ما بقي انتهى وهذا الذي نميل إليه مع أن للنظر فيه مدخلا.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين، وأما الأجير إذا مات قبل تمام عمله، فللعلماء من أصحابنا وغيرهم، في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: لا يستحق شيئا; والثاني: يستحق بقسطه; والثالث: إن ترك العمل لعذر شرعي يستحق، وإلا فلا.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الذي يفتى به أنه إن ترك لعذر فله أجرة الماضي، وإن تركه لغير عذر فليس له شيء منها، إلا بعد كمال المدة، وهذا القول هو المشهور في المذهب.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عمن استأجر من يعمل له في الذمة ؟
فأجاب: إذا استأجر أجيرا يعمل له في الذمة، مثل أن يحمل له شيئا إلى موضع معين وتلف المحمول قبل تمام(7/369)
ص -365- ... العمل فلا يستحق الأجير شيئا والحالة هذه، لأن الأجرة في مقابلة العمل، وهو الحمل إلى الموضع المشروط، فإذا لم يمكن تسليم العمل الذي وقع عليه العقد، لم يجب تسليم الأجرة التي هي في مقابلته، كما لا يجب تسليم الثمن في المبيع إلا بتسليم المبيع، فالعمل في الإجارة كالمبيع، والأجرة كالثمن، ولهذا لو استأجر خياطا يخيط ثوبه فخاطه، وتلف قبل تسليمه لربه، لم يستحق الخياط شيئا، ومسألتنا أولى بعدم الاستحقاق، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دابة بعينها ليركبها إلى موضع معين، أو استأجرها لحمل شيء معلوم، فإن صاحبها يستحق من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة، في صورة تلف الدابة المعينة.
وسئل بعضهم: إذا استأجر رجلا على رعي دابة وطلاها عن جرب فأخذ يرعاها ثم ماتت الدابة حتف أنفها هل يستحق شيئا من الأجرة؟
فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد، أحدهما: أنه لا يستحق شيئا من الأجرة إلا بتسليم العين، وهذا هو المشهور في المذهب، قال في الإنصاف: ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب وقال أيضا: وتجب الأجرة بنفس العقد هذا المذهب; وتستحق كاملة بتسليم العين، أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر، كطباخ استؤجر لعمل شيء في بيت المستأجر، انتهى.(7/370)
ص -366- ... قال في المغني: وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل، لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض، كالصداق والثمن في المبيع، ولا ضمان عليه، أي الأجير المشترك، فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد; قال في الإنصاف: هذا المذهب، قال الزركشي: هو المنصوص عليه في رواية الجماعة، ثم قال: ولا أجرة له فيما عمل فيه، أي الذي تلف في يده، سواء قلنا إنه لا يضمن أو عليه الضمان، هذا هو المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب.
والقول الثاني: أن له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره; وعنه: له أجرة البناء لا غير، نص عليه في رواية ابن منصور، وعنه: له أجرة البناء والمنقول إذا عمل في بيت ربه. وقال ابن عقيل في الفنون: له الأجرة مطلقا، لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه، كرفعه إلى البائع غرارة، وقال ضع الطعام فيها، وكاله فيها كان ذلك قبضا لأنه كيله; ولهذا لو ادعيا طعاما في غرارة أحدهما كان له، قال في الإنصاف وهو قوي، وقال في المنتهى وشرحه: وله أي الحامل أجرة حمله إلى محل تلفه، ذكره في التبصرة، واقتصر عليه في الفروع، لأن ما عمل فيه من عمل بإذن; وعدم تمام العمل ليس من جهته، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا، والله أعلم.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف بن(7/371)
ص -367- ... عبد الرحمن: وأما الرجل الذي استأجر جملا يحمل عليه إلى موضع معين فلما انتصف في الطريق أخذ الجمل وحمله، فنعم يكون له أجرته من غير إشكال، قدر ما مشى من طريقه.
وأجاب الشيخ علي بن عيسى: الذي أخذ أحمالا ليحملها على جماله إلى بلد معين، بأجرة معلومة فلما كان في بعض الطريق أخذت الجمال والأحمال، فلا يستحق شيئا من الأجرة، حتى يسلم الأحمال في البلد المعين هذا الذي نفتي به نحن ومشايخنا، وأما بعض مشايخ نجد، فيفتي بأن له من الأجرة بقدر حمله إلى محل تلفه، كما في المنتهى، لكن اعترض بعض الأصحاب على صاحب المنتهى، في قوله: وله أجرة حمله إلى محل تلفه.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: تعليله هنا وجوب أجرة المحمول إلى محل تلفه، لأن عدم تمام العمل ليس من جهة الأجير فلا فرق، وعلله هنا - أعني تلف المحمول - بأن وضع العمل فيه بإذن، فيقال: وهكذا خياطة الثوب ونحوها بإذن، فالظاهر عدم الفرق، وأنه كالمشترك قبل تمام العمل وتسليمه، فما الذي أخرج صورة الحمل كما قال هنا، وما عللت به صورة الحمل، في أن عدم تمام العمل ليس من جهة الأجير، وبأن عمله بإذن موجود في غيرها.
سئل الشيح: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: هل يعطى الأجير من المال الحرام؟(7/372)
ص -368- ... فأجاب: أما الرجل المستأجر للأجير فلا يجوز له أن يعطيه أجرته من المال الحرام الذي عنده وإنما يعطيه من الحلال فإن أعطاه أجرته من الحرام ولم يشعر جاز له التصرف ولا إثم عليه وإثمه على المستأجر.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: إذا استأجر إنسان من آخر ناضحا يسقي عليه، وشرط عليه إن مات الناضح، أو عجف فالأجرة تامة، وإن لم يبق عليه إلا يوم واحد ورضي كل منهما بذلك؟
فأجاب: الذي يظهر لي صحة ذلك العقد، إذا كانت الأجرة معلومة والمدة معلومة، وأما الشرط فهو فاسد، فإن مات الناضح أو عجف، لزم المستأجر قسط ما مضى من المدة، وانفسخ فيما بقي إن لم يتراضيا على إتمام العمل على ناضح آخر.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عمن استأجر أرضا ليزرعها وتركها ؟
فأجاب: إذا تعذر الزرع بمانع لم تلزمه الأجرة، لأن الانتفاع بها غير ممكن، فإن أمكنه الانتفاع بالأرض بالزرع في بقية المدة فلم يفعل، فعليه الأجرة، وقال الشيخ: يثبت قسط المثل.
وسئل: إذا استأجر رجل أرضا بأربعين مثلا وانتقلت إلى أن المستأجر يؤجرها بعشرة وصاحب الأرض قد شرط(7/373)
ص -369- ... على المستأجر مدة سنين وأراد المستأجر الفسخ، هل تدخل في حكم وضع الجوائح؟
فأجاب: الذي نفهم من كلام أهل العلم، أنها لا تدخل في مسألة وضع الجوائح، لأن المراد بذلك إذا كانت الجائحة من قبل الله، بآفة سماوية كالمطر والبرد، والسيول وأشباه ذلك، وأما الإجارة فهي لازمة من قبل المؤجر والمستأجر، إلا إذا انهدمت الدار، وتعطلت الأرض بآفة سماوية، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وأما هذه الصورة، فهي مثل أن يشتري سلعة غالية، ثم ترخص بعد ذلك بتغير الأسعار، وإذا نقصت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد، فله الأجرة كاملة،
وقال الشيخ: تقسط الأجرة بقسط ما تلف. وإذا استأجرها للزرع، فزرعها ثم تلف، فالظاهر أنه لا يلزمه شيء.
وسئل: إذا استأجرها بصبرة فتلف الزرع إلا قدر الصبرة فهل يدفعه إلى المؤجر؟
فأجاب: إذا تلفت بآفة فإنه يدفع إليه أجرة كاملة واختار الشيخ وضع الجوائح، وأن كلا على قدر حصته.
وأجاب أيضا: إذا اكترى رجل من آخر أرضا أو نخلا، فأصابته جائحة فإنه يطرح عن المؤجر بقدر ما نقصت الجائحة من الثمرة من الأجرة.(7/374)
ص -370- ... وأجاب الشيخ: حسين بن الشيخ: وما ذكرت من جهة الجائحة التي جرت على الزروع من البرد، فهو ينظر إلى معدل المغل، فإذا صارت هذه الأرض مثلا، يجيء زرعها على المتوسط قيمة كذا وكذا، أعطى العامل صاحب الأرض قدره، ويسقط عن الزارع قدر هذه الجائحة، وكذلك النخل إذا صارت هذه الجائحة كما تذكر بردا، فمثل ما ذكرنا في الزرع كل شيء يسقط بقدره.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا استأجر إنسان أرضا بدراهم يريدها للزراعة، وزرعها وأصاب الزرع جائحة سماوية، بحيث لم يحصل منها إلا ثلث ما يحصل منها في العادة، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فالجمهور يقولون تثبت الدراهم في ذمة المستأجر ولا يسقط منها شيء;
وأما الشيخ تقي الدين، فاختار ثبوت الجائحة، وأنه يسقط من الأجرة بقدر الجائحة الخارجة عن العادة، وهذا هو الذي عليه الفتوى اليوم.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: إذا أوجرت الأرض فلم تنبت أو غرق زرعها أو تلفت بجراد أو حرق ونحوه، فالمذهب عند علماء الحنابلة أن الأجرة لازمة، ولو تلف ما استؤجرت له، وشيخ الإسلام رحمه الله وأتباعه، يرون دخولها في حكم وضع الجوائح، وأفتى بها شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فوضع أجرة الحوانيت في الرياض مدة تعطلها في أيام الحرب.(7/375)
ص -371- ... وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ثبوت الجائحة في إجارة الأرض ونحوها، فاختيار الشيخ تقي الدين معلوم لديكم وأكثر العلماء على خلافه; قال في المغني: فإن استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا، فتلفت الثياب فيها انتهى.
فظاهر قوله: فلا شيء على المؤجر يتناول الأجرة وغيرها، لكن قال في الاختيارات - لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض - وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المغني من الإجماع، وهو غلط، فإن الذي في المغني: أن نفس الزرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع، لا يكون كالثمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف; وإنما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها، فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحى، انتهى.
وقد ذكر الشيخ عن اختياره: أنه خلاف ما رواه عن أحمد، ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة، في صورة الإجارة عن غير الشيخ، إلا ما حكاه عن أبي الفضل ابن حمزة في الحمام، وفرق الأصحاب بين الثمرة المشتراة وبين الأجرة، بأن المعقود عليه في الإجارة نفع الأرض، فالتالف غير المعقود عليه، والمعقود عليه في الثمرة المشتراة،(7/376)
ص -372- ... هو نفس الثمرة، فهي التالفة، والله أعلم; والذي نعتمده في المسألة هو الإلزام بجميع الأجرة، إن تعذر الصلح بين الخصوم.
وأجاب أيضا: وأما مسألة الجائحة في الإجارة، فالشيخ تقي الدين رحمه الله، يقول بثبوت الجائحة في الإجارة للأرض ونحوها، كما ثبت في الثمرة المشتراة بنص الحديث; وأكثر العلماء يفرقون بين الصورتين، على خلاف ما قاله الشيخ، وهو الذي نفتي به، أعني بقول أكثر العلماء.
وسئل: عن الأجير الخاص هل يستنيب ؟
فأجاب: وأما الأجير الخاص، فكلامهم صريح في أنه لا يستنيب مطلقا، وعبارتهم: وإن كانت الإجارة على عينه في مدة أو غيرها فمرض، لم يقم غيره مقامه، لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه، لا على شيء في ذمته، أشبه ما لو اشترى معينا، لم يجز أن يدفع إليه غيره ولا يبدله.
وأما الاستئجار للرعي، فصرحوا بأنه لا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة، لأن العمل فيها لا ينحصر، وتعريفهم الأجير الخاص: بأنه من استؤجر مدة معلومة يستحق المستأجر نفعها في جميعها، مرادهم جميع نفعه لا بعضه، لأنهم صرحوا بأنه إذا لم يستحق جميع نفعه في جميع المدة فهو مشترك، قال في الشرح: فالخاص هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة، يستحق المستأجر نفعه في(7/377)
ص -373- ... جميعها، كمن استؤجر لخدمة أو خياطة، أو رعاية شهرا أو سنة، سمي خاصا لأن المستأجر يختص بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين، كخياطة ثوب أو بناء حائط، أو حمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها، كالكحال والطبيب، سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين في وقت واحد، ويعمل لهم، فيشتركون في منفعته، فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته، انتهى.
فهذا صريح في تعريف الخاص بأنه الذي يختص مستأجره بجميع نفعه في مدة الإجارة، وأنه إذا لم يستحق جميع نفعه ولو كان على مدة فهو مشترك، وتسمية أحدهما خاصا، والآخر مشتركا صريح في ذلك، وقال في الإقناع وشرحه: الأجير الخاص من قدر نفعه بالزمن، بأن استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة يوما أو أسبوعا ونحوه، يستحق المستأجر نفعه، في جميع المدة المقدر نفعه فيها، لا يشركه فيها أحد، فإن لم يستحق نفعه في جميع الزمن فمشترك - إلى أن قال - والأجير المشترك: من قدر نفعه بالعمل، كخياطة ثوب وبناء حائط، أو على عمل في مدة لا يستحق نفعه في جميعها، كالطبيب والكحال، أو يتقبل الأعمال لجماعة في وقت واحد يعمل لهم، يشتركون في نفعه فلذلك سمي مشتركا، انتهى.
فدل كلامهم على أنه إذا استأجر واحد أو جماعة رجلا،(7/378)
ص -374- ... ليرعى لهم عددا معلوما من الماشية، شهرا أو سنة ونحو ذلك، فهذا خاص كإجارة موسى عليه السلام نفسه المدة المذكورة، وكاستئجار البدوي من يرعى إبله أو غنمه سنة أو نحوها، لأنه يختص بنفعه في تلك المدة، ودل على أنه إذا دفع قروي إلى بدوي ناقته ليرعاها سنة، ودفع إليه آخر ناقتين، ودفع إليه آخر نحو ذلك، أن هذا مشترك، لأنه يتقبل أعمالا لجماعة في وقت لا يختص بنفعه واحد، لأنه يأخذ لمن شاء ماشيته ليرعاها في تلك المدة، وكون عمله مقدرا بمدة لا يخرجه عن كونه مشتركا، كما صرحوا به.
وأما قولهم: في الأجير المشترك، لا أجرة له فيما عمل حتى يسلمه لربه معمولا، فالذي نرى ونعمل به في حال رعاة الإبل، كمعاملة الحضر مع البدو اليوم، فالذي يأخذ الإبل للناس ليرعاها ويقوم عليها أنه لا يستحق شيئا ما لم يسلمها لربها، لأنه مشترك، فلو هلكت قبل تسليمها لربها لم يستحق شيئا، انتهى.
وأجاب الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأما الأجير إذا صار الخلل منه، فلا أجرة له ولا يضمن إلا إن فرط.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الراعي لجماعة أو مختص بمنفعة واحد، فالظاهر من كلام أهل العلم: أن الراعي لا ضمان عليه إلا بالتعدي والتفريط، سواء كان لجماعة أو لشخص معين، ولا أعلم في ذلك خلافا.(7/379)
ص -375- ... وأجاب بعضهم: وأما الراعي فلا ضمان عليه إن شاء الله تعالى، إلا أن يفرط في رعيته.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا ضيعوا منها شيئا، فإن كانوا فرطوا فيها بنوم عنها أو بغيره، لزمهم ضمانها، وإن لم يفرطوا لم يلزمهم، وعليهم الاجتهاد في طلبها، فإن وجدوها، وإلا ليس لهم على ما ضاع منها أجرة.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال صاحب البعير الكروة عشرة، وقال المكتري ثمانية... إلخ؟
فأجاب: إذا اختلفا في قدر الأجرة، فهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في المبيع، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي، قال في الشرح، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى وإذا قال صاحب البيت: أكريتك سنة وقال المستكري سنتين، فالقول قول المالك مع يمينه، قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة، فكان القول قوله بيمينه، كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة، وقال بل هذين العبدين بمائتين.
وسئل بعضهم: إذا اختلفا في قدر الأجرة ؟
فأجاب: إذا أعطى ثوبه خياطا بلا عقد، ثم اختلفا في قدر الأجرة، فقال في الشرح: إذا دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه، أو قصار ليقصره من غير عقد، ولا تعريض بأجرة، مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل(7/380)
ص -376- ... بأجرة، وكان القصار والخياط منتصبين لذلك، ففعلا ذلك، فلهما الأجرة، لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول، فصار كعقد البلد، ولأن شاهد الحال يقتضيه، فصار كالتعريض، فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك، لم يستحقا أجرة إلا بعقد أو شرط، أو تعريض به، لأنه لم يجرِ عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو تبرع به، وفي المسألة قول آخر: له الأجرة مطلقا، سواء كان منتصبا للعمل بأجرة أو لم يكن، قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب، وعليه كثير من الأصحاب.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عن أرض مغصوبة، أو نخل استأجرها إنسان مدة معلومة كل سنة بجديدة أو ربع مثلا وبطل التعامل بها ولم نعلم قيمتها وقت العقد.
فأجاب: يبعد تعذر معرفة القيمة في الجديدة أو الربع لقرب العهد بالتعامل وإذا فرضناه فقياس كلامهم فيما إذا كان رأس مال السلم جوهرة ونحوها وفيما إذا باعه الشقص المشفوع بجوهرة ونحوها وجهلت القيمة: أن القول قول المستأجر هنا لأنه غارم وإن جهلها المؤجر والمستأجر معا فمقتضى القواعد الرد إلى أجرة المثل وهي: ما انتهت إليه رغبات الناس بعد الاشتهار لأن ما قَوَّمَه المقومون في قياس ما ذكروه وفيما إذا وقع ثمن الشقص المشفوع عرضا وكان موجودا أن يعرض على المقومين ليشهدوا بقيمته.(7/381)
ص -377- ... باب العارية
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن رجل له أرض، فقال من أراد أن يبني له فيها دارا، فإذا أراد الانتقال فليأخذ خشبه، ولتعد لي أرضي، فبنى فيها أناس وسكنوا مدة من الدهر، ثم مات رب الأرض، فهل يكون إذنه في عمارتها والسكنى فيها هبة؟ أو ملحقة بالعارية؟
فأجاب: هذه فيما يظهر ملحقة بالعارية، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشرح، قال فيه: باب العارية، وهي: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، وتنعقد بكل لفظ وفعل يدل عليها، وهي هبة منفعة، تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع، وتجوز مطلقة وموقتة، وللمعير الرجوع فيها متى شاء، سواء كانت مطلقة أو مؤقتة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن كانت موقتة فليس له الرجوع قبل الوقت، وإن لم يوقت مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها، لأن المعير قد ملكه المنفعة مدة، وصارت العين في يده بعقد مباح، فإن أشغله بإذنه في شيء يستضر المستعير برجوعه فيه لم يجز له الرجوع، مثل أن يعيره سفينة لحمل متاعه، لم(7/382)
ص -378- ... يجز له الرجوع ما داما في لجة البحر، وله الرجوع قبل دخولها في البحر، وبعد خروجها منه، لعدم الضرر.
