2- تزايد فقدان المجتمعات الغربية لثقتها في نفسها. ومدى ثقة المجتمعات في نفسها من العوامل البالغة التأثير في دفع المجتمعات إلى الانفتاح على الآخر، أو الانكماش في وجهه. فمع الانكماش الجزئي للنفوذ الأوروبي، ومع تراجع الإمبراطوريات الاستعمارية الكبيرة، وتراجع قدرة المجتمعات الغربية على صناعة الأيديولوجيات الكبرى - كما كان شأنها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين - وظهور أقطاب اقتصادية وسياسية وأيديولوجية وعسكرية في شرق آسيا في الصين واليابان وفي العالم الإسلامي منافسة للنفوذ الأوروبي خاصة والغربي عامة، بدأت المجتمعات الغربية تشعر بضعف ثقتها في نفسها.. ومن ثم بدأت الحركات العنصرية فيها تنمو وتترعرع وتحتل المشهد السياسي في أكثر من بلد أوروبي.
3- الإعلام الغربي، وهو إعلام يقوم على ترسيخ صور نمطية عن الذات والآخر: الذات باعتبارها رمزا للتقدم والنجاح والتحضر، والآخر باعتباره أقرب إلى التوحش والبدائية وقلة الحضارة. وتقوم وسائل الإعلام في معظم الدول الغربية بالتركيز على العديد من القضايا التي توقظ المشاعر العنصرية في الضمير الأوروبي. فتركيز الإعلام على قضايا اللجوء والهجرة والجماعات المتطرفة في الغرب، وتصوير المجتمعات الأصلية للأقليات العرقية والدينية - التي تعيش في الغرب - باعتبارها مجتمعات للحروب والتخلف والعنف والإرهاب، تصنع هالة من التوجس والخوف والانطواء تجاه الأجنبي "البربري" أو "المتوحش" القادم إلى قلب الجنة الغربية من أجل إفسادها وتدميرها.
وفضلا عن تركيزها على الجوانب السلبية في حياة الأجانب والأقليات العرقية التي تعيش في الغرب، وتهميش صور النجاح والتميز التي يحققها أبناء الأقليات، تعمد بعض وسائل الإعلام الغربية أحيانا إلى تحميل الأجانب مسؤولية الكوارث أو الأزمات التي تعرفها بلدانها. ففي بريطانيا، عمدت صحيفة شعبية - واسعة الانتشار - إلى تحميل الأجانب مسؤولية مرض الحمى القلاعية الذي ضرب بريطانيا، وتسبب لها في خسائر اقتصادية هائلة حين أرجعت وجود الفيروس إلى أطنان اللحوم التي قالت إنها تُهرّب من أدغال إفريقيا، وتدخل بريطانيا دون رقيب- وهي تحمل أصنافا شتى من الفيروسات والآفات.
وتعتبر صورة العرب والمسلمين المشوهة - والمقترنة في الإعلام الغربي بكل ما هو قبيح وسيئ - أحد أبرز المظاهر على دور الإعلام والتعليم ومختلف أجهزة الثقافة الشعبية في إنتاج الكراهية والحقد على العرب والمسلمين لدى الغربيين. وهي الظاهرة التي تعرف اليوم في الدراسات الاجتماعية الغربية باسم "الاسلاموفوبيا"، أي الخوف والتخويف من الإسلام، وتصويره باعتباره بعبعا يهدد الحضارة الغربية.
4- انتشار البطالة بين الشبان الغربيين - الذين يشعرون أن الأجانب "زحفوا" على دولهم، وصاروا ينافسونهم كيد عاملة رخيصة. وهذا العامل له أهمية بارزة. وقد أثبتت استطلاعات الرأي أن قضايا البطالة من الانشغالات الرئيسية لدى المواطنين الأوروبيين، إلا أن هذا العامل يظل عاملا محل جدل ومقاربات مختلفة. فالأجانب لا يمثلون منافسا حقيقيا في سوق العمل الأوروبي، إذ تخضع السوق في أحيان كثيرة إلى انتخاب غير مصرّح به على أساس عرقي.
فصاحب العمل حين يتقدم له شاب من أهل جنسه من البيض، وشاب آسيوي أو إفريقي أو مغاربي أو تركي - يتنافسان على منصب شغل - يفضل بشكل شبه آلي الشاب الأبيض على الشاب الأجنبي. فلا يحظى المتنافسان منذ البداية بفرص متساوية، إلا أن يكون الأجنبي متمتعا بمزايا استثنائية لا يتوفر عليها منافسه.
إن الأيدي العاملة من الأجانب يشتغل معظمها في المهن الثانوية أو المهن "القذرة" التي يترفع عنها البيض، وهو ما يجعل الحديث عن البطالة باعتبارها سببا من أسباب استفحال العنصرية مسألة غير دقيقة. فالبطالة مرتبطة بوضع الاقتصاد الحديث وتقلباته أكثر مما هي مرتبطة بالمنافسة الأجنبية الضعيفة.
5- التصرفات السيئة والمشينة لبعض الأجانب وأبناء الأقليات العرقية المقيمة في الغرب: من عنصرية مضادة، وتورط في شبكات الجريمة والاتجار بالمخدرات، أو العيش عالة على دافعي الضرائب الغربيين، إذ يساهم العديد من الأجانب وأبناء الأقليات العرقية والدينية في تغذية العنصرية ضدهم بما يبدر منهم من سلوكيات مشينة مثل التحايل على القوانين والركون الطوعي إلى البطالة والعيش على الإعانات الاجتماعية، أو الانخراط في عصابات الجريمة المنظمة، أو في جماعات دينية أو سياسية متطرفة. تلك التصرفات تشعر المجتمعات الغربية بأنها مهددة في أمنها وهويتها الثقافية والدينية والاجتماعية، بما يزيد من تغذية المخاوف لديها من الأجنبي ومن أبناء الأقليات.
ويلعب الإعلام في هذا الصدد - عن قصد أو عن غير قصد - دورا بارزا في تسليط الأضواء على تلك الجماعات وتلك السلوكيات المشينة، ويعمد إلى إبرازها وكأنها تمثل التيار العام داخل الأقليات.(1/262)
لقد كشفت دراسة - أعدت في بريطانيا عن قطاع الصحة لم تنشرها الحكومة البريطانية بعد، بالرغم من مرور نحو عام على استلامها - عن أن أكثر من 50.4 في المائة من الأطباء والممرضين السود وأبناء الأقليات العرقية العاملين في قطاع الصحة البريطاني قد تعرضوا لممارسات عنصرية من زملائهم، ومن مرضاهم ومن عامة الناس.
وأثبتت الدراسة: أن المسؤولين المباشرين على أولئك الضحايا لم يأخذوا مأخذ الجد شكاواهم من الممارسات العنصرية - التي تعرضوا لها - وأن المسؤولين عن قطاع الصحة لم يأخذوا ما يكفي من الإجراءات لمواجهة مرض العنصرية العضال الذي ينوء به هذا القطاع.
وتكشف هذه الدراسة - في ما تكشف - بطلان تبرير العنصرية بكسل الأجانب وانحطاطهم وعيشهم مثل الطفيليات على حساب الغربيين البيض، كما يصور البعض. فالنجاح في العمل وربما التفوق فيه، والعمل في مهن محترمة - مثل مهنة الطبابة - ليست كافية للنجاة من العنصرية، ما دام اللون والعرق هو المحدد في السلوكيات العنصرية، وليس مدى النجاح الذي يحققه الأجنبي في البلاد الغربية.
إنه بالرغم من المسؤولية الأكيدة لعدد من الأجانب أو أبناء الأقليات في تغذية العنصرية ضدهم، فإن أسباب العنصرية عميقة - وليست مجرد رد فعل على سلوكيات الأجانب ومنافستهم للأوروبيين في الوظيفة، أو عيشهم على حساب دافعي الضرائب؛ بل ترجع إلى أسباب أعمق من هذه الأسباب أو الظواهر التي هي في الواقع نتائج للعنصرية أكثر من أن تكون أسبابا لها.
إن أكثر السلوكيات السيئة الصادرة من الأجانب يمكن اعتبارها رد فعل على كيفية تعامل المجتمعات الأوروبية مع تلك الأقليات. فعمليات التهميش الاجتماعي والسياسي، وعمليات النبذ والإقصاء خارج النسق العام - التي تمارس في أوروبا والغرب عموما ضد المهاجرين وأبناء الأقليات العرقية والدينية بشكل منظم أو عفوي - يمكن اعتبارها من نتائج العنصرية ضد الأقليات. فالإقصاء والنبذ والعنصرية هي التي تولد مظاهر التطرف والجريمة والعنصرية المضادة، ويتولى الإعلام تضخيمها حتى يؤكد الصور النمطية السلبية ضد المهاجرين وأبناء الأعراق الأخرى.
فالعنصرية المضادة لدى الشباب الأسود والانخراط في عصابات الجريمة المنظمة هو رد غير واع أحيانا - وواع أحيانا أخرى - ضد قرون الاضطهاد والعبودية الراسخة في أعماق الأجيال السوداء. أما انضواء عدد من الشباب الآسيوي في بريطانيا، أو الجزائري في فرنسا، أو التركي في ألمانيا في الجماعات الإسلامية المتشددة والتكفيرية، فهو في الواقع - في كثير من وجوهه - رد فعل على تهميش هذه المجتمعات لأولئك الشباب، وسد أبواب الاندماج المهني والوظيفي والنفسي في داخل بلاد المهجر.
فالشاب الذي ولد في هذه البلاد، وحصل على جنسيتها وتربى فيها وعاش معظم عمره فيها، ولم يعرف له بلدا سواها- يفهم منه توجهه للتطرف والجريمة والعنصرية المضادة ضد المجتمعات التي تعمل على تهميشه وإقصائه. فهو يشعر أن البلد بلده - ولا بلد له سواه - يسعى للعيش فيها بشكل طبيعي؛ لكن سعيه ذاك يواجه بالتهميش والإقصاء والنبذ؛ فلا يجد سوى التطرف والعنصرية المضادة والجريمة المنظمة ردا على ذلك.
العنصرية وسقوط الغرب في امتحان الأخلاق
يزعم مؤرخو الحضارة الغربية أن هذه الحضارة هي الحضارة الإنسانية الوحيدة من بين حضارات العالم المختلفة، التي نجحت في الخروج من قوقعتها المغلقة الفكرية والأيديولوجية، واعترفت بالآخر حقيقة ووجودا، وأقامت عمادها على مبدأ النسبية وعدم امتلاك الحقيقة الكاملة؛ الأمر الذي أتاح لها الاعتراف بالتنوع والتعدد في السياق الحضاري الإنساني.
وبالرغم من أن التاريخ السياسي والعسكري والثقافي الغربي الحديث قد قام في الواقع – بعيدا عن التنظيرات الواهمة والزائفة –على منطق إبادة الآخر واستئصاله والهيمنة عليه ونهب خيراته أكثر مما قام على الانفتاح عليه والحوار والتعايش معه؛ إذ أبادت الحضارة الغربية في لحظات صعودها وهيمنتها عشرات الملايين من الهنود الحمر في القارة الأمريكية، ومثلهم من السكان الأصليين في قارة استراليا.
وقام مجد الكثير من المؤسسات المالية والعسكرية الغربية الجبارة على استعباد الملايين من الأفارقة وامتصاص دمائهم، وتحطيم مجتمعاتهم..
بالرغم من كل ذلك، لم يجد مؤرخو هذه الحضارة من غضاضة في اعتبارها الحضارة الإنسانية الوحيدة التي اعترفت بالآخر وانفتحت عليه. حتى هذا الانفتاح والاعتراف لم يتجاوز مستوى الاعتراف بالآخر - في أكثر الأحيان - باعتباره موضوعا للإبادة والهيمنة والنهب؛ وهو ما جعل الحضارة الغربية تقتل في حروبها وغزواتها الاستعمارية – التي طالت كل نقطة في الكرة الأرضية من البشر - ربما ما لم يُقتل مثله في كل الحروب في تاريخ الإنسانية الطويل الممتد عبر آلاف السنين..(1/263)
هذا في الخارج.. أما في الداخل، فقد أثبتت المجتمعات الغربية عجزها عن الانفتاح على الآخر الديني والعرقي الذي بين ظهرانيها؛ وهي اليوم تضيق به وتنوء ببعض الملايين من السود الذين جلبتهم عبيدا عملوا في مصانعها ومزارعها وموانئها، واستغلت طاقتهم في بناء مؤسساتها، وراكمت بجهودهم ثرواتها الطائلة. كما هي أيضا تضيق ببعض الملايين من الآسيويين والمغاربة والأتراك وغيرهم من العمال - الذين جلبتهم كأشباه عبيد أو أنصاف عبيد - أعادوا بناءها بعد ما دمرت ذاتها في حربين مدمرتين.
وبالرغم من أن معظم أبناء الأقليات لم يفرضوا أنفسهم على المجتمعات الغربية، فهم إما جلبوا إليها بالرغم من أنوفهم عبيدا قبل قرون، أو جلبوا بتشجيع وموافقة من الحكومات الغربية التي كانت تبحث في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عن اليد العاملة التي تحرك اقتصادها، وتعيد بناء ما دمرته حروبها.. فإن هؤلاء "الضيوف" - وبعد انتهاء الحاجة إليهم - قد صار وجودهم ثقيلا على قلوب هذه المجتمعات.
إن المجتمعات الغربية - التي تعاملت وتتعامل بلا أخلاق مع الأجانب وأبناء الأقليات لديها -تنظر لهذا "الآخر" وكأنه مجرد آلة توظف في تشغيل عجلة الاقتصاد الغربي، حتى إذا انتهت الحاجة إليها رمي بها كما يرمى بأي آلة تالفة عسر إصلاحها، أو انتهت مهمتها.
إن في رقبة المجتمعات الغربية دينا كبيرا تجاه السود، الذين جلبتهم عبيدا واستغلتهم أبشع استغلال. وتقدر "لجنة تعويضات العالم الإفريقي واستعادة الحقيقة" أن دين الأفارقة السود على المجتمعات الغربية يبلغ ما لا يقل عن 777 تريليون دولار تعويضات عن الاضطهاد والمعاناة والاستغلال، الذي تعرضوا له طوال القرون الماضية.. وهي تعتبر هذا التقدير مجرد تقدير جزافي، لا يرقى بحال من الأحوال إلى التعويض الحقيقي عن ممارسات حقبة استنزاف موارد القارة البشرية عبر خمسة قرون من عمرها، خاصة إذا ما قورنت تلك التعويضات المطلوبة بما تطالب به الجماعات اليهودية اليوم العالم الغربي من تعويضات..
لكن العالم الغربي - الذي عليه كل هذا الدين، وهو دين لو أعيد إلى أصحابه لأفلست معظم المجتمعات الغربية - نراه اليوم يضيق بمجرد وجوده الأفارقة السود لديه، وتتنامى في أرجائه الحركات العنصرية التي تستهدف ترحيل هؤلاء الأجانب.. بالرغم من أنهم من مواليد هذه الأرض منذ نحو 5 قرون كاملة.
ويصدق نفس الشيء على معظم المهاجرين الآخرين، الذين جاء أكثرهم بعد الحرب العالمية الثانية، وأعادوا بناء ما دمرته تلك الحرب.. واليوم يجازون بالكراهية والتهميش وربما الطرد بنفس الطريقة، التي يجازى بها الأفارقة السود الذين تمتلئ بهم السجون والمعتقلات في معظم العواصم الغربية.
إن الحركة العنصرية تعكس في الواقع أحط ما في الضمير الغربي من انتهازية وجشع و... وتثبت أن المجتمعات الغربية - التي بنت جنتها على حساب الآخرين وبعرقهم ودمائهم ودموعهم - لا تعترف بالآخر ولا تبالي به؛ ولا يمثل لديها سوى موضوع للاستغلال، ومصدر لرفاهية الأنا المتضخمة والمريضة بعقد التفوق على العالمين..
إنها بقايا الموروث الغربي السحيق اليوناني واليهودي المسيحي في النظر للأنا - باعتبارها "شعب الله المختار" أو العنصر النقي الأقوى والأصلح للحياة - كما يذهب إلى ذلك شارل داروين، الذي برر الاستعمار الغربي لمختلف قارات العالم.. أما النظر للآخرين، فباعتبارهم "البرابرة" و"الهمج" أو الكائنات الدنيا رقيا وتطورا في سلم الحضارة.. وهذا هو الوجه الأبرز للسقوط الأخلاقي للغرب كدول ومؤسسات، لا كشعوب أو أفراد.
============
مسلمو الفليبين الملف الدامي
8/2/2001
جاكرتا - صهيب جاسم - إسلام أون لاين.نت(1/264)
تعلم الرئيسة الفليبينية جلوريا جيدًا أن مشكلة المسلمين في الجنوب أحد الملفات الهامة التي تواجهها اليوم، وقد ذكرت ذلك ضمن مقابلة قبل ثلاثة أشهر من استلامها الحكم؛ لأن ذلك يُعَدّ جزءًا مهمًّا من استعادة ثقة المجتمع الدولي في استقرار البلاد اقتصاديًّا وسياسيًّا، وهناك العديد من الأسئلة المطروحة على الساحة اليوم في الفليبين بشأن المسلمين، فعندما كان إسترادا على وشك السقوط كان السؤال هو: ما الذي سيحدث للمسلمين لو جاء رئيس غيره؟ فهل ستعدّل جلوريا الدستور الذي ينص على اعتبار الحرب أسلوبا دستوريا من وسائل سياسيات الدولة للتعامل مع المسلمين في الجنوب؟ وهل سترسم سياسية سلام شاملة للمسلمين تصل إلى جذور المشكلة التاريخية، فيسجل لها التاريخ ذلك، كما فعل الرئيس الإندونيسي حبيبي لنصارى تيمور مع عدم وجود الضغوطات الدولية لإجبارها على ذلك كما أجبر حبيبي؟ وهل سترجع للمسلمين حقهم في تقرير مصيرهم؟ وهل ستساعد في إرجاع المليون مشرد في الجنوب إلى منازلهم، وتضع إعادة إعمار المناطق التي دمرتها حروب عام 2000 ضمن أولوياتها التنموية أو أنها تدع خيرات البلاد لأهلها المسلمين؟ وهل ستكمل تطبيق اتفاقية السلام مع نور ميسواري في حكمه الذاتي الجزئي؟ ليس هناك في الحقيقية جواب لهذه الأسئلة لكن مجيء جلوريا بعث الأمل في نفوس المشردين واللاجئين المسلمين الذين تضرروا أكثر من المقاتلين في ساحة الحرب.
أول وزير مسلم.. ولكن!
استهلت الرئيسة جلوريا حكمها بقرار لاقى ترحيبًا وتفاؤلاً عندما أعلنت ضمن وزرائها الجدد تعيين سياسي مسلم في منصب وزير الأشغال العامة، وهي المرة الأولى التي يتسلم فيها وزير مسلم منصبًا وزاريًّا في الفليبين، بالرغم من وجود وزارة لشؤون المسلمين لكنها لا تعنى إلا بشؤون أقليتهم، وهي ذات منزلة أقل من مرتبة "الحقائب الكاملة". وداتومانغونغ "66 عاما" قد شغل سابقًا منصب حاكم إقليم جنوبي لدورة واحدة، واختير كعضو في الكونجرس الفليبيني لمدة ثلاث دورات، وقد تخرج في عام 1959 من قسم القانون في جامعة الفليبين في مانيلا، وشغل منصب وزير شؤون المسلمين سابقًا، وعمل على رأس الحكم الذاتي الإقليمي في مينداناو الوسطى إحدى أهم مناطق المسلمين. وقد لقي تعيينه ترحيبًا واسعًا من قبل المسلمين بما في ذلك الجبهة الإسلامية، لكن البروفيسور "منير باجنيد" رئيس لجنة العمل الفنية التفاوضية لجبهة تحرير مورو الإسلامية قال: "نحن نقدّر هذه الخطوة الحسنة، ولكننا نريد أكثر من ذلك بإعلان شخصي من الرئيسة نفسها حول سياستها المحددة فيما أعلنته من نية الحوار مع الجبهة"، فيما اعتبرت حركة شباب شعب مورو تعيينه "نقطة تحول". وفي مدينة مراوي احتفل آلاف من الماراويين المسلمين بسقوط إسترادا "كبير المقامرين"، وبتعيين أول وزير مسلم في حكومة جلوريا. وقد عينت جلوريا بعد ذلك اثنين آخرين من أقاليم مينداناو الجنوبية في مجلس الوزراء، وهما وزيرا النقل والاتصالات بانتاليون الفريز ووزير شؤون التنمية الإقليمية باول دومينغويز.
صراع هوية وليست مشكلة منصب وزاري
ومع أن مثل هذه الخطوة قد يكون لها أثر إيجابي على واقع المسلمين؛ فإنها لن تكون وحدها كفيلة أو كافية بحل ملف مسلمي الجنوب منهم بشكل خاص، فمشكلة المسلمين في الفليبين ليست مشكلة الحصول على وزارة أو جزء من الحكم مقابل سكوتهم على حملات التنصير والتذويب، خاصة وأن منهم نوابًا في البرلمان والكونجرس وموظفين في الدولة منذ فترة مبكرة، ولكن التحدي الرئيسي بالنسبة إليهم هو الحفاظ على الهوية الإسلامية للملايين منهم، ونقل عقيدة التوحيد للأجيال الصاعدة الذين يشكلون 5 - 7% من السكان حسب بعض التقديرات.
فمع تعرضهم لمحاولات وخطط التذويب والتنصير والإفقار والتجهيل، ومع استمرار استنزاف الدولة لخيرات مناطقهم التي تُعَدّ الأغنى بثرواتها بين جزر الفليبين يصبح أمر إنهاء مآسيهم أبعد من تعيين وزير، وهو القرار الذي سيكون سلاحًا ذا حدين أيضًا، فقد يُدبّر لإفشال عمل هذا الوزير أو أنه لا يقدر كجزء من إمكانية عجز الدولة على حل المشاكل الاقتصادية العالقة، مما يجعله محل نقد للمسلمين في أول اختبار وزاري لأحدهم لو لم يصبح حقًّا بداية تحول العلاقة بين الحكومة والمسلمين.
أطفال مينداناو لجلوريا: أوقفي الحرب!(1/265)
ولقد كانت من المطالب الأولى الموجهة للرئيسة جلوريا بألا تكرر خطأ إسترادا بإعلان الحرب أو العمل على استمرارها ضد المسلمين، فمؤسسة أطفال السلام طالبتها في رسالة في 22/1 قالت الفتاة رسان علية "13 عامًا" فيها: "إنك الآن رئيسة تشغلين أعلى منصب في الدولة بفضل الثورة السلمية للشعب الفليبيني.. وما زلت أذكر من الدروس الدينية بأن السلطة والقوة يجب أن تستخدم لمصلحة الجميع، ولكن للأسف يمكن أن تستغل السلطة شر استغلال.. ونحن في البرنامج النفسي لمؤسسة أطفال السلام نسمع من الأطفال في مراكز اللاجئين قصص رعب من الأطفال تجعلنا نفكر في اللاإنسانية التي تتصف بها سلوكيات من بيده السلطة… ولا أدري إن كان تغير الرئيس يعني مجيء أمل جديد للأطفال في منيداناو. والآن بعد انتهاء الأزمة أدعو الرئيسة إلى إعادة التركيز على هذه الأزمة، وإنني كمينداناوية حالمة ومؤيدة للسلام لا أؤيد أن تحل القضية بالحرب.. إنك كرئيسة وكأم في الوقت نفسه ستتعاطفين مع طفولتهم؛ ولذلك آمل ألا تلجأ حكومتك للحرب..".
جرائم حرب إسترادا
من جانب آخر طالب "تحالف السيدة خديجة لنساء مورو"- على لسان رئيستها إفلين كارياس- الرئيسة الجديدة بأن تحاكم حكومتها الرئيس إسترادا على "جرائم حربه" بتشكيل فريق تحقيقات مستقل في شأن البحث عما يثبت تورط إسترادا في جرائم بحق المسلمين، وطالب التحالف ببقاء هذا الفريق يعمل بشكل دائم حتى يجد الناس من يرفعون الشكاوى الرسمية إليه عن انتهاكات رجال الجيش والحكومة. كما دعت إلى ضرورة مراجعة التهم الموجهة مع ضعف الأدلة لمسلمين معتقلين في عدد من سجون الفليبين، وقالت: إن الفريق يمكن أن يستعين بفرق التحقيقات وجماعات حقوق الإنسان الموجودة في الجنوب وقدم التحالف نماذج من الأدلة على "جرائم إسترادا" بحق المدنيين بتفاصيلها.
وكان "اليسوع ميركادو" رئيس مؤتمر دعاة السلام في مينداناو قد سلم الرئيسة عدة مقترحات: منها إعلان الهدنة واستئناف المفاوضات، فيما أكد "مجلس مينداناو التجاري" (يضم 42 مجموعة تجارية) الذي تضرر أعضاؤه مئات الملايين بسبب حرب العام الماضي - ضرورة تحقيق السلام، وطالب المجلس بالاهتمام بإعادة إعمار المناطق المدمرة وإصلاح الاقتصاد الذي اكتسحته الدبابات والآليات العسكرية، فيما أكدت "الرابطة السياحية" في دافاو الجنوبية وتجارها، و"المجلس الاقتصادي والتنموي لمينداناو" حاجة المنطقة للاستثمارات التي ستعيد فتح سوق العمل للكثيرين، حيث إن مئات من الموظفين قد فصلوا من عملهم بسبب الأزمة الاقتصادية والحرب في الأقاليم الجنوبية، حتى وصل الوضع إلى أن ظاهرة بيع الدماء لبنوك الدم الخاصة والهلال الأحمر الفليبيني انتشرت بين الجنوبيين للحصول على بعض المال لسدّ رمق أبنائهم!
استئناف المفاوضات ولكن حول ماذا؟
الرئيسة جلوريا أمرت باستئناف المفاوضات مع المسلمين في أول أيام حكمها (وكذلك الشيوعيون من جانب آخر) وبإعادة هيكلة الحوار ليصل الطرفان لحل و"وقف لإطلاق النار" كما أعلنت أن تحسين الأوضاع الاقتصادية في مينداناو سيكون على رأس أولوياتها، وأنها ستلغي سياسة "الحرب الشاملة على المسلمين".
وكانت الجبهة قد أوقفت التفاوض مع الحكومة في 19 أغسطس 2000 بعد اشتداد وتيرة المعارك، معللة ذلك بـ"فقدان الجو المناسب والمطلوب لحوار سلمي"، خاصة بعد إعلان الحكومة مكافأة من يلقي القبض على قادة الجبهة أو يساعد في الوصول إلى مكانهم، وقد صرح "أدواردو أرميتا" القائم بأعمال وزير الدفاع الفليبيني الجديد (بعد استقالة الوزير السابق ميركادو) في 29/1/2001 بأن الحكومة تخطط "لوقف العمليات العسكرية ضد الجبهة الإسلامية مؤقتًا لإقناعها بالرجوع لطاولة المفاوضات"، لكنه لم يعلن وقفها بشكل كامل، وهو ما يتطلب أخذ رأي الجيش- على حد قوله - من الناحية العسكرية! ولذلك قد يعلن الجيش الفليبيني عن ذلك في الأيام القادمة.
وقد أعلنت الشرطة الفليبينية تبرئة المسلمين وقادة الجبهة من حوادث تفجير يوم 30/12/2000 كجزء من "إجراءات بناء الثقة" للتمهيد للبدء بالمفاوضات، لكن 29 مسلمًا مدنيًّا لا يزالون معتقلين بتهمة تدبير هجمات على الجيش مع إنكار الجبهة وإنكارهم لأي علاقة تربطهم بالعمل العسكري، كما ألمحت الحكومة إلى إمكانية سحب التهم المرفوعة ضد قادة الجبهة، وهو ما يعتبره المراقبون أمرًا شكليًّا ليس له أثر كبير على الساحة العسكرية ولا حتى على المفاوضات، لأن الطرفين في حالة حرب.(1/266)
لكن أول علامات محدودية عرض الحكومة الجديدة هو أن أميرتا - وهو مستشار الرئيسة لشؤون السلام - ذكر في تصريحه أمرين لم يغير موقف حكومته فيهما: الأول، هو رفضه المبدئي لعقد مفاوضات في دولة مسلمة أو محايدة، مع أن الرئيسة جلوريا وعدت بذلك قبل رئاستها! معللاً ذلك بقوله: "لأننا لا نريد تدويل القضية بدون داع ومبرر"!! أما الثاني، فهو تشبثه بقرار منظمة المؤتمر الإسلامي القديم، وهو عدم الاعتراف بالجبهة الإسلامية كممثل لشعب مورو، مع أن موقف منظمة المؤتمر في العام الماضي اعترف ضمنيًّا بضرورة التحاور معها كأقوى حركة مسلحة في الجنوب.
وكان وزير الرئيسة لشؤون التنمية الإقليمية قد صرح في 28/1 بأن الرئيسة في طور رسم سياسية كاملة للتعامل مع "التمرد في الأقاليم". وقال باول: إنه بدأ منذ أيام مناقشة أمر إيقاف الحرب والتمهيد للمفاوضات، ونبّه البعض إلى عدم توقع الكثير من المفاوضات في مرحلتها هذه، وقد تم أول لقاء تمهيدي، ولكن ليس على مستوى عالٍ بين وفدي الحكومة والجبهة يوم الأربعاء "31/1/2001" في مدينة كوتاباتو، ولم يكن اللقاء ضمن المفاوضات الرسمية، ولكنه كان مجرد إشارة عن الاستعداد للحوار من قبل الطرفي، ولم يسفر عن شيء يذكر.
والجدير بالذكر أن وزير الدفاع أميرتا وسكرتير الدولة "ريناتو ديفالو" من العسكريين السابقين، وهو ما يعتبره بعض المسلمين نقطة إيجابية؛ لأنه "سيعطي الرئيسة صورة أوضح عما يحدث في مينداناو". لكن الكاتب الفليبيني "رامون تولفو" ينظر إلى رأي المؤسسة العسكرية بشكل آخر، فيقول: إن أحد أوجه الفساد التي سيكون من الصعب على جلوريا اقتلاعها بسبب نفوذ الجيش هو الفساد المالي الذي تغرق به قيادة التموين التي تموّن الجيش بكل ما يحتاجه، وتزيد من مطالبها المالية من الحكومة بسبب الحرب على المسلمين؛ ولذلك هناك الكثير من الضباط والمسؤولين المنتفعين ماليًّا من الحرب غير عابئين بمن يقتل من جنودهم. وفي مقال كتبه عن الفساد المالي للجيش أشار إلى ما يجهله الكثيرون في الفليبين عن رفاهية العيش التي يعيشها بعض القادة المنتفعين من الحرب في الجنوب.
الجبهة الإسلامية ترحب بحذر
الجبهة الإسلامية من جانبها كررت التعبير عن استعدادها للمفاوضات بشروط: أولها، سحب قوات الجيش من مناطق المسلمين التي تسيطر عليها، وإيقاف حالة الحرب الشاملة، ثانيها، الإلغاء العلني أمام الرأي العام للتهم الموجهة لقادة الجبهة في تدبير تفجيرات مانيلا في العام الماضي. وثالثها، أن تكون المفاوضات بدون شروط تضيّق أطر النقاش وآفاقه كما كانت الحكومات السابقة تطلب من المسلمين بأن يكون الحديث في ظل الدستور الفليبيني ووحدة الفليبين! وقال "عليم إلياس" عضو هيئة التفاوض للجبهة: "إن من المفترض أن تقدم الحكومة على هذه الخطوات كبادرة حسنة".
وقد أبدت الجبهة الإسلامية أيضًا استعداها للمشاركة في مفاوضات بتمثيل عالٍ بين الرئيسة جلوريا ورئيس الجبهة "سلامات هاشم" في بلد محايد مقبول للطرفين من بلدان منظمة المؤتمر الإسلامي، وكانت قيادة الجبهة قد وصفت جلوريا بأنها "أكثر فهمًا لضرورة السلام من الرئيس السابق إسترادا". وكانت المعارك قد استمرت في الأيام الأولى من حكم جلوريا حيث لم تعلن الرئيسة جلوريا عن وقف عمليات الحرب الشاملة.
وتدخل الجبهة هذه المرحلة وهي مزودة بتأييد واسع لإقامة دولة مستقلة، بسبب تدهور شعبية إسترادا، بعد أن كانت توقعات كثير من الناس بإمكانية حدوث ذلك ضئيلاً من قبل وتوسعت دائرة من اقتنع بأن هذا هو الحل الوحيد والفعال لإنهاء الخلاف المزمن، لكن قيادات الجبهة تقر أيضًا بأن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى مزيد من الوعي من قبل مسلمي مورو بعد أن نسي كثير من الناس أن المسلمين في هذه الجزر كانوا مستقلين استقلالاً كاملاً قبل أن يقيم الأوروبيون وطنًا للكاثوليك فيها.
المستقبل المجهول لسلام ميسواري(1/267)
وعلى الجانب الآخر من ساحة مسلمي مورو تقف جبهة تحرير مورو الوطنية موقفًا صعبًا آخر، فقد دعا "نور ميسواري" رئيسها وحاكم "منطقة الحكم الذاتي في مينداناو المسلمة" الرئيسة الجديدة إلى التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام التي وقعت بين الحكومة وجبهته لحكم أربعة أقاليم جنوبية فقط من مجموع أربعة عشر إقليمًا وعشر مدن مسلمة، وقد حذر ميسواري من أن "الوضع قد يسوء لو لم تنفذ الاتفاقية، وستسمر معاناة الناس كما حصل في العقود الماضية "، وعبر ميسواري عن أمله بتحسن أوضاع المسلمين مادحًا والد جلوريا الرئيس السابق دايوسدادا الذي قال: إنه كان صديقًا للمسلمين، وكرر ميسواري انتقاده لفشل حكومة إسترادا في تطبيق اتفاقية سلام سبتمبر 1996، ومن المحتمل توسيع دائرة انتخابات 14 مايو المقبل النيابية لتشمل المنطقة التي يحكمها ميسواري، لكن ميسواري وقادة الجبهة الوطنية يريدون تأخير الانتخابات المحلية لمخاوفهم من عدم نجاحهم فيها بعد فشل الصيغة السلمية التي أقنعوا بها سكان المناطق التي يحكمونها بها. وكانت الأمم المتحدة قد مددت ولفترة ثالثة مشاركتها منذ عام 1997 في دعم الحكم الذاتي في الأقاليم الأربعة.
=============
مسلمو مورو: إضعاف الصحوة باسم السلام!
5/04/2001
جاكرتا - صهيب جاسم
شهدت العاصمة الماليزية كوالالمبور توقيع "بلاغ رسمي" أو "هدنة مؤقتة" بين وفد جبهة تحرير مورو الإسلامية- كبرى الحركات الإسلامية في جنوب الفليبين- وحكومة مانيلا في يوم 24/3/2001.. وقد تناول البلاغ الرسمي القضايا التي تهم الجبهة الإسلامية والحكومة؛ تمهيدا للمفاوضات "الرسمية"، واستهلالا لفترة هدنة مؤقتة، ليست هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع المعاصر بين المسلمين والحكومة.
وكانت آخر مفاوضات "رسمية" قد تمت في 18/7/1997 مع حدوث لقاءات أخرى فشلت في إيقاف الحرب.. ومن المقرر بدء المفاوضات الرسمية بعد منتصف شهر إبريل الجاري (2001) ومن المرجح أن تكون في كوالالمبور أيضًا. ويمنح البلاغ الرسمي مدة ثلاثة أشهر كفترة أولى لعقد المفاوضات التي قد يتخللها لقاء الرئيسة "جلوريا ماكبغال أرويو" بالحاج "سلامات هاشم" رئيس الجبهة الإسلامية.
ومنذ أن جاءت الرئيسة الفليبينية الجديدة جلوريا للحكم في 20/1/2001 تتردد أحاديث متفائلة من أن حكمها سيشهد تطورات إيجابية في أوضاع مسلمي الفليبين. وقد يكون ذلك فعلا إذا خصصنا حديثنا بأحوال المسلمين في الشمال، ولكن هل حقا ستمتلك جلوريا مفاتيح الحل السحرية لمشكلة بدأت في عام 1521؟!
سوابق مخيبة
هذا السؤال سيبقى مطروحا في الفترة القادمة على قيادات وجماهير شعب مورو المسلم الذي تتطلع نساؤه وأرامله وأمهات شهدائه وأيتامه ومئات الألوف من مشرّديه إلى اليوم الذي ينعمون فيه بحياة كريمة هادئة كبشر لهم الحق الإنساني في ذلك بعد مقتل 120 ألفا على مدى ربع قرن مضى.
لكن الوضع يبدو معقدا، حتى لو تم وقف إطلاق النار؛ فالولايات المتحدة المستعمرة عندما "اشترت" جزر المسلمين الجنوبية من المحتلين الأسبان، وقَّعت اتفاقيات سلمية مع سلاطين المسلمين، لكنها نقضت عهدها وضمت بلادا كانت مستقلة منذ قرون إلى دولة عاصمتها "مانيلا" حديثة النشأة، ثم تكرر المسلسل إلى وقتنا الحاضر؛ فمع أن "نور ميسواري" رئيس جبهة تحرير مورو الوطنية فضّل العمل السلمي على العمل العسكري- وهو ما كان سببا في انشقاق الجبهة الإسلامية عنه في 1976- فإنه قال عدة مرات: إنه "تجرع لقمة مرة" عندما وقع على اتفاقية حكم ذاتي محدود لم تُطبّق تفاصيله إلى اليوم.
ومن يلتق بنور ميسواري اليوم فسيجد الموقف الضعيف الذي يعيشه وسط ضياع كل أوراق القوة التي كان يمتلكها أمام الحكومة الفليبينية التي ستنهي عمله كحاكم لما يسمى بمنطقة الحكم الذاتي لمينداناو المسلمة (في أربعة أقاليم من أقاليم المسلمين دون غيرها) وتحوله إلى سفير لديها.. وبذلك ينتهي الدور الفعلي والمؤثر لجبهة تحرير مورو الوطنية القومي بعد 33 عاما على تأسيسها.
الخطاب الرسمي
الخطاب الرسمي لحكومة جلوريا أرويو ليس بجديد؛ فقد شابَهَ خطاب حكومة راموس الذي حكم قبل مجيء "إسترادا".. ولتوضيح ذلك يمكننا تصور ما كان يحصل في عهد "راموس" من إمكانية نزول القادة والجنود العسكريين التابعين للجبهة الإسلامية إلى المدن الفليبينية دون أن تمسهم السلطة بسوء؛ تليينًا لموقفهم وإثناء لعزمهم على الاستمرار في الكفاح المسلح. وعندما جاء إسترادا وأعلن الحرب الشاملة على المسلمين، رجع أغلب هؤلاء المحاربين المسلمين إلى الغابات والمعسكرات في الجبال لمواجهة الدولة بعد عهد من الهدوء النسبي الذي انطوى على أهداف بعيدة المدى في ذهن الساسة الفليبينيين.
والصورة تتكرر اليوم بنفس الهدف، وربما بعروض أوسع للجبهة الإسلامية بعد أن قوى نفوذها الشعبي والعسكري؛ فالرئيسة جلوريا أكدت أن خطابها سيعتمد على قضايا معالجة الفقر والمساواة الاجتماعية وليس على الخطاب الأيدلوجي.(1/268)
إن البعد الديني في الحياة السياسية الفليبينية السلمية والعسكرية واضح، بل حتى في الحياة الفنية تدخلت الكنيسة لتمنع عرض فيلم سينمائي فاضح في منتصف شهر مارس الماضي (2001)، واستجابت جلوريا للأساقفة، كما أن قسما من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الجنوب أيدوا خيار الحرب على المسلمين مع وجود آخرين أيدوا خيار السلام؛ وفي الحالتين يعمل الفريقان على "تنصير" المسلمين!
وقد شددت جلوريا على أنها لا تعمل على الوصول إلى ما سمي بـ "حل سياسي جذري" وأنه لا تنازل عن وحدة الفليبين، ولا تفاوض على خيار الانفصال عن الجنوب الذي لن تتجرأ جلوريا على أن تتحدث عن التنازل عنه: فما هو إذن هدف المفاوضات إن لم تصل إلى حل سياسي جذري؟!
الخطاب الرسمي الفليبيني في الأسبوعين الماضيين اعتمد بشكل رئيسي على دغدغة ومغازلة المسلمين وإشاعة جو إعلامي في العالم الإسلامي يوحي بأن مأساة المسلمين ستنتهي بالفعل؛ فمثلا صرحت الرئيسة في يوم 1/4/2001 بأن لديها "انطباعا" بأن الجبهة الإسلامية قد تنازلت وهجرت هدفها الساعي لتأسيس دولة إسلامية، بل وقالت: "لقد كان الأسلوب الذي تحدث مسئولو الجبهة به إلينا في كوالالمبور يعطي انطباعا بأنهم مستعدون للحديث ضمن السيادة الإقليمية للدولة الفليبينية".
وقد بدأت أحاديث الأوساط الحكومية والإعلامية في مانيلا تصفق لما يقال عن ثني الجبهة الإسلامية عن هدفها لتأسيس دولة إسلامية مستقلة؛ وهي القضية التي عثّرت المفاوضات- التي تكررت ولفترات قصيرة جدا- بين الجبهة والحكومة.. وتضع الحكومة أمام عينيها هدف خفض طموحات وأهداف الجبهة الإسلامية لتقبل بحل سلمي في ظل حكم ذاتي مليء بالوعود، كما حصل مع ميسواري.
التنمية بدلا من الدولة المستقلة
وقد نقل مصدر مطلع في المفاوضات، التي حصلت في كوالالمبور، للصحفيين الفليبينيين أن دولا إسلامية نفطية- وعلى رأسها المملكة العربية السعودية- قد وعدت بتمويل مشاريع التنمية في الأقاليم المسلمة بتكلفة 100 مليون دولار لتقوية مساعي السلام. ويأتي هذا المبلغ كجزء من ميزانية تنموية من 36 دولة مسلمة لتعزيز السلام وإنهاء الحرب بين المسلمين والحكومة؛ مما يعني- حسب تحليل الفليبينيين أنفسهم- أن أكثر ما يمكن أن يُعرض على الجبهة الإسلامية سيكون الحكم الذاتي الموسع، ولا حديث عن دولة إسلامية مستقلة.
وكشف الحاكم "باكس"- وهو أول مسلم يحكم كوتباتو منذ تشكيل دولة الفليبين- عن صفقة مالية أخرى بين الحكومتين الفليبينية والماليزية، تقوم الثانية بموجبها ببناء سكة حديد "مينداناو" التي ستقوي من نفوذ حكومة مانيلا بكلفة 3.7 مليارات دولار، كما تعهدت الحكومة الكويتية بتمويل تعبيد الطريق السريع بين مناطق "أوسولان" - "كولمان" - "ليباك" بكلفة 1.8 مليار بيسو.. وكانت منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" قد تكفلت بتعبيد طريق "كوتباتو" - "الجنرال سانتوس" السريع في عام 1975.
خلاف حدودي
الإعلام الفليبيني- بل حتى بعض المسؤولين الفليبينيين أحيانا- يتهمون الحكومة الماليزية بدعم ما تسميهم بـ"الانفصاليين المسلمين"؛ وهو ما أنكرته ماليزيا بشدة، حتى جلوريا قالت- بعد أن شكرت د.محاذير على وساطته-: "إن ماليزيا كانت "سابقا" معبرا للسلاح بالنسبة للجبهة الإسلامية"، وقد كشفت جلوريا عن مطالبتها من "محاذير" قبل سنوات- عندما كانت نائبة لإسترادا- بأن يتوسط بين حكومتها والجبهة الإسلامية، ولذلك طرحت تساؤلات حول قبول الحكومة الفليبينية بأن تتوسط ماليزيا بينها وبين الجبهة الإسلامية.
وترتبط المسألة بشكل مباشر بالخلاف الحدودي القديم بين ماليزيا والفليبين؛ حيث تطالب الأخيرة بولاية "صباح" التي تقع في الشمال الغربي للجزء الشرقي لماليزيا القريب جدا من الجزر الجنوبية للفليبين.. فهل هناك اتفاق على أن تضغط ماليزيا على الجبهة الإسلامية لتوقّع على حكم ذاتي موسع أو محدود أو غير ذلك مقابل تراجع الفليبين عن المطالبة بولاية "صباح" وجزرها؟!
وفي المقابل بدأ مسيحيو الجنوب التلويح بسحب تأييدهم للرئيسة جلوريا بسبب ما أسموه بـ"تدويل الصراع في الجنوب"، وقد طالب مرشحو الانتخابات القادمة التشريعية في 14 مايو من المعارضة بالكشف عن تفاصيل البلاغ الرسمي الذي تم توقيعه في كوالالمبور؛ محذرين الحكومة من التنازل كليةً عن مطالبتها بولاية "صباح" الماليزية التي تحوي عشرات الألوف من سكان الجنوب الفليبيني المهاجرين إليها.
مفارقة
الموقف الرسمي للحكومة الفليبينية لم يتغير؛ ففي يوم 29/3/2001 عارضت حكومة ماليزيا تدخل مانيلا في الخلاف القانوني في محكمة العدل الدولية بين ماليزيا وإندونيسيا على مجموعة جزر صغيرة بالقرب من ولاية "صباح"، وقد تدخلت حكومة مانيلا؛ أملاً في أن يؤثر قرار المحكمة الدولية إيجابيا على مساعيها في الحصول على ولاية "صباح".(1/269)
وقد جُمّدت العلاقات بين الفليبين وماليزيا مرتين بسبب "صباح"، ولم يستطع أي رئيس فليبيني التنازل عن "صباح"، بما فيهم والد جلوريا الذي ترأس الفليبين خلال الستينيات؛ حيث ظل مجلس الشيوخ ملتزما بدعوى ملكية "صباح"، ولم تتنازل الفليبين رسميًا عن دعواها حتى اليوم.
لا تراجع
تضاربت التصريحات الرسمية للعسكريين الفليبينيين من بداية الحديث عن السلام مع الجبهة الإسلامية في الأيام القليلة الماضية، لكن الحكومة في النهاية لن تتنازل عن سيادتها وسيطرتها العسكرية على ما بيدها وما تريد التفاوض عليه مع المسلمين؛ فهي تريد تغيير أسماء مناطق المسلمين التابعة للجبهة وتسميها فقط بـ"المجتمعات المسلمة".. ومع الحديث عما أسموه بـ"التنمية المشتركة"؛ فإن جلوريا أكدت على أنه لا تراجع أبدا من المناطق التي سيطرت عليها الدولة من التيار الإسلامي وقالت: "على المسلمين ألا يجدوا بعد اليوم سببًا للمطالبة بدولة مستقلة".
وفي الوقت الذي حشد الجيش 70% من قواته البالغة 113 ألف جندي في أقاليم مينداناو؛ فإنه لن يسحب منها سوى 2000 جندي فقط خلال الفترة القادمة، وذلك لغرض تقوية مكافحة الإجرام والمخدرات في الأقاليم النصرانية الشمالية؛ وهذا ما أكده الجنرال "جوس كاليمليم" بقوله يوم 29/3/2001: "لقد فُهِمت الرئيسة خطأ.. لن يكون هناك أدنى تراجع من مناطق الجبهة التي سيطر عليها الجيش، وما تعنيه هو تطوير تلك المناطق لتكون مهيأة للسكنى من قبل النصارى والمسلمين معا"!
واعتبر وزير الدفاع "أنجيلوا رياس" ما تم في الفترة الماضية- خلال عهد إسترادا من حرب- ممهدا وعاملا مهمًّا يهيئ للتفاوض بين الحكومة والجبهة! ووصل الأمر إلى تهديد اتحاد الشباب الضباط بالانقلاب على جلوريا إن تنازلت للمسلمين عن أكثر مما يقبلونه، ولذلك شككت الجبهة الإسلامية بمصداقية تمثيل الرئيسة لرأي الجيش وسيطرتها الحقيقية عليه، مع وجود الكثير من الجنرالات الذين ترتبط مصالحهم باستمرار الحرب.
============
مسلمو الأويغور.. المنسيون في الأرض!
07/02/2002م
*فيصل قطي
ترجمة: شيرين حامد فهمي - إسلام أون لاين.نت
مسلمون أويغوريون.. الحياة مستمرة رغم الصعاب
بالرغم من كونها أحداثًا دامية، فإنها مثلت مغنمًا حقيقيًّا لكثير من الدول.. إنها أحداث 11 سبتمبر 2001م التي استغلتها أطراف متعددة من أجل تحقيق أهدافها. والحكومة الصينية -كباقي الحكومات- عرفت كيف تستغل هذه الأحداث وتوظفها لمصالحها، وتشهد على ذلك التقارير الأخيرة التي أصدرتها منظمة العفو الدولية، بالإضافة إلى "الهيومان رايتس وتش"، التي انتقدت الانتهاكات الصينية لحقوق الإنسان، وخاصة مسلمي سينكيانج.
إن اضطهاد مسلمي الصين لم ينشأ فقط بعد الأحداث، ولكن يرجع إلى أمد بعيد؛ فقد بدأت سلسلة الاضطهادات -التي لحقت بالمسلمين الأويغور في إقليم سينكيانج- منذ سنوات عديدة؛ اعتقالات، تعذيب، محاكمات غير عادلة، إعدام، تدمير للممتلكات... كلها كانت -ولا تزال- أنواعًا مختلفة من الاضطهادات، التي تم تسجيلها عبر 92 صفحة في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1998م.
وكما أوضحت منظمة العفو الدولية، فإن تقريرها -الصادر عام 1998م- لم يمثل إلا "قمة جبل"؛ فالحظر القائم على المعلومات الخاصة بإقليم سينكيانج -وما يحدث فيه- يخفي بقية الجبل.
"فبركة" صينية
أعطت أحداث 11 سبتمبر فرصة ذهبية للسلطات الصينية، لكي تبرر اعتداءاتها على الأويغور "الإرهابيين". إنه تبرير جديد لم يقدم من قبل. وكما أوضح تقرير "للهيومان رايتس وتش" (أكتوبر 2001م)، استخدمت الصين تأييدها للحرب الأمريكية ضد الإرهاب كذريعة لكسب التأييد الدولي لهجماتها الشرسة ضد الأويغور في إقليم سينكيانج، أو على الأقل التغاضي عنها.
لقد "اكتشفت" السلطات الصينية "فجأة" وجود شبكة أويغورية، على علاقة وثيقة بطالبان وخلايا إرهابية أخرى. وتعالت أصوات هذه "الفبركة" مؤخرًا على لسان المتحدث باسم وزير الخارجية الصيني بانج زهاو Bangzhao، الذي زعم أن هناك دلائل قاطعة على علاقة الأويغور بـ"عصابة" أسامة بن لادن. ولم تمر هذه "الفبركة" الصينية ببساطة، بل تصدى لها الكثير من المراقبين الدوليين -من ضمنهم جمعيات حقوق الإنسان-.
ومن جانبهم، نفى الأويغوريون ذلك الاتهام الملفَّق؛ فقامت جمعيات إسلامية، مثل "حزب الله" أو "حزب الأويغور الإسلامي"؛ لتنفي عن نفسها أية صلة بشبكة بن لادن أو غيرها. وأيدتهم "الهيومان رايتس وتش"، حيث تسجل في أحد تقاريرها أنه لا يوجد دليل واحد على أن هؤلاء "الأويغور" مرتبطون بالنموذج "المتشدد" الذي يتبعه بن لادن.
ويلاحظ أن معظم الأويغور -الذين يسعون إلى انفصال إقليمهم عن الصين- يعتبرون أنفسهم حركات وطنية أولاً؛ بمعنى آخر، يعبرون عن أنفسهم من خلال الهوية العرقية [الإثنية] وليس من خلال الهوية الدينية. أكثر من ذلك، فإن الأويغور متقاربون إثنيًّا مع المسلمين الأتراك في أفغانستان (وهم تحالف الشمال) أكثر من تقاربهم للباشتون الذين كانوا يمثلون أغلبية طالبان.
إقليم" سينكيانج".. نبذة تاريخية(1/270)
يعتبر إقليم "سينكيانج" أكبر إقليم في الصين، وتبلغ مساحته 1.6 مليون كيلومتر مربع، أي نحو 17% من مساحة الصين الحالية، واسمه الأصلي "تركستان الشرقية". وكان المسلمون الأتراك في صراع دائم مع الصينيين، الذين شنوا عدة هجمات فاشلة على الإقليم. ولكن في عام 1759م، نجحت العائلة الحاكمة الصينية (Manchu) [الماتشو] في احتلال هذا الإقليم، ثم استرده الأتراك.. وظل الإقليم مستقلاً لفترة قصيرة، إلى أن نجحت العائلة الصينية نفسها في احتلاله مجددًا بمساعدة البريطانيين في عام 1876م. ومنذ ذلك الوقت والإقليم خاضع بالكامل للصين، التي عمدت إلى تغيير اسم "تركستان الشرقية" إلى "سينكيانج"، ومعناها: "الجبهة الجديدة".
وبعد الحرب اليابانية - الصينية في منتصف القرن العشرين، نشأت جمهورية تركستان الشرقية كجمهورية إسلامية في شمال الصين، ولكنها لم تستمر طويلاً، حيث قام "ماوتسي تونج" (الزعيم الصيني المعروف) بفرض سيطرته على المنطقة كلها في عام 1949م، وإن كان قد أعطى الإقليم -بعد تغيير اسمه- صفة إقليم متمتع بالحكم الذاتي ثقافيًّا وإثنيًّا ودينيًّا ولغويًّا، إلا أنه من الناحية التطبيقية حدث العكس تمامًا، وقامت الحكومة الصينية بضرب الإقليم بيد من حديد.
وبالطبع أدى ذلك التجاهل للأويغور إلى المقاومة والمواجهة، وتأزمت الحالة، خاصة في السنوات الأخيرة عندما طالب عدد كبير من الأويغور -وبإصرار- بإقليم مستقل، متأثرين ومدعومين بالتطور الذي شهدته منطق "تركستان الغربية"، الذي تمثل في بروز جمهوريات إسلامية جديدة مثل: قيرغيستان، وكازخستان، وأوزبكستان، وطاجكستان، وتركمنستان.
وقوبل نداء الأويغور بالاستقلال والمطالبة بتطبيق "حق تقرير المصير" بعنف شديد وباضطهادات واسعة من قبل السلطة الصينية، تضمنت: اعتقالات تعسفية، إغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، والانقضاض على كل ما هو إسلامي. وقد سجّلت منظمة العفو الدولية آلاف الأويغوريين الذين تم اعتقالهم، بالإضافة إلى المئات الذين تم إعدامهم في السنوات الأخيرة. وطبقًا لبعض التقارير -التي تم نشرها في مجلة "التايمز" بلندن- تقوم السلطة الصينية بإجبار النشطاء الإسلاميين من الأويغور على احتساء الخمر قبل تنفيذ الحكم النهائي عليهم.
وبالمناسبة، فإن الأويغور لا ينالهم الاضطهاد فقط في داخل إقليم سينكيانج، وإنما يمتد الاضطهاد إلى خارج الإقليم؛ ففي "بكين" -عاصمة الصين- وقع الاضطهاد على منطقة اسمها "قرية سينكيانج"، فتم إغلاق ثلاثين مطعمًا للمسلمين، وتشريد أكثر من ألف مسلم. هذا ما يتم الإعلان عنه، ولكن ما خفي كان أعظم.
بالإضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان، قام النظام الصيني بتأسيس برنامج على درجة عالية من التمييز والعنصرية، يهدف إلى تغيير التوزيع السكاني بإقليم سينكيانج. فمنذ الخمسينيات من القرن العشرين، والسلطات الصينية تسعى سعيًا حثيثًا تجاه تغيير المزيج الإثني بإقليم سينكيانج. وبذلت كل جهدها لتطبيق نظام "طفل واحد لكل أسرة" على الأويغور، بينما لم تطبقه على باقي الإثنيات التي تعيش في الإقليم نفسه، وكانت النتيجة أن تغير التوزيع السكاني تمامًا؛ فبعد أن كان المسلمون في تركستان الشرقية يشكِّلون أكثر من 90% (78% أويغور) والصينيون (الهان) يشكلون 6% فقط سنة 1942م ارتفعت نسبة الصينيين بشكل ملحوظ، وباتوا يشكلون -حسب إحصاءات نوفمبر 2001م- حوالي 40% من سكان الإقليم.
ولم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد، بل تطور حتى صار (الهان) يسيطرون على المجالات الاقتصادية والسياسية؛ وقد تم ذلك من خلال خطط مدروسة مثل: إلغاء اللغة الأويغورية، وتوفير الخدمات المتميزة والوظائف لمجتمع الهان الذي يتزايد يومًا بعد يوم؛ وكذلك مُنع الأويغوريون من العمل في الشركات الصينية، خاصة بعد اكتشاف آبار البترول التي تتواجد بغزارة في المنطقة؛ الأمر الذي يصعد من أزمة البطالة بينهم.
وبما أن الإسلام يشكِّل مركزًا أساسيًّا في ثقافة الأويغوريين، تتجه الحكومة الصينية إلى طمس جميع الرموز الإسلامية؛ فالمدارس الإسلامية والمساجد إما مغلقة أو خاضعة لتقييدات صارمة. ومؤخرًا، تم منع التلاميذ في المدارس والجامعات من تأدية الصلاة، ومن صيام رمضان، بل وصل الأمر إلى منعهم من حمل المصاحف أو امتلاكها.
لماذا كل هذا الاضطهاد؟!
من الواضح أن هناك أسبابًا اقتصادية وعسكرية؛ فمن الناحية العسكرية، تشكل منطقة تركستان الشرقية -بحدودها المشتركة مع منغوليا، وكازخستان، وقيرغيزستان، وطاجكستان، وأفغانستان، وباكستان، وروسيا- مساحة وقائية من الأخطار الخارجية. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استمرت الأهمية الإستراتيجية للمنطقة في التنامي والازدياد؛ حيث صارت تحتوي على إحدى الفرق العسكرية الكبرى، التي تمد الدولة بأجود الأسلحة والقادة في وقت الطوارئ. ومن الجدير بالذكر أن معظم الصواريخ النووية الباليستية -التي تملكها الصين- متواجدة في إقليم سينكيانج.(1/271)
أما السبب الاقتصادي، فهو يتمثل في مخزون الثروات المعدنية التي يمتلكها هذا الإقليم، من الذهب والزنك واليورانيوم. وبعض التقديرات تذهب إلى أن احتياطي مخزون البترول يصل إلى 2.44 بليون طن في حوض التاريم. وبالرغم من أن جميع المحاولات -حتى الآن- للوصول إلى ذلك المخزون الضخم قد باءت بالفشل، فإن الإقليم يعتبر مهمًّا للغاية من حيث إنه يعتبر الواصلة التي تنقل البترول من جمهوريات آسيا الوسطى إلى مصانع الصين.
أين الدول الإسلامية؟
وبعد كل ذلك.. ألم يأنِ للعالم أن يستيقظ لوقف هذه المجزرة التي تتم باسم القضاء على الإرهابيين، والمتطرفين، والانفصاليين؟ تلك المجزرة التي يسميها النظام الصيني "قضية داخلية" تستهدف اقتلاع الإرهابيين؟
وللأسف الشديد، لم يقف العالم الإسلامي إلى جانب المسلمين الأويغور؛ وبدلاً من إظهار التضامن مع إخوانهم المسلمين، قام البعض منهم -مثل كازخستان، وقيرغيستان، وطاجكستان، وأوزبكاستان- بالتضامن مع الصين لمكافحة ما يسمونه بـ"الأصولية الإسلامية". وأكبر دليل على ذلك يتمثل في مجموعة "شنغهاي" -التي تضم الدول الإسلامية السابق ذكرها- بالإضافة إلى الصين وروسيا. وقد عقدت تلك المجموعة عدة اتفاقيات تعمل على إعادة اللاجئين الأويغور بالقوة إلى بلادهم (سينكيانج)؛ وهو ما يمثل انتهاكًا لمعاهدة الأمم المتحدة للاجئين؛ فقد قامت كازخستان برفض اللاجئين الأويغور وأعادتهم قسرًا إلى الإقليم، كما رفضت باكستان الطلبة الأويغور، وأغلقت بيوت الضيافة المخصصة لهم في إسلام آباد.
وفي غمرة عكوف العالم كله على الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، تضيع قضية المسلمين الأويغور وسط الزحام، منشغلين بالإرهاب الذي تعرفه أمريكا وفق رؤيتها، ومتناسين الإرهاب الذي يحدث في إقليم سينكيانج.
=============
الدفاع عن الأقليات بالفن التشكيلي
عبد السلام باشا - إسلام أون لاين.نت/ 6-4-2001
يعرض الفنان الأسباني "أرنستو كاتارالا" لوحات معرضه الأخير في المدينة الأسبانية الشهيرة "برشلونة"، ويستمر المعرض حتى يوم 21/4/2001، وتدور غالبية الموضوعات حول الأماكن الساخنة والملتهبة في العالم وحقوق الأقليات، مثل: جروزني، والمكسيك، والبوسنة، ونيجيريا وأسماء مدن وبلدان ارتبطت في أذهان الناس بالحروب العرقية، واضطهاد الأقليات.