وإن أعاره أرضا للدفن لم يرجع حتى يبلى الميت، وله الرجوع قبل الدفن، وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، وإن أعاره أرضا لم يرجع إلى الحصاد، إلا أن يكون مما يحصد قصيلا فيحصده، وإن أعارها للغراس أو البناء، وشرط عليه القلع في وقت، أو عند رجوعه ثم رجع، لزمه القلع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمنون على شروطهم" 1 حديث صحيح، وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه، ولا نعلم في هذا خلافا، فأما تسوية الحفر: فإن كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا وإلا لم يلزمه، وإن لم يشترط المعير القلع لم يلزم المستعير، لما فيه من الضرر، فإن ضمن له النقص لزمه، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وكذلك إن اختار أخذ بنائه وغراسه فإنه يملكه، فإن أبى القلع في الحالة التي لا يجبر عليها، فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه، أجبر المستعير عليه كالشفيع مع المشتري، والمؤجر مع المستأجر، فإن قال المستعير أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يلزم المعير، وبهذا كله قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان، إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع قبل انقضائها، لأن المعير لم يغره، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر لم يقلع، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1352).(7/383)
ص -379- ... إن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها وبنائها، ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه، وإن أبيا البيع ترك بحاله، وقلنا لهما انصرفا فلا حكم لكما عندنا حتى يتفقا، انتهى المقصود ملخصا، فتأمله يتبين لك منه الجواب عن سؤالك، لا سيما قوله: وإن أعارها للغراس أو البناء إلى آخره.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر: هل منيحة الناقة ونحوها كالعارية والقول فيها سواء؟
فأجاب: المنيحة عارية، لأنه قبضها للانتفاع بها فهو قابض لحظ نفسه، وللمعير الرجوع في العارية متى شاء، فإن تلفت عند المستعير فهل هي مضمونة بكل حال، كما هو المشهور عن أحمد والشافعي، أم لا تضمن مطلقا كما هو المشهور عن مالك وأبي حنيفة، وهو اختيار ابن القيم في الهدي، أم لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها، كما هو اختيار الشيخ، ولا يخفى الراجح عند التأمل، وبالله التوفيق.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن استعار عارية ورهنها بغير إذن المالك فلما تبين للمالك أراد أخذها.
فأجاب: ذلك ليس بتقرير من المالك: بل هو خيانة من المستعير حيث رهنها بلا إذن المالك وللمالك أخذها من المرتهن، وقد نص في الشرح الكبير على أنه لا يجوز له رهنها بلا إذن المالك.(7/384)
ص -380- ... وسئل: هل يضمن المستعير العارية إذا تلفت؟ وهل يعتبر تفريطه؟
فأجاب: لا تضمن إلا بالتفريط فيها.
وأجاب أيضا: من استعار دابة وتلفت من كده فهو يغرمها، وإذا استعار عبد شيئا فتلف، فإن غرامته في رقبته، على قول من يقول بضمان العارية.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والدابة المعارة إذا ماتت عند المستعير لزمته قيمتها، سواء فرط أو لم يفرط.
وأما منيحة الحرام فحرام، وعليه إثمها، وعلى الآخذ الثاني إثمها أيضا إذا علم ذلك فإنه يجب ردها إلى صاحبها.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: إذا قال أعرتك، قال بل آجرتني ؟
فأجاب: إذا قال المالك أعرتك، قال بل آجرتني فالقول قول المالك، وكذلك الغاصب إذا ادعى أنه غصبه، فالقول قول المالك، وقيل القول قول الغاصب.
وسئل بعضهم: إذا اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة فقال المالك آجرتك وقال الآخر أعرتني، ولا بينة لهما؟
فأجاب: قال في الشرح إذا اختلف الراكب ورب الدابة فقال المالك هي عارية وقال رب الدابة أكريتكها(7/385)
ص -381- ... وكانت الدابة باقية لم تنقص وكان الاختلاف عقيب العقد فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم عقد الإجارة ويرد الدابة إلى مالكها ولأن الأصل براءة ذمته منها وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها وحكي ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب وهو منصوص الشافعي، لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضا لها، والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه، فكان القول قوله.
ولنا: أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب فكان القول قول المالك; كما لو اختلفا في عين، فقال المالك; بعتكها، وقال الآخر: وهبتها، ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك، فكذا هنا، وما ذكروه يبطل بهذه المسألة، فيحلف المالك وتستحق الأجرة، والله أعلم.(7/386)
ص -382- ... باب الغصب
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عما يأخذه الأعراب ونحوهم ممن هو مثلهم، أو من أهل القرى ؟
فأجاب: أما ما يأخذونه ممن هو مثلهم في ترك ما فرض الله عليهم والتهاون بما حرمه الله، مما يكفر أهل العلم فاعله، فلا إشكال في حله كما أفتى به شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهو ظاهر لظهور دليله، وأما إذا كان المأخوذ من أهل القرى ونحوهم، ممن يلتزم أركان الإسلام، ولا يظهر منه ما ينافيه، فحكم ما أخذ منه حكم الغصب، وتفصيله لا يجهل.
وسئل: عمن عرف متاعه وهو إما ضائع أو مسروق، ولم يعرف المشتري من اشترى منه، هل يؤخذ بلا ثمنه، أو يعطى ما اشترى به؟
فأجاب: إذا قامت البينة أنه ضائع أو مسروق أخذ بلا عوض، ويرجع على من اشتري منه ولو لم يعرفه.
وأجاب أيضا: ومسألة الذي يجد عين ماله عند رجل، يدعي أنه اشتراه ممن لا يعرفه أو من حربي أو بدوي،(7/387)
ص -383- ... فليس له إلا يمينه، وإذا ثبت أن المال مسروق، أو وجده عند رجل، أخذه صاحبه ولو ادعى أنه اشتراه ممن لا يعرفه.
وأجاب أيضا: وإذا اشترى سلعة وعرفها صاحبها، فإذا أقام البينة: أنها يوم تتلف وتضيع وهي في ملكه، فيأخذها صاحبها، ويرجع المشتري على من غره، وإذا أخذ الكفار مال مسلم، وتملكه مسلم منهم بشراء أو هبة، ما صار لصاحبه الأول عليه سبيل.
وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله: الفقهاء رحمهم الله، قد ذكروا هذه المسألة، وذكروا أن المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده، سواء كان الغاصب، أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السارق بالثمن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيا أو فقيرا، ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية، لم ينْزع من يده في الإسلام، لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك، وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين، أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها، تخالف أحكام الشرع في المواريث والدماء والديات وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم، وتملكوه من المظالم ونحوها، وأما الديون والأمانات: فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم.(7/388)
ص -384- ... وأما المرأة إذا أعطاها ولدها ثلث ماله في الشرك، وأسلمت وهو في يدها، فهو لها، ولا يجوز للعصبة يأخذونه منها في الإسلام وإن كانوا ظلموها في الشرك، وأخذوه من يدها وطردوها في الجاهلية، وأسلموا وهو في أيديهم، فلا لها عليهم سبيل.
وأجاب أيضا: فيما أملاه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وله معه بعض مشاركة وتصرف، نقلته من خطه، وصورته: ما يأخذه الأعراب ممن هو مثلهم، فالأقرب أن يقال فيه بمضمون ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله: بأن المكسوب من التتر، أو العرب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، لا يحرم شراؤه والاعتياض عنه، إن لم يعرف صاحبه الذي أخذ منه، ومفهومه: أنه إن عرف، حرم شراؤه وردّ إلى صاحبه.
وأما إذا أخذه مثل هؤلاء الأعراب من مسلم، فإن لم يعرف صاحبه، جعل في المصالح، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام أيضا، فيما اشتراه مسلم من التتر، إذا لم يعرف صاحبه جعل في المصالح، وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر إليها إلا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك; هذا كلامه بحروفه، ومقتضاه: إن عرف صاحبه يردّ إليه مجانا، لأن ذلك البائع لا يملك مال المسلم، وكذا المشتري بناء على أن المرتد لا يملك مال المسلم بغير رضاه بحال، وكذا الحربي إذا لم يسلم; هذه طريقته المقررة في كتبه.(7/389)
ص -385- ... وسئل أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار، ثم اشتراه بعض التجار ؟
فأجاب: يتفرع عن ذكر هذه المسألة تحريرا وتقريرا، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله في الكافر الأصلي، هل يملك مال المسلم بالقهر أم لا؟ فذهب القاضي أبو يعلى: إلى أنه يملكه، وهو المذهب عنده; والمذهب عند أبي الخطاب: أنهم لا يملكونه، وحكى طائفة عن أحمد روايتين، منهم ابن عقيل في فنونه ومفرداته، وصحح فيها عدم الملك; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: إن أحمد رحمه الله لم ينص على الملك ولا عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، والصواب: أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لكن لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى.
وقوله: مقيدا، أي: بالإسلام عليها، كما صرح به في كتاب الصارم وغيره، ونصه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم، قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه، مما لا يملك به مسلم من مسلم، لكونه محرم في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه، عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابه، بناء على أن الإسلام أو العهد، قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده(7/390)
ص -386- ... ملكا له، لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله، ووجب أجره على الله، وأخذه متحللا له، وقد غفر الله له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم، فلا يضمنه بالرد إلى مالكه، كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال، ولا يقضي ما تركه من العبادات، لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد، فلما رجع عن الاعتقاد غفر ما تبعه من الذنوب، فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه، فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها.
ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم، وهو قول الشافعي وأبي الخطاب، بناء على أن اغتنامهم لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه، فإنه يرد إلى مالكه المسلم، لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما اتفق الناس - فيما نعلم - عليه ولو كان قد ملكوه لملكه الغانم منهم ولم يرده، والأول أصح، لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك، وقد أسلم عامة أولئك المشركين، فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا، مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا، انتهى المقصود.
وهو صريح في أن المقرر للملك، إنما هو إسلامهم، وهو المانع من رد ما بأيديهم مما أخذوه من مال المسلمين، وهي طريقة حسنة، قد صار إليها شيخنا الجد رحمه الله آخرا، بعد أن كان يفتي بقول الشافعي وموافقيه، لكن يرد(7/391)
ص -387- ... على هذه الطريقة: ما روى مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان، قال: "بيّنتك قال ليس لي بينة، قال: يمينه قال إذًا يذهب بها، قال: ليس لك إلا ذلك" 1 الحديث.
وقد بنى: ابن الصيرفي هذه المسألة، على القاعدة المشهورة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ الرواية الصحيحة: أنهم مخاطبون بها، وهو قول الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، فعلى ذلك لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء، ولا بالحيازة إلى دارهم، وقد تقدم لك في كلام الشيخ ما ذهب إليه الإمام الشافعي وأبو الخطاب، من أنهم لا يملكونها مطلقا، قال في القواعد الأصولية، وسمعت بعض شيوخنا يعزو وجوب الضمان على الحربي، إلى إسحاق بن راهويه رحمه الله، وقد يرد على ما عزا إلى إسحاق من وجوب ضمان التالف، حديث "الإسلام يجُبُّ ما قبله" 2 وقد نقل بعض الشافعية عن المزني: أنه استدل بالحديث المذكور فيما أتلفه الكافر ثم أسلم.
وأما ما ذهب إليه القاضي رحمه الله، من أنهم يملكونها بالاستيلاء، مع الحيازة إلى دارهم، فلا دليل عليه، وقد أورد العلماء رحمهم الله على هذا القول سؤالا، لا يمكن أن يجاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (139) , والترمذي: الأحكام (1340) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) , وأحمد (4/317).
2 أحمد (4/205).(7/392)
ص -388- ... عنه إلا بتكلف، وليس هذا محل ذكره، وهذا كله في الكافر الأصلي، وأما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال، ولا نعلم أحدا قال به، وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة، أو لحق بدار حرب، والمذهب أنه يضمن ما أتلفه مطلقا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه قد يغلط بعض الناس في معنى الإتلاف والتلف، فيظن أنه إذا استنفق المال، أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يسمى تلفا، وليس كذلك، بل هو تصرف، وقد فرق العلماء بين التلف والتصرف، ومن صور التلف أن يضيع من بين يديه، أو يسرق أو يحرق أو يغرق، أو يقتل ونحو ذلك مما يسمى تلفا وضابطه: فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرفات.
فيكون الجواب عن السؤال على ما تقرر: أن هذا المال الذي اشتراه بعض التجار ممن أخذه، يرد إلى مالكه الأول من غير ثمن، ويرجع مشتريه بالثمن على من اشترى منه، حتى يستقر الضمان على الآخذ، فلو كان الكافر يملك بمجرد الاستيلاء، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر فرسه التي أخذها العدو لما ظهر عليها المسلمون، فلو كانت قد أخذت على ملك الكافر، لتعلقت بها حقوق الغانمين والمستحقين، كسائر الغنيمة، فلما ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن عمر، دل على أنها باقية على ملكه، وليس لتخصيصه بها دون سائر الغانمين معنى غير ذلك، وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده(7/393)
ص -389- ... والأحاديث معروفة في كتب الأحكام وغيرها.
والقائلون: بأن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء وحده، أو بالحيازة إلى دارهم، لا يخالفون فيما دلت عليه الأحاديث، من أنه إذا أخذها المسلمون منهم ردت إلى صاحبها بغير شيء، قال في الشرح: في قول عامة أهل العلم، منهم عمر وسلمان بن ربيعة، وعطاء والنخعي والليث والثوري، ومالك والأوزاعي والشافعي، وأصحاب الرأي، ودليلهم: ما تقدمت الإشارة إليه، وهو حجة من قال إنهم لا يملكونها بالاستيلاء.
وروى سعيد والأثرم عن جابر بن حيوة، أن أبا عبيدة "كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أحرزه المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به، ما لم يقسم" فمفهوم قوله: ما لم يقسم، أنه إذا قسم مع الغنيمة فليس هو أحق به، لكن اشترط العلماء لذلك: أن لا يكون الإمام ولا المسلمون قد اطلعوا على أنه مال مسلم، فإن اطلع الإمام والمسلمون قبل قسمه فقسم، وجب رده وصاحبه أحق به بغير شيء، لأن قسمته كانت باطلة من أصلها، فهو كما لو لم يقسم.
فأما إذا قسم من غير علم أنه مال مسلم، ففيه عن أحمد روايتان; إحداهما: يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه، وكذلك إن بيع في الغنيمة ثم قسم ثمنه(7/394)
ص -390- ... فهو أحق به بالثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري، والأوزاعي ومالك، واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البعير: "إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة" وهذا الحديث لم أره معزوا إلى شيء من كتب الحديث، قالوا: وإنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة، أو تضييع الثمن على المشترى من الغنيمة وحقه ينجبر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله.
والرواية الثانية: أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، وهو ظاهر ما تقدم عن عمر، وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، لأنه لم يزل عن ملك صاحبه، فوجب أن يستحق أخذه بغير شيء كما قبل القسمة، ويعطى من حسب عليه القيمة، لئلا يفضي إلى حرمان أخذ حقه من الغنيمة، وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها، وهذا القول قد تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخ الإسلام، وهذا الخلاف فيما بعد القسمة إنما هو فيما استولى عليه الكافر الأصلي، ثم غنمه المسلمون فقسموه على الغانمين، وهم لا يعلمون أنه مال مسلم، فالحكم منصب على المسألة بقيودها.
وأما إذا تخلفت القيود أو بعضها، وجب الرجوع إلى الأصل، وهو رد مال المسلم بغير شيء; ففي المسألة أربعة(7/395)
ص -391- ... قيود، يجب اعتبارها على القول المشهور، وهو أنه لا يأخذها صاحبها إذا قسمها المسلمون، أو اشتراها التجار من غنيمة المسلمين إلا بالقيمة أو الثمن، بخلاف ما إذا لم يقسم في غنيمة المسلمين، أو اشتراها التاجر من غير الغنيمة، فإنها ترد إلى مالكها الأول بغير شيء على القولين.
وقد روى مسلم في صحيحه: "أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل، قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة، ونذرت: إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، وقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئسما جازيتيها، لا نذر في معصية الله" وفي رواية "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" 1 وهذا الحديث من أقوى الأدلة: على أنهم لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء ولا بالحيازة، والله أعلم.
وقد يستأنس من أفتى في المسألة من غير تحقيق ولا تفريق، بأن المسلم إذا وجد عين ماله مع من اشتراه، من مرتد أو غيره، يأخذه بالثمن، ويعتمد في ذلك على ما نقله عن شيخ الإسلام، فيمن اشترى مال المسلم من التتر لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح، وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النذر (1641) , والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ,3849 ,3851) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/429) , والدارمي: النذور والأيمان (2337).(7/396)
ص -392- ... لم يقصد ذلك، كما رجحه فيمن اتجر في مال غيره وربح انتهى; وهذا يفيد من تأمله: أن الشيخ لا يقول بأنهم يملكونها، لأن القول بالملك يقتضي أنها تكون لمن اشتراها منهم، وقد أفتى بأنها تكون في المصالح، إذا لم يعرف صاحبها، ولا تقر في يد من اشتراها منهم.
وأما قوله: وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، فعلل إعطاءه الثمن بأنه لم يصر للمصالح إلا بنفقة المشتري، وهذا يخالف ما لو كان المالك موجودا، فإنه قد صار له قبل الأخذ والشراء، فلا يستحق المشتري عليه نفقة، لأنه لم يستفد هذا الشيء من جهته، بل يكون حكم يده حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وبما قررناه يظهر الجواب عن المسألة، وأنه لا يصح قياس ما جرى في هذه السنين، مما وقع من نهب البغاة والمرتدين والظالمين، على ما أخذه الكافر الأصلي من أموال المسلمين.
وقد سئل شيخنا: الشيخ عبد الله رحمه الله في آخر حياته، عن هذه الأموال، فأفتى بأنها غصوب يحكم لها بحكم الغصب، وأفتى بذلك أيضا الشوكاني قاضي صنعاء، وما ظننت أن أحدا من المعروفين بالعلم يخالفهما، انتهى.
وسئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن شراء نهب البدو... إلخ؟
فأجاب: أما نهب البدو بعضهم بعضا: فالذي أرى عدم(7/397)
ص -393- ... الشراء منهم مطلقا، إذا تحقق أنه بعينه نهب، لاشتباه أمرهم.
وقال أيضا رحمه الله: "مسألة" قال المجد: باب أن درك المبيع على البائع، إذا خرج مستحقا، عن الحسن عن سمرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه" 1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي لفظ "إذا سرق من رجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن" 2 رواه أحمد وابن ماجه.
أقول: ما رأيت في كلام أحد من العلماء ما يخالف هذا الحديث، بل كل ما رأيت من كلامهم موافق لهذا الحديث، قال أحمد رحمه الله: أذهب إلى حديث سمرة يرفعه "من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه" 3 يرويه هشام عن موسى بن السائب، عن قتادة عن سمرة، قال: وموسى بن السائب ثقة، ولا يلتفت إلى قول من طعن في رواية الحسن عن سمرة، لاختلاف أئمة الحديث في سماع الحسن عن سمرة، فابن المديني يصحح سماعه عن سمرة، والترمذي يصحح حديثه عنه، والإمام أحمد لا يصحح سماعه عنه، ومع هذا يحتج بحديثه عنه في مواضع كثيرة، لأن المرسل عنده، وعند مالك وأبي حنيفة حجة، وعند الشافعي تفصيل في ذلك، فهو حجة ما لم يعارضه مثله، أو ما هو أقوى منه، ويقال: إن رواية الحسن من صحيفة، وهذا لا يقدح كما قرر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله أحسن تقرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3531) , وأحمد (5/10).
2 ابن ماجه: الأحكام (2331).
3 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/398)
ص -394- ... ورأيت فتوى منسوبة إلى إسماعيل بن رميح، يقول: إن صاحب المتاع إذا وجد متاعه بيد المشتري من الغاصب ونحوه، أنه لا يستحقه حتى يدفع الثمن للمشتري، ورد على من خالف في ذلك، وخطأه، وهو المخطئ بلا شك، واستدل بقول الشيخ تقي الدين: ومن لم يخل مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه، رجع به في أظهر قولي العلماء، ولم يلتفت الناقل لكلام الشيخ رحمه الله، إلى ما قبل هذه العبارة وما بعدها، حتى يتبين له معنى كلام الشيخ.
وصورة كلام الشيخ في حكم المظالم المشتركة قال - بعد كلام سبق ـ: وكذلك من خلص مال غيره بما أدى عنه رجع به عليه مثل من خلص ماله من قطاع الطرق أو متول ظالم أو عسكر ظالم ولم يخلصه إلا بما أدى عنه، فإنه يرجع بذلك عليه وهو محسن إليه بذلك و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ}[سورة الرحمن آية: 60] وإن لم يكن مؤتمنا على ذلك المال، ولا مكرها على الأدى عنه، فإنه محسن إليه بذلك، فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف درهم، كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه إحسانا إليه لم يجزه به، هذا أصوب قولي العلماء.
ومن جعل مثل هذا متبرعا ولم يعطه شيئا، فقد قال منكرا من القول وزورا، وقد قابل الإحسان بالإساءة; ومن قال هذا هو المشروع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله(7/399)
ص -395- ... غير الحق، لكنه قول بعض العلماء، وخالفهم آخرون، انتهى; وقوله رحمه الله: ومن لم يخلص مال غيره هذا فيمن قصد التخليص لمال الغير، لا لمن قصد التملك.
ورأيت في أثناء كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال: وأما معاملة التتار، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم، كما يبتاع من مواشي التركمان والأكراد، وأنه إذا كان الذي معهم ومع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، لم يجز شراؤها لمن يتملكها، لكن إن شريت على طريق الاستنقاذ، لتصرف في مصارفها الشرعية - فتصرف إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين - جاز، انتهى.
ورأيت فتوى له رحمه الله: سئل شيخ الإسلام عمن اشترى فرسا ثم ولدت عنده حصانا، وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان إلى رجل وأعطاه عوضه ثم ظهرت الفرس أنها مكسوبة نهبا من قوم فهل يحرم ثمن الحصان؟
فأجاب: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه ورجع عليه بقيمة الحصان الذي يستحقه صاحبه لكونه غره وإن كانت مكسوبة من التتر أو الأعراب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ولم يعرف صاحبها لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته والله أعلم.(7/400)
ص -396- ... فقوله: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه، صريح في أنه لا شيء على صاحب الفرس وأنه لا يطالبه بالثمن الذي دفعه للبائع، وأنه إنما يطلبه من البائع، انتهى، ومشترى الفرس في هذه المسألة مغرور لم يعلم أنها منهوبة، كما يدل على ذلك حديث سمرة "من وجد متاعه" 1 ولم يفرق بين كون المشتري مغرورا، أو غير مغرور، ومن استدل على خلاف ذلك بما ذكره كثير من العلماء في حكم الغنيمة، أن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة من الكفار، إن كان قبل القسمة أحذه بغير شيء، وإن كان بعدها فله أخذه ممن هو بيده بقيمته; وكذلك إذا وجده بيد من اشترى من كافر، أنه يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، فهذا بناء على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها.
وفي المسألة قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، إحداهما أنهم يملكونها بالقهر والاستيلاء، وهو قول مالك وأبي حنيفة; والقول الآخر: أنهم لا يملكونها، بل هي باقية على ملك المسلم; وأصحاب هذا القول يقولون: إن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة، يأخذه بغير شيء ولو بعد القسمة، أو وجده في يد من اشتراه من الكفار، أخذه من المشتري بغير شيء يرجع به عليه، ومن المعلوم أن الغاصب ونحوه، لا يملك ما أخذه بإجماع المسلمين، ففي حكم الغنيمة حجة ظاهرة لتصحيح ما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/474) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/401)
ص -397- ... وأما من استدل على خلاف ذلك، بحديث "لا ضرر ولا إضرار" 1 فهو استدلال مردود، لأن في الاستدلال به على هذه المسألة دفع ضرر بضرر، ومن المعلوم أن صاحب المتاع المغصوب، إذا وجده بعينه، أقوى جانبا من المشتري الذي ماله في ذمة الغاصب فكيف ندفع ضرر من ماله في ذمة الغاصب، بتحميل الضرر من وجد ماله بعينه؟ فلو لم يكن في هذه المسألة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلام للأئمة وأتباعهم، لم يكن في هذا الحديث دليل للمخالف بل هو على العكس أقرب وأقوى وقد روى ابن أبي شيبة: أن حذيفة عرف جملا له عند رجل، فخاصمه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة اليمين، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما باع ولا وهب، وروي عن شريح قال: إذا شهد الشهود أنها دابته، أحلفه بالله ما أهلكت ولا أمرت مهلكا، فهذا صريح في دفع الدابة إلى صاحبها بلا دفع ثمن، لأنهم لم يذكروه.
وأجاب أيضا: وأما من وجد ماله المسروق أو الضال ونحوه عند إنسان مشتريه، فلا أرى العدول عن العمل بالحديث الذي احتج به الأئمة أحمد وغيره، وهو حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع" 2 ويعضد ذلك ما روى ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين: أن حذيفة عرف جملا له عند إنسان، فخاصم فيه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة يمين في القضاء، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما باع ولا وهب;
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك: الأقضية (1461).
2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/402)
ص -398- ... وروى ابن أبي شيبة عن شريح أنه قال: إذا شهد الشهود أحلفه بالله، ما أهلكت ولا أمرت مهلكا. وأما تضمين من نهب مال مسلم في هذه الحادثة 1 فالذي نعتقده: وجوب رده على صاحبه، وتضمينه إن تلف.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن مسلم له ثمرة أخذها جيرانه، يدعون أنهم اشتروها من رجل آخر اشتراها من عدو تغلب عليهم، من أمراء الأتراك المتغلبين على البلاد، وأقام صاحب الثمرة بينة: أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه، استوهبها من العدو المتغلب فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين، الذين باشروا أخذها من رءوس النخل... إلخ؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا بد من الكلام على أصل هذه المسألة، وهو ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك أم لا؟ وفي المسألة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد، حكاهما أكثر الأصحاب؟
أحدهما: لا يملكونه بذلك، اختاره جماعة من الأصحاب، وهذا مذهب الشافعي، والرواية الأخرى: يملكونه وهو قول مالك وأبي حنيفة، فعلى هذا هل يملكونه بمجرد الاستيلاء؟ أو بالحيازة إلى دارهم؟
الثاني: قول أبى حنيفة، قال في القواعد الفقهية: وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي: استيلاء الترك على بلاد نجد.(7/403)
ص -399- ... المنصوص عن أحمد، قال في الفروع: نص عليه فيما بلغ به قبرص، يرد إلى صاحبه، ليس غنيمة ولا يؤكل، لأنهم لم يحوزوه إلى بلادهم، ولا إلى أرض هم الأغلب عليها، ولهذا قيل: أصبنا في قرب هرمز من متاع المسلمين، قال يعرف.
وقال أبو العباس رحمه الله: لم ينص أحمد على الملك، ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى; ولهذا إذا وجدها صاحبها قبل القسمة أخذها مجانا.
ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة: أن من أثبت الملك للكفار من أموال المسلمين، أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها، والتصرف فيها، ما لم يعلموا صاحبها، وإن كان الكافر أسلم، وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك لم يجوز قسمتها، وتوقف إذا جهل ربها، ولربه أخذه بغير شيء حيث وجده، ولو بعد القسمة أو الشراء منهم، أو إسلام آخذه وهو معه، فيأخذه من مشتريه مجانا، فعلى القول بعدم الملك، ومقتضى اختيار أبي العباس: أن الثمرة المذكورة باقية على ملك صاحبها، يرجع بها مجانا على من هي بيده، ومقتضى هذا القول أيضا: أن صاحبها يضمنها من انتفع بها، إذا كانت تالفة، وعلى القول الثاني: يأخذها صاحبها ممن هي في يده مجانا، إن كان مُتَّهبا، وإن كان مشتريا أعطاه الثمن الذي اشتراها به.(7/404)
ص -400- ... وإذا اختلف في كونه مشتريا، أو متهبا، وأقام من هي في يده بينة أنه مشتر، وأقام صاحب الثمرة بينة أنه أقر أنه متهب، فالظاهر تعارض البينتين، فيصيران كمن لا بينة لهما، ويكون القول قول صاحب الثمرة بيمينه، أن ما في يده متهب، لأنه غارم، كالمذهب فيمن اشترى أسيرا مسلما من الكفار بنية الرجوع، وتنازعا في قدر ما دفع فيه، أن القول قول الأسير، لأنه منكر زيادة، ولأنه غارم.
وكلامهم هذا واختلافهم، إنما هو في الكفار الأصليين، وأما المرتدون: فكلامه رحمهم الله صريح في أن حكمهم ليس كذلك، وأنهم لا يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين، لأنهم صرحوا أن المرتد إذا أسلم، وفي يده مال مسلم، أن صاحبه يأخذه مطلقا، ولم نرهم ذكروا في ذلك خلافا، وإنما تنازعوا في تضمينه ما أتلفه حال ردته، وفي تضمينه ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، المذهب منهما عند أصحابه الضمان، ومن لم يضمنه علل ذلك بأن في تضمينه تنفيرا له عن الإسلام، ولم يعللوه بأنه ملكه، وقد أجمعوا: أن الكافر الأصلي، لا يضمن ما أتلفه حال كفره، على القولين جميعا، أعني: ملكه لمال المسلم وعدمه، ولم نعلم بينهم نزاعا في أن المرتد إذا أسلم، يرد ما في يده من أموال المسلمين. واختلفوا في الأصلي إذا أسلم، هل ينْزع ما في يده من أموال المسلمين؟ فظهر من كلامهم الفرق بين الأصلي(7/405)
ص -401- ... والمرتد، وأن المرتد لا يملك مال المسلم بالاستيلاء; وعلى هذا فمن انتقل إليه مال مسلم من مرتد، بقهر أو هبة أو شراء، فصاحبه أحق به إذا وجده بغير شيء. إذا ثبت ذلك: فهؤلاء الأعداء الذين استولوا على نجد وأهلها، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها; وإن كان الشرك موجودا فيهم كثيرا، فهذا الذي نراه ونعتقده، والله أعلم.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا عرف رجل دابته عند رجل، فالذي نفتي به أن صاحبها يأخذها مجانا، ويرجع المشتري على من باعه مطلقا عرفه أم لا، هذا هو الذي قرره الشيخ عبد الله أبا بطين، في مسألة مشهورة له، صدرها بحديث سمرة الذي رواه عنه الحسن، ورواية الحسن عن سمرة حجة عند الإمام أحمد، ومن وافقه من العلماء، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخيرا، وأخبر أنه لا يزال ضرر المشتري بضرر المالك، لأن المالك أحق بدفع ضرره، لحديث "لا يزال الضرر بالضرر" ولفظ حديث سمرة "من وجد متاعه عند رجل أو قال عند مشتريه، فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه" 1 وأبا بطين رحمه الله مسئول عن هذه المسألة، واستدل السائل بالحديث الذي في السنن، فقال هو لا يقاوم حديث سمرة في الصحة، وعمل الجمهور بحديث سمرة كاف في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/228 ,2/247 ,2/249 ,2/258 ,2/347 ,2/385 ,2/410 ,2/468 ,2/474 ,2/487) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/406)
ص -402- ... الاحتجاج به، مع أن الحديث فيه عكرمة بن خالد، أو خالد بن عكرمة، انتهى كلامه.
وقال: ما وقع في هذه السنين من النهب والظلم، يرد ما وجد منه إلى مالكه، من غير أخذ قيمة ولا ثمن، وحكم يد المشتري حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب; قلت إن كان عكرمة بن خالد بن سلمة، فقد قال البخاري فيه هو منكر الحديث، قاله في الخلاصة; وأما خالد بن عكرمة، فلم أجد له ذكرا فيها، وأما عكرمة بن خالد بن العاص فوثقة بن معين، انتهى، ثم إني نظرت فيها، فيمن روى عن أسيد بن حضير، فلم يذكر عكرمة بن خالد فيمن روى عنه، فلعل مراد الشيخ عبد الله أبا بطين، عكرمة بن خالد بن سلمة، انتهى.
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، وبعد: بلغني ما ساءني، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الإحساء، التي تؤخذ منهم قهرا، ولا ينكر مثل هذا إلا من يعتقد معتقد أهل الضلال، القائلين إن من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف: الذي جاءكم مع اللصوص، هو من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا من قحطان: يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم، ويتحاشا من(7/407)
ص -403- ... الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه; وأما نهائب الأعراب، التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك كله، فهو طريقة جمهور أهل العلم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إذا وجد المسلم ماله بعينه عند أحد، فإنه يأخذ ماله من المرتد، أو ممن انتقل إليه بعوض وغيره بغير شيء، لأن المرتد لا يملك مال المسلم بأمان ولا غيره، لأن إعطاءه الذمة إنما هو على ماله، لا على مال المسلم; والمرتد: هو الذي دخل في الإسلام، وصدر منه ناقض من نواقض الإسلام، من قول أو فعل، بخلاف الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام أصلا، هذا مضمون كلام العلماء.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: الذي عرف ماله عند أخيه المسلم، وهو مأخوذ منه انتهابا، لا يخفى أن مثل هذا يأخذ ماله ممن وجده عنده، لأن العلماء رحمهم الله ذكروا أن الأيدي المترتبة على يد الغاصب عشر، كلها أيدي ضمان، ومنها: يد المشتري من الغاصب; إذا علم ذلك: فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين، وغيره من مشائخ هذه الدعوة، أن البدوي إذا عرف ماله عند حضري، قد اشتراه من بدوي آخر، ليس له انتزاعه منه، إذا كان كل من البدويين ينهب من الآخر; ومثل البدو اليوم.(7/408)
ص -404- ... فالذي أرى: أنه إن كان المال الذي عرفه عند أخيه المسلم، قد أخذه منه قبل أن يتوب عن حاله الأولى، فالظاهر أنه ما ينتزعه من أخيه المسلم، لأنه أخذه منه وهو في حال كل منهما يأخذ مال صاحبه، وإن كان المال أخذ بعد التوبة، فهو يأخذه ممن وجده عنده بغير بذل ثمن.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن نهب البدو بعضهم بعضا، إذا عرف أحدهم منه شيئا عند الحضر... إلخ؟
فأجاب: إذا عرف أحدهم ماله عند حضري، وثبت أنه منهوب منه بالبينة، فالذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف: أنه يعطي المشتري ثمنه الذي دفع إليه، ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربا للحضر، وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب.
وسئل: عن قولهم من خلص مال غيره... إلخ؟
فأجاب: قولهم إن من خلص مال غيره من هلكة، استحق أجرة المثل; قالوا: كما لو أخرجه من بحر، أو خلصه من فم سبع، أو وجده بمهلكة، بحيث يظن هلاكه في تركه، لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة; وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة، لكن لو قيل في هذه الأزمنة: إن من وجد حيوان غيره بمهلكة، بحيث يظن هلاكه بتركه فأنقذه بنية الرجوع على ربه بما غرمه، أو(7/409)
ص -405- ... بأجرة عمله، والحال إن لم يكتمه لم يكن بعيدا رجوعه; ولا يفهم من قولهم هذا: أن المشتري من الغاصب ونحوه يرجع بثمنه على المغصوب منه، إذا أخذ سلعته، لأنهم ذكروا هذه المسألة وفسروها بما ذكرنا، وذكروا أن المشتري من الغاصب يرجع بثمنه على من اشترى منه، لا على من عرف سلعته وأخذها، وهذا ظاهر.