والفنان الأسباني أرنستو كاتارالا (53 عامًا) زار هذه البلدان، وعاش فيها عندما كان بعضها أماكن شبه مجهولة لسكان الأرض، ففي الهند عاش 15 عامًا، وتزوج من بنجلادشية، وله منها ابنة في السادسة عشرة من عمرها.
على مدار سنوات عديدة قام أرنستو بتصوير الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة وألوانها الحية في بلدان عديدة، عرفها عن قرب، واستوعب أسلوب حياتها وإيقاعها.. ومن هذه الأماكن خرجت أغلفة بعض المجلات المتخصصة في الفن التشكيلي في أسبانيا.
وفي حقبة التسعينيات حين شهدت هذه المناطق حروبًا ضد الأقليات في هذه البلدان، أعاد تصويرها، أو تصوير ما بقي منها في لوحات يضمها معرضه الذي يستمر في مدينة برشلونة حتى الحادي والعشرين من إبريل.
كل لوحة تحمل اسم بلد أو مدينة، وتجمعها كلها عناصر مشتركة، وهي: البندقية، والدبابة، والجمجمة. هذه العناصر حاضرة في أيّ حرب، إلا أن ملامح البشر في كل لوحة تكشف عن خصوصية المكان، وقد برع أرنستو في تصوير المسلم في: الشيشان، أو البوسنة، أو نيجيريا، أو المواطن الهندي الأصلي في المكسيك: بسماته، وملامحه المميزة في كل إقليم منها.
الزي، والألوان، والملامح، تنقل زائر المعرض من برشلونة إلى بلدان أخرى، وتحيي في ذاكرته أحداثاً توقفت وسائل الإعلام عن تناولها، أو أصبحت عادية من فرط تكرارها..
وإلى جانب اللوحات المعروفة، توجد نماذج مصغرة في كتالوجات هذه النماذج هي الوجه الآخر للحياة التي عاشها كاتارالا على مدار ثلاثين عامًا في: آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
الحياة اليومية في الهند: في الأسواق، والحقول، والبيوت الريفية، بألوانها الزاهية، وعبقها الشرقي، خضرة الغابات في إفريقيا، وصفرة صحاريها، الوجوه العتيقة في أمريكا اللاتينية للهنود الأصليين.
لدى "أرنستو كاتارالا" حلم، هو أن يعود إلى هذه الأماكن، وأن يعيد رسمها، وأن يعيد تصوير الحياة التي دمرتها الحرب.. فهل يستطيع؟!!.
==============
أوضاع الأقليات الإسلامية في ندوة دولية بفرنسا
القاهرة-صلاح العربي
تنظم رابطة الجامعات الإسلامية، بالتعاون مع الفيدرالية الإسلامية بفرنسا، ندوة دولية -تُعقد في باريس- عن أحوال المسلمين في دول أوروبا، والقوانين التي تحكم أوضاعهم في دول الاتحاد الأوروبي خلال نوفمبر القادم.
وقال د.جعفر عبد السلام -أمين عام رابطة الجامعات الإسلامية-: إن الندوة ستناقش المزايا والضمانات التي يجب أن يتمتع بها المسلمون المقيمون في فرنسا وجميع الدول الأوروبية، مع التركيز على ما يمكن إضافته للقانون الذي يحكم أوضاع المسلمين؛ لكي يضفي الحماية اللازمة لهم، خاصة وأنهم يقدمون خدمات جليلة لتلك الدول.(1/272)
يشارك في الندوة عدد كبير من أساتذة الجامعات الإسلامية والرابطة وجامعة الأزهر، وبعض المسئولين عن المراكز الإسلامية الموجودة في فرنسا والدول الأوروبية.
من جهة أخرى.. اتفقت رابطة الجامعات الإسلامية مع مركز جمعية المساجد للثقافة والتراث بدبي، في دولة الإمارات العربية المتحدة، على عقد ندوة خلال شهر أكتوبر القادم في دبي، تناقش المناطق التجارية الحرة في الدول العربية والإسلامية، والجوانب الاقتصادية والقانونية والشرعية المتصلة بها، والاستشهاد بالمنطقة الحرة الموجودة في دبي بجبل علي كإحدى هذه المناطق التجارية الحرة الإسلامية، التي تحمل مميزات عديدة، ودراسة الوضع الخاص بها، ومميزاتها وإمكانية تطبيقها في مناطق أخرى بالدول الإسلامية؛ لتكون نواة للسوق العربية المشتركة
===========
زواج (فرند) على بساط المناقشة …
أثارت دعوة الشيخ عبد المجيد الزنداني العالم اليمني المعروف لما يسمي زاوج فر يند ردود فعل واسعة النطاق على كافة الأصعدة داخل العالم الإسلامي وخارجه بين الطلبة والمثقفين وعلماء الدين وعلماء النفس والاجتماع وفي وسائل الإعلام وحتى في العديد من غرف الدردشة بالإنترنت وكانت بمثابة الحجر الذي حرك الماء الراكد، وفتحت مجالا واسعا للجدل والنقاش العام والاختلاف حتى بين العلماء.
(المجلة العربية) استطلعت رأي بعض العلماء الذين اختلفوا حول الفكرة تاركة للقارئ أن يشكل رأيه حولها بذاته فمنهم من أجازها وقال بحلها لتوافر أركان وشروط صحة عقد النكاح الشرعي بها ومنهم من حرمها لدرء ما يترتب عليها من مضار ومفاسد اجتماعية ونفسية عديدة عملا بالقاعدة الشرعية التي تقول: إن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة ومنهم من تحفظ عليها وطالب بعدم التوسع في الأخذ بها وقصر تطبيقها على المجتمعات التي صدرت في حقها دون غيرهم من المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات إسلامية، ولعل في اختلاف العلماء رحمة بالمسلمين فالأخذ بحلها على مستوى الأفراد جائز لمن اضطرته لذلك ظروفه وواقعه المعيشي والتوسع فيها على مستوى المجموع مكروه تجنبا لمضارها التي بينها العلماء مما يبين عظمة الشريعة الإسلامية التي تسمح بقدر من الخلاف باختلاف الظروف المعيشة مع عدم المساس بالثوابت التشريعية.
لمسلمي الغرب وحدهم دون غيرهم من سائر المسلمين:
بداية نستعرض مقترح الشيخ الزنداني رئيس حزب التجمع اليمني للإصلاح ورئيس جامعة الإيمان باليمن حسب وصفه له حيث أكد أن مقترحه لا يعدو أن يكون رأيا يرغب في استفتاء المجلس الأوربي للإفتاء عليه كما أكد على أنه يخص برأيه مسلمي الغرب وحدهم دون غيرهم من عموم المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات مسلمة ولا يتعرضون للضغوط نفسها التي يتعرض لها أبناء الأقليات المسلمة في الدول الغربية وقال: إن ما دعاه لهذا الرأي هو وعيه بما يعانيه شباب الأقليات المسلمة وأولياء أمورهم من ضغوط نفسية وأخلاقية في مجتمعات متحررة على مستوى العلاقات الثنائية بين الجنسين وعلى صعيد العلاقات الجنسية السائدة بين أفراد المجتمع مما يقتضي إيجاد الحلول الشرعية المناسبة من خلال تيسير الزواج بين الشباب إلى أقصى حد ممكن لاتقاء شرور الفتن الأخلاقية وحفظهم من التورط في علاقات آثمة تأثرا بما هو سائد في محيطهم الاجتماعي الغربي الغالب وذلك لأنه يمكن لأي شاب وشابة أن يرتبطا بعقد زواج شرعي من دون أن يمتلكا بيتاًَ إذ يكتفى في البداية بأن يعود كل منهما لمنزل أبويه بعد اللقاء.
ويفسر الشيخ الزنداني المقصود بالزواج في فتواه بأنه هو الزواج الشرعي وفقا للقواعد الشرعية إذ يستند فضيلته في مقترحه إلى أن النفقة والسكنى وإن كانتا من واجبات الزواج إلا أنهما ليسا من أركانه وشروط صحته ولذلك فإن عدم توافرهما لا يبطله ويكون العقد صحيحا بدونهما فقد يخرج الزوج لطلب الرزق في مكان بعيد بإذن زوجته ورضاها أو للحج أو للجهاد.
فتوى غير متكاملة:
وتعليقا على فتوى الشيخ الزنداني فيما يسمي بزواج فريند يوضح فضيلة شيخ الجامع الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي أن هناك شروطا يجب توافرها في عقد الزواج ليصبح صحيحاً في الشريعة الإسلامية وهي أن يكون العقد بإيجاب من أحد الطرفين وقبول من الطرف الآخر وأن يتلاقى الإيجاب والقبول في المقصود من العقد وهو الزواج وفي مجلس واحد وبألفاظ تدل على التمليك وعلى تنجيز العقد وتأبيده، وأن تتوافر في أطراف العقد الأهلية الكاملة بشروطها وأوصافها وأن تكون المرأة المراد العقد عليها غير محرمة على من يريد الزواج منها لأي سبب وأن يتم العقد بحضور شاهدين علي الأقل تتوافر فيهما الأهلية للشهادة ويسمعان كلام العاقدين ويفهمان المقصود منه في وقت واحد ويشترط إسلام الشاهدين إذا كان الزوجان مسلمين وأن يكون ذلك برضى وحضور ولي أمر الزوجة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
التنازل لا الإجبار:(1/273)
وأوضح شيخ الأزهر أنه إذا كان عقد الزواج الذي أشارت إليه الفتوى تتوافر فيه الشروط السابقة فهو صحيح ويثبت به النسب ويعلق به كافة ما يترتب علي العقد الصحيح من آثار كالميراث والعدة للمطلقة والمتوفى عنها زوجها إلى غير ذلك من علائق شرعية حيث إنه يجوز للمرأة التنازل عن حقها في السكن أو النفقة برضاها وليس للزوج إجبارها على ذلك فإذا اشترطا ذلك وتراضيا عليه وقبله وليها فلا مانع شرعاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً) وقوله "إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج".
ولكنه مع ذلك يرى أن فتوى الشيخ الزنداني غير متكاملة وأنه يلزم استيضاح العديد من جوانبها وتبعاتها قبل إصدار الحكم الشرعي السليم بشأنها وأشار إلى أنه أحالها لمجمع البحوث الإسلامية لدراستها دراسة مستفيضة وبيان الحكم الشرعي الصحيح فيها حتى لا تثير البلبلة بين الناس وأضاف موضحا أنه لا شك في أن كل ما يؤدي إلى الحلال فهو حلال وكل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام وقد بيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات يجب البعد عنها حتى لا نقع في المحظور فهذه مبادئ عامة.
وحذر شيخ الأزهر من انتشار الزواج العرفي غير مكتمل الأركان والشروط الشرعية السابقة وكذلك زواج المتعة المحرم شرعا مشيرا إلى أن زواج المتعة كان مباحاً للضرورة القاهرة في بعض الغزوات ثم نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وأكد هذا النهي في حجة الوداع.
تسمية خادعة توحي بعدم الشرعية:
وأشار الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة
الأزهر إلى خطورة استعمال المصطلحات الغربية في هذا النوع من الزواج الشرعي لأنها تضفي عليه صيغة عدم الشرعية رغم عدم وجود مانع شرعي به وأكد أن عدم وجود منزل للزوجية لا يبطل الزواج وأجاز لقاء الزوجين بعض الوقت ثم الافتراق في المعيشة بعد ذلك.
وأوضح الشيخ علي أبو الحسن رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا أن السكن لا يعني الإقامة ولكنه بمعني السكون والراحة والمودة بمعنى أن يسكن الزوج إلي زوجته ولا يفكر في غيرها ولا يمكن الاعتداد بعدم توافر منزل الزوجية للقول بحرمة هذه الزيجة فهو ليس بشرط من شروط صحة الزواج.
وأكد الشيخ علي أبو الحسن أنه لا يوجد مانع شرعي من الزواج بموجب تلك الفتوى ما دام يتم بعقد صحيح مكتمل الأركان من إيجاب وقبول وإشهار وولي وخلو المعقود عليها من الموانع الشرعية كأن تكون محرمة علي من يريد العقد عليها تحريما دائما بالنسب أو الرضاع أو مؤقتا لزواحه بأختها أو لكونها تقضي عدة لطلاقها أو لوفاة زوجها السابق ولا مانع شرعا في أن يأوي كل من الزوجين إلي بيت أبيه والتقائهما في أي مكان تتحقق فيه الخلوة الشرعية بينهما.
ويرى في الفكرة حلا مثاليا لإخفاء الرقم الأخير من الملايين التسعة الذين بلغوا سن الثلاثين وتعدوها دون زواج في مصر وحدها وضعفهم في باقي أرجاء العالم الإسلامي بسبب البطالة وارتفاع تكاليف إعداد منزل الزوجية كما يرى في ذلك حلا لمشكلة الصداقات الناشئة عن الاختلاط بين الشباب والفتيات في أماكن الدراسة والعمل والمنتديات العامة بما ينتج عنها من انحرافات وانحلال واختلاط للأنساب المنهي عنه شرعا والزواج العرفي بصوره المبتدعة الذي انتشر في ديار الإسلام.
لا يجوز تطبيقها إلا في المجتمعات التي صدرت في حقها:
ورغم موافقة الداعية الإسلامي الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين أستاذ اللغويات بجامعة القاهرة على الفتوى بحل ( زواج فريند ) باعتبارها قد تحل مشكلة للأقليات الإسلامية في الغرب إلا أنه يتحفظ على التوسع في تطبيقها ويعدها من فقه الأقليات التي لا يجوز تطبيقها إلا في المجتمعات التي صدرت في شأنها ولا يجوز العمل بها في البلاد الإسلامية لأنها تفتح بابا كبيرا للمفاسد لعدم توافر البيتوتة وبناء أسرة مستقرة حال العمل بهذه الفتوى وأضاف أن المسلم الحق لا يحتاج لرأي أو اقتراح جديد لإشباع رغباته الجنسية فهو يعلم الطريق القويم الذي حدده الإسلام لإشباع كافة رغباته بشكل إنساني راق يحقق الخلافة الشرعية للإنسان في الكون وفق منهج الله تبارك وتعالي وسنة نبيه المصطفي صلي الله عليه وسلم.
تخرج الزواج عن مقاصده الشرعية وتحوله لشهوة يتساوى فيها الإنسان والحيوان:(1/274)
بينما وجه الدكتور نصر فريد واصل أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف انتقادا شديدا لمقترح الشيخ الزنداني وأكد أنه يخرج بالزواج عن مقاصده الشرعية لأن الزواج الشرعي شرع ليكون رباطا وثيقا بين الرجل والمرأة يقوم علي المودة والرحمة ومن مقاصد الزواج الأساسية السكن والمودة بين الزوجين وإنجاب الذرية الصالحة لحفظ النوع الإنساني وتعهدها بالرعاية فإذا لم يتحقق هذا المقصد فقد الزواج قيمته وأصبح شهوة يتساوى فيها الإنسان والحيوان، وأوضح أن الشريعة الإسلامية نظمت العلاقة بين الزوجين نظاما دقيقا فبينت ما يجب على كل منهما نحو الآخر فالمرأة متى تزوجت تصبح شريكة لزوجها في الحياة وصار لزوجها عليها حقوق يجب أن تؤديها ولا تقصر فيها وإلا كانت آثمة أمام الله؛ فالشريعة الإسلامية كاملة متكاملة في أوامرها وأحكامها ولا يصح أن يؤخذ جانبا منها ويترك الآخر وليس فيها استثناءات حيث جاءت صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ولا يجوز للمسلم أوالمسلمة التخلي عن فرائض الدين الإسلامي الحنيف حتى لو كانوا يقيمون ببلد غير إسلامي إلا في حالة الإكراه على ذلك خاصة إذا كان التمسك بها سيعرض حياتهم للخطر أو الضرر أما ترك فرائض وتعاليم الدين بالاختيار فهذا مما لا يجوز شرعا ويجب علي المسلم الالتزام بأركان الإسلام أينما كان،وشدد الدكتور نصر على أن ما يعرف بفقه الأقليات يتوقف مجاله عند حدود المعاملات كالتعامل مع المصارف وأكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها أو خلع الحجاب إذا كانت قوانين الدول المقيمين بها توجب ذلك وكل ذلك جائز بشرط أن يفعله المسلم وقلبه منكر لهذا الفعل أما مثل هذا الزواج فهو لا يحقق المقاصد الشرعية من الزواج ويؤدي إلي الإفساد وخلط الأنساب ومخالفة الشرع وارتكاب الفواحش وكثير من الجرائم والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية.
الفتوى من قبيل المباحات عند الضرورة:
ويرى الدكتور رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر وعميد كلية الشريعة والقانون السابق أنه على الرغم من أن زواج "الفريند" الذي قال به الشيخ الزنداني يكون صحيحا إذا توافرت فيه أركان وشروط صحة عقد الزواج في الإسلام إلا أنه رغم صحته فسوف يؤدي حتما إلى آثار اجتماعية سيئة يجب منعها ويكون من قبيل المباحات عند الضرورة ومن هنا يأتي منعه لا لكونه حراما بل لأنه يؤدي إلى بعض الأضرار النفسية والاجتماعية وخاصة للأطفال الذين سينشؤون عن هذا الزواج ولأسرة الفتاة حيث إن الزوجين في هذه الحالة لا يخلو حالهما من أحد أمرين فإما أن يتفقا معا على عدم الإنجاب أو يتفقا على الإنجاب فإذا ما اتفقا على عدم الإنجاب فإن هذا يؤدي إلي فوات أحد مقاصد الزواج الأساسية وهي استمرار النوع الإنساني على النحو الأكمل. وأما إذا اتفقا على الإنجاب فأين سيربى الأطفال الذين سينشؤون عن هذا الزواج ؟ هل في بيت أبيها بعيدا عن الزوج أم بيت والد الزوج بعيدا عن الزوجة أو يبقوا مشتتين بينهما أم أنهما سيرسلان أولادهما إلى إحدى مؤسسات رعاية الأطفال مجهولي النسب؟! وكل ذلك يحمل أضرارًا بصحة الطفل النفسية والعقلية والسلوكية حيث يؤدي كما يوضح علماء النفس إلى اضطراب سلوك الطفل ووجدانه ويعيق نموه العقلي والانفعالي مقارنا بقرنائه الذين يعيشون مع أبويهم حياة طبيعية تحت سقف واحد ويحدث له الكثير من الآلام النفسية ويعرضه للقلق والإحباط والفزع الدائم ولا يشعره بالأمان مما ينعكس علي سلوكه وتصرفاته.
استهتار بالميثاق الغليظ وإجحاف بحقوق المرأة التي كفلتها لها الشريعة الإسلامية الغراء:
وتوضح الدكتورة سعاد صالح أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أنه لا يوجد ما يسمي بزواج موصوف بصفة خاصة وإنما ورد لفظ الزواج في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة غير مقيد بأي صفة كقوله تعالي "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدني ألا تعولوا " وقد اهتم الإسلام بعقد الزواج أكثر من اهتمامه بأي عقد آخر لأنه أقرب إلي العبادة منه إلي العادة.
وتعترض الدكتورة سعاد صالح على هذه الفتوى رغم أنها تقرر أنه زواج شرعي وتقول: إنه ليس حراما ولكنه مكروه وترى أن ما يطالب به (ما يسمي زواج الأصدقاء) مع وقف آثار الزوجية من حيث الإنجاب والنفقة والسكنى يتعارض مع المقصد الأصلي للزواج وهو بقاء النسل والمحافظة على النفس وإعفافها ويتعارض كذلك مع التشريع الإلهي لعقد الزواج والأهداف والمقاصد المرجوة منه ويعرض هذا الميثاق الغليظ للامتهان والاستهتار كما ينطوي على إجحاف تام بحقوق المرأة التي كفلتها لها الشريعة الإسلامية ولا يحقق أدنى قوامة للرجل على أهل بيته مما يفقده الإحساس برجولته.(1/275)
وتضيف الدكتورة سعاد صالح أن هذه الأنكحة المستحدثة بكافة صورها أشبه بنكاح المتعة الذي نهى عنه المصطفي صلي الله عليه وسلم نهيا قطعيا حيث إن المقصود الأصلي منها مجرد قضاء الوطر دون الاستقرار في السكنى والمودة والرحمة بينما الأصل في عقد الزواج الاستمرارية والاستقرار.
إضفاء للشرعية علي الزنا المحرم وتغريب للإسلام وعبث بثوابته:
كما يرفض الشيخ يوسف البدري عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الفتوى بحل ما سمي بزواج الفريند بشدة ويعدها محاولة لإضفاء الشرعية علي الزنا المحرم وتغريب للإسلام تحت دعوى فقه الأقليات ويرى أن محاولات تطويع القيم والمفاهيم الإسلامية لإسباغ الشرعية على القيم والسلوكيات الغربية بغض النظر عن سلامة هذه السلوكيات وموافقتها لتعاليم الإسلام من عدمه خطر داهم على الإسلام والمسلمين فشريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان وقد جاء الإسلام ليهدي الناس لما هو أقوم وأجدى لحياتهم وأصلح وليس لموافقتهم على ما هم عليه من غي وضلال وإنما يوافق الإسلام على السلوك المستقيم الذي يوافق الفطرة التي فطر الناس عليها ويقره ويضفي الشرعية عليه ويحرم ويعدل ويبدل ما كان مخالفا للفطرة مجلبا للمفسدة والضرر.
===============
بوي فريند .. علي سنة الله ورسوله !
اقتراح الشيخ الزنداني أثار غضب المشايخ
بوي فريند .. علي سنة الله ورسوله !
تحقيق ـ محمد عبدالخالق
بعد العرفي والمسيار وكثير من أشكال الزواج السري , أطلق السابحون ضد التيار من دعاة التجديد في الدين الإسلامي صيغة جديدة للزواج , قد تشكل كما يقولون حلا لمشكلات الشباب وأزمة العنوسة في المجتمع الإسلامي .
فالزواج هذه المرة ليس سريا أو بدون عقد وشهود , لكنه كما نادي به المفكر اليمني عبدالمجيد الزنداني زواج فريند بدلا من جيرل فريند أو بوي فريند !!
العقد صحيح ومعلن عنه وبحضور الولي والشهود , لكن العريس في بيت أهله والعروس في بيت والدها , ويكفي أن يكون اللقاء لوقت محدود في أي مكان ويعود كل منهما إلي منزل أبويه بعد اللقاء الحميم . دعاة التجديد شدوا علي يد الزنداني وأيدوا فتواه , وعلماء الأزهر وصفوها بـ الخواجة زواج الذي يحاول دعاته إضفاء الشرعية علي علاقات جنسية غير مشروعة , والفتوي وما أثارته من جدل فقهي بين علماء المسلمين أصبحت حديث ملايين الشباب عبر الإنترنت , وطغت علي لغة الحوار في مجالس النساء .
فتوي الشيخ عبدالمجيد الزنداني رئيس مجلس شوري حزب الإصلاح اليمني ورئيس جامعة الأبحاث الإسلامية جاءت بخلق صلة زواجية جديدة تحت اسم زواج فريند بدلا من نظام Girlfriend المعمول به في الغرب , والذي يتيح الصداقة وتبادل الحرية الجنسية بين الشباب والفتيات من شأنها كما يقول الزنداني إذا ما تم تطبيقها بين أبناء المسلمين في الغرب , أن تؤدي إلي اتقاء شرور الفتن الأخلاقية , وأن تسهم في إيجاد حلول شرعية مناسبة لأزمة العنوسة ومشكلة البطالة وصعوبة توافر منزل مؤثث للزوج وزوجته . وتحول دون انتشار العلاقا ت الجنسية غير الشرعية التي يكون استحالة تملك العروسين لبيت يأويان إليه دافعا نحو ارتكابها وانتشارها بين الشباب والفتيات .
وإذا كانت هناك قاعدة فقهية تؤكد أنه أينما كانت المصلحة فثم شرع الله , ولأن الإسلام دين يدعو للاجتهاد وإعمال العقل , وكذلك بالنظر إلي القاعدة الفقهية الشهيرة بأن الضرورات تبيح المحظورات , وإعمالا بقول الله تبارك وتعالي : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه , فإن الشيخ عبدالمجيد الزنداني قد ساق كل تلك الأدلة ليدلل بها علي شرعية فتواه بجواز أن يرتبط الشاب والشابة بعقد زواج شرعي دون أن يمتلكا بيتا يأويان إليه , وأن يكتفيا في البداية بأن يعود كل منهما إلي منزل أبويه بعد اللقاء الجنسي , مادام هناك عقد زواج تتوافر فيه أركان وشروط عقد الزواج الصحيح الذي نص عليه الإسلام
تأييد فقهي
وعلي الرغم من الرأي الصادم والفتوي المثيرة للجدل التي أطلقها الشيخ الزنداني , فإن تلك الفتوي التي بثها موقع إسلام أون لاين علي شبكة الإنترنت وأصبحت حديث الشباب داخل وخارج دول العالم الإسلامي , فإنها ورغم خروجها علي المألوف واصطدامها بالعقلية الإسلامية الكلاسيكية السائدة في أوساط عموم المسلمين خاصة علماء الأزهر . إلا أن تلك الفتوي قد وجدت لها مؤيدين بل مطالبين بالبدء في تطبيقها ليس فقط بين أبناء المسلمين ممن يعيشون في الغرب , بل أيضا داخل دول العالم الإسلامي .(1/276)
وكان من أبرز المؤيدين لـ زواج فريند الشيخ علي أبوالحسن رئيس لجنة الفتوي في الأزهر الشريف السابق , فالشيخ الذي يبدو أنه يعشق السباحة ضد التيار , ولا يتوقف عن إلقاء الأحجار في المياه الراكدة , والذي أيضا سبق له أن أطلق فتوي أطاحت به من علي دكة الإفتاء في الأزهر الشريف , بأمر مباشر من الإمام الأكبر بعد أن أطلق فتوي أعلن فيها جواز مشاهدة الزوج وزوجته لأفلام جنسية بل وتسجيل المعاشرة الزوجية علي شرائط فيديو , كان كذلك من أول المؤيدين لفتوي الشيخ الزنداني مؤكدا أنه الحل الأمثل لاختفاء الرقم الأخير من الملايين التسعة الذين بلغوا سن الثلاثين ولم يتزوجوا بعد في مصر وحدها , فضلا عن قوائم شبيهة من الشباب والفتيات الذين فاتهم القطار في جميع الدول العربية والإسلامية بسبب البطالة وارتفاع تكاليف الزواج وفشل الشباب في توفير بيت الزوجية .
ويتساءل الشيخ أبوالحسن : مادام هناك عقد زواج صحيح وبشهود وولي , وتم الإعلان عنه , فما المانع في أن يأوي كل منهما إلي بيت أبيه ويكون اللقاء في أي مكان , أليس في ذلك حل لمشكلة الصداقات وانحراف الشباب والفتيات , واختلاط الأنساب , والزواج العرفي , وغيره مما نسمع عنه هذه الأيام؟ وإذا تنازلت الزوجة عن حق السكن فهل يعني ذلك أن الزواج باطل؟ هذا غير صحيح والفتوي صحيحة وهي كزواج المسيار , وإذا ما تنازلت الزوجة عن حقوقها في السكن والملبس والمأكل والمشرب وأقامت مع أهلها . ثم كان اللقاء بينهما بعد عقد صحيح مكتمل الشروط فلا حرمة في ذلك .
لماذا إذن تجاهل الزنداني وأبوالحسن قول الله تبارك وتعالي : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة , أليست الآية الواردة في سورة الروم وغيرها من الآيات القرآنية تجعل من السكن والمودة بين الزوجين مقصدا وقيمة أساسية للزواج .
يجيب الشيخ علي أبوالحسن : السكن لا يعني الإقامة , لكنه بمعني السكون والراحة والمودة , بمعني أن الزوج يسكن إلي زوجته ولا يفكر في غيرها , ولا يمكن الاعتداد بعدم توافر منزل الزوجية شرطا من شروط صحة الزواج , فالآية الكريمة تخضع للاجتهاد , وهذا ليس نصا صريحا ينقض أو يبطل فتوي الزنداني , والأمر هنا مثله مثل زواج المسيار الذي أباحه الشيخ القرضاوي و غيره من علماء المسلمين .
الشيخ الزاندى
جدل فقهي
وعلي الرغم من تأييد العديد من العلماء والفقهاء لفتوي الزنداني , فإن الكثير من علماء الأزهر قد عارضوا زواج الأصدقاء الذي دعا إليه , وانقسم العلماء بين مشكك في صلاحية عبدالمجيد الزنداني للفتوي , وانطباق شروط الاجتهاد والإفتاء في أمور الدين عليه أو توافرها فيه مذكرين بأنه فشل في إنهاء دراسته الجامعية بصيدلة الأزهر وآخرين ركزوا فتاواهم علي التدليل ببطلان اجتهاده والتأكيد علي أن السكني وتأثيث بيت الزوجية شرط من شروط صحة الزواج , بينما اتهمه الدكتور عبدالصبور شاهين باستلهام فكرة زواج المتعة عند الشيعة , مؤكدا أن الزنداني شيعي المذهب زيدي الهوي , ويطلق فتاواه علي مذهب الزيدية الذي يتبعه أهل اليمن .
يقول الدكتور عبدالصبور شاهين : في الحقيقة هو يوظف فكرة زواج المتعة , لكن بأسلوب مودرن ومثل هذا الزواج باطل عند أهل السنة , فكيف بالرجل أن يدعو أولادنا وبناتنا إلي الخواجة زواج بدعوي التيسير علي شباب وبنات المسلمين ووقايتهم من الانحراف .
لكن ألا تدخل تلك الفتوي في إطار القاعدة الشرعية بأن الضرورات تبيح المحظورات ؟ , يعود شاهين ليؤكد أنها ضرورة تبيح محظورا وفق المذهب الشيعي , لكنه زواج باطل عند السنة . أما أبرز المعارضين لـ الخواجة زواج كما أسماه شاهين فكان الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر السابق مدللا علي بطلان تلك الفتوي بقوله تبارك وتعالي : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة , إن في ذلك لآيات لقوم يفتكرون الآية 21 من سورة الروم .
ويقول فضيلة المفتي : شرع الله الزواج ليكون رباطا وثيقا بين الرجل والمرأة يقوم علي المودة والرحمة , ويراد به الدوام والاستقرار , ومن مقاصد الزواج الأساسية السكن والمودة بين الزوجين , فإذا لم تتحقق هذه المقاصد فقد الزواج قيمته الأساسية , وأصبح مجرد شهوة يتساوي فيها الإنسان والحيوان .(1/277)
فالشريعة الإسلامية إذن كاملة ومتكاملة في أوامرها وأحكامها , فلا يصح أن يؤخذ من هذه الأحكام الشرعية جانب ويترك الآخر , وليس فيها استثناء حيث جاءت صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان , وقد نظمت الشريعة الإسلامية العلاقة الزوجية نظاما دقيقا فبينت ما يجب علي كل منهما نحو الآخر ,, فالمرأة متي تزوجت أصبحت شريكة لزوجها في الحياة . وصار لزوجها عليها حقوق يجب أن تؤديها ولا تقصر فيها , وإلا كانت آثمة ومسئولة عنه شرعا أمام الله , وفي ذلك ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتي تؤدي حق زوجها .. وللزوجة أيضا حقوق علي زوجها نظمها الإسلام وأوضحتها الشريعة الإسلامية , وفي ذلك أيضا ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم وخيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي .
ولكن ألا يتيح فقه الأقليات الحق للشباب المسلم الذين يعيشون في الغرب الحق في مثل هذا الزواج , يجيب فضيلة المفتي السابق قائلا : لا يجوز للمسلم أو المسلمة التخلي عن فرائض ديننا الإسلامي الحنيف حتي ولو كانوا يقيمون ببلد غير إسلامي إلا في حالة الإكراه علي ذلك , خاصة إذا كان التمسك بها سيعرض حياتهم للخطر أو إلي الضرر , قال تعالي فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه , أما ترك فرائض وتعاليم الدين الإسلامي بالاختيار فهذا لا يجوز شرعا لأن أركان الإسلام يجب علي المسلم الالتزام بها أينما كان , وما يعرف بـ فقه الأقليات فهو يتوقف عند حدود المعاملات الإسلامية كالبنوك وأكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها أو خلع الحجاب إذا كانت قوانين تلك الدول تمنع ذلك , وكل ذلك جائز بشرط أن يفعل المسلم ذلك وقلبه منكر لهذا الفعل !
أما مثل هذا الزواج الذي تدعو إليه الفتوي فهو لا يحقق المقاصد الشرعية من الزواج ويؤدي إلي الإفساد وخلط الأنساب . ومخالفة الشرع وارتكاب الفواحش وكثير من الجرائم والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية .
وعلي الرغم من اعتبار الدكتور عبدالمعطي بيومي ـ عميد كلية أصول الدين وعضو اللجنة الدينية بمجلس الشعب ـ أحد أبرز دعاة التجديد في الفكر الإسلامي والجانحين نحو التيسير علي الناس بفتاوي عصرية كتأجير الأرحام وغيرها من الاجتهادات المثيرة للجدل إلا أنه كان من أبرز علماء الأزهر المعارضين لفتوي الشيخ عبدالمجيد الزنداني يقول بيومي :
عقد الزواج له أركانه وشروطه , فإذا توافرت الأركان كالإيجاب والقبول والشاهدان , والشروط كعدم وجود مانع كألا يكون أحدهما محرما علي الآخر , والمهر والإشهار , كان زواجا صحيحا سواء كانا يعيشان في بيت واحد أم بيتين , لكن القرآن نص علي أن الزواج ميثاق غليظ , قال تعالي وأخذن منكم ميثاقا غليظا , كما نص القرآن أيضا علي أن الزواج ليسكن كل منهما إلي الآخر , ولاحظ هنا كلمة لتسكنوا إليها , فمثل هذا الزواج لا يحقق السكن والمودة والرحمة ولا يحقق إلا إعطاء شرعية للاتصال الجنسي بين الشاب والفتاة , أما الرجل الذي يقصد الزواج فعلا , والبنت التي تقصد الزواج فعلا فإنهما لا يقبلان بمثل هذا العقد وإن كان صحيحا شرعا . فالزواج له معني شرعي لا يكتفي فيه بإضفاء الشرعية علي العلاقات الجنسية .
أما هؤلاء الذين يدللون علي شرعية تلك الفتوي بأنها حل لأزمة العنوسة وتأخر سن الزواج فإن الأفضل من ذلك هو البحث عن حل حقيقي للأزمة بتيسير الزواج وتخفيف شروط أهل الزوج والزوجة والبعد عن المظهرية , وأن يكون هدف الزوجين بناء أسرة فقط . حتي وإن عاشا في غرفة واحدة , وبذلك تنتفي دعوي الزنداني بالتيسير وتحقيق المصلحة وإعمال القاعدة الشرعية بأن الضرورات تبيح المحظورات , ويتوقف الفقهاء عن البحث عن حلول الأزمات ومشكلات المسلمين كمن يطفيء النار بالزيت , فمثل هذه الحلول تنتج المشكلات , وهذا الزواج سيترتب عليه إنجاب أولاد لا يعيشون في ظل بيت زوجية ولا يتمتعون بحضانة الأبوين المشتركة ولا يتلقون القيم الأساسية الأولي التي يتلقاها الطفل في حياته الأولي من أبويه , ولا يحقق سوي الالتفاف علي الشريعة الإسلامية لقضاء الحاجة والرغبة الجنسية , ومثل تلك الفتوي لا تتجاوز كونها تشريعا أقرب إلي تشريع حيوانات التجارب أكثر منه تشريعا للإنسان والحياة الإنسانية !!(1/278)
وإذا كان بيومي قد وصف زواج الأصدقاء بتشريع حيوانات التجارب , واعتبر الفتوي بمثابة التفاف حول الشريعة الإسلامية لإضفاء الشرعية علي العلاقات الجنسية فإن الشيخ يوسف البدري يؤكد معارضة فتوي الزنداني لآيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية صحيحة كقول الله تعالي غير مسافحات ولا متخذات أخدان , وكذلك قول الرسول صلي الله عليه وسلم تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة , فقد جعل الله الاستمتاع في الزواج ذا حكمة عظيمة , حيث ينسي الزوجان لحظة الاستمتاع متاعب الحمل والوضع والتربية والتنشئة , ومن خلالها يحفظ الله ما يشاء من ذرية تحفظ النسل البشري من الانقراض , كما أن الشرع الإسلامي لم يهتم بعقد من العقود مثل اهتمامه بعقد الزواج , فجعل له 5 شروط وهي الصحة والانعقاد واللزوم والنفاذ وشروط قانونية , واحتاط لكل ذلك بالرضا والقبول , والعقود بمقاصدها ومعانيها وليست بألفاظها ومبانيها . فلو كان العقد في الشكل صحيحا وكان الهدف غير صحيح , فإن ذلك من باب الحيلة التي حذر منها النبي صلي الله عليه وسلم حين قال لا تفعلوا كما فعل اليهود فتستحلوا محارم الله بأدني الحيل !!
ولكن بعض الفقهاء اعتبروا أن زواج الأصدقاء الذي يدعو إليه الزنداني يشبه زواج المسيار الذي أباحه الشيخ القرضاوي , أليس في ذلك القياس الفقهي دليلا علي مشروعيته؟
يجيب الشيخ يوسف البدري : زواج المسيار أفضل من المخادنة ففي المسيار يبقي عند الزوجة فترة بقائه في البلد , ثم ينتقل بعد ذلك إلي بلد آخر لزوجة أخري , ويكون بيت الزوجية قائما , والزوجة في انتظار مجيئه ولكنه أيضا زواج باطل لا يحقق المقاصد الكلية في الشريعة الإسلامية من إباحة الزواج والتي أساسها السكن والمودة والرحمة والتناسل وتنشئة الأبناء .
معارضة نسائية
ولأن الفتوي تمس في المقام الأول حياة النساء فإن فقيهات الأزهر كن من أبرز المعارضين لما نادي به الشيخ الزنداني , فقد أعلنت الدكتورة سعاد صالح ـ أستاذ الفقه المقارن والملقبة بـ مفتية النساء معارضتها لاقتراح الزواج الجديد وقالت :
لا يوجد في الإسلام ما يسمي بزواج موصوف بصفة خاصة , وإنما ورد لفظ الزواج في القرآن الكريم وفي السنة النبوية غير مقيد بأي صفة كقوله تعالي فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله تعالي وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من أمائكم .
وقد اهتم الإسلام بعقد الزواج أكثر من اهتمامه بأي عقد آخر لأنه أقرب إلي العبادة منه إلي العادة . وما يطالب به من زواج الأصدقاء مع وقف آثار الزواج من حيث استمتاع كل منهما بالآخر والإنجاب والنفقة والسكني , فهو يتعارض مع المقصد الأصلي للزواج وهو بقاء النسل والمحافظة علي النفس وإعفافها , ويتعارض كذلك مع التشريع الإلهي لعقد الزواج والأهداف والمقاصد المرجوة منه ويعرض هذا الميثاق الغليظ للامتهان والاستهتار
===============
من أولويات العمل الاجتماعي الإسلامي في الغرب
د. مأمون مبيض
قد يمتد مصطلح العمل الاجتماعي الإسلامي في الغرب ليشمل المسلمين الموجودين في أوروبا وأمريكا ، إلا أن البحث هنا يركز بشكل محوري على الجالية المسلمة في أوروبا .
ولا بدّ عند الحديث عن العمل الاجتماعي أن نذكر أن المجتمعات بطبيعتها ليست ساكنة جامدة ، وإنما هي في تطور وتغير مستمر ، سواء المجتمعات الأوروبية أو الجالية المسلمة . ولذلك فلا بد من إعادة النظر في هذه الأولويات بما يتوافق مع هذه المتغيرات والتبدلات .
وليس من مهمات هذا البحث استعراض نشأة وتاريخ الوجود الإسلامي في أوروبا (1) إلا أن ما يهمنا هنا النقاط الآتية :
wلم تعد الجالية المسلمة مجرد طبقة مهاجرة ، وإنما هي شريحة مستقرة هامة من شرائح
المجتمع الأوروبي .
w يقدر حجم الجالية في غرب ووسط أوروبا بعشرين مليوناً بما في ذلك البوسنة
والهرسك ، حيث عدد المسلمين في فرنسا (5,4) مليون ، وفي المملكة المتحدة (5,3)
مليون ، وفي ألمانيا (5,2) ، وأن هذا العدد في ازدياد (2) .
w تنوع هذه الجالية من حيث بلد المنشأ والثقافة واللغة ودرجة التعليم .
w انتشار التوزع الجغرافي في أرجاء أوروبا رغم وجود بعض التمركز الكميّ في بعض المدن
والمناطق .
w غلبة العنصر الشبابي في هذه الجالية مقارنة مع المجتمعات الأوروبية ككل ، ويعكس هذا أيضاً
توزع الأعمار في البلاد الإسلامية . ( وقد يتغير هذا التوزع بعد عقود من الزمن ) .
حجم المشكلات الاجتماعية :
إن للجالية المسلمة في أوروبا طبيعة مركبة متميزة ؛ تتعلق بتاريخ نشأتها وعناصر تكوينها وحجمها ، ومحدودية الرعاية التي قدمت لها خلال العقود الطويلة من تاريخ وجودها في أوروبا . وتظهر هذه الطبيعة مدى حجم تعقّد مشكلاتها الاجتماعية بمظاهرها الكثيرة . ويفيد أن نفرق هنا بين ثلاثة مستويات من المشكلات والتحديات .
1- المشكلات التي تعود لطبيعة تكوين الجالية المسلمة بحد ذاتها ،كالأمية ، وكقدرتها على التعايش مع الآخر ، وموقفها من غير المسلمين من خلال فهمها للإسلام ، ومدى التماسك والتخلخل في بنيتها الإسلامية .(1/279)
2- المشكلات التي تشترك فيها الجالية مع غيرها من الأقليات الدينية أو العرقية ، والتي قد يكون لها علاقة بالمجموعات المهاجرة من ثقافة لأخرى ، كمستوى القدرة على التكيف مع ثقافة المجتمع المحيط . وإن كان كما ذكرنا سابقاً أن الجالية المسلمة لم تعد مجرد جالية » مهاجرة « . 3- المشكلات التي تفرزها البيئة الأوروبية ، وهي هنا مشكلات لا تقتصر فقط على المسلمين أو الأقليات الأخرى ، وإنما تتسم بها الشرائح الاجتماعية المختلفة ، وحتى الأوروبية غير المسلمة ، كمشكلات البطالة عن العمل ، وصعوبة تأمين السكن المناسب ، ومستوى الدخل الاقتصادي ، ومحدودية الخدمات المقدمة .
إن هذا التركيب المعقّد في المشكلات الاجتماعية يتجلى من خلال كثرة وعمق هذه المشكلات في المجالات التعليمية والاقتصادية والقضائية ، ومن خلال ضعف الموارد المتوفرة في المجتمعات الأوروبية لمواجهة هذه المشكلات ، وكذلك من خلال قلة موارد الجهات الإسلامية لمعالجة كل هذه المشكلات والتحديات . ومن أمثلة ذلك : ضعف الموارد المتوفرة للجالية في نطاق تعليم أبناء المسلمين الإسلام واللغات الإسلامية ، والتي لا تغطي أكثر من حاجات 5% من أبناء الجالية على مستوى أوروبا (3) .
وتتعدد مجالات المشكلات الاجتماعية لتشمل ما يأتي :
w الصعوبات الأسرية والمشكلات بين الأجيال خاصة .
w قلة من يدخل في التعليم الثانوي الطويل من أبناء المسلمين ، وبنسبة لا تزيد عن 3-5% (1).
w صعوبات الزواج المختلط وما ينتج من مشكلات الأبناء من هذا الزواج .
w ضعف شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين من الجالية .
w ضعف الاحتكاك والتواصل الاجتماعي مع المجتمع المحيط ، وقلة المشاركة في
الأمور التي تهم المجتمع .
w ضعف مشاركة المرأة المسلمة عموماً في المؤسسات وحتى الإسلامية منها .
w مشكلات الجنوح وما يخالف القوانين ( نسبة السجناء من المسلمين في بعض البلاد الأوروبية ) .
w غلبة الشعور بعدم الراحة والانسجام عند الجالية من معيشتها في أوروبا
w ضياع الأجيال الشابة ، وفقدان الهوية الإسلامية .
مجالات استراتيجية عمل الشؤون الاجتماعية
ومن نافلة القول أن نؤكد على أهمية البعد الاجتماعي في استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب . ففي الجانب الاجتماعي تتدهور أوضاع الجالية المسلمة ، ومن الجانب الاجتماعي يمكن أن ننشد الإصلاح والخير لهذه الجالية.
ويفيد أن تتوجه مجالات العمل الاجتماعي إلى الجوانب الآتية ( رغم التداخل فيما بينها ) :
أولاً : الأسرة
وللأسرة الأهمية الكبرى في بناء المجتمع الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص ، حيث يحض الإسلام على تكوين دعائم الأسرة والحياة الأسرية الناجحة . ولعل هذا يستفاد أيضاً من المقاصد الخمسة للشريعة ، وبالذات مقصد حفظ النسل ، وكل ما يتعلق بهذا من تأمين البيئة والجو السليم لهذا الحفظ ، وتكوين الإنسان المسلم السليم . وتقوم الأسرة برعاية الفرد والسهر على تلبية ما يحتاج إليه من الرعاية المادية والمعنوية والخدمات المختلفة . ولا شك أن الأسرة تكوِّن الوحدة الاجتماعية الأساسية التي تشكل نسيج المجتمع وطبيعة تكوينه وفاعلياته . والأسرة منطلق التنشئة الاجتماعية وأساس النموذج الحسن في المجتمع ، ومسار الاتجاهات الفكرية والسياسية والسلوكية في السياق الاجتماعي العام .
ويتأكد دور الأسرة المسلمة هذا في حال العيش في المجتمع الأوروبي ، حيث تغيب المعاني الإسلامية من الحياة الاجتماعية ، ويصبح جو الأسرة هو التعويض الرئيسي عن غياب الإسلام من الساحة الاجتماعية . وإذا لم يعش المسلم إسلامه صغيراً كان أم كبيراً داخل أسرته ، فأين يعيشه وهو في أوروبا ؟!
وهناك في أوروبا ما يدفعنا نحن المسلمين أن نولي الأسرة مزيداً من الرعاية والاهتمام ، ألا وهو تفكك نظام الأسرة في بلاد الغرب . وهناك من يعتقد أن من الأمور الإيجابية التي يمكن للجالية المسلمة أن تقدمه لأوروبا ، حيث هي في أمسِّ الحاجة إليه ، ألا وهو النموذج الناجح للأسرة المترابطة الفاعلة (4).
ولا شك أن صحة الأسرة وسلامتها من شأنه أن يجنبنا الكثير من المشكلات التي يمكن الوقاية منها ، وخاصة في بعض المناطق الأوروبية حيث مازالت الجالية المسلمة حديثة العهد ، حيث لا يوجد بعدُ إلا الجيل الثاني وبدايات الجيل الثالث ( ومثال ذلك ايرلندا الشمالية والجنوبية ) .
ومن التغيرات المحتملة التي يقدمها الدارسون للنظرة المستقبلية للأسرة ، والتي ستغير الطبيعة الوظيفي<ة للأسرة المسلمة ، الجوانب الآتية(5) :
1- انتشار التعليم سيؤدي إلى توزيع الأدوار بين الزوجين .
2- العودة إلى نمط الأسرة الممتدة ، من خلال وجود الأسرة الكبيرة في منازل متقاربة .
3- انتشار دور الحضانة للأطفال ودور رعاية المسنين للآباء .
4- تقلص دور المرأة في الأسرة وارتباط مكانتها بإنتاجها المادي .
ومن الأهداف المقترحة للارتقاء بدور الأسرة الأمور الآتية :
w رفع مستوى وعي الأسرة المسلمة بطبيعة حياتها ووجودها في المجتمع الغربي .(1/280)
w تعريف الأسرة بحقوقها في المجتمعات الأوروبية (القانونية والصحية والاقتصادية والخدمات .. ) .
w تأمين الحد الأدنى من عوامل الاستقرار ، كالمسكن ، والوعي بآثار هذا الاستقرار على
حياة الأسرة .
w توفير مستوى لائق من الإنسجام والتلاؤم داخل الأسرة الواحدة .
w المحافظة على الهوية الإسلامية ، والانتماء الثقافي الإسلامي للأسرة .
ومن وسائل تحقيق هذه الأمور :
w اهتمام المراكز الإسلامية/ المساجد بكل ما له علاقة برعاية الأسرة المسلمة عن طريق
الخدمات والخطب والمحاضرات والنشرات .
w ضرورة استكتاب بعض العلماء المطلعين على طبيعة الحياة في الغرب للكتابة في " فقه الأقليات" (6)
كمواضيع قروض البنوك لشراء المنازل ، والتعامل مع غير المسلمين ، والزواج المختلط ... w عقد دورات وورشات عمل لمعالجة مواضيع الأسرة ، وخاصة العلاقات الزوجية ، والتعامل مع الأولاد .
w تشجيع الأسر على التعلم ودخول الجامعات ، والاستفادة مما يقام من دورات مهنية وحرفية . w الاهتمام بتعريف الأسرة المسلمة بطبيعة وثقافة المجتمع الأوروبي المحيط ( الإنكليزي ،
الفرنسي ... ) .
w تشجيع المسلمين على دخول مجال دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية والتعليمية
( على المدى البعيد ) .
w المجلة المتخصصة بقضايا الأسرة المسلمة عامة والمقيمة في الغرب خاصة .
w عقد ندوات ومؤتمرات مخصصة لقضايا الأسرة المسلمة في الغرب .
w تشجيع الأسر المسلمة على إبقاء الصلة الفعالة مع الأسرة الممتدة في البلد الإسلامي ، وخاصة زيارة بلاد المسلمين .
ثانياً : المرأة
ما تزال المرأة المسلمة لم تأخذ دورها المرجو منها ، ولا يقتصر هذا على الجالية المسلمة في أوروبا ، بل إن هذا انعكاس لطبيعة الحياة والممارسات في البلاد الإسلامية . ولهذا الضعف أسبابه المتعددة ، ومنها : الإهمال الشديد عبر العقود والقرون في الحرمان من التعليم والمشاركة الطبيعية في إدارة عجلة الحياة في المجتمع ، في جوانبه المختلفة وخاصة خارج المنزل . ولا شك أن هذا يعكس أيضاً ضعف الوعي في هذا الموضوع وعند الجنسين . ومن الضروري في المجالات الاجتماعية - وخاصة في الجاليات المتعددة المنشأ - التفريق بين ما هو إسلامي عام يتناسب مع كل المسلمين وما هو من ممارسات وأعراف وتقاليد مجتمع ما أو بيئة معينة .
ومن الوسائل المقترحة لإعطاء المرأة دورها المناسب :
w تشجيع الفتيات على التعليم الثانوي والجامعي وتسهيل سبل ذلك .
w المشاركة في الدورات التي تعقد لتعليم المهارات والخبرات والمهن (كمبيوتر ، لغات ،
علم النفس ... ) .
w دعوة المرأة المسلمة لأخذ دورها في أعمال وإدارة المراكز الإسلامية/ المساجد ،
وتشجيع المراكز لهذا الدور .
w عقد دورات مستمرة لمحو الأمية ( ليس فقط للنساء وإنما للرجال أيضاً ) .
w تشجيع العمل المهني وفق ظروف المرأة وأسرتها وطبيعتها واهتماماتها .
w تشكيل الأندية والجمعيات النسائية .
w عقد ندوات ولقاءات لرفع وعي المرأة بدورها وواجباتها وحقوقها ، وبكيفية
تحقيق إمكاناتها المتنوعة .
w تحرير المعرفة الإسلامية وتصحيح المفاهيم الخاطئة والمقيدة لنشاط المرأة ومشاركتها
( عند الجنسين ) .
w المجلة المتخصصة في ” صوت المرأة “ .
w مشاركة المرأة المسلمة في بعض الأنشطة الاجتماعية في بيئتها الأوروبية
( رعاية المسنين في الحي ، المعارض الثقافية المحلية ... ) .
ثالثاً : الأطفال والشبيبة
ولا نحتاج للإطالة في أهمية العناية بالأجيال الشابة ، والتي ستكوّن مستقبل الجالية المسلمة في أوروبا في مقبلات الأيام .
ومن الوسائل المقترحة لذلك :
w جعل الاهتمام بالأجيال الجديدة من أولويات استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي .
w عقد دورات وندوات لتوعية الأبوين بطرائق التربية والتنشئة والتأديب ، يقدمها
مختصصون (1) .
w العمل على تأسيس دور الحضانة الإسلامية ( البحث عن حقوق الجالية كالعون المالي
لهذا العمل ) .
w التشجيع على متابعة التعليم الثانوي والجامعي ، وكذلك التعليم المهني والحرفي للشبيبة .
w إقامة الأندية والجمعيات الشبابية والتي يقوم القادر من الشباب على إدارة أنشطتها
وفعالياتها .
w عقد ندوات حوار مع الشباب والناشئة للحديث في الأمور التي تهمّهم .
w أن تقوم المراكز الإسلامية/المساجد بتخصيص أماكن لنشاط الشبيبة ( رياضة ،
مخيمات .. ) .
w تخصيص بعض الأوقات والأشخاص في المراكز الإسلامية/المساجد ليراجع الشاب
للمشاورة والنصح .
w تشجيع بعض الإخوة والأخوات للتفرغ لأمور الناشئة والشبيبة ، وحضور بعض
الدورات التدريبية .
w تشجيع الأسرة على الاهتمام والتنسيق مع مدارس الأولاد وكلياتهم .
w الاستفادة من المراكز الإسلامية/المساجد لطرح بعض أمور الشبيبة والتربية
( خطب ، محاضرات .. ) .
w المجلة المتخصصة بالشبيبة .
رابعاً : العلاقات الاجتماعية بين المسلمين(1/281)
وذلك بالعمل على تقوية شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين ، متجاوزين الحواجز بين بلاد المنشأ والانتماء العرقي والقطري واللغة الأم . والدعوة إلى تطبيق مفهوم الانتماء الإسلامي ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ( [ الحجرات : 10 ] ومفهوم ” الأسرة “ الواحدة في بلاد الغرب .
ومن الوسائل المقترحة :
w عقد الأنشطة الاجتماعية المتنوعة في المراكز/ المساجد ( الأعياد ، الرحلات .. ) .
w أن تقوم المراكز/ المساجد بالاستفادة من وسائلها لرفع الوعي العام بأهمية العلاقات
الاجتماعية .
w أن تخصص المراكز/المساجد مسؤولين ومسؤولات عن الأنشطة الاجتماعية .
خامساً : العلاقة الاجتماعية مع غير المسلمين
وذلك بالسعي لإقامة الجسور الطبيعية مع الشرائح غير المسلمة في المجتمع من حولنا ، مع المحافظة طبعاً على خاصية انتمائنا الديني والأخلاقي ، فالحاجة ماسة إلى إيجاد الأرضية المشتركة التي يسمح بها الإسلام للتعايش مع الآخرين من غير المسلمين .
ومن وسائل هذا :
w أن تعقد المراكز/المساجد أنشطة ” الباب المفتوح “ وتدعو غير المسلمين للزيارة
والتعرف (2) .
w أن تقوم المراكز/المساجد ببعض الأنشطة الاجتماعية في الحي ( تنظيف ، زيارة
المسنين والعجزة ... ) .
w توعية المسلمين لما يشجع عليه الإسلام من الإحسان والإكرام لغير المسلمين ( مؤتمرات ،
خطب .. ) .
w الدعوة للكتابة والنشر من قبل العلماء لمثل هذه المواضيع التي تحتاج لتحرير في فهم
المسلم للإسلام .
w دعوة المسلم كفرد لإقامة العلاقة الطيبة والإسلامية مع الجيران ، وقضية حقوق الجار .
w المشاركة قدر الإمكان فيما يدعى إليه المسلمون من المشاركة في وسائل الإعلام المحلية .
w استفادة المراكز/المساجد من بعض المناسبات الإسلامية ودعوة غير المسلمين ( الاحتفال
بعيد الفطر ... ) .
w اعتماد المراكز/المساجد لسياسة الانفتاح على المؤسسات المختلفة داخل المجتمع ، وبناء
الجسور معها .
توصيات ختامية :
ومما يساعد على إمكانية نجاح تنفيذ هذه الاستراتيجية الأمور الآتية :
w نجاح العمل في الجوانب المختلفة الأخرى للأعمال الثقافية الإسلامية ، كالتربية
والإعلام والدعوة والاقتصاد والثقافة والإدارة ... ، فالحياة الاجتماعية ما هي إلا
نتاج الأعمال في الجوانب المتعددة الأخرى .
w ضرورة مراكز تدريبية لإعداد الكوادر والخبرات ، وأن لا تكون كل المراكز
الإسلامية ” استهلاكية “ .
w الاستفادة من عدة مستويات لتطبيق كل ما يتعلق باستراتيجية العمل الثقافي الإسلامي
في أوروبا ، وذلك من خلال الآتي :
1- العمل على مستوى الجالية المسلمة ( أفراداً وأسراً ) وذلك بعد رفع وعي
الجالية بالجوانب المختلفة .
2- العمل على مستوى المراكز الثقافية والإسلامية/ المساجد ، وذلك بعد
إمدادها بهذه الاستراتيجية .
3- العمل على مستوى المنظمات الإسلامية الجامعة ( مجلس التعاون الإسلامي في
أوروبا ، المجلس الإسلامي في بريطانيا ، المجلس الإسلامي الأعلى في ألمانيا .. )
حيث تعمل هذه المنظمات على نشر هذه الاستراتيجيات ، وتحقيق بعض
التنسيق بين المراكز وتوفير تبادل الخبرات فيما بينها .
إن كبر حجم المشكلات يجب أن لا يمنعنا من القيام بالواجب قال تعالى: ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( [ العنكبوت : 69 ] .
إن شريحة لا بأس بها من الجالية المسلمة تلتزم الإسلام ، وتسعى دوماً إلى مزيد من العلم والفهم لهذا الدين الحنيف ، مع أن الصورة النمطية للإسلام والمسلمين في الغرب - وكما يعلم الجميع - صورة سلبية منفرة قد تدفع الكثير من المسلمين إلى تجنب إظهار ما يمتُّ بصلة لهذا الدين!.
ولكن مع تغير هذه الصورة من خلال الزمن لتصبح أكثر إيجابية ، ولتصبح صورة يرفع بها المسلم رأسه فخراً واعتزازاً بانتمائه لهذا الدين ، فلا شك عندها ستحدث نقلة نوعية وكمية في التزام المسلم بإسلامه ، فلا يعود الحجاب ولا الصلاة ... إلا رمزاً للعزة والكرامة والخير للناس ، ويومئذ نخفف عن المسلم بعض المعاناة الثقافية والحضارية والاجتماعية ، التي يعاني منها وهو يحاول التوفيق بين انتمائه الإسلامي وبين العيش في مجتمع في غالبه غير إسلامي ، ويومها نرى الناس ) ... يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ( [ النصر : 2 ] .
فحري بالمسلمين الآن التزام الإيمان وعمل الصالحات ، والصبر على هذا الواقع بصعوباته وتحدياته ، ريثما يتحقق وعد ربنا ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ... ( [ النور : 55 ] .
من مصادر البحث :
(1) المسلمون في الغرب ومستقبلهم الثقافي : د. محمد الهواري . ( اجتماع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -
بروكسل 1997 ) .(1/282)
(2) J. Neilsen, Muslims in Western Europe, Edinburgh, 1991
(3) استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب : د. صلاح الدين الجعفراوي ( اجتماع بروكسل 1997 ) .
(4)Abdul Hakim Murad, The Fall of the Family, Cambridge,1998
(5) الأسرة المسلمة وعلاقاتها بالمتغيرات الحضارية : د. بشير الرشيدي . في الإسلام والمستقبل ( من مطبوعات مؤتمر القمة الإسلامي الخامس ) ، الكويت 1987 .
(6) فقه الأقليات المسلمة - الزواج الشرعي والزواج المدني : د. صلاح الدين النكدلي ، ( الرائد ، 197 ) .
==============
المواطن الأوروبي المسلم والمشاركة السياسية
كيف تتحقق المشاركة السياسية الأمثل للمسلمين في المجتمعات الأوروبية
الأستاذ نبيل شبيب
رغم كلّ ما يقال عن الإسلام والإسلاميين في أوروبا، وما يبلغ درجة نشر الخوف بين مَن لا يعلمون عن الإسلام إلا قليلا، وليس لهم احتكاك مباشر أو غير مباشر بالمسلمين إلا نادرا أو -لسوء طالعهم- مع فريق ينفّر ولا يبشّر، ويُرْهب ولا يطمئن، ويقسو ولا يرفق، فيترك لديهم انطباعا سلبيا..
ورغم ما سبّبه مجرى تطوّر أحداث العنف غير المشروع تحت عنوان إسلامي، ما كان منه في أنحاء العالم، فساهم في الخلط بما بين مقاومة مشروعة وإرهاب، علاوة على ما وصل منه إلى الأرض الأوروبية..
ورغم شيوع كلمة إسلام سياسي المبتكرة لوصف الإسلام بما يوحي بوجود أكثر من إسلام واحد، تمييعا لحقيقة توازنه وشموله لِما ينطوي تحت كلمة سياسة وسواها..