وقولهم: من خلص متاع غيره، من جملة ما تضمنه كلام الشيخ، في قوله: ومن لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى، رجع به في أظهر قولي العلماء، لأنه محسن، فقوله: لأنه محسن، مشعر بأن ذلك فيمن خلص مال غيره استنقاذا لصاحبه، لا ليتملكه، لأنه الذي يوصف بالإحسان; وأما الذي يشتري من الغاصب ونحوه للتملك، ويستعمل المبيع ويعجفه إن كان حيوانا، فهذا لا يوصف بأنه محسن; وأيضا الحديث المرفوع، الذي احتج به الإمام أحمد وغيره "من وجد متاعه عند إنسان فهو أحق به ويتبع المبتاع من باعه" 1 لا يجوز أن يعارض بقول أحد كائنا من كان.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ودفع الشاة عن غنم إلى ذي يد قاهرة، تلزم جميع الغنم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676 ,4677) , وأبو داود: البيوع (3519 ,3523) , وابن ماجه: الأحكام (2358 ,2359 ,2360) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1382 ,1383) , والدارمي: البيوع (2590).(7/410)
ص -406- ... سئل الشيخ: علي بن الشيخ حسين بن الشيخ رحمهم الله: عن رجل غصب شجرا ثم بايع به هل يضمن الغاصب غلة نخل من بايعه، كما ضمن نماء الغصب؟
فأجاب: هذا المغصوب من أفسد العقود; وقد ذكروا في العقد الفاسد، ما يبين أن لصاحب النخل أو الشجر، الرجوع على الغاصب، بما أخذ منه المالك، قال في الإقناع: ومنافع المقبوض بعقد فاسد كمنافع المغصوب، تضمن بالفوات والتفويت.
وسئل: عن الأيدي المترتبة على يد الغاصب؟
فأجاب: الأولى، والثانية: يد المشترى منه، ويد المستعير; الثالثة: يد المستأجر; الرابعة، والخامسة: يد المتملك بلا عوض، ويد القابض بعقد أمانة، السادسة: يد المتزوج للأمة المغصوبة، إذا تزوجها وكانت بيده وماتت; السابعة: يد المتصرف في المال بما ينميه، كالمضارب والمزارع، إذا تلف بيد العامل ونحوه; الثامنة: يد القابض تعويضا، بأن يجعل المغصوب عوضا في نكاح، أو خلع أو إيفاء دين ونحوه; التاسعة: يد المتلف للمغصوب، نيابة عن الغاصب، كالذابح للحيوان المغصوب، يرجع بما ضمنه للمالك على الغاصب، إن لم يعلم بالحال; العاشرة: الغاصب من الغاصب، فالقرار على الثاني مطلقا.(7/411)
ص -407- ... وسئل أيضا رحمه الله: إذا استأجر رجل أرضا مغصوبة، هل يحرم عليه نصيبه؟ لتولده من الأرض المغصوبة؟
فأجاب: يد هذا العامل إحدى الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وكلها أيدي ضمان، وقد مثلوا الثالثة بيد المستأجر; والسابعة بيد المساقي والمضارب والشريك، فأرجى هذه الأيدي: اليد العاشرة مما عدى التحريم والتغريم.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن الوجهين المذكورين في ثمر ما غرسه الغاصب، هل هو للغاصب أو حكمه حكم الزرع ؟
فأجاب: إن قلنا للغاصب، فلصاحب الأرض أجرة أرضه إلى حين يتسلمها، وإن قلنا حكمه حكم الزرع، واختار صاحب الأرض أخذه بنفقته، فالظاهر: أن ابتداءها في النخل ونحوه، من سقيه بعد جذاذه للسنة المستقبلة، إلى حين اختيار أخذه; وهذا الخلاف والحكم، إنما هو في ثمر ما غرسه الغاصب، وأما ثمر الشجر المغصوب، فهو لربه بغير خلاف; وأما إيجابهم الأجرة على من حبس حرا غصبا مدة لمثلها أجرة، فالذي يظهر أن مرادهم: كل من له منفعة يصح عقد الإجارة عليها، قال في شرح الإقناع معللا عدم ضمان غاصب الأمة مهرها، إذا حبسها عن النكاح، حتى فات نكاحها بسبب كبرها، قال: لأن النفع إنما يضمن بالتفويت، إذا كان مما(7/412)
ص -408- ... يصح المعاوضة عليه بالإجارة، والبضع ليس كذلك; وقد قالوا في العبد المغصوب: إذا كان ذا صنائع، لزم الغاصب أجرة أعلاها; قال بعضهم: فدل كلامهم أنه لو لم يحسن صنعة، لم يلزمه أجرة صنعة مقدرة، ولو حبسه مدة لا يمكن أن يتعلم فيها صنائع.
وأما صفة: تقويم المريض إذا أتلفه متلف، فقال المجد في شرح الهداية: من استهلك على رجل زرعا أخضر، ضمن قيمته على رجاء السلامة والعطب; قال: وهذا مذهب مالك، وقياس مذهبنا في تقويم المريض، والجاني ونحوهما، انتهى; فظهر: أن صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه، أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته، ثلاثين ريالا مثلا، وإن كان لا يخاف عليه الموت من ذلك المرض، يساوي خمسين مثلا، وإن كان لا ترجى سلامته يساوي مثلا عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته، صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه، انتهى.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا أفسدت دابة إنسان بالليل ملك الغير، ما كيفية الضمان ؟
فأجاب: صفة التقويم في الزرع الأخضر ونحوه، أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزرع من الثمر، فيغرم له قيمة ذلك الناقص، هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الزرع إذا(7/413)
ص -409- ... ضمن على المتلف، ينظر لقيمته إن كان سليما أو مريضا، كالعبد الجاني، فإن جنايته تتعلق برقبته، ويقوم إذا استغرقت الجناية قيمة رقبته بحسب حاله، إن صحيحا فصحيح، وإن مريضا فمريض; وبالجملة: فالضمان بحسب القيمة في المقومات، أو مثله في المثليات.
فصل
سئل الشيخ محمد رحمه الله: عمن في يده شيء لا يعرف مالكه ؟
فأجاب: وإن اشتبه الحال على من وقع في يده شيء لا يعرف مالكه، فله التصدق بثمنه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: العدائل المجهول صاحبها، وهي المنائح، العلماء رحمهم الله قد ذكروا: أن المال المجهول صاحبه، يتصدق به صاحبه مضمونا، أو يدفعه إلى الحاكم; وقد أفتى الشيخ تقي الدين: أن الغاصب إذا تاب وهو فقير، جاز له الأكل مما بيده من المال المغصوب، مع معرفة المالك وعدمها، فقد يؤخذ منه أن المسؤول عنه، أولى بجواز أكل ما بيده من المذكور إذا كان فقيرا.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عمن قطع السيل على ناس ودمر عليهم ؟
فأجاب: يضمن ما دمر عليهم بسببه، والدابة المركوبة(7/414)
ص -410- ... يضمن الراكب ما أتلفت، وأما التي لا تركب فهدر ما أتلفت، وما أتلفت البهيمة بلا سبب تعد من صاحبها، فهو هدر. وأما الأرض التي للعشرة، إذا سرح فيها واحد منهم مواشيه بغير إذنهم وخربت شيئا، لزمة غرامتة إذا كان في الليل، وأما في النهار فيلزم كل واحد منهم يحرس زرعه، أو يقسمون ويجعلون جدرانا.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: على أهل الدواب أن يحفظوها ليلا، وما أكلته بالليل فهو مضمون لصاحبه بقيمته، وما أكلته نهارا فلا ضمان فيه، لأن الحفظ والحراسة في النهار على أهل المزارع والخضرة، إلا إن فتح صاحب الدابة لها بابا مغلقا، أو هدم جدارا وأدخلها، فيضمن حيئنذ.
وأجاب الشيخ محمد بن مقرن: لا ينبغي للجار يضر بجاره، ففي النهار يحفظ أهل الأموال أموالهم، وفي الليل يضمن أهل المواشي ما أتلفت; والنخل الذي عليه جدار يحميه عن البقر، إذا دخلت فيه الغنم يحفظها أهلها، وكذلك الإبل إذا أفسدت ما هو محمي.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: عن الصائل المعاند ؟
فأجاب: دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتل لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلا بالقتل، جاز قتله ودمه هدر.(7/415)
ص -411- ... وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: من قصد إنسانا بخشبة ونحوها ليضربه بها، فللمقصود دفعه بالأسهل، أو بالهرب عنه ما أمكنه، فإن لم يندفع بذلك، فله ضربه بما يندفع به، وأرجو أنه ما يضمن والحالة هذه.
سئل بعضهم: هل يضمن مالك الضاري، من الدواب وغيره ما جناه؟
فأجاب: إذا علم المالك ذلك من طبعها بتجربة، وجب عليه حبسها، فإن لم يحبسها ضمن، حتى قيل: إن الإنسان إذا عرف أنه يعين الناس بعينه، وجب حبسه.
وسئل بعضهم أيضا: عن البلد إذا كان بها حيوان كثير من بقر وغنم وغيره ويلحق أهل النخيل والزروع بإهمالها ضرر عظيم، وربما تسلط العدو الكافر بأشياء تضر المسلمين بإهمالها، فلما رأى ولي الأمر ذلك نبه بحفظها: إما أن تربطوا أدباشكم أو تجعلون لها راعيا يحفظها، ومن عصى وأهمل دبشته، تواني آمر بعقرها أدبا له، أيجوز ذلك أم لا؟ وإن اعترض معترض، وقال: على أهل الزرع حفظها بالنهار، وعلى أهل الدبش حفظها بالليل، ونحن غير طائعين في هذا، فبينوا لنا رحمكم الله؟
فأجاب: إن كان الأمر كما ذكر في السؤال، من خوف المضرة وعمومها، على أهل النخيل والحروث والزروع، من إتلاف زروعهم وفسادها، وضياع غرسهم وخرابه، من إهمال(7/416)
ص -412- ... الأدباش، فيجب على ولي الأمر: رفع الضرر وكف الأذى عن الناس، لما روى الحاكم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله،ومن شاق شق الله عليه" 1
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام" 2.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به" 3 قال الإمام الحافظ أبو الفرج: عبد الرحمن بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على هذا الحديث: إن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك; وقيل، الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به.
فهذا يصرح: أن الواجب على الإمام، وولي الأمر أن يرفع الأشياء التي بها يحدث المضرة والفساد، لا سبب لم تحدث به مضرة على أحد، ورفع المضرة في هذه المسألة ممكن فعلها، بربطها، أو يجعل لها رعاة; والناس إذا أمرهم ولي الأمر بذلك لما يراه من الصلاح، وجب عليهم السمع والطاعة فيما يحبون، وفيما يكرهون، ومن عصاه استحق العقوبة.
والمعترض بهذا الحديث: ليته تعلم قبل أن يتكلم أن معنى الحديث نوع، وهذا نوع آخر; فنحن نفتي وأئمتنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326).
2 مالك: الأقضية (1461).
3 الترمذي: البر والصلة (1941).(7/417)
ص -413- ... رحمهم الله بما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البهيمة إذا شذت من المرعى الذي جرت به العادة أنه يكون بالفلاة خارج البلد، وشذت عن الراعي، أن لا ضمان على مالكها، وأما إذا سيبها تلقاء الزروع وأهملها تخرب على الناس، فعليه الضمان ولو نهارا.
وقال الحافظ بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على حديث النعمان بن بشير من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع لو كان نهارا، وهذا هو الصحيح، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال، انتهى كلامه.
حاصل الجواب: أن أهل البلدان إذا كان لهم ماشية تضر الزرع، والحرث، بإهمالها، ورأى الإمام رفع المضرة عن الناس بحفظها برد أو رعاة لها، لزمهم ذلك، ومن أبى استحق الأدب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ربطها، ولا نهى أن يجعل لها رعاة، ولا أمر بتسييبها وإهمالها بين الزروع والنخيل، وإنما ذكر الحكم في الضمان أنه متعلق بفساد الليل، ونحن نقول بذلك، وأما ما يراه ولي الأمر من المصالح هذا نوع آخر، ولو ذهبنا نذكره لطال. ونحن نذكر للمسترشد من ذلك نوعين
الأول: إذا كان لإنسان ابن مجنون، ومن المعلوم أن القلم قد رفع عنه، وحصل منه تعدي على الناس بضرب وغيره، فيلزم أباه أن(7/418)
ص -414- ... يحفظه، ولا يقال: إنه رفع القلم عنه.
الثاني: من له ولد أو غلام صغير، وتبين منه فجور وفساد، فعلى أبيه ووليه زجره وأدبه ومنعه من ذلك، وإن كان القلم قد رفع عنه.
وبهذا يتبين لك أيها المسترشد: أن المنع من الفساد والمضرة غير الحكم، هذا نوع، وهذا نوع، ويتبين لك فساد قول المعترض: إن هؤلاء قد رفع القلم عنهم فلا تتعرضوهم، ولا تمنعوهم، وهذا باب واسع يتبين لك أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح أشياء واستحبها، ولما رأى الخلفاء الراشدون عاقبتها الضرر والفساد نهوا عنها.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" 1 وقد منعهن الخليفة الراشد عمر ولم ينكر،
ومنها: أنه استحب الجمة واللمة من الشعر، وكانت مستحبة للرجال، وقد حلق عمر ذلك من رأس نصر بن حجاج، وطرده إلى البصرة لما تغزلت بحسنه النساء، وخشي من الضرر والفساد،
ومنها: حكمه صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر أربعين جلدة وقد زاد عمر أربعين فكان ثمانين جلدة ولم ينكره.
ومنها: أن الطلاق على عهده صلى الله عليه وسلم الثلاث مجموعة واحدة، فلما رأى عمر رضي الله عنه أن الناس تتابعوا في ذلك أمضاه عليهم، فجعل الثلاث ثلاثا مُبِينة للمرأة من زوجها أدبا وعقوبة لهم، وهذا كله بحضرة الصحابة ولم ينكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجمعة (900) , ومسلم: الصلاة (442) , والنسائي: المساجد (706) , وابن ماجه: المقدمة (16) , وأحمد (2/16) , والدارمي: المقدمة (442) والصلاة (1278).(7/419)
ص -415- ... فتأمل أيها المسترشد: أن الحكم يتغير بموجباته وأسبابه، والحكم نوع والسمع والطاعة نوع آخر، والأسباب التي كانت على عهده صلى الله عليه وسلم غير الأسباب التي كانت على عهد عمر، ولا تكن كمن قيل فيه:
وكم عائبا قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن حديث هند، وحديث "لا تخن من خانك" 1 ؟
فأجاب: هذه تسمى مسألة الظفر، فمن الناس من منع مطلقا، واستدل بقوله: "ولا تخن من خانك" 2 ومنهم من أباح مطلقا، واستدل بحديث هند، ومنهم من فصل، وقال: حديث هند له موضع، والآخر له موضع، فإن كان سبب الحق ظاهرا لا يحتاج لبينة، كالنكاح والقرابة، وحق الضيف، جاز الأخذ بالمعروف، كما أذن لهند، وأذن للضيف إذا منع أن يعقبهم بقدر قراه.
وإن كان سبب الحق خفيا، وينسب الآخذ إلى خيانة أمانته، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، ولعل هذا أرجح الأقوال، وبه تجتمع الأدلة، وأما إذا قدر على استيفاء حقه من مال الغاصب من غير أمانته، ولا يمكن رفعه إلى الحاكم، فلا أعلم في هذا بأسا، وقد أفتى به ابن سيرين، وقرأ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}[سورة النحل آية: 126].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597).
2 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414).(7/420)
ص -416- ... وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: إذا كان لرجل على آخر حق، وقدر له على مال، فهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال، وتسمى هذه المسألة مسألة الظفر،
أحدها: أنه ليس له أن يخون من خانه، ولا يجحد من جحده، ولا يغصب من غصبه، وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك.
والثاني: يجوز أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بماله، سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه، ويستوفي ثمنه منه; وهذا قول أصحاب الشافعي.
والثالث: يجوز أن يستوفى قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة.
والرابع: إن كان عليه دين لغيره، لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله، وهذا إحدى الروايتين عن مالك.
والخامس: إن كان سبب الحق ظاهرا، كالنكاح والقرابة وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان، ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه، أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه، كما في الصحيحين عن عقبة بن عامر، قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننْزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال لنا: "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المظالم والغصب (2461) والأدب (6137) , ومسلم: اللقطة (1727) , وأبو داود: الأطعمة (3752) , وابن ماجه: الأدب (3676) , وأحمد (4/149).(7/421)
ص -417- ... وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ والنسب إلى الخيانة ظاهرا، لم يكن له الأخذ، وعرض نفسه للتهمة والخيانة، إن كان في الباطن آخذ حقه، كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه، وإن ادعى أنه محق غير متهم،
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا القول أصح الأقوال وأسدها، وأوفقها للشريعة، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى: أبو داود في سننه، من حديث يوسف بن ماهك، قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" 1 وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر،
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية، أنه قال: "يا رسول الله: إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".
فهذه الأحاديث: تبين أن المظلوم في نفس الأمر، إذا كان ظلمه غير ظاهر، وقدر على مال لمن ظلمه وأخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكن خان الذي ائتمنه، فإنه إذا سلم إليه ماله، فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائنا، وإن قال أنا مستحق في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597).(7/422)
ص -418- ... نفس الأمر لما أخذته، لم يكن له ما ادعاه ظاهرا معلوما، وصار كالمتزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك، ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن.
فإن قيل: هذا ليس بخيانة بل هو استيفاء حق، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله ما لا يستحق نظيره.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا السؤال، بأن قال: هذا ضعيف لوجوه;
أحدها: أن الحديث فيه "أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منا؟ فقال: لا"
الثاني: أنه قال: "ولا تخن من خانك" 1 ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة، لم يكن فرقا بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله: "ولا تخن من خانك" 2 فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرجل الرجل مالا فخانه في بعض، ثم أودع الأول نظيره فأراد أخذ ماله منه، فهذا هو المراد بقوله: "ولا تخن من خانك" 3.
الثالث: أن كونه خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص، فإن الأمور منها ما يباح القصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414).
2 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414).