رغم ذلك كله وكثير سواه ممّا يتصل به، فهو لا ينفي تعليل كثير من الأوضاع السلبية التي يشكو منها المسلمون في أوروبا، بالعودة إلى أحد الأخطاء التاريخية التي وقع فيها العمل الإسلامي في بلدان القارّة، منذ نشأته قبل جيل كامل أو أكثر، وهو أنّ القائمين عليه، ركّزوا -مشكورين- على ميادين التربية والدعوة والفقه والأخلاق، وجميعها مطلوب وضروري، وربما شمل جانب التوعية لديهم التعريف بواقع القضايا الساخنة في البلدان الإسلامية والتفاعل معها، ولكن لم يصنعوا إلا القليل ممّا لا يكاد يستحق الذكر في اتجاه تمكين المسلمين في أوروبا من المشاركة السياسية في البلدان التي يعيشون فيها، والمجتمعات التي يتعاملون يوميا معها، فلم يتكوّن لديهم ما يكفي من الدوافع الذاتية، والوعي السياسي، والتأهيل العملي، والتواصل الاجتماعي، والقدرة التنظيمية، ناهيك عن أسباب التأثير الفكري والأدبي والثقافي والمادي، كي تكون لهم مشاركة سياسية فعّالة، في تلك المجتمعات التي اندمجوا في بنيتها السكانية في هذه الأثناء، ولم يندمجوا بما يكفي في بنيتها السياسية الهيكلية.
مشاركة بتأثير الضغوط؟
قد يكون العذر كامنا في عدم توقّع منظّمات "الوافدين" من المسلمين آنذاك أنّها ستكتشف بعد جيل واحد أنّ نسبة الوافدين باتت محدودة، وأنّ النسبة الأكبر للمسلمين في أوروبا هي نسبة ذوي الأصول الأوروبية، والمواليد في أوروبا من الجيل الثاني والثالث، إضافة إلى من أصبح مقيما إقامة دائمة ممنّ كانوا من "الوافدين سابقا"، وجميع هؤلاء يشكلون قطاعات كبيرة من السكان، لهم احتياجاتهم الدائمة، ممّا يتطابق مع احتياجات سواهم، وممّا لا يتطابق ويرتبط بكونهم مسلمين، ولا تتحقّق تلك الاحتياجات في بلدان غربية، دون اعتماد المشاركة في صناعة القرار السياسي، أو التأثير عليه، من أجل إيجادها وضمانها وحمايتها.
إنّما يصعب القبول بعذرٍ من قبيل غياب التوقّعات المستقبلية، فالأصل هو أن يستشرف المرء معالم المستقبل في الوقت المناسب ويستعدّ له، وبقدر ما يسري ذلك على الفرد في حياته المعيشية اليومية، يسري بقدر أكبر على من يحمل على عاتقه مسؤولية الرعاية والتوجيه، على مستوى عمل جماعي لفئة سكانية، أصبحت فئة كبيرة نسبيا في المجتمعات الأوروبية.
ومن المؤسف أنّ كثيرا من القضايا كانت تطرح نفسها على العمل الإسلامي بعد أن تصبح الحاجة إلى معالجتها حاجة ماسّة، بتأثير بعض الضغوط المباشرة، الناجمة عن قصور سابق، كما كان مع ميادين عديدة أخرى، مثل تعليم أطفال المسلمين، عندما تحول الوافدون أفرادا إلى أسر، أو مثل تأمين المنشآت الاجتماعية والترفيهية وغيرها بما يلبي احتياجات ناشئتهم عندما أصبحوا في سنّ المراهقة. وشبيه ذلك يسري الآن على الضغوط المتزايدة التي يتعرّض لها المسلمون في أوروبا عموما، تحت عناوين تشريعية قانونية، وخارج نطاقها، فهي ما ضاعف الإحساس بالحاجة إلى طرح السؤال عن "المشاركة السياسية" على أمل التأثير على صناعة القرار السياسي فيما يتعلّق بالمسلمين في الدرجة الأولى.
ليس هذا في الأصل منطلقا سليما لطرح القضية من حيث الأساس، فما يأتي تحت الضغوط لا يكون من مستوى ما يمكن أن يولد ولادة اعتيادية وينمو نموا طبيعيا، ولكنّه هو المنطلق الموجود بين أيدينا على أرض الواقع، فلا بدّ من وضعه في عين الاعتبار، عند محاولة الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالمشاركة السياسية.
من نحن وماذا نريد؟(1/283)
ما سبق فيه شيء من التعميم، فلا ينفي وجود تفاوت بين بلد أوروبي وبلد، وبين عمل قائم وعمل آخر، ولكنه يمثل المعالم الكبرى للصورة العامة المشهودة على أرض الواقع. والانطلاق من هذا الواقع القائم يفرض علينا طرح عدد من الجوانب المبدئية لمسألة المشاركة السياسية، قبل الانتقال إلى صلب الموضوع، والمقصود:
1- المسلمون في أوروبا في حاجة أوّلا إلى تحديد ما تعنيه كلمة "نحن" وموقعها في المجتمعات الأوروبية، عندما يطرحون قضاياهم، لا سيما من مستوى قضية المشاركة السياسية، كما أنّهم في حاجة إلى أن يكون الجواب على هذا السؤال مقنعا للنسبة الأعظم منه، وإلاّ لا يكون جوابا صالحا لبناء تصوّر صحيح أو مخطط قويم للعمل من أجل هدف كبير مشترك، وأن يكون مقنعا لغالبية السكان، وإلاّ لا يتحقق الشرط الموضوعي لممارسة سياسية طبيعية من الضروري ألا تتحوّل إلى "معركة" غير متكافئة.
2- والمسلمون في أوروبا في حاجة إلى ضبط مصطلحاتهم عموما، وهو ما يسري في الموضوع المطروح على كلمة المشاركة السياسية وما يتفرّع عنها، وبالتالي ضبط المضامين التي تشملها، والتصوّرات والمناهج التي يمكن اعتمادها تحت هذا العنوان،وأن يقوم ضبط المصطلحات على رؤية واعية منهجية بعيدة عن الأماني المطلقة وعن التخوّف في وقت واحد.
3- والمسلمون في أوروبا في حاجة تبعا لذلك إلى تثبيت الهدف البعيد الممكن والمشروع للمشاركة السياسية، وكذلك إلى تحديد الأهداف المرحلية انطلاقا من الواقع الآني بمختلف جوانبه، وعلى ضوء تقدير ما يقرّب من تحقيق الهدف البعيد ولا يتناقض معه.
4- والمسلمون في أوروبا في حاجة إلى تحديد وسائلهم بما يجمع بين مقتضيات الكلمتين معا، أي كونهم مسلمين، وكونهم في أوروبا في وقت واحد.
5- والمسلمون في أوروبا في حاجة من وراء ذلك كلّه أن يطرحوا قضية المشاركة السياسية طرحا يراعي تعدّد الأطراف ذات العلاقة بها، بدءا بهم أنفسهم، مرورا بشركائهم في المجتمع الواحد الذي ينتمون إليه، انتهاء بالبيئة العالمية من حولهم.
المواطنون المسلمون
ليس المقصود بكلمة "المسلمين في أوروبا" تحت عنوان "المشاركة السياسية" ما شاع من تصوّرات تحت عنوان "الإسلاميين"، فبغض النظر عن المعنى اللغوي للكلمة، وعن استخداماتها الأصلية، يبقى أنّ المقصود بكلمة "نحن المسلمين في أوروبا" شامل لجميع من ينتمي إلى الإسلام دينا، من ملتزمين به وغير ملتزمين، من ناشطين في منظمات إسلامية تقليدية أو غير ناشطين، من جيل المقيمين بعد أن كانوا وافدين، ومن أولادهم وأحفادهم من الأوروبيين مولدا ونشأة، إضافة إلى المسلمين المنحدرين من أصول أوروبية. وبهذا المنظور يجب أن تتوافر النظرة الشمولية في تحديد ما يتعلّق بالمشاركة السياسية، وتجنّب النظرات الإقصائية والمحدودة الضيّقة.
ونحن كما نقول المسيحيين الأوروبيين، نقول المسلمين الأوروبيين، عندما يكون موضوع تحديد الهوية متعلقة بالانتماء الديني، أما عندما يكون موضوع تحديد الهوية متعلقا بالمشاركة السياسية، فالأصح أن نقول المواطنين الأوروبيين من أتباع الدين الإسلامي مثلما نقول المواطن الأوروبي من أتباع الكاثوليكية أو البروتستانتية أو سواها.
المسلمون في أوروبا بهذا المنظور فئة من فئات المجتمع الأوروبي الذي يعيشون فيه، وعندما يتميّزون بصفة "مسلمين" فذاك من قبيل تميّز سواهم بصفة مسيحيين، أو عندما تتميّز على صعيدهم مصالح ذاتية تنبني عليها أهداف سياسية غرضها تحقيق تلك المصالح باعتبارهم مواطنين أوروبيين مسلمين، فلا ينبغي أن يكون هذا التميّز إلا مكافئا لتميز مصالح فئات أخرى صفتها الأساسية المواطنة، وهي صفة مشتركة بين جميع الفئات دون استثناء مع ما ينبني على ذلك من حقوق وحريات وواجبات وتشريعات، دون أن يتناقض ذلك مع حقيقة وجود صفات أخرى تبيح لكل فئة أن تعتبر نفسها فئة قائمة بذاتها من المجتمع المشترك، وتبيح تبعا لذلك أن تسري بصددها مصالح وحقوق وواجبات وتشريعات، لا تسري على الفئات الأخرى، ولا تنتقص من واقع الأرضية المشتركة الصادرة عن صفة المواطنة شيئا.
إنّ للعمال ما يسري على صعيد مصالحهم ويسري على صعيد واجباتهم، ما لا يسري مثله على صعيد الأطباء، أو المهندسين، أو أرباب العمل، من المنطلق الاقتصادي مثلا، وجميع هؤلاء مواطنون، وكذلك يسري على المسلمين من المصالح والواجبات ما لا يسري على صعيد المسيحيين، من المنطلق الديني، وهؤلاء وهؤلاء مواطنون.
وإن العمال يمكن أن تكون لهم روابطهم ونقاط التقائهم مع العمال خارج الحدود الأوروبية دون أن يكون ذلك على حساب انتمائهم الأوروبي أو خصوصية كونهم عمالا، وشبيه ذلك يسري على من يعملون في أنشطة المجتمع المدني أو الإغاثة الإنسانية، ويسري كذلك على الكاثوليك، والبروتستانت، ويسري على المسلمين أيضا، دون أن يكون شيء من ذلك على حساب انتمائهم الأوروبي، ولا على خصوصية كل فئة منهم على حدة.(1/284)
إنّ تحديد فئة المواطنين الأوروبيين المسلمين في هذا الإطار هو ما يحدّد الأرضية التي تقوم عليها معالم المشاركة السياسية المطلوبة هدفا ووسيلة، أو المفروضة واجبا حيويا ومصيريا.
ماهية المشاركة السياسية؟
هي مشاركة سياسية وليست "نشاطا سياسيا قائما بذاته"، فكلمة مشاركة تحدد لغويا ومضمونا كون المواطن المسلم جزءا من مجتمع تتخذ كلمة العمل السياسي فيه مكانا معينا، ويمثل قسطا منه، ما يمارسه المواطن المسلم سياسيا، ولا يمكن أن يستورد المواطن الأوروبي المسلم صيغة من صيغ العمل السياسي، من خارج الحدود الأوروبية ليتعامل بها مع المجتمع حوله، ولا ينفي ذلك أن يحمل أي مواطن، وأيّ فئة سكانية، تصوّرات يدعون إليها في الإطار القانوني المشروع، وإن كانت مستمدّة من خارج الحدود، وهذا ما يسري على كافة السكان ومنهم المسلمون.
وكلمة سياسية تنبثق من مفهوم هذه الكلمة الاصطلاحي وميادينها والمنطلقات الأساسية لها نظريا وواقعا، والمعالم الأساسية لتطبيقاتها وممارساتها، وجميع ذلك شامل لمضمون مشاركة المواطن المسلم كسواه من المواطنين.
ولا يعني ذلك الوقوف عند حدود البلد الذي يقيم فيه المواطن فلا توجد تلك المعضلة التي تطرحها بعض الأقلام بصدد تناقض مزعوم بين انتماء المواطنة الأوروبية والانتماء إلى "الأمة الإسلامية".
إنّ الصحفي الأوروبي غير المسلم الذي يكتب عن قضايا الإنسان في أي بقعة من الأرض، يركّز بطبيعة مهنته الإعلامية على الميادين التي يرتبط بها، من خلال اهتماماته الخاصة، أو حتى انتماءاته التي تتجاوز الحدود الوطنية، فقد يكون من أنصار الوحدة الأوروبية فيكتب عن ذلك وعن الأوروبيين وهو من ألمانيا في الأصل، أو قد يكون من المتعاطفين مع ضحايا المجاعات الإفريقية، فيُعرف بكتاباته عنها، وقد يكون مسيحيا ملتزما بدينه، فيكتب عن أحوال المسيحيين في الهند والصين وغيرهما وربما تخصص أكثر من ذلك فكتب عن أنشطة التبشير وما تحقّقه من "نجاح" في تنصير غير المسيحيين، من مسلمين وغير مسلمين في أنحاء العالم.
والصحفي المواطن الأوروبي المسلم يمكن أن يصنع شبيه ذلك وفق ما يتوافر له مهنيا، من معارف أو اهتمامات أو اقتناعات.
وليس للأول ولا للثاني أن يكون في عطائه ما يتناقض مع انتمائه الأوروبي مواطنا، وليس لأحد أن يشكّك في انتماء الأول أو الثاني نتيجة اهتماماته خارج نطاق المجال الجغرافي والسياسي الذي ينتمي إليه.
وإن المواطن المسلم كالمواطن غير المسلم، له من الحقوق والحريات ما يبيح له أن يؤيّد أو يعارض، ما يراه ويأخذ به صاحب القرار الأوروبي، وكما أنّ الأول قادر مثلا على أن يعارض مشاركة جنود بلده في حرب تجري في أفغانستان، ولا يتعرّض لهذا السبب إلى التشكيك أو الحظر أو الاتهامات الباطلة، فشبيه ذلك يسري على المسلم، دون أن يفقد شيئا من حقوقه، والشرط في الحالتين هو الالتزام بما تقرّره الدساتير والتشريعات القانونية، بما في ذلك الحدود المقرّرة على الجميع من حيث "تقييد" الحريات والحقوق دستوريا وقانونيا.
معضلة الانتماء
نعلم ونحن ننطلق من واقع قائم أن جميع ما سبق موضع التباسات كبرى في الوقت الحاضر، بعضها ما نشأ لأسباب موضوعية تحتاج إلى علاج، وبعضها نشأ نتيجة افتراءات أو تعميم ما لا ينبغي تعميمه أو بقصد التخويف من المسلمين وإسلامهم، وهذا ما يحتاج إلى علاج أيضا، والمشاركة السياسية وسيلة من وسائل العلاج، إنّما تعطي مفعولها، عندما يظهر أنّها لا تقتصر على جانب الممارسة التي يمليها الانتماء إلى الإسلام فقط، بل تمتد لتشمل مختلف الميادين التي يمليها انتماء المواطنة الأوروبية أيضا.
المشاركة السياسية تجمع بين الانتمائين بصورة متوازنة، بل ينبغي أن تكون النتاج الطبيعي للانتمائين معا عند التعامل مع الوجود البشري الإسلامي في أوروبا تعاملا طبيعيا متوازنا وقويما، ليس فيه تشنّج يصنعه التعصّب والتعنّت وقصر النظر لدى فريق من المسلمين، ولا تشنّج يصنعه التعصب والتعنّت وقصر النظر عند فريق من غير المسلمين ضدّهم.
المشاركة السياسية على هذا النحو غير قائمة في الوقت الحاضر إلا في حالات فردية استثنائية لا تنفي القاعدة، فهي بذلك هدف، من شأنه إذا تحقق أن يصبح وسيلة لهدف أبعد، وهذا ما يفرض تحديد معالم الإطار العام للانتقال من واقع قائم إلى واقع مستقبلي مطلوب.
أمّا الهدف الأبعد هو أن تساهم فئة المواطنين الأوروبيين المسلمين بقسطها من المسؤولية والواجب في المجتمعات الأوروبية، بما يتفق مع اقتناعاتها الذاتية، ويحقق المصلحة العليا المشروعة التي تجمع هذه الفئة مع سواها من فئات المواطنين الأوروبيين على أرضية مشتركة، ويقابل أداء المسؤولية والواجب ضمان الحريات والحقوق.
تعدّد أشكال المشاركة السياسية
المشاركة السياسية عندما تكتمل معالمها المذكورة بدرجة كافية، تصبح وسيلة أساسية -وليست الوحيدة- لتحقيق الهدف الأبعد المذكور، وسيبقى من الضروري أن تتوافر إلى جانبها وسائل أخرى، بدءا بالعطاء الأدبي والفكري والفني، انتهاء بالدور المالي والاقتصادي.(1/285)
إنّما كيف نصل إلى المشاركة السياسية القويمة؟.. عن طريق حزب سياسي خاص بالمسلمين؟.. عن طريق البدء بكتابات ومؤتمرات فكرية وإعلامية تنشر الاقتناع بهذه الوسيلة وتدفع المسلمين إلى المشاركة وسواهم إلى القبول بها؟.. عن طريق الاندماج في الوسائل العديدة المتوافرة في المجتمع الأوروبي، من أحزاب وسواها، من أجل مشاركة مختلف الفئات ومختلف الأفراد في مختلف الأنشطة السياسية؟..
قد يكون لكل صيغة من هذه الصيغ من يؤيّدها ومن يعارضها، ومن يميل إليها ومن ينفر منها، من داخل نطاق المواطنين الأوروبين المسلمين ومن خارج نطاقهم.
إنّما المهمّ هو أنّه لا يوجد بين هذه الصيغ ما هو محظور، إنّما المحظور من منطلق ما يفرضه الانتماء الإسلامي، ومن منطلق ما يفرضه انتماء المواطنة، أن يكون في الممارسة العملية لإحدى هذه الصيغ أو لها جميعا، ما يخرج على أحكام دستورية، أو يخالف تشريعات قانونية، أو ينتهك حقوق الآخرين وحرياتهم، فلا هذا ممّا يبيحه الإسلام، ولا هو ممّا يمكن أن يقبل به بلد لنفسه.
الجدير بالذكر في هذا الموضع، أنّ هذا الالتزام المفروض من منطلق الانتمائين معا، هو "التزام شمولي" إذا صحّ التعبير، فالالتزام بما ذُكر لا يعني إكراه المواطن -المسلم فيما يناقشه هذا الموضوع- على شيء يتناقض مع حقوقه وحرياته المكفولة دستوريا وقانونا. فالمجتمع من حوله، أي "المواطنون الآخرون" ملزمون مثله بعدم مخالفة الدستور والقانون وانتهاك الحريات والحقوق، وهو ما يشمل التعامل معه أيضا بطبيعة الحال.
المشاركة السياسية بمعناها الشامل المذكور تسمح بأكثر من صيغة لتحقيقها على الوجه الأمثل تدريجيا، فإن مال فريق من المسلمين إلى تشكيل حزب خاص بالمسلمين، فهذا ما يعبّر عن اقتناعاتهم هم، وقد يصلون في حدود الالتزام المشار إليه، إلى أهدافهم أو لا يصلون، ولا يمنع ذلك مواطنا مسلما، ككاتب هذه السطور، أو غير مسلم، أن يرى في مثل ذلك الحزب وسيلة غير مجدية، وقد تسبب من الأضرار أكثر ممّا تحقق من المنافع، فلا يشارك فيها ولا يؤيدها وقد ينتقدها، دون أن يتناقض ذلك مع الأرضية المشتركة التي تجمع ذلك الفريق من المواطنين "الحزبيين" المسلمين مع سواهم من المواطنين المسلمين وغير المسلمين.
الصيغة الأمثل للمشاركة السياسية
دون الاسترسال في أمثلة أخرى، يمكن الوقوف عند الرؤية التي يراها كاتب هذه السطور للصيغة الأفضل من أجل تحقيق مشاركة سياسية شمولية ناجحة.
إنّ المواطن المسلم الناخب يشارك في صياغة القرار السياسي، وعليه أن يصنع ذلك فيختار الأقرب إلى اقتناعاته، دون أن يلزمه ذلك بعدم انتقاد ما لا يتفق مع هذه الاقتناعات، عند المرشح أو عند الحزب الذي يعطيه صوته.
وإن المواطن المسلم الطبيب العضو في هيئة طبية، يشارك في صناعة القرار السياسي المتعلق بالأوضاع الصحية والتأمينات الصحية وغير ذلك من ميادين الممارسة السياسية لتلك الهيئة.
ويسري شبيه ذلك على ميادين لا تحصى من الميادين المعيشية التي تجمع بين المواطنين من مسلمين وغير مسلمين على أصعدة مختلفة، تخدم المجتمع المشترك من منطلق انتماء المواطنة ولا تتعارض -بل تتوافق إلى حد كبير- مع منطلق الانتماء الإسلامي.
وإن المواطن المسلم في هيئة أو رابطة أو مؤسسة تتخصّص في دعم بناء المساجد، أو الاهتمام بتدريس أطفال المسلمين، أو تدافع عن حقوق المرأة المسلمة، يؤدّي قسطا من واجبه مواطنا، ومن واجبه مسلما، دون أن يتعارض ذلك مع وجوده مع غيره من المواطنين غير المسلمين في الأطر السياسية الأخرى المشتركة التي سبق ذكر أمثلة عليها.
ليست المشاركة السياسية محصورة في ميدان واحد، ولا ينبغي حصرها، ولا هي مقيّدة بأن تكون الساحة المطروحة لها متطابقة كل التطابق مع الاقتناعات الفردية، فليس هذا من طبيعة عمل جماعي في أي ميدان ومن منطلق أي انتماء، بل تكون المشاركة آنذاك جامعة لعنصري تأييد ما يتفق مع ا لاقتناعات الذاتية، ومعارضة ما لا يتفق معها، والانطلاق من أنّ تحقيق القدر الأكبر من الاقتناعات الذاتية رهن بتنمية القدرات الذاتية، وليس بتخلي "الآخر" عن اقتناعاته.
والمشاركة السياسية ليست ساحة صراع، بل هي ساحة البحث عن نقاط الاتفاق أولا، والتعامل المتوازن مع نقاط الاختلاف وإن بلغ درجة "مواجهات سياسية" في إطار دستوري قانوني.
والمشاركة السياسية ليست "نزهة" ولا يمكن التخطيط لها مع توقع نجاح التخطيط دوما، أو نجاحه كاملا، إنّما لا بد لمن يمارسها من أن يضع في حسابه الكسب والخسارة، ما دامت الحصيلة الأخيرة المرجوّة، هي الاقتراب أكثر من الأهداف المرحلية والبعيدة.
جيل المستقبل السياسي
إن مشاركة المسلمين في أوروبا سياسيا في الساحة الأوروبية، قطريا وعلى مستوى الأنشطة الإقليمية والعالمية، لا تطرح نفسها من حيث جوازها أو عدم جوازها، وتوافقها أو عدم توافقها مع الاقتناعات الإسلامية الذاتية، بل هي في هذه الأثناء واجب إسلامي وواجب تفرضه المواطَنة القويمة في المجتمعات التي أصبح المسلمون جزءا منها.(1/286)
قضية المشاركة السياسية قضية إقبال منضبط عليها أو إحجام وقصور، وقضية تحدٍّ يفرضه الواقع القائم على المسلمين في أوروبا، فإمّا أن يتمكّنوا من حمل تبعاته على النحو الأمثل، أو يعجزوا عن ذلك في مرحلة من المراحل.
ومن المؤكّد أن الأقدر على النهوض بهذا التحدي الراهن والمستقبلي هم جيل الشبيبة من المسلمين، ذكورا وإناثا، فهم بحكم كونهم النسبة الأكبر من المسلمين في أوروبا، وكونهم الأكثر اندماجا في المجتمعات الأوروبية ولادة ونشأة وتعاملا يوميا، وكونهم الأقدر على استخدام وسائل العصر المساعدة على أداء المهام المطلوبة، وكونهم من يملك الطاقات المبدعة الناشطة، هم الأقدر، وهم من يُنتظر منهم أن يسلكوا هذا السبيل، إلى أن يحققوا الأهداف المرجوّة، التي تجمع ما بين انتمائهم الإسلامي، وتحقق في مجتمعاتهم الغاية الإسلامية الكبرى المتمثلة في قوله عز وجل (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
===============
كيفية نشأة الأقليات المسلمة والهجرة
بقلم: أبو جهاد
أن مصطلح الأقلية لم يكن له وجود عند المسلمين لأن الإسلام لا يعترف بالتجزئة الجغرافية بين الدول التي كانت السبب الرئيسي في ظهور الأقليات في المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات .
وإن كان المسلمون فعلاً قد شكلوا أقلية في بداية العهد الإسلامي الأول في مكة المكرمة , عندما كانوا مضطهدين من قبل كفار قريش وهذا يشبه إلى حد كبير الأقليات المسلمة اليوم . ولقد انتشرت الأمة الإسلامية في بقاع مختلفة على سطح الأرض , فضرب المسلمون في أرجاء المعمورة الفسيحة , حيث كانت الأرض مفتوحة أمامهم فمشوا في دروبها الممتدة وقطعوا وديانها وصحاريها متمسكين بقول الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15).
وحمل المسلمون معهم عقيدة التوحيد ينشرونها , ففُتحت أمامهم القلوب قبل أن تخضع الأراضي لهم أو تدخل في سلطانهم . فلقد لقيت الدعوة الإسلامية تجاوباً بين البشر فقد خاطبت كيانهم , واستحثت هممهم لينقذوا أنفسهم من الذل والفقر والتأخر الحضاري , فانطلقت الفتوحات الإسلامية إلى كل مكان شاءت إرادة اله أن تصل إليه . ولعبت التجارة دورها المعروف حيث حمل المسلمون مع تجارتهم أخلاق الإسلام الفاضلة التي تسمو بالنفوس وتهذب الأرواح , فكانت التجارة والتواصل بين المسلمين وغيرهم عاملاً مساعداً لنشر الدعوة الإسلامية . فانتشر نور الإسلام في تلك البلدان .
كما هاجر بعض المسلمين محافظة على دينهم من سطوة بعض البلدان واستقروا في بلدان أكثر أمناً لهم ... وهكذا انتشر المسلمون في شتى بقاع الأرض أقليات مسلمة منتشرة في أماكن مختلفة على سطح هذه المعمورة.
ونشأت الأقليات المسلمة في العصر والحالي بواحدة من الطرق التالية :
1- اعتناق الإسلام : فإنه من الممكن أن تشكل الأقليات المسلمة في أي بقعة من بقاع الأرض إذا اعتنق بعض أهلها الإسلام , كحال الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين أسلموا في بداية الدعوة الإسلامية وسط مجتمع مكة المشرك .
2- هجرة بعض المسلمين إلى أرض غير مسلمة , وهذه الهجرة قد تكون لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كما هو الحال اليوم في تكوين الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا وغيرها .
3-احتلال أرض المسلمين , فقد يحدث أن تحتل أرض إسلامية من قبل دولة غير إسلامية , فتحاول الدولة المحتلة بطرق مختلفة طرد سكان الأرض الأصليين , أو أن يندمج هؤلاء المسلمين مع سكان البلد المحتل , كما حدث في شرق أوروبا والهند .
4- انتشر الإسلام بالموعظة الحسنة والسلوك الملتزم بالأخلاق الرفيعة والعلاقات الطيبة بالآخرين .
5- ويمكن أحيانا أن تتكون الأقلية الإسلامية من أكثر من طريق واحد, كأن تتكون عن طريق الهجرة واعتناق الإسلام .
ولابد من الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت الأقلية الإسلامية متمسكة بالإسلام والعقيدة الإسلامية متماسكة متحدة فيما بينها فلا بد بإذن الله أن تصبح هي الأكثرية ببركة الإسلام وتعاليمه , ويصبح البلد بكامله بلداً إسلامياً , وهذا ما حدث بالفعل في إندونيسيا وماليزيا .
محور قضايا الأقليات
محور قضايا الأقليات بني عل صفات نتج عنها عدم التفاعل اجتماعي مع مجتمع الأغلبية وهذه الصفات قد تكون عرقية وهي سمات واضحة في مجتمعات جنوب أفريقيا التي يحكم فيها حوالي 4 مليون من الأوربيين البيض حوالي 23 مليون من الأفارقة وبعض المواطنين من كل شيء .(1/287)
وهذه السمات قد تكون لغوية مثل جماعات الوالون في بلجيكا , أو ثقافية مثل جماعات اللاب في اسكندنافيا وأبرز هذه السمات الملمح الديني وهو شأن الأقليات المسلمة في العالم وخاصة شرق آسيا , أذن فالأقليات المسلمة هي تلك الجماعات التي آمنت بالإسلام منهجاً لحياتها , ولما كان للإسلام منهجه الخاص لأنه ليس من صنع البشر فقد لاقى كثيراً من المقاومة من أصحاب الهوى والشهوات , فهم لذلك لا يريدون أن تقوم له قائمة لذا تحاول الأغلبيات التي بينها أقليات مسلمة أن تقتل كل آمل يراود الأقليات المسلمة في أن تنهج السلوك الإسلامي . وهنا لابد من إجابة على هذا السؤال :
_ لماذا ندرس الأقليات المسلمة ؟
والإجابة على هذا السؤال لها شقان :
الأول / لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا نحن المسلمين بتبليغ دعوته لكل الناس , فقال تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). فالأقلية المسلمة بتطبيقها للإسلام في حياتها تساعد في نشر الإسلام .
الثاني / أمر يتعلق بحياتها هي : فالمسلمون هناك محجوبة عنا أخبارهم , غامض عنا أوضاعهم يلاقون أنواعاً من العذاب , ولأن المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نيام عن مآسي إخوانهم غافلون عنهم وليس ذلك لجهلهم وسوء وضعهم فقط بل لأن الذين يعرفون أحوالهم ويدركون مصاءبهم يمدون يد المساعدة لأعدائهم ولأنهم في مسيرتهم أي الأقليات المسلمة يلاقون كثيراً من التحديات والصعاب .
الهجرة والاستيطان
يوم أن كانت الحضارة الإسلامية في أوج عطائها كان أبناؤها يمارسون دور الشهادة ( ليكونوا على الناس شهداء) فينطلقون إلى أرجاء المعمورة جيوشاً وتجاراً , بخلفية صاحب الحق الملتزم به الراغب بإظلال الناس فيه ( لنخرج الناس من ضيق الأرض إلى سعتها ومن ظلم الدنيا إلى عدل الإسلام ) ( ربعي بن عامر) .
وهكذا انتشر الإسلام في أقطاب الأرض بعد معارك الجهاد الضارية وبفعل أخلاق الجنود والتزامهم بالإسلام وممارسة التجار المسلمين لمجموعة الفضائل والأفكار الإسلامية ممارسة صحيحة . فإذا بالأقليات الإسلامية تتحول إلى أكثريات . وإذا بأبناء الأمصار يتحولون عن قناعة ورضى إلى الفكر الجديد وإذا بهم ينضمون إلى دار الإسلام فيعطيهم الإسلام أمجاداً ويعطون هم حضارة الإسلام مزيداً من العطاء عبر العلماء والتحرك الجاد .
ولدينا في التاريخ أكثر من مثل ودليل:
وصلت جيوش المسلمين في عهد عمر بن الخطاب ( رضي الله عن) إلى بلاد القفقاس وبلاد الداغستان . وفي عهد عمر بن عبد العزيز اجتاحت جيوش المسلمين أراضي ما وراء النهر ( جيحون ) في بلاد أوزبكستان اليوم وأراضي التركستان .ز غير أن الإسلام لم يتأصل في تلك الأمصار النائية عن قلب العالم الإسلامي إلا بعد حادثة فريدة لم تكن لتقع لولا الحرية التي وفرها الإسلام للناس سواء مسلمين أم غير مسلمين ولولا عدل الإسلام الرائد.
فقد خرج أهل سمرقند من أراضي التركستان ووفدوا على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فرفعوا إليه مظلمتهم بأن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر . فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا فإن قضى بإخراج المسلمين أُخرجوا فنصب لهم جُميع بن عامر فحكم بإخراج المسلمين فهش أهل سمرقند للإسلام وبشوا ودخلوا في دين الله أفواجاً . وكتب عمر إلى سائر ملوك النهر يدعوهم إلى الإسلام , فأسلم بعضهم وانتشر الإسلام في هاتيك الأمصار وتأصلت جذوره وكان من أبنائهم دعاة ومجاهدون وعلماء ومحدثون أمثال الإمام البخاري ..... صاحب أصح كتب الحديث النبوي الشريف .
وبفعل الهجرة القسرية التي فرضت على نفر من بني أمية ومنهم ( عبد الرحمن الداخل ) على أثر الانقلاب السياسي عل سلطة بني أمية وهروبهم إلى المغرب والأندلس قامت الإمارة الأموية الثانية ونتج عنها ما نتج من حضارة وفتوحات إسلامية خالدة . وبينما كانت بلاد الشام ومصر تتعرض للحملات الصليبية كان ركاب سفينة عربية قدمت من جدة ورست في ملقا عند البوابة الجنوبية لشبه جزيرة الملايو . يقومون بدعوة الملك إلى الإسلام فيكتب الله له ولشعبه الهداية , فكانت ملقا أول مملكة إسلامية في تلك البلاد ثم أخذت على عاتقها مع التجار المسلمين الوافدين نشر الإسلام في تلك الأمصار والأصقاع في الملايو وسومطرة فسائر جزر إندونيسيا . وهكذا انتشر الإسلام بالموعظة الحسنة والسلوك الملتزم بالأخلاق الرفيعة والعلاقات الطيبة بالآخرين .
المسلمون والهجرة في القرن العشرين(1/288)
لا ريب أن الإسلام قد حض على اتصال الشعوب بعضها ببعض رافضاً نظرية الانعزال مرغباً بالسياحة في الأرض , وجاءت آيات القرآن تعالج هذا الأمر بكثير من الوضوح والجدية فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) . قاعدة ثابتة في علاقات الأمم والأفراد كما أن قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا ً) (النساء:97) . إذن واضح في الهجرة واستيطان أماكن أخرى نتيجة السياحة والاتصال والوقوف على تواريخ الأمم والشعوب وحضارتهم ونتيجة الاعتبار والاتعاظ والإفادة مما هو أحسن ( فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ) .
ونظرية الهجرة أو السياحة في الأرض أو التعارف بين الشعوب , فضلاً عن كونها جزءاً من القواعد الكونية المتفقة مع طبيعة الإنسان وفطرته كما خلقها الله وكما أرادها لعباده , فهي أيضاً تخدم استراتيجية إسلامية في نشر الفكر الإسلامي والدعوة إلى الله وتعريف الناس بالإسلام وتشجيعهم على الدخول في دين الله أفواجاً وأفراداً , كما تخدم استراتيجية إسلامية أخرى هي التفاعل مع معارف البشرية ونقل أفضلها إلى العالم الإسلامي وإغناء حضارته بها وإسعاد الناس الآخرين بما عند المسلمين . وبذلك تكون الأمة الإسلامية وسطاً بين الأمم شاهدة على العالم , وأبناؤها شهود على الناس , بيدها الريادة ومنها تشع حضارة على العالمين في عطاء لا ينقطع وبركات من الله سبحانه وتعالى.
ونظرية الهجرة هذه تعدل نظرية القتال وتحرير الناس بقوة السلاح من العبودية لغير الله ومن ظلم بعض الناس لبعضهم ومن تحريف الأديان والأفكار والمبادئ , بل أن تلك النظرية مقدمة على أسلوب الجهاد , فتسبقه الكلمة المخاطبة والمراسلة وابتعاث الوفود. وقد رأينا كيف أن عمر بن عبد العزيز قد حكم على جيشه أن يخرج من سمرقند لدخوله إليها دون مقدمات فليسس غاية الجهاد إخضاع الناس والأوطان إلى سيادة الجيش الإسلامي بل إدخال العباد والبلاد في حكم الإسلام ومبادئه وإقناعهم بأفضليته . غير أن فقهاء المسلمين بعد أن استقرت الدولة الإسلامية وأخذت أبعادها وامتدادها في العالم , راحوا يضعون القواعد التي تحكم علاقات الدولة بالآخرين وعلاقات أبنائها بهم والتجاوزات والأخطاء التي يمكن أن تصدر عنهم فوضعوا بذلك الأساس الأول في القانون الدولي وقسموا العالم إلى قسمين أو دارين أو حضارتين أو معسكرين : دار الإسلام ودار الحرب وأعطوا لكل منها أحكاماً .
أن عوامل داخلية مختلفة أدت إلى ضرورة الدعوة إلى الله باتجاه العالم غير الإسلامي . فقد تخلت الدولة أو الدول الإسلامية عن الاضطلاع المباشر بهذه المهمة الخطيرة الأساسية فيما استمرت المهمة بجهود فردية من تجار أو مهاجرين أو علماء ومع أن هذه الجهود فردية فقد أثرت ودخل ملايين الناس في دين الله أفواجاً كما خضعت بلدان كثيرة إلى منطوق دار الإسلام , وإن بقيت خارجه أو بعيدة عن حكم الخليفة أو السلطان لأسباب عديدة ومختلفة , يواجه كل منها مصيره بمفرده ولا يتمكن أي منها من دعم الآخر أو التعاون معه أو الدفاع عنه , مما أدى في بعض المناطق إلى انقلاب الأمر وتحول أكثريات مسلمة إلى أقليات أو جاليات .
أسباب الهجرة في القرن العشرين
ومع رسوخ النظرية الإسلامية في الهجرة , في خلفيات المسلمين فإن أسباباً عديدة أخرى أدت وتؤدي إلى استمرار الهجرة وتشكل جاليات إسلامية في بلدان غير إسلامية , مما يؤدي عبر الزمن إلى نشوء وجود إسلامي تحكمه اعتبارات الأقلية وتكتنفه تناقضات عديدة ويعاني في بعض البلدان من صراع البقاء وخاطر التفكك والانهيار .
ومن هذه الأسباب :
1-…ضعف السلطنة العثمانية والدول الإسلامية الأخرى وضمور الدور الحضاري الرائد للمسلمين مما أدى إلى تفشي الجهل والضعف العام في الإنتاج القومي الزراعي والصناعي والتجاري وأظهر هذا التخلف عجزاً فاضحاً في الموازين التجارية فارتبكت الحياة العامة واندفع عدد من الناس إلى الهجرة إلى بعض الدول الأوربية أو الأمريكية أو الإفريقية أو إلى نزوح متبادل ضمن الدول الإسلامية الأخرى
2-…انهيار السلطنة العثمانية وتمزق العالم الإسلامي خاصة بعد الحرب العالمية الأولى حيث زادت فرص الهجرة وبالتالي الاستيطان ونشوء الجاليات .
3-…اشتداد الهجوم على الشرق المسلم عبر محاور فكرية وخدمات وتبشير وتشكيك . غير إن وجود إرساليات وجامعات أجنبية أدى إلى استنهاض الهمم والرغبة في المقاومة والمجابهة وإبراز نهضة إسلامية ويقظة شاملة مما دفع عدداً من أبناء المسلمين إلى طلب العلم والمعرفة من بلدان العالم الأكثر تفوقاً .(1/289)
4-…الأحداث العسكرية المختلفة في العالم الإسلامي سواء بالاحتلال العسكري الأوربي الغربي لأكثر أجزاء العالم الإسلامي أو باحتلال فلسطين من فبل الصهيونية العالمية وما يترتب على ذلك من هجرة العديد من أبناء البلاد وتنقلهم بين قارات الدنيا أو الحروب الأهلية المستمرة في لبنان وصراع الحدود بين الدول العربية المختلفة .
5-…التحكم والاستبداد في أنظمة العديد من دول العالم الإسلامي حيث يفُرض على المعارضين والمخالفين السجن أو يلجأون إلى الفرار إن تمكنوا من ذلك ( فيفرضون على أنفسهم أو تفُرض عليهم الهجرة بالفرار ).
6- الرغبة بتحسين الوضع المعيشي والاقتصادي عبر الهجرة إلى بلدان أكثر استقراراً وازدهاراً مع ما يستتبع ذلك من وجود ضمانات الحياة المختلفة الصحية والاجتماعية والتعليمية فكثيراً من العائلات تطلب الاستيطان في بعض دول العالم لتأمين نفسها من المخاطر اليومية والمستقبلية وضمان تعليم أبنائها في الجامعات وهي حاجة لا تزال بوجه عام دون المطلوب أو المعقول ف يبعض بلدان العالم الإسلامي
ونتيجة لبعض أسباب الهجرة العامة فقد نشأت عدة ظواهر تتحكم بنتائج الهجرة .
1- ظاهرة الهجرة الاختيارية :
وهي التي يتمكن المرء معها من اختيار البلد الذي يهاجر إلية بهدف العمل أو الإقامة ، أو بناء على ظروف محض شخصية وأن كان بعضها وثيقاً بأحداث سياسية في بلده وقد تتحول هذه الهجرة إلى استيطان دائم وقد تنقطع بعودة المهاجر إلى موطنه الأصلي .
2- ظاهرة الهجرة الإجبارية: وهي تلك التي تنشأ عن أعمال عسكرية وسياسية وعدوانية وهذه تعرف اليوم باسم اللجوء السياسي .
فأما الأولى / الهجرة الاختيارية : فهي في كثير من الأحوال تكون طارئة في حياة المهاجر مع رغبة أكيدة في العودة إلى الوطن , غير أن تمادي أحد أسباب الهجرة , وبالنسبة إلى وضعه الخاص يُحول الهجرة مع الزمن إلى استيطان دائم , خاصة إذا نشأت ظروف محلية جديدة في بلد الهجرة كالنجاح في العمل التجاري أو طمأنينته إلى غده وتخوفه من التحول في بلده الأصلي إلى مكافح من جديد في طلب العيش أو إلى ارتباطه في المهجر بنشأة أبنائه وتقلبهم في مراحل الدراسة مما يلزمه في كثير من الأحوال إلى تمديد حال الهجرة إلى حين تخرجهم ثم تنشأ روابط الزواج من أهل تلك البلاد فتغدو العودة أكثر صعوبة فيتحول المهاجر إلى مستوطن خاصة إذا ما اكتسب جنسية الدولة المقيم فيها وأصبح حائزاً على حقوق المواطن الأصلي . وعلاوة على ذلك فأن المهاجر المسلم يشعر أن تبعات كثيرة تغدو ملقاة عليه , منها العمل على المحافظة على وجوده الإسلامي ووجود أبنائه , فيعمل جاهداً لبناء المؤسسات الإسلامية كالمساجد والمدارس والمعاهد والمراكز وتصبح هذه بذاتها أسباباً إضافية للاستيطان ليحافظ عليها من جهة ولأنها هي نفسها تضمن- في - نظرة- حدوداً مقبولة في وجود إسلامي معقول .
وأما الثانية / الهجرة القسرية : وهي التي تسمى اليوم باللاجئين , فهي من أقسى ما مر ويمر على بعض البلدان الإسلامية , بل أن اللاجئين المسلمين الفارين من اضطهاد أو عدوان أو ظلم جماعي يفوق 87% من مجموع اللاجئين في العالم 1983, وهي نسبة كبيرة جداً تكشف مدى المخاطر التي تحيط بالمسلمين والمؤامرات الضخمة التي لا تزال تستهدفهم كأمة وشعوب .
__________________
المراجع:
1-…توبولياك :سليمان محمد - الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي - الطبعة الأولى- 1418 هـ
2-…ضناوي: محمد علي - الأقليات الإسلامية في العالم - الطبعة الأولى - 1413هـ.
3-…الداود : عبد المحسن بن سعد - المملكة العربية السعودية وهموم الأقليات المسلمة في العالم رصد تاريخي وتوثيقي لأوضاع الأقليات المسلمة وجهود المملكة في خدمتها
4-…أ.د. العراقي: السر سيد أحمد و أ.د. جريس : غيثان بن علي - تاريخ الأقليات الإسلامية في العالم - الجزء الأول( أفريقيا ) الطبعة الثانية- 1424هـ.
==================
مفاهيم ينبغي أن تصحح في سياق العلاقة مع الآخر
أولاً: إن الكثير من المصطلحات التي تتعلق بالعلاقات الدولية جانبت الوسطية في الفهم وجنحت إلى الإفراط أو التفريط في ذلك:
1 ـ الجهاد: فالجهاد عند كثير من الناس يرادف القتال وهو ليس كذلك•• بل يختلفان لغة وشرعاً: فالجهاد مشتق من بذل الجُهد وهو الوسع أو تحمل الجَهد وهو المشقة، بينما القتال مشتق من القتل•
كل مسلم يجب أن يكون مجاهداً وليس بالضرورة مقاتلاً، إذ إن مجاهدة النفس والشيطان ومجاهدة المنكرات ومجاهدة المشركين بالقلم واللسان والمال والسنان وجهاد البناء والتنمية لا يتصور ألا يكون للمسلم فيها نصيب، بخلاف القتال الذي لا يتأتى إلا عندما تتهيأ أسبابه• الأسباب التي تدعو المسلمين للقتال تنحصر فيما يلي:(1/290)
1 ـ قتال من يقاتل المسلمين: لقوله تعالى في الآية 190 من سورة البقرة: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وقوله تعالى في الآية 91 من سورة النساء: (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً)
2 ـ القتال لمنع الفتنة في الدين: لقوله تعالى في الآية 93 من سورة الأنفال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، والفتنة هي مصادرة حرية الناس واضطهادهم لإجل عقيدتهم، وإرغامهم على تغيير دينهم، كما حدث لأصحاب الأخدود• والقرآن يعتبر هذه الفتنة أكبر من القتل، وأشد من القتل• فالإسلام يشرِّع القتال ليهيئ مناخ الحرية للناس ليؤمن من آمن عن حرية واختيار ويكفر من كفر عن حرية واختيار•
ولعل من الأسباب التي أدت إلى اللبس في مفهوم القتال ما يروَّج له بعضهم أن آية السيف نسخت كل الآيات السابقة، وجعلت السيف هو الفيصل بين المسلمين ووغيرهم، ويجاب على هذا بـ:
إن آية السيف لم يتفق عليها، فمن الناس من قال هي آية (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة:63، وهذه ليس فيها نسخ بل فيها دعوة للمعاملة بالمثل•
وقال آخرون هي آية: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم) التوبة:5، وهذه الآية نزلت في مشركي العرب الذين نكثوا العهود ولا دليل فيها على قتال من وفَّى بعهده، فقبل هذه الآية جاء قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) التوبة:4، وبعدها جاء قوله: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) التوبة:6، وقوله: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة:7• ومنهم من قال آية السيف: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة:92، فهؤلاء وقفوا ضد الدعوة وصدوا الدعاة وتآمروا على المسلمين فحق قتالهم، وليس فيها دليل على قتال من لم يقاتل المسلمين أو يصد عن سبيل الله من الكفار•
كذلك أشكل على بعضهم >حديث بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده<، والحديث ـ كما يرى العلماء ـ لا يصح سنداً ومتناً، بل يخالف صريح القرآن الذي لم يذكر في آية واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالسيف، بل أكد في آيات كثيرة أنه بعث بالهدى ودين الحق وبالبينات والشفاعة والرحمة للعالمين وللمؤمنين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل:89، (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة:28، ونحو ذلك كثير في القرآن• فالإسلام كما تقدم لا يشهر السيف إلا في وجه من صد عن سبيله وقاومه بالقوة، كما قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة:190، ولو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف لما مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة يلقى هو وأصحابه أصناف الأذى ويستأذنه بعض أصحابه في أن يدفعوا عن أنفسهم بالسلاح فلا يأذن لهم•
2 ـ الحرب: إن مفهوم الحرب في زماننا هذا أخذ أبعاداً أكبر من نشوب قتال بين دولة وأخرى، أو بين مجموعة وأخرى، فظهرت له مدلولات أخرى تمتد لتشمل الحرب الاقتصادية: التي من أسلحتها المقاطعة الاقتصادية وتجميد الأرصدة ونحوه•
الحرب الإعلامية: التي من أسلحتها الإنترنت والفضائيات والصحافة ونحوه•
3 ـ الظهور والفتح: إن الظهور والفتح لا يعنيان خوض المعارك وإعمال السيف في العدو فقط، كما قد يتبادر للأذهان، بل يمكن للمسلمين أن يفتحوا آفاقاً وأقطاراً، فتحاً سلمياً، لا تراق فيه قطرة دم، فلا يشهرون سيفاً، ولا يطلقون طلقة مدفع، ولا يعلنون حرباً• إنه (الفتح السلمي) الذي أصّله الِإسلام، في (صلح الحديبية) المعروف، الذي عقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، لإقامة هدنة بين الطرفين، يكف كل منهما يده عن الآخر، فسمّى القرآن ذلك (فتحاً مبيناً) ونزلت في شأنه (سورة الفتح)•• وسأل بعض الصحابة الرسول الكريم: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: >إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح< (رواه أحمد) إنه الفتح الحضاري الذي يدخل به الناس في دين الله أفواجاً•
4 ـ الموالاة والمحادة: إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهى عن موالاة غير المسلمين، وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله، غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلى عداوة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفية مثل:(1/291)
ـ النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن، أو جيران دار، أو زملاء حياة، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحاد الله ورسوله، لذلك تكررت في القرآن عبارة (من دون المؤمنين) للدلالة على أن المنهي عنه هو الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته•
ـ المودة المنهي عنها هي مودة المحادين لله ورسوله الذين (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم)الممتحنة: 1، لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين•
ـ غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين•• فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب•
ـ الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجعلها أعلى من كل رابطة سواها، ولكن ذلك لا يعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة•
5 ـ أهل الذمة: الذمة في اللغة تعني العهد والأمان والضمان، وفي الشرع تعني عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها شرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية، وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم، بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديناً وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييره لأن الله لم يتعبدنا به، وقد غيَّر سيدنا >عمر< رضي الله عنه لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر وقال: هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم•
ومما يجب إدراكه عن الذمة ما يلي:
ـ فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية المبدأ، وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاً بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعيته، وأضاف إليه تحصيناً جديداً بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها• وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين•
ـ الدولة الإسلامية القائمة اليوم تمثل نوعاً جديداً من أنواع السيادة الإسلامية لم يعرض لأحكامها الفقهاء السابقون لأنها لم توجد في زمانهم، وهي السيادة المبنية على أغلبية مسلمة لا على فتح هذه الدول بعد حرب المسلمين لأهلها• وهذه الأغلبية يشاركها في إنشاء الدولة وإيجادها أقلية أو أقليات غير مسلمة، الأمر الذي يتطلب اجتهاداً يناسبها في تطبيق الأصول الإسلامية عليها وإجراء الأحكام الشرعية فيها، ولا بأس أن يكون عقد المواطنة بديلاً عن هذا المصطلح•
6 ـ الجزية: وهي ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال يُفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم، والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء في تعليلها وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها، فعل ذلك >سراقة بن عمرو< مع أهل >أرمينية< سنة 22 هـ، و>حبيب بن مسلمة الفهري< مع أهل >انطاكية<، ووقع مثل ذلك مع >الجراجمة< ـ وهم أهل مدينة تركية ـ في عهد >عمر< رضي الله عنه، وأبرم الصلح مندوب >أبي عبيدة بن الجراح< رضي الله عنه، وأقره >أبوعبيدة<، فيمن معه من الصحابة، وصالح المسلمون أهل >النوبة< على عهد الصحابي >عبد الله بن أبي السرح< على غير جزية، بل على هدايا تتبادل في كل عام، وصالحوا أهل قبرص في زمن >معاوية< على خراج وحياد بين المسلمين والروم•
فغير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية، ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية• والصغار الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة•
ثانياً: أهداف العلاقات الدولية في الإسلام
إن صياغة أهداف العلاقات الدولية يجب أن تتم في ضوء المنهج الإسلامي للعلاقات الخارجية الذي حددته الأحكام الشرعية فلا ينبغي أن تضع الدول أهدافها للعلاقات الخارجية في غيبة من الإسلام، ويمكن تفصيل أهداف العلاقات العامة في الإسلام على ما يلي:
أ ـ أهداف عامة مشتركة•
حماية الدولة: وهو ما يعرف في واقعنا المعاصر بالأمن القومي، ويتطلب سيادة الدولة على أراضيها وحفظها لحدودها الجغرافية وبعدها عن تدخل الدول الأخرى عسكرياً أو سياسياً• رعاية المصالح المتبادلة: إذ تسعى كل دولة إلى توافر موارد ذاتية تغنيها عن الحاجة إلى عون خارجي لكن هذا في واقع الحال صعب المنال لذلك تلجأ الدول إلى أن تكمل نقصها عبر علاقاتها الخارجية وتبادل المنافع مع الدول الأخرى•(1/292)
الأمن المشترك: فالأمن هو أحد الضرورات التي يحتاجها كل نظام سياسي يسعى إلى الاستقرار، وإذا كان الأمن الداخلي مسألة خاصة بكل دولة فهناك أمن خارجي مشترك بين دول العالم تحكمه اتفاقات تضمن عدم اعتداء دولة على أخرى، وقد تتحالف دول معينة وتتفق على التصدي لأي عدوان يهدد دولة في الحلف•
السلام العالمي: إن الخلافات بين الدول تهدد أمن العالم لذلك اقتضت المصلحة أن يقوم نظام عالمي لرعاية السلام العالمي ومنع حدوث خلافات بين الدول وتوافر آلية لحل الخلافات بين الدول حفظاً للأمن والسلام العالميين• بيد أن الواقع يشهد انحراف هذا النظام العالمي عن غاياته على ميزان القسط والحق•
ب ـ أهداف خاصة•
نشر الدعوة الإسلامية: فالدولة الإسلامية هي دولة دعوة، تحمل رسالة الإسلام وتبشر بها وتدعو إليها، وتحمل لواء خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والبلاغ•
حماية الأقليات المسلمة: يطلق على المجموعات التي تعيش في دولة أخرى غير التي تقيم بها اسم >الأقليات< والقانون الدولي يعرف الأقليات القومية، ولا ينظر للأقليات الدينية رغماً عن أنه حفظ لها حقوقها المتعلقة بشعائرها الشخصية• أما الإسلام فلا تقف العنصرية أو العرقية حاجزاً أمام الانتماء الأوسع له• ومهمة الدولة الإسلامية تقتضي حفظ حقوق الأقليات المسلمة دون النظر إلى أصولها العرقية أو العنصرية•
درء الأخطار عن الأمة الإسلامية: إن الأمة الإسلامية مطالبة بنشر هذا الدين والذود عنه، وحماية معتنقيه والدفاع عن حرماتهم، وإزالة كل العوائق التي تمنعهم من أن يؤدوا فرائض دينهم بل التي تحول بين غير المسلمين وقبول الإسلام•
ثالثاً: موجهات العلاقات الدولية
إن السبيل إلى تحقيق التوازن في العلاقات الدولية يقتضي تحقيق التوازن بين العقل والوحي، بين المادة والروح، بين الحقوق والواجبات، بين الفردية والجماعية بين الإلهام والالتزام بين النص والاجتهاد بين الواقع والمثال، بين الثابت والمتحول• بين الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر، لذلك فالنظام الإسلامي يتعامل مع الدول الأخرى وفق الموجهات التالية: 1 ـ الإيمان بالتعددية الحضارية الثقافية التشريعية والسياسية والاجتماعية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة:84، (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) المائدة:84•
2 ـ العمل على تنمية آفاق التواصل الحضاري ومن ذلك الإفادة من الحضارة الغربية في المنهج العلمي في الكونيات والنظم الإدارية المتقدمة وتجديد الإحساس بقيمة الوقت وقيمة العدل في ظل مناخ كريم والدعوة إلى قيام شراكه إنسانية صحيحة وقويمة ـ التبادل العادل للمصالح ـ والسعي الجاد لخفض أصوات الغلاة من الطرفين•
3 ـ الدعوة إلى تأسيس فقه الأقليات المسلمة في مجتمع غير المسلمين على قاعدة (لا تكليف إلا بمقدور) أي على قدر الوسع والطاقة بما يحقق للمسلمين الحفاظ على هويتهم دون انكفاء وتفاعلهم دون ذوبان•
4 ـ التركيز على المنظومة القيمية في علاقة الإسلام مع الغرب والقائمة على وحدة الأصل الإنساني ومنطلق التكريم الإلهي للإنسان (و لقد كرّمنا بني آدم) الإسراء: 07، وإحياء مبدأ التعارف (لتعارفوا) الحجرات:31، وتعميق الأخوة الإنسانية >وأشهد أن العباد كلهم أخوة<، والتعامل بالبر والعدل مع المسالمين (أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم) الممتحنة:8، والمجادلة بالتي هي أحسن•
5 ـ العمل على إيجاد القواسم المشتركة والإعلاء من شأن الأنساق المتفقة، فالحضارات تتقاسم أقداراً من القيم مثل العدل والمساواة والحرية إلخ••• وأهل الحكمة من كل ملة يستحقون الشكر والعرفان•
6 ـ عدم تصنيف الآخر على أنه كتلة واحدة بل يتعامل معه على أساس أنه دائرة واسعة الأرجاء، متعددة المنافذ، يمكن مخاطبتها بموضوعية لرعاية المصالح والمنافع المتبادلة دون حيف أو ظلم لتحقيق الأمن والسلام العالميين•
7 ـ تأكيد الالتزام الواضح بالحرية وحقوق الإنسان ومشروعية الخلاف الفكري والتعدد الديني والثقافي والتداول السلمي للسلطة والدفاع عنها بوصفها أسساً من مبادئ الإسلام، ونبذ العنف في العمل السياسي•
8 ـ الدعوة إلى إحياء مبدأ التساكن الحضاري واستكمال التوازن المفقود في الحضارة الغربية بالأساس الأخلاقي عبر قدوة ومصداقية يتطابق فيها المثال والواقع ويكون بدلالة الحال أبلغ من دلالة المقال•
9 ـ الدعوة إلى مخاطبة الرأي العام الغربي من منطلق إنساني تجاه مآسي المسلمين ـ بإعلام قوي ـ والإفادة من ذلك في دفع عجلة الحوار والتفاهم•
10 ـ تشجيع فكرة المواطنة للجاليات الإسلامية في الغرب مع رعاية مستلزماتها• 11 ـ يتعين على الأقلية المسلمة أن تراعي المواثيق لدار العهد التزاماً بالقوانين وانضباطاً بأحكامها (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء:43•
12 ـ العمل على الإسهام في علاج مشكلات المجتمع الغربي وإفرازات الحضارة••• من انحلال أسري، وتفكك اجتماعي، وانهيار أخلاقي، وانحراف جنسي، وتعصب عرقي، واختلال بيئي، والعمل على إبراز تلك الإسهامات•(1/293)
13ـ العمل على أن تأخذ الدول الإسلامية مكانها في المجموعة الدولية، بحيث تعد دولة مؤثرة في سير الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية الدولية وتصحيح الاختلالات في مسيرة المنظمات الدولية التي اضطربت فيها المعايير وتأكيد الثبات على الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية لأمتنا مع الفاعلية الإيجابية التي تلتمس النافع من أي وعاء•
14 ـ رفض الاستعلاء الثقافي والقول بمركزيته الحضارية الكونية، عبر فرض المناهج على أمتنا، والعمل على تأسيس قواعد الإصلاح وفق منظومتنا القيمية دون استجابة لضغط الوافد•
- محاضرة ألقيت في الندوة السابعة لمستجدات الفكر الإسلامي المعاصر والمستقبل، التي نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت خلال الفترة 1 ـ 3 صفر 1425هـ، الموافق 22 ـ 24 مارس 2004م•
بقلم الكاتب: د•عصام أحمد البشير ـ وزير الإرشاد والأوقاف ـ جمهورية السودان
=================
نقد الإسلاميين المعاصرين
نوع التحليل: …عروض كتب …المصدر: …وكالة الأخبار الإسلامية (نبأ)
المؤلف: …عرض وتقديم / محمد يوسف …التقييم: …n/a
القاهرة/ 5-7-2007م
يبدأ المؤلف د. "أحمد عبد الرحمن" مقدمة كتابه " نقد الإسلاميين المعاصرين" بتوضيح أن غاية النقد العلمي هى بيان الصواب والخطأ في العمل موضع النقد، وأن هذا النقد مفيد للجميع إذا التزم الناقد بالمنهج العلمي الموضوعي الذي يحصنه ضد المجاملة وضد التحامل والتحيز، ويحرره من هيبة الاقتراب من أعمال الكبار وخشية الاعتراض عليهم،وفي الوقت نفسه يلزمه الاعتراف بأفضالهم وإنجازاتهم.
حاول المؤلف أن يطبق منهج النقد الموضوعي في تناوله لدراسات علماء كبار مثل: د. يوسف القرضاوي والشيخ محمد متولي الشعراوي ود. محمد سيد طنطاوي ود. محمد خاتمي ود. محمد عبدالله دراز ود. عبد المنعم النمر.. ويذكرنا المؤلف بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم خطاء...." وأنه لا عصمة لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تاريخنا الإسلامي حافل بالنقد العلمي لأكابر الأئمة الذين تلقوه بكل تقدير واحترام. وتتضمن نقده الدراسات أو الكتب التالية:
1- في فقه الأقليات
في نقده لكتاب "في فقه الأولويات" لـ د. يوسف القرضاوي يشير المؤلف إلى ما قاله القرضاوى عن الهدف من مؤلفه بأنه يريد " وضع كل شىء في مرتبته بناء على معايير شرعية صحيحة، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل، بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير، ولا يهون الخطير".
ويتساءل المؤلف: هل نجح ـ القرضاوي ـ في بلوغ هذه الغاية؟ وإلى أى مدى؟.. ويبدأ المؤلف بأولى انتقاداته وهو افتقاد التعريف المحدد الواضح لمصطلح " الأولوية".. وأن افتقاد تعريفه وتمييزه سبب في كثير من الغموض والضبابية.
ويشير المؤلف إلى عدة محاور في كتاب القرضاوي مثل "المعركة الفكرية... الأولوية للخارج أم الداخل؟" وانتقد المؤلف استعمال القرضاوي للفظ " المعركة"، موضحاً أنه يحب أن يستعمل لفظ الحوار أو الجدال بين الفصائل الإسلامية المختلفة كبديل عن المعركة.. ويشير المؤلف إلى ان ثمة ارتباكاً في القضية ومن الصعب معرفة لمن تكون الأولوية عنده؟ إلا أنه يوضح أن الصواب هو ما جاء في قول القرضاوي : "إن المواجهة مع الداخل والخارج: حوار مع الفصائل الإسلامية، وجدال مع الماديين المحليين وأذنابهم من المحليين".
ويصل المؤلف إلى خلاصة القول بإن طبيعة هذه المحاورات والمجادلات واتساعها وتنوعها لا يدع مجالاً للقول بأن الأولوية ـ بالنسبة للأمة ككل ـ يجب أن تكون للداخل أو الخارج، وإذا حدث لباحث فرد أن أعطى للحوار الإسلامي الإسلامي الأولوية فركز همه فيه وحصر نفسه في نطاقه فذلك لا يعني أن هذا هو المسلك السديد للأمة.
وانتقد المؤلف الأوصاف السلبية التي أطلقها القرضاوي على الفرق الإسلامية التي يعارضها، ويتساءل المؤلف هل هذه الأوصاف تتسق مع فقه الاختلاف.. كما انتقد المؤلف أولوية القرضاوي للتربية أو الدعوة عن الجهاد مؤكداً أن التربية والجهاد مقترنان لا ينفصلان وأن السنة تؤكد هذا والواقع العملي يؤكده، ويرى المؤلف أنه في حالة احتلال الكفار لبعض بلاد المسلمين يصرف الاهتمام إلى إجلائهم، وتسخر معظم إمكانات الأمة لخدمة المعركة وفي مثل هذه الظروف يمكن أن يقال إن الاولوية للجهاد على التربية والتعليم وكل مرافق المجتمع.
وتطرق المؤلف إلى ما طرحه القرضاوي تحت مسمى " فقه الأولويات في تراثنا"، كما تعرض المؤلف بالنقد للمحاور الأخرى التي تعرض لها القرضاوي في كتابه "فقه الأولويات" مثل محور "عند ذيوع الفساد: الاختلاط ام العزلة؟ وأولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد، وهل بر الوالدين له الأولوية على الجهاد في سبيل الله؟
(2) الدين والدولة(1/294)
تعرض المؤلف لكتاب " الدين والدولة" لـ د. محمد خاتمي، وسلط الضوء على ما ذكره خاتمي عن فلسفة الخلاف، وتمييزه بين الدين في ذاته ( أو جوهر الدين) وبين فهم المسلمين له.. وينتقد المؤلف خاتمي بأنه لم يشرح ماذا يعني بجوهر الدين ولم يضرب أمثلة، ويخمن بأنه يقصد ثوابت الاسلام التي جاءت بها النصوص القطعية الدلالة في الكتاب والسنة.
ويؤكد المؤلف أن خاتمي لو أنه وثق كلامه بآيات القرآن الكريم لما وقع في هذا الخطأ الجسيم وأنه نادراً ما يستشهد بآية قرآنية أو بحديث شريف، وكيف يسوغ خاتمي لنفسه الزعم بأن ما توصل إليه المسلمون ليس حقيقة الدين؟ وكيف يسوغ لنفسه الزعم بأن إسلام الخميني هو الاسلام الحقيقي الأصيل وغيره ليس كذلك؟.. ويرى د. أحمد عبد الرحمن أنه بناء على هذا الزعم الباطل يتحدث خاتمي بلغة تشبه الى حد كبير لغة العلمانيين فيتساءل: أى إسلام يجب أن نتخذ؟ إسلام أبي ذر أم إسلام ابن سينا أم اسلام الغزالي؟ إم إسلام الظاهرية؟!.. ويرى المؤلف أن خاتمي نسى أن يقول: أم إسلام الخميني؟
وتطرق المؤلف إلى تساؤل خاتمي في كتابه: هل يمكن بعث الحضارة الإسلامية؟ وقوله إنه لا يمكن بعث الحضارة الإسلامية، وزعمه أنه يمكن إنشاء حضارة إسلامية جديدة على أساس رؤية جديدة للإسلام وهى الحضارة التي تريد إيران إنشاءها.. وينتقد المؤلف نظرية خاتمي مؤكداً أن أية حضارة جديدة باسم الإسلام لن تقوم لها قائمة إلا على المبادىء نفسها التي قامت عليها الحضارة الإسلامية الأولى: فالتوحيد في العقيدة والعدل في التشريع، والإيثار في الأخلاق هى المبادىء الكلية الحاكمة لكل حضارة إسلامية..ولا يتصور أن يصل علماء إيران إلى رؤية جديدة تخالف التوحيد.
(3) دستور الاخلاق في القرآن
يشير المؤلف إلى أن كتاب " دستور الأخلاق في القرآن" لـ د. "محمد عبدالله دراز" هو أول دراسة علمية معاصرة لأخلاق القرآن الكريم، رغم كثرة الكتب التي ألفت حول الإسلام وحول القرآن قديما وحديثا.
يقول دراز ـ الذي أعد الدراسة بالفرنسية ـ إن خطته الأولية كانت تبتغي "عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وربما سنة النبي صلى الله عليه وسلم"، ويرى المؤلف أن هذه الخطة قد تغيرت بتأثير المستشرق " ماسينيون"، الذي أبدى رغبته في أن تتناول الدراسة بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة، وقد استجاب دراز لذلك ومن ثم اتسع مجال الدراسة أكثر مما ينبغي، ولم يعد من الممكن التركيز على "عرض القانون الاخلاقي المستمد من القرآن"، وتضخمت الدراسة تضخماً هائلاً فبلغت الترجمة العربية لها (سبعمائة وثمانين صفحة) الأمر الذي جعل قراءة الكتاب مرهقة الى أبعد الحدود.
ويؤكد المؤلف بعد تعرضه لدراسة دراز أنه عمل بشري ومن ثم له مناقصه ولعل أخطرها: عدم تمييزه بين ما هو أخلاقي وبين ما هو تعبدي بحت وتشريعي، فكانت النتيجة خلط عناصر كثيرة تنتمي الى مجالات أخرى غير المجال الأخلاقي، الأمر الذي أسهم في تضخيم الكتاب وفي اختلاط المفاهيم والمبادىء والقيم الأخلاقية بالجوانب التشريعية أو القانونية وبالعبادات.
(4) معجزة القرآن
تطرق المؤلف بعد ذلك الى كتاب "معجزة القرآن" للشيخ محمد متولي الشعراوي ـ رحمه الله ـ ويرى أن هذا الكتاب منسوب للشيخ، وأنه اختيارات وانتقاءات من أحاديثه وعلى هذا يكون المسئول عما فيه من أوجه النقص هو ذلك الذي اختار وانتقى من كلام الشيخ، وذلك الذي نشر دون مراجعة، وذلك الذي قرره كمنهج دراسي على الطلاب دون فحص أو تمحيص.
ويتعرض المؤلف لما جاء في الكتاب مثل قضية حفظ القرآن.. وينتقد المؤلف ما جاء في الكتاب عن ذلك مؤكداً أن القرآن الكريم ليس موجوداً في كل مكان، ولا في كل بيت ولا في كل سيارة ـ كما ذكر الكتاب ـ فهذا تعميم خاطىء، ولسوف يكتشف بعض التلاميذ أنفسهم هذا الخطأ حين يرون أن القرآن ليس موجوداً في سيارات آبائهم، وربما لا يكون موجوداً في بعض البيوت أيضا.
ويتساءل المؤلف كيف يجوز أن يُقال لأولادنا إن غير المسلمين يحافظون على القرآن ويحملونه؟! ويتساءل أيضاً: أليست هذه أسطورة خرافية لا يمكن أن يقول بها الشيخ الشعراوي ؟.. ويؤكد المؤلف أن غير المسلمين من الأوروبيين والأمريكيين واليهود بذلوا ـ ولا زالوا يبذلون ـ جهوداً جبارة لتشكيك المسلمين في القرآن الكريم وفي الإسلام، بكل السبل الممكنة. ويرى المؤلف أنه من الجناية أن ننسب شرف حفظ القرآن لغير المسلمين، ولا نشير بكلمة إلى مراحل الحفظ وأبطاله الحقيقيين.. ويتساءل المؤلف مجدداً: إلى متى يستمر تدريس هذا الكتاب للملايين من أولادنا الصغار، سنة بعد سنة، في الصف الثالث من المرحلة الإعدادية؟
(5) فتوى الشيخ الشعرواي حول نقل الأعضاء البشرية(1/295)
يسترجع المؤلف فتوى الشيخ الشعراوي ـ رحمه الله ـ حول نقل الأعضاء البشرية وفتواه بأن ذلك لا يجوز شرعاً على أساس أن الإنسان لا يملك نفسه ككل، وتبعاً لذلك لا يملك الأجزاء.. ويرى المؤلف بعد استعراض أدلة شرعية وأقوال فقهية أن الإنسان يملك نفسه ككل وكأجزاء وله الحق في التصرف فيها بحسب الشريعة، وأن التبرع بكلية لاستنقاذ إنسان آخر من التلف أو الموت هو عمل مندوب شرعاً وهو إحياء لنفس وثوابه عند الله عظيم .. وقبول كلية لا إثم فيه لأن المريض لا يقبلها إلا دفعاً لضرورة تهدد حياته بالتلف.
وينوه المؤلف بأن لحياة الإنسان في الإسلام قيمتها الثمينة، وتبعاً لذلك يتحتم أن توضع ضمانات طبية وقانونية دقيقة وصارمة لضبط عمليات نقل الأعضاء وحمايتها من العبث بكل أنواعه.
(6) حول المعاملات المالية والبنوك
تعرض المؤلف بعد ذلك إلى بعض فتاوى البنوك والتعاملات المالية فتطرق إلى فتوى فضيلة المفتي سابقاً الدكتور محمد سيد طنطاوي ـ شيخ الأزهر حالياً ـ حول معاملات البنوك والمال، فذكر أن طنطاوي أكد في مقالاته ـ التي نُشرت في صحيفة الأهرام وكان آخرها بتاريخ 29/5/1991م ـ المبادىء العليا الحاكمة في المعاملات المالية الإسلامية وأهمها العدل والتراضي وانتفاء الجهالة والغرر والغش والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.. وهذه المبادىء ثابتة ثبوتاً قطعياً بالكتاب والسنة ولا خلاف فيها.
ويرى المؤلف أن طنطاوي قد أصاب عندما بين أن الأصل في المضاربات الشرعية هو عدم تحديد مقدار الربح مقدماً، إلا أن قوله إن تحديد البنوك لمقدار الربح مقدماً يستند إلى التراضي غير مسلم به.
وذكر المؤلف في كتابه شهادات بعض الخبراء كالدكتور على لطفي وأحد محرري جريدة الاهرام وهذه الشهادات تؤكد ثلاث حقائق: الأولى أن المصارف تظلم أصحاب الودائع ظلماً فاحشاً، والثانية أن المعاملات المصرفية لا تقوم على التراضي، والثالثة أن البنوك تمارس نوعاً من الغش أو الغرر، ويصل المؤلف بعد ذلك إلى أن هذه الحقائق تنقض الأسس التي بنى عليها طنطاوي فتواه.
وأشار المؤلف في حديثه عن الفوائد المصرفية إلى بعض البدع المخالفة للسنة مثل بدعة د. عبد المنعم النمر التي قال فيها: "يجوز مخالفة السنة لمسايرة العصر"، مؤكداً أن بدعة النمر باطلة ومبنية على باطل، والمثال التطبيقي لتلك البدعة وهو القول بحل الفوائد المحددة على الودائع هو قول خاطىء ولا سند له، وليس صحيحاً أن الصحابة قد خالفوا السنة كما زعم ولا التابعون خالفوها، وليس صحيحا أيضاً أن الفوائد على الودائع حلال، وأن القروض المصرفية ذات الفائدة المحددة التى تمولها المصارف من أموالها وأموال المودعين حلال..بل هى ربا لا شك فيه.
ويؤكد المؤلف أن البديل الاسلامي بكل أبعاده من المشاركة والمضاربة والمرابحة والقرض الحسن والتبرعات والزكاة المفروضة وضروب التكافل الاجتماعي هى التي تحقق مصالح الأمة، وتضمن لها الاستقلال الاقتصادي والعدالة وتنجيها من غضب الله في الدنيا والآخرة.
(7) شهداء لا إرهابيون
ثم تعرض المؤلف في الجزء الأخير من كتابه لبعض الفتاوى التي زعمت أن الفلسطينيين الذين يفجرون أنفسهم في الحافلات الصهيونية ليسوا شهداء، كفتاوى الملك حسين ملك الأردن الراحل والملك الحسن ملك المغرب الراحل الذي دعا إلى السلام مع الصهاينة بعد أن جنحوا للسلم على حد قوله، كما تعرض لفتوى فضيلة المفتي ـ سابقاً ـ الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي صدق على فتوى الملك حسين الراحل ومنحها اسم الأزهر وما يعنيه ذلك من المشروعية الإسلامية.. ويدحض المؤلف هذه الفتاوى مؤكدا أن هؤلاء الفلسطينيين ـ الذين فجروا أنفسهم ـ شهداء ضحوا بحياتهم في سبيل دينهم وأرضهم الإسلامية وأهليهم وأموالهم.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من مات دون ماله فهو شهيد ومن مات دون أهله فهو شهيد"، وهؤلاء الصهاينة جاءوا من أقاصي الدنيا ليحتلوا أرض المسلمين ويسلبوهم وطنهم وديارهم بعد طردهم أو قتلهم وإقامة مستوطنات صهيونية.
ويؤكد المؤلف أن قتال الصهاينة واجب والتضحية بالنفس نكاية فيهم شهادة، وأن وصف المجاهدين بأنهم منتحرون تضليل، كما أن نفى الشهادة عنهم تزوير.
================
قصة الاستيلاء على بعض مساجد المسلمين في أوروبا
الأربعاء:02/02/2005
(الشبكة الإسلامية) جريدة المدينة
في لقاء قد يكون هو أقرب إلى المواجهة لا للحوار حول قضايا ساخنة متعددة وواقع يعيشه المسلمون في الغرب، ومشكلاتهم وقضاياهم، والجيل الجديد والمؤامرة عليه وخطر الذوبان في المجتمعات الغربية، جاء هذا الحوار مع الشيخ حسان موسى الداعية المعروف في السويد ورئيس مجلس الأئمة هناك، وعضو مجلس الافتاء الأوروبي.(1/296)
كشف الشيخ حسان التفاصيل عن استيلاء البعض على المساجد في أوروبا، وخاصة في إسبانيا، عندما بدأ العمل الإسلامي ينتقل من العمل الفردي والتطوعي والتلقائي إلى العمل المؤسسي، الذي يقوم على أسس ولوائح ويخضع تماماً للقوانين الأوروبية، وتسجل العقارات والمساجد والمراكز الإسلامية باسم جمعيات إسلامية وفق القانون، ثم تطرق إلى خطورة الدعوات التي تتناثر هنا وهناك حول وضعية المسلمين في أوروبا وأمريكا، ولماذا لا يعودون إلى العالم الإسلامي؟! وأكد بأنهم مواطنون اوروبيون يدينون بالإسلام، ووطنهم هو الذي يحملون جنسيته، ولا مجال لمثل هذه الأحاديث غير الواقعية، وغير المفهومة.
وقال الشيخ حسان موسى: لقد دفعنا ثمن غياب العمل الإسلامي المؤسسي سنوات وضاعت أجيال من أبناء المسلمين ، منهم من ذاب في المجتمعات الأوروبية ومنهم من تنصر ومنهم من انحرف، وكذلك دفع المسلمون في الغرب ثمن الفتاوى غير المفهومة حول الانتخابات والترشيح وتحريم العمل السياسي على المسلمين في الغرب، وجعلنا نعيش سنوات على هامش الحياة ، همنا الرزق وجمع المال والحصول على الجنسية.
وقال: ان المؤامرة الآن اخطر على الجيل الجديد لأبناء المسلمين الذين يريدون إذابته، خاصة أن التعليم الاسلامي في الغرب مازال يعاني من مشكلات كثيرة، سواء في أعداد المدارس أو المعلمين أو المناهج، وقال إن مجلس الافتاء الأوروبي حل مشكلات الفتوى لنا.
والشيخ حسان موسى ينحدر من أصول جزائرية، فهو درس المراحل التعليمية حتى إجازة الحقوق في الجزائر، ثم حصل على الدراسات العليا من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وعمل اماماً وخطيباً لمسجد استوكهولم، والآن يترأس مجلس أئمة السويد، وعضواً بمجلس الافتاء الاوروبي، وامام وخطيب جامع الشيخ زايد في العاصمة السويدية، وله مقالات ودراسات تنشر عن الإسلام في الصحف السويدية.
في البداية قلنا له كيف ترى العمل الإسلامي الآن في الغرب ؟
- قال: نستطيع القول إن العمل الإسلامي في أوروبا مر بعدة مراحل، من بدايات هجرة ذابت في المجتمعات الغربية لم يكن همها سوى لقمة العيش، والبحث عن ملاذ آمن أو عمل ما، ثم تزوج معظم هؤلاء من أوروبيات ونسوا وطنهم ودينهم، منهم من انحرف، ومنهم من تنصر وصار مثل زوجته الأوروبية حتى أولادهم لا يعرفون شيئاً عن الإسلام،ومنهم من ذاب تماماً في المجتمع ولكن الآن أولادهم بدأوا يبحثون عن جذورهم ودينهم وعقيدتهم.
وإرهاصات العمل الإسلامي الحقيقي جاءت في ثمانينيات القرن الماضي أو أواخر السبعينيات، حيث الهجرة الجديدة وأبناء المسلمين ثم البعثات التعليمية الإسلامية، من أبناء العالم الإسلامي الذين سافروا للغرب لدراسة الماجستير والدكتوراه، أو من فروا لظروف مختلفة او من هاجروا بحثاً عن لقمة العيش، ومن هنا بدأت إرهاصات لعمل اسلامي بدأ فردياً عفوياً وانتهى الآن إلى العمل المؤسسي. وفي " استوكهولم " بدأ العمل الإسلامي بالرابطة الإسلامية في العاصمة، وكانت في مبنى صغير جداً في ضاحية نائية وبدأت تتجمع العناصر الفاعلة في العمل الإسلامي، ثم بدأت الرابطة تكبر وتتسع وتنتقل من مبنى إلى آخر حتى صارت الآن معلماً بارزاً في السويد، ثم انتقل العمل الإسلامي إلى فنلندا والنرويج والدانمارك وهولندا.. لقد كانت البداية عاطفية فردية تلقائية ثم انتقلت إلى العمل المؤسسي.
في مرحلة الانتقال من الفردية إلى المؤسساتية، كم خسر المسلمون في اوروبا ؟
- لقد خسرنا الكثير والكثير، خسرنا أجيالا ذابت أو انحرفت، وعقارات ومؤسسات وأموالاً، كانت للفردية ظروفها، وكانت مرتبطة بأشخاص منهم الصالح ونحسبهم الكثيرين ومنهم الطامع في مال أو مكان أو عقار أو منصب أو غيره، وكانت الشخصانية تتمحور حول الشخص الذي يجمع المال ويضعه في حسابه ثم يبني مسجدا يكون باسمه أو مركز إسلامي أو غيره، وهذا للأسف جزء كبير منه ضاع إما بوفاة الشخص وجاء الورثة ووضعوا أيديهم على كل شيء، أو بغياب دور المؤسسة والقانون.
ومن هنا جاء العمل المؤسسي المحكوم بقوانين ولوائح الدول التي نعيش فيها، وأن تسجل الجمعية أو المركز أو المسجد باسم الجمعية المنشأة طبقاً للقانون، والذي يحدد كيف يتم اختيار الأعضاء، وصرف الأموال، وأيلولة الممتلكات للشخصية الاعتبارية.
هل هناك قصص لمساجد كثيرة ضاعت او تم الاستيلاء عليها بسبب الفردية ؟
- نعم الوقائع موجودة، وكما قلت ان مرحلة الفردية والتطوعية والارتباط بالشخص هو الذي يجعل الورثة يتكالبون على الارث ولا يهمهم هذا مسجد أو غيره، وحقيقة ضياع العديد من المساجد في اسبانيا مشهورة، ومعروفة، ودفع المسلمون هناك في اسبانيا ثمن هذا، لعل ذلك ما دفع رابطة العالم الاسلامي والندوة العالمية للشباب الاسلامي وغيرها من المؤسسات الدعوية الكبرى ان تعمل على حماية هذه العقارات والاموال، وتبدأ العمل بطريقة صحيحة اي وفق انظمة وقوانين هذه البلدان، لتحافظ على أموال المسلمين.
لقد رفعت رابطة العالم الاسلامي شعار مسجد في كل عاصمة هل كان هذا رداً على ضياع المساجد في الغرب ؟(1/297)
- لا .. هذا عمل دعوي رائد، وللرابطة دورها المميز ولله الحمد أنشأت العديد بل العشرات من المساجد في الغرب ودعمت المراكز الإسلامية، أما ضياع بعض المساجد فقد كان بسبب ارتباطها بأسماء أشخاص منهم من توفي وأخذه الورثة وحولوه لشيء آخر أو باعوه ومنهم من أخذته الدنيا.
يعني هذا أن المسلمين في الغرب دفعوا ثمن غياب العمل المؤسسي باهظاً ؟
- هذه حقيقة ولا يمكن إنكارها ، ومعروفة ، وقد تكون السبب في تعثر الأقليات المسلمة في ا لغرب وتشرذمها وتمحورها حول المواطن التي جاءت منها او المذهبية أو غيره من المشكلات.
الآن هل حلت مشكلة المساجد والمدارس والمراكز الاسلامية وصارت مسجلة بأسماء جمعيات وشخصيات اعتبارية؟
- اؤكد أنه لا وجود الآن لشخصانية او فردية في امتلاك عقارات للمسلمين كالمساجد والمراكز أو المدارس الإسلامية فهي صارت مسجلة وموثقة ومضمونة أيلولتها للمسلمين ولا يمكن لاحد التصرف بها، فكل جمعية أو مؤسسة إسلامية خيرية مسجلة قانونياً وهناك لوائح ونظم تحدد كيفية انتخاب مجلس إدارة والمسؤول وصلاحياته وغيره.
ولكن ظلت مشكلة المدارس الاسلامية ؟
- قضية المدارس ليست في المباني والممتلكات بل في المناهج والمعلمين ، بسبب أن المدارس إما أن تنشأ في كنف جمعية أو مركز اسلامي مثل مدارس الأحد او نهاية الأسبوع وغيره وهي التي تعلم ابناءنا القرآن والعلوم الشرعية ،وتحفظ الروابط الأسرية ، أو مدارس إسلامية خاصة استثمارية يشرف عليها مجلس إدارة وتكون مسؤولية أصحابها وإذا حصلت على دعم حكومي يكون هناك ضوابط
أما مشكلة المناهج التعليمية فحتى الآن لم يتفق المسلمون في أوروبا على منهج موحد يدرسونه في المدارس الإسلامية، بل حتى في البلد الأوروبي الواحد تتعدد المناهج والجرعات الدينية. وقد بذلت جهود كبيرة وأجلها وضع مناهج موحدة للتعليم الإسلامي في الغرب، شارك فيها خبراء وتربويون وأكاديميون ودعاة، وهناك أكثر من منهج أقر وتم الاتفاق عليه ، ولكن بقي أن يوضع موضع التنفيذ، ويقر من قبل الاتحاد الإسلامي الأوروبي والمنظمات والجمعيات الإسلامية.
أما مشكلة المعلم فهي مشكلة مزمنة، فكان الاعتماد على الإمام أو الشيخ في المسجد لتعليم العلوم الشرعية ، أو استقدام اساتذة ومعلمين وللأسف هؤلاء لا يعرفون عقلية المسلم الأوروبي ولا تفكير الجيل الجديد، ونحن مع مرور الوقت بدأنا في إعداد معلمين من نفس البلدان ولكن هناك قلة قليلة جدا التي تندمج في التعليم لأسباب اقتصادية أو غيرها.
وماذا عن مشكلات الفتاوى التي تصدر إليكم أو تطلبونها وتختلفون عليها؟
- نستطيع القول إن هذه كانت مشكلة كبرى ، الفتاوى التي تصدر في العالم الإسلامي قد تخص قضايا هنا في هذا العالم أما أن يلزم بها المسلمون في أوروبا فحدث اختلافات بشأنها ، فكانت كل أقلية تلجأ إلى علماء من وطنها الأم ، الجزائريون للجزائر والمصريون لمصر وغيرها ، حتى بدء صيام شهر رمضان، وعيد الفطر المبارك ، وكانت الخلافات القومية والقطرية والمذهبية تشتد ولكن جاء تأسيس الاتحاد الأوروبي للإفتاء الذي يمثل فيه دعاة وعلماء وفقهاء من أوروبا مع الاستعانة بعلماء من العالم الإسلامي ليحل لنا هذه المشكلة ، وللعلم لقد حسم هذا المجلس الكثير من القضايا التي تهم المسلم الأوروبي، وأظهر أن تجربة المسلمين في الغرب نضجت ، وأكد لنا قضايانا هناك فقه اسمه فقه الأقليات يراعي ظروف المجتمع الذي نعيش فيه.
ولكن هناك من لا يزال يلجأ إلى فتاوى من خارج أوروبا ؟
- نعم لا أحد يستطيع أن يمنع أحدا أو يحجر عليه ولكن يكون الأمر مقصوراً عليه، ولا يلزم به الأقلية المسلمة في الدولة التي يعيش فيها لأن هناك مؤسسات إسلامية تختص بالأمر.
وفتاوى السياسة ؟
- للأسف هذه الفتاوى التي صدرت وتحرم على المسلمين في الغرب المشاركة السياسية وحقهم في الانتخاب وحقهم في الترشيح ، دفعنا ثمنها ، وجعلت البعض يعيش على هامش الحياة السياسية ، بل في عزلة مما يحدث .
هناك في الغرب 30 مليون مسلم يستطيعون فرض قضاياهم ، وترشح أشخاص للمجالس البلدية أو النيابية وكسب تعاطف الكثير ولكن العزلة هي التي همشت المسلمين، والأقلية المسلمة، ولم تجعل لهم وزنا في الحياة الحزبية والسياسية، إذا أخذنا في الاعتبار قيمة الصوت الانتخابي الواحد.
تواجهون مشكلة الاندماج والذوبان والخطر على الجيل الجديد كيف تحلون هذه المشكلات؟
- بدأنا فكرة الاندماج الإيجابي في المجتمعات التي نعيش فيها ، لأننا مواطنون أوربيون، ولنا حقوقنا ، ولا أحد يستطيع أن يسلبنا هذا الحق،والدعوات التي تصدر هنا أو هناك بعودة المسلمين في أوروبا إلى العالم الإسلامي، غير معقولة، وغير مقبولة على الإطلاق، ولذلك فالاندماج الإيجابي جاء بالاندماج في مؤسسات المجتمع المدني أن تحصل على جميع حقوقك وتلتزم بجميع المسؤوليات، وتكون مواطناً فاعلاً في المجتمع، مع الالتزام بدينك وعقيدتك وحقك في ممارسة شعائرك التعبدية، ولكن الخطر في دعوات التطرف والعنصرية والمطالبة بالذوبان وصعود اليمين المتطرف ونحن نواجه هذا ؟؟ ونحذر الجيل الجديد منه.
================(1/298)
الإسلام في سويسرا
الأحد :06/05/2007
(الشبكة الإسلامية) د. عبد الله مبشر الطرازي ( مجلة الرابطة العدد 490 )
سويسرا دولة اتحادية صغيرة المساحة ، وقد أعلنت بها الجمهورية في سنة ( 690هـ - 1291م ) بعد انفصالها عن حكم ( أسرة هابسبورج ) ورغم صغر مساحتها اتبعت نظام الحياد ، وهذا أكسبها احترام دول العالم وجنبها مشاكل الحروب، واختيرت مقرا للعديد من المنظمات الدولية.
الموقع والمساحة:
تقع سويسرا في جنوبي أوروبا الوسطى ، وتحدها ألمانيا من الشمال ، وإيطاليا من الجنوب ، والنمسا من الشرق ، وأما مساحة سويسرا فتبلغ ( 41.293 ) من الكيلو مترات المربعة ، ويصل عدد سكانها إلى حوالي سبعة ملايين نسمة، وعاصمة البلاد تسمى ( برن ).
أصل السكان:
ينتمي السكان إلى العناصر الألمانية، ويشكلون أغلب سكان سويسرا، ويتحدث 75% من السكان الألمانية، ومن بين سكانها عناصر فرنسية فحوالي 20% من جملة السكان يتحدثون الفرنسية ، كما توجد عناصر إيطالية ، وحوالي 4% من السكان يتحدثون الإيطالية ، ويوجد بين السويسريين من الأجانب أكثر من مليون نسمة، ولهذا يعتبر الشعب السويسري شعب الأقليات.
وصول الإسلام إلى سويسرا:
كانت هناك بداية مبكرة لوصول الإسلام إلى قلب أوروبا ، فلقد أسس بعض البحارة الأندلسيين المسلمين دولة في جنوبي فرنسا، وغزوا الأراضي الواقعة إلى شمالهم، ففي سنة " 321هـ - 939م" وصلوا إلى ( بلدة سان غال ) في سويسرا، وأرسلوا الحملات إلى المنطقة التي تشغلها سويسرا حاليا وذلك لتأمين الأندلس ، وبنوا أبراجا في أماكن متعددة في جبال الألب، وبقي قسم من هذه الجبال تحت سيطرة العرب، وكانت تصلهم الإمدادات من البحر ، وقد بعث ( أوتون إمبراطور ألمانيا ) سفارة في شأن هؤلاء إلى ( عبد الرحمن الناصر ) خليفة الأندلس، وبعد سقوط الأندلس هاجر عدد من المسلمين فرارا من الاضطهاد الديني إلى أودية جنوب سويسرا ، وأقاموا بها ، وسكان هذه المنطقة يدعون أنهم من أصل عربي ، غير أن هذه الجماعات اندمجت في المجتمعات المحيطة بهم.
ثم وصلت سويسرا هجرات إسلامية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، فلقد لجأت إليها أقلية مسلمة بعد الحرب العالمية الثانية ، ونتيجة لجهود بعض الدعاة اعتنق عدد من السويسريين الإسلام، ومن أوائل من دخل في الإسلام الشاعر السويسري ( فريشيوف شوون ) صاحب ديوان ( الليل والنهار ) وقبل إسلامه كان ملتحقا بدير فرنسي للرهبان ، ثم انتقل إلى الجزائر ، وبها اعتنق الإسلام ثم عاد إلى سويسرا ،وهناك قام بمهمة الداعية المسلم، فأسلم على يديه عدد من السويسريين ،و أخذ عدد المسلمين يتزايد في سويسرا نتيجة الهجرة إليها ، أو استيطان بعض المسلمين بها ، وكان عدد المسلمين بسويسرا في سنة ( 1371هـ - 1951م ) يقدر بألفين، ثم وصل عددهم إلى الثلاثين ألفا، ويقدر عددهم في الوقت الراهن بنحو أربعمائة ألف مسلم بينهم 88 ألف عربي والباقي من أصل سويسري وجنسيات أخرى لا سيما الأتراك فعددهم كبير.
الهيئات الإسلامية في جنيف :
كان للمسلمين مركز إسلامي متواضع في مدينة جنيف، يضم مكانا للصلاة، وأصدر مجلة المسلمين بالعربية والفرنسية، ولكن المركز لم يستمر طويلا، وفي سنة
( 1392هـ-1972م ) تأسست أول جمعية إسلامية لبناء أول مسجد بسويسرا، وتشكلت اللجنة التنفيذية للجمعية من 7 أعضاء، وانضم إليهم ممثلو الدول الإسلامية في جنيف كمستشارين، ووضعوا دستورا لها، وسجلت الجمعية رسميا، وحصلت على إذن من الحكومة السويسرية لبناء مسجد إسلامي ومركز لها.
زار الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله سويسرا في سنة 1393هـ، ووضع الحجر الأساسي للمركز ( مركز الملك فيصل ) ويشتمل على عدد من المنشآت الإسلامية لخدمة العقيدة الإسلامية بالقرب من المقر الأوروبي للأمم المتحدة في منطقة ( لاثوريل ) في حي ( لابوتي ساكوني ) ويتكون المركز من مسجد يتسع لعدد كبير من المسلمين ومكتبة إسلامية ومدرسة بها ستة فصول لتعليم أبناء المسلمين مجانا.
يقوم المركز الإسلامي بجنيف بالعديد من الأنشطة الإسلامية، ومنها النشاط الإعلامي الإسلامي لإبراز الصورة الحقيقية للإسلام، وتصحيح ما تراكم حولها من تشويه، وبذل الجهود للحفاظ على عقيدة الأقلية المسلمة بسويسرا، وتقديم التعليم الإسلامي المناسب لأبناء المسلمين، ورعاية الجالية المسلمة اجتماعيا.
ولقد تم بناء المركز الإسلامي بجنيف في سنة ( 1398هـ- 1978م ) وافتتحه الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله في 25 جمادى الثانية سنة 1398هـ وتكلف بناء المركز الإسلامي بجنيف 12مليونا من الفرنكات السويسرية ، أسهمت بها حكومة المملكة العربية السعودية ،كما أوقفت عمارة سكنية في مدينة جنيف السويسرية.
وفي الختام - نسأل الله القدير أن يوفق المسلمين في سويسرا للعمل لما فيه خيرهم وخير الإنسانية جمعاء, والله ولي التوفيق.
=================
الإسلام في النرويج
الثلاثاء:03/04/2007
(الشبكة الإسلامية) مجلة الرابطة العدد : 489(1/299)
تقع النرويج في أقصى شمال أوروبا ، تمتد حتى النهاية الشمالية لقارة أوروبا حيث المحيط المتجمد الشمالي ، ويحدها بحر الشمال من الجنوب ، والمحيط الأطلنطي من الغرب، والسويد وفنلندا وروسيا من الشرق.
وتعتبر النرويج إحدى الدول الاسكندنافية وهي دولة فريدة بظواهرها الطبيعية ، وتبلغ مساحتها 877ر323 كيلو مترا مربعا وسكانها نحو خمسة ملايين نسمة ، والعاصمة تسمى ( أوسلو ).
تعيش جماعات اللاب في شمالي النرويج ، وإلي جانبهم أقلية من الفنلنديين ، والأغلبية الباقية من سكان النرويج من النرويجيين ويعيش أكثر من نصف السكان في المدن وحوالي 40% من السكان يعيشون في القرى .
وصول الإسلام إلى النرويج :
وصل الإسلام إلى بلاد النرويج حديثا ، وذلك عندما هاجر إليها عدد من العمال من بعض الدول الإسلامية ، وهؤلاء يعملون في الفنادق والمطاعم والحرف اليدوية ، وهناك عدد ضئيل يعمل في التجارة في الأحياء التي يعيش فيها المسلمون ، ولقد بدأت هجرة هؤلاء العمال إلى الدول الاسكندنافية منذ سنة 1960م ، ومعظمهم من باكستان وتركيا ويوغسلافيا والمغرب.
وتعاني جماعات المسلمين من عدم معرفة اللغة النرويجية ، ومن قلة المهارة مما يجعلهم يستخدمون في الأعمال الشاقة ، وفي الفنادق والمطاعم ، كما يعملون في قطاعات أخرى ، مثل صناعة حفظ الأغذية وصناعة الملابس ، ويتقاضون أجورا زهيدة، ولقلة الدخول وانخفاض المستوى يعيش المسلمون بالنرويج في الأحياء الفقيرة أو مساكن متواضعة يقيمها أصحاب الأعمال وغالبية المسلمين في النرويج يعيشون في العاصمة أوسلو وفي مدينة برجن وكذلك في ترندهايم.
وأخذ عدد المسلمين في التزايد فكان عدهم في سنة 1973م حوالي سبعة آلاف مسلم كان بينهم أربعة آلاف باكستاني ، وألف تركي ، والباقي من اليوغسلافيين ومن المغاربة وجنسيات أخرى
و صل عددهم في سنة 1977م إلى تسعة آلاف ، بينهم ستة آلاف باكستاني ، وألف وخمسمائة تركي ، والباقي من اليوغسلافيين ومن المغاربة ، ويزيد عددهم الآن على عشرة آلاف مسلم.
المنظمات الإسلامية:
المنظمات الخاصة بالمسلمين في الدول الاسكندنافية تنقسم إلى ثلاثة أنواع ، منظمات خاصة بكل عنصر أو جماعة تتحدث لغة واحدة ، ومنظمات تأخذ صبغة سياسية ثم المنظمات الدينية تعمل لخدمة احتياجات المسلمين، وفي النرويج الجمعية الإسلامية الحنيفية ، وتهتم هذه الجمعية بتعليم أبناء المسلمين قواعد دينهم ، واستأجرت لهذه الغاية شقة في مدينة أوسلو.
والهيئة الإسلامية الثانية هي المركز الإسلامي الثقافي ، وتوجد هيئات إسلامية محدودة ، ولما كانت الحاجة ماسة إلي توحيد الهيئات والمنظمات الإسلامية في الدول الاسكندنافية لذا تكون اتحاد الجمعيات الإسلامية منذ سنة 1974م وللاتحاد فرع في مدينة أوسلو، ولرابطة العالم الإسلامي مكتب في كوبنهاجن بالدانمارك ويعاون اتحاد الجمعيات الإسلامية في النرويج بإرسال الأئمة والمدرسين.
وقد استأجر المسلمون مراكز قبل سنوات لأداء الصلاة فيها ، ثم فكر المسلمون في بناء مسجد لهم في مدينة أوسلو بعد أن حصلوا على قطعة أرض من حكومة النرويج ، وحاجة المسلمين هناك ماسة لترجمة معاني القرآن الكريم حتى يتجاوز المسلمون مرحلة الحفاظ على شخصيتهم الإسلامية، ويباشروا مهمة الدعوة بعد تزويدهم بالكتب الإسلامية المترجمة والدعاة الذين يجيدون اللغة الاسكندنافية كما أن المسلمين في حاجة إلى مركز إسلامي، ومدارس لتعليم أبنائهم في بيئة متقدمة، وفي خضم من الحضارة التي تغيب فيها القيم الروحية.
وختاما - نسأل الله القدير أن يوفق المسلمين في النرويج في حياتهم العامة ويسهل عليهم أمور دينهم ودنياهم بمساعدة إخوانهم المسلمين لهم في العالم، والله ولي التوفيق.
د . عبد الله مبشر الطرازي
==============
ما يتعرض له شبابنا حرب لا مؤامرة
الخميس :01/03/2007
(الشبكة الإسلامية) مركز الإعلام العربي
مرحلة الشباب لحظات تمر ولا ترجع، برغم خطورتها ومحوريتها فى بناء نهضة الأمة، ورسم ملامح مستقبلها بما تتسم به هذه المرحلة من الحماس والاستعداد والقوة البدنية والعقلية، ومع ذلك؛ فإن هؤلاء الشباب وبخاصة العربى والمسلم يواجهون تحديات كثيرة ومتشعبة تهدد كيانهم، وقد تهدر طاقاتهم التى هى من رصيد طاقة الأمة فى إطار حرب شعواء تستهدف الأمة بأسرها، وتراهن على شبابها فما طبيعة هذه التحديات؟ وأهم صورها؟ وكيف يتصدى لها العلماء والمفكرون والدعاة، انطلاقًا من محورية دور الشباب فى الرؤية الإسلامية؟
هذه التساؤلات وغيرها يجيب عنها د. عبد الحليم عويس - أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية.
ـ نود التعرف على محورية مرحلة الشباب فى الرؤية الإسلامية، ولماذا خصهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن سؤال العبد يوم القيامة؟(1/300)
- تأتى محورية الحديث عن الشباب، انطلاقًا من أنهم عصب الأمة وهم الذين يقومون بأشق الأعمال، وأصعب المهام؛ بعكس مرحلة الطفولة والشيخوخة التى يغلب فيها الأخذ على العطاء {والله خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة}، فإذا ضاعت هذه المرحلة دون عطاء أو عمل تفقد الأمة قوتها: {إن خير من استأجرت القوى الأمين}، وقد أفاد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال ما معناه: «بعثت فخذلنى الشيوخ ونصرنى الشباب»، ويكفى أن نعرف أن سبعة من العشرة المبشرين بالجنة هم من الشباب، وعلى رأسهم على بن أبى طالب رضي الله عنه ، ومن ثم يجب أن يحاسبوا بدقة وحسم؛ لأن كل دقيقة تضيع من أعمارهم تحسب من الرصيد الأثمن والأسمى لقوة الأمة، وبنائها.
ولذلك ورد فى الحديث الشريف «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع - ومنها - عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه»؛ لأن فترة الشباب لها خصوصية، وأهمية تفوق باقى مراحل العمر.
عقيدة وإنسان
ـ إذن فكيف تصبح هذه الرؤية مدخلاً لإشعال حماس الشباب، وتحفيزهم للمشاركة فى نهضة الأمة؟
- بعيدًا عن الغبش الذى يدور الآن فى وسائل الإعلام؛ فإن الحضارة ليست استهلاكًا أو سلعًا إنما هى عقيدة وإنسان، والحضارة بلا إنسان لا قيمة لها، والأمة التى يقودها رجل فاسد لا ترتقى، وللأسف فالأمة تملك ثروات وطاقات مادية كثيرة، لكنها لا تدار كما ينبغى لمصلحة الأمة، ومن هنا يسعى أعداؤنا لتبديد طاقة الشباب فى العبث واللهو والغفلة، وما هذا إلا تخطيط منظم لتدمير الشباب، وإلهائه عن واقعه المرير، ومحاولة تغييره عن الأفضل.
وكذلك؛ فإن القوى التى تحكم الأمة ليست قادرة على أن تنتشل الشباب من هذا الواقع، بل إنها تستحدث لهم أدوات ووسائل تغرقهم فى الغفلة عن التمرد أو الاعتراض على هذا الواقع وفى مقدمتها.. الإعلام الفاسد والإنفاق الترفى الذى يصل إلى حد السفه على الرياضة والفن والفنانين فى الوقت الذى تعانى فيه الجامعات من ضآلة ميزانية البحث العلمى، وفى الوقت الذى يحصل فيه الأستاذ الجامعى على 500 دولار شهريًا، ومدير الجامعة لا يزيد دخله عن 1000 - 1500 دولار شهريًا؛ فإن أحد المدربين الرياضيين يتقاضى 55 ألف دولار شهريًا.
وعندما يطلع الشباب على هذا التناقض ينصرف بفكره عن العلم ولا يقدر قيمة العلماء، بل يتجه بطموحه إلى طريق الرياضة والفن رغبة فى الثراء السهل السريع، وهذا يعنى أننا ندمر شبابنا ونجرهم إلى الهاوية فتنشأ أجيال تتحكم فيها العولمة فتصبح بلا قوة، ولا خلق، ولا علم، ولا فكر، ولا عطاء.
ـ فى تصوركم كيف أسهم الشباب فى صناعة الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها على مدار تاريخ المسلمين؟
- الآن يقاس عمر الشباب بسن 20: 25 - 40: 45 سنة، أما فى فجر الإسلام فكانت مرحلة الشباب تبدأ مبكرًا، وتتميز بالعطاء والإخلاص والتضحية.
ويكفى أن نقول: إن شابًا مثل أسامة بن زيد رضي الله عنه ذهب بقيادة الجيش لتأديب الروم وعمره حوالى 19 سنة، وتحت قيادته أبو بكر - خليفة المسلمين - وكذلك الثلاثة الذين قادوا معركة مؤتة كانوا من الشباب (زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى طالب، وعبد الله بن رواحة)، وكان عليّ بن أبى طالب على صغر سنه يقدم نفسه للموت، ويطلب مبارزة أعتى قوى الكفر انتصارًا لله ورسوله.
وهذا عقبة بن نافع يذهب مع ابن خالته عمرو بن العاص إلى مصر، ويستأذنه فى فتح أفريقيا، وكان أيضًا من الشباب، أما اليوم فالشباب يعيش مأساة متعددة الأبعاد يشارك فيها المسئولون ومؤتمرات الأمم المتحدة والإعلام الغربى لضرب دين الله وقتل الولاء والانتماء لدى الشباب، وإثنائهم عن رسالتهم.
حرب على الشباب
ـ ما مدى صحة القول بأن الشباب العربى يتعرض لمؤامرة ضمن الحرب على الإسلام ؟
- أرفض القول بأن الشباب العربى يتعرض لمؤامرة؛ لأن المؤامرة شيء يدبر فى الخفاء ويخشى ظهوره ويراد ظهور آثاره المدمرة، أما الآن فإن ما يحاك للشباب هو حرب شرسة بكل ما تحمله الكلمة من معان، إذ باتت تفرض عليهم الوجبات السريعة والكليبات والموضة وقصات الشعر والدش والنت والمقاهى التى تفتح على مصراعيها ليل نهار، بينما تغلق المساجد بسرعة عقب أداء الصلوات المفروضة تحت الدعاوى الأمريكية بأن التدين يصنع الإرهاب والعنف، وللأسف؛ فإن بعض الحكام والمسئولين العرب والمسلمين خدعوا بهذه المقولات واستجابوا لها على حساب انتمائهم الدينى.
ـ وما الذى أضعف مناعة الشباب وجعلهم يقعون فريسة سهلة لهذه المؤامرة.. أو الحرب؟
- هذه الحرب تدور رحاها منذ ستين عامًا تقريبًا، وإذا عدنا إلى جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى نجد أنها أفرزت شخصيات مرموقة ذات قامات طويلة فى مجالات الفكر والرأى والأدب، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معهم فإننا لا نستطيع أن ننكر دورهم فى إثراء الساحة الفكرية والأدبية، أما الآن فكثير من الشخصيات المحسوبة على الفكر والأدب ما هى إلا أبواق تردد ما تريده الدولة، وترى بعينيها وتسمع بأذنيها دون أن يكون لها فكر أو رأى مستقل بناء.(1/301)
وهذا إفراز مناخ علمى متراجع لا يقدر قيمة العلم، ولا يسمح بحرية الفكر والتعبير عن الرأى داخل رحاب الجامعة، مما جعل هذه الجامعات مجرد أماكن لتفريخ الموظفين، لا الطاقات الفكرية والعلمية التى تحمل عبء النهضة.
ومن المحزن أن 50 جامعة فى مصر لم تحصل أى منها على مركز بين 500 جامعة على مستوى العالم ذات مناهج تعليم متطورة، فالجامعات جزء من المجتمع تفسد بفساده، وتتأثر بما يدور فيه.
المواجهة
ـ فكيف يواجه الشباب هذه التحديات بوعى وتفاعل دون ذوبان؟
- أقول للشباب: لا تيأسوا من رحمة الله، فكل شيء قابل للإصلاح بالهمة وإخلاص النوايا، وأما من وصلوا بنا إلى هذا المستنقع فهم ظاهرة مرضية طارئة ولا بقاء لها، المهم أن تعوا رسالتكم وتحددوا أهدافكم، والنتائج مضمونة، فاليابان كانت منهارة بعد هزيمتها فى 15 من أغسطس عام 1945م، لكن العزيمة وإرادة النهوض دفعت الشعب للتضحية والعمل الجاد لإخراج جيل جاد متفتح نجح فى وقت قصير فى وضع اليابان فى مقدمة العالم تكنولوجيًا وعلميًا وصناعيًا، فالأمة تنهض بأبنائها، وليس عن طريق الدولة والسلطات الرسمية، فإذا كان المجال يتسع للتفاهم معها فلا بأس، وإلا فلا داعى للتصادم.
أطالب بإحياء الوقف الذى كان رافدًا هائلاً لنهضة الأمة، إلا أن الدولة تحاربه منذ 1954م، فلا بد من تحريك بند فى سبيل الله، وبحث الفروض الكفائية لانطلاق الشباب.
وعلى الدعاة الجدد الذين يقتربون من الشباب سنًا وفكرًا أن يرشدوهم إلى القدوة التى تقودهم إلى خير الآخرة، وليس الدنيا فقط، وليكن القرآن والسنة مرجعيتنا الثابتة التى نحتكم إليها، ونحكِّمها فى تغيير واقعنا، ورسم مستقبلنا.
و على الأسرة أن تبذل دورها فى تقديم نماذج إيجابية للقيم والأخلاق العلمية الرفيعة، وتغرسها فى النشء؛ فهى المحضن الأول لاحتواء الشباب وتربيتهم
===============
مسلمو أوغندا بين التهميش والمد التنصيري
الأحد :21/05/2006
(الشبكة الإسلامية)
تعد أوغندا إحدى بلدان شرق أفريقيا، وبالتحديد منطقة البحيرات العظمى ويحدها من الشرق كينيا ومن الغرب جمهورية الكونغو الديمقراطية ومن الشمال السودان ومن الجنوب رواندا وبروندي، وكانت أوغندا من قبل حلما أسطوريا لكل المكتشفين والرحالة الذين انطلقوا بحثا عن منابع نهر النيل وعن بحيراتها الكثيرة وغاباتها الواسعة، ففيها بحيرة ألبرت وجورج وإدوار وفكتوريا التي تعد المنبع الحقيقي لنهر النيل ولعل وفرة البحيرات والمعدل المتوسط لسقوط الأمطار كانا الضمان لأوغندا من عدم الجفاف والتصحر، فهي خضراء دائما بسبب موقعها المهم واعتدال أجوائها.
دخول الإسلام
وقد دخل الإسلام أوغندا عبر العديد من التجار المسلمين من السودان ومصر، حيث كان التجار المسلمون يحملون البضائع والهدايا إلى ملوك القبائل الأوغندية بالإضافة إلى دورهم الدعوى إلى دين الله، وعرض الإسلام على كل من يتعامل معهم وعلى الملك داود الثاني ملك قبيلة بوكندا الذي أسلم وحسن إسلامه، ومنذ ذلك الحين أخذ الإسلام يشق طريقه بين القبائل الأوغندية، وقد أدت الحملة المصرية على منابع النيل في القرن التاسع عشر دورا مهما في نشر الإسلام عبر إرسال العلماء إلى هناك للمشاركة في العمل الدعوي وهداية الأوغنديين، وقد حققت هذه البعثات نتائج مهمة وانطوى عدد كبير من الأوغنديين تحت لواء الإسلام وأسست ممالك إسلامية عديدة، ويفخر المسلمون في أوغندا بأن الدين الإسلامي هو أول دين سماوي يدخل الأرض الأوغندية، فقد سبق الديانات المسيحية كما سبق الوثنية بعشرات السنوات، غير أن الوسائل الخبيثة التي لجأ إليها الاستعمار في إشاعة الأمية في أوساط المسلمين وكذلك الفقر لدرجة أفقدتهم أي نفوذ في أوغندا رغم أنهم شكلوا الأغلبية لأوقات طويلة وبنسب كبيرة على معتنقي الديانة المسيحية والوثنيين على حد سواء.
تهميش سياسي
وقد عانى مسلمو أوغندا في العقود الأخيرة من حالات تهميش سياسي واقتصادي، فرغم أنهم كانوا يشكلون 40 % من سكان البلاد إلا أن هذه النسبة قد تراجعت إلى 20% من عدد السكان البالغ تتعداهم 25 مليون، أي أن أعداد المسلمين تصل إلى حوالي 5 ملايين نسمة.
هذا ولم يشهد المسلمون صعودا سياسيا إلا في عهد الرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري في ظل الرئيس الأوغندي حينذاك ميليون أبوتي وعمل خلالها على إعلاء شأن الإسلام في بلاده فقام بالحد من الحريات التي كانت تتمتع بها الإرساليات التبشيرية فطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من كمبالا، وألقى القبض على أفرادها وقرر انضمام أوغندا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وشن حرباً على الجماعات المرتدة مثل البهائية و القاديانية، التي عملت على إشعال الحرب بين أوغندا وتنزانيا وانتهت باندحار قوات عيدي وطرده من السلطة وعودة أبوتي إلى الحكم ومنذ ذلك التاريخ أي في نهاية حقبة السبعينات من القرن الماضي يعاني المسلمون من تهميش سياسي رهيب، فرغم أنهم يشكلون 20 % من سكان البلاد إلا أنهم محرومون من الوصول إلى مناصب قيادية في السلطة أو في الجيش.
أمية وتخلف(1/302)
ويعاني مسلمو أوغندا حزمة من المشكلات يأتي في مقدمتها الفقر والمرض والجهل والتخلف، وذلك بسبب الأمية التي تتفشى فيهم، فكلنا يعلم أن التعليم في أوغندا قد بدأ على يد الإرساليات التبشيرية مما أدى لابتعاد الأغلبية العظمى من المسلمين عنها خوفا على عقيدة أطفالهم الدينية، خصوصا أن أوغندا قد شهدت طوال تاريخها موجات تنصيرية شديدة استهدفت مناطق المسلمين مستغلة الفقر والحاجة ومدت يدها إلى أهالي هذه المناطق عبر إنشاء المستشفيات والمدارس ورعاية الأيتام والجوعى متزامناً مع وجود يهودي مكثف خصوصا أن الصهيونية العالمية لم تنس أن أوغندا كانت إحدى ثلاث بلدان اختارهما وزير المستعمرات البريطاني تشمبرلين وطناً قومياً لليهود.
إرث صهيوني نصراني
من ثم فإن هذا الإرث النصراني الصهيوني الشديد أثر بشدة على أوضاع المسلمين في أوغندا، فهم يعانون الفقر الشديد في مناطق توينا وامبالي وانكانكافورت وبورتل وسوروبي وخلوها من أي خطط تنموية مما أسهم في تزايد الفقر في أوساطهم وسمح لمنظمات التنصير التي تغرق البلاد في مقدمتها الكنيسة الإنجيلية التي تعد أوغندا أرضا خصبة للعمل التنصيري، ومنظمة بلا حدود كموميشون والإرساليات المعمدانية، ويعزز عمل هذه الإرساليات وجود شبكة قوية من الإذاعات المحلية تضم 4 إذاعات على رأسها كرتولايف، وراديو أوغندا وراديو ماريا توب وراديووعد، ومن الأندية الماسونية مثل الروتاري والليونز.
ثمار قليلة
ورغم المناخ المهيأ للجماعات التنصيرية وإمكاناتها الصحية إلا أن النتائج التي حققتها لا تقاس بقدر النفقات التي أنفقت عليها، فالمسلمون في أوغندا تحدوا كل الظروف وما زالوا متمسكين بدينهم، ناهيك عن أن أوغندا تعد من أكثر الدول التي يقبل فيها الوثنيون على اعتناق الإسلام يومياً؛ غير أن هذا الوجود المكثف لجماعات التنصير أسهم في تنامي نفوذها لدرجة أنها أوعزت إلى البرلمان الذي يضم 35 عضواً مسلما من جملة أعضائه الـ 308 ليتبنى تغييراً في قوانين الأحوال الشخصية.
طموح إسلامي
وقد شجعت هذه الخطوة المسلمين على الشعور بأهميتهم في المجتمع وضرورة استغلال هذا الدور في انتزاع تنازلات من الحكومة وزيادة نصيب المسلمين في التشكيلة الوزارية التي يشغل المسلمون 3 مناصب وزارية فيها، ووصل الطموح الإسلامي في الدعوة التي أطلقها مفتي أوغندا شعبان رمضان موباجي الذي طالب فيها بحق المسلمين في الحصول على منصب نائب رئيس الجمهورية ونقل موباجي هذا الطلب إلى الرئيس موسيفيني الذي رحب به مما يدلل على أن المسلمين في أوغندا قد بدؤوا ينفضون غبار الماضي ليستعدوا للحصول على حقوق توازي أعدادهم.
الدعم الإسلامي
ويراهن مسلمو أوغندا في ذلك على ضرورة وجود دعم إسلامي لجمهورهم لاستعادة وزنهم السياسي والاقتصادي الذي شهد في الفترة الأخيرة تصاعداً نتيجة تراجع نسبة الأمية في صفوفهم وتوسيع المسلمين من ممارسة أنشطة اقتصادية وتجارية ووجود بعض المنظمات الإغاثية الإسلامية، التي ما زالت تعمل في البلاد وتدعم بناء المساجد والمدارس والمؤسسات الإسلامية غير أن هذا الوجود لا يقارن من بعيد أو قريب بالوجود المكثف للمنظمات التنصيرية متأثرا بالحملة العالمية على الإرهاب التي اهتمت بإغلاق العديد من مراكز الإغاثة الإسلامية التي كانت ترعى فقراء المسلمين وتكفل أيتامهم وتتكفل بنفقات الدراسة لأبنائهم.
نظرة مستقبلية
وعن مستقبل مسلمي أوغندا يرى موباجي أن دور المسلمين في المجتمع الأوغندي في تصاعد وأعدادهم في تنامي نتيجة إقبال العديد من غير المسلمين على اعتناق الإسلام وتحرك المسلمين للتغلب على المشكلات التي حالت دون أدائهم دورا سياسيا كبيرا لافتا إلى أن هناك إقبالا من المسلمين على تعلم مبادئ الإسلام وحفظ القرآن الكريم وإجادة اللغة العربية.
وطالب موباجي الهيئات الإسلامية مثل الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي والجامعة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية بدعم مسلمي أوغندا ومضاعفة عدد المنح الدراسية الممنوحة لهم وزيادة عدد الدعاة ومحفظي القرآن حتى تنجح في خلق صحوة إسلامية تعيد للمسلمين هناك دورهم الطبيعي
مجلة الفرقان الكويتية العدد 392
================
الهوية الإسلامية ومؤامرة القضاء عليها
الاثنين :01/05/2006
(الشبكة الإسلامية) الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
المسجد النبوي الشريف
يزداد إيقاع الأحداث في العالم كله مع تنامي عقود القرن الخامس عشر الهجري الذي يتوقع أن تصل الصحوة الإسلامية فيه إلى مرحلة النضوج وامتلاك الإرادة واستعادة الحق.
ومن يطالع الأحداث منذ بزوغ هذا القرن يستطيع أن يثق بأن المسلمين قد خلّفوا فعلاً مرحلة البكاء على الأطلال وترنيمات التهافت على الماضي الذي انقضى والحزن عليه .(1/303)
أعتقد أن الأحداث قد علّمت المسلمين أن يخرجوا من دائرة العاطفة الجوفاء إلى دائرة البحث عن خطة ، عن طريق ، عن منهج يمكن به تفادي الوقوع في الأخطاء مرة أخرى بعد أن تكشفت لهم حقائق كثيرة ربما كانوا يجهلونها، ووضحت لهم وجوه ربما كانوا حسني الظن بها، وهي تخفي في أعماقها الرغبة في تدميرهم والقضاء على كيانهم .
(هَا أنْتُمْ أوْلاَءِ تُحِبُّوْنَهُمْ وَلاَيُحِبُّوْنَكُمْ وَتُؤمِنُوْنَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوْكُمْ قَالُوْا آمَنَّا وَإذَا خَلَوا عَضُّوْا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران آية 119)
يجب أن يكون واضحًا لنا نحن المسلمين أن المؤامرة التي بدأت منذ نزول القرآن وظهور الإسلام لاتزال مستمرة ، وهي في كل عصر تأخذ طابعًا مختلفًا وقد نبأنا الله تبارك وتعالى من أخبارها وجاءت الأحداث متوالية ومتتابعة لتكشف لنا أبعاد المؤامرة التي تدبر للإسلام .
وقد وصلنا الآن إلى مرحلة توصف بأنها مرحلة اجتثاث الشجرة من جذورها ، هكذا تخطط القوى المتجمعة من غربية وماركسية وصهيونية ولكن هل نستطيع ؟ وهل الإسلام الذي جاء لينقذ البشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور عرضة للأزمة ؟ . ومن الحق أن يقال : إن الأزمة موجهة إلى المسلمين وأنهم هم الذين سيتحملون عواقبها إذا ما عجزوا عن حماية الأمانة الموكولة إليهم والحفاظ على بيضة الدين .
فإذا تولوا فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.