3 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414).(7/423)
ص -419- ... فيه، كالقتل وقطع الطريق وأخذ المال، ومنها: ما لا يباح فيه القصاص، كالفواحش والكذب ونحو ذلك، قال الله تعالى في الأول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى آية: 40] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}[سورة النحل آية: 126] فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل، فلما قال صلى الله عليه وسلم هنا "ولا تخن من خانك" 1 علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل، والله أعلم;
فإذا تقرر هذا: عرفت أن الصواب في المسألة، ما رجحه الشيخ تقي الدين وابن القيم رحمهما الله فيما تقدم، وهذا هو الموافق لقواعد الشرع.
وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: وأما مسألة الظفر، فإن كان سبب الحق ظاهرا، جاز له أن يأخذ قدر حقه.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن حديث عمران بن حصين، في قصة العقيلي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم "بم أخذتني، وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" 2.
فأجاب: الحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي، وها أنا أسوق رواية أحمد في مسنده: حدثنا إسماعيل عن أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414).
2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505).(7/424)
ص -420- ... أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء،فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد يا محمد يا محمد، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني؟ وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف عنه، فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح ثم انصرف عنه، فناداه يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني، قال: هذه حاجتك؟ قال ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت معها العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ، قال: وهي ناقة منوقة، فقعدت في عجزها وزجرتها فانطلقت، ونذروا بها وطلبوها فأعجزتهم، ونذرت: إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني نذرت إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: سبحان الله بئسما جازتها، إن الله سبحانه وتعالى أنجاها لَتنحرها، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد" ولأبي داود: ابن آدم.(7/425)
ص -421- ... قال النووي رحمه الله: في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم "أخذت بجريرة حلفائك" 1 أي: بجنايتهم، قوله صلى الله عليه وسلم "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح" 2 معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر، حين كنت مالك أمرك، أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر، ومن الاغتنام; وأما إذا أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق، والمن والفدى; وفي هذا جواز المفاداة، وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر، انتهى.
فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين، إذا نقضوا العهد، كحال هذا الرجل العقيلي، فإنه لما قال إني مسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح" 3 وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبلُ مسلما.
وفي الحديث أيضا: ما يدل على ذلك، وهو قوله: "ففدى الرجل بعد بالرجلين" فتأمله فإنه ظاهر بحمد الله، والحديث لا علة له; قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي منه طرفا، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرفا، انتهى كلامه رحمه الله;
وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه، واتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505).
2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505).
3 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505).(7/426)
ص -422- ... وقال ابنه الشيخ: عبد اللطيف: سألت والدي رحمه الله عما يفعله بعض الأمراء بنجد، من أخذ ابن العم بجريرة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي؟ أو لا مستند له؟
فأجاب: اعلم وفقك الله أن أهل نجد، كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم، بأسوأ حال; أما الأعراب: فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات ولا في غيرها من الأحكام، ولا في الدماء ولا في الأموال، ولا في النكاح ولا في الطلاق، والمواريث وغير ذلك; وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى وتستحل دماءها وأموالها، والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها.
فلما من الله بهذه الدعوة وأقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام، والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا ويصلوا ويزكوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان، على من قدروا عليه واستضعفوه، ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا، أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق(7/427)
ص -423- ... منه والحالة هذه.
فلو تركوا رأسا ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين، من حديث: "لا يجني جان إلا على نفسه" 1 لضاعت حقوق الناس ودماؤهم وأموالهم، وعطلت القواعد الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه، ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف والبراءة من المحاربين وقطاع الطريق، ومثل هذه القبائل: لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا محاربة الله ورسوله، ساغ للأئمة ما ذكر، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأيضا: فلو خلوا بين أهل الإسلام، وبين هذا الجاني من أبناء عمهم، لتمكن المظلوم من أخذ حقه ورد مظلمته، فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث: "لعن الله من آوى محدثا" 2 وفي الحقيقة: هذا إحسان إلى القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه، لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه.
وبالجملة: فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2159) , وابن ماجه: المناسك (3055).
2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152).(7/428)
ص -424- ... وهذا الذي ذكرناه هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقَلَّت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء، قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ فقال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف" 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم قلت: فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا، أنه حكم خاص بأهل القوة والنصرة، بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له ولا جناية، ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المصالح ودفع المفاسد.
ثم ذيل على ذلك ذيلا، فقال رحمه الله: ما قاله شيخنا ووالدنا حفظه الله، في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة، فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه وامتنع بنفسه، وترك من يؤويه وينصره، صار قوة له وإعانة له على ظلمه، فإن أخذ بجريرته وأسر فيه، حصل له فيه ودع وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار.
قال الخطابى في شرح سنن أبي داود، في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم، حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا حدثنا حماد، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج قال فأسر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج، قال: آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف. وكانت ثقيف قد أسروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505).(7/429)
ص -425- ... رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"
قال الشيخ: قوله: "آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف" اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: هذا يدل على أن بني عقيل عاهدوا، أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذوا بجريرتهم; وقال آخرون: هذا الرجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإذا جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره، ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي.
وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين الذين أسرتهم ثقيف، ألا تراه يقول: ففدى الرجل بعد بالرجلين انتهى، فتأمل هذا فإنه يدلك على صواب الحكم; والآية وهي قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[سورة الأنعام آية: 164] ليس فيها ما يدفع هذا ولا يرده.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال لا تعطه قبلي... إلخ؟
فأجاب: لم أر في هذه المسألة نصا، ومقتضى أصولهم: أنه لا يلزم المقول له إبقاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه، لم يكن ضامنا ولا محالا عليه، ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "أد الأمانة إلى من ائتمنك" 1 وجوب الدفع إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597).(7/430)
ص -426- ... المستحق حقه، ولا يمنعه حقه بمجرد قول إنسان لا تعطه، وقد يثبت لهذا القائل حق وقد لا يثبت، ولكن ينبغي للمدعي رفع الأمر للحاكم إن كان ثم حاكم، وينظر الحاكم فيه بمقتضى الشرع، إن رأى الحاكم القضاء على الغائب قضى للمدعي بما ادعى به، وإن أمكن إحضار المدعى عليه أحضره مع خصمه ونظر في أمرهما، هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
باب الشفعة
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر؟ والشركة في السيل؟
فأجاب: تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر، ولا تثبت الشفعة بالشركة في الجدار، ولا بالشركة في السيل.
وسئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا لم يكن بينهما إلا شركة في البئر، فهل تثبت الشفعة.
فأجاب: إذا لم يكن بينهما إلا شركة في البئر خاصة، فالصحيح من أقوال العلماء والمفتى به عندنا: أن للشريك الشفعة، كما هو اختيار الشيخ ابن تيمية وغيره من العلماء، وإذا اشترى رجل أرضا ليس لشريكه فيها شركة، لا في ماء ولا في طريق، ليس له فيها شفعة.
وأجاب أيضا: قولك هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء؟ فالمفتى به عندنا أنها تثبت بذلك، كما(7/431)
ص -427- ... هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء.
وأجاب أيضا: وأما الجار إذا كان شريكا لجاره في طريق وليس لغيرهما فيه شركة، ففي الشفعة خلاف، والمشهور الراجح أن له الشفعة، وهو المفتى به عندنا، وهو اختيار الشيخ تقي الدين.
وأجاب أيضا: إذا باع شريك في مسيل حقه، وأراده شريكه بالشفعة جاز، وأما شفعة الجوار ففيها خلاف بين العلماء، ولا عادتنا نفتي بلزوم الشفعة فيها، إلا إذا كان فيها شركة من طريق أو ماء.
وسئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل:
فأجاب: المذهب عدم ثبوت الشفعة بالطريق، والسيل مثله، واختيار الشيخ التشفيع بمرافق الأملاك، من الطرق والبئر والسيل، وهو الذي عليه الفتوى عند أئمة هذه الدعوة، لحديث "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا" 1 ولمفهوم حديث: "فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة" 2 وهو الذي نفتي به، انتهى.
سئل الشيخ: حمد بن ناصر، على القول بإثبات الشفعة بالشركة في الطريق، هل إذا باع عقاره وقد وقعت الحدود إلا أن الشركة باقية في البئر، والطريق ومسيل الماء، هل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3518).
2 البخاري: البيوع (2213) , والترمذي: الأحكام (1370) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296 ,3/399).(7/432)
ص -428- ... يأخذ المبيع كله... إلخ؟
فأجاب: على القول بإثبات الشفعة بالشركة في البئر والطريق، يأخذ الشفيع المبيع كله، بالشركة في البئر والطريق، ولا يختص ذلك في البئر نفسها، ولا بالطريق وحده، وقد نص على ذلك أحمد في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ قال: للجار إذا كان الطريق واحدا، فإذا صرفت الطرق، وعرفت الحدود فلا شفعة، ويدل على ذلك: ما رواه أهل السنن الأربعة، من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظره بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا" 1 وفي حديث جابر المتفق عليه "الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعه" 2 فمفهوم الحديث الآخر، موافق لمنطوق الأول، بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطرق، والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق، لأن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك، ومع بقاء الشركة في البئر والطريق، يبقى الضرر بحاله، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين، وهو الذي عليه الفتوى.
وأما الشفعة فيما لم ينقل وليس بعقار، كالشجر إذا بيع مفردا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، والمشهور في المذهب أنها لا تثبت فيه، وهو قول الشافعي وأصحاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1369) , وأبو داود: البيوع (3518) , وابن ماجه: الأحكام (2494) , وأحمد (3/303) , والدارمي: البيوع (2627).
2 البخاري: الشفعة (2257) , والترمذي: الأحكام (1370) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296 ,3/399).(7/433)
ص -429- ... الرأي، وعن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة تثبت في البناء والغراس، وإن بيع مفردا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الشفعة فيما لم يقسم" 1 ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر، والضرر فيما لم يقسم أبلغ منه فيما ينقسم، وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء" 2 وقد روى مرسلا، وقد رواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعا، ولفظه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء".
وسئل أيضا: هو، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا.
فأجاب: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد; الأولى: أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته، فأما ما لا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير، والعضادة، والطريق الضيق، والعرص الضيقة، فلا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة، قال الموفق في المغنى: وهو ظاهر المذهب، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا شفعة في فناء ولا في طريق ولا في منقبة" والمنقب الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2497) , وأحمد (3/296 ,3/372) , ومالك: الشفعة (1420).
2 الترمذي: الأحكام (1371).(7/434)
ص -430- ... والرواية الثانية: تثبت الشفعة فيه، وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج، ورواية عن مالك، واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، قال الحارثي: وهو الحق، لعموم قوله عليه السلام "الشفعة فيما لم يقسم" 1 وسائر الألفاظ، ولأن الشفعه تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر، لأنه يتأبد ضرره، وهذا هو المفتى به عندنا، وهو الراجح.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: في هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما- وهي المذهب عند أكثر الأصحاب - لا تجب الشفعة إلا فيما يقسم قسمة إجبار، فلا تجب في الدار الضيقة والبئر ونحو ذلك، لحديث جابر مرفوعا: "أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" 2 قالوا: والحدود إنما تقع فيما يقبل القسمة، فإذاً تقدير الحديث: الشفعة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم،
والرواية الثانية: ثبوت الشفعة في ذلك، اختارها ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهما; قال الحارثي: وهو الحق; وروى عبد الله بن أحمد عن عبادة مرفوعا: "أنه قضى بالشفعة بين الشركاء في الدور والأرضين" 3.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل الأحق بالشفعة شريك البئر، أو النخل ؟
فأجاب: ومسألة الشريك في البئر ليس له شفعة، بل الشفعة للشريك في النخل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2497) , وأحمد (3/296 ,3/372) , ومالك: الشفعة (1420).
2 البخاري: الشفعة (2257) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296).
3 أحمد (5/326).(7/435)
ص -431- ... وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: شريك الأصل أحق من شريك المصالح، ما لم يترك الطلب بها بغير خلافً نصَّ عليه في المغنى والشرح، والإنصاف وغيرها.
وأجاب أيضا: وأما الشفعة بالمصالح، كالطريق والسيل ونحوه، فشريك الأصل مقدم عليه، أي: على الشريك في المصالح مطلقا، لأن شريك الأصل في الشفعة مما لا نزاع فيه بين العلماء فيما أعلم.
وأما مسألة: زيادة المشتري في الثمن، لعلمه أنّ الشريك يشفع، فلا بأس بذلك؟ إذا كان راغبا في الشراء، ولا يكون هذا إضرارا، إن شاء أخذ وإن شاء ترك، لكن يشترط أن يكون الأخذ فورا، فإن تراخى عن الأخذ بطلت شفعته، انتهى.
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل الشفعة على الفور؟
فأجاب: هي على الفور، إذا لم يطالب بها من حين يخبر بالبيع، فليس له شفعة.
وسئل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي: عمن أخبر بالشراء فلم يشفع، وشهد عليه عدل ثم طلب الشفعة وجحد علمه السابق بها ؟
فأجاب: خبر العدل الثقة يقبل، لكن إن كان المخبر(7/436)
ص -432- ... منبها بطلب الشفعة في الحال، وسعى إلى المشتري ليدفع إليه ثمنه، إن أمكنه ذلك ثبتت الشفعة، وإن كان غائبا أو مريضا أو غير ذلك من الأعذار، وأمكنه الإشهاد على الطلب فلم يشهد، بطلت.
سئل الشيخ عبد الله بن حسن: عن شريك بيع نصيبه مع شركائه بغير رضاه إذا طلب الشفعة في نصيب الباقين من الشركاء، هل له شفعة ؟
فأجاب: الذي بيع نصيبه بغير رضاه، إن كان قد تقدم منه طلب بالشفعة وقت البيع، فلم يجب لوجود معارض فله الشفعة، وأما إذا لم يطلب، أو طلب ولا معارض، فأعرض عنه رغبة، سقطت شفعته، انتهى.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: ادعى زيد على عمرو في شقص بيع، ظنه مرهونا في المدة وأوجبنا عليه اليمين: بأنه يحسبه في المدة السابقة رهنا في يد المشتري، وأنه من حين علم أنه شراء شفع عليه، فإذا حلف فله الشفعة في الشقص المبيع، بقدر نصيبه السابق، وباقيه لعمرو بقدر نصيبه السابق، فيصير السهم المبيع بينهم، على قدر ملكهم السابق، هذا إذا كان ثمنه معلوما، فإن لم يعلم قدر ثمنه فلا يثبت فيه شفعة.
سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن تأني الشفيع في دفع الثمن؟(7/437)
ص -433- ... فأجاب: وأما أناة الشفيع في دفع الثمن إلى المشتري، إذا لم يطلبه المشترى، فلا تبطل به الشفعة.
وسئل: عن الشفعة في منازل النخل خاصة ؟
فأجاب: وأما النخل الذي اشترى بجميع حقوقه وتوابعه، فالمتعارف بين أهل الوقت: أن منازل النخل من آكد التوابع; فأما الشفعة فيها: فإن كان الشافع لا شركة له في المبيع إلا فيما شفع فيه، فله الشفعة ويعطى ثمنه، وإن كان شريكا في غيرها، وإنما شفع فيها فقط، فلا شفعة، لما في ذلك من تفريق الصفقة، والضرر على المشتري.
سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله: عمن ارتحل من بلده إلى بلد الزبير، وأقام فيه مدة عشرين سنة وتزوج فيه عند القبوريين، ويصلى وراءهم، وفي أثناء المدة مات مورثه، وله ملك وبيع شقص منه، وخرج بعد أربع سنين، فطلب الشفعة في الشقص؟
فأجاب: أما السؤال عن ثبوت الشفعة للشخص الموصوف في الشقص المبيع، فلعل السائل خطر بباله ما قاله جمع من العلماء: أنه لا شفعة لكافر على مسلم، وتلك مسألة أخرى غير المسئول عنها، وقريب مما سأل عنه السائل، الكلام في التوارث بين أهل نجد، وبين من نشأ في تلك البلدان، أو انتقل إليها من أهل نجد، بعد ظهور الدعوة الإسلامية، مثل من انتقل من بلاد الإسلام إلى تلك البلدان،(7/438)
ص -434- ... ومكث فيها وبقي مع المشركين، وطالت إقامته بينهم يخالطهم، ويصلي معهم، ويأكل ذبائحهم، فلعل السائل خطر بباله شيء من ذلك;
فاعلم: أن الذي علمنا من حال أهل هذه الدعوة الإسلامية، وعلمائهم رحمهم الله: أنهم لم يروا قطع التوراث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان ممن وصفنا.
وقد حدثني أبي رحمه الله: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأولاده وأتباعهم رحمهم الله، ما قطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان; إذا عرف ذلك، فالذي يظهر لي: ثبوت الشفعة لمن كان كما وصفنا، كما نقول في مسألة الميراث، والشخص المسئول عنه، له حكم غيره من الشركاء، إذا بيع الشقص في غيبة الشريك، وفي ثبوت الشفعة للغائب خلاف، والقول الراجح قول الجمهور، وهو ثبوت الشفعة للغائب، إذا طلبها عند علمه بالبيع، والأدلة من السنة تدل على ذلك.
ويدل عليه حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا" 1 مع ما دلت عليه الأحاديث العامة، في ثبوت الشفعة للشريك، قال في الشرح الكبير: إذا لم يعلم بالبيع إلا عند قدومه، فله المطالبة وإن طالت غيبته، لأنه خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال، فتراخى الزمان قبل العلم به لا يسقطه، كالرد بالعيب، ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر، في أنه إن طالب على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: البيوع (3518).(7/439)
ص -435- ... الفور استحق، وإلا بطلت شفعته.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف رحمهما الله: إذا ثبت إسلام الآخذ بالشفعة، لزم تمكينه ولو مع كبيرته، ووكيله يقوم مقامه في ماله وعليه.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن على: إذا اشترى شقصا في نخل أو أرض بشقص آخر، هل تقع فيه شفعة؟.