أما الإسلام فإنه باقٍ وهو ملاذ البشرية كلها وسوف ينصره الله إذا خذله أهله المتفرقون الآن والخاضعون للقوى المختلفة التي تصرب بعضهم ببعض .
إن أمامنا المثلاث والتجارب والأحداث ماتزال قائمة يجب أن نلتمس عبرتها ونحاول أن نستفيد منها للوصول إلى طريق العمل الذي يجب أن يكون قد بدأ فعلاً .
فهذا القرن الخامس عشر الهجري هو قرن بناء الخطط العملية لتحرير العقل المسلم والنفس المسلمة من التبعية للفكر الغربي الوافد الذي خضعنا له أكثر من مائة عام منذ فرض علينا قانون نابليون ومنهج دنلوب وخطط زويمر .
ومنذ فرضت علينا إرساليات التبشير مناهجها التربوية والتعليمية التي تحولت إلى وزارات التعليم العربية بكل ما تحمل من أخطار وآثام وازدواجية .
هذه المناهج التي ركزت على الإقليمية والعلمانية والقومية والماركسية بتنويع يختلف في كل قطر عن الآخر؛ ولكنها تجمع كلها على هدف واحد هو تمزيق الوحدة الإسلامية والحيلولة دون قيامها مرة أخرى. ولقد نشأت في ظل المخططات دعوات وتنظيمات كشف الزمن عجزها عن العطاء وعدم قدرتها على تلبية مطامح النفس المسلمة والعربية التي شكلها الدين الحق من إبراهيم ، وموسى ، وعيسى - ومحمد عليهم الصلاة والسلام - في ترابط جامع لأمة واحدة تؤمن بالله الواحد وتسلم وجهها إليه خالصًا ومنه تستمد منهج الحياة والعمل والمجتمع كما رسمته الكتب السماوية المنزلة وحيث جاء القرآن الكريم فمقدمه للناس في الصورة العالمية الخاتمة بحيث أصبح هو منهج الفكر لهذه الأمة كلها بكل ألوانها وعناصرها كما حدث عن ذلك كثير من المخططين والباحثين .
فقد استصفى الفكر الإسلامي خلاصة الوحي الرباني كله الذي أنزل على الرسل والأنبياء واستصفاه من مصدريه القرآن والسنة نورًا على طريق البشرية كلها إلى يوم القيامة فكان لابد أن يواجه من الدعوات والنحل والمناهج البشرية. وهي التي عجزت عن العطاء وأسقطتها المتغيرات. وكان آخر ذلك سقوط منهج الغرب الليبرالي وسقوط الماركسية. فأسقطت هذه المناهج في مسقط رأسها وفي بلادها التي صاغتها ، وأعلنت البشرية منذ سنوات طويلة أنها في حاجة إلى منهج جديد ينقذها من براثن النظام الربوي الذي اغتالها ، أما سقوط الماركسية على النحو الذي حدث فقد كشف عن عجز الايدلوجيات البشرية عن العطاء حتى انها بعد سبعين عامًا من سيطرتها على مجرى الأحداث ومن خلال فلسفة عريضة خالفت فيها مناهج الفطرة وعارضت حقائق الدين ومفاهيم العلم وحاولت أن تشق طريقها ضد التيار فعجزت وحاصرتها الأحداث وقصفتها الرياح وأسقطت منهجها وحطمت شراعها .
لابد أن نعي نحن المسلمين هذه الأحداث وأن نؤمن بأن قيام الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي وسيطرته على القدس قبلة المسلمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من نفس العمل الذي يحاول أن يفرض ما يعارض الفطرة ويخالف حقائق الدين والعلم جميعًا فلابد من سقوطه . ولقد أقامت من قبل القوى الصليبية كيانًا زائفًا في نفس الموقع لم يزل يقاومه المسلمون ويجتمعون له ويجاهدون في سبيل تدميره ويقدمون الأرواح رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى .
المسلمون اليوم في امتحان جديد هو أقسى من امتحان الحروب الصليبية؛ ولكن الصحوة الإسلامية التي أثبتت اليوم رسوخ أقدامها وعجز الأعداء عن إزالتها قادرة على الثبات في الموقع وحماية الثغور وإعداد قوى الردع الكفيلة برد العدوان واستخلاص الحق واستعادة بيت المقدس. ولن يكون ذلك إلا من خلال وحدة الإيمان والارتفاع فوق المطامع والأهواء والتحرر من الترف والانحلال .(1/304)
وليعلم المسلمون أن سقوط هذه الايدلوجيات كلها هو لحساب الإسلام وأن الغرب لن يستطيع أن يسيطر على العالم ويقوده نحو الخضوع والتبعية بعد أن أثبتت مناهجه وايدلوجياته عجزها وفسادها وأعلن كبار العلماء والمفكرين الغربيين أنّه لا أمل إلا في الإسلام فهو وحده القادر على إنقاذ البشرية.
ولكن أصحاب المطامع من عباد العجل الذهبي وإمبراطورية الربا لايزالون يخططون من أجل السيطرة على الأمة الإسلامية وثرواتها ومقدراتها التي استنزفت منذ أكثر من قرنين من الزمان لحساب القوي العالمية في نفس الوقت الذي عاش أهل الوطو يواجهون المجاعات ، والنهب ، والاحتواء ، في محاولة لإخضاع المسلمين والعرب ، وضرب بعضهم ببعض ، ولقد استفاق العرب والمسلمون اليوم وعرفوا أنهم قادرون على التعامل السمح الكريم بين طوائفهم كما أمرهم القرآن وكما رسم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وكما وضع عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وغيرهم ميثاق الترابط بين العناصر المختلفة في قلب المجتمع الإسلامي العربي .
ومن هنا فنحن في أشد الحاجة إلى الدخول في مرحلة تحرير الهوية وتصحيح الوجهة. وذلك بإقامة معاملاتنا سواء في مجال التجارة أو الزراعة أو الاقتصاد على أساس تحري الحلال وتجاوز الحرام .
وإن علينا أن نحرر مناهجنا التعليمية من الزيوف التي فرضتها الحضارة الغربية من أجل هدم وحدتنا العامة ، وتحرير مناهجنا الاجتماعية والترفيهية من عوامل تدمير وحدة المجتمع وتكامله ولنحذر من أخطار التداخل الذي يرمي إلى تفريغ هذه الصحوة من مضمونها أو احتوائها أو تدميرها أو إجهاضها
=================
الجوع يغرس أنيابه في النيجر
الأحد :13/11/2005
(الشبكة الإسلامية) مجلة الأسرة عدد 150
المجاعة في النيجر
حذر برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة من تفاقم الأوضاع الغذائية في النيجر بسبب الجفاف الحاد وهجوم الجراد الذي اجتاحها مما عرض أكثر من 4 ملايين شخص لخطر الموت جوعًا وبالفعل حل الجفاف في ثلاثة أعوام وأدخل النيجر في دوامة طاحنة وأزمة كبيرة جعلت البحث عن الطعام الهمَّ الأول للناس.
تشكيلة السكان:
يشكل الفلاتة نسبة مهمة من مجموع الأعراق في النيجر؛ فهم في المرتبة الرابعة من حيث التعداد بعد الجرما والهوسا والطوارق، ويعتبر الفلات والطوارق من (الرعاة الرحل)، وينقسم سكان النيجر عمومًا إلى (رعاة ومزارعين)، والمزارعون هم (قبائل الهوسا)، لكن مرور أعوام من الجفاف أتعبت المزارعين والرعاة.
موت الأطفال:
- وحسب زيارة الناشط الأستاذ خالد الطويل للمخيمين في مناطق (مرادي وداكورو) فإن الأمر يبدو مروّعًا، ففي مخيم داكورو للأطفال التابع لمنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية تم استقبال 4000 حالة خلال أربعة أشهر مات منهم 80 طفلاً (أي أنه يموت طفل مسلم كل يوم تقريبًا!).
وفي مخيم مرادي 5% من الأطفال يموتون ولا يمكن إنقاذهم لأنهم يصلون وحالتهم سيئة جدًّا فكيف بآلاف القرى حيث يموت كثير من الأطفال من سوء التغذية ولم يدخلوا في الإحصائيات للبعد وعدم وجود مواصلات.
- أكثر من 25 ألف شخص مصاب بداء الحصبة، وأكثر من 77% الحالات التي سجلت في مدينة نيامي العاصمة متفشية فيها أيضًا بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن الخمسة عشر عامًا، بسبب عدم تلقيهم لأي لقاح، وأن 5800 شخص أصيبوا بالتهاب السحايا الذي قد يقتل المريض في عدة ساعات، وعدد المصابين بالتهاب السحايا تجاوز في بعض المناطق الخمس عشرة حالة لكل مائة ألف نسمة أسبوعيًا ، وفي مدينة نيامي العاصمة وحدها بلغت نسبة المصابين 17.9 حالة لكل مائة ألف نسمة!!
- تقوم نساء النيجر المسلمات بحمل أطفالهنَّ المرضى بالحصبة والسحايا ونقص التغذية لمراكز النصارى في العاصمة مشيًا على الأقدام لأكثر من 20 كيلومترًا تحت حرارة تتجاوز الخمسين درجة مئوية لعلاج من بقي منهم حيًّا!!
- بالنسبة للعائلات من حدود النيجر الشرقية مع تشاد وحتى العاصمة نيامي في أقصى الغرب بالقرب من حدود مالي وبوركينا فاسو على امتداد طريق طوله 1800 كم تقريبًا توقفنا على حالات كثيرة، بات الناس يعيشون على أوراق الشجر والحشائش منذ شهرين أو أكثر بعد نزول الأمطار.
قبل المجاعة غذاؤهم غذاء الطيور المدللة!
الغذاء الوحيد قبل المجاعة والذي يستطيع النيجيريون تحمل نفقاته هو حبوب الثخن الذي يستهلكه الكثير من سكان العالم كغذاء لطيورهم المدللة، وقد يعتبر رديئًا حتى لها، وبالتالي فإن أكثر من 150 ألف طفل بالنيجر مصابون بسوء التغذية الذي تبدأ أعراضه بضعف تام، وعدم القدرة على الرضاعة وتنتهي بتوقف الرئتين والقلب ثم الموت أمام أعين الوالدين!!
* الناس يأكلون بعض الحشائش السامة والمرة بعد غليها في الماء لمدة أربعة أيام حتى يستطيعوا أكلها بعد أن تنقص مرارتها.
* القبائل في شرق وشمال النيجر إذا وجدوا قيمة شراء الطعام فإن أكثرهم لا يستطيع نقله إلى عائلاتهم في عمق الصحراء لقلة الطرق وسوء الموجود منها ولتكاليف النقل العالية.
* الهبوط الحاد في قيمة المواشي فالبدوي يبيع أجود إبله ولا يكاد يوفر له كسوة أو غلة.(1/305)
* أكثر المتضررين من الأطفال الرضع وذلك لعدم قدرة كثير من العائلات على الحصول على الحليب المجفف؛ فالأمهات يعشن على أوراق الشجر والحشائش فلا يجد الطفل الرضيع حليبًا في صدر أمه مما يجعله يواجه الموت جوعًا.
* بعض القرى اضطر الناس فيها لحفر بيوت النمل بحثًا عن القوت.
أسباب المأساة:
- لم يهطل المطر في الموسم الزراعي في النيجر منذ فترة لتبدأ بوادر المجاعة ... حاول المسلمون مقاومتها اعتمادًا على محاصيل السنوات السابقة - بعد الله - حتى هلك كثير من المواشي؛ فالذي كان عنده 500 رأس من الإبل أو البقر مثلاً لم يبق لديه إلا النزر اليسير منها! ثم جاءت موجات الجراد التي قضت على الأخضر واليابس في بعض المناطق.
وتدخلت الطيور أيضًا لتفسد كثيرًا من المحاصيل الزراعية!!
وهناك التصحر وزحف الرمال والرياح الرملية القوية التي غطت مساحة كبيرة من الحقول الزراعية في كل من منطقة ديفا وطاوا وأكاديز؛ فأهلكت الكثير من المزروعات.
وزاد الطين بلة تراكم الديون على هذا الشعب الفقير مما جعل الكثير منهم لا يستطيع شراء البذور للزراعة!!
فضلاً عن نفاذ المخزون الاحتياطي لدى الحكومة النيجرية، واعتمادها على المساعدات العاجلة وخاصة من الدول الغربية وضعف مساهمة الدول العربية والإسلامية رغم النداءات التي وُجِّهت للمسلمين ومنها نداء رئيس وزراء النيجر وعبد الرحمن السميط رئيس لجنة مسلمي أفريقيا قبل أربع سنوات؛ حيث أنها لم تساهم إلا بـ1200 طن، أي ما يعادل 2% من المساعدات، مقابل 98% قدمها الغرب حسب إفادة رئيس الوزراء في النيجر.
- غلاء المواد الغذائية؛ فكيس الذرة البيضاء مثلاً الذي يزن مائة كيلوجرام يباع بـ26.5 دولارًا، ( حوالي مائة ريال سعودي أو أقل، أو 20 ألف فرنك أفريقي) فقط في النيجر، إلا أنه مبلغ كبير للمسلم في النيجر؛ حيث الدخل للفرد أقل من دولار في اليوم، ويخسر كثير من المزارعين أبقارهم فيبيعونها في نيجيريا المجاورة بـ15 دولارًا للبقرة فقط؛ ليشتروا بقيمتها الغذاء والبذور، وهو السعر الذي يعد أقل حتى من مصروف التربية والسفر علاوة على خسارتهم لأبقارهم!!
الجهود التي بذلت:
وجَّه رئيس النيجر (حما أحمدو) صرخة مدوية للعالم بأسره بتاريخ 6/4/2001م لإنقاذ شعبه المسلم من خطر مجاعة عنيفة تلوح في الأفق، قد تفتك يثلثي الشعب المسلم وقد أصبحت اليوم واقعًا!! وصرخة أخرى صدرت عنه بعد أقل من شهر من حدوث المجاعة لتقديم ستين طنًا من الحبوب، وثلاثة آلاف طن من بذور الذرة البيضاء والصفراء فقط، لتوزيعها على مزارعين التهم الجراد محاصيلهم لمحاولة زراعتها وتغطية جانب من المجاعة!!
وهكذا فالحكومة النيجرية تقوم بجهود جبارة رغم قلة إمكانياتها وتجاهد من أجل التقليل من مضاعفات الكارثة.
المنظمات الغربية:
وكان رئيس النيجر قد وجه انتقادًا لاذعًا للمؤسسات الغربية واتهمها بالمتاجرة بدماء الشعب النيجري، وأن حجم ما ينفق في الواقع لا يوازي ما يعلن عنه في الإعلام، وأن تدخلها جاء متأخرًا حتى تضاعفت المأساة.
كما حذرت المنظمات الدولية من خطر المجاعة بعد أن فات الوقت لتفاديها، وبالتحديد بعد مرور أربعة أشهر على الصرخة!!
معظم المنظمات الإغاثية العاملة منظمات غربية وحاضرة بقوة، يكفي مثلاً أن نعلم في منطقة غارلمي بمحافظة مارادي أن هناك مستشفى لإرسالية أمريكية به أرضية مطار، ومنظمة أطباء بلا حدود مثلاً افتتحت في تلك البلاد خمسة مراكز لرعاية الأطفال؛ فهي تستقبل أسبوعيًا ما يعادل ألف ومائتي حالة أغلبها في درجة بالغة الصعوبة، علاوة على أن الأرقام التي تقدمها ذات المنظمة تتحدث عن وفاة حوالي 10% من الوافدين إليها، وهذا بالطبع يجعلنا نطرح تساؤلات عديدة عن حالات الذين يموتون في صمت بسبب أنهم لا يعرفون لمثل هذه المراكز طريقًا!!
ولعله صار من التكرار القول بأن هذا النوع من الأخطار التي تواجه حياة المسلمين أصبح ميدان تنصير تدخله وكالات الإغاثة المنضوية تحت الصليب الأحمر الدولي أو الكنائس - هكذا علانية - ذلك فضلاً عن المضايقات المعيقة الكثيرة التي صارت تحد من نشاطات جمعيات الإغاثة الإسلامية منذ تدويل مفهوم الحرب على الإرهاب.
المنظمات الإسلامية:
التواجد العربي الإسلامي ضعيف ولا يكاد يذكر - رغم أن 98% من سكان النيجر مسلمون - إذا ما قيس وقورن بالتواجد الغربي، حيث لا يوجد تحرك واضح للمؤسسات الخيرية السعودية وفي السابق كانت هذه المؤسسات سبَّاقة إلى هذه الميادين!
لكن في الجانب الرسمي أصدر خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - قرارًا بتشكيل لجنة من الهلال الأحمر برئاسة د. صالح التويجري لزيارة النيجر لدراسة الوضع والرفع بما يلزم لإغاثة الشعب النيجري المسلم.
أما الكويت فهناك تحرك من قبل لجنة مسلمي إفريقيا وللدكتور عبد الرحمن السميط جهود مشكورة في الوصول للمنطقة وتحريك الناس إليها..
وهناك تحرك أقل من باقي الدول مثل قطر و الإمارات وليبيا والمغرب وكذلك ماليزيا.
الوضع المستقبلي:(1/306)
قد تستمر المأساة طويلاً نظرًا لخسارة كثير من المزارعين لمحاصيلهم للأسباب التي سبق ذكرها وليس هناك أي مخزون للمستقبل.
وكثير من المزارعين يتوقع ألا يكفيهم محصولهم الجديد أكثر من 4 أشهر مما يعني استمرار المأساة، كما أن جزءًا من هذا المحصول سيكون سدادًا للديون.
وهناك إمكانية لتفادي مثل هذه الوضعيات التي لا تليق بالكرامة الإنسانية، بسبب توفر موارد مائية مقبولة ممثلة في نهر النيجر الذي يمر بالبلاد والذي يعرف عنه أنه أحد أكبر أنهار إفريقيا غزارة وخصوبة، لكن هذا يحتاج إلى جهود إنمائية ضخمة.
=================
المسلمون في بلجيكا
الأربعاء:24/08/2005
(الشبكة الإسلامية)
المركز الإسلامي
بلجيكا مملكة تقع فى الشمال الغربى من أوروبا مساحتها (513ر30) كيلو متر مربع وعدد سكانها أكثر من عشرة ملايين نسمة.
وينتمي معظم الشعب البلجيكي إلى فئة الفلمنكيين الذين يشكلون حوالي 55 بالمائة من سكان بلجيكا وهم من سلالة الفرانكيين وهي قبائل جرمانية احتلت ما يعرف ببلجيكا فى القرن الخامس الميلادي ويتكلمون اللغة الهولندية.
والوالون حوالي 30 بالمائة ، ويرجع نسبهم إلى قبائل السلتية التى عاشت فى المنطقة إبان الاجتياح الفرنكى، ويتكلمون اللغة الفرنسية.
ويعيش فى بلجيكا حاليا زهاء نصف مليون مسلم حسب تقديرات المشرفين على المركز الاسلامي والثقافي في بلجيكا ، معظمهم من المنتمين إلى الجالية الوافدة من البلاد الإسلامية وتحديدا من المملكة المغربية وتركيا وألبانيا بشكل رئيسي ، إلى جانب مختلف الجنسيات الأخرى.
ويعد المركز الإسلامي والثقافي في بلجيكا أحد أهم المراكز الإسلامية فى غرب أوروبا على الإطلاق وأحد المنارات المتقدمة للدين الاسلامى فى أوروبا.
وقد أنشئ المركز عام 1936م فى مبنى صغير مستأجر فى أحد أحياء بروكسل المتواضعة.
وفى عام 1967م قام الملك البلجيكى الراحل بودوان الأول بإهداء الملك فيصل -يرحمه الله- جزءا من متحف الآثار الدائم لمدينة بروكسل الذى يقع فى أحد أجمل مواقع العاصمة البلجيكية وعلى بعد أمتار معدودة من مقر المفوضية الأوروبية والمجلس الاوروبى، ليكون بعد ذلك مسجدا ومقرا للمركز الإسلامي الثقافي.
واعترفت الحكومة البلجيكية إثر هذه المبادرة عام 1968م بالدين الاسلامى كدين رسمى فى البلاد، مما يعد سابقة فى تاريخ تعامل الحكومات والدول الأوروبية مع الحضور الإسلامى فى أوروبا.
وصادقت الدولة البلجيكية عام 1975م بإدخال دروس التربية الاسلامية ضمن البرامج المدرسية لابناء الجالية مما زاد من ثقل ومسؤوليات المركز الاسلامى والثقافى فى بروكسل.
وفى عام 1978م افتتح الملك خالد -يرحمه الله- المركز الإسلامى الجديد، الذى بدأت رابطة العالم الاسلامى بالإشراف عليه اعتبارا من عام 1982م.
وشهدت بروكسل فى نطاق تطوير نشاطات المركز افتتاح أول معهد اسلامى أوروبى عام 1983م.
وفى عام 1986م تم افتتاح أول مسجد فى مطار العاصمة البلجيكية تحت إشراف المركز الإسلامي.
ويوجد فى بلجيكا زهاء ثلاثمائة مسجد وبيت للعبادة موزعة فى مختلف أنحاء البلاد.
ويشهد الدين الإسلامى إقبالا متصاعدا لاعتناقه والدخول فيه من قبل أبناء الشعب البلجيكى وقطاعات واسعة من الأوروبيين المقيمين فى بلجيكا، حيث لا يمر يوم واحد ولله الحمد إلا ويسلم فيه عدد من أهل البلاد لينضموا الى أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
بعد أحداث سبتمبر
يقول عبد السلام العريبي من منظمة حقوق الإنسان الأوروبية ببروكسل والنشط في مجال حقوق الجاليات العربية: "إن المسلمين قبل أحداث سبتمبر كانوا يعيشون كأي أقليات دينية أخرى، تمارس عقائدها الدينية في حدود ما يسمح به الدستور من مساواة في الحقوق، باستثناء بعض التصرفات العنصرية التي كان يواجهها بعض الأفراد، والتي كانت في الغالب تصرفات فردية من عناصر يمينية متطرفة، تلك التي تعادي الأجانب بصفة عامة".
وقال العريبي إن أحداث سبتمبر تسببت في ردود فعل سلبية على الجاليات العربية مدفوعة بالدعاية الأمريكية الصهيونية بأن المسلمين وراء كل الأحداث الإرهابية، وهذا الجانب جعل الدول الأوروبية تتشدد في التعامل مع المسلمين وتضع أنشطة الجاليات تحت الرقابة، فتحظر ما تحظر منها، وتحجر على أموالها وتصادرها أو تجمدها، وفي هذا خسارة كبيرة للمسلمين في أوروبا، خاصة المنظمات التي لها توجهات خيرية في مساعدة وإنقاذ فقراء المسلمين في العالم والمنكوبين منهم.
ويضيف قائلا:"وقد ساعدت الأحداث على محاصرة المسلمين في أرزاقهم ببلجيكا، فأصبح كثير من أصحاب العمل يرفضون تشغيل المسلمين، أو حتى تشغيل كل من يحمل اسما مسلما أو عربيا، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تراكمات سلبية بمرور السنوات ليحول المجتمع المسلم في بلجيكا إلى مجتمع أكثر فقرا، وفي هذا خطورة شديدة على المجتمع البلجيكي نفسه، ولا يختلف الأمر في بلجيكا عنه في بقية الدول الأوروبية أو الغربية عامة".(1/307)
ويقول العريبي: إن هناك جانبا إيجابيا للهجمات تمثل في تسريع الحكومات الأوروبية بإعطاء المسلمين حقوقهم الدستورية كاملة، حتى لا يؤدي غياب هذه الحقوق إلى غضب وانفجار،يؤدي إلى أعمال عنف أو إرهاب، "حيث شهدنا ظهور أول مجلس إسلامي أوروبي عام في فرنسا، واتحاد لمجالس إسلامية عديدة. وهكذا كسب المسلمون ورقة مهمة ورابحة بتوحدهم وتجمعهم عبر هذه المجالس لإعلاء كلمة الإسلام وتقديمه بصورة صحيحة للغرب ".
أما كريم عبد الله وهو أستاذ في اللغة العربية وهو مسلم بلجيكي الأصل فيقول:
إن المسلمين كانوا يعيشون في سلام نسبي في بلجيكا وكل الدول الأوروبية باستثناء بعض الإرهاصات أو الاحتكاكات مع الشرطة هنا أو هناك من قبل بعض الشباب المسلم من أبناء الجيل الثاني، ولكن أحداث سبتمبر تسببت في الإطاحة بما كان يتمتع به المسلمون في بلجيكا من سلام اجتماعي، فقد صعدت الأحداث العداء ضد الإسلام والمسلمين، وجعلتهم في بؤرة اتهام دائم ومستمر من قبل السلطات، ومحل اشتباه ومصدر خوف من جهة الأوروبيين، فأصبح مشهد السيدة بغطاء الرأس يثير القلق والتوتر، ومشهد الرجل ذي اللحية يثير المخاوف من العنف والإرهاب.
ويضيف قائلا : ولكن الأحداث في ذات الوقت أحدثت نوعا من اليقظة لدى المسلمين في العالم، فبدأوا تحركات إيجابية للتوحد والتجمع معا، ومد جسور الاتصالات فيما بينهم للتشاور في شؤونهم والتعاون على ما يواجههم من حصار أو اتهامات في الغرب، كما أفرزت الأحداث عملية تصفيات للعناصر المتطرفة التي تسيء للإسلام داخل المنظمات والمؤسسات الإسلامية، فتم نبذ هذه العناصر تلقائيا حتى في داخل المنظمات والمؤسسات الإسلامية نفسها، أو تم تحييد مسار هذه العناصر وتصحيح توجهاتها، وبذلك كسب المسلمون عملية إصلاحات داخلية في مؤسساتهم في بلجيكا بصورة ملحوظة، ولكن نتائج هذه الإصلاحات لن تظهر الآن، بل ستتضح بجلاء بعد أن تنتهي هذه الموجة العالية من العداء للإسلام والمسلمين وتهدأ، وأنا أعتبرها موجة أو صرعة عداء ستهدأ بالفعل وتعود إلى معدلها الطبيعي، لأن العداء للإسلام قائم في كل زمان ومكان كما يذكر القرآن الكريم.
ويعبر كريم عبد الله عن أسفه للمؤسسات الإسلامية التي تمت محاصرتها في البلدان الأوروبية والتي أغلقت وصودرت أنشطتها، ويقول للأسف إن المساجد والمؤسسات الإسلامية والمدارس الإسلامية أضيرت ضررا نوعيا من نتائج هذه الأحداث، وقد يمر وقت ليس بالقصير قبل أن تتمكن هذه المؤسسات من معاودة نشاطها أو إقناع السلطات الأوروبية بأهدافها الإنسانية النبيلة، وأنها لا تعمل من أجل العنف والإرهاب .
عن وكالة الأنباء الإسلامية و جريدة الوطن السعودية
=================
عبد الحليم قنديل...يدين حقوق الأقليات !
الخميس :23/12/2004
(الشبكة الإسلامية)
في إطار دعوات الإصلاح السياسي..دعت بعض المنظمات والجمعيات الحقوقية في العالم العربي لمؤتمرات وندوات لما يسمى حقوق الأقليات سواء الدينية أو الطائفية أو العرقية. وقد قوبلت هذه الدعوات بانتقادات حادة، واعتبرت تكريساً للانقسام، وإشعالا للخلافات قد يؤدي في النهاية إلى تمزيق الدولة الواحدة إلى عدة دويلات، وتنفيذا للأجندة الأمريكية في المنطقة فهل النبش في قضايا الأقليات من أولويات الإصلاح..أم لزعزعة الاستقرار..أم هي فكرة إسرائيلية الصنع لتفكيك الدول العربية إلى دويلات...
ننقل هذا الحوار الذي أجرته مجلة المجلة مع عبد الحليم قنديل، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة العربي المصرية:
**هل ترى أن طرح قضايا الأقليات في العالم العربي للمناقشة خطيئة سياسية؟***
الحديث في مسألة الأقليات مغلوط، والذين يتشدقون بهذا الكلام الآن يهدفون إلى زعزعة الاستقرار واختراق المنطقة العربية لتفكيكها إلى دويلات، فالقومية العربية لم تقم على أساس عرضي، وإنما على أساس ثقافي وتاريخي، فالوطن العربي يربطه الإسلام كعقيدة والعروبة كقومية.. وعلى الرغم من أن الأكراد هي الأقلية الوحيدة إلا أن الروابط التي تجمعها بالعرب أقوى من دواعي الانفصال.
وإذا عدنا للتاريخ سنجد أن صلاح الدين الأيوبي بطل العروبة والإسلام أصله كردي، وهناك حسني الزعيم بطل سوريا. والمشكلة الكردية في الأصل ليست عربية، فالاستعمار من خلال اتفاقيتي لوزان وسايكس بيكو كان السبب في ظهور المشكلة، فقد تشتت 25 مليون كردي بين تركيا (16 مليونًا)، والعراق (4 ملايين)، وإيران (4 ملايين)، وسوريا (مليون). وقد حصل الأكراد في العراق على الحكم الذاتي عام 1975م، بينما ترفض تركيا إعطاءهم مجرد الحديث أو التعليم بالكردية.(1/308)
أما الأمازيغ (البربر) فهم مرحلة تاريخية من مراحل تطور الجزائر مثلما كان الفراعنة مرحلة من مراحل التطور المصري.. وقد امتزج البربر مع قبائل العرب مزجًا أدى إلى تعريب اللسان والفقه، بعد أن جمعهم الإسلام.. بينما الحديث عن الشيعة هدفه إثارة القلاقل بين الطائفة السنية والشيعة من أجل جر المنطقة إلى حروب طائفية، وبعد أن فشل الاستعمار الأنجلو أمريكي في إشعال تلك الفتنة بدأ البحث عن مناطق جديدة في الوطن العربي.
بالنسبة لأقباط مصر، فهم لا يوجدون في منطقة جغرافية بعينها، وليس لهم طرائق عيش مختلفة ولا سمات عرقية يمكن تمييزها عن بقية السكان.. فالحديث عن اضطهاد الأقباط حديث خرافي أساسه فكرة الانفصال السياسي والتاريخي غير الموجود في مصر.. وللسياسي الكبير مكرم عبيد مقولة مازالت تتناقلها الأجيال: "أنا مسيحي الدين، مسلم الوطن".
وإذا تحدثنا بمنطق سعد الدين إبراهيم لانقسمت بريطانيا إلى 20 دويلة وكذلك أمريكا فلا يوجد بلد في العالم يعتنق كل مواطنيه دينًا واحدًا.. وإذا عدنا إلى قضية الأقليات في الوطن العربي سنجد أن الوضع في جنوب السودان الذي يسير الآن على طريق الانفصال، مخالف لدعاة مشاكل الأقليات. فجنوب السودان متعدد الأديان والأعراق مثل شماله.. والغريب أن عدد المسلمين في الجنوب 20% أكثر من المسيحين 18%. والاستعمار الغربي وأعوانه من دعاة اضطهاد الأقليات يهدف إلى نشر ثقافات يريد بها خلع ما يعرف بالأقليات من النسيج العربي لإلحاقها بسياسة الآخر الاستعماري، ففي جنوب السودان سيتم فرض اللغة الإنجليزية مع تدفق البترول، وسيتحدث الأمازيغ الفرنسية في الجزائر.
**من وراء محاولة تفكيك الأمة العربية؟***
أمريكا وتابعتها إسرائيل، وكل ذلك يتكشف من خلال دعوى الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى إذابة الهوية العربية وفض كل ما هو إسلامي، وهذه الفكرة إسرائيلية الصنع، بدأ الحديث عنها من خلال خطة "دينو" التي تعتمد على استراتيجية شد الأطراف وتفتيت الدول العربية الكبرى إلى دويلات صغيرة، فتتحول مصر إلى ثلاث دويلات قبطية وإسلامية ونوبية. وسوريا إلى خمس دويلات، والعراق إلى ثلاث دويلات، والسودان ينقسم إلى شمال وجنوب.
**وهل هناك تمويل لإثارة قضايا الأقليات في الوطن العربي؟***
مؤسسة فورد الوثيقة الصلة بالمخابرات الأمريكية على علاقة قوية بمركز ابن خلدون منذ أواخر الثمانينات، وقد أنفقت تلك المؤسسة في الوطن العربي 15 مليون دولار، منها 5 ملايين دولار في مصر، أغلبها في الحديث عن مشاكل الأقليات، وقد اقتطع مجلس الشيوخ الأمريكي مليون دولار من المعونة الأمريكية المخصصة لمصر لمركز ابن خلدون، فيما يعد مكافأة شخصية لرئيسه سعد الدين، من أجل عناء الديمقراطية في مصر، وأنا لديَّ خطابات من أحمد الجلبي لسعد الدين إبراهيم تعود إلى عام 1994م، في هذه الخطابات كان يتم التنسيق بين الطرفين قبل مؤتمر ليماسول الخاص بمشاكل الأقليات.
**هل توجد مشاكل للأقباط في مصر؟***
مشاكل الأقباط هي نفس مشاكل المسلمين، أقباط مصر لهم مواقف وطنية مشرفة على مر العصور، فعندما حاول الإنجليز الحديث عن مشاكل الأقباط أثناء مفاوضات الجلاء، رفض الأقباط ذلك، ونحن لا ننسى موقف البابا شنودة ورفضه زيارة إسرائيل.
المجلة 1295ص5(5-11/12/2004م)
==============
القرضاوي .. يحلل وضع الأقليات المسلمة في الغرب
الاثنين :19/08/2002
(الشبكة الإسلامية) لندن ـ حافظ الكرمي
في الكلمة التي ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في افتتاح الملتقى التاسع للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث, فصل فيها توجيهاته العامة للمسلمين في الغرب بشأن علاقتهم بالمجتمعات التي يقيمون بين ظهرانيها, وتشريح واف للوضع الدولي الراهن.
وقد ألقيت هذه الكلمة في العاصمة الفرنسية باريس ، خلال احتفال حاشد حضره عدد كبير من المسلمين ومسؤولي المؤسسات الإسلامية والفقهاء والباحثين وأعضاء السلك الدبلوماسي، احتفاء بالدكتور يوسف القرضاوي وعدد من العلماء المسلمين, الذين زاروا باريس لعقد أعمال الدورة التاسعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
ابتدأ الشيخ القرضاوي كلمته بالقول : " خير ما أحييكم به بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن إخوانكم في المشرق العربي؛ هو تحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنها فرصة طيبة مباركة أن تلتقي هذه الوجوه المشرقة بنور الإيمان، بسبب هذه الدورة التاسعة لإخوتنا أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في باريس، عاصمة فرنسا، والتي تضم أكبر أقلية إسلامية في أوروبا، والتي انعقدت فيها الندوات الشرعية منذ أوائل التسعينات, لبحث مشاكل الأقليات المسلمة في أوروبا، حينما التقيت عدداً من العلماء لبحث هذه القضايا، منهم من قضى نحبه ولقي ربه؛ الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله, والشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله والشيخ مناع القطان رحمه الله والشيخ سيد الدرش رحمه الله، ومنهم من ينتظر؛ الشيخ عبد الله بن بيّه, والفقير إلى الله تعالى, وعدد من الإخوة الموجودين هنا".(1/309)
وأضاف قائلا : " فلفرنسا فضل من هذه الناحية، كما أنّ لها فضل أشار إليه أخي الدكتور طه (جابر العلواني), فهي تحاول الآن أن تقف وقفة مستقلة غير تابعة للسياسة الأمريكية, التي سار في ركابها الكثيرون، بالحق وبالباطل، ونحن لأجل هذا نحيِّي فرنسا, ونعقد هذا اللقاء في فرنسا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكون هذا اليوم يوم خير وبركة على المجموعة الإسلامية في هذه البلاد، ولا أقول الجالية الإسلامية، لأنني لا أفضل أن نستخدم كلمة الجالية، وهي التي تعني أنها ستجلو، لكنها أصبحت مستقرة, وجزءاً من كيان هذه البلاد، فكيف تكون جالية؟!. نقول المجموعة الإسلامية, أو الأقلية الإسلامية، ونسأل الله أن يكون هذا اللقاء خيراً وبركة على إخواننا هنا في فرنسا، وعلى إخواننا في أوروبا، وفي الغرب بصفة عامة ".
وأثنى الدكتور القرضاوي على الصحوة الإسلامية المعاصرة التي كان لها بعد الله الفضل في إنشاء المؤسسات لحضانة المسلمين في بلاد الاغتراب فقال : " كان من بركات الصحوة الإسلامية أن تقوم مؤسسات إسلامية شتى. وفي فترة من الفترات، الذين هاجروا من المسلمين ضاعوا. هاجر كثير من المسلمين إلى استراليا وضاعوا تماماً، وتجد لهم مساجد هناك بلا مصلين، وهناك مسلمون ذهبوا إلى الأرجنتين وأمريكا الشمالية، والجيل الأول ذهب تماماً وتلاشى، ولكن في عصر الصحوة الإسلامية، حينما بدأ المسلمون يدركون أنهم مسلمون، وأنهم يتميزون بإسلامهم، وأنّ هذا الدين يفرض عليهم واجبات, ويلزمهم بأوامر ونواه؛ بدأ المسلمون يشعرون بهويتهم، ويحسون بماهيتهم، فبدؤوا ينشؤون المؤسسات, التي تحفظ لهم كيانهم ووجودهم الإسلامي المتميز.
كانت هناك مؤسسات عدة؛ أنشؤوا المساجد ليقيموا فيها الصلاة، وأنشؤوا المدارس ليعلِّموا فيها الأبناء، وأنشؤوا الأندية ليرفِّهوا فيها عن أنفسهم، وأنشؤوا الجامعات لتتلقف أبناءهم من المدارس، أنشؤوا روابط علمية للأطباء والمهندسين والعلماء والاجتماعيين وغير ذلك في بلاد شتى. أنشؤوا الأوقاف الإسلامية المختلفة، وأنشؤوا الكليات، كالمعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في فرنسا. أنشؤوا هذه المؤسسات حتى يحافظوا على وجودهم، وليس معنى ذلك أن ينعزلوا عن المجتمع، فالعزلة هي الموت، وإنما أن يندمجوا في المجتمع دون أن يذوبوا فيه: هذه هي المعادلة الصعبة.
فالمعادلة الصعبة؛ كيف أن تندمج في المجتمع، وتعيش فيه، وتختلط بأهله، وتؤثر فيه، دون أن تفقد إسلامك؟. كانت هذه المؤسسات كلها تعمل على تحقيق هذه المعادلة: محافظة بلا انغلاق، وانفتاح بلا ذوبان.
ورفع الأستاذ الشيخ شعار " الاندماج دون ذوبان "، فقال : " المسلم يحافظ على عقيدته, وشعائر دينه, وحسن سلوكه، دون أن يتأثر بالموجة التي حوله، وهي من آثار فلسفة الحضارة الغربية، وهي التي يقول بعضهم إنها حضارة مسيحية، وهذا ليس صحيحاً. بعضهم يقول: إنها ليست حضارة المسيح ابن مريم، وإنما هي حضارة المسيح الدجال. لأنّ المسيح ابن مريم قامت رسالته على الزهد في الدنيا, وعلى المحبة, وعلى السلام، والحضارة الغربية لم تقم على الزهد في الدنيا، وتقوم على الإباحية للأسف، وتقوم على التبذير والإسراف المادي. فأي متديِّن، ولا أقول المسلم وحسب، إذا انساق وراء هذه الموجة ضاع دينه, وضاع إيمانه, وضاعت أخلاقه، ومن هنا كان هم هذه المؤسسات في عصر الصحوة الإسلامية المعاصرة أن تحافظ على هوية المسلم, وعلى شخصيته المتميزة، ولكن بشرط ألاّ ينعزل عمن حوله ".
وأشار الى أن الإسلام دين انتشاري بطبيعته لا يمكن أن يكون انعزاليا أو يدعو أتباعه للانعزال فقال فضيلته :" الإسلام ليس ديناً انعزالياً أو انغلاقياً، فهو انتشاري بطبيعته، شأن المسلم: أصلح نفسك وادعُ غيرك، "، ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين". كل مسلم داعية، وبعض الناس يتصوّرون أنّ الدعاة هم المشايخ وحدهم، كلاّ؛ كل مسلم داعية، فالمسلم مخاطبٌ بقوله تعالى: "ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة". هذا خطاب لكل مسلم. والله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن". فلا يجوز للمسلم أن يعيش لنفسه؛ لا يفكر فيمن حوله ولا يفكر بدعوة الناس، ولذلك كانت مهمة المؤسسات الإسلامية أن تعمل على أن يندمج المسلم في المجتمع, وألا يفقد هويته وشخصيته، وأن يظلّ مستمسكاً بالعروة الوثقى، وأن يظلّ داعية إلى الله".
وعن المؤسسات التي أنشئت لخدمة الأقليات المسلمة في بلاد الغرب قال الشيخ :" وكان من المؤسسات المهمة, التي فكّر فيها الأخوة تأسيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، استكمالاً لما ينشدونه من تكامل؛ بين المؤسسات الفكرية والعلمية والثقافية والدعوية والدينية والاجتماعية، فكان لا بدّ من هذا المجلس ليقوم على فقه جماعي، واجتهاد جماعي، بالنوازل, التي تنزل بالمسلمين في هذه البلاد، والمشاكل التي تعترض حياتهم ".(1/310)
وأضاف فضيلة الشيخ القرضاوي : " لا شك أنّ هناك قضايا مشتركة بين المسلمين جميعاً، ولكن هناك قضايا في مثل هذه المجتمعات تكون أشد, وأكثر أهمية, عما في البلاد المسلمة والمجتمع الإسلامي. فتحتاج إلى فقه خاص، يقدِّر الظروف المحلية، وعندنا من القواعد الإسلامية ما يبرِّر هذا وما يسوِّغه، أنّ الفتوى تتغيّر بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، كلنا يحفظ هذه القواعد، لكن المشكلة أننا عند التطبيق قد لا نتفق، والمجلس (الأوروبي للإفتاء والبحوث) يحاول أن يطبِّق هذه القاعدة، وهو يتبنى التيسير ما أمكنه التيسير، وتبنِّي التيسير ليس بهوىً، فنحن مأمورون بهذا، فالمنهج النبوي نفسه يأمرنا أن نتبنّى التيسير، كما في الحديث الذي رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا". وحينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري أوصاهما الوصية الجامعة المركّزة، "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
ولذا فإنّ هذا المجلس يحاول أن ييسِّر على الناس، لأنّ هذا الدين لم يأت لإحراج الناس، والله تعالى يقول: "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج"، وهذا نفي قاطع، "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما جعلتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين".
وحول حاجة المسلمين إلى المؤسسات التي تقوم بخدمة المسلمين في العالم الغربي قال الشيخ : "نحن بحاجة أيها الإخوة إلى المؤسسات، ونريد أن نجمع المسلمين, وأن نوحِّد الرؤى الشرعية ما أمكننا، أو نقرِّبها. لا يمكن أن يجتمع الناس، ولا حرج أن يختلف الناس، والله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين، المهم أن نبحث (في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) بروح التجرّد والإخلاص لله، ونسعى إلى السداد والصواب.
من يجتهد ويخطئ ليس معذوراً وحسب، بل مأجور أيضاً، أي تحريضٍ على إعمال الفكر أكثر من هذا؟!.إننا نحب الخير للمسلمين، وخصوصاً في هذه الديار، في أوروبا، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا، وبخاصة في هذه الفترة العصيبة.
وحول أثار أحداث الحادي عشر من سبتمبر على المسلمين عامة وعلى المسلمين في الغرب خاصة وضح الشيخ القرضاوي ذلك بقوله : "لقد حدثت خلال السنة المنصرمة أشياء لم نكن نحلم بها، أو تخطر على بال، فما حدث في 11 أيلول (سبتمبر) كان فاجعة، وقدّر الله وما شاء فعل. حادث واحد غيّر العالم. والمشكلة أنّ الضحية في كل ذلك هم المسلمون والعالم الإسلامي، وتم تحميل العالم الإسلامي المسؤولية.
طبعاً من قبل كان هناك إرهاصات، مثل الحديث عن صراع الحضارات، أو ترشيح الإسلام ليكون العدوّ الجديد بعد الاتحاد السوفياتي. الإسلام يُحمّل مسؤولية الأحداث, التي لا نعرف حتى الآن من فعلها. هم يقولون إنّ أسامة بن لادن وراء ذلك؛ هل وكّلت الأمة أسامة بن لادن ليفعل هذا الأمر؟!
رغم ذلك يصبح الإسلام هو المتهم، ويُطلب من المسلمين أن يُغيِّروا مناهجهم وتعليمهم ومدارسهم الدينية؛ هذا تجبّر في الأرض، استكبار في الأرض بغير الحق "فأما عادٌ فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشدّ منا قوة، أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة"، "كلاّ إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى".
كان من فضل الله على الناس أن يوجد قطبان يتنازعان، فتنازع الأقطاب الكبيرة رحمة للضعفاء، وكان من دعاء السلف الصالح "اللهم اشغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين".
وعندما يحدث التجبّر في الأرض؛ تصبح الأمة الإسلامية كلها موضع اتهام، فيُتّهَم المسلمون بالإرهاب، ويُتّهم الفلسطينيون بالإرهاب، وتُتّهم حماس وحزب الله والجهاد وكتائب الأقصى وفصائل المقاومة بالإرهاب، ويُوصَف شارون وحده بأنه "رجل السلام"، أليس هذا هو العجب العجاب؟! إنه منطق القوي والضعيف، الذئب والحَمَل.
نحن مؤمنون بأننا على الحق. نؤمن بأننا أصحاب حق، ولكنّ هذا الإيمان لا يجعلنا نتعالى على غيرنا، بل نؤمن بالحوار، ونعتقد أنّ اختلاف البشر في أديانهم واقعٌ بمشيئة الله تعالى "أفأنتم تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين"، "ولو شاءَ اللهُ لجعلَ الناسَ أمةً واحِدَةً ولا يزالونَ مُختلِفينَ ولذلك خلقَهم". ثم إنّ الذي يحكم بين الناس هو الله تعالى، وليس البشر.
والإسلام ينظر إلى الإنسان من حيث هو إنسان، كونه مخلوقاً مُكرّماً مستخلفاً في الأرض، "ولقد كرّمنا بني آدم .."، "وإذ قالَ ربّكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ..".
روى البخاري عن جابر أنه مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فوقف لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها جنازة يهودي، فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أليست نفساً؟!". فلكل نفسٍ حرمة ومكانة.
ونحن علينا أن نعدل حتى مع أعداء المسلمين "ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".(1/311)
وفي آية كريمة هي دستور للعلاقة مع غير المسلمين "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتُقسِطوا إليهم ..".
وحول نظرة الإسلام الى الآخرين قال الشيخ : " لأنّ الإسلام ينظر إلى أهل الكتاب، وخاصة المسيحيين، نظرة فيها الكثير من المودّة "ولتجدنّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، وفي الحديث الصحيح "أنا أوْلى الناسِ بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة". وفي القرآن الكريم سورة اسمها سورة مريم، أم المسيح عليه السلام، وهناك سورة أخرى باسم أسرة المسيح هي سورة آلِ عمران.
ينبغي علينا أن نكون متواصلين مع غير المسلمين، وهو ما ينبغي, خصوصاً على الأقليات المسلمة، فالإسلام دعوة عالمية، ورسالة عالمية، "وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين".
علينا أن نبلِّغ الدعوة الإسلامية والرسالة الإسلامية إلى مَن حولَنا، وخاصة في هذه المجتمعات (الغربية)، وهذه دعوة عالمية يجب أن نحملها.
وأنا أعتقد أنّ الإسلامَ هو رسالة السلام والخير، وهو سفينة الإبحار, وطوق النجاة للغرب والبشرية بصفة عامة. لن تجد البشرية السلام الحقيقي، والأمن الحقيقي؛ أمن النفس، وأمن المجتمع، وأمن البشرية؛ إلاّ بالإسلام، حينما يُطبّق الإسلام الصحيح، وبمنظور صحيح, وفق القرآن والسنة، وبعيداً عن تعصّب المتعصبين، وتشدّد المتشددين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين " .
===============
الأقليات في المغرب العربي .. أزمة هوية أم ثراء ثفاقي ؟
الثلاثاء:18/06/2002
(الشبكة الإسلامية) - الرباط
سؤال الأقليات العرقية في المغرب العربي يثير حساسيات مستفزة، يرفض كثيرون مجرد مناقشتها، علمًا بأن تسمية "المغرب العربي" لا يستسيغها جانب من أبناء المنطقة، ويفضلون عليها تسمية "المغرب الكبير"، ويعتبر كثيرون هنا أن إثارة هذا الموضوع في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي أمر غير مرغوب. وإننا اليوم في أمس الحاجة إلى التماسك بدل التفرقة التي نعاني منها. كما أن مسألة الانتماء العرقي لا يمكن بالضرورة أن تفرق أقواماً يجمع بينهم الدين، مذكرين بقوله تعالى :" إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
أية أقلية عرقية ؟
يتجاهل كثيرون وجود أقلية عرقية تتشكل من مجموعات زنجية وفدت من جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى في حقب تاريخية مختلفة، خاصة حين كانت حدود الإمبراطورية المغربية تمتد إلى تخوم السودان، لكن هذه الأقلية ذابت داخل المجتمع المغربي بشكل تام، ولم يبق لها أثر إلا في بعض الأسماء الزنجية مثل "مامادو" و"داودا"، وفي فولكلور "كناوا" الذي تحيلنا آلاته وإيقاعاته وكلماته على غينيا والنيجر بصفة خاصة، ويفسر الباحثون عدم تكتل عناصر هذه الأقلية بانتفاء مدعاة التكتل الذي يتشكل حين تكون الطائفة مهددة في وجودها، وساهم في هذا الانصهار أن الإشكال العقدي كان محلولاً، فهم مسلمون اندمجوا وتصاهروا وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع المغربي الموحد.
بين العرب والأمازيغ
يصعب الحديث في المنطقة المغاربية عن وجود أقلية عرقية، رغم أن بعض المتعصبين للأمازيغية (تسمى خطأ البربرية) يعتبرون العرب أقلية عرقية، كما يعتقد العروبيون أن الأمازيغ أقلية.
ويجمع الباحثون أن القضية الأمازيغية لم تكن في يوم من الأيام مطروحة في هذه المنطقة، بدليل أن الأمازيغيين ظلوا يتكلمون لغتهم على امتداد القرون، ويتعايشون مع العرب، وحين نتحدث عن أمازيغ وعرب، فإن ذلك يكون تمييزا اجتماعيا، أكثر منه تمييزًا عنصريًا أو عرقيًا.
الباحث الأمازيغي محمد شاكر يوضح أننا لما نتحدث عن الهوية المغاربية، فإننا نعني كافة مكوناتها الإفريقية والعربية والأمازيغية والأندلسية، مؤكدا أن الإسلام ليس مجرد مكون من مكونات الهوية، بل أسمى من ذلك، إنه عقيدة جامعة تلتقي عندها كل هذه المكونات، أو لنقل : إنه أساس عقدي لهذه الهوية، خاصة وأن الإسلام لم يفرض نفسه بحد السيف على الأمازيغيين، وإنما هم الذين تبنوه ونشروه، ومعظم الدول التي تعاقبت على حكم المغرب كانت أمازيغية، ويكفي أن نذكر أن طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وابن تومرت هم أمازيغيون، ساهموا في حماية الإسلام في الأندلس وفي نشره في عدة دول إفريقية، وفي نجدة الخلافة الإسلامية في المشرق.
هناك بعض النزعات الشوفينية التي تطرح الأمازيغية في تعارض مع الإسلام، أما الأمازيغية كمطلب ثقافي فإنها لا يمكن أن تتعارض مع الإسلام، بل إنها تحتضن الإسلام، والإسلام يحتضنها.
الدكتور عبد القادر عمارة، عضو معهد الأبحاث والخبرات في المغرب ومستشار المنظمة العالمية للعلوم، يطرح هذا الإشكال متسائلاً : من هو الأمازيغي اليوم في المنطقة؟ ومن هو العربي؟ هناك أرقام غير مؤكدة تشير إلى أن أكبر تجمع للأمازيغ يوجد في المغرب بأكثر من 12 مليون نسمة، تليه الجزائر بحوالي ستة ملايين، لكنها تبقى مجرد أرقام بلا دلالة، لأنه من الصعب أن نجد اليوم في المنطقة أمازيغيًا خالصًا أو عربيًا فذاك أمر يشكك فيه الباحثون.(1/312)
ومعروف أن هناك قبائل عربية جاءت من المشرق واستوطنت مناطق كان يسكنها الأمازيغ، فـ"تمزغت" (صارت أمازيغية) لسانًا وعادات وتقاليد، كما أن هناك قبائل أمازيغية اختلطت بالقادمين من شبه الجزيرة العربية فتعربت، والغريب أن في بعض المناطق الأمازيغية نجد شرفاء ينتسبون لآل البيت، وهو ما يدل على أنهم في الأصل عرب " تمزغوا".
من الناحية العرقية الخالصة يصعب الآن التحدث عن عربي خالص أو أمازيغي خالص بعد كل هذه القرون من التعايش والامتزاج، ولكن يمكن أن نتحدث عن ثقافات وعوائد وتقاليد وفنون أمازيغية، كما نستطيع أن نميز وجود ثقافة وعوائد وتقاليد وفنون عربية.
فهناك مجموعة من الأعراق امتزجت وانصهرت في بوتقة الإسلام، وأصبح الذي يوحد المغاربة هو الإسلام بغض النظر عن ثقافاتهم وعوائدهم.
وبالرجوع إلى تاريخ المنطقة، نسجل أنه مع وصول طلائع الفتح الإسلامي القادمة من المشرق وجدت في استقبالها أبناء البلد من الأمازيغ، الذين آمنوا بالرسالة المحمدية، وآووا الدعاة، ولما جاء المولى إدريس مؤسس الدولة الإسلامية في المغرب، زوجوه كنزة، بنت واحد من كبار شيوخهم، فتشكلت علاقات مصاهرة هي أعلى مستويات الاندماج، وساهم البعد الإسلامي في تيسر هذا الاندماج، على أن اعتبار هذا الدين الحنيف جاء للعالمين كافة، عربهم وأعاجمهم، وهذا الاندماج دفع الأمازيغ أنفسهم إلى الانخراط في عملية نشر الدين الإسلامي.
الأثر الاستعماري
أمازيغ المغرب لم يطرحوا موضوع الهوية الإثنية، في أي وقت من الأوقات، إلا في عهد الحماية الاستعمارية، حين سعى الفرنسيون إلى شق الصفوف، فقاموا عام 1930 بتشريع ما يعرف باسم الظهير (القانون) البربري لاستغلال النزعة الإثنية، بدعوى وجود عرب تحكمهم شريعة الإسلام، وأمازيغ تحكمهم أعرافهم وتقاليدهم التي ادعوا أن الإسلام قضى عليها وهو ما واجهه المغاربة بمختلف شرائحهم وطبقاتهم، عربهم وأمازيغهم، وكان سببًا مباشرا في ظهور الحركة الوطنية.
بعد ذلك يلاحظ أن محاولة إحياء النزعة الإثنية خنست بضعة عقود، رغم قيام الفرنسيين بتأسيس "الأكاديمية البربرية" في باريس، قبل أن تعاود هذه النزعة ظهورها في الأعوام القليلة المنصرمة، مع ظهور بعض الجمعيات التي أصبحت تتحدث عن الهوية الإثنية الأمازيغية، وعن السكان الأصليين، وعن الغزاة العرب، وعن سيطرة اللغة العربية وتهميش "اللغة الأمازيغية" أو اللهجات الأمازيغية، وهذه إشكالية طارئة تكتنفها مجموعة من النقاط الغامضة، سواء على مستوى توقيتها، أم على مستوى طرحها المذهبي والإيديولوجي، أو على مستوى آفاقها المستقبلية.
وتذهب هذه التوجهات المشبوهة إلى حد التحدث عما يسمى بـ"بلاد تامزغا" أو "الوطن الأمازيغي الكبير" الذي تدعي أنه يمتد من سيوا في مصر إلى جزر الكناري بالمحيط الأطلسي، وتطرح القضية الأمازيغية في إطار ما يسمى بـ"قضية الشعوب الأصلية" وهي نزعة تسعى إلى تفتيت المنطقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الحالة ليست خاصة بهذه المنطقة، فهناك اليوم مد دولي، يتركز في العالم الإسلامي أكثر من غيره عن إحياء بعض النعرات الشعوبية التي عرف التاريخ الإسلامي جزءًا منها، ولا شك أن هناك أيادي خفية تحرك هذا المد لغايات معينة، والمؤسف أن كثيرا من الحركات ذات الطابع التجزئي موجودة في العالم الإسلامي، انطلاقا من الصحراء الغربية إلى تيمور الشرقية، مرورًا بجنوب السودان وكشمير وبلاد النوبة والطوارق..
ويبدو أن هذه الأيادي الخفية غير البريئة هي التي تحرك الحديث عن الهوية الإثنية الأمازيغية، وهو حديث يكتنفه الغموض، لأن هناك من يريد أن يتحدث اليوم، واليوم فقط، عن عرق أمازيغي خالص هو الغالب، وعن عرق عربي غزا المغرب يشكل أقلية، بل ولا يتورع بعضهم في الحديث عن استعمار وجود، واستعمار لغة، واستعمار ثقافة، ويحاول أن يمحو جزءا من تاريخ المنطقة تعايشت فيه هذه الأعراق قرونا واندمجت، وكونت حضارة بلغ مدها وسط أوربا وأعماق إفريقيا.
ولإزالة كل لبس حول الموضوع، يوضح الباحث أنه إذا كان المقصود بالأمازيغ الوجود الجغرافي والتراث الثقافي والأعراف والعوائد، فهذا مطلب مشروع لا إشكال فيه، لأن الإسلام لم يأت للقضاء على الثقافات الموجودة، ولكن إذا كان الغرض إثارة نعرة عنصرية تجزيئية تستهدف تقسيم المنطقة إلى كيانات صغيرة، والدفع بالسكان في أتون حرب أهلية، فهذا مرفوض من أهل المنطقة، عربًا وأمازيغ.(1/313)
والواقع أن الجمعيات التي تثير المسألة الأمازيغية في المنطقة، وهي حوالي مائتين تتجمع في ما يعرف باسم "الكونغريس الأمازيغي العالمي" تستفيد من تضخيم إعلامي، وهي أسماء أكثر منها مضامين أو منخرطين، خاصة وأنه في المغرب مثلا يمكن أن تؤسس الجمعية بسبعة أشخاص، وقد تسلط عليها الأضواء فتصبح معروفة إعلاميا وإن كانت لا تمثل شيئاً، وبالتالي فإن تضخيم أعداد هذه الجمعيات لا معنى له بحجة أن معظم الأمازيغيين، مثقفين وسياسيين ورجال أعمال ، يرفضون التطرف العرقي الذي تدعو إليه هذه الجمعيات. ويقول سياسي أمازيغي : إن الاحتكام في هذا الصدد يجب أن يكون لنبض الشارع المغاربي الذي لا يمكن تحريكه إلا بقضايا كبرى مثل الهوية الإسلامية.
والملاحظ أن معظم الجمعيات الأمازيغية أسسها قدماء الحركة اليسارية بعدما انحسر المد الاشتراكي وانكشفت ادعاءاته، وهم يسعون إلى استغلال غضب الشباب الذين تم إقصاؤهم من العملية التنموية، لكن التجاوب مع دعواهم الباطلة يظل محدودا جدا، حتى إنهم حين نادوا قبل عامين لمظاهرة أمازيغية لم يستجب لها سوى بعض العشرات.
وتجدر الإشارة إلى أن كبار الفقهاء الأمازيغيين، كانوا - ولا يزالون - ضد هذه النعرات، من العلامة محمد المختار السوسي الذي وقف على رأس المعارضين للظهير البربري إلى الشيخ عبد السلام ياسين زعيم جماعة العدل والإحسان، إلى الشاب سعد الدين العثماني نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إضافة إلى العديد من القيادات السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية ، بل إن هؤلاء، وغيرهم كثير، يدافعون في الوقت نفسه عن اللغة العربية ويتكلمونها .
ويطرح عدد من الباحثين علامات استفهام كثيرة حول تفجر الأحداث التي تشهدها منطقة القبائل الجزائرية في الوقت الراهن، بل ولا يتردد بعضهم في اعتبار ذلك محاولة لمحاصرة المد الإسلامي في هذا البلد
=================
مشاكل الأقليات الإسلامية بأوروبا
الخميس :10/05/2001
(الشبكة الإسلامية) الرياض - وكالات
مشكلات الدعوة للإسلام في أوروبا جرى استعراضها في دراسة للباحث توفيق السديري ، وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف السعودي ، حيث بين أن أهم المشكلات تتمثل في تعدد المناهج الدعوية وعدم وجود مرجعية إسلامية يلجأ إليها الدعاة وأبناء الأقليات ، كما أظهرت الدراسة وجود إنحراف عقدي داخل تجمعات الأقليات المسلمة ، ونزوح الحزبية الدعوية إليهم .