فأجاب: نعم تقع الشفعة، ويقوم الشق(7/440)
ص - الذي هو الثمن - بقيمته يوم التبايع، ويدفعه الشفيع، ولا عذر لهما بالجهل في وقوع الشفعة، وربما قصد الحيلة في إبطال الشفعة بذلك.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا بيع شقص في وقف، والوقف على معين، هل له فيه شفعة ؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم من يقول بثبوت الشفعة فيه، ولا يتبين لي الراجح من أقوال العلماء في ذلك.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن الشفعة ببيت المال ؟
فأجاب: وما ذكرت أن الشيخ ذكر: أن الشركة ببيت المال لا تثبت بها شفعة، فهذا هو الحق لكونه وقفا، والوقف لا يشفع به، انتهى.(7/441)
ص -436- ... قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: ما حكم به الشيخ عبد العزيز، بأن بيت المال لا يشفع به من هو في يده، ولا المتولى عليه، هو القول الصحيح.
وسئل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي: عن الشفعة في المبيع، إذا وقفه المشتري ؟
فأجاب: الذي ترجح عندي، أن المشتري إذا وقف وقفا صحيحا، أنه لا شفعة فيه، هذا نص الإمام أحمد، وما سواه ففيه الشفعة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ما الحال التي يستحق اليتيم والغائب الشفعة فيها، والمشتري قد طال عهده، وأحدث بناء أو غرسا ؟
فأجاب: الشافع مخير بين أخذ البناء والغراس بالقيمة، مع ثمن الشقص أو الترك، وهذا الذي يترجح عندنا; ومتأخروا الحنابلة يقولون: إنه مخير بين أخذه بالقيمة، أو تركه في الأرض بأجرة، إلا إن أراد المشتري قلع الغراس أو البناء فله ذلك، لكن يلزمه تسوية حفر الأرض، ونقصها إن نقصت.
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد: عن قوله في الإقناع في الشفعة: وإن نما عنده نماء متصلا، كشجر كبر وطلع لم يؤبر تبعه في عقد وفسخ، هل للشفيع أخذ النماء المتصل، إذا كان سببه مال المشتري... إلخ؟(7/442)
ص -437- ... فأجاب: المجزوم به عند جمهور الحنابلة: أن النماء المتصل كالشجر يكبر وطلع لم يؤبر، يتبع في الأخذ بالشفعة والرد بالعيب، فيكون ملكا للشفيع، قال في الإنصاف: وقاله الأصحاب، منهم القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول، والمصنف في المغني، والكافي والشرح وغيرهم، انتهى، وفي شرح الإقناع كالرد بالعيب، فيأخذه الشفيع بزيادته، لا يقال: فلم لا يكون حكم الزوج إذا طلق قبل الدخول؟ لأن الزوج يقدر على الرجوع بالقيمة، إذا فاته الرجوع في العين، وهذا يسقط حقه منها إذا لم يرجع في الشقص، فافترقا، انتهى.
فهذا كلام فقهاء الحنابلة، ولم يحك في الإنصاف خلافا في المذهب، لكن إذا قاسوه على الرد بالعيب، فأبو العباس ابن تيمية اختار هناك: أن النماء المتصل كالمنفصل، يكون للمشتري لا للبائع، وقال: نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، قال في الإنصاف: فعلى هذا يقوم على البائع، انتهى; أي: في الرد بالعيب، ولا يبعد قياس مسألتنا عليه، مع أني أتوقف عن الإفتاء في هذه المسألة، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا لم يشفع ولي اليتيم ليتيمه... إلخ؟
فأجاب: إن ترك الولي الشفعة لمصلحة ظاهرة، فلا شفعة بعد البلوغ، وإن تركها تفريطا منه، فالشفعة باقية بحالها لليتيم إذا بلغ.(7/443)
ص -438- ... وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل يلزم الشفيع الأخذ بالثمن الساقط من ذمة البائع؟
فأجاب: الذي يظهر لي إما أن يأخذه بثمنه الذي اشتراه به، ساقطا من ذمة البائع، وإما أن يترك.
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن رجل باع سهما له بسبعة وعشرين في الباطن، وأشهد بأنه باثنين وعشرين ؟
فأجاب: إن ثبت بالبينة أنه سبعة وعشرون، ثبت بها الثمن، وإن لم يكن له بينة، فليس له إلا ما شهدت عليه البينة، فإذا صار البائع مقرا أنه سبعة وعشرون، ولا يتهم أن له شيئا من الملاحظ، ثبت أن الثمن سبعة وعشرون، فإن اتهمه الشفيع أحلفه أن هذا هو الثمن، والشفيع بالخيار بعد ذلك، وإذا كان في المبيع سبيل، أو عيب وشرطه البائع على المشتري، وأقر به البائع، لزم الشفيع، ولا يسمع إنكاره.
وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: البيع إذا شرط فيه شرط يفسده فسد، ولو بعد قيام الشفيع على الشفعه، ولو لم يشهد الشهود إلا بعد قيام الشريك عليها، ولو كانوا شهود البيع، ولم تذكر شهادتهم في وثيقة البيع، إذا كانوا عدولا غير متهمين.
وأجاب أيضا: الحكم بصحة البيع لا يمنع الشفعة، لأن ثبوت الشفعة يتوقف عليه توقف المسبب على سببه، فلو حصل رجوع عن تصحيح بيع الشقص، انتفت الشفعة.(7/444)
ص -439- ... باب الوديعة
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: المشرك إذا أودع المسلم، أو: أودعه المسلم... إلخ؟
فأجاب: يصح الإيداع والتوديع والرهن وشبهه، وعليه الحذر من المداهنة والمجالسة التي يرى، أو يسمع فيها المنكر.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى: إذا أودع إنسان وديعة، هل له التصرف فيها بسلف أو غيره؟ وكذا إذا ارتحل من محله، أو مات مودعه؟
فأجاب: أما الاقتراض من الوديعة، فلا يجوز إلا أن يعلم رضا صاحب المال، فإن شك في رضاه لم يجز، وإن لم يكن على المال خطر، وإذا دفعت إليه الوديعة في غير بلده، وأمره صاحبها أن يذهب بها إلى بلده، وعلم من صاحب المال: أنه يرضى باقتراضه منها، واقترض منها، فلما قدم بلده ردها على هيئتها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، لكن من اقترضها فهي ثابتة في ذمته، حتى يأخذها صاحبها، فلو عزلها وتلفت ضمنها.(7/445)
ص -440- ... وأجاب بعضهم: وأما الاقتراض من الوديعة، فإن علم المودع علما يطمئن إليه قلبه: أن صاحب المال يرضى بذلك، فلا بأس بذلك، وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منْزلتك عنده، كما نقل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في بيوت بعض أصحابه، وكما بايع عن عثمان وهو غائب، ومتى وقع في ذلك شك، لم يجز الاقتراض، والله أعلم.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارثه.... إلخ؟
فأجاب: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها ولا وارث له غيره، لزم الدفع، وفيها قول ثان، والأول أظهر.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله: عن دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع؟
فأجاب: هذا مما لا يقبل قوله فيه، بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل في مسائل مخصوصة، بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله، وقد أشار بعضهم إلى ذلك، في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة، وغيرها من مسائل هذا الباب، وعموم قولهم في باب الدعاوى والبينات داخل فيه، ما لم ينص على استثنائه; وإن وقفت(7/446)
ص -441- ... على كلام خاص في هذه المسألة، رفعته إليك إن شاء الله؟
وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث "لو أعطى الناس بدعواهم" 1 شيئا من تعريف المدعى، فراجعه إن شئت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363).
باب إحياء الموات
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر: هل إجراء الماء على الأرض يكون إحياء؟
فأجابا: قال في الإنصاف، وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط، أو يجري لها ماء، أو يحفر فيها بئرا، هذا هو الصحيح من المذهب نص عليه، وقطع به الخرقي وابن عبدوس، والقاضي والشريف، وصاحب الهداية والخلاصة والوجيز وغيرهم; وقيل: إحياء الأرض ما عد إحياء، وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد بها، من زرع أو بناء أو إجراء ماء، وهو رواية عن أحمد، اختارها القاضي وابن عقيل والشيرازي، وابن الزاغوني، والموفق في العمدة وغيرهم; وعلى هذا قالوا: يختلف باختلاف غرض المحيي، من مسكن وحظيرة وغيرهما، فإن كان مسكنا اعتبر بناء حائط بما هو معتاد، وقيل: ما يتكرر كل عام، كالسقي والحرث فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء، قاله في المغني; ولم يورد في المغنى خلافه.
وقوله: إحياء الأرض أن يجري لها ماء، يعني: أن(7/447)
ص -442- ... إحياء الأرض أن يجري لها ماء، إن كانت لا تزرع إلا بالماء، ويحصل أيضا بالغراس، قال في الفروع: ويملكه بغرس وإجراء ماء، نص عليه.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ هل مرافق الأملاك، كالأفنية والطرق ومسيل الماء مملوكة، ويثبت فيه حق الاختصاص؟
فأجاب: المسألة فيها وجهان; والأظهر منهما: ثبوت الاختصاص.
قال الشيخ: عبد العزيز بن حسن بن يحيى، ذكر لعبد العزيز أبو وحيمد، وإدريس بن حسين: أن من أراد أن يبث في الأرض الموات، خارج جدار نخل "الودي" بغرس أو غيره، فلا يمنع، لكن يمنع من إحداث قليب غير آبار النخيل الموجودة الآن، ويمنع من إحداث ضرر على "الوضائم" بتضييق عليها، أو سد منفس لها معروف، فمن أحدث من ذلك شيئا أزيل، لسبق الاستحقاق، وإن رأى أهل الخبرة والإنصاف من أهل عشيرة: أن الجزوى في سنين المحل أصلح لحال الملك، لزمتهم لتوفير الماء عليهم، والله أعلم.
وسئل الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله: إذا كان أرض موات لم يعرف أنه جرى عليها إحياء، لكن هنا من يدعيها ويعرف أنها ملك فلان أو جماعة، وربما يقاتلون من أراد أن يحييها في الجاهلية، وربّما أن دعواهم أنها تحاذي(7/448)
ص -443- ... بلدهم العامرة، ولو مسيرة ميل؟
فأجاب: الذي تصور لنا في هذه المسألة، أن الأرض المذكورة لم يعرف أنه أجرى عليها إحياء أصلا، ولا هنا إلا مجرد دعوى هذا الشخص، أن آباءه تسموا عليها، وادعوا أنها ملكهم من غير إحياء، فإن كان الأمر كذلك، فاعلم: أن هذه الأرض باقية على حكم الموات، فمن أحياها - والحالة هذه - ملكها بإجماع العلماء، القائلين بملك الأرض الموات بالإحياء، قال في الشرح الكبير: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء، بغير خلاف بين القائلين بالإحياء، لأن الأخبار المروية متناولة له، كحديث جابر مرفوعا "من أحيا أرضا ميتة فهي له" 1 رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن سعيد بن زيد مرفوعا مثله، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وعن عائشة مثله، رواه مالك وأبو داود; قال ابن عبد البر: هو متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال في المبدع: الموات إذا لم يجر عليه ملك أحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فإنه يملك بالإحياء، انتهى.
ونقل أبو الصقر عن أحمد، في أرض بين قريتين، ليس فيها مزارع ولا عيون وأنهار، تزعم كل قرية أنها لهم ; فإنها ليست لهؤلاء، ولا لهؤلاء، حتى يعلم أنهم أحيوها; فمن أحياها فهي له، فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملك لهم، من غير إحياء، لا تصير به الأرض ملكا لهم، بل هي باقية على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) , ومالك: الأقضية (1456).(7/449)
ص -444- ... الأصل، وهذا مما لا يمتري فيه أحد; وقد ذكر كثير من الأصحاب، ما ذكر الشارح، وصاحب المبدع.
وأما قولك: وأشكل علينا هذا، مع قول الفقهاء: من تحجر مواتا فهو أحق به; فكأنك ظننت أن التحجر هو مجرد التسمي عليه بالملك ودعواه، فاعلم: أن الأمر ليس كذلك، قال في الإقناع: ومن تحجر مواتا، بأن حفر بئرا ولم يصل إلى مائها أو أدار حول الأرض ترابا، أو حجرا أو جدارا صغيرا، لم يملكه بذلك، وهو أحق به، انتهى باختصار.
وقال في الشرح الكبير: تحجر الموات: الشروع في إحيائه، مثل أن يدير حول الأرض ترابا، أو أحجارا، أو يحيطها بجدار صغير، فلا يملكها بذلك، لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" رواه أبو داود وغيره فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملكهم من غير إحياء لا يملكونها به، وأن دعواهم أنها ملكهم ليس من التحجر، وأن التحجر هو الشروع في الإحياء على ما وصفنا، فبطلت دعواهم، وبقيت سالمة من الاختصاص وملك معصوم، فتملك بالإحياء.
وقولك: إن الفقهاء قالوا إن أحياه غيره ملكه; ليس كذلك على الإطلاق، قال في الإقناع: فإن لم يتم إحياءه وطالت المدة عرفا كثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه، وإما(7/450)
ص -445- ... أن تتركه إن حصل متشوف للإحياء، فإن طلب المهلة لعذر أمهل شهرين أو ثلاثة، أو أقل على ما يراه الحاكم، وإن لم يكن له عذر فلا يمهل، وإن أحياه غيره في مدة المهلة، أو قبلها لم يملكه، وبعدها ملكه.
وقولك: قال في شرح الزاد، باب إحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم، بخلاف الطرق والأفنية، ومسيل المياه، والمحتطبات ونحوها، وما جرى عليها ملك معصوم، شراء أو عطية أو غيرهما، فلا يملك شيء من ذلك بالإحياء، فظاهر هذا أنها لا تملك بالإحياء، ولو كانت مواتا إذا كان هنا من يدعي الملك، فكلامك هذا الذي زعمت: أنه ظاهر كلامه في شرح الزاد، غير صحيح، فليس في كلامه ما يدل على ذلك، لا بنص ولا ظاهر ولا مفهوم.
وإنما الذي في كلامه: أنه إذا كان لها مالك معصوم لا تملك بالإحياء، وهذه الأرض المسئول عن حكمها في هذه المسألة، لم يثبت لمدعي الملك فيها ملك أصلا، بل قد أقر بأنه لم يحيها، والأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء، ولم يوجد; فكلام صاحب شرح الزاد فيما إذا ثبت الملك، وهذه الأرض لم يثبت ملكها بعد، وقد عرفت أن مجرد الدعوى ليس بشيء، وهكذا يقال فيما نقلت من كلام العلماء ابن عبد البر وغيره، فالشأن في ثبوت الملك.(7/451)
ص -446- ... وأما قولك: وأكثر الأرض سواء قربت من العمران أو بعدت، لا تخلو ممن يدعي ملكه، حتى إنهم في الجاهلية يمنعون من رعي الأرض إلا بثمن، فقد ذكر الفقهاء أن الأرض لا تملك إلا بالإحياء، وذكروا ما يثبت به الإحياء، واختلفوا هل تملك بالتحجر أم لا؟ فذهب طائفة إلى أنها لا تملك بذلك، وهو المذهب المشهور عن أحمد، وهو قول الجمهور; وعن أحمد رواية أنها تملك بالتحجر، ذكرها الحارثي واختارها، وذكر من صور التحجر كما نقلناه، وليس الدعوى بأنها ملك لهم مع إقرارهم بأنهم لم يحيوها من الإحياء، ولا من التحجر، فتبقى الأرض على الإباحة.
وسئل: عن إطلاقهم ما قرب من العامر؟
فأجاب: ظاهر كلامهم لا فرق في ذلك بين الزرع ونحوه، ولا بين الدور، والمعنى يقتضي ذلك; والأصل: أن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك، وحديث: "من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له" فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، لأنه تابع للمملوك; فإذا عرفت ذلك، فمتى وجد هذا المعنى في الزرع، وتعلق ما قرب منه بمصالحه، لم يملك لما ذكرنا.
قال في الشرح: كل ما تعلق بمصالح العامر من طرقه ومسيل الماء، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح(7/452)
ص -447- ... القرية كفنائها، ومرعى ماشيتها ومحتطبها، وطرقها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكذلك حريم البئر والنهر والعين، وكل مملوك لا يجوز إحياء كل ما تعلق بمصالحه، لقوله عليه السلام: "من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم" وقال في الإقناع: ولا يملك بإحياء ما قرب من عامر وتعلق بمصالحه، كطرقه وفنائه ومجمع ناديه ومسيل مائه، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، ومرعاه ومحتطبه، وحريم البئر والنهر والعين، ومرتاض الخيل، ومدفن الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعتادة للمسافرين حول المياه، والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والاستسقاء، والجنائز ودفن الموتى ونحوهم، فكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه،
قال في شرحه: لمفهوم قوله عليه السلام: "من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له" ولأن ذلك من مصالح الملك فأعطى حكمه، فعرفت أنه لا فرق في ذلك، بين البيوت والقرى والزرع والشجر وغيرها، إذا وجد ما ذكرنا فيها وتعلق بمصالحها.
وظهر من كلام صاحب الشرح الكبير: أن إطلاقكم ما قرب من العامر لا يملك بإحياء على إحدى الروايتين خطأ، إما من الأصل المنقول منه أو من غيره، لأن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك بالإحياء بغير خلاف، وإنما الخلاف في المذهب فيما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه، هل(7/453)
ص -448- ... يملك بالإحياء أم لا، على روايتين عن أحمد، إحداهما يملك بالإحياء وهي المذهب، وبه قال الشافعي،
والثانية: لا يملك بالإحياء، وبه قال الليث وأبو حنيفة، وفي هذا القدر كفاية.
وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ، عن أرض موات تبايعها أناس في الجاهلية، أو في الإسلام كانت قرب بلاد عامرة مسير ثلث فرسخ، صارت محتجرا لأهل العامرة، على عادة مشوا عليها، هل إذا أحياها إنسان يملكهما، ولو ادعى مدع أنها بشراء، لكنها موات كما ذكرنا؟
فأجاب: قال في الشرح الكبير: الموات قسمان;
أحدها: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف.
القسم الثاني: ما جرى عليه ملك، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ما له مالك معين، وهو ضربان:
أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية، فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أن لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه؟
الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى عاد مواتا، فهو كالذي قبله سواء.
الثاني: ما يوجد عليه آثار ملك قديم جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم، فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين;
والثانية: لا يملك، لأنها آثار لمسلم أو ذمي أو(7/454)
ص -449- ... بيت المال، أشبه ما لو تعين مالكه، قال شيخنا، ويحتمل: أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك.
النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يملك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لما روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له" فقيده في غير حق مسلم، ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينا، فإن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة ورثه المسلمون.
والثانية: أنها تملك بالإحياء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لعموم الأخبار، وكل ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، من طرقه ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كفنائها ومرعى ماشيتها، ومحتطبها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكل مملوك لا يجوز إحياؤه وما تعلق بمصالحه، لقوله صلى الله عليه وسلم "من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له" فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، انتهى، من الشرح الكبير ملخصا.(7/455)
ص -450- ... وقال في الإقناع: وهي - أي الموات - الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فإن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، ملك بالإحياء، وإن علم ولم يعقب لم يملك، وأقطعه الإمام من شاء، وإن كان قد ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا لم يملك بإحياء، إذا كان لمعصوم; إن علم مالكه المعين غير معصوم، فإن كان بدار حرب واندرس كان كموات أصلي، يملكه مسلم بإحياء، وإن كان فيه أثر ملك غير جاهلي، كالخرب التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها، ملك بالإحياء، وكذلك إن كان جاهليا قديما كديار عاد، انتهى. فقد عرفت: أن هذا المحيي الثاني الأرض المذكورة، لا يملكها بإحيائه لها، إذا ثبت الإحياء الأول بشروطه، وثبت التبايع المذكور ودعوى الشراء، والله أعلم.
وأجاب بعضهم: وأما من أراد إحياء الأرض الميتة، فليس لأحد منعه إذا لم يكن قريبا من الأرض العامرة، ولا يجوز لأحد تحجره على المسلمين.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا تحجر إنسان مواتا بما يعد تحجرا، كما ذكروه في باب إحياء الموات، فإنه أحق بها من غيره، وقد بين الفقهاء حكم المسألة في إحياء الموات.
وأما إذا تنازعا أرضا ميتة كل منهما يريدها له ولم يسبق(7/456)
ص -451- ... أحدهما الآخر، فلم أر تصريحا في هذه المسألة من كلامهم، ولعل اقتسامها على السواء والحالة هذه، يشبه ما ذكروه في بعض المسائل.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله: عن مستأجر أجرى ماءه إلى موات... إلخ؟
فأجاب: وأما إذا أجرى مستأجر الأرض، أو المستعير من بئر تلك الأرض الموات، وزرعها به ملكها، لأنه هو المحيي، ومن أحيا الأرض الميتة فهي له، والمستأجر ونحوه يملك الماء بإخراجه من البئر، فهو ملك له لا لصاحب الأرض.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عن "الثمد" إذا عمره من يصيد عليه إلخ؟
فأجاب: الثمد إذا عمره إنسان ليصيد عليه فله بيعه، لأنه من باب إحياء الموات.
سئل الشيخ: عبد الله بن صالح الخليفي، فيما يتعاطاه أهل الوقت، من الأعراب وأشباههم، من حماية الأغوار، وأوكار الطيور التي في رؤوس شواهق الجبال، وادعائهم ملكيتها بمجرد الدعوى، أو وضع صورة وسم على صخرة من تلك الصخور، أو علامة من العلامات، واعتقادهم: أن ذلك يثبت ملكيتها ملكا تاما يتوارثونه، ويطالبون به، هل يثبت الملك بذلك، أو تثبت الأحقية؟
وإذا ثبت أحد الأمرين، ثم(7/457)
ص -452- ... حصل فيها شيء من فراخ الطيور، هل تتبعها في وصفها، بحيث لو أخذه غير مدعي الوكر نزع من يده؟ أو يكون ملكا له، ولا ينْزع من يده، لأنه من جهة المباح المشترك بين الناس؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل عباده شركاء في المباحات، من الماء، والكلأ، والنار، والصيد، والمعادن، وغير ذلك مما أباح لهم، وأذن لهم في اكتسابه، ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في غير ما حديث، ولم يجعله لأحد دون أحد، ولم يملكه أحد إلا بالحيازة التامة، التي ذكرها الفقهاء في كتبهم.
وأما ما وقع عنه السؤال: من ملكية الأغوار، والأوكار، وغيرها من موات الأرض، فإن العلماء قد عرفوا ذلك، ووضحوه أتم إيضاح، في باب إحياء الموات، وهذه الأوكار لم يكن عليها مما ذكروا، ولا قريبا منه، من جميع ما يثبت به الملك، بل ولا من جميع ما تثبت به الأحقية، فإنهم قالوا: فإن تحجر مواتا، بأن أدار حوله أحجارا، أو ترابا، أو شوكا، أو حائطا غير منيع، أو حفر بئرا لم يصل ماءها، أو حرث الأرض، أو خندق حولها، لم يملكه بذلك، ولكنه أحق به من غيره، ووارثه من بعده، فهذه الأوكار خالية من سبب(7/458)
ص -453- ... الملك، وسبب الأحقية; فهده حال الأغوار، والأوكار; وأما ما يحصل فيها من الطيور والفراخ، فهذه مسألة قد كشف العلماء قناعها، وأبرزوا لعين البصيرة شعاعها، فقد ذكروا في أول البيوع، وفي كتاب الصيد، ما لعله يشفي ويكفي.
قال في المنتهى، في كتاب الصيد: ومن حصل أو عشش بملكه صيد أو طائر، لم يملكه بذلك، ولغيره أخذه; وعبارته في أول البيوع كعبارة المقنع والإقناع، في الموضعين معناها معنى عبارة المنتهى، لكن مقتضى عبارتهم كغيرهم: أنه يحرم على الغير دخول ملكه بغير إذنه، فإن خالف ودخل بغير إذنه حرم، وملك ما أخذه، من الطيور والكلأ، والمعدن الجاري، ولم ينتزع من يده.
قال ابن القيم رحمه الله: في كتابه "زاد المعاد" لما ذكر كلاما طويلا في مسألة اشتراك الناس في المباح، وعلى هذا: فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئا من الكلأ ونحوه، ملكه، لأنه مباح في الأصل، فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر، أو حصل فيه ظبي، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه فأخذه. فإن قيل: فهل له منعه من دخول ملكه؟ وهل يجوز له دخوله في ملكه بغير إذنه؟ قيل: قد قال بعض أصحابنا، لا يجوز له دخول ملكه لأخذ ذلك، بغير إذنه، وهذا لا أصل له في كلام الشارع،(7/459)
ص -454- ... ولا في كلام الإمام أحمد رحمه الله، بل قد نص أحمد رحمه الله: على جواز الرعي في أرض غير مباحة، مع أن الأرض ليست ملكا له، ولا مستأجرة - إلى أن قال: - والصواب أنه يجوز له دخولها، لأخذ ما له أخذه، وساق كلاما في هذا المبحث - إلى أن قال في آخره - فدل ذلك على جواز الدخول، إلى بيت غيره وأرضه، غير المسكونة، لأخذ حقه من الماء والكلأ، فهذا ظاهر القرآن، وهو مقتضى نص أحمد رحمه الله، وبالله التوفيق، انتهى.
وذكر في الفصل قبله كلاما، يدل على ما دل عليه كلامه في هذا الفصل، وذكر في أثناء كلامه هذا كما ترى: أن له دخول البيوت والأرض المملوكة، غير المسكونة، بلا إذن أصحابها، لأخذ المباح منها.
فإذا كان هذا حال الأرض المملوكة، ملكا تاما، وحكم العلماء ونصوص الفقهاء فيها، وفيما يحصل فيها من المباحات، فكيف بحال شواهق الجبال ورؤوس الهضبات، التي لا ملك عليها، ولا أثر إحياء، ولا سبب استحقاق، إلا أنه يوجد عليها خط أو خطان، أو صخرة منصوبة، أو أن الأمير الفلاني من الأعراب، قال: هذا ملكي، أو ملك آل فلان، فما تجدي هذه الأشياء من تأثير الملك، واستحقاق نزع المباح، من يد من أخذه، وملكه بالحيازة، وقد أذن له الشارع في أخذه، وبماذا يستحقه مدعي الملك بلا حقيقة؟ فالذي يعلم من لوامع عبارات العلماء، وسواطع إشارات(7/460)
ص -455- ... الفقهاء: أن هذه الأغوار والأوكار، حكمها كغيرها من الأرض المباحة، وأن الناس فيها شركاء، لم يستحقها أحد دون أحد، إلا من سبق إليها، وأقام عندها وحفظها، فهو أحق بها إلى أن يفارقها، كحال الأمكنة المباحة للعامة، من المساجد والمجالس والأسواق، ومواضع العبادات، والبيع والشراء، لورود النصوص بذلك، لكن لو استوى في السبق جماعة فهم شركاء.
وإن بنى برجا محكما، أو عمل بركة لقصد الصيد، فما حصل فيها فهو له، وإن عملها لغير قصد الصيد فكغيرها، هو أحق بما يحصل فيها، ولغيره أخذه، كما ذكره في الإقناع وغيره، والله المسئول أن يوفقنا للصواب، وأن يلهمنا رشدنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم دائما أبدا.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي عن جماعة شرعوا في إجراء نهر ثم تركوه ثم جاء آخرون فعملوا فيه وتركوه قبل إكماله، ثم جاء آخرون فأكملوا العمل وأجروه ؟
فأجاب: إن كان تركه الأول رغبة عنه، فليس له شيء من نفقته; وإن كان تركه عجزا، قله قدر ما بقي يقدر له ذلك من أثر عمله.
وأجاب الشيخ: محمد بن عبد اللطيف: أما الأولى،(7/461)
ص -456- ... والثانية، فلا يملكونه، لأن الملك لا يثبت إلا بإحياء تام، لكن الجماعة الأولى الذين شرعوا في العمل أحق به من غيرهم، إلا أن يكونوا تركوه رغبة عنه، بصريح لفظ أو دلالة عرفية، كسكوتهم وعدم منازعتهم المدة الطويلة، مع رؤيتهم من يعمل فيه;
وأما الجماعة الثالثة، وهم الذين أحيوه فهم المستحقون له، إن كانت الأولى لم تنازعهم، فإن كانت قد نازعت، فهي أحق كما تقدم.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن واد غرس فيه في الزمن السابق ويسقون نخيلهم من السيل، وغرس ناس أعلى منهم، وطلبوا لهم مسيلا من الوادي، وأهل الغرس الأول عليهم ضرر... إلخ؟
فأجاب: هذه المسألة مذكور حكمها في كتب الفقه، في باب إحياء الموات، قالوا: ولمن في أعلى ماء غير مملوك، كماء الأمطار والأنهار الصغار، أن يسقي ويحبسه إلى كعبه، قالوا: ولو أراد إنسان إحياء أرض فوقهم، فهل لهم منعه؟ على قولين، أصحهما: ليس لهم منعه إن لم يضر بهم، لكن ليس له أن يسقي قبلهم، لسبقهم، ولأنهم ملكوا الأرض بحقوقها قبله، فلا يملك إبطال حقوقهم، وسبقهم إياه بالسقي من حقوقها، ولحديث "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" ولا فرق بين واد كبير، أو صغير، لأنه إذا صار السيل غير جيد، ولو كان الوادي كبيرا أضربهم وسده عنهم، هذا الذي ذكره الفقهاء ومشوا عليه، انتهى.(7/462)
ص -457- ... وسئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن السيل إذا سقى مزارع الرجل الأعلى، وفرغ منه إلى آخره ؟
فأجاب: لا يمنع عن زرع الذي يليه ولو لم يكن له قسم، وكذلك العين لا يمنع ما فضل من مائها.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن المعلوم المشتهر عند الفقهاء، أن الأعلى يسقى قبل الأسفل، ويحبس إلى الجدر، ومن خالف في ذلك فلا التفات إليه.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إن كان ملكه سابقا فله أن يحبس إلى الجدر، وإن لم يكن ملكه سابقا على من تحته، فكل له شركة ويعطى بالقسمة قدر حقه، انتهى.
قال عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار: المسيل الذي هو شركة بين البلدين، يدعى محمد أن السيل قد انتحى عنهم، وأن الشعبة ارتفعت، وأنكر خصماؤه، وأن الضرر عليهم أكثر، فالضرر يزال عمن كان مستضرا بما يمكن إزالته، من أخذ تراب أو غيره، يلزم الأمير يبعث إليه أربعة رجال عدولا، من أهل الأمانة والديانة، من غير أهل البلدتين، أو من له شركة في السيل، فمن رأوا عليه الضرر أزيل عنه.
وأجاب إبراهيم بن حسن: أن بطن الوادي يضرب بمدرج مع وجه الأرض، ويقسم بينهم كل على حسب حاله من أراضيهم.(7/463)
ص -458- ... وقال الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ: نظرت في هذا الحكم، فرأيته صحيحا موافقا لأصول الشرع، فإذا طويت السلسلة المذكورة، قسم السيل على قدر الأملاك التي تسيل من هذا الوادي في البلدين.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: نظرت في خط عبد العزيز بن عثمان، وما أمضاه في السيل المذكور، فرأيته صحيحا موافقا لما تقرر في كتب الأحكام.
وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف: نظرت فيما ذكر أعلاه، فيجب العمل بمقتضاه.
قال الشيخ عبد العزيز بن حسن: زيد ما يمنع من تحويض نخله الذي في الوضيمة، وإن حصل فيها حبط من السيل فنقله على أهل الوضيمة، إلا ما كان في حياض النخل، فنقله على صاحبه.
سئل الشيخ: عبد الله بن محمد: عن قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" 1 ؟
فأجاب: أما معنى قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" 2 فقال الخطابي: تأويله أن الرجل إذا حفر بئرا في موات، ملكها بالإحياء، فإذا جاء قوم لينْزلوا في ذلك المكان الموات، ويرعوا نباتها وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له منع أولئك القوم من شرب ذلك الماء، لأنه لو منعهم منه لا يمكنهم رعي ذلك الكلأ، فكأنه منعهم عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المساقاة (2354) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/273 ,2/309) , ومالك: الأقضية (1459).
2 البخاري: المساقاة (2354) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/273 ,2/309) , ومالك: الأقضية (1459).(7/464)
ص -459- ... وأجاب أيضا: وأما الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعاها الناس، فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشرع: أن الناس شركاء في الكلأ والمرعى.
وأجاب أيضا: والحجر ما يجوز في الإسلام، إلا رأيا يراه الأمير مصلحة للمسلمين.
وأجاب أيضا: أما الحجر، فالحضري لا يحجر على الحضري، الحجر على البدوي، عن كل ما تصله سارحة البلاد، ويصله حشاش، وما وراء هذا لا يحجر.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن منع فضل الماء، فهذا إذا كان لرجل بئر، واحتاج الناس لسقي بهائمهم، فلا يحل له أن يمنعهم ما فضل عن حاجته، وهذا إذا كان الماء في قراره، وأما ما يخرج الإنسان من البئر في بركته أو آنيته، فإنه يملكه ويختص به، ويجوز له بيعه; وأما نهيه عن منع الكلأ، فالكلأ والعشب ونحوه النابت في أرضه; وبعض العلماء يقولون: إذا كان في أرض محوطة، فلا يدخلها إلا بإذن صاحبها،
وقال الشيخ تقي الدين: إذا ترك زرع أرضه قاصدا كلأها، فإنه يختص به، ويجوز له بيعه.
وأجاب بعضهم: وأما الكلأ فإن الناس فيه شركاء، سواء قرب أو بعد.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والحمى لا أعلم دليلا شرعيا يدل عليه، إلا ما حمى ولي الأمر.(7/465)
ص -460- ... باب الجعالة
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: إذا ذهبت لرجل دابة، وجعل لمن جاء بها شيئا فأخبر، ولم يعمل شيئا؟
فأجاب: جزم الفقهاء بأنه لا يستحق الجعل، فلو التقطها مثلا قبل أن يعلم بالجعالة، لم يستحق الجعل; قال في الشرح الكبير- في باب الجعالة - هي أن يقول: من رد عبدي، أو لقطتي فله كذا، فإذا قال ذلك، فمن فعله بعد أن بلغه، استحقه لما ذكرنا من الآية، وحديث أبي سعيد، يعني قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير} [سورة يوسف آية: 72] وحديث أبي سعيد، في رقية اللديغ; قال: وإن فعل قبل ذلك لم يستحقه، سواء رده قبل بلوغه الجعل، أو بعده، إذا التقطه لقطة قبل أن يبلغه الجعل، لم يستحق الجعل، لأنه التقطها بغير عوض، وعمل في مال غيره بغير جعل، فلم يستحق شيئا، كما لو التقطها، ولم يجعل فيها ربها شيئا.
وفارق الملتقط بعد بلوغه الجعل، فإنه إنما بذل منافعه بعوض جعله، فاستحقه كالأجير إذا عمل بعد العقد، وسواء(7/466)
ص -461- ... كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله، لما ذكرناه، ولا يستحق أخذ الجعل بردها، لأن الرد واجب عليه من غير عوض، فلم يجز أخذ العوض عن الواجب، كسائر الواجبات، وسواء ردها قبل العلم بالجعل أو بعده، وكذلك ما يأخذه الملتقط، في موضع يجوز له أخذه، عوضا عن الالتقاط المباح، انتهى;
وقال في الفروع: فمن فعله بعد علمه استحقه كدين، وإلا حرم، نقل حنبل في اللقطة: إن وجد بعدما يسمع النداء، فلا بأس أن يأخذ منه، وإلا ردها، ولا جعل له، انتهى.
فإذا تقرر هذا: فلا يخلو، إما أن يجد الدابة قبل أن يسمع النداء، أو يبلغه مخبر، فهذا صريح كلامهم أنه لا يستحق جعلا وإن ردها، فكيف إذا لم يعمل شيئا، إنما هو مجرد الخبر; أما إن سمع النداء أو الجعالة: أن من رد دابتي أو عبدي أو أخبرني بها فله كذا وكذا، ثم بحث عنها، وسأل عنها في البوادي والبرية وغيرها حتى وجدها، أو رد لصاحبها خبرها، فإنه يستحق الجعالة المذكورة.
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن التقط لقطة وكتمها، ليبذل له جعل؟
فأجاب: هذه لقطة، ويكون آثما بتركه التعريف، وحكمه حكم الغاصب، فلا يستحق شيئا أصلا; والجعالة قد عرفها الفقهاء: بأنها جعل شيء معلوم لمن يعمل له عملا، فمن فعله بعد أن بلغه استحقه، وفي أثنائه استحق حصة(7/467)
ص -462- ... تمامه، ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه، وحرم أخذه، انتهى من التنقيح ملخصا، وبه يتحصل الجواب.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: إذا قال من جاء بها فله كذا، فجاء بها رجل فطلب الجعل المجعول، فقال: لم أعينك، يستحق الجعل; وأما من وجد ضالة من ضوال الإبل، وطلب عليها بعد وجدانها جعلا، فلا يظهر لي أنه يستحق عليها شيئا.
باب اللّقطة
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز التقاط الإبل؟ وإذا التقطها ثم ردها إلى موضعها... إلخ؟
فأجاب: نذكر لك شيئا من كلام العلماء، لكي يتبين لك الصواب، قال في المغنى: ولا يتعرض لبعير ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه، قال عمر: "من أخذ ضالة فهو ضال" - أي مخطئ - وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد; وقال مالك والليث - في ضالة الإبل - من وجدها في القرى عرفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها;
وكان الزهري يقول: من وجد بدنة فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها فلينحرها; وقال أبو حنيفة: هي لقطة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنها - "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها" 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: في اللقطة (2427) , ومسلم: اللقطة (1722) , والترمذي: الأحكام (1372) , وأبو داود: اللقطة (1704) , وابن ماجه: الأحكام (2504) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية (1482).(7/468)
ص -463- ... الحديث متفق عليه; وقيل: "يا رسول الله إنا نصيب هوامي الإبل؟ فقال: ضالة المسلم حرق النار" وروى عن جابر بن عبد الله: أنه أمر بطرد بقرة لحقت بقره، حتى توارت، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤوي الضالة إلا ضال" 1 رواه أبو داود بمعناه إلى أن قال - فإن أخذ الذي لا يجوز أخذه ضمنه، لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا أذن الشارع له، فهو كالغاصب; فإن رده إلى موضعه لم يبرأ من الضمان، وبهذا قال الشافعي; وقال مالك يبرأ، لأن عمر قال أرسله في الموضع الذي أصبته فيه، وجابر طرد البقرة التي لحقت ببقره.
ولنا: أن ما لزمه ضمانه، لا يزول عنه إلا برده إلى صاحبه; وأما حديث جابر: فإنه لم يأخذ البقرة، ولا أخذها راعيها، وإنما لحقت بالبقر فطردها عنها، فمن لم يأخذها لا يلزمه ضمانها، سواء طردها أو لم يطردها، فإن أخذها فلزمه ضمانها، فدفعها إلى الإمام أو نائبه زال عنه الضمان، انتهى.
وقال في الإنصاف: الثاني الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل، فلا يجوز التقاطها بلا نزاع، ومن أخذها ضمنها - يعني إذا تلفت - ويضمن نقصها إذا تعيبت، لكن تلفها لا يخلو، إما أن يكون قد كتمها أم لا، فإن كان ما كتمها وتلفت ضمنها كغاصب، وإن كان كتمها حتى تلفت، ضمنها بقيمتها مرتين على المذهب، نص عليه; وقال أبو بكر: للخبر، وقال في المبدع: ولا يجوز التقاطها - يعني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: اللقطة (1720) , وابن ماجه: الأحكام (2503) , وأحمد (4/360 ,4/362).(7/469)
ص -464- ... الإبل - لقول عمر: "من أخذ الضالة فهو ضال" أي: مخطئ; ومن أخذها ضمنها، لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا أذن الشارع له، فهو كغاصب; فإن ردها إلى موضعها لم يبرأ منه، لكن إذا التقطها وكتمها ضمنها بقيمتها مرتين، نص عليه للخبر، انتهى، فتأمل كلامهم يتبين الحق.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن وجد صقرا... إلخ
فأجاب: وأما الصقر إذا صاده ولم يظهر فيه أثر ملك، ولم يعرف له مالك، جاز الانتفاع به، ومتى ظهر له مالك وجب رده عليه.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن تعريف اللقطة... إلخ؟
فأجاب: واللقطة يعرفها سنة، فإن لقي صاحبها وإلا وضعها في ماله.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: واللقطة يعرف عفاصها ووكاءها، ثم يعرفها حولا، ثم يتملكها بشرط الضمان إن جاء ربها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء.
سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عمن كتمها ليبذل له... إلخ؟
فأجاب: لا يحل له أخذ المال المبذول والحال ما ذكر، لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في(7/470)
ص -465- ... هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين،
قال أبو بكر في التنبيه: لست أعدل عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الضالة المكتومة: غرامتها، ومثلها معها، وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد، انتهى.
وصرح الفقهاء: بأن أجرة المنادي عليه، ولكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب نفسه ببذله بعد علمه بالحال، وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة، قبل بلوغه بذل مالكها للجعل، أنه يحرم أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة، لكنه لم يسمعه، وهذا في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه عملا محرما، ويمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم؟
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب عن ضالة الكافر ؟
فأجاب: والضالة التي توجد حول البلد، وهي من مال الكافر، فهي لمن وجدها،
وأما لقطة النثار: فإذا لم تعرف بصفة تعرف بها، لم يجب تعريفها.
سئل ابنه الشيخ عبد الله: عمن أخذ ضالة الإبل يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت ؟
فأجاب: قال في الإنصاف: ويجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السباع، وحفظه لربه، ولا يلزمه تعريفه، قاله الأصحاب; ولا يكتفي فيها بالصفة، قاله المصنف وغيره، واقتصر عليه في الفروع; ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء(7/471)
ص -466- ... من ذلك لحفظه لربه، على الصحيح من المذهب، وقال المصنف، ومن تبعه: يجوز أخذها إذا خيف عليها، كما لو كانت في أرض مسبعة، أو قريبا من دار حرب، أو موضع يستحل أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى، ولا ضمان على آخذها، لأنه إنقاذ من الهلاك، قال الحارثي قالوا كما قال، وجزم به في تجريد العناية، قلت: ولو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه، لكان له وجه، انتهى.
والذي يترجح عندي: أن الرجل إذا عرف بالأمانة، وأنه محسن في حفظها، ولم يتعرض لها بركوب ولا غيره، أنه لا يضمن، كما اختاره هؤلاء الأئمة.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا وجد الحيوان قريب الموت، ولم يعلم صاحبه هل يذكيه أم لا؟ وهل يغرم أم لا؟
فأجاب: أما تذكيته فمن المعروف، وأما الغرم فإن بينه، أو كان مأمونا غير متهم فلا غرم عليه، وإن كان متهما أو غير مأمون، ولم يصدقه صاحب الدابة، ولم يعف عنه، لزمه الغرم.
وسئل: إذا وجد ضالة الغنم غير صاحبها، وباعها على آخر هل تكون عنده الخراج بالضمان، كما في مدة الخيار؟
فأجاب: لا فرق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء السادس، ويليه الجزء السابع
وأوله: "كتاب الوقف"(7/472)
الدرر السنية - المجلد السابع
من كتاب الوقف إلى نهاية الإقرار(8/1)
ص -5- ... [ كتاب الوقف ]
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: ونرى الوقف صحيحاً.
وسئل: إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله... إلخ؟
فأجاب: إذا أراد إنسان أن يوقف وقفاً من ماله، فإن شاء جعله معيناً في أرض بعينها، أو نخلاً بعينه، وإن شاء جعله شيئاً معلوماً، قادماً في غلة نخله أو أرضه؛ وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله تعالى.
وسئل: هل يلزم الوقف المعلق بالموت، أو شرط فيه الرجوع؟ وهل يجوز ذلك؟
فأجاب: الذي صححه غير واحد من الحنابلة وغيرهم، أنه يصح تعليقه بالموت، ويصير وصية، ويعتبر من الثلث، كسائر الوصايا؛ قال في الشرح الكبير: يصح في قول الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في الإنصاف: قال الحارثي: كلام الأصحاب يقتضي أن الوقف المعلق على الموت، أو على شرط الحياة، لا يقع لازماً قبل وجود المعلق عليه; قال الحارثي: المنصوص عن أحمد في المعلق على الموت هو اللزوم. قال الميموني(8/2)
ص -6- ... في كتابه: سألته عن الرجل يقف على أهل بيته، أو على المساكين بعده، فاحتاج إليها، أيبيع على قصة المدبر؟ فابتدأني أبو عبد الله بالكراهة لذلك، فقال: الوقوف إنما كانت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يبيعوا ولا يهبوا. قلت: فمن شبهه وتأول المدبر عليه، والمدبر قد يأتي عليه وقت يكون فيه حراً، والموقوف إنما هو شيء وقفه بعده، وهو ملك الساعة، قال لي: إذا كان يتأول. قال الميموني: وإنما ناظرته بهذا، لأنه قال: المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئا؟ فقلت: هكذا الوقوف، ليس لأحد فيها شيء، الساعة هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حراً.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عما إذا لم يجد من كان الوقف تحت يده حججاً للوقف، ولا شهوداً، ولا شيئاً من البينات غير مجرد وضع اليد، فما العمل فيه؟ هل إذا أقر بوقفيته، ولم يعين الواقف، يقبل منه؟
فأجاب: يثبت الوقف بالاستفاضة، ولا حاجة إلى معرفة اسم الواقف. وإن لم يستفض فيكفي إقرار من هو تحت يده بذلك، ما لم ينازع في ذلك بحجة شرعية.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن موضع النخلة(8/3)
ص -7- ... الوقف إذا سقطت؟
فأجاب: إذا وقف نخلة معينة، فالذي نرى أن موضعها لا يكون وقفاً بذلك، فإذا سقطت النخلة زال حق أهل الوقف؛ وقد صرح بذلك الفقهاء، فيما إذا أقر بنخلة أو باعه إياها، تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها، كما نص عليه الإمام أحمد، فيما إذا أقر له بنخلة.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثرى: إذا وقف نخلة فبادت، فالعرف ومقاصد الناس معتبر; والعرف في وقتنا: أن الْمُوقف لا يقصد إلا جذع النخلة، وأنها لا تعاد إذا بادت، مع أن القياس يقتضي ذلك في أن الفرع لا يتبعه الأصل، وأن الأصل يتبعه الفرع، إلا أن يوقف بستاناً ونحوه، فالقرينة تقتضي دخول الأصل والفرع معاً في الوقفية.
سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن جعل بعض الواقفين وقفه قدراً معلوماً في ملكه أو نخله، فإذا باد النخل... إلخ؟
فأجاب: العمل: على جواز ذلك، وجوز شيخ الإسلام وقف المنفعة المفردة، كخدمة عبد موصى بها مدة، ثم يقفها الموصى له فيها. انتهى. فيؤخذ ذلك القدر من غلة ما جعل فيها حيث حصل، فاضلاً عن حصة العامل(8/4)
ص -8- ... على النخل، إن كان المجعول فيه نخلًا ولو لم يبق للمالك سواه، ويؤخذ كاملاً من غلة الأرض، إن كان المجعول فيها أرضاً، حيث فضل عن نصيب رب الزرع، ولو لم يبق لرب الأرض غيره، وإن كان هو الزارع أخذ منه على كل تقدير.
وسمعت شيخنا عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمه الله، أفتى مرة بذلك، أعني: أخذ تمر مقدر في ثمر نخل، ولا بين الوارث والمشتري فرق في ذلك، سواء كان المشتري عالماً به أو جاهلاً، إلا أن الجاهل يثبت له الخيار إذا علم.
فلو قال قائل: إذا لم يبق من ريع النخل سوى القدر الموقوف، جعلتم الموروث عن الواقف للموقوف عليه، فأين التركة التي يخرج من ثلثها؟
قلنا العبرة بخروج الموقوف، أو الموصى به من الثلث حين الموت، ليس قبله ولا بعده. وإذا باد النخل فالذي يظهر لي: أن القدر الموقوف ينقطع بفناء النخل، وتبقى الأرض طلقاً؛ هذا إن كانت الصيغة: وقفت في نخلي. أما إن قال: في ملكي، فالظاهر أن ذلك القدر يستمر في الأرض، ما دامت حيث انتفع بها، لأن المتعارف من ألفاظ أهل هذه الأعصار، أن الملك اسم للأرض، سواء اتصل بها غراس أم لا، لا سيما في بلدتكم وما قاربها من البلاد.(8/5)
ص -9- ... وكذلك الحكم لو قال: في هذه الدمنة، بل هذا أولى، ولو كان القدر الموقوف في الملك أو الدمنة تمراً؛ إذ لا تفيد قرينة كونه تمراً خصوصيته بالنخل، فينقطع بانقطاعه، بدليل قول بعض الواقفين: جعلت في ملكي أو أرضي أو داري أضحية، فيعلم بالاضطرار أن قصده: يشترى من غلة الأرض، أو بثمن غلتها أو بأجرتها، أو أجرة الدار أضحية.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الوقف على المسجد؟
فأجاب: الوقف على المسجد جائز، بل مستحب، لأنه من أعمال البر والقربات; وأما وقف الشرك الذي على طاعة، فيجب الوفاء به في الإسلام.
وسئل: عن وقف لم يذكر له مصرف، أو ذكر... إلخ؟
فأجاب: إذا وقف وقفاً وذكر مصرفه ثم انقطع، أو لم يذكر مصرفاً، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف: هل يصح أو لا؟ وقدم في المغني أنه يصح، وذكره قول مالك وأبي يوسف، وأحد قولي الشافعي: أنه إذا وقف وقفاً على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف،(8/6)
ص -10- ... وبه قال الشافعي. وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين؛ واختاره القاضي والشريف. وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال المسلمين. وأما إذا كان وقف وقفاً، ولم يذكر له مصرفاً بالكلية، فقال في المغني: إذا قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه؛ وابن حامد يصحح الوقف، قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صُرف إلى مصارف الوقف المنقطع الذي ذكرناه في أول المسألة، وأن فيه ثلاث روايات عن أحمد؛ فتأمله يتضح لك الأمر إن شاء الله.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن دعاوى في أوقاف لم يكن لها وثائق، منها: أناس ببعض القرى التي نهبت في آخر القرن الثالث عشر؛ ومشهور عند أهل الأحساء: أن أوراقهم أتلفت، وإنما بقي عندهم الولاية في الأملاك والأوقاف، فإذا حصل بينهم نزاع في الأوقاف، وليس هناك نص واقف، هل يكون حكمها حكم الوقف المنقطع الآخر، أم لا؟ وهل يجب يمين على المدعى عليه، والأمر مشتهر أن الأوراق ضلت منه؟
فأجاب: قال في الإنصاف، عند قول المقنع: وهل يدخل فيه ولد البنت - فذكر كلاماً طويلاً - ثم قال: فوائد -(8/7)
ص -11- ... إلى أن قال - الرابعة: قال في التلخيص: إذا جهل شرط الواقف، وتعذر العثور عليه، قسم على أربابه بالسوية؛ فإن لم يعرفوا، جعل كوقف مطلق لم يذكر مصرفه. انتهى. وقال في الكافي: لو اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف؛ فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه. انتهى.
وقال الحارثي: إن تعذر الوقوف على شرط الواقف، وأمكن التأنس بتصرف من تقدم ممن يوثق به، رجع إليه، لأنه أرجح مما عداه؛ والظاهر صحة تصرفه، ووقوعه على الوفق. انتهى.
فقد عرفت منه: أنه إذا كان الوقف في يد ثقة، يصرفه مصرفاً معيناً في مثل هذه المسألة، أنه يعمل بذلك، وأنه إذا لم يكن شيء من ذلك، يصير حكمه حكم الوقف المطلق، يكون لأقرب ورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، كالوقف المنقطع؛ هذا إذا جهل أصل المصرف.
وأما إن علم أصله، لكن جهل شرط الواقف، أو التقديم، أو التأخير، أو التفضيل، ونحو ذلك، فهذا يستأنس فيه بصرف الثقة الذي هو بيده، وبعمله كما تقدم؛ فإن لم يكن فيقسم بين أهل الجهة بالسوية، كما تقدم، والله أعلم.(8/8)
ص -12- ... وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الوقف الذي لم يذكر له مصرف، إذا انقرض الموقوف عليهم، فمشهور المذهب أنه يكون لورثة الواقف، وقفاً عليهم نسباً بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم: فللبنت مع الابن الثلث، والباقي له. وإن كان الوارث أخاً شقيقاً وأخاً لأب، انفرد به الشقيق. وقال ابن أبي موسى: يكون ملكاً للورثة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد. وقال الشافعي: يكون وقفاً على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء. واختار الموفق أنه يصرف إلى المساكين؛ وهو رواية عن أحمد. فإن كان في أقارب الواقف فقراء، فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب؛ هذا كلامه في المغني.
وأجاب أيضاً: الذي وقف وقفاً على جهة بر، ولم يعين مصرفاً معيناً، فالذي أرى أنه يصرف في فقراء أقاربه، لا سيما فقراء ورثته، ويصرف في غير ذلك من وجوه البر، كفطر صوام ونحو ذلك.
فصل
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن مراعاة شرط الواقف؟
فأجاب: منصوص علمائنا، رحمهم الله، في كتبهم:(8/9)
ص -13- ... يلزم بشرط مستحب، خاصة وأن الشرط المكروه باطل اتفاقاً؛ قال شيخ الإسلام: وقول الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، في وجوب العمل، مع أن التحقيق: أن لفظ الموقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد، يحمل على عادته ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع أو لا. وقال: لا خلاف أن من وقف على صلاة، أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي لم يصح؛ والشرط إنما يلزم الوفاء به، إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا وقف إنسان وقفاً وأشهد عليه، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظناً منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهم عالمون منه إرادة التعقيب دون التشريك؟
فأجاب: يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء، لكون المعتد بالمقصود; قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال: أحدها: الأصل في العقود أنها لا تصح إلا(8/10)
ص -14- ... بالعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع والإجارة، والنكاح والوقف، والعتق وغير ذلك; وهذا ظاهر قولي الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، لكون الأصل عندهم هو اللفظ.
والقول الثاني: أنها تصح بالأفعال كالوقف، كمن بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه، وكبعض الإجارة؛ فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها، لفسدت أكثر أحوال الناس. وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاملات في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجره العرف.
والقول الثالث: أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول أو فعل؛ فكل ما عده الناس بيعاً أو إجارة، فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال؛ انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.
فلا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيره، إذا كان ما يتعاقدون به دالاً على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات؛ وهذا هو الغالب على(8/11)