ومن ناحية أخرى أوضحت الدراسة أن زواج المسلم من غير المسلمة ، من المشكلات الاجتماعية الكبيرة التي تواجه الدعوة في مجتمع الأقليات ، إضافة إلى ما يمثله وجود جماعات ضغط مسلمة في المجتمعات الأوروبية من مشاكل سياسية مع ضعف تواصل الأقليات مع الأمة المسلمة في العالم الإسلامي أما المشكلات الاقتصادية فتتمثل في عدم وجود مؤسسات اقتصادية تخدم أغراض الدعوة وسؤ إدارة أموال التبرعات بسبب الضعف الفني وعدم التكاتف والتخطيط الاقتصادي .
وأوصى الباحث بزيادة الاهتمام بتأسيس المدارس الإسلامية وإقامة المؤسسات العلمية لأبناء الاقليات المسلمة في أوروبا ، إضافة إلى تخصيص منح دراسية لأبناء الاقليات في جامعات الدول المسلمة وتشكيل مؤسسات إجتماعية بهدف معالجة مشاكل أبناء الاقليات وتوجيههم الوجهة الصحيحة ، وإقامة مؤسسات وقفية لخدمة أبناء الاقليات ، وإنشاء مؤسسات استثمارية خاصة ، وتفعيل بعض المؤسسات القائمة .
كما شددت الدراسة على ضرورة ايجاد مؤسسة تنسيقية بين المنظمات والجمعيات والمراكز الإسلامية في دول أوروبا ، إضافة إلى الحاجة لإيجاد إعلام سياسي فاعل .
ويذكر أن الباحث نال في هذه الدراسة درجة الدكتوراة .
===============
المقدسات والرسول.. ورقة في إدارة الأزمة
وسام فؤاد: إسلام أونلاين.نت
وحدة البحوث والتطوير
تابعت إسلام أونلاين.نت بكل اهتمامها أزمة التهجم على الرسول على المسرح الأوروبي، وكان من ردود فعلها المباشرة في هذا الصدد أمران، أولهما تمثل في إعادة تدوير منتجاتها التي تخص الرسول وسيرته ورمزيته ومعالجة الشبهات التي أثيرت حوله، والتي كانت أحد محاور اهتمام مكوناتها ذات المحتوى الشرعي والدعوي، بل وسائر مكوناتها المرتبطة بعلاقة مع أي من القضايا التي أثيرت حول الرسول. وثاني الأمرين أن أقدمت الشبكة على إنشاء موقع خاص متعددة اللغات للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام بشكل يناسب غير المسلمين وثقافتهم وقضايا العصر.(1/314)
غير أن هذا المستوى من ردود الفعل ترى إسلام أونلاين.نت أنه مستوى تكتيكي للتجاوب مع الأزمة في إطار السعي لتعظيم المكاسب من وراء إثارتها، محاولة أيضا - في نفس الوقت - تجنب أن يصدر الموقع المنتظر بصورة ردة الفعل، بل بصورة العرض الشامل الذي يقوم على استقراء حقيقة احتياجات الأقليات المسلمة في دول الغرب التي تشهد احتكاكا ليس من المنظور له أن ينتهي بين المسلمين من جهة وبين تيارات اليمين التي تتجاهل اعتبارات الإنسانية وحقوقها في تعاملها مع المسلمين بخاصة والمتدينين بعامة، وتركز على اعتبارات قومية نتمنى - لصالح الجماعة الإنسانية ألا تنحط لدرك العنصرية. ولعل الوعي بضرورة هذا الموقع ما دفع إسلام أونلاين.نت للتأكيد على أن يكون فريق العمل لكل لغة من أهلها؛ فالأمر لا يتطلب الإلمام باللغة فقط، بل بالثقافة أيضا "بلسان قومه".
ومن ناحية ثانية، أدركت إسلام أون لاين .نت أهمية النخبة الإعلامية في غدارة الحوار حول قضية الإسلام ومبادئه ومقدساته، وأسفر هذا عن إنتاجها مبادرة لمنتدى الفهم المشترك بين الإعلاميين الغربيين، وهو المنتدى الذي يبدأ أولى مراحله مع الصحفيين الدانمركيين، ثم سيتسع تدريجيا بحسب أجندة الأحداث، ويأخذ المنتدى شكل جلسات أو ورش عمل متبادلة. وتجري الآن ترتيبات تحويل هذا المنتدى لواقع إليكتروني فور أن تتوفر بقية موارده وتأخذ فعالياته حيز التنفيذ.
وإن كان هذا لا يعني أن إسلام أونلاين.نت ترى أن العمل أونلاين هو منتهى التعاطي مع الأزمة، بل هو آلية اتصالية ثورية تتيح مساحة أوسع وآفاق أرحب من التواصل والتعاون والتحاور، ولا تغني عن الحضور المؤسسي على أرض الواقع، وإن وجبت الإشارة إلى أن شبكة الإنترنت يمكن أن توفر لهذا الحضور المؤسسي قدر عال من الفعالية من خلال آليات التدريب والاتصال ونشر وتداول الأفكار وإثارة الحوار حولها.. وغيرها مما تتيحه الشبكة من إمكانيات تستطيع إسلام أونلاين.نت توفيرها باعتبارها بيت خبرة في هذه المساحة.
كلمات في منهج إسلام أونلاين.نت حيال القضية
لكي يكون الكلم طيبا في سياقه الطيب الذي تشارك فيه الورقة بجهد المتواضع لله؛ فعليه أن ينضبط برؤية واضحة، تسهل مناقشتها، كما يسهل تقويمها عند تبيان موطن لوهن فيها، ويسهل أيضا تحويلها لأهداف يسهل قياس نضجها ولياقتها في إطار فقه الواقع كما يسهل تنفيذها. ولهذا نكتب هذه الكلمات في المنهج الخاص بإسلام أونلاين.نت.
ولعل أول ما نتحدث عنه في هذا المقام إصرار إسلام أونلاين.نت على أن يكون ثمة تطابق قدر الإمكان بين عالم الأفكار وعالم الأحداث، ذلك التطابق الذي لا يتم إلا من خلال تشغيل المفاهيم والأفكار والأطروحات الاجتهادية التي تنتج عن تشاور علماء الأمة، بما لا يجعل جهود علماء الأمة ومفكريها تحليق في سماوات لا تحتك بالواقع ولا تدرك فرصه وقيوده، وبما لا يجعل حركة المسلمين وقياداتهم خبط عشواء بلا وجهة أو إمكان مراجعة.
ويرتبط بهذا المنهج الإشارة إلى أن آليات المنهج يتجاوز إدلاء علماء الشرع وحدهم بدلوهم؛ بل يتضمن تشارك المفكرين وعلماء الاختصاص معهم في هذه القضية التي تخص قضايا اجتماعية تتعلق بشعوب متفاوتة وثقافات متباينة ومجتمعات سياسية أخرى لها معطياتها الاجتماعية الخاصة التي تحتاج لمتخصصين في التعاطي معها يتكاملون في تعاطيهم هذا مع رؤى أصحاب الفضيلة علماء الشرع ومتخصصيه.
وتستقيم إسلام أونلاين.نت على منهجها في السعي الحثيث للوصول لهذا التطابق من خلال استمرار ودينامية مناقشة الاجتهادات المخلوص إليها وديمومة تقويمها ومراجعة تطبيقها تحريا لإسباغ الرشادة والاستقامة في سلوك الحركة المسلمة.
والملمح المنهجي الثاني في مسلك إسلام أونلاين.نت يتمثل في عدم الاستسلام للحدث كمحدد أساسي لطرح توصيف ثم تفسير للأزمة انتهاء لبناء رؤية التعامل معها وما يرتبط بهذه الرؤية من تفصيلات. فالأساس في بناء النموذج الإدراكي المقترب من المثالية محاولة قراءة كامل تفاصيل مشهد الأزمة؛ مما يوفر رؤية أعمق وأشمل. وعليه، سترصد الورقة رؤيتها للتفسيرات المطروحة للأزمة، لكنها ستحاول تجاوزها من خلال طرح نموذج ليس تكامليا بين الرؤى، بل سيكون الطرح أحيانا نقديا لبعض الرؤى حينا، ومكملا حينا آخر.
الملمح المنهجي الثالث يتمثل في توفير اقتراب تكاملي للتعاطي مع المنتجات الآنية والمتجددة للأزمة. يغلب على هذا الاقتراب أن يلتحم بالبعد الثقافي للظاهرة باعتباره البعد الرئيس، ثم يلتحم ببقية الأبعاد التحاما وظيفيا إستراتيجيا، بما تعنيه كلمة إستراتيجي من محاولة تقديم صورة كلية من جهة، وبما يكفل متابعة التطورات من جهة ثانية.(1/315)
الملمح الرابع والأخير يتمثل في رغبة الشبكة في توفير معالجة تتسع جغرافيا لتشمل العالمين العربي والإسلامي من جهة، كما تشمل العالم الغربي من جهة ثانية، وفق اعتبار تكرار الظاهرة بأشكال تعكس خصوصيات طرحها في كلا البيئتين، وإن كانت الورقة ستتجه في النهاية للتركيز على البيئة الأوروبية-الأميركية؛ باعتبارها البيئة التي تصر على تجديد الأزمة بتجليات مختلفة انطلاقا من حالة الكراهية التي تعكسها رؤى التيارات اليمينية: بتنويعاتها الجديدة والعلمانية والصهيونية، مع استثناء كثير من حالات اليمين المحافظ، متحللة من واقع التعدد الإثني الذي يميز المجتمعات الأوروبية-الأميركية.
في ملامح المشهد.. نموذجا الإدراك والتفسير
في 30 سبتمبر من العام الميلادي 2005، قامت صحيفة ييلاندز-بوستن الدانمركية بنشر سلسلة من الرسوم الكاريكاتيرية التي يتضمن جلها إساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وكادت القضية تمر كما مرت قبلها بأيام قليلة قضية تبول بعض الجنود الأميركيين على نسخ من القرآن الكريم إذلالا لبعض المسلمين الذين كانوا يتولون التحقيق معهم ضمن الحرب الأميركية على ما تعتبره الإرهاب. غير أنه في 17 أكتوبر، قامت صحيفة الفجر المصرية بإعادة نشر بعض هذه الرسوم، ووصفتها بأنها "إهانة مستمرة"، و"قنبلة عنصرية". وبعدها بثلاثة أيام قام سفراء عشر دول إسلامية بتقديم شكوى لرئيس الوزراء الدانمركي بشأن الرسوم. وفي العاشر من يناير من عام 2006، قامت صحيفة نرويجية بإعادة نشر الرسوم. وإثر ذلك قامت المملكة العربية السعودية بسحب سفيرها في الدانمرك، وأعلنت ليبيا أنها ستغلق سفارتها في لدى الدانمرك. وأدى لتفجر الموقف أن قام مسلحون - في غزة بفلسطين المحتلة - باقتحام مكتب الاتحاد الأوروبي، وطالبوا بالاعتذار عن الرسوم. وتفجر الموقف بعد ذلك بتصعيد شعبي عربي وإسلامي، مصحوب بتأييد غير مسبوق من كثير من النظم السياسية العربية والإسلامية، ثم لحقت المؤسسات الدينية الرسمية بالحس الشعبي الثائر، واقترن ذلك بتصعيد أوروبي بالوقوف إلى جانب الدانمارك، واختلط هذا التصعيد ببعض التعقل الذي قاد للاعتذار. وتصاعد العنف في الشارع العربي والإسلامي، مما أدى لحرق السفارة الدانمركية في أكثر من بلد.
وقد ظهرت إلى جوار ذلك مبادرات عربية وإسلامية تدعو لحوار واعتذار، ثم مبادرات متأخرة تدعو للحوار ولو لم يتم الاعتذار المنشود. وتزامن مع هذين النوعين من المبادرات مبادرات أخرى أتت من جانب مسلمي الغرب للحوار ولبناء التوافق حول احترام كل الأديان، وصاحب ذلك كله موقف أوروبي وأميركي اتسم بالاهتزاز والافتقار لرؤية واضحة لإدارة الأزمة، مما جعل الموقف الحكومي يشارك الموقف الشعبي قدرا من الاضطراب الذي لم يلبث أن انتهى في جزء منه إلى التعقل والاعتذار والأسف لإيذاء مشاعر المسلمين.
تعددت الرؤى التي تناولت أزمة التهجم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك في صحية هذه التعددية؛ بما تتسم به من خصائص التعدد في زوايا النظر، والتكامل في التوصيف والتفسير، وتعداد الاحتمالات التي تتنازع كل بعد من أبعاد الأزمة: سياسيا وثقافيا.. إلخ. وهو ما نحاول رسم خريطة له لا تعني بالحصر بقدر ما تعنى بالاتجاهات، وهذا ما نتناوله بالتفصيل تاليا:
أولا: المشهد في بيئته الغربية:
فيما يتعلق بالبيئة الغربية، طرحت عدة تصورات إدراكية/تفسيرية، يمكن أن نوجز الإشارة إليها على النحو التالي:
هناك خلاف بين النماذج التفسيرية التي ظهرت لتفسير المشهد في بيئته الغربية، حيث يصر البعض على طرح نموذج صدام يميني – إسلامي منذ البداية، بينما يرى البعض أنها كانت حادثة تم تطويرها فيما بعد ليستفيد منها من يستفيد. وعلى هذا؛ فإننا نرصد هنا تلكم التفسيرات على مستويين، وذلك على النحو التالي:
1 – مستوى نشوء الأزمة:
ابتداء طرح المراقبون عدة تصورات لإدراك وتفسير الواقعة، وهي رؤى تم إدراجها في إطار صراع التكوينات الاجتماعية المكونة للعقل الغربي؛ وبخاصة التكوينات ذات التوجهات اليمينية؛ مع الوجود المسلم بأوروبا. ويمكن الإشارة لهذه التصورات فيما يلي:
أ – طرح البعض رؤية لصحيفة أو بضعة صحف مغمورة تحاول أن تخلق ضجة حول وجودها بالاحتكاك بالأقليات موضع الهجوم العام، وهي الأقليات الإسلامية، وفي هذا الإطار تخيرت أن تركب موجة النقد والهجوم اليميني الموجه لهذه الأقليات.
ب – طرح بعض المراقبون رؤية مفادها سعي بعض المنظمات ذات الاتجاهات اليمينية لتكريس الوعي السلبي الموجه للأقليات المسلمة في الدول الغربية، تمهيدا لتواصل الجدل حول جدوى الوجود المسلم بأوروبا، وفي هذا الإطار تم انتقاء قضية من المقدسات في العقل الغربي "حرية الصحافة" وتدبير اصطدامها بقضية من المقدسات في العقل المسلم، لوضع الأقليات المسلمة في صدام مع المقدسات العلمانية في العقل الغربي.(1/316)
جـ - كما طرح البعض رؤية مقاربة لهذه الرؤية ولكن بمنطق مخالف، تتمثل في السعي لتكريس نمط الوعي الجيتوي (نسبة للجيتو) بين الأقليات المسلمة، مما يحول دون اندماج المسلمين في بلادهم الأوروبية، وهو مناخ يخلقه ويفيد منه التيار اليميني الأوروبي.
د - وطرح البعض رؤية مفادها أن الكيانات اليهودية أرادت أن تستفيد من حالة الكراهية الموجهة ضد المسلمين لترفع من طاقتهم التعبوية ضد إهانة الرموز الدينية، بما يخلق وعيا أوربيا يرفض الإساءة للأديان، يتبعه الاتجاه لسن تشريع يجرم الإساءة للأديان، يتم توجيه نصل هذا القانون فيما بعد لنصوص القرآن المعادية لليهود.
وقد نفى مراقبون مسلمون رؤية السعي وراء رفع توزيعات الجريدة معتبرين أن ثمة وعي مرتفع بين المثقفين بحساسية الموقف انطلاقا من مفهوم الحرية المسؤولة.
كما أصر مراقبون مسلمون على رفض تعميم الموقف من قضية المقدسات على عموم المشهد الأوروبي؛ بسبيل التأكيد على أنها مواجهات سياسية متوقعة؛ وأن توقعها يستند إما إلى الصورة الإعلامية السلبية التي تغذيها بعض دوائر الإعلام، أو يستند إلى تنامي الوعي اليميني لدى بعض الشرائح الاجتماعية الغربية، وهو ما يعكسه فوز بعض الأحزاب اليمينية في بعض الدول الأوروبية.
2 – مستوى تطور الأزمة:
تختلف صورة النموذج الإدراكي الذي يمكن استخدامه لتوصيف الأزمة في مطلعها عن ذلك الذي يمكن استخدامه لتوصيف الأزمة في مسلسل تطورها. لكن مع ذلك نود أن نلفت الانتباه إلى أن الاتجاهات التي أصرت على اعتبار الموقف مواجهة سياسية ثقافية بين نوعين من الفصائل أولهما يميني ذو توجهات تميل نحو العنصرية أو على الأقل ترغب في تفادي وجود حالة إسلامية في أوروبا بسبب ما بين أيدينا من سيل التدفقات الإعلامية التي تربط - تجاوزا - بين الوجود الإسلامي والمسالك الإرهابية، والطرف الثاني هو أطياف الوجود المسلم بأوروبا الذي يتراوح بين متدينين بأطيافهم وبين غير المتدينين.
إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نضيف لتفسيرات الصراع اليميني - الإسلامي مجموعة أخرى من التفسيرات ارتبطت بتطور القضية، وذلك على النحو التالي:
أ – يرى البعض أن مناخ التضييق والإحباط وبيئة الاتهام التي يعيش به مسلمو أوروبا قد أفضى بهم إلى حالة من الضيق والسخط السياسي، عززه ما توالى نشره من قبل عن إهانة القرآن في جوانتانامو وأبو غريب وغيرها، فضلا عن تجاهل المنظور الحقوقي في التعامل مع المسلمين، وهو ما حدا بهم إلى التحرك سعيا للوصول لوقفة مراجعة مع بيئتهم الأوروبية.
ب – طرح بعض المراقبين أيضا فكرة أن إدراج القضايا المتعلقة بالوجود المسلم في العقل الغربي وعقده الاجتماعي كانت بحاجة إلى وقفة صراعية جادة؛ كما يسير الأمر دوما في التاريخ الغربي الذي تقر فيه القضايا المصيرية عبر مواجهة صراعية، وهو ما دفع المسلمين للمطالبة بوقفة جادة حيال قضاياهم وقضايا النظر إليهم.
جـ - كما طرح البعض فكرة أن التطور السلبي الذي حدث للقضية على المسرح الأوروبي كان مرده إلى تعالي الصيحات المطالبة بمقاطعة المنتجات الدانمركية التي تعتبر جزء من الهوية الأوروبية، وهو ما زكى تنامي النعرة الأوروبية التي حرصت على استفزاز العالم الإسلامي لاختبار جدوى المقاطعة.
د – كما طرح البعض أيضا فكرة رغبة بعض الدوائر في تكريس اشتعال الأزمة لجعل خيار حوار الحضارات خيارا صعب المنال حينما يصطدم برغبة العالم الإسلامي – النامي - في اعتذار العالم الغربي – المتقدم، مما يخلق حالة وعي يميني عامة يتصاعد فيها التيار اليميني بقوة للحكم في غالبية الدول الأوروبية، مما يؤدي لتنامي الاتجاه الرسمي الرافض لتنامي الوجود المسلم بأوروبا؛ بل وتقليصه.
وبصرف النظر عن الفحوى الهامة لهذه الأطروحات، فإن الرؤى التي تعالج الأمر خارج دائرة الصراع اليميني – الإسلامي تتسم بدرجة من الجزئية والسطحية التي لا تغني عن اعتبار الرؤى اليمينية، ولكن لا يمكن استبعادها بحال، لأن هذا الاستبعاد يضعنا أمام هذا الخيار الأحادي الصراعي الصلب.
ثانيا: المشهد في بيئته العربية الإسلامية:
أما عن ملامح المشهد على الصعيد الجغرافي العربي والإسلامي فقد اتفقت النماذج التفسيرية والإدراكية على حضور عاملين مهمين يكاد يقصر الأمر عليهما، هذان العاملان هما:
1 – وجود حالة عامة من حالات السخط الشعبي في العالمين العربي والإسلامي بسبب توارد وتواتر وتواصل الأنباء عن الحالة الغربية الآنية، والتي تتمثل في صورة مركبة من مشهد المشروع الاستعماري الغربي وفي طليعته الولايات المتحدة، مضافا إليه مشهد الصلف الثقافي الغربي الذي يتجلى في استمرار توافد الأنباء عن حالات إهانة للمقدسات الإسلامية، بدءا بالتبول على القرآن في جوانتانامو وأبو غريب، وانتهاءا بالإساءة للرسول في الدانمرك.. إلخ، وهو ما يفسر استمرار التظاهرات الرافضة لهذه الإساءة للرسول من باكستان وحتى فنزويلا والتي اتهمت الولايات المتحدة برغم أن الحدث أوروبي المركز والتداعيات.(1/317)
2 – كما أشار المراقبون لسعي عدد كبير من الحكومات العربية لانتهاز الحدث والحصول على قدر من الشرعية الدينية يعوض تآكل شرعيتها، ومنها أنظمة علمانية صارمة، أو أنظمة تشترك في الحلف الأميركي على ظاهرة الإرهاب وتريد أن ترسل رسائل لشعبها مفادها أن "الاشتراك في الحرب على الإرهاب ليس معناه معاداة الإسلام". وهو ما يفسر وقفة غالبية الأنظمة العربية إلى جانب خيار المقاطعة.
وفي هذا الإطار وجد رصيد السخط الشعبي العربي والإسلامي رصيدا من المساندة في قراره بمقاطعة منتجات الدانمرك بدءا من البيان الرئاسي المصري الرافض وسحب الخارجية السعودية لسفيرها بالدانمرك وإقالة وزير الأمن الليبي لتصديه بالقوة للتظاهرات الليبية الغاضبة من الإساءة للرسول.. إلخ.
واستدراكا على هذا الملمح يضيف البعض قيدا هاما يتمثل في أن محصلة الغضبة الشعبية العربية والإسلامية لم يستفحل تأثيرها بسبب اغتنام كثير من الدول العربية والإسلامية وسيلة تحصيل الشرعية هذه، بل لأن الدولة الضحية "الدانمرك" دولة تقع على هامش مجموعة دول الشمال، وأن الأمر لو تعلق بدولة أكبر، كما حدث حين تبول جنود أميركيون على القرآن، لكان الأمر قد اختلف، وهو ما أكده مراقبون انتبهوا لرغبة البعض في استغلال نشر صحف أوروبية للرسوم المسيئة لتحويل المقاطعة لمشروع قومي تتم فيه مقاطعة كل منتجات دول الشمال التي لها بدائل عربية وإسلامية، حيث ذهبت هذه الدعوة أدراج الرياح بالرغم من حيويتها المنهجية.
ما بعد المشهد.. تقييم الاستجابات المختلفة
أ – استجابات المسلمين في البيئة الغربية:
فيما يتعلق بالبيئة الغربية، كثيرة هي الآراء التي اعتبرت أن مواقف الأقليات المسلمة في الغرب تطورت بصورة إيجابية خلال الأزمة. وبرغم أن هذه الرؤية صحيحة، لكنها ليست الأصح. فالحالة الإسلامية في الغرب تتعدد اتجاهاتها بين أطياف متعددة وكثيرة. ونحن لا نتحدث عن اتجاهين أو ثلاثة، بل نتحدث عن أكثر من ذلك بين من يرون أن مرجعيتهم هي الإسلام.
فلو نظرنا للحالة الإسلامية في أوروبا سنجد المحافظين وسنجد الاندماجيين، وبين المحافظين تعدد في الخطابات ما بين الرؤى السلفية ورؤى حزب التحرير ورؤى الأحزاب الإسلامية ذات الأيديولوجية العنفية التي استقدمتها بريطانيا لأرضها. وأما الاندماجيين فمن بينهم من يدعو لحالة علمانية شاملة تكون الدولة فيها محايدة حيال المعتقدات، ومنهم من يريد استيعاب الدين الإسلامي في مشروع توافق يفضي لعقد اجتماعي جديد، ومنهم من يتصرف باعتباره مواطنا غربيا ولا يرى ضرورة رفع لافتة تشير إلى انتمائه الإثني.
ولابد في هذا الإطار من أن نشير إلى أن الحالتين السنية والشيعية تتشابهان في أوجه الانقسام، وإن كان الغالب عليها اتساع التيارات المحافظة، وإن كان هذا لا يعني تضاؤل نطاق الاندماجيين بينهم بصورة طاغية.
أما لو نظرنا للمهاجرين الذين يريدون الاندماج في المجتمع الأوروبي بغير مرجعية إسلامية فسنجدهم كثرة، ومع ذلك فهذه القضية تمسهم من زاوية أخرى تتمثل في إهانة الثقافة التي ينتمي إليها.
وإن كانت الصورة الخاصة بالتعددية في الرؤى والتيارات السياسية والفكرية المسلمة في الغرب قد اتضحت؛ فيمكننا أن نعرض تاليا لأهم ثلاث رؤى برزت أثناء الأزمة:
1 – تميل القوى اليمينية المرتابة من الوجود الإسلامي في أوروبا إلى اختزال ردود فعل الحالة الإسلامية في أوروبا في اتجاه واحد يغلب عليه الصراخ والاستغاثة، وتشير تحليلاتهم إلى أن هذا التيار هو الأساس، بينما تقع على هوامشه أصوات تحاول عقلنته. وبصرف النظر عن اتهامنا الضمني لهذه الرؤى، إلا أن الخطاب الاستغاثي الصراخي كان موجودا، لكنه لم يكن التيار الأساسي، بل كان الأضعف.
هناك تجليات عديدة لهذا التيار وكان أبرز رموزها الدكتور عزام التميمي مدير معهد الفكر السياسي الإسلامي بالمملكة المتحدة، والذي رأى في لقائه بقناة الجزيرة القطرية أن "الإٍسلام شامخ منتصر ممتد وهذا الذي يأكل قلوب من يتطاول على الرسول غيظا". وقد أشار إلى أن "الرسول صلى الله عليه وسلم هو اليوم الشخصية الأولى في العالم في كل القارات.. في كل قارات الأرض، أتباعه في أوروبا في أميركا في كل أصقاع الأرض يقولون أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله وهذا يغيظ هؤلاء لأنهم فقدوا البوصلة، وأصبحوا لا دين لهم، حتى الدين عندهم الذي لا يزال موجودا في قلوب كثير من الناس أصبح خائفا راجفا مختبئا"(..)، وأشار إلى أن التهجم على الرسول "لا نقبل به ويجب أن تُعَاقب أوروبا ويجب أن يعاقب كل من ينشر هذه الصور". ولا داعي للخوض في دلالة المعاقبة وصاحب السلطة في العقاب، فهذا مما يضيق دونه المقام.(1/318)
2 - أما الاتجاه الثاني فكان اتجاها وسطيا، يمكن القول بأن أهم من يمثله البروفيسور طارق رمضان. حيث نقلت جريدة "لو فيجارو" الفرنسية عنه رأيه بأن ردود الفعل في العالم الإسلامي على الرسوم المسيئة للنبي "مبالغ فيها"، وأنه قد دعا إلى "نقاش هادئ وعقلاني"، وندّد بالدعوات إلى "المقاطعة" والدعوات إلى القتل، ورأى أنها تخدم اليمين الأوروبي المتطرف. وقد ندد البروفيسور طارق رمضان بما أسماه "استقطابا خطرا بدأ يفرض نفسه، ويشجّع المواقف المتطرّفة من الجانبين". كما دعا المسلمين لأن "يعتادوا على اتخاذ مسافة نقدية"، ولأن "يعيشوا في عالم كوني يعتمدون فيه الحوار منهجا، كما ينبغي فيه أن تكون ضمائرهم قوية بما فيه الكفاية للتغلّب على حساسياتهم المجروحة". ولم يفت طارق رمضان طبعا أن يشير إلى أنه "في الإسلام، لا يجوز رسم الأنبياء".
3 - أما الاتجاه الثالث فيتمثل في منهج الأستاذ أنس التكريتي الذي دعا في مشروعه إلى أن تقدم المملكة المتحدة أنموذجا للدولة الأوربية الليبرالية التي تعتبر مثالا في استيعاب التعددية بكل مستوياتها العرقية والدينية والثقافية، باعتبار أن بناء نموذج مجتمع تعددي بهذه الصورة من شأنه أن يضع ضوابط على ما قد تقترفه الجماعات الإثنية والثقافية والدينية بحق غيرها من الجماعات التي تشاركها نفس المجتمع، في إطار حرية مسؤولة، وهو ما من شأنه أن يضمن الانسجام والتوافق المجتمعي الإيجابي الذي تحميه قوة القانون. لكن أنس التكريتي تجاوز بأطروحته أن تحميها نصوص القوانين لصالح تعميق الحوار الذي يجعل هذه القيم التعددية المتباينة محمية بموجب الضمير المجتمعي العام والتوافق المجتمعي العام. وقد خرج برز أنس التكريتي عبر تظاهرة قادها في لندن، تتضمن توليفة إسلامية كاثوليكية.
وبين هذه الاتجاهات الأساسية وجدت بعض الأطياف التي يمكن القول باستيعابها ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة، لكن لم تتضح أطروحتها بصورة كافية.
ومن خلال الطرح السابق يمكننا أن نشير إلى أن الحوار كمسلك في رد فعل مسلمي أوروبا على قضية التهجم على الرسول قد اتخذ الصورتين المشار إليهما، وهما صورتان تفترقان كثيرا في فلسفتهما.
فالطرح الخاص بطارق رمضان دعا لإقامة حوار حول ضرورة احترام حقوق الأقليات من زاوية استيعاب الأزمة ومحاولة منع تكرارها لإضرارها بمشاعر الأقليات. وهذا الطرح يصب في فقه الأقليات المسلمة الذي يحرص على صون حقوق هذه الأقليات وصياغة أسس علاقتها بالمجتمع الذي تعيش فيه باعتبارها أقلية ذات دين يخالف الثقافة المسيحية الأوربية، ومن ثم ينبغي توفير ضغوط على الحكومات لأجل فرض احترامه. أما طرح أنس التكريتي فقد حرص على التعامل مع الأزمة لا باعتبارها أزمة أقلية دينية مسلمة في مجتمع مفتوح، بل باعتبارها قضية مجتمع مفتوح به درجة عالية من التعددية الدينية والإثنية والثقافية بحاجة لتطوير ثقافته العامة ليتسنى له استيعاب حقيقة أوضاعه التعددية الراهنة وتطوير آلية إدارتها.
ب - استجابات المسلمين في البيئة العربية الإسلامية:
كما تعددت استجابات المسلمين في الثقافة الغربية الأوروبية، كذلك تعددت استجابات المسلمين في البيئة العربية الإسلامية، حيث يمكن رصد 3 اتجاهات في هذا الصدد، على النحو التالي:
1 – ردود الفعل الغاضبة المحبطة: كانت ردود الفعل الغاضبة المحضة من أهم ردود الفعل في العالمين العربي والإسلامي، وإن لم تكن أكثرها رشدا بطبيعة الحال. وتمثلت ردود الأفعال تلك في مسيرات التعبير عن الغضب، والتي انتهى بعضها بحرق بعض سفارات الدول التي أعادت نشر هذه الرسوم.
وأهم ما يميز هذه الغضبة، بصرف النظر عن المؤازرة الحكومية، أن ارتبطت هذه التظاهرات برغبة حميمة في مقاطعة الدولة التي ابتدأت هذا الفعل، والصيام والقنوت والدعاء، وارتبط ذلك كله بحملة نشطاء الإنترنت لتعميم الاقتراحات بالتصرف ونشرها على نطاق واسع.
وبرغم أن الرغبة في المقاطعة كانت جادة وحميمة، إلا أن إعادة نشر دول أخرى للرسوم المسيئة لم يؤد لاتساع نطاق المقاطعة ليشمل هذه الدول الأخرى، وإن كان قد أدى لاتساع نسبي في نطاق العنف.
2 – مجموعة الغضب العاقل: لم تكن كل ردود الأفعال الغاضبة بنفس الصورة، بل كانت هناك حركة غضبة أخرى أكثر رشدا ورصانة في الطرح، إذ أيدت الغضبة الشعبية في صورتها الاقتصادية والسياسية وأية صورة غير عنيفة، وهددت قيادات هذا الاتجاه بتغذية استمرار الغضبة الشعبية وتصعيدها ما لم يصدر عن الجهات التي اقترفت الإساءة للرسول ردي فعل، أولهما الاعتذار عن الخطأ في حق الرسول والمسلمين، وثانيهما العمل على سن تشريعات تجرم الإساءة للأديان. وقد تزعم هذا الاتجاه مجموعة من العلماء الكبار كان أبرزهم الدكتور يوسف القرضاوي.(1/319)
3 – ردود الفعل الحوارية: كان الحوار موضوعا حيويا وطلبا ملحا لقطاع عريض من القوى الشعبية التي كانت تضع نصب أعينها ليس فقط قضية الإساءة لمقدس إسلامي، بل أيضا مصلحة المسلمين في الغرب، حيث كانت القيادات التي أنتجت أبرز دعوات الحوار على صلات بقيادات من الأقليات المسلمة في الغرب. ومن بين تلك الدعوات دعوة مؤتمر عمان الذي دعا فيه عدد من علماء الدين العرب المسلمين إلى الحوار مع الغرب منتقدين دور الإعلام في هذا الشأن. وكان من أبرز تلك الدعوات ذلك البيان الذي وقعه 42 من كبار الدعاة وكان من بينهم الداعية الشاب عمرو خالد الذي دعا المسلمين لعدم مقابلة الإساءة بالإساءة، وهو ما قاد إلى خلاف بين هذه المجموعة ومجموعة الغضب العاقل التي تزعمها الدكتور يوسف القرضاوي والتي ضمت عددا كبيرا من علماء الأمة، والتي رأت ضرورة أن تعبر الأمة عن غضبتها ليعلم المسيئون أنهم آذوا مشاعر أمة تعدادها مليار وثلث المليار.
4 – الأنظمة العربية والتعامل مع الأزمة: استمر نهج الدول العربية في التعاطي مع الأزمة بمنطق التعبئة الجماهيرية بسبيل تحصيل قدر من الشرعية المستندة لمرجعية دينية ورضائية في آن أو سحب الغطاء الإعلامي عن قضايا داخلية متفجرة ببعض من هذه الدول، وتفاوتت تحركاتها الدبلوماسية لاحتواء الأزمة. فقد اكتفت بعض الدول بمساندة مشروع الغضبة كسورية، وغيرها على اختلاف في مواقف هذه الدول بين الانفلات والضبط. والمجموعة الثانية من الدول العربية والإسلامية فقد شايعت الغضبة لكنها دعت لإجراء حوار حول القضية كمصر، أما الفريق الثالث فاتجه إلى تدبير لقاءات حوارية، وكانت أبرز الدول الناشطة في هذا المجال دولة قطر، والتي رتبت لقاء تحالف الحضارات الذي ضم ممثلين من الأمم المتحدة (كوفي عنان) وجامعة الدول العربية (عمرو موسى) ومنظمة المؤتمر الإسلامي (أكمل أوغلو) وبعض وزراء الخارجية الأوروبيين.
جـ - استجابات الطرف الغربي:
كان لهبة المسلمين في أنحاء العالم ردود فعل قوية ومؤثرة في المجتمع الغربي، وبخاصة مع اتجاه أصوات التيارين المعتدلين للتعالي. حيث قامت بعض الدول بالاعتذار كالدانمارك وإيطاليا وفرنسا، وإحدى الدول: النرويج عدلت قانونها لتجريم الإساءة للأديان، وأتت وفود كنسية للجامع الأزهر للاعتذار والحوار، كان من بينها وفد الكنائس الدانمركية، وظهر قدر من التوافق الكاثوليكي الإسلامي حول تجريم الإساءة للأديان. وإن كان هذا لم يمنع من أن كثير من الدول لم تتقبل فكرة الاعتذار، بل إن رسالة الاتحاد الأوروبي في اجتماعه على مستوى وزراء الخارجية في فبراير 2006 تضمنت عبارة لا تعني الاعتذار، بل تعني الأسف لأن ما نشر أغضب المسلمين، مما يفتح الباب للتساؤل حول سبب الأسف: أهو نشر الإساءة أم إحساسنا بالإساءة.
المعالجة.. أطروحات عملية للعالمين الإسلامي والغربي
كانت الإشارات إلى منهج إسلام أونلاين.نت، وكذا عملية الرصد والتفسير مدخلا لتقديم طرح عملي لمواجهة الأزمة. ومما سبق يمكننا أن نخلص لحصادين قيمي ومؤسسي نوجز ملامحهما فيما يلي:
أولا: الحصاد القيمي:
بعيدا عن القيم المستقرة التي تكرست عبر الأزمة كالحوار، مكنتنا الأزمة من الانتباه لمجموعة من القيم المهمة التي علينا أن نلتفت إليها، ومنها:
أ - الغضب العاقل: حيث إن حسن إدارة الغضب مكن العالم الإسلامي من تحقيق مكاسب سياسية وثقافية، وتمكن من تحويل مجرى التفاعلات من مسار الرعونة إلى مسار الحوار والتعايش والاعتذار والاتجاه للحوار البناء.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أنه لولا هذه الغضبة التي سارعت لاتخاذ مسار العقلانية لما كان من الممكن للعالم الإسلامي أن يحصد هذه المكاسب.
ب - إدراك التعددية داخل الآخر: كان من بين ردود الأفعال المتزنة وقوف المسلمين في كثير من الدول الأوروبية على حقيقة الاختلاف والتعددية داخل المجتمعات الأوروبية، مما مكن من صوغ تحالفات وعقد حوارات كانت بناءة ومثمرة، وستؤثر إلى حد كبير على حركة التنظيمات القائدة للأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
جـ - التعريف بالتعددية داخل الذات واحترامها: كان من المهم كذلك أن يتم الإعلان الواضح عن التباين الشديد والتعددية الموجودة داخل الكيانات المسلمة بالغرب، وما بينها من اختلافات حقيقية في الرؤى والمواقف، مما وضع أقدام كثير من القوى الاجتماعية الأوروبية على بداية التمييز بين الصحي والمريض داخل الخطاب الإسلامي في الغرب.
والأهم أن التعددية التي حدثت داخل الذات المسلمة على الصعيد الجغرافي العربي والإسلامي كانت مهمة أيضا، برغم أن بعض ردود الأفعال العاقلة اتخذت موقفا مناوئا من ردود الأفعال العاقلة الأخرى، وهو ما كان من المهم الإشارة إليه في إطار ضرورة احترام التعددية في المواقف، مع كامل التقدير للموقف الوسطي.(1/320)
د - الحرية المسؤولة: من أهم المفاهيم التي برزت خلال الأزمة مفهوم الحرية المسؤولة، وهو مفهوم نهض في مواجهة ما اعتبر حرية مطلقة للصحافة في التعبير. والجدير بالذكر أن هذا المفهوم: الحرية المسؤولة أعاد للأذهان الصورة الغائبة عن القيود القانونية التي ترد على حرية الصحافة. خاصة وأن اعتبار هذا الحق مقدسا يجعل من التهجم على قضايا أخرى كالهولوكوست وغيرها.
هـ - التوافق والعقد الاجتماعي: من أهم المفاهيم التي استخدمها بعض قادة الأقليات المسلمة في الدول الغربية، حيث سعوا إلى إدراج قضية عدم إهانة المقدسات داخل العقد الاجتماعي الغربي، وبناء التوافق حول ضرورة عدم الاستهزاء بمقدسات الأديان جميعها.
ومع هذا تبقى قيمة الحوار وقيمة التبليغ أو التعريف بالإسلام من أهم القيم التي تعززت أهميتها.
ثانيا: الحصاد المؤسسي:
من الأهمية بمكان أن نخلص لمجموعة من الإجراءات العملية التي يمكن الإفادة منها في الاستفادة إيجابيا من قوة دفع هذه الأزمة. وهنا يمكن الإشارة إلى أن دور الحصاد المؤسسي تحويل الحصاد القيمي إلى أهداف واقعية تحملها حالة مؤسسية. وفي هذا السياق نضع الملامح المؤسسية التالية:
أ – على صعيد مسرح العمل الغربي:
من أهم ما ينبغي إنجازه على صعيد المسرح الغربي عدة مهام، نستلهمها من عرضنا السابق فيما يلي:
1 – متابعة أدبيات اليمين الغربي فيما يتعلق بالحالة الإسلامية في أوروبا، وفتح حوار بين قيادات الأقليات الإسلامية حول هذه الأدبيات، وإنتاج أدبيات تتناول ترشيد وترقية أداء الأقليات المسلمة في الغرب والمنظمات المعبرة عنها، وتوثيق رؤى إدراك الآخر وإدارة الذات لتسهيل تقويم تطور الأداء المسلم في الغرب عبر الزمن، وكذا تقويم نظرة الآخر للوجود المسلم.
2 – توفير آلية تشاور سريعة الانعقاد بين قيادات الأقليات المسلمة عند حدوث أزمة بحجم أزمة الرسوم المسيئة للرسول والمقدسات الإسلامية، والتوصية بالاتجاهات التي يستوعبها فقه حركة الأقليات المسلمة، وتحديد أنماط ردود الأفعال التي يمكن أن تشكل في تداعياتها تأثيرا سلبيا على وضع الأقليات المسلمة في أوروبا.
3 – رسم خريطة للقوى الاجتماعية والثقافية والسياسية في دول الغرب، يتوزع رصدها على المحكات والقضايا التي تهم الوجود المسلم في الغرب، وذلك لمعرفة مساحات الالتقاء والافتراق بين المسلمين وهذه القوى.
4 - تجاوز العقلية الجيتوية بالتحرك المتضامن مع القوى الاجتماعية والسياسية والدينية التي تشاركنا محاور قضايا المسلمين، وبما يحقق أمن واستقرار المجتمعات الأوروبية نفسها.
5 – باعتبار المسرح الغربي مترابط إقليميا عبر الاتحاد الأوروبي، ومترابط عبر الأطلنطي من خلال حلق الناتو، فإنه من المقترح القيام بدرجة عالية من التنسيق والتشبيك بين الأقليات المسلمة في الغرب من خلال المنظمات التي تتولى التعبير السياسي والثقافي عنها، وإدارة نقل الخبرة وتجويد الأداء.
6 – رسم ملامح إستراتيجية علاقات عامة تستهدف تكثيف الحوار بين المنظمات الإسلامية في أوروبا وبين الجهات التي تشاركها الاهتمامات الجزئية أو الكلية، والتي أنتجتها عملية رسم خريطة اهتمامات أطراف المجتمع السياسي والثقافي في الغرب، وذلك بسبيل تشجيع مناخ الحوار بين المسلمين ومن يشاركونهم الاهتمام من جهة، وتطبيع حضور القيادات المسلمة في الحياة العامة الأوروبية من جهة ثانية.
7 – الانتقال بالدعوة الإسلامية من الطور الكلاسيكي القائم على إيفاد الدعاة لصالح إنتاج جيل جديد من الدعاة، أو الدخول في مرحلة جديدة من مراحل صياغة الفكر الدعوي القائم على معطيات علوم الاتصال والعلاقات العامة، لكي يناسب شكل العرض طريقة تفكير المجتمعات الجديدة، والاحتياجات غير التقليدية المتجددة للدعوة، وطبيعة التحديات الاتصالية والإعلامية القائمة بهذه المجتمعات؛ بما فيها اعتبارات المنافسة الإعلامية.
8 – تشجيع قيادات الأطياف والتيارات المختلفة بين المسلمين على إنشاء وسائل إعلام متقدمة تتمكن من مواجهة المحتوى المتدفق من وسائل الاتصال الغربية، والتي يملك اليمين فيها حظا غير قليل، على أن تعمل من خلال موارد بشرية منتمية للمجتمعات الأوروبية تعرف لغتها وثقافتها (بلسان قومه)، وفي نفس الوقت تدين بالإسلام في أطروحاته المتجددة المقتربة من حقيقة التحديات الغربية الآنية.(1/321)
9 – إنتاج مشروعات تعريفية بالإسلام ومحتواه، وخصائص رسالته، وكذا وسائط تعريفية ترتبط بالنبوة شخصا ورسالة وسلوكا وأخلاقا، تعمل بصورة إستراتيجية من ناحية، ومرتبطة بالأحداث من ناحية أخرى، لكي تكون متكاملة في صيرورتها متصلة بالتحديات الآنية في تناولها، من خلال آليات متعددة اقترح البعض منها: إنشاء موسوعات متكاملة وموسوعات ميسرة، سواء أكانت هذه الموسوعات منتجة في صورة كتابية نصية أو في صورة وسائط متعددة (فيديو-كاسيت-سي دي-دي في دي-محتوى إنترنتي-وغيرها من الوسائط التي تسفر عنها القرائح التقنية) وزيارة المدارس والجامعات والتعاون معها بسبيل تمويل ومباشرة أنشطة تعريف بالإسلام ونبيه، وإقامة مهرجان أوروبي موحد ومهرجانات فرعية قطرية يختص كل منها بقضية معينة ويتغيا أهدافا محددة يمكن قياس مستوى الإنجاز فيها، أو إصدار مجلة دورية أو فصلية للتعريف بالقضايا حديث الساعة، والقيام بحملة علاقات عامة وتمويل للمكتبات الكبرى على مستوى الأقاليم والأحياء في الدول الغربية لإنشاء ركن خاص بالكتابات عن الإسلام.
10 – توفير حملات مكثفة ثم دورية للتعريف بالمنظمات الوسطية الإسلامية، وباتصالاتها، لتيسير التواصل معها، والقيام بحملة تواصل مع المؤسسات الإعلامية الكبرى والمتوسطة والمؤسسات الإعلامية ذائعة الصيت في النطاقات المحلية والإثنية الضيقة، بما يتجاوز ما يصم الحالة الإسلامية من فقر اتصالي.
ويمكن من خلال العرض السابق أن نحدد الصورة المؤسسية التي تمكن من إنجاز هذه الأهداف، وهو ما نوجزه فيما يلي:
1 – إنشاء مرصد أكاديمي يتبع أمانة منظمة إسلامية أوروبية كبرى، يتولى مهام رصد أدبيات اليمين، ورسم ملامح خريطة القوى السياسية والثقافية الأوروبية، والأنماط المحتملة لعلاقات الحوار والتحالف من جهة، وعلاقات المواجهة والمتابعة من جهة ثانية، ويراكم أدبيات تطوير الذات وأدبيات تنمية العلاقة مع الآخر، وأدبيات نظرة القوى السياسية والثقافية لواقع المسلمين في أوروبا، ويتولى إصدار مجلة فصلية لتوثيق الخبرة ومراكمة الأدبيات، وعقد مؤتمر سنوي أو كل عامين لمدارسة وضع الأقليات المسلمة في الغرب وما يرتبط بها من قضايا.
2 – إنشاء مكتب للعلاقات العامة تكون مهمته إعداد إستراتيجية التعريف بالإسلام، وتكييف الآني والمؤجل منها تبعا لإلحاح الوضع في الغرب، ووضع تصور لمشروع التعريف وخطة استكماله، والترتيب لمهرجان عام، وأية مهرجانات فرعية، كما يتولى توجيه اقتراحات للمنظمات الإسلامية القطرية بأوجه النشاط الثقافي الممكنة ومجالاتها، أو يتولى هو تمويل قيام المؤسسات القطرية بهذا الدور، ويشجع إنشاء منظمات مدنية قطرية تتولى إدارة وتنفيذ هذه المشروعات الثقافية.
3 – إنشاء إدارة تنسيق في واحدة من المنظمات الإسلامية الغربية الواسعة الانتشار، تتولى مهمة التنسيق بين قيادات المنظمات الإسلامية المختلفة بصفة عامة، كما تتولى الدعوة لمؤتمرات سريعة التحضير عند بروز بوادر أزمة كأزمة الرسوم المسيئة لمقدسات إسلامية، كما تتولى هذه الإدارة توجيه الدعوات لمنظمات إسلامية بالتضامن مع القوى السياسية والثقافية غير المسلمة التي تتشارك مع المنظمات الإسلامية في بعض الأهداف السياسية والاجتماعية والثقافية.
4 – إنشاء إذاعة وقناة تليفزيونية أوربية، أو الاستفادة من قنوات أوروبية موجودة بالفعل لخدمة المجهود الدعوي والاتصالي الإسلامي، مع ضرورة تجاوز حقبة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية لصالح مزيد التحام بواقع التعددية الإثنية والثقافية في المجتمع الأوروبي.
5 – عند الاستقرار على ملامح الوضع المؤسسي العام لأقليات الإسلامية في أوروبا يقترح إنشاء مؤسسة وقفية تتولى الإنفاق على هذه المؤسسات التي لا تتوفر لها القدرة على التمويل الذاتي، أو المؤسسات التي سيتم استحداثها خارج نطاق المؤسسات الموجودة بالفعل في المسرح الأوروبي.
ويمكن لإدارة تنمية المشروعات بموقع إسلام أون لاين أن تتولى إعداد الجانب الشبكي المتعلق بالنشر على الإنترنت لهذا البعد المؤسسي.
أ – على صعيد مسرح العمل العربي والإسلامي:
من أهم ما ينبغي إنجازه على صعيد المسرح العربي والإسلامي عدة مهام، نستلهمها من عرضنا السابق ممثلة في المحاور التالية:
1 – مراجعة عملية الاحتجاج على الرسوم المسيئة، وتقويمها، ووضع معايير لترشيد العمليات الاحتجاجية، مع التأكيد على أنها عملية نشطة قابلة للتكرار مع وقوع ما يبرر تكرارها، وتكثيف التشاور بين مؤسسات المجتمع المدني العربية والإسلامية ذات الوظائف الدعوية لتطوير الأداء فيها.
2 – التعريف بالمؤسسات التي من صميم خبراتها إدارة هذا النوع من الأزمات، مع توفير خطط نماذجية بهذه المؤسسات لأنماط الحملات المختلفة التي يمكن انتهاجها عند حدوث أزمات مشابهة، مما يوفر الوقت والجهد المهدر في إنتاج ردود فعل ارتجالية أو عفوية قد تكون ضعيفة، أو قد يتم إجهاضها بسبب عدم لياقة سلوكها.(1/322)
3 - تشجيع الحوار بين القوى السياسية والثقافية والإثنية والدينية بما يؤدي لسيادة الاحترام المتبادل بين هذه القوى، سواء على صعيد احترام رموزها (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله..) في مقابل صون رموز الأديان عن العبث تحت مسميات مختلفة كالإبداع.. إلخ.
4 - الدعوة إلى إنشاء حلف فضول معاصر، بالاشتراك مع العقلاء الغربيين، نتفق فيه جميعا على احترام كافة الأديان والشرائع، ورفض التلاعب بها والسخرية منها بأي شكل من الأشكال، ونقف صفا واحدا أمام من تسول له نفسه المساس بالدين والمعتقد.
ويمكن لهذه المهام أن تباشرها مجموعة من المنظمات الدعوية القائمة بالفعل أو بعض المؤسسات التي تنشا خصيصا بالتوافق بين الجهات الدعوية الأهلية والرسمية، على أن يراعى في المؤسسات القائمة أو المستحدثة التي تباشر هذه المهام أن تأخذ بأساليب وتقنيات علوم الاتصال والعلاقات العامة المعاصرة لتواكب الدعوة في ثوبها روح العصر كما تواكب في محتواها تحديات هذا العصر وما يمليه من اجتهادات.
والله نسأل أن يجعل جهود هذا الجمع الكريم خالصة لوجهه
================
ماذا يقرأ مسلمو الغرب؟
هولندا: نصر الدين الدجبي**- 08/02/2005 هل يجدون بغيتهم ؟
يعيش في أوربا أكثر من خمسين مليون مسلم، يتوزعون على مختلف بقاعها الممتدة. ويصنّف هؤلاء المسلمون إلى ثلاث فئات هي:
1- أوربيون مسلمون: مر على دخولهم الإسلام سنوات طويلة،
ولم يعد بالإمكان فصلهم عن تركيبة المجتمع الذي يعيشون فيه رغم محاولات "التطهير" العرقي التي مرت عليهم، وخاصة في أوربا الشرقية والجنوبية. 2- مَن يُطلق عليهم "المسلمون الجدد": وهم من أهل البلد ممن
أسلموا عن طريق دعوة المسلمين لهم، أو عن طريق دراستهم للإسلام واقتناعهم به، أو عن طريق الاحتكاك بالمسلمين، والزواج منهم بالنسبة للنساء. وهذا النوع من المسلمين يزيد عددهم باطراد في أوربا كلها. 3- المهاجرون من
الجنوب إلى الشمال خلال القرن العشرين الذين أصبحوا من المكونات الأساسية للنسيج الاجتماعي والثقافي الحالي لهذه المجتمعات الأوربية، بعد أن توطنوا فيها بإسلامهم. وقد أثارت سياسة
العولمة وأحداث 11 سبتمبر رغبة لدى الأوربيين وغيرهم لمعرفة الإسلام، كما زادت هذه الرغبة أيضًا عند الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب للتدقيق في معرفة إسلامها من خلال مصادر معرفة الإسلام
التي بدأت بالنقول والدراسات الاستشراقية، مرورًا بما حملته الهجرات وتوطين المسلمين على هذه الأراضي، وصولا إلى عالم العولمة من فضائيات ومواقع شبكة المعلومات، إلى الكتب المترجمة، وغيرها من
مظاهر تدفق المعلومات. تباين في المصادر المعرفية يؤكد استطلاع قمنا به بين عدد من المسلمين في هولندا من فئة الشباب من الصنفين (الرجال والنساء) أن "الإنترنت" والكتب المترجمة من العربية يمثلان 55% من
مصادر معارفهم الإسلامية، في حين يعتقد المستطلعون أن الاستشراق والإعلام الهولندي لا أثر له عليهم، ولا يمثل سوى 4% من معارفهم الإسلامية. كما يؤكد الاستطلاع أن أثر الأئمة على معارف الشباب
لا يزيد عن 10%، في حين ما زالت تلعب المعارف السمعية والموروث الأبوي والأصدقاء دورًا مهمًّا وصل إلى 28%. كما تأخذ الفضائيات العربية ذات التوجه الدعوي والبرامج الدعوية موقعًا لها بين
الشباب المسلم في الغرب. غير أن هذا الاستطلاع لم يشمل الجيل الأول من المهاجرين الذين لهم توجه آخر في تحصيل معارفهم الإسلامية والثقافية، وهي شريحة ما زالت تمثل حوالي 50% من
المهاجرين. وهذه الشريحة تعيش على مكتسبات وتحصيل ما تلقوه من مجتمعاتهم التي جاءوا منها، ولا يزال المسجد عندهم من الأهمية بمكان لما يقوم به الأئمة في المساجد من تأطير لهذه الفئة، ولما يجدونه من تناغم مع
خطاب الإمام الذي يتسم -في غالبيته- بالاقتراب من فئة الجيل الأول أكثر من اقترابه من فئة الجيل الثاني. إذ لا يزال المسجد والإمام يلعبان دورًا مهمًّا في المحافظة على نسيج معين
للجالية المسلمة بغض النظر عن الانقسامات القطرية والطائفية والمذهبية، وانعكاسات ذلك على وضع المسلمين في الغرب. فالمسجد ما زال يقوم بدور فعال في الحفاظ على هوية هذه الشريحة، لما تقوم به مؤسسة
المسجد من تنظيم لدروس توعوية وتعبوية، ولمتابعة حاجة أبناء المصلين بإقامة دورات شرعية، وتعليم الأطفال القرآن واللغة العربية والثقافة الإسلامية. مؤسسات تعليمية وتربوية قد تكون الفترة الطويلة التي قضاها المسلمون
في الغرب كفيلة بإنشاء عدد من المؤسسات التعليمية والنوادي الثقافية التي اتسع دورها في العقد الأخير، نظرًا للتطورات التي تشهدها المجتمعات المسلمة في الغرب، ولعل آخرها إنشاء المؤسسات التعليمة
الإسلامية الخاصة والتي تمولها الحكومات في بعض الدول. تطرح هذه المؤسسات التعليمية نفسها بديلا عن النظام التعليمي اللاديني أو المسيحي أو اليهودي المنتشر في عدد من دول الغرب، وتعتمد(1/323)
هذه المؤسسات التعليمية على منهج الدولة، مع إضافة برنامج تكميلي قد لا يجده الطالب المسلم في المدارس الحكومية العامة. كما تركز غالبية هذه المؤسسات على تعاليم الدين الإسلامي
واللغة العربية، ويقوم على هذه المهمة معلمون ممن درسوا وتعلموا في الدول العربية والإسلامية، ويتعاون الأكاديميون المسلمون مع تلك المدارس والمعاهد لإعطاء حصص تعليمية ووضع برنامج تكميلي لأبناء
المسلمين في خطوة نحو إيجاد التوافق بين الاندماج والهوية. وفي خطوة جريئة وعملاقة بدت في الأفق بوادر جامعات ومعاهد إسلامية. كما كان لهذه المؤسسات التعليمية والتربوية أثرها في وجود المكتبة الإسلامية التي احتواها عدد
من الجامعات، مثل مكتبة جامعة روتردام ومكتبة جامعة أوربا في هولندا اللتين تحويان أكثر من 20 ألف عنوان لأهم المصادر والمراجع الإسلامية. زد على ذلك المكتبات الكبرى لعدد من المراكز
الإسلامية والمؤسسات الثقافية. "الرقائق" أكثر شيوعًا وتعتبر كتب الرقائق الأكثر شيوعًا وقراءة بين الشباب المسلم في الغرب، حسبما يذكر مسئولو المكتبات الإسلامية؛ حيث تملأ تلك الكتب الفراغ
الروحاني الذي يشعرون به في حياتهم التي يطفو عليها الجانب المادي الذي انبنت عليه الحياة الأوربية بصفة عامة؛ فالجانب الروحي هو الجانب الذي يفتقده المجتمع الغربي بصفة عامة، ويستوي فيه المسلم حديث العهد
بالإسلام مع غيره ممن يتعطشون إلى الناحية الروحية. ويعدد الأستاذ محمود الصيفي -المدرس المساعد لفقه الأقليات بجامعة "نمخن" بهولندا- العوامل المؤدية إلى جنوح عدد من الشباب إلى كتب الرقائق
قائلا: "أول هذه العوامل هو غياب مصادر التلقي المقنعة في البيت -هذا إن وجدت المصادر أصلا- ثم إن هذه المصادر يغلب عليها الطابع الثقافي أو القومي أكثر منه الديني، كما أن عائق فقدان لغة
التواصل في المسجد بين الإمام ومرتادي المسجد يتسع باطراد، خاصة بين فئة المسلمين الجدد والناشئة الذين تعوزهم اللغة العربية. هذه العوامل وعوامل أخرى تجعل كتب الرقائق المترجمة أو المعدة
محليا تحظى بهذه الأهمية". كما يذكر الصيفي أنه إلى جانب الرقائق أيضًا هناك رواج للكتب التي تتناول قضايا تؤرق الشباب؛ كمعرفة مبادئ الإسلام عمومًا، والعلاقة بين الجنسين، ووضع المرأة في الإسلام. ويضيف أن اتجاه
الأفراد عادة ما يكون محددًا لنوعية الكتاب الذي يقرءونه. ترجمة عشوائية قاصرة ويرى الصيفي أن "هذه الكتب المترجمة إلى الآن لا تستجيب للواقع المعيش، ولا ترقى لمستوى التحدي الثقافي والفكري المفروض على
الأقلية المسلمة. فليست هناك انتقائية في المادة المترجمة بما يتجاوب مع معطيات هذا الواقع بتعقيداته الثقافية والاجتماعية والقانونية المختلفة؛ فغالبية الكتب المترجمة لا تراعي هذه القضايا، وخصوصًا إذا
كانت من خلفية ثقافية أو من بيئة تختلف في مكوناتها عن تلك البيئة التي يترجَم لها". ويؤكد الصيفي -مدرس فقه الأقليات بجامعة "نمخن" بهولندا- أن الرقائق وحدها لا تكفي، وإن كانت مطلوبة بلا شك لتقوية الإيمانيات، لكن
الإغراق فيها قد يؤدي إلى نتائج عكسية في بعض الأحيان؛ حيث يخلق نوعًا من العزلة اللاشعورية عن الواقع الذي لا تكاد توجد فيه أشباه هذه النماذج المسطرة على الصفحات، وهذا يخلق نوعًا من السلبية والإحباط عند
المقارنة مع الواقع، والمطلوب أن نوجد توافقًا بين التدين والانتماء لهذا المجتمع، لا الانعزال عنه". الإنترنت ملاذ المتعطشين
الإنترنت ملاذ المتعطشين للمعرفةومع ذلك فإن الواقع يظل يثبت لنا بما ليس فيه مجال للشك أن الإنترنت تحولت إلى سمكة ابتلعت الكل، بما في ذلك الكتب، وأصبحت المصدرَ الأكثر
أهمية في الحصاد المعرفي. والإسلام أحد هذه المعارف؛ فالاطلاع على الإسلام واتجاهاته المختلفة هو النافذة الأكثر استقطابًا والمقدور عليها في الغرب، خاصة بين الشباب الذين يتعاملون معها في
البيت والمدرسة والعمل وفي مواقع الترفيه، كلٌ يمكن أن يجد فيها مطلبه. وهي في الوقت نفسه ملاذ للمتعطشين للبحث والمعرفة. ويقول الخبراء: إن التاريخ البشري لم يعرف وسيلة أخذت وقت الشباب في الغرب
مثل الإنترنت في عصرنا. والشباب المسلم في الغرب جزء من هذه الظاهرة التي تستميلهم لإشباع البعد المعرفي في مختلف الجوانب. ولأن المسلمين لا يمثلون فكرًا واحدًا ولا مذهبًا واحدًا، ولا
يعتمدون منهجًا واحدًا؛ فإنهم بمختلف اتجاهاتهم يجدون في الإنترنت ما يشبع حاجتهم المعرفية الدينية. وترى عدة دراسات أن الإنترنت بقدر ما هي مصدر معرفة مهم فإنها الأخطر من جهة نوعية المعلومة وطرق وأسلوب تقديمها. ففقدان الرقابة وضعف الوعي لدى عدد من
مبحريها يؤدي غالبًا إلى غير المراد، ومن هنا ينشأ التميع والانحلال كما ينشأ الغلو والتطرف. رسالة الفضائيات مستوردة بدت الفضائيات في السنوات الأخيرة مصدرًا مهمًّا في نقل ونشر المعلومات، وأكثر فاعلية وانتشارًا من(1/324)
غيره. كما بدا التعامل مع هذا الوسيط الجديد يطرح نفسه بجدية أكثر في مجال جمع المعلومات والبحث عن حلول على الهواء لإشكاليات تعترض المسلمين في الغرب. كما أن الفضائيات في متناول الكبار والصغار
على السواء، يتابعون من خلالها البرامج الدينية المختلفة، ويبحثون عن الفتاوى على الهواء. ويعد انتشارها ظاهرة لافتة للنظر؛ إذ لا يكاد يخلو بيت مسلم في الغرب من صحن فضائي يلتقط من خلاله القنوات
المختلفة وباللغات المختلفة وفي الموضوعات المختلفة. ويذكر الدكتور تيسير الآلوسي -أستاذ الأدب العربي- أن تأثير الفضائيات العربية على الجمهور الموجود في الغرب كبير ومتنوع، وهو على تماس مباشر مع
أجواء مختلفة، إلا أنها ليست على مستوى تقني وتعبوي مكتمل، وتشوبها كثير من النواقص على مستوى الأداء، كما تتحكم فيها ظروف محلية محكومة بسياسات محددة في كثير من الأحيان. كما أن ضعف قدرتها على التنسيق، وضعف صلاتها بالجاليات في
الغرب يضع العراقيل أمام تفعيلها بطريقة إيجابية. ويضيف الآلوسي: "إن الفضائيات تمتلك أدوارًا تأثيرية، ولكن أحيانًا سلبية، بخاصة عند تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين؛ لأنها تعتمد خطابًا جامدًا لا يتفاعل مع
واقع يمتلك حراكه الخاص والمميز، وهي عدا ذلك تعكس خليطًا من أرضية ليست متنوعة؛ بل مختلفة متناقضة أحيانًا؛ وهو ما يجعل التأثير السلبي قائمًا، ويجرها بعيدًا عن الاعتدال والوسطية، في وسط حالة من عدم التدقيق في قراءة الوضع
الإعلامي ودراسته موضوعيًّا وعلميًّا؛ حيث يعتمد قراءات متعجلة لغير المتخصصين". الاستشراق ومشكلاته لقد تناولت أقلام المستشرقين الغربيين خلال القرنين الماضين بالدراسة والتحليل مختلف العلوم
الإسلامية، وألّفت في ذلك كتبا وأعدت دراسات، وإن بدا تركيزهم منصبًّا بالأساس على الجانب التاريخي والفلسفي أكثر. غير أن مؤاخذات كثيرة يطرحها عدد من الأكاديميين والمتخصصين في الفكر الاستشراقي؛ أهمها غياب الحيادية في
الغالب، واعتماد أسلوب التشكيك، وتنزيل مناهج نقدية مجردة عن الخلفية الثقافية للمادة المراد دراستها؛ وهو ما دعا عددًا كبيرًا من المسلمين إلى عدم التسليم بالنتائج التي وصل إليها الفكر
الاستشراقي، والنظر إلى الإنتاج الاستشراقي بمزيد من الريبة والشك لكل ما يكتبونه وما كتبوه؛ وهو ما استوجب من الاستشراق الحديث البحث عن مداخل جديدة يستطيع من خلالها رفع الغشاوة التي وضعت على إنتاجه بالعمل
تحت مسميات جديدة. أما عن دور الاستشراق في تشكيل عقل المسلم في الغرب، وضبط صورة الإسلام لدى الغربيين؛ فيوضحه الدكتور يوحنا مولمان -أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة أوكسفورد- في حديثنا معه قائلا: "إن الاستشراق ليس
له علاقة مباشرة بالعامة من الناس، ولكن تأثيره غالبًا ما يكون على المتخصصين من الطلبة والمثقفين والباحثين". ويضيف مولمان: "إن عددًا من وسائل الإعلام في الغرب تصنع صورة الإسلام في ذهن العامة بما تستقيه
من معلومات من الكتب الاستشراقية، وبالتالي يكون التأثير الاستشراقي غير مباشر على العامة، وتأثيره أقوى على المثقفين وصناع الرأي والقرار من ساسة وصحفيين". ضبابية الرسالة بتنوع المسلمين الذين يعيشون في الغرب -من حيث
المستوى العلمي والمعرفي والأصول الجغرافية، ثم من حيث الاتجاه الديني ونوعية التدين الذي تحمله كل مجموعة من جهة، ومدى قابلية القوانين الغربية للتنوع، وقدرة هذه الدول على إدماج المسلمين في نسيج
الدورة الاجتماعية التي يعيشون فيها من جهة أخرى- بهذا التنوع تزداد صعوبة التوصل إلى إيجاد مصدر واحد يشبع رغبة الجميع. في مقابل أن التنوع والتدفق الهائل يستوجب الحذر من الرسالة والخطاب الذي لا يراعي
الخصوصية للأقليات المتوزعة، ثم يبتعد عن التفعيل الإيجابي لهذه الأقليات، غارقًا في مطبات القضايا الخلافية والفرعية والتركيز على جلد الذات. كما يتحتم على ملقي الرسالة أن يراعي في رسالته
المتلقي المراد إيصال الرسالة إليه؛ فمنهم من لا يتكلمون العربية وليسوا عربًا، أو من تشبعوا بثقافة الغرب ولم يعودوا يحملون من العربية سوى اسمها، أو مَن هم من الأميين الذين تعوزهم آلية فهم اللغة وأبعادها،
أو من لا يستطيع أن يُعمِل العقل بشكل سليم. أمّا القلة التي تتوجه الرسالة إليهم مباشرة ممن نهلوا من معين مصادر الإسلام فإنهم ما زالوا مغلولي الأيدي وما زالوا يمثلون الأقلية، ولم
الإسلام في الغرب
http://www.islaminthewest.net/jumla
Powered by Joo
=================
الإسلام الأوروبي جدلية العلاقة بين العقيدة والمواطنة
د. صلاح عبد الرزاق
المقصود بالإسلام الأوروبي ليس تصنيفاً جغرافياً أو سياسياً، بل يقصد به فهم أوروبي معين للإسلام. هذا الفهم يستند إلى مجموعة من الحقائق والوقائع أهمها:- انتشر الإسلام بين مختلف الشعوب والأمم ،(1/325)
سواء تلك التي فتحتها الجيوش الإسلامية كالعراق وإيران وبلاد ما وراء النهر والهند وشمال أفريقيا، أو التي دخلت الإسلام بجهود الدعاة والفرق الصوفية كالفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الصحراء الأفريقية وغرب أفريقيا. وفي العقود الأخيرة أخذ الإسلام ينتشر في القارة الأوروبية وأميركا، حيث يقبل الغربيون على اعتناقه لأسباب شخصية وفكرية وعقائدية واجتماعية وحتى سياسية.
-عندما دخل الإسلام إلى تلك الشعوب والأمم تفاعل مع عاداتها وأعرافها وتقاليدها التي كانت عليها قبل دخولها في الإسلام. ومن طبيعة الإسلام أنه لا ينكر على الشعوب ثقافاتها وعاداتها ما لم تكن مخالفة للتعاليم والمفاهيم والأحكام الإسلامية. لقد تطور الإسلام في كل بلد بشكل مختلف، إلى حد ما، بسبب التباين في التراث الشعبي والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية. لذلك صار بعض الباحثين يميّز بين فهم معين للإسلام في بلد وفهم آخر له في بلد ثانٍ. هذا الفهم يختلف حسب البيئة الثقافية والاجتماعية التي يتطور فيها، وحسب النضج الفكري والتطور الحضاري وطبيعة النظام الاجتماعي في كل بلد مسلم . وبكلمة أخرى بقي الإسلام نفسه لكن فهم الإسلام يختلف من بيئة إلى أخرى،ومن زمن إلى آخر. إن العامل الرئيس المؤثر في اختلاف فهم الإسلام يعود إلى ثقافة كل بلد التي تفاعلت مع الإسلام وصبغته بصبغتها المحلية. لذلك يجد الباحث ان الفهم الإيراني للإسلام يختلف عن الفهم المغربي له، أو ما يمكن التعبير عنه بالإسلام الإيراني والإسلام المغربي ، والإسلام السعودي والإسلام الأندونيسي والإسلام التركي. وكلما كان التفاوت الثقافي كبيراً صار من السهل تمييز نمط إسلامي أو فهم إسلامي معين. وأما الانتماء الجغرافي فيختزن مضموناً توصيفياً للبيئة الثقافية التي نما وتطور فيها الإسلام، وليس تقسيماً سياسياً أو جغرافياً على أساس الحدود السياسية لكل بلد من هذه البلدان.
- وكما تفاعل الإسلام مع ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى وأنتج لنا حضارات إسلامية متنوعة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه متباينة. فالحضارة المغولية الإسلامية في الهند تختلف سماتها عن الحضارة الإسلامية في تركيا العثمانية، والحضارة الإسلامية العربية في الأندلس تختلف عن الحضارة الإسلامية الأفريقية في تمبكتو وزنجبار ونيجيريا. وكذلك يتوقع أن يتفاعل الإسلام مع الحضارة الأوروبية لينتج لنا إسلاماً أوروبياً، أي إسلام مصطبغ بصبغة أوروبية بسبب تأثر المسلمين هناك بالثقافة والمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها ويكتسبون مفاهيمها. وقد يبدو هذا الكلام غريباً في الوقت الحالي، لكننا بدأنا نلاحظ تطور الإسلام في البيئة الأوروبية ، سواء بين المهاجرين المقيمين في أوروبا، أو بين الأوروبيين الذين يعتنقون الإسلام.(1/326)
- إن ملامح الإسلام الأوروبي تبدو من خلال أنماط الثقافة المركبة بين المفاهيم الدينية وبين المفاهيم الغربية. وتتجسد في كثير من صور السلوك اليومي والملابس والعادات، إلى المواقف الفكرية والثقافية والسياسية، إلى الانفتاح على الثقافة الغربية والمجتمع الأوروبي وكل ما يزخر به من مفاهيم وسلوكيات وأساليب في التفكير وتحليل الأمور، ومن قيم وأعراف أوروبية. فهناك اتصال يومي مستمر بين الإسلام الذي يحمله هؤلاء المسلمون وبين مفردات الثقافة الغربية في المدرسة والجامعة والنادي والعمل والحي والشارع. وقد نتفق أو نختلف مع هذا التفاعل أو التطور، وقد نقبله أو نرفضه أو نتحفظ عليه، ولكنه يحدث ويترسخ يوماً بعد آخر. فربما يذوب الإسلام في الثقافة الغربية كما ذابت المسيحية، ويتحول إلى مجرد اعتقاد شخصي لا شأن له بالمجتمع أو السياسة. وربما يتطور لينتج لنا إسلاماً ذا ملامح أوروبية في التأكيد على الحريات الشخصية والأنظمة السياسية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة و حقوق الأقليات وغيرها من معالم الأنظمة السياسية الأوروبية المعاصرة. الإسلام كبقية الديانات، يمكن أن يُنظر إليه من منظورين أو مستويين، الأول: كديانة عالمية World Religion الآخر كديانة محلية Local Religion. إن القواسم المشتركة بين هذين المستويين من الإسلام هي: الإيمان بالله الواحد الأحد، وبرسالة النبي محمد (ص) وبالقرآن الكريم كوحي إلهي. ولكن توجد هناك اختلافات ثقافية كثيرة تتفاوت من أمة مسلمة إلى أخرى. هذه الاختلافات نشأت بسبب عوامل ثقافية واقتصادية واجتماعية عديدة. إن التراث التاريخي و الثقافي، وبضمنه الأعراف والتقاليد، يلعب دوراً مهماً في صياغة طبيعة العقائد الإسلامية في علاقتها بالأحكام لمجتمع معين. وهذا ما يشرح الاختلافات الاجتماعية والثقافية الواضحة بين البلدان المسلمة وأيضاً بين الشعوب المسلمة. من الصحيح أن المسلمين يؤمنون بالعقيدة نفسها والأحكام لكن فهم هذه الأحكام وتعاليم الإسلام ، وكذلك تفسير النصوص الإسلامية، قد تطور في بيئات مختلفة، وضمن خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة. إن الإسلام بحد ذاته لا يعارض الأعراف والتقاليد التي لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية. إذ تقبل الإسلام الكثير من العادات العربية التي عدها المسلمون فيما بعد أنها تقاليد إسلامية. وأكثر من ذلك، اعترف الإسلام بالأعراف العربية وأسبغ الشرعية عليها، كتعدد الزوجات والرق. وهذا يعني أن الإسلام نفسه يسمح ويحمي العناصر الثقافية الشعبية للشعوب التي تعتنقه. خلال العقدين الماضيين انتشر استخدام مصطلح (الإسلام الأوروبي) و (الإسلام الغربي) بين الباحثين والسياسيين الغربيين الذين يتناولون قضايا الإسلام والمسلمين في الغرب. ويستخدمون مختلف التعبيرات مثل (الإسلام الأوروبي الغربيWestern European Islam)) إسلام أوروبا Europe's Islam، الإسلام الأوروبي European Islam) و (يورو إسلام Euro Islam) و(الإسلام الأميريكي American Islam). كما قد تجري تسمية الإسلام نسبة إلى بلد أوروبي مثلاً (الإسلام الهولندي Dutch Islam) و(الإسلام الفرنسي 7French Islam) و(الإسلام البريطاني British Islam) و (الإسلام الإيطالي Italian Islam). يَعتبر المفكر الهولندي المسلم فان بومل الإسلام الأوروبي نتاجاً لتطور الإسلام ضمن البيئة الأوروبية. ويرى أن "الإسلام الهولندي (أو الأوروبي) يمكن أن يصبح أصيلاً وعالمياً، إذ لا يمكن تقييده من خلال التقاليد المحلية أو الجالية المسلمة القادمة من المناطق الزراعية في البلدان الإسلامية.
ويعرّف الباحثان البروفسور واصف شديد والمستشرق فان كوننكزفيلد Van Koningsveld (الإسلام الهولندي) من أرضية مؤسساتية، لافتين الانتباه إلى تأثير القوانين والأعراف الاجتماعية الهولندية في تحديد وظيفة الدين، ومن ضمنها الإسلام، في المجتمع، ويعتبران وجود الإسلام الهولندي أو الإسلام الأوروبي في كل بلد أوروبي، مرتبط بالتعاون الوثيق بين مختلف التيارات الإسلامية، بحيث يؤدي إلى تأسيس مجالس إسلامية وطنية في البلدان الأوروبية ، أي أن وجود مؤسسات إسلامية رسمية في البلدان الأوروبية هي الأساس في تكوين الإسلام الأوروبي، والجدير بالذكر أن المسلمين في بلجيكا وفرنسا لديهم مجالس إسلامية معترف بها رسمياً.
ويرى الباحث بسام طيبي (سوري مقيم في ألمانيا)، أن "الإسلام الأوروبي هو تفسير مفاهيمي مرتبط بحدود الدستور العلماني، إذن، المشكلة هي كيف يتكيف الفكر الإسلامي والأحكام الإسلامية مع النظام القانوني-السياسي الغربي الموجود في الدستور العلماني للدولة الأوروبية، أعتقد أن هذا التعريف يبدو مقبولاً، ولكنه يهمل بعض العناصر المهمة مثل مسألة الهوية الدينية ودور العوامل الاجتماعية-الثقافية في تشكيل الإسلام الأوربي.(1/327)
ويلاحظ أحياناً أن مصطلحي (الإسلام الأوروبي) و(الإسلام في أوروبا) يستخدمان كمصطلحين مترادفين. فعندما يتحدث البروفسور حاجي إبراهيم رئيس (معهد الفهم الإسلامي The Institute of Islamic Understanding) في كوالا لامبور في ماليزيا، عن المسلمين المهاجرين في أوروبا، يقول أن "الإسلام الأوروبي هو مسألة مواطنة، والتي توجد عندما "يكون هناك عدد معتد به من المسلمين يكتسبون مواطنة (جنسية) بلد الإقامة"، ثم يستنتج: "عندئذ تصبح فرضية الإسلام الأوروبي واقعاً، فهو يعتقد ببساطة أن الإسلام الأوروبي يُصنّف فقط من خلال المهاجرين المسلمين الذين يكتسبون الجنسية الأوروبية، فهو بذلك يختزل الإسلام الأوروبي في وجود مسلمين حاصلين على جنسية أوروبية، فيتجاهل المكونات الثقافية والاجتماعية والشرعية للإسلام الأوروبي، كما أنه يتجاهل العوامل المؤثرة في العلاقة بين المسلمين من جانب، وبين والمجتمعات الأوروبية والثقافة الغربية من جانب آخر.يُستخدم مصطلح الإسلام الأوروبي (أو الغربي) للإشارة إلى الإسلام في البيئة الأوروبية (أو الغربية)، أي يعني كل أشكال الإسلام في البلدان التي يعيش فيها المسلمون في بيئة غربية، وخاصة مبدأ الفصل بين الدين والدولة، على الرغم من التغييرات الكثيرة التي تُمارس داخل أنماط هذا الفصل في جميع البلدان ذات الثقافة الغربية، والتي تشمل أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا.
ن الإسلام الأوروبي هو شكل من الإسلام ينسجم مع الأنظمة العلمانية والديموقراطية السائدة في هذه البلدان. إنه شكل إسلامي يستجيب لمتطلبات العيش في البيئة الغربية، أي يتقبل الأنظمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقضائية، كما أنه يعترف بأن قسماً من أحكام الشريعة الإسلامية غير قابلة للتطبيق في مجتمع غير مسلم أو في بيئة علمانية، إذن، الإسلام الأوروبي يعني أن الإسلام يحتل مكانة مشابهة للديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية في الغرب.
الإسلام الأوروبي يتحدد بشكل رئيس في إطار الشؤون الشخصية، ولا يفرض نظاماً اجتماعياً كما هو الحال في غالبية بلدان العالم الإسلامي، حيث يتمتع الإسلام باعتراف رسمي باعتباره دين الدولة، وفي البيئة الغربية، يلعب الدين دوراً محدوداً في الحياة العامة والنشاطات السياسية والثقافية، وهذا ما ينطبق على الإسلام في أوروبا، فالمسلمون في الغرب يتمتعون بالحرية الدينية التي تضمنها لهم الدساتير الغربية، وهم أحرار في ممارسة شعائرهم وتأسيس مساجد ومدارس ومراكز إسلامية، ولهم الحق في ممارسة حقوقهم السياسية سواء لكونهم مواطنين لهذه البلدان، أو أجانب مقيمين فيها، كما بإمكانهم تأسيس منظمات دينية و جمعيات ثقافية و أحزاب سياسية، كما يمكن للنساء المسلمات ارتداء الحجاب في الأماكن العامة.الإسلام الأوروبي هو توجه إسلامي يتكيف مع الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية الغربية. ففي العقدين الماضيين حرص الفقهاء والعلماء المسلمون على دراسة مختلف المشاكل التي تواجه المسلمين في الغرب، وأصدروا فتاوى تسهل حياتهم في البلدان الغربية. ولقد تطور (فقه الأقليات الإسلامية) في الغرب بشكل مضطرد حيث تم تأسيس (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) عام 1997، ليتولى إصدار الفتاوى والآراء الفقهية بصدد مختلف القضايا التي تواجه المسلمين في الغرب، هذه الفتاوى تمثل استجابة لهذه المشاكل، حيث ساهمت بشكل فعال في فتح الآفاق العملية أمام المهاجرين المسلمين في الغرب، فقد أجازت هذه الفتاوى مثلاً اكتساب الجنسية الغربية، وما يترتب على ذلك من آثار قانونية وسياسية مهمة؛ ويجوز للمسلمين الانتماء للأحزاب السياسية الغربية؛ ويمكنهم مراجعة المحاكم الغربية للتقاضي والحصول على حقوقهم؛ كما يجوز لهم العمل في دوائر الشرطة والانخراط في الجيوش الغربية
==============
الإسلام الأوروبي
د. صلاح عبد الرزاق - باحث
المقصود بالإسلام الأوروبي ليس تصنيفاً جغرافياً أو سياسياً، بل يقصد به فهم أوربي معين للإسلام. هذا الفهم يستند إلى مجموعة من الحقائق والوقائع أهمها: انتشر الإسلام بين مختلف الشعوب والأمم ، سواء تلك التي فتحتها الجيوش الإسلامية كالعراق وإيران وبلاد ما وراء النهر والهند وشمال أفريقيا، أو التي دخلت الإسلام بجهود الدعاة والفرق الصوفية كالفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الصحراء الأفريقية وغرب أفريقيا. وفي العقود الأخيرة أخذ الإسلام ينتشر في القارة الأوروبية وأمريكا، حيث يقبل الغربيون على اعتناقه لأسباب شخصية وفكرية وعقائدية واجتماعية وحتى سياسية.
عندما دخل الإسلام إلى تلك الشعوب والأمم تفاعل مع عاداتها وأعرافها وتقاليدها التي كانت عليها قبل دخولها في الإسلام. ومن طبيعة الإسلام أنه لا ينكر على الشعوب ثقافاتها وعاداتها ما لم تكن مخالفة للتعاليم والمفاهيم والأحكام الإسلامية.(1/328)
لقد تطور الإسلام في كل بلد بشكل مختلف، إلى حد ما، بسبب التباين في التراث الشعبي والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية. لذلك صار بعض الباحثين يميّز بين فهم معين للإسلام في بلد وفهم آخر له في بلد ثانٍ. هذا الفهم يختلف حسب البيئة الثقافية والاجتماعية التي يتطور فيها، وحسب النضج الفكري والتطور الحضاري وطبيعة النظام الاجتماعي في كل بلد مسلم . وبكلمة أخرى بقي الإسلام نفسه لكن فهم الإسلام يختلف من بيئة إلى أخرى،ومن زمن إلى آخر. إن العامل الرئيسي المؤثر في اختلاف فهم الإسلام يعود إلى ثقافة كل بلد والتي تفاعلت مع الإسلام وصبغته بصبغتها المحلية. لذلك يجد الباحث أن الفهم الإيراني للإسلام يختلف عن الفهم المغربي له، أو ما يمكن التعبير عنه بالإسلام الإيراني والإسلام المغربي ، والإسلام السعودي والإسلام الأندونيسي والإسلام التركي. وكلما كان التفاوت الثقافي كبيراً صار من السهل تمييز نمط إسلامي أو فهم إسلامي معين. وأما الانتماء الجغرافي فيختزن مضموناً توصيفياً للبيئة الثقافية التي نما وتطور فيها الإسلام، وليس تقسيماً سياسياً أو جغرافياً على أساس الحدود السياسية لكل بلد من هذه البلدان.
وكما تفاعل الإسلام مع ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى وأنتج لنا حضارات إسلامية متنوعة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه متباينة. فالحضارة المغولية الإسلامية في الهند تختلف سماتها عن الحضارة الإسلامية في تركيا العثمانية، والحضارة الإسلامية العربية في الأندلس تختلف عن الحضارة الإسلامية الأفريقية في تمبكتو وزنجبار ونيجيريا. وكذلك يتوقع أن يتفاعل الإسلام مع الحضارة الأوروبية لينتج لنا إسلاماً أوروبياً، أي ينتج إسلاماً مصطبغاً بصبغة أوربية بسبب تأثر المسلمين هناك بالثقافة والمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها ويكتسبون مفاهيمها. وقد يبدو هذا الكلام غريباً في الوقت الحالي، لكننا بدأنا نلاحظ تطور الإسلام في البيئة الأوروبية ، سواء بين المهاجرين المقيمين في أوروبا، أو بين الأوروبيين الذين يعتنقون الإسلام.
إن ملامح الإسلام الأوروبي تبدو من خلال أنماط الثقافة المركبة بين المفاهيم الدينية المفاهيم الغربية. وتتجسد في كثير من صور السلوك اليومي والملابس والعادات، إلى المواقف الفكرية والثقافية والسياسية، إلى الانفتاح على الثقافة الغربية والمجتمع الأوروبي وكل ما يزخر به من مفاهيم وسلوكيات وأساليب في التفكير وتحليل الأمور، ومن قيم وأعراف أوروبية. فهناك اتصال يومي مستمر بين الإسلام الذي يحمله هؤلاء المسلمين وبين مفردات الثقافة الغربية في المدرسة والجامعة والنادي والعمل والحي والشارع. وقد نتفق أو نختلف مع هذا التفاعل أو التطور، وقد نقبله أو نرفضه أو نتحفظ عليه، ولكنه يحدث ويترسخ يوماً بعد آخر. فربما يذوب الإسلام في الثقافة الغربية كما ذابت المسيحية، ويتحول إلى مجرد اعتقاد شخصي لا شأن له بالمجتمع أو السياسية. وربما يتطور لينتج لنا إسلاماً ذا ملامح أوروبية في التأكيد على الحريات الشخصية والأنظمة السياسية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وغيرها من معالم الأنظمة السياسية الأوروبية المعاصرة.
الإسلام كبقية الديانات، يمكن أن يُنظر إليه من منظورين أو مستويين، الأول: كديانة عالمية World Religion ، الآخر كديانة محلية Local Religion. إن القواسم المشتركة بين هذين المستويين من الإسلام هي: الإيمان بالله الواحد الأحد، وبرسالة النبي محمد (ص) وبالقرآن الكريم كوحي إلهي. ولكن توجد هناك اختلافات ثقافية كثيرة تتفاوت من أمة مسلمة إلى أخرى. هذه الاختلافات نشأت بسبب عوامل ثقافية واقتصادية واجتماعية عديدة. إن التراث التاريخي و الثقافي، وبضمنه الأعراف والتقاليد، يلعب دوراً مهماً في صياغة طبيعة العقائد الإسلامية في علاقتها بالأحكام لمجتمع معين. وهذا ما يشرح الاختلافات الاجتماعية والثقافية الواضحة بين البلدان المسلمة وأيضاً بين الشعوب المسلمة. من الصحيح أن المسلمين يؤمنون بنفس العقيدة والأحكام، لكن فهم هذه الأحكام وتعاليم الإسلام ، وكذلك تفسير النصوص الإسلامية، قد تطور في بيئات مختلفة، وضمن خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة. إن الإسلام بحد ذاته لا يعارض الأعراف والتقاليد التي لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية. إذ تقبل الإسلام الكثير من العادات العربية التي اعتبرها المسلمون فيما بعد أنها تقاليد إسلامية. وأكثر من ذلك، اعترف الإسلام بالأعراف العربية وأسبغ الشرعية عليها، كتعدد الزوجات والرق. وهذا يعني أن الإسلام نفسه يسمح ويحمي العناصر الثقافية الشعبية للشعوب التي تعتنقه. لقد لاحظ المستشرق الألماني كارل بروكلمان Karl Brockelmann "أن جميع الديانات العالمية قد اضطرت إلى أن تتساهل مع معتقدات معتنقيها الجدد السابقة".(1/329)
لقد شاع بين الباحثين الغربيين تقسيم الإسلام على أساس جغراقي أو وطني أو إقليمي، وحتى قارّي. إذ يستخدمون مصطلحات مثل الإسلام الأمريكي، الإسلام الآسيوي والإسلام الأوروبي. في كتابهما (الإسلام الأفريقي والإسلام في أفريقيا) يحدد الباحث ديفيد ويسترلوند David Westerland والباحثة السويدية إيفا إيفرز روزاندر Eva Evers Rosander هذا الشكل من الإسلام من خلال الخلفية الصوفية فقط: "عندما يكون الحديث عن الإسلام الأفريقي، فنحن نشير إلى أشكال بيئية Contextualized أو محلية Localized موجودة على الخصوص في البيئات الصوفية Sufi. يوصف الإسلام الأفريقي كثيراً بأنه مرن ومتكيف دينياً ". إن تحديد الإسلام الأفريقي بشكل واحد من الإسلام التقليدي في أفريقيا ليس دقيقاً وربما مضلل، لأن هناك أشكالاً إسلامية أخرى وحركات (تقليدية، إصلاحية وأصولية). كما أن الطرق الصوفية نشيطة في أماكن أخرى خارج أفريقيا، في آسيا وأوروبا.
خلال العقدين الماضيين انتشر استخدام مصطلح (الإسلام الأوروبي) و (الإسلام الغربي) بين الباحثين والسياسيين الغربيين الذين يتناولون قضايا الإسلام والمسلمين في الغرب. ويستخدمون مختلف التعبيرات مثل (الإسلام الأوروبي الغربيWestern European Islam )، (إسلام أوروبا Europe's Islam)، (الإسلام الأوروبي European Islam) و (يورو إسلام Euro Islam) و(الإسلام الأمريكي American Islam). كما قد تجري تسمية الإسلام نسبة إلى بلد أوروبي مثلاً (الإسلام الهولندي Dutch Islam) و(الإسلام الفرنسي French Islam) و(الإسلام البريطاني British Islam) و (الإسلام الإيطالي Italian Islam).
يَعتبر المفكر الهولندي المسلم فان بومل الإسلام الأوروبي نتاجاً لتطور الإسلام ضمن البيئة الأوروبية. ويرى أن "الإسلام الهولندي (أو الأوروبي) يمكن أن يصبح أصيلاً وعالمياً. إذ لا يمكن تقييده من خلال التقاليد المحلية أو الجالية المسلمة القادمة من المناطق الزراعية في البلدان الإسلامية". ويعرّف الباحثان البروفسور واصف شديد والمستشرق فان كوننكزفيلد Van Koningsveld (الإسلام الهولندي) من أرضية مؤسساتية، لافتين الانتباه إلى تأثير القوانين في الأعراف الاجتماعية الهولندية في تحديد وظيفة الدين، ومن ضمنها الإسلام، في المجتمع. ويعتبران وجود الإسلام الهولندي أو الإسلام الأوروبي في كل بلد أوروبي، مرتبطاً بالتعاون الوثيق بين مختلف التيارات الإسلامية، بحيث يؤدي إلى تأسيس مجالس إسلامية وطنية في البلدان الأوروبية، أي أن وجود مؤسسات إسلامية رسمية في البلدان الأوروبية هي الأساس في تكوين الإسلام الأوروبي. الجدير بالذكر أن المسلمين في بلجيكا وفرنسا لديهم مجالس إسلامية معترف بها رسمياً.
ويرى الباحث بسام طيبي (سوري مقيم في ألمانيا)، أن "الإسلام الأوروبي هو تفسير مفاهيمي مرتبط بحدود الدستور العلماني". إذن، المشكلة هي كيف يتكيف الفكر الإسلامي والأحكام الإسلامية مع النظام القانوني-السياسي الغربي الموجود في الدستور العلماني للدولة الأوروبية. أعتقد أن هذا التعريف يبدو مقبولاً، ولكنه يهمل بعض العناصر المهمة مثل مسألة الهوية الدينية ودور العوامل الاجتماعية-الثقافية في تشكيل الإسلام الأوروبي.
يلاحظ أحياناً أن مصطلحي (الإسلام الأوروبي) و(الإسلام في أوروبا) يستخدمان كمصطلحين مترادفين. فعندما يتحدث البروفسور حاجي إبراهيم رئيس (معهد الفهم الإسلامي The Institute of Islamic Understanding) في كوالا لامبور في ماليزيا، عن المسلمين المهاجرين في أوروبا، يقول أن "الإسلام الأوروبي هو مسألة مواطنة، والتي توجد عندما "يكون هناك عدد معتد به من المسلمين يكتسبون مواطنة (جنسية) بلد الإقامة". ثم يستنتج: "عندئذ تصبح فرضية الإسلام الأوروبي واقعاً". فهو يعتقد ببساطة أن الإسلام الأوروبي يُصنّف فقط من خلال المهاجرين المسلمين الذين يكتسبون الجنسية الأوروبية. فهو بذلك يختزل الإسلام الأوروبي في وجود مسلمين حاصلين على جنسية أوربية. فيتجاهل المكونات الثقافية والاجتماعية والشرعية للإسلام الأوروبي. كما أنه يتجاهل العوامل المؤثرة في العلاقة بين المسلمين من جانب، وبين والمجتمعات الأوروبية والثقافة الغربية من جانب آخر.(1/330)
يُستخدم مصطلح الإسلام الأوروبي (أو الغربي) للإشارة إلى الإسلام في البيئة الأوروبية (أو الغربية)، أي يعني كل أشكال الإسلام في البلدان التي يعيش فيها المسلمون في بيئة غربية، وخاصة مبدأ الفصل بين الدين والدولة، على الرغم من التغييرات الكثيرة التي تُمارس داخل أنماط هذا الفصل في جميع البلدان ذات الثقافة الغربية، والتي تشمل أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا. إن الإسلام الأوروبي هو شكل من الإسلام ينسجم مع الأنظمة العلمانية والديموقراطية السائدة في هذه البلدان. إنه شكل إسلامي يستجيب لمتطلبات العيش في البيئة الغربية، أي يتقبل الأنظمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقضائية. كما أنه يعترف بأن قسماً من أحكام الشريعة الإسلامية غير قابلة للتطبيق في مجتمع غير مسلم أو في بيئة علمانية. إذن، الإسلام الأوروبي يعني أن الإسلام يحتل مكانة مشابهة للديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية في الغرب. الإسلام الأوروبي يتحدد بشكل رئيسي في إطار الشؤون الشخصية، ولا يفرض نظاماً اجتماعياً كما هو الحال في غالبية بلدان العالم الإسلامي، حيث يتمتع الإسلام باعتراف رسمي باعتباره دين الدولة. في البيئة الغربية، يلعب الدين دوراً محدوداً في الحياة العامة والنشاطات السياسية والثقافية. وهذا ما ينطبق على الإسلام في أوروبا، فالمسلمون في الغرب يتمتعون بالحرية الدينية التي تضمنها لهم الدساتير الغربية. وهم أحرار في ممارسة شعائرهم وتأسيس مساجد مدارس ومراكز إسلامية. ولهم الحق في ممارسة حقوقهم السياسية سواء لكونهم مواطنين لهذه البلدان، أو أجانب مقيمين فيها. كما بإمكانهم تأسيس منظمات دينية و جمعيات ثقافية و أحزاب سياسية، كما يمكن للنساء المسلمات ارتداء الحجاب في الأماكن العامة.
الإسلام الأوروبي هو توجه إسلامي يتكيف مع الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية الغربية. ففي العقدين الماضيين حرص الفقهاء والعلماء المسلمون على دراسة مختلف المشاكل التي تواجه المسلمين في الغرب، وأصدروا فتاوى تسهل حياتهم في البلدان الغربية. لقد تطور (فقه الأقليات الإسلامية) في الغرب بشكل مطرد حيث تم تأسيس (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) عام 1997، ليتولى إصدار الفتاوى والآراء الفقهية بصدد مختلف القضايا التي تواجه المسلمين في الغرب. هذه الفتاوى تمثل استجابة لهذه المشاكل، حيث ساهمت بشكل فعال في فتح الآفاق العملية أمام المهاجرين المسلمين في الغرب. فقد أجازت هذه الفتاوى مثلاً اكتساب الجنسية الغربية، وما يترتب على ذلك من آثار قانونية وسياسية مهمة؛ ويجوز للمسلمين الانتماء للأحزاب السياسية الغربية؛ ويمكنهم مراجعة المحاكم الغربية للتقاضي والحصول على حقوقه؛ كما يجوز لهم العمل في دوائر الشرطة والانخراط في الجيوش الغربية.
=================
مشكلة العلاقة الجنسية لدى المسلمين في الغرب ، والحلول المختلفة لها
يعيش المسلمون في الغرب بصورة عامة والشباب المهاجر بصورة خاصة ، مشكلة في العلاقات الجنسية، نظرا لأجواء الاباحية والخلاعة المتفشية في الغرب سواء في الشوارع او التلفزيون والانترنت ووسائل الاعلام او المدارس او مكاتب العمل من جهة وعدم القدرة على العثور على الشريك المسلم المناسب بسهولة من جهة اخرى، وهذا ما يضطر الانسان المسلم اما الى تكبد حياة العفاف والصوم عن الجنس الآخر، مع ما في ذلك من مشقة وعذاب ، واما الى الانخراط في الحياة الغربية الماجنة باقامة علاقات غير شرعية ومحرمة ، مع ما في ذلك من مخاطر صحية واجتماعية كبيرة.
وربما كانت مجتمعات اسلامية عديدة تشهد انفجارا سكانيا ونسبة عالية من الشباب ، تعاني من نفس المشكلة الجنسية وعدم القدرة على الزواج المبكر بسبب نظام التعليم والظروف الاقتصادية، ولكن المشكلة الجنسية في الغرب تتخذ بعدا اكثر خطورة نظرا لتيسر الفاحشة وسهولة العلاقات الجنسية المحرمة شرعا، وصعوبة الزواج، وغياب الرقابة الاجتماعية وانعدام القوانين الاسلامية الرادعة. وهو ما راح يشكل أمرا ضاغطا على الكثير من الآباء المسلمين للتفكير بحلول عملية للحفاظ على أبنائهم من السقوط في مهاوي الرذيلة، وتجاوز الأزمة الجنسية الخانقة. كما يشكل باعثا قويا للفقهاء والمفكرين وعلماء الاجتماع المسلمين للتفكير في المسألة واستنباط افضل الحلول الممكنة في ظروف الحياة الغربية الاقتصادية والاجتماعية.
الزواج المبكر(1/331)
الحل الأفضل بالطبع هو الزواج المبكر، الذي كان مطبقا في مجتمعاتنا الاسلامية القديمة زمن أجدادنا، قبل ان ينحسر أمام نظام التعليم الحديث (الغربي) الذي أخره الى ما بعد التخرج من الجامعة والحصول على وظيفة ودخل اقتصادي كاف ، وربما أخره الى ما بعد الثلاثين من العمر. وهذا الحل وان كان يتوافق مع الشريعة الاسلامية الا انه يصطدم بالقوانين الغربية التي لا تبيح الجواز الا بعد عمر الثامنة عشرة، وبالأعراف الاجتماعية التي تستنكر الزواج المبكر، وبالظروف الاقتصادية التي لا تسمح للشاب او للعائلة بتزويج ابنهم وتوفير سكن ودخل مستقل له، او بظروف التعليم التي لا تسمح للشاب او الفتاة بالتفرغ لتربية الأطفال وادارة بيت الزوجية، ولذلك قلما نجد في المجتمعات الاسلامية في الغرب زيجات تتم تحت سن الخامسة والعشرين. بل كثيرا ما نشاهد الشباب العازبين والفتيات العانسات وهم يتخطون سن الثلاثين وقد يقتربون من الأربعين. وكثيرا ما يلجأ الشباب او تلجأ العوائل للبحث عن شركاء مناسبين لهم او لأبنائهم من اقربائهم في بلدانهم الأصلية والعودة للسكن هناك او جلب الشريك بصعوبة للعيش في الغرب.
ورغم نسبة الزواج من ابناء البلاد الغربية او من سكانها من الجاليات المسلمة الاخرى ، الا ان كثيرا من المسلمين لا يزال يفضل الزواج ليس من المسلمين فقط وانما من ابناء قوميته او ابناء بلده وطائفته، وذلك خوفا من احتمالات فشل الزواج مع الأجانب ، التي تشكل نسبة عالية.
ونظرا لتأخر سن الزواج لدى المسلمين في الغرب، بعد الانتهاء من الدراسة وايجاد عمل ودخل مناسبين، فان الشباب المهاجر يعاني على الأقل من فترة جنسية حرجة تمتد حوالي عشر سنوات. وبما انها نسبة عالية بين الشباب المسلم فانها تحتاج الى حل عملي ، واهمالها او غض الطرف عنها يضع الشباب أمام خطر الانحراف الجنسي بشكل مؤكد.
تخفيف شروط الزواج
من المعروف ان الزواج الرسمي التقليدي يتطلب من الزوج تكاليف باهضة من المهر وتوفير السكن والنفقة للزوجة، وهذا ليس بمتيسر لعامة الشباب، ولذلك فقد طرح بعض الفقهاء المعاصرين كالشيخ عبد المجيد الزنداني، ريس جامعة الإيمان باليمن ورئيس مجلس شورى حزب التجمع للاصلاح، حلا سمّي بـ:"زواج فريند" وهو لا يعني به الزواج على طريقة المعاشرة الجنسية الغربية على أساس الصداقة، وانما على الطريقة الاسلامية القائمة على العقد الشرعي، وانما بتخفيف المهر الحاضر وتأجيله الى المستقبل والاستغناء عن اشتراط توفير السكن والنفقة لمدة معينة بانتظار تخرج الشاب من الجامعة وحصوله على عمل. حيث قال في مقابلة له:"ان الزواج المقصود في فتواي له عقد شرعي فيه ايجاب وقبول وولي وإشهار وصداق وخلو الزوجين من الموانع الشرعية، ما دام تم هذا العقد فمن حق الزوجين الاستمتاع ببعضهما البعض كزوجين شرعيين. وان توفير السكن ليس من شروط صحة العقد وعدم توافره لا يبطل العقد باتفاق الفقهاء" وقال:" انه يوافق بل ويبحث عن كل ما ييسر على المسلمين في حياتهم، وان ما قصدته هو تقنين وإيجاد صيغة شرعية لعلاقات الصداقة المنتشرة في الغرب بين الشباب والفتيات، وأنا لست صاحب مصطلح "زواج فريند" بل ان الإعلام هو الذي اطلق هذا العنوان وأرى ان يكون المصطلح الأنسب لهذا النوع من الزواج هو: (الزواج الميسر للمسلمين في الغرب)". (القدس العربي العدد 4447)
ورغم شرعية هذا الزواج بالمعايير الاسلامية السنية ، الا ان البعض كالدكتور عبد الصبور شاهين الاستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة رأى فيه توظيفا لفكرة "زواج المتعة" ولكن باسلوب مودرن.وأخذ الدكتور عبد المعطي بيومي عميد كلية اصول الدين بجامعة الأزهر سابقا، على هذا النوع من الزواج أنه لا يحقق السكن والمودة والرحمة المطلوبة في الزواج، وانه لا يحقق الا اعطاء الشرعية للاتصال الجنسي بين الشاب والفتاة ، ولا يحقق سوى الالتفاف على الشرعية الاسلامية لقضاء الحاجة والرغبة الجنسية.(المصدر السابق) ولكن رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا الشيخ علي ابو الحسن يقول:" ان دعوة الشيخ الزنداني كان يهدف من ورائها اتقاء شرور الفتن الاخلاقية وان تسهم في ايجاد حلول شرعية مناسبة لأزمة العنوسة ومشكلة البطالة الموجودة حاليا في دول اوربية وغربية كثيرة وصعوبة توفير منزل للزواج، كما تسهم في عدم انتشار العلاقات الجنسية غير الشرعية، كما ان هناك قاعدة فقهية تؤكد أن الضرورات تبيح المحظورات، فهو عقد شرعي من كل جوانبه وتتوافر فيه اركان وشروط الزواج الصحيح الذي نص عليه الاسلام" ولكنه يستدرك فيقول:" ان هذه الفتوى قابلة فقط للتطبيق في الدول الغربية التي تعيش فيها جاليات مسلمة من باب فقه الأقليات المسلمة في الخارج ويعيشون في بلاد لا تخضع لقوانين وتقاليد الشريعة الاسلامية ويعانون من مشكلات كثيرة لهم ولأولادهم وبناتهم". (المصدر السابق)(1/332)
وفي الحقيقة ليس في دعوة الشيخ الزنداني أي أمر جديد سوى التخفيف والتسهيل في أمر الزواج، وربما كان له نظير قريب في بعض البلاد الاسلامية (مصر) هو "الزواج المدني" ، ولكن معظم الآباء المسلمين في الغرب كما في الشرق يفضل الحصول على مستلزمات الزواج الكاملة بدلا من السماح باقامة هكذا زيجات غير مستقرة في بيت معين، خوفا من طول فترة عدم الاستقرار الاقتصادي وانتهاء الزواج الى الفشل والطلاق. ولذلك يشترطون القدرة الابتدائية على فتح بيت الزوجية وتأثيثه بأغلى الاثاث. ويندر ان نجد بين المسلمين من يسمح لابنه او بنته حتى لو كانت فوق الثامنة عشرة، باقامة علاقات زوجية وكل منهما في بيته او بيتها. وربما كان الرفض اقوى لدى الفتيات المسلمات، في حين ان الشباب قد يجدون من فتيات الغرب غير المسلمات من ترحب باقامة هكذا علاقة على اساس الصداقة اكثر منها على اساس الزواج الشرعي.
الزواج بنية الطلاق
يعتقد كثير من الفقهاء بأن الزواج بنية الطلاق لاحقاً محرم وباطل لأنه يناقض شرط الدوام ، ويتضمن نوعاً من الغش والغرر والاضرار بالزوجة وخاصة الباكر، ولكن الحاح المشكلة الجنسية على كثير من المسلمين في الغرب وخاصة الطلبة الذين يقضون اربع او خمس سنوات في الغربة ولا يستطيعون اصطحاب زوجاتهم معهم في الوقت الذي لا يطيقون حياة العزوبية، دفعت الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة العربية السعودية السابق، الى إجازة هذا النوع من الزواج بالمرأة الغربية التي لا يستطيع الشاب الطالب المسلم اصطحابها معه لدى عودته الى بلده، واضطراره الى انهاء حياته معها. ولكن بشرط عدم التصريح بنية الطلاق .
وهناك رواية عن الخليفة عمر بن الخطاب تشير الى اقتراحه هذا النوع من الزواج بنية الطلاق، بدلا من عقد المتعة المؤقت.[1]
وربما كان الشيخ فيصل مولوي يشير الى هذا الحل (الطلاق بعد الزواج) كأسلوب عملي افضل من زواج المتعة الذي يتضمن تحديد مدة الزواج مسبقا، فيقول:" إن زواج المتعة لا حاجة له في شريعتنا الإسلامية؛ لأن الأصل في الزواج التأبيد، ولأن إمكانية الطلاق سهلة في أحكامنا الشرعية، فلو تزوج المسلم فتاة لمدة معينة ثم وجدها مناسبة له يمكنه أن يجعل هذا الزواج دائماً. ولو أنه تزوج زواجاً دائماً ثم شعر بعد أيام أنه لا يستطيع العيش مع زوجته فبإمكانه طلاقها.. فما هي الحاجة إذن إلى تعيين مدة للزواج طالما أن إمكانية الطلاق موجودة حتى قبل انقضاء هذه المدة؟ "
وهذا النوع من الزواج وان كان يشابه زواج المتعة المعروف لدى الشيعة، من حيث تحديد مدة الزواج عمليا، الا انه لا يتضمن التصريح بذلك في العقد وانما النية فقط في القلب، ويحتاج انهائه الى التلفظ بصيغة الطلاق ، كما ان المرأة تستحق على الزوج النفقة والميراث كأي زواج دائم بخلاف زواج المتعة.
الزواج المؤقت
وهو ما يعرف ايضا بزواج المتعة، الذي يشبه الزواج الدائم من حيث العقد والمهر والولي، ولكنه يختلف معه في تحديد مدة الزواج وعدم احتياجه الى الطلاق عند انتهاء المدة. كما انه يختلف في بعض الاحكام المتعلقة بالزواج كالنفقة والإرث والعدد والعدة.
وهو موضوع كثر حوله الجدل والنقاش بين الشيعة والسنة عبر التاريخ، ولا نريد ان نعطي رايا حاسما حول الموضوع بقدر ما نريد ان نقترب منه قليلا في ضوء المشكلة الجنسية المتفاقمة لدى المسلمين في الغرب، ونحاول ان نستعرض الآراء المختلفة حوله من علماء الشيعة والسنة، وندرس الظروف الاجتماعية للتحريم. وكما تعرفون فان الزواج المؤقت حلال عند الشيعة الجعفرية وحرام عند بقية المذاهب السنية والزيدية من الشيعة، ويتفق الطرفان على انه كان حلالا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول السنة ان النبي حرمه عدة مرات وأحله في اوقات خاصة، ولكنه حرمه تحريما مؤبدا في اواخر حياته، وأكد حرمته الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه،وهدد بمعاقبة من يمارسه بعد ذلك، ومع ذلك فقد ظل بعض الصحابة يعتقد بحليته وينكر تحريم الرسول له.
أدلة رأي الشيعة
اسمحوا لي ان استعرض رأي الشيعة في البداية، ثم استعرض بعد ذلك رأي السنة والأقوال المتعددة في الموضوع .
يعتمد الشيعة في قولهم بتحليل زواج المتعة على آية من القرآن الكريم وعلى السنة واقوال بعض الصحابة، وينفون حصول الاجماع على تحريمه
أما الآية الكريمة فهي قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة من الله)[سورة النساء: الآية 24]. وقد روي عن جماعة من الصحابة، منهم أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، أنهم قرأوا: (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهنّ فريضة)، وفي ذلك تصريح بأن المراد به زواج المتعة ، وقد قال الرازي في تفسيره لهذه الآية: (إن المراد بهذه الآية حكم المتعة، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم لأجل معيّن فيجامعها)،(1/333)
و أخرج البخاري في صحيحه (ج 2 ص 176)عن عمران بن حصين أنه قال: (نزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم ينزل قرآن يحرّمها، ولم ينه عنها، حتى مات (صلى الله عليه وآله)، قال رجل برأيه ما شاء).
وأخرج مسلم في صحيحه ( ج 2 ص 1024) عن أبي الزبير قال: (سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث).
و أخرج مسلم في صحيحه ( ج 6 ص 119)، عن قيس قال: سمعت عبد الله يقول: كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليس لنا نساء، فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله (يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)[سورة المائدة: الآية 87].
وروى ايضا في كتاب النكاح، باب 3 قائلا:
- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت الحسن بن محمد يحدّث عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني متعة النساء
- وحدّثني أميّة بن بسطام العيشي، حدّثنا يزيد (يعني ابن زُريع)، حدّثنا رَوح (يعني ابن القاسم) عن عمرو بن.. أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتانا، فأذن لنا في المتعة.
- وحدّثنا الحسن الحلواني. حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريح، قال: قال عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمراً، فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء. فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر ثم ذكروا المتعة.
- و حدّثني محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا ابن جريح، أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنّا نستمتع، بالقبضة من التمر والدقيق، الأيّام، على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر، في شأن عمرو بن حريث.
- و حدّثنا حامد بن عمر البكراوي، حدّثنا عبد الواحد (يعني ابن زياد) عن عاصم، عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آتٍ فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما.
- وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا يونس بن محمد، حدّثنا عبد الواحد بن زياد، حدّثنا أبو عميس عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: رخّص رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، عام وطاس، في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها.
- وحدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا ليثٌ عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه سبرة، أنّه قال: أذن لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمتعة، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر، كأنها بكرة عيطاء.
وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج 1 ص 52 ) ، عن أبي نضرة عن جابر قال: (تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن كانتا - أي المتعتان- على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلالاً، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما) .
وبناء على الآية الكريمة غير المنسوخة وهذه الأحاديث النبوية التي يرويها السنة، وروايات أخرى لديهم عن أئمة أهل البيت يبيح الشيعة زواج المتعة، وينكرون ان يكون الرسول الأعظم قد حرمه تحريما مؤبدا، وينسبون النهي والتحريم الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي اجتهد بعد حادثة عمرو بن حريث ، حيث قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج) (4). وان جملة: ( وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) تدل على أن هاتين المتعتين كانتا حلالاً طيلة حياة النبي، وحياة الخليفة الأول أبي بكر، ولذلك فقد ذهب كثير من الصحابة إلى مشروعية المتعة، خلافاً لما ذهب إليه عمر، وأنكروا عليه نهيه عن المتعة، منهم الإمام علي (عليه السلام)[2] وعبد الله بن عباس [3]، بل وعبد الله بن عمر[4]، الذي كان يراجَع في موقفه المخالف لموقف أبيه فيقول: سبحان الله، نقول لكم قال رسول الله وتقولون قال عمر [5]. اضافة الى عدد آخر من الصحابة مثل عمران بن حصين [6]، وأبيّ بن كعب، وأسماء بنت أبي بكر[7]، وجابر وابن مسعود، ومعاوية بن ابي سفيان[8]، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد وسلمة ابنا أمية بن خلف)، وبعض التابعين كمجاهد، وقتادة وشعبة وأبو ثابت [9]، وطاووس وعطاء، وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة ومنهم ابن جريج. ثم اختلفوا في نسخ هذه الإباحة، وفيما اذا كان النسخ من النبي الأعظم او من الخليفة عمر بن الخطاب، ولكنهم ويقولون بأن التحريم لم يكن من الرسول الأعظم وانما هو بقرار او اجتهاد من الخليفة عمر بن الخطاب، ولا اجتهاد في مقابل النص.(1/334)
ويقولون أيضا: بأنه لم يثبت نسخ الآية، ولا توجد أحاديث متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بنسخها، حيث أن الروايات في هذا الباب لا تعدو أن تكون أخبار آحاد، وأخباراً ضعيفة السند متناقضة المتن، حيث تذهب إلى إباحتها وتحريمها عدة مرات، وفي مواطن متعددة، منها يوم خيبر، ومنها يوم الفتح، ومنها في غزوة تبوك، ومنها في حجة الوداع، أي أن حكم إباحة المتعة قد نسخ مرتين أو ثلاثة مراتٍ أو أكثر، وفوق ذلك فهي معارضة بالأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، ولو كان هناك فعلاً ناسخ لمشروعية المتعة، لاحتجّ به عمر، ولم يلجأ إلى الاجتهاد في مورد النص.
أدلة رأي السنة
يعترف المسلمون (السنة) بتحليل النبي الأكرم لزواج المتعة، ولكنهم يقولون انه كان لفترات قصيرة، وان النبي حرّمه عدة مرات في عدة مواطن ، وانه (ص) حرمه في أواخر أيام حياته تحريما مؤبدا، ونسخ حكم اباحته الأول .
قال الإمام النوويّ: الصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين: فكانت حلالاً قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر. ثم أبيحت يوم فتح مكّة، وهو يوم أوطاس، لاتصالهما. ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة. واستمر التحريم. وقال القاضي: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل. لا ميراث فيها. وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق. ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض.
ومن العلماء المعاصرين يقول الاستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: "اتفقت المذاهب الأربعة وجماهير الصحابة على أن زواج المتعة ونحوه حرام باطل" و " إن المراد بالاستمتاع في آية (فما استمتعتم) [النساء: 4/24]: النكاح؛ لأنه هو المذكور في أول الآية وآخرها، حيث بُدِئت بقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم)[النساء: 4/22] وختمت بقوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات) [النساء 4/25]، فدل على أن المراد بالاستمتاع هنا ما كان عن طريق النكاح، وليس المراد به المتعة المحرمة شرعًا. أما التعبير بالأجر: فإن المهر في النكاح يُسمَّى في اللغة أجرًا، لقوله تعالى:
(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوف) [النساء: 4/25] أي مهورهن، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) [الأحزاب: 33/50] أي مهورهن.
وأما الأمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، والمهر يؤخذ قبل الاستمتاع، فهذا على طريقة في اللغة من تقديم وتأخير، والتقدير: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن، أي إذا أردتم الاستمتاع بهن، مثل قوله تعالى: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) [الطلاق 65/1] أي إذا أردتم الطلاق، ومثل: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاة) [المائدة: 5/6] أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
وأما الإذن بالمتعة في السنة النبوية في بعض الغزوات، فكان للضرورة القاهرة في الحرب، وبسبب العُزْبة في حال السفر، ثم حرّمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحريمًا أبديًّا إلى يوم القيامة، بدليل الأحاديث الكثيرة، منها:
1- "يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" .
2- قال سلمة بن الأكوع: "رخّص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها" .
3- قال سبرة بن معبد: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة" .
4- عن علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر .
وأما ابن عباس: فكان يجيز المتعة للمضطر فقط، روى عنه سعيد بن جبير أنه قال: سبحان الله، ما بهذا أفتيت، وإنما هي كالميتة لا تحل إلا للمضطر...
ومع ذلك فقد أنكر عليه الصحابة، مما يجعل رأيه شاذًّا تفرد به، فقد أنكر عليه علي رضي الله عنه قائلاً له: إنك امرؤ تائه ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية، وأنكر عليه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، روى مسلم عنه أنه قام بمكة فقال: "إن أناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة – يعرِّض برجل هو عبد الله بن عباس – فناداه ابن عباس، فقال له: إنك لجلف جاف، فلعمري، لقد كانت المتعة تفعل في عهد أمير المتقين – أي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك، فوالله لو فعلتها لأرجمنك بأحجارك".(1/335)
ثم نقل المحدثون عن ابن عباس أنه رجع عن قوله، روى الترمذي عنه أنه قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية: "إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون: 23/6] قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام". وروى البيهقي أيضًا وأبو عوانة في صحيحه رجوع ابن عباس .
والقول برجوعه هو الأصح لدى كثير من العلماء، ويؤكده إجماع الصحابة على التحريم المؤبد، ومن المستبعد أن يخالفهم، روى الحازمي في الناسخ والمنسوخ من حديث جابر بن عبد الله قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام، جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا، وهن تطفن في رحالنا، فجاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إليهن، وقال: من هؤلاء النسوة؟ فقلنا: يا رسول الله، نسوة تمتَّعنا منهن، قال: فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى احمرَّت وجنتاه، وتمعَّر وجهه، وقام فينا خطيبًا، فحمد لله وأثنى عليه، ثم نهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء، ولم نَعُد، ولا نعود لها أبدًا، فبها سُمِّيت يومئذ: ثنية الوداع" .
وروى أبو عوانة عن ابن جريج أنه قال في البصرة، اشهدوا أني قد رجعت عن المتعة، بعد أن حدّثهم فيها ثمانية عشر حديثًا أنه لا بأس بها .
كل هذا يدل على نسخ إباحة المتعة، ولعل ابن عباس ومن وافقه من الصحابة والتابعين لم يبلغه الدليل الناسخ، فإذا ثبت النسخ وجب المصير إليه، أو يقال: إن إباحة المتعة كانت في مرتبة العفو التي لم يتعلق بها الحكم كالخمر قبل تحريمها، ثم ورد النص القاطع بالتحريم.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على تحريم نكاح المتعة بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول:
1 - أما القرآن: فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَهَّمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُون) [سورة المؤمنون: 23/5-7]، هذه الآية حرمت الاستمتاع بالنساء إلا من طريقين: "الزواج وملك اليمين، وليست المتعة زواجًا صحيحًا، ولا ملك يمين، فتكون محرمة، ودليل أنها ليست زواجًا أنها ترتفع من غير طلاق، ولا نفقة فيها، ولا يثبت بها التوارث.
2 - وأما السنة: فالأحاديث الكثيرة السابقة المتفق عليها التي ذكرتها عن علي وسَبْرة الجهني وسلمة بن الأكوع، وغيرهم رضي الله عنهم، والمتضمنة النهي الصريح عن نكاح المتعة عام خيبر، وبعد فتح مكة بخمسة عشر يومًا، وفي حجة الوداع.
3 - وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة إلا الإمامية على الامتناع عن زواج المتعة، ولو كان جائزًا لأفتوا به، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، أي في المتعة، ولا أعلم اليوم أحدًا يجيزها، إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وقال القاضي عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها، إلا الروافض .
4 - أما المعقول: فإن الزواج إنما شرع مؤبدًا لأغراض ومقاصد اجتماعية، مثل سكن النفس وإنجاب الأولاد وتكوين الأسرة، وليس في المتعة إلا قضاء الشهوة، بنحو مؤقت، فهو كالزنى تمامًا، فلا معنى لتحريمه مع إباحة المتعة.
وبه يتبين رجحان أدلة الجمهور، والقول بتحريم المتعة وبطلان زواجها وبطلان الزواج المؤقت، وهذا ما يتقبله المنطق وروح الشريعة، ولا يمكن لأي إنسان متجرد محايد إلا إنكار المتعة والامتناع عنها نهائيا.والله تعالى أعلم.( عن موقع الاسلام اون لاين)
نوعية التحريم
ويتحدث الشيخ يوسف القرضاوي عن زواج المتعة، فيشير الى فلسفة الزواج المفقودة بنظره في زواج المتعة، والى اجازة النبي لهذا الأخير في السفر والغزوات ضمن اطار سياسة التدرج في التحريم، ثم تحريمه بعد ذلك، ولكن القرضاوي يتوقف ليتساءل عن نوعية ذلك التحريم : هل هو كتحريم الأمهات والبنات والأخوات؟ أم كتحريم الميتة ولحم الخنزير، الذي يرتفع عند الضرورة؟ فيقول:
ان الزواج في الإسلام عقد متين وميثاق غليظ، يقوم على نية العشرة المؤبدة من الطرفين لتتحقق ثمرته النفسية التي ذكرها القرآن -من السكن النفسي والمودة والرحمة- وغايته النوعية العمرانية من استمرار التناسل وامتداد بقاء النوع الإنساني... أما زواج المتعة فلا يتحقق فيه المعنى الذي أشرنا إليه. وقد أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يستقر التشريع في الإسلام. أجازه في السفر والغزوات، ثم نهى عنه وحرمه على التأبيد.(1/336)
وكان السر في إباحته أولا أن القوم كانوا في مرحلة يصح أن نسميها (فترة انتقال) من الجاهلية إلى الإسلام؛ وكان الزنى في الجاهلية ميسرا منتشرا. فلما كان الإسلام، واقتضاهم أن يسافروا للغزو والجهاد شق عليهم البعد عن نسائهم مشقة شديدة، وكانوا بين أقوياء الإيمان وضعفاء؛ فأما الضعفاء، فخيف عليهم أن يتورطوا في الزنى، أقبح به فاحشة وساء سبيلا. وأما الأقوياء فعزموا على أن يخصوا أنفسهم أو يجبوا مذاكيرهم كما قال ابن مسعود ...وبهذا كانت إباحة المتعة رخصة لحل مشكلة الفريقين من الضعفاء والأقوياء، وخطوة في سير التشريع إلى الحياة الزوجية الكاملة، التي تتحقق فيها كل أغراض الزواج من إحصان واستقرار وتناسل، ومودة ورحمة، واتساع دائرة العشيرة بالمصاهرة.
وكما تدرج القرآن بهم في تحريم الخمر وتحريم الربا -وقد كان لهما انتشار وسلطان في الجاهلية- تدرج النبي صلى الله عليه وسلم بهم كذلك في تحريم الفروج. فأجاز عند الضرورة المتعة ثم حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الزواج. كما روى ذلك عنه علي، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في (صحيحه) عن سبرة الجهني "أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فأذن لهم في متعة النساء. قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ من حديثه: "وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة".
ولكن هل هذا التحريم بات كزواج الأمهات والبنات أو هو تحريم مثل تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فيباح عند الضرورة وخوف العنت؟
الذي رآه عامة الصحابة أنه تحريم بات حاسما لا رخصة فيه بعد استقرار التشريع. وخالفهم ابن عباس فرأى أنها تباح للضرورة. فقد سأله سائل عن متعة النساء فرخص له فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ قال ابن عباس: نعم.
ثم لما تبين لابن عباس رضي الله عنه أن الناس توسعوا فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة، أمسك عن فتياه ورجع عنها
والله أعلم.
الإباحة عند الضرورة
واذا صدقنا أدلة النهي وحاولنا ان نجمع بينها وبين أدلة التحليل ، فاننا يمكن ان نصل الى رأي وسطي جديد لا نقول فيه بالتحليل المطلق كما يقول الشيعة ولا بالتحريم المطلق كما يقول السنة، وانما بالتحليل عند الضرورة وعند حصول العنت والمشقة الكبيرة.
وذلك لثبوت نزول الآية الكريمة رقم 24 من سورة النساء (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة من الله) في موضوع زواج المتعة، وليس في مطلق الزواج، كما روي عن جماعة من الصحابة، منهم أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، أنهم قرأوا: (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهنّ فريضة)، وفي ذلك تصريح بأن المراد به زواج المتعة ، وقد قال الرازي في تفسيره لهذه الآية: إن المراد بهذه الآية حكم المتعة. وأيدت ذلك الأحاديث النبوية التي أحلت المتعة، ولا يمكن رفع اليد عن تلك الآية وتلك الأحاديث المصرحة بالجواز الا بنسخ من القرآن الكريم او من السنة الثابتة المتواترة، وهذا ما لا يوجد ، اذ لا توجد آية ناسخة لها[10] ، ولا توجد أحاديث متواترة تؤكد التحريم المؤبد، اذ قد اختلف كبار الصحابة حولها وأصر بعضهم الى وقت متأخر على تحليلها، ورواية الامام علي بنهي النبي عنها في خيبر لا تفيد التأبيد، لأن النبي (ص) قد أحلها بعد ذلك في فتح مكة وفي حجة الوداع او ثنية الوداع، وان روايات النهي المتكرر الواردة حول الموضوع تفيد اصل الاباحة ولكن عند الضرورة وليس في الحالات الطبيعية، وهذا ما يفسر استمرار بعض الصحابة بالعمل بها وعدم سماعهم لقرار التحريم المؤبد من النبي الأكرم. وربما نستطيع ان نحمل نهي الخليفة عمر بن الخطاب عن زواج المتعة اعتمادا على انتفاء الحالات الضرورية[11]، او خوفا من عدم التزام الناس بشروطها كالاشهاد[12]، وليس تشريعا بالتحريم المؤبد ونفيا لأصل التحليل، ولذلك فقد قال : " إن كانتا - أي المتعتان- على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلالاً، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما" كما يروي الامام أحمد بن حنبل في مسنده (ج1 ص 52)[13] بينما كان تمسك بعض الصحابة بالتحليل تمسكا بأصل الاباحة، ولو كان ثمة تحريم قاطع من النبي لما خفي على ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وبقية الصحابة ولا حتى على الخليفة عمر نفسه الى أواخر عهده حين حرمها. وربما كان هذا ما يفسر قول ابن عباس لسعيد بن جبير: أنها كالميتة لا تحل الا للمضطر[14].(1/337)
ان رواية الترمذي عن ابن عباس انه تراجع عن القول بالمتعة بعد نزول آية : "إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون: 23/6] وقوله : فكل فرج سواهما حرام"، لا ينسجم مع اصراره على القول بها في أيام عبد الله بن الزبير ، عندما قام بمكة فقال: "إن أناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة – يعرِّض برجل هو عبد الله بن عباس – فناداه ابن عباس، فقال له: إنك لجلف جاف، فلعمري، لقد كانت المتعة تفعل في عهد أمير المتقين – أي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك، فوالله لو فعلتها لأرجمنك بأحجارك". كما روى ذلك مسلم. ورغم نقل بعض المحدثين لتراجع ابن عباس عندئذ، فانه لا يفيد تراجعه عن رأيه وانما التزامه بموقف ابن الزبير تحت التهديد.
وكذلك لا يفيد تراجع ابن جريج في البصرة بعد ان حدث فيها بثمانية عشر حديثا أنه لا بأس بها.
وأما الاجماع على تحريم المتعة، فليس بحجة لأنه اجماع متأخر لدى أهل السنة فقط ولم يتفق معهم الشيعة الجعفرية ، ولم يحدث في زمن الصحابة الذين كانوا يختلفون حولها بوضوح[15]. ولذلك قال الإمام مالك بن أنس في تفسير آية المتعة: (هو نكاح المتعة جائز، لأنه كان مشروعاً فيبقى إلى أن يظهر ناسخه) ( - موطأ مالك ص 65).
واذا كان هناك شك في تحريمها تحريما مؤبدا، من قبل الله تعالى او الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) [16]، فانها على الأقل تبقى محللة في حالات الضرورة والعنت والعسر، كما هو حال الشباب المسلم في الغرب غير القادر على الزواج بصورة دائمة. وتشكل حلا من الحلول المختلفة المطروحة لمعالجة مشكلة العلاقات الجنسية في الغرب. ولعل تساؤل الشيخ القرضاوي عن نوعية التحريم هل هو تحريم مؤبد كتحريم الأم والبنت والأخت؟ أم كتحريم الميتة ولحم الخنزير الذي يرتفع في حالات الضرورة ، يلقي بعض الضوء على هذا الحل الاستثنائي المؤقت، ويدفع بالباحثين والفقهاء لدراسة الموضوع بجدية أكبر ، بعيدا عن صخب الجدالات الطائفية القديمة.
أحاديث صحيحة حول زواج المتعة
البخاري حديث رقم 1469
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة قال حدثني مطرف عن عمران رضي الله عنه قال
تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء
حديث رقم 4156
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عمران أبي بكر حدثنا أبو رجاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال
أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء
حديث رقم 4249
حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن إسماعيل عن قيس عن عبد الله رضي الله عنه قال
كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ
…
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
…
مسلم حديث رقم 2497
حدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله يقولا
كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث
حديث رقم 2496
و حدثنا الحسن الحلواني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال قال عطاء
قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
حديث رقم 2135
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال
كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة الى أجل الا رجمته بالحجارة.
مسند أحمد، مسند علي بن ابي طالب
حديث رقم 717
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة قال قال عبد الله بن شقيق
كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة وعلي رضي الله عنه يأمر بها فقال عثمان لعلي إنك كذا وكذا ثم قال علي رضي الله عنه لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أجل ولكنا كنا خائفين.
[1] - فقد روى الطبري في سيرة عمر ، عن عمران بن سوادة انه استاذن ودخل دار الخليفة ثم قال : نصيحة : فقال : مرحبا بالناصح غدوا وعشيا.
قال : عابت امتك منك اربعا.
قال : فوضع راس درته تحت ذقنه ووضع اسفلها على فخذه , ثم قال :هات...
قال : ذكروا انك حرمت متعة النساء وقد كانت رخصة من اللّه نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث .(1/338)
قال : ان رسول اللّه (ص ) احلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس الى سعة ثم لم اعلم احدا من المسلمين عمل بها ولا عاد اليها, فالان من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد اصبت .. الطبري 5: 32, في باب شي ء من سيره مما لم يمض ذكرها من حوادث سنة 23
[2] - - روى الثعلبي والطبري في تفسيريهما لآية المتعة قول الإمام علي (عليه السلام) (لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ).
[3] - روى ابن جريج وعمر بن دينار عن ابن عباس قوله (ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها أمة محمد، ولولا نهيه – أي عمر - عنها ما احتاج إلى الزنى إلاّ شفيّ)، قال ابن الأثير في البداية والنهاية عند مادة شفي بالفاء: أي إلاّ قليل من الناس، وكان ابن عباس يجاهر بإباحتها حتى في أيام عمر.
[4] - أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 2 ص 95 أن عبد الله بن عمر سئل عن متعة النساء فقال: والله ما كنا على عهد رسول الله زانين ولا مسافحين.
[5] - في صحيح الترمذي أن ابن عمر عندما قال عن المتعة أنها حلال، قيل له: إن أباك نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنترك السنة ونتّبع قول أبي؟. ولعل قصد ابن عمر بكلمة (صنعها) أي أباحها.
[6] - ذكر الرازي عند تفسير آية المتعة، وأحمد في المسند: قول عمران بن حصين: أنزل الله في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء.
[7] - في مسند الطيالسي عن مسلم القرشي قال : دخلنا على اسماء بنت ابي بكر فسالناها عن متعة النساء فقالت : فعلناها على عهد النبي (ص ) , الحديث 1637.
[8] - في المصنف لعبد الرزاق : ان معاوية بن ابي سفيان استمتع عند مقدمه الطائف على ثقيف بمولاة ابن الحضرمي يقال لها: معانة , قال جابر: ثم ادركت معانة خلافة معاوية حية , فكان معاوية يرسل اليها بجائزة كل عام حتى ماتت. المصنف لعبد الرزاق 7: 499, باب المتعة .
[9] - تفسير الطبري ج 5 ص 9، أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 178، تفسير أبي حيان ج 3 ص 218، تفسير البغوي على هامش تفسير الخازن ج 1 ص 423، تفسير القرطبي ج 5 ص 130 قال: قال الجمهور أنها نزلت في نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، تفسير الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 140 وغيرهم كثير جداً.
[10] - 1 - روى عبد الرزاق في مصنفه عن عطاء: ان ابن عباس كان يقرا:فمااستمتعتم به منهن - الى اجل - فتوهن اجورهن (المصنف 7: 497 و498, باب المتعة , تاليف عبد الرزاق بن همام الصنعاني مولى حمير,(126 ـ 211 هـ), طبعة 1390 ـ 1392 ه, من منشورات المجمع العلمي ببيروت , اخرج حديثه اصحاب الصحاح الستة , راجع ترجمته في الجمع بين رجال الصحيحين وتقريب التهذيب , وراجع بداية المجتهد لابن رشد 2: 63. ) .
2 - في تفسير الطبري عن حبيب بن ابي ثابت قال : اعطاني ابن عباس مصحفا فقال : هذا على قراءة ابي قال : وفيه فما استمتعتم به منهن - الى اجل مسمى .
3 - في تفسير الطبري عن ابي نضرة بطريقين , قال : سالت ابن عباس عن متعة النساء, قال : اما تقرا سورة النساء قال : قلت : بلى .قال : فما تقرا فيها فمااستمتعتم به منهن الى اجل مسمى ؟ قلت : لوقراتها كذلك ما سالتك قال : فانها كذلك .
4 - عن ابي نضرة قال : قرات هذه الاية على ابن عباس فمااستمتعتم به منهن قال ابن عباس الى اجل مسمى قال : قلت : مااقراها كذلك . قال : واللّه لانزلها اللّه كذلك . ثلاث مرات .
5 - عن عمير وابي اسحاق ان ابن عباس قرا: فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى .
6 - عن مجاهد: فما استمتعتم به منهن قال : يعني نكاح المتعة .
7 - عن عمرو بن مرة , انه سمع سعيد بن جبير يقرا: فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى .
8 - عن قتادة قال : في قراءة ابي بن كعب : فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى .
9 - عن شعبة عن الحكم قال سالته عن هذه الاية امنسوخة هي ؟قال : لا .
10 - وفي احكام القرآن للجصاص ايضا جاءت رواية ابي نضروابي ثابت عن ابن عباس وحديث قراءة ابي بن كعب.
11 - روى البيهقي في سننه الكبرى عن محمد بن كعب ان ابن عباس قال : كانت المتعة في اول الاسلام وكانوا يقراون هذه الاية فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى .
12 - وفي شرح النووي على صحيح مسلم : وفي قراءة ابن مسعودفمااستمتعتم به منهن الى اجل ....
13 - وفي تفسير الزمخشري : وقيل نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة ايام ... وقال : سميت متعة لاستمتاعه بها. وقال : وعن ابن عباس هي محكمة يعني لم تنسخ , وكان يقرا فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى .
14 - قال القرطبي : وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الاسلام , وقرا ابن عباس وابي وابن جبير فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى فتوهن اجورهن .
15 - وفي تفسير ابن كثير: وكان ابن عباس وابي بن كعب وسعيدبن جبير والسدي يقراون فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى فتوهن اجورهن فريضة وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة .(1/339)
16 - وفي تفسير السيوطي حديث ابي ثابت وابي نضرة ورواية قتادة وسعيد بن جبير قراءة ابي , وحديث مجاهد والسدي , وعطاءعن ابن عباس , وحديث الحكم ان الاية غير منسوخة , وعن عطاءعن ابن عباس انه قال : وهي التي في سورة النساء: فما استمتعتم به منهن الى كذا وكذا من الاجل على كذا وكذا قال : وليس بينهما وراثة فان بدا لهما ان يتراضيا بعد الاجل فنعم , وان تفرقا فنعم ....
[11] - فقد روى الطبري في سيرة عمر ، عن عمران بن سوادة انه استاذن ودخل دار الخليفة ثم قال : نصيحة : فقال : مرحبا بالناصح غدوا وعشيا.
قال : عابت امتك منك اربعا.
قال : فوضع راس درته تحت ذقنه ووضع اسفلها على فخذه , ثم قال :هات...
قال : ذكروا انك حرمت متعة النساء وقد كانت رخصة من اللّه نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث .
قال : ان رسول اللّه (ص ) احلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس الى سعة ثم لم اعلم احدا من المسلمين عمل بها ولا عاد اليها, فالان من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد اصبت .. الطبري 5: 32, في باب شي ء من سيره مما لم يمض ذكرها من حوادث سنة 23
[12] - يقول ابن حزم في المحلى: انه انما انكرها : عن عمر بن الخطاب اذا لم يشهد عليها عدلان فقط واباحها بشهادة عدلين . المحلى لابن حزم 9: 519 ـ 520, المسالة 1854.
[13] - تواتر عن الخليفة عمر قوله : متعتان كانتا على عهد رسول وانا انهى عنهما واعاقب عليهما, متعة الحج ومتعة النساء. تفسير القرطبي 2: 388. وتفسير الفخر الرازي 2: 167, و3: 201 و202. وكنز العمال 8:293 و294. والبيان والتبيين للجاحظ 2: 223.
[14] - تمتع سعيد بن جبير في مكة - المصنف لعبد الرزاق 7: 496.
[15] - ففي المصنف لعبدالرزاق : ان عليا قال بالكوفة لولا ما سبق من راي عمربن الخطاب - او قال : راي عمر بن الخطاب - لامرت بالمتعة ثم مازنى الا شقي . المصنف لعبد الرزاق 7 : 500, اللفظ في كتب التفسير والحديث (الا شقي ) وفي مادة شفى من نهاية اللغة (الا شفي ) اي الا قليل من الناس من قولهم : غابت الشمس الا شفي اي : (الاقليلامن ضوئها عند غروبها).
وفي تفسير الطبري والنيشابوري والفخر الرازي وابي حيان والسيوطي واللفظ للاول : لولا ان عمر نهى عن المتعة ما زنى الاشقي . تفسير الطبري 5 : 9. والنيشابوري بهامش تفسير الطبري 5: 17. والنيشابوري 5: 16 في تفسيره . والفخر الرازي في تفسير الاية بتفسيره الكبير 3: 200. وتفسير ابي حيان 3:218.والدر المنثور للسيوطي 2: 40.
وفي تفسير القرطبي : قال ابن عباس : ما كانت المتعة الا رحمة من اللّه تعالى , رحم بها عباده , ولولا نهي عمر عنها ما زنى الاشقي . تفسير القرطبي 5: 130.
و قال ابن حزم في المحلى : قد ثبت على تحليلها بعد رسول اللّه جماعة من السلف (رض ) منهم من الصحابة اسماء بنت ابي بكر,وجابر بن عبد اللّه , وابن مسعود وابن عباس , ومعاوية بن ابي سفيان وعمرو بن حريث وابو سعيد الخدري وسلمة ومعبد ابنا امية بن خلف , ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول اللّه ومدة ابي بكروعمر الى قرب آخر خلافة عمر. المحلى لابن حزم 9: 519 ـ 520, المسالة 1854.
[16] - لأن المتعة ظلت تمارس من قبل المسلمين في عهد ابي بكر وعمر الى اواخر ايامه حين نهى عنها. ففي صحيح مسلم , والمصنف لعبد الرزاق , ومسند احمد, وسنن البيهقي , وغيرها واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد اللّه قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق , الايام , على عهد رسول اللّه (ص )وابي بكر, حتى نهى عنه عمر, في شان عمرو بن حريث . . صحيح مسلم : 1023 , باب نكاح المتعة , الحديث 1405. وبشرح النووي 9: 183.والمصنف لعبد الرزاق 7: 500, وفي لفظه ايام عهد النبي . وسنن البيهقي 7: 237, باب ما يجوز ان يكون مهرا. ومسند احمد 3: 304. وفي لفظه حتى نهانا عمر اخيرا... وذكره موجزا صاحب تهذيب التهذيب بترجمة موسى بن مسلم 10: 371. وفتح الباري 11: 76. وزاد المعاد لابن القيم 1: 205.
وراجع كنز العمال 8: 293.
وفي لفظ المصنف لعبد الرزاق عن عطاء عن جابر: استمتعنا على عهد رسول اللّه (ص ) وابي بكر وعمر حتى اذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامراة - سماها جابر فنسيتها -فحملت المراة فبلغ ذلك عمر فدعاها فسالها, فقالت : نعم . قال : من اشهد؟ قال عطاء: لا ادري قالت : امي , ام وليها, قال : فهلا غيرهما,قال : خشي ان يكونا دغلا... المصنف لعبد الرزاق 7: 496 ـ 497, باب المتعة .
وفي رواية اخرى عن محمد بن الاسود بن خلف : ان عمرو بن حوشب استمتع بجارية بكر من بني عامر بن لؤي : فحملت , فذكر ذلك لعمر فسالها, فقالت : استمتع منها عمرو بن حوشب , فساله فاعترف , فقال عمر: من اشهدت ؟ - قال - لا ادري اقال : امها او اختها او اخاها وامها, فقام عمر على المنبر, فقال : ما بال رجال يعملون بالمتعة ولايشهدون عدولا ولم يبينها الا حددته , قال : اخبرني هذاالقول عن عمر من كان تحت منبره , سمعه حين يقوله , قال : فتلقاه الناس منه.(1/340)
وفي كنز العمال : عن ام عبد اللّه ابنة ابي خيثمة ان رجلا قدم من الشام فنزل عليها فقال : ان العزبة قد اشتدت علي فابغيني امراة اتمتع معها قالت : فدللته على امراة فشارطها واشهدوا على ذلك عدولا فمكث معها ما شاء اللّه ان يمكث ثم انه خرج , فاخبر بذلك عمر بن الخطاب , فارسل الي فسالني احق ما حدثت ؟ قلت : نعم , قال : فاذا قدم فذنيني به , فلما قدم اخبرته فارسل اليه , فقال : ما حملك على الذي فعلته ؟ قال : فعلته مع رسول اللّه (ص ) ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه اللّه , ثم مع ابي بكر فلم ينهنا حتى قبضه اللّه , ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا, فقال عمر: اما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك , بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح .
=================
فقه الدعوة الإسلامية في الغرب ووجوب تجديدها على الحكمة والوسطية والاعتدال
(الدعوة الإسلامية في الأندلس نموذجاً)
إعداد
أ. علي بن أحمد بن الأمين الريسوني
رئيس جمعية الدعوة الإسلامية
عضو رابطة علماء المغرب ورئيس فرعها بشفشاون (المغرب)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده الذي بنعمته تتم الصالحات ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تهدف هذه المداخلة إلى إبداء وجهة نظر أحسبها صحيحة إن شاء الله حول آفات ظاهرة الإرهاب ذي الجذور الإسلامية.
هذه الظاهرة يمكن تصنيفها إلى:
1- إرهاب داخل دار الإسلام (أي في الدول والشعوب المسلمة)
2 - إرهاب خارج دار الإسلام (أي في دول وشعوب غير مسلمة)
والمداخلة تتطرق بحول الله إلى الصنف الثاني الذي أصاب الغرب ويصيبه ويمكن أن يصيبه.
فما موقف الإسلام من هذا الصنف الثاني؟
الشطر الأول من المداخلة إشارات إلى وجوب تجديد الدعوة إلى الله في ديار الغرب عامة، على الحكمة والوسطية والاعتدال. وهو ما يناقض مرتكزات الإرهاب إن كان هذا الأخير مرتدياً أردية الإسلام ومتزرا بأزره.
الشطر الثاني إشارات إلى النموذج التطبيقي لميدان الدعوة في الغرب واخترنا له الأندلس (إسبانيا) نظرا لامتدادها التاريخي في المحيط الإسلامي وامتزاجها التاريخي بالحضارة القرآنية الشامخة وقربها الجغرافي من المغرب البوابة الغربية للعالم الإسلامي نحو أوربا.
فأردنا في هذا الشطر إعطاء تقويم وتقييم عملي لما ينبغي فعله لدرء إمكانية حدوث عمليات إجرامية تودي بالبراء باسم الإسلام وهو منها بريء.
وكانت المداخلة حصيلة تجربة طويلة امتدت لسنوات في العمل الدعوي السلمي الموجه للأندلسيين في ديارهم وخارجها من العبد الضعيف تقبل الله سعيه وتغمده برحمته آمين.
الشطر الأول
المقصود بالدعوة الإسلامية
المقصود بالدعوة الإسلامية هو الدعوة إلى الإسلام الحنيف بالتعريف به والترغيب فيه والحث على اعتناقه والحض على الانخراط في سلك المؤمنين به والعاملين بشريعته.
وهي دعوة مباركة يوفق الله لها الصالحين المصلحين من عباده في شتى الأمصار والأعصار.
وهي دعوة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، إذ مهمتهم الكبرى الدلالة على توحيد الخالق وإفراده بالعبادة الخالصة والإيمان به ذاتا وصفات وأسماء وتصديقه فيما أخبر به واتباع أمره واجتناب نهيه والإحسان إلى خلقه والاستعداد للقائه والايمان بملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره.
واقتفى بالرسل صلوات الله عليهم أتباعهم من بعدهم.
ورسولنا الأكرم سيدنا محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين خير من جسد بسيرته العاطرة الدعوة الصحيحة. ومن خلال شمائله وصحيح سنته نستطيع التعرف على أساليبه التي استعملها - بأبي أفديه وأمي- في مخاطبة المشركين وأهل الكتاب زمان بعثته.
ثم لما اصطفاه ربه إلى الرفيق الأعلى واختاره إلى جواره تابع أصحابه رضوان الله عليهم تعاليمه الطاهرة في بث هذه الدعوة الصحيحة في كل الأرجاء والبقاع والأصقاع التي وصلوا إليها وورثهم التابعون على النهج نفسه من دون تبديل ولا تغيير يصدعون بالحق ويبينونه ويدحضون الباطل وينهون عنه.
فكانت الدعوة الإسلامية أماتنا الله عليها في زمان النبوة ثم في القرن الذي بعدها ثم في القرن الثالث صافية خالصة نقية لا تشوبها شائبة ولا يكدرها مكدر، فالقوم كان مرادهم إيضاح الحق والهداية بالقول والفعل إلى الطريق المستقيم المتضمن لسعادة الدارين.
واستمر السلف الصالح على هذا المنوال في تمحيص وتمحيض النصيحة للخلق لا يحركهم في ذلك إلا حب الله ورسوله r والرغبة في نيل الثواب والأجر من الله. ولم يكونوا يرتزقون بالدلالة على الله أو يبغونها عوجا. فقامت في الأرض حضارة أساسها القرآن أينعت أغصانها وأثمرت أشجارها في العالم المعروف آنذاك.
فالدعوة إلى الإسلام هي نهي عن ضده أي زجر عن الكفر وتقبيح للإلحاد وتسفيه للشرك وتنفير من ملابسة عورة التمرد على الخالق جل جلاله.
وبالفعل دخل في هذه الملة الحنيفية شعوب وأمم وقبائل مازالت ذرياتها وسلالاتها إلى الآن تنتسب إلى القبلة وتعتزي إلى الشريعة الطاهرة.(1/341)
وكانت دعوتهم بالتي هي أحسن: باللفظ اللين وبإيضاح الحجة والإيغال في البيان ونفي الشبهات ورد التساؤلات وتزييف الخرافات ونقض ساقط الاعتراضات بالأساليب اللائقة بالمخاطبين وبالطرائق المناسبة لذهنياتهم ونفسياتهم مع بعد عن التقعر والتنطع مما كانت العقول تتقبله والفطر السليمة تستسيغه. ولم يكن في الدعوة تعنيف ولا تشدد بل تفتح وسعة صدر ورقة في الأسلوب مع ضرب الأمثال وسرد البراهين وبيان المحجة بالحجة.
والمقصود بالغرب الآن هو هذا العالم المصنف عالما أول في التمدن والذي سبق المسلمين وغيرهم من الشعوب التي هي متخلفة في العلوم الحديثة والدنيوية أو تحاول أن تسير في طريق النمو فيها. فالغرب الأوربي والأمريكي ونضيف إليه اليابان قوة أولى شئنا أم أبينا تتحكم بما لديها من إمكانات وطاقات في حاضر العالم وربما في مستقبله القريب، وهي توجهه وتستحوذ على مقاليد أموره وتملي ما شاءت على من شاءت وتستطيع الغلبة على من ناوأها إما بالخداع والمكر وإما بحرب الكر والفر.
هذا الغرب في أمس الحاجة إلى سماع صوت الإسلام والتعرف عليه وإزالة الحجاب الغليظ الذي يفصله عنه لكي يلمس كنوزه ويثمن جواهره ودرره ويقدره حق قدره؛ ونحن المسلمين مسؤولون أمام الخالق سبحانه في أمر إيصال تعاليم دينه لهذا الغرب وتبليغه معنى وحي البارئ جل وعز.
والغرب القوي بماله واقتصاده وجنده وتقنية المتفوقة هو في الوقت نفسه ضعيف كل الضعف في جوانبه الإنسانية وفي بواطنه البشرية وفي أحاسيسه وشعوره ووجدانه وضميره فهو عاطل عن القيم والمثل التي ترفع من شأن الإنسانية لكونه اكتفى بالجوانب المادية في تقدمه السريع فامتلك هذه المادة التي سخرها الله له واستغلها في تحسين معيشته الدنيا بيد أن هذه المادة لم تجلب له الطمأنينة والراحة والسلامة والأمن ولم ترفعه للمقام العالي لكونه كافراً بالإسلام غير مؤمن بوحدانية الرب سبحانه ولا بكتابه ولا بنبيه فتاه هذا الغرب وضل ضلالا بعيدا وانحرف وزهق وتعثر وانتشرت فيه الأمراض النفسية والجسدية ونخرت عظامه الآفات الاجتماعية ولم تفده الآلة إلا في إشباع البطن وإرواء غلة الجنس والانكباب على الشهوات البهيمية والنزوات الحيوانية.
فالغرب إذاً يحتاج إلى الإسلام حاجة المريض إلى الدواء والجائع إلى الغذاء والعريان إلى الكساء والخائف إلى الأمان، وليس ذلك موجودا إلا عندنا نحن أمة محمد صلوات الله عليه فالدعوة إلى الله في الغرب الآن واجبة علينا من وجوه عدة ليس هذا محل تفصيلها.
أما وجوب تجديد الدعوة فالمقصود به هو تجديد أساليبها وتحديث طرائقها والإبداع في وسائلها واختراع آليات جديدة في تفعيلها ودحض ترهات أعدائها والتغيير في أشكالها إذ لبها لا يتغير لأنها دعوة إلى (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بيد أن ما يحتف بهذا اللب من صيغ ولغات ونبرات وفقرات وأدوات واختيار الأزمنة والأمكنة والمناسبات وما يقدم وما يؤخر وما يؤكد وما يرخص فيه وما يصرح به وما يسكت عنه من الجزئيات والفروع كل ذلك هو الداخل في قولنا (تجديد الدعوة) تأصيلا وتفريعا.
الزمان تغير من حولنا والحياة تبدلت ولا يمكن في هذا العصر أن نبقى على المنوال الذي كان عليه الأجداد والأجيال فيما سلف من القرون. فلكل وقت خصوصياته ولكل بيئة ما يناسبها ولكل ظرف نوازله التي يجيب عنها فقهها المتجدد المستجيب لإشكالاتها غير المعهودة.
ونؤكد أن الدعوة الإسلامية في الغرب يجب على القائمين بها والساعين فيها أن يرتقوا بها إلى المستوى الذي يجعلها نافدة مسموعة مقبولة على العموم مصغى إليها مأخوذا بها ولو بمقدار، متعاملا معها من وسائل الإعلام على أساس أنها دعوة الخير والحق والفضيلة والصلاح.
ومن الجريمة إبقاء أسلوب الدعوة راكدا جامدا خامدا كما ورثناه عن أجيال سلفت من دون أن نتجشم عناء تعديله وتطعيمه بما يجعله فعالا ناجعا إزاء التحديات الخطيرة التي تحاصره من كل جانب.
إن تجديد الدعوة ليس إلا استجابة لتغيرات العالم المتسارعة. ومن البلاهة أن نجمد إزاء هذه الأعاصير والرياح والعواصف التي تهب بقوة من جميع الجهات، فإبقاء ما كان على ما كان حذو القذة بالقذة دليل على انطماس البصيرة وعلامة على الغباء والبلادة ويبوسة القريحة والجهل بالجغرافية المعاصرة والواقع الذي لا يرتفع، وبالتالي فإن رفض نفخ روح جديدة في أساليب الدعوة وصيغها يعد إفلاسا لدى القائمين بها والعياذ بالله.
وقد علمنا من خلال تاريخ المذاهب الإسلامية وتطور مدارسها الفكرية في العواصم العلمية للعالم الإسلامي والمهمات التي قامت بها عبر القرون الخوالي: أن الاجتهاد كان هو العاصم الأساس من قواصم الغارات الصليبية والمجوسية والإلحادية والتشكيكية لأساطين الكفر التي لم تفتأ تعاكس جند الله وتعرقل السبيل أمامهم في التبشير بالإسلام العظيم.
والاجتهاد كما استعمله وأخذ به فقهاء الأمصار وأئمة الأعصار أخذ به أيضا الدعاة على مختلف مراتبهم وتفاوت درجاتهم وذلك لاختيار الأنسب وانتقاء الأصلح من الصيغ والأساليب المؤدية إلى النجاح في هذه المهمة الصعبة.(1/342)
ما يقتضيه المقصود بتجديد الدعوة على الحكمة والوسطية والاعتدال
والمقصود بتجديد الدعوة على الحكمة والوسطية والاعتدال يقتضي منا معرفة أضدادها:
فالحكمة يقابلها السفه والعبث وهما مرفوضان بالعقل والنقل فلا مكان لأمر أو نهي أو إرشاد بدون مغزى ولا محل لتعبد أو تبليغ بدون معنى، والنصوص مقدسة عن أن تكون فارغة من محتوى رفيع يهدف إلى إصلاح أحوال المتلقي، والعبد لم يكن مكلفا بالنص فهما وتطبيقا إلا لما في هذه النصوص من فوائد مؤكدة تعود عليه بالجدوى.
الحكمة كلمة أحسبها أوسع من مصطلح (المصلحة) وأسمى من مصطلح (معقول المعنى) فهي كلمة جامعة مانعة تعطي للقلب المتنور إحساسا بأنها مفردة جليلة تعني الخير والسداد والاصابة والفلاح والربح والهدف والأمر المنشود والغاية المتوخاة فكانت كلمة مباركة.
ثم تعني الحكمة: (الرفق) و (اللطف) و (الفهم).
فالخشونة والغلظة والجفاء والتجهم والعبوسة والانقباض وأضرابها لا تنتمي لدائرة الحكمة.
والتشدد والانغلاق والتقعر والتطرف والمبالغة والتهويل كلها مفردات تبتعد عن الحكمة.
ونحن الآن مطالبون باستخدام الحكمة، التي لها وزن كبير في التنزيل الحكيم: {`tBur |N÷s?ƒ spyJ?6?s?9$ ô‰s)sù u’IAré& Z?? yz Z? IW?2 3 } (1)، وكان الطبيب عند العرب هو (الحكيم).
وما أحوجنا الآن في جميع الأمور إلى معالجة الأحوال بـ (الحكمة) فهي علم وعمل وهي أيضا شعور يدفع المؤمن للتريث والتأني قبل التسرع في تصرفات لا تحمد عقباها.
والدعوة في ديار الغرب تحتاج إلى تخطيط وهو عين الحكمة، وتحتاج إلى الهدوء والسكينة وهو من الحكمة، وتحتاج إلى التبصر وقراءة العواقب وهما من الحكمة، وتحتاج إلى اللطف والرفق والشفقة وهي من الحكمة، وتتطلب الدراسة العميقة والاطلاع على أحوال القوم عن كثب ومعرفة واقعهم والمهارة في لسانهم وذلك كله من الحكمة.
والمقصود بالوسطية هو أن هذا الدين الحنيف عقيدة وشريعة وأخلاقا هو الأولى والأجدر والأخير والأفضل فينبغي التركيز على هذا الطابع الرباني للشريعة الإلهية مصدرا، العالمية شمولا واستغراقا، والتي لا تميز بالأجناس ولا تجازي بالعرقيات ولا تعتد بالعصبيات ولا تمجد بالدم والقبلية والعنجهية والتفاخر بالأنساب والأوطان ولا تكرم بالسطوة والجاه والأموال ولا تعتد إلا بأمرين جليلين هما الإيمان الصحيح والعمل الصالح (تقوى الله):
وبالتالي فالوسطية في الدعوة هي التركيز على هذه المعاني السامية والأهداف النبيلة التي تكرم النوع البشري وتجعله خليفة لله في الأرض ليعمر هذا الكوكب مؤمنا بخالقه ومصدقا بلقاء سيده ومولاه ومجتهدا في الفضائل بعد الواجبات متنكبا عن عدوه الأصلي وهو الشيطان الذي يريد الزيغ بالآدميين ويبتغي لهم العوج في الفكر والسلوك.
إن الوسطية تدور حول انتخاب الأسمى والأرقى والألذ والأشهى والأطيب من مفاهيم هذه الدعوة ومضامين البلاغ وبالتالي تأخذ بحسبانها انتخاب كل معنى رائق فتقدمه للمتلقي على طابق من الأدلة والبراهين التي لا يرقى إليها الشك.
قال تعالى: { y7I9?xx.ur ?N?3»oYù=yèy_ Zp¨Bé& $VUy™ur } (3) وهنا الوسط خيار الشيء ولبه وأفضله وأطيبه.
والمقصود بالاعتدال هو أخذ الأمور دون تطرف ومبالغة وتهويل وتضخيم.
ونحن نلمز من الخصوم والأعداء وأيضا من الجاهلين بكوننا متطرفين حيث التطرف عندهم ما يشكل الخروج عن العادات الجاري بها العمل في مجتمعاتهم، فوجب الحذر الشديد من الوقوع في التطرف الحقيقي الذي ينهى عنه الله.
وبما أننا نبتغي بالدعوة النفاذ إلى القلوب والوصول إلى ضمائر الناس لكي يقتنعوا عن صدق بما نعرضه عليهم فإن العوائق التي تصدهم عن قبول البلاغ ينبغي إزالتها ليصفو المنهل ويتضح أمامهم المهيع ويستبين السبيل.
وهذه الأمور الثلاثة: الحكمة والوسطية والاعتدال تناقض تماما أضدادها من العبثية والتطرف والابتذال، وهذه الثلاثة الأخيرة من منابع الإجرام والحرابة والفساد في الأرض وهو ما يطلق عليه الآن مصطلح الإرهاب.
إنه لا مشاحة في الاصطلاح.
في الفقه الشرعي توجد مصطلحات (الحرابة) و (الإفساد في الأرض) و (البغي) ونحوها من المصطلحات المرتبطة بها والداخلة كلها في القتل العمد غير المسوغ بالميزان الشرعي وما ينضاف إليه من الجرح ومصادرة الأموال والإخافة والترويع وقطع الطريق وهدم العمران وتفجير وسائل السفر وتهديم المنازل وتهديد ووعيد للبرآء ونحوها.
وفي لغة الإعلام المعاصر حلت كلمة الإرهاب المترجمة عن كلمة Terrorismo على كل المنابر الإعلامية وفي كل الألسنة فصرت لا تسمع ولا تقرأ إلا لفظة الإرهاب في الإشارة إلى ما يحدث من عمليات إجرامية تودي بحياة البرآء المدنيين هنا وهناك داخل الوطن الإسلامي وخارجه.
فأصيبت في المغرب مدينة الدار البيضاء في 16 مايو 2003م وعانت الرياض بالمملكة العربية السعودية الشقيقة ما عانته بعد ذلك وكذا نالت إسطنبول حظها...إلخ.(1/343)
وفي الغرب كانت عمليتا 11 سبتمبر 2001م في نيويورك و 11 مارس 2004م في مدريد، الأولى زعزعت الولايات المتحدة الأمريكية وأفضت إلى ما أفضت إليه من احتلال أفغانستان ولواحقه من ويلات أصابت العرب والمسلمين ومن نوائب وكوارث ما فتئت تهد أركاننا.
والثانية أزعجت إسبانيا ومن ورائها أوربا وستعقبها نتائج وخيمة نسأل الله العافية.
فهل الإسلام الرحيم يبيح دماء المدنيين البرآء؟
هل يجيز إزهاق أرواح من لا ناقة له ولا جمل في الأزمات السياسية العالمية أو المحلية أو في الصراعات المذهبية والاقتصادية المعقدة التي تمزق شمل العائلة البشرية شر ممزق؟
هل النفس البشرية رخيصة إلى درجة أن تزهق بلا جرم ولا سبب ويسكت علماء المسلمين؟
هل الوحي الإلهي يوافق على قطع الرؤوس وبقر البطون وبتر الأيدي والأرجل للآمنين الغافلين المدنيين المسالمين: للطفل الصبي دون فطام والعجوز الطاعنة في السن والمقعد بالمرض وسواهم من غير أن يشاركوا في عمل حربي تباح به دماؤهم؟
وهل أهل الذمة والمعاهدون من الكفار والمستأمنون لم يبق لهم عند المسلمين الآن عهد ولا ذمة وبالتالي يباح اغتيال بعضهم عشوائيا دون محاكمة شرعية ولا مدنية ولا توجيه اتهام ولا إدانة ولا تهمة ثابتة ولا نصب دفاع بل بمجرد هوى أو وقوع تحت طائلة الانتقام من حكوماتهم أو جماعات معينة في دولهم أو لوبيات أو ذوي نفوذ ظاهرين أو متسترين؟
هل الفوضى والتسيب وصلا إلى حد أن يفتى بهذه الفظاعات التي لا مرجعية لها، ويقال: إن الإسلام من ورائها أو إن بعض رموزه ومجاهديه وعلمائه يقفون وراء إصدار أحكام باسمه تهدر بها حقوق الناس في الحياة؟
هذه كلها أسئلة الجواب عنها لا يختص بها مجامع الفقهاء والموثوق بهم من أهل العلم والرصانة والعقل بل يعلمها بالضرورة كل واحد من سواد الأمة.
ومما لا شك فيه دون دخول في التفاصيل ولا الجري وراء الحوادث الجارية أن هناك خطوطا حمراء مجمعا عليها لا مجال فيها للاختلاف ولا مطعن في صدقيتها تؤكدها قواعد ومقولات تلقاها الخلف عن السلف بالقبول: التفقه فيها واستغلالها وتوظيفها فيما نحن يصدده من دراسة هذه الظاهرة تفضي إلى الإفتاء بتحريم الإرهاب وتجريم الإرهابيين ومنها:
1 - درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة عند تساويهما.
2 - المصالح العامة تقدم على المصالح الخاصة.
3 - إذا التقت مصلحتان ولم يمكن الجمع بينهما يؤخذ بأحسنهما وإذا التقت مفسدتان ولم يمكن دفعهما يرتكب أخفهما.
4 - قتل النفس البريئة يعد من السبع الموبقات وهو من أول ما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة وإحياء نفس كإحياء كل الناس وقتل نفس كقتل كل الناس.
5 - حكم الحاكم في الأمور الخلافية بين العلماء يرفع الخلاف.
6 - يجنح إلى السلام وجوبا ما أمكن تفادي الصدام.
7 - الفتنة أشد من القتل.
8 - تغيير المنكر لا يجوز إذا تيقن إفضاؤه إلى منكر أكبر منه.
9 - التدرج في تغيير المنكرات واجب داخل مقتضى الحكمة والمصلحة.
10 - الأخذ بالأولويات والأحرويات من فقه الدعوة.
11 - { من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية } (4) (حديث شريف).
هذه القواعد والمقاصد وغيرها إذا استقرئت تصب في اتجاه واضح وهو: تجريم إيذاء الأبرياء من الناس.
والإيذاء هو الظلم المحرم بالنصوص القطعية كما أنه محرم بالعقل والفطرة.
والظلم فيه قوله r { الظلم ظلمات يوم القيامة } (5) وقوله تعالى في الحديث القدسي: { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } (6).
وهذا الإيذاء هو المدعو الآن بالإرهاب الذي يرمي إلى تحقيق مكاسب سياسية عبر التضحية بأرواح المدنيين ومن هو خارج موضع النزاع الظاهر أو الخفي بين الفئة المستهدفة (بكسر الدال) والجهات المستهدفة (بفتح الدال).
واليقين قائم على أن هذه الظاهرة وهي (الإرهاب) كما شرحناه مضرة بالعمل الإسلامي في الغرب كما هي مضرة بتماسك الأمة وانتظام أمرها وتنمية اقتصادها داخل دار الإسلام.
وهذا لا يعني بتاتا أننا نبرئ بعض المسؤولين على الشأن الإسلامي في الدعوة أو الدولة من تبعات هذه الظاهرة الخطيرة فليتحمل كل منهم مسؤوليته.
فكل مسؤول من أولي الأمر في سياساته وتصرفاته وأقواله وأفعاله قد يتسبب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في نشوء جرثومة الإرهاب إما بظلمه لنفسه ولغيره وإما بجهله وغفلته فالجهل مصيبة كبرى وطامة عظمى وآفة مميتة نسأل الله اللطف.
وعلى كل فنحن ندين الإرهاب كما وصفناه حيث نعرفه بأنه:
(أعمال أو أقوال تؤذي فكريا أو نفسيا أو جسديا أو ماديا الأبرياء من بني آدم يقوم بها شخص أو أشخاص أو جهة قصد تحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية أو غيرها لا ناقة لهؤلاء الأبرياء ولا جمل في الظروف والأسباب التي حالت دون تحقيقها للشخص أو الأشخاص أو الجهة المنفذة لهذه الأعمال).
وهذا التعريف هو الذي نظنه ينطبق على ظاهرة تشمئز منها النفوس وتنفر منها الطباع السليمة خاصة إذا أضيفت جهلا أو بتعمد لشريعة الله أي ظاهرة الإرهاب.(1/344)
والحقيقة أن الإسلام الحنيف من مقاصده السامية تحريم كل أشكال الظلم والإيذاء والعدوان والطغيان سواء أصابت الإنسان أو الحيوان وعلى النقيض أوجب الإسلام إقامة العدل والتعامل بالقسط وحذر من إهانة الآدمي والتسلط على دمه أوعرضه أو ماله دون بينة شرعية واضحة وضوح الشمس.
ولما كانت الشريعة الرحيمة كفيلة بضمانة الحقوق كافة لبني آدم وصيانة حرياتهم وحماية ممتلكاتهم وإشاعة الأمن فيهم ودفع الخوف عنهم وجلب أسباب التعايش والتفاهم فيما بينهم؛ فإن تجاوز ضوابطها بتأويل فاسد أو تفسير مغرض أو لي أعناق نصوصها القطعية أو الظنية بنية سيئة وقصد فاسد: هوى يعد من أكبر الكبائر المسببة لشر مستطير.
الشطر الثاني
النموذج المطلوب في الدعوة الإسلامية المعاصرة بالديار الأندلسية والمناقض للأسس الفكرية والجذور الإيديولوجية لظاهرة الإرهاب
إن تطبيق ما سلف على الميدان الدعوي في الأندلس أمر مهم جدا فنحن نعلم أن هذه البلاد ظلت أكثر من ثمانية قرون إحدى قلاع الإسلام ومنارة تشع بالحضارة والمدنية وتطفح بالعلم والمعرفة في الغرب الإسلامي الذي قدم لأوربا خدمات لا تنكر وأسهم في تقدم الفرنجة بشكل لا يجحده منصف.
وبعد السقوط الرسمي لدولة الإسلام بغرناطة في 2 يناير 1492 (897 هجرية) ظل للمسلمين وجود ضعيف في شبه الجزيرة الإيبيرية بوصفهم أقلية جاهدت للحفاظ على هويتها المتميزة على رغم عمليات الاضطهاد الوحشية ومحاكم التفتيش البربرية إلى أن تم إجلاؤها على مراحل ظلما وعدوانا وقهرا من العدوة الشمالية فكان آخر إجلاء قسري ونفي جبري للبقية الباقية من الأندلسيين عام 1018 هجرية الموافق 1609 ميلادي.
ثم إنها لم تنطفئ بالمرة جذوة التوحيد من قلوب بعض أحفاد المدجنين الذين اختاروا البقاء بإسبانيا على مدى الأجيال المتعاقبة فكان من حين لآخر تظهر أمارة أو أكثر على وجود إسلامي في هذه الجهة أو تلك في هاتيك الديار من الفردوس المفقود.
ولما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية 1936 - 1939 لمس الجنود المغاربة الذين زج بهم في آتونها الملتهب أن هناك بقايا من الإيمان في نفوس بعض الإسبان في قرى نائية وشعاب الجبال.
وبعد موت الجنرال فرانكو في نوفمبر 1975 وإعلان الدستور المعترف بحرية الأديان أقبل الكثير من الإسبانيين على الإسلام فرادى وجماعات، زرافات ووحدانا ومازالوا إلى الآن يدخلون في دين الله أفواجا وأفرادا فاهتدى منهم الجم الغفير؛ فالآلاف الآن منهم إخوان لنا في الإسلام في القطر المذكور.
كيف نضمن بتوفيق من الله U للدعوة الإسلامية في الأندلس الحماية من كل نزوع نحو التطرف والتشدد وكيف نصونها من كل علاقة مع الفكر المنغلق المظلم المتشائم الذي يمكن أن يفرخ بيضة الإرهاب كما سلف أن شرحناه؟
كيف نصون مراكزنا الإسلامية ومساجدنا هناك وجمعياتنا ومؤسساتنا الدينية من جميع الاختراقات التي يمكن أن تحدث لا قدر الله من جماعات تؤمن بالتكفير للعصاة حكاما ومحكومين أو تكفر بأسس التعايش السلمي ما بين الأقلية الإسلامية والأكثرية غير الإسلامية؟
هل بالإمكان القيام بالدعوة إلى الله وفق منهاج الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح وفي الوقت نفسه احترام قيم غير المسلمين وثقافتهم وقوانينهم وعاداتهم؟
هل يمكن هناك الجمع ما بين المسؤولية الدعوية وبين الحقوق والواجبات التي تنظمها القوانين الجاري بها العمل في تلك الديار؟
إلى أي مدى (أصالتنا) تتعايش مع (معاصرتنا)؟
إلى أي حد يتعايش (الإسلام) و (الديموقراطية وحقوق الإنسان)؟
إننا نظن أنه من الممكن شرعا إن شاء الله المزاوجة بين الهوية والأصالة وبين ضرورات مسايرة المعاصرة ومستجدات بدايات القرن الواحد والعشرين من الألفية الثالثة.
وفي الفقرات الآتية: ما يضع النقاط على الحروف لاختيار الطريقة الأقوم للدعوة الإسلامية (نموذج الأندلس) والمانعة لكل احتمال بإمكانية الانحراف نحو التشدد والفهم السيئ المفضين بدورهما للإرهاب.
1 - يجب استخدام المستويين:
(أ ) النصوص الشرعية الثابتة.
(ب) المقاصد الشرعية.
وإهمال هذه الأخيرة كليا وإعمال الأولى فقط مما لا يساعد على وضوح الرؤية ومما يؤدي إلى فقدان المبادرة في الإفتاء في الفروع المستجدة والمحدثات المعاصرة المتسارعة التي تضغط على المسلمين هناك بثقلها وزخامة امتدادها وتحرج المؤمن بظروف وأحوال ومقامات: النصوص فيها إذا بترت من المقاصد العليا والمقاصد التي دونها تقصر عن تلبية الحاجة والإجابة عن الاستفهام وطمأنة الحائر وكشف اللبس وتهدئة الخاطر.
والأئمة والمفتون - مجتهدين ومقلدين - مدعوون إلى كثير من الحذر في التعاطي مع النوازل المستجدة والطوارئ المتغيرة والمتكررة التي تستوجب نفسا طويلا في المزج بين روح المعنى وحرفية النص.
إن الأقيسة والاستنباطات والاستقراءات ورعاية المصالح والأعراف والأحوط والدراية بالمقاصد من التشريع: كل ذلك يفيد في طمأنة الطالب للحق مفتيا وخطيبا ومدرسا.
والمراد أن النصوص وحدها مبتورة من السياق مجتثة عن المقاصد مؤولة بالتأويل الحرفي قد تولد الإحباط للمهاجرين أو فئات منهم.(1/345)
وبالتالي قد تسبب لا قدر الله ردات فعل غير محمودة.
2- يجب عدم حمل الناس هناك على مذهب معين من المذاهب الأربعة لأن المهاجرين إلى الأندلس وأوربا عامة هم من مشارب مختلفة ومن مذاهب شتى. والخطيب والإمام والمؤلف مدعوون إلى مراعاة التنوع المذهبي للمهاجرين المسلمين وكذا للمهتدين درءاً للفتنة، ومن الأحوط أن لا يغالي الداعية في نصرة مذهبه على حساب المتلقين إن كانوا على مذهب غيره.
وهنا أذكر مثالاً على التهور في التدريس أن بعض الوعاظ المشارقة لا يراعون أن غالبية الجالية المسلمة بإسبانيا من المغرب وإفريقيا الشمالية والغربية وبالتالي أن غالبيتهم مالكيون وراثة ودراسة، فيدوس هؤلاء الوعاظ في جزئيات وفروع على ما استقر عليه العمل لدى المالكية فينشأ التشويش والانقسام والافتتان والقيل والقال وما يجر إليه التخليط من خلخلة العامة وشق صفوفهم وتفريق جموعهم. وهو أمر لا يبعد أن يكون أحد مكونات إحياء النعرات المذهبية المفضية بالتالي إلى الإرهاب الفكري الذي يفضي بدوره للإرهاب العملي لا قدر الله.
وهؤلاء الوعاظ يجنون من حيث لا يدرون فما كل ما يعلم يقال. ولكل مقام مقال.
وبما أن الفروع تتسع للمذاهب الأربعة والاجتهادات خارجها فإن الراجح والصحيح من الأيسر والأسلم والألطف هو الذي نوصي بالأخذ به ما دام مدونا في الفقه وذلك جمعا لكلمة المسلمين وتوقيا من تشتيت صفهم وثلم ركنهم وإذهاب ريحهم.
فكم من فتنة حدثت في الأندلس من المتعصبين لمذهب معين يأتون فيطلقون الكلام على عواهنه من غير أن يراعوا للمستمعين انتسابهم وانتماءهم المذهبي ولا مستوى ثقافتهم فيفسدون أكثر مما يصلحون في قضايا يضيقون حولها النطاق وقد وسعها شرع الله.
فهذه الجهات التي تبعث الوعاظ في المناسبات والمواسم أو توظف المرشدين الدينيين المقيمين أو تسجل أشرطة بالفيديو أو الأقراص المدمجة وتسوقها لدى الشباب المتعطش لدينه أو تنشر الحلقات المسلسلة عبر الفضائيات مع مقابلات واستجوابات، عليها أن لا تركز على مذهب واحد بعينه تجمد عليه خاصة في أمور حساسة تتسع لأكثر من العبادات وتتصل بالمعاملات وقضية الولاء والبراء ومسألة البيعة ونقضها ومسألة الحاكمية والجاهلية وقضية الحكم بالردة والزندقة وقضية الخلافة والإمامة ومسألة الشورى والديموقراطية ونظام الحكم.
فهذه أمور حساسة يجب على المفتي والمذيع والخطيب والمؤلف والإعلامي أن يكون على حذر فيها كما عليه أن لايخوض في خلافات علم الكلام التي عفى عليها الزمان توقيا من الفتنة.
فقد يثير الكراهية في النفوس تجاه وضع قائم أو مخالفين في المذهب أو نمط اجتماعي معين.
وما الإرهاب المادي إلا تجسيد للكراهية المتقدة في النفوس.
قبل المسدس والقنبلة: الإرهابي يحمل في قلبه ألف قنبلة ومسدساً.
وذلك المتعالم المتفيهق هو الذي يبوء بإثم جمرة البغضاء إذا أحرقت نفس المستمع المغفل بفتوى عرجاء استندت إلى تأويل فاسد ورأي كاسد في مذهب معين في غيره مندوحة عنه.
فنحن إذا نوصي بتوسيع دائرة الأخذ من المذاهب المعتمدة لتتبع ما صح من الأيسر والأنسب والأسلم في الفروع المرتبطة بالحياة العامة التي يحتك فيها المبتلى بالإقامة بدار الغربة، بالأوضاع والأحوال المنافية للشرط الإسلامي.
3 - وجوب الاطلاع على ثقافة الآخر:
(ب ) الغريب كل الغرابة من يقتحم لجة الإفتاء والتوجيه الديني في الأندلس وهو لم يشم رائحة لثقافة الآخر الذي استضافه في أرضه وأباح له الإقامة في بلاده.
الدعاة هناك مطلوب منهم تحصيل الأدنى في معرفة اللغة القشتالية والإلمام بتاريخ الإسبان وجغرافيتهم وأصولهم وقوانينهم السائدة والتطور الذي يعيشون فيه. وذلك لأن إهمال ثقافة الآخر عامل أساسي في فشل الدعوة الصحيحة وبروز الأهواء الثائرة.
لقد رأينا كيف رد الإمامان الكبيران الشيخان أحمد بن تيمية وشمس الدين ابن قيم الجوزية رحمهما الله، على النصارى: الأول في كتاب ضخم (القول الصحيح) والثاني في (هداية الحيارى) ولم يكن الردان ليتما لولا اطلاع العالمين على ثقافة الآخر آنذاك.
والآن أستاذ بدرجة دكتور خريج جامعة إسلامية لا يفقه في (ثقافة الآخر) شيئا ولا يملك منها نقيرا ولا قطميرا، يبعث إلى مدريد أو برشلونة أو إشبيلية أو حاضرة أخرى وحوله تحلق جمع للإنصات لخطابه والرجل أمي أمية مفرطة في (ثقافة الآخر).
كيف يفيد مثل هذا الرجل في تخريجاته وتأويلاته وأجوبته على نوازل وحوادث ووقائع بـ (أرض الآخر) فهو في موطن غير موطنه محكوم عليه أن يراعي الاختلافات بين أهله وهؤلاء (الآخرين) وإلا خبط خبط عشواء وسلك سبيلا معوجا على رغم حسن نيته وجميل طويته.
وبطبيعة الحال هذا الجاهل بـ (ثقافة الآخر ونفسيته) فاشل مقدماً في درء خطر تكون بيضة أسباب الإرهاب.
4 - يجب الربط بين الإسلام (دينا) وبين الإسلام (حضارة) فالفصل بينهما في ديار الغرب نكسة ورجعى للوراء وعمل قاصر وسعي مبتور:
وكثير من الاتهام الموجه الآن إلينا نحن المسلمين ناتج عن هذا الفصل فـ (الآخر) قد يخاف من الإسلام (دينا) ولكنه لا يخاف من الإسلام (حضارة).(1/346)
لهذا المصطلح قيمة في التداول والاستعمال وميزة كبرى وله نبرته وأهميته وتأثيره.
وهذا (الآخر) يقدر الإسلام (حضارة) تقديرا كبيرا ولكنه يخشاه (دينا).
وعلينا أن نسرب الإسلام (دينا) عبر لافتة الإسلام (حضارة).
كما أن الشباب إذا ربطناهم بالإسلام (حضارة) سيتفهمون المرامي السامية والمقاصد النبيلة الغالية لملتنا الشريفة وأنها متكاملة ومن تكاملها جمعها بين (الدين) و (الطين) أي بين (الدنيا) و(الآخرة) وبين (المادة) و(الروح).
وإذا كان الدين توجيها لإصلاح الشأن البشري في الآخرة فإن (الحضارة) توجيه إسلامي لعمارة الأرض.
ولفت أنظار الجهات المسؤولة عن الدعوة بالأندلس إلى هذا الربط بين الإسلام (دينا) والإسلام (حضارة) من النصح الخالص الذي نقدمه في هذه المداخلة.
وبالتالي فالربط المذكور يعد من كوابح التطرف والغلو والحمد لله رب العالمين لأنه يوسع الأفق المعرفي للمسلم فيتعامل مع المشروع الإسلامي في خطوطه الكونية ووزنه في العالمين فيتسامى عن التدني للمدنسات التي هي مقدمات للفتك والطعن والهمز واللمز. والربط يحدث الشعور الوجداني المتناغم بين العقل والقلب والداخل والخارج فيرى السالك إلى الله تكاملا في عناصر الحياة تتجلى فيها كمالات الله عز وجل. وهذا فهم دقيق عن الله تكل عنه العبارة.
ولا مكان مع هذا الربط للإرهاب إن شاء الله.
5- فتح قنوات الحوار مع الشباب المتحمس والفئات الحركية من المتطوعين في الحقل الإسلامي دعوة وتربية وإعلاما. وذلك قصد الإقناع بالمنهج السلمي في التغيير الإصلاحي وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي فريضة النصيحة وفي فريضة الجهاد إن قام على فرضيته برهان عند الاقتضاء كالجهاد في فلسطين ضد المعتدين وفي التوعية والتحسيس بالصحوة الإسلامية المباركة، فالحوار لا يأتي إلا بخير بشرط لين العريكة والاتصاف بالتواضع ونشدان الحقيقة الشرعية لاغير لضبط الحركة وقمع التهور ولجم الانزلاق والتحكم في الهيجان...الشيوخ بالتجربة الطويلة والاحتكاك المتواصل مع التراث والعمر المديد المليء بالعطاء مع القدم الراسخة في العبادة والتنسك... وعلماء الشباب بالحيوية والاقتدار على الاستيعاب وسرعة البديهة وامتلاك أدوات الفهم... الجميع بالحوار يوقف بإذن الله موجة التكفير السائب والتضليل الفوضوي والتبديع الاعتباطي وكل هذه الأثافي تنتج غل الصدور وهذه بدورها تدفع الأعصاب المتوترة إلى إمكانية اللجوء للقوة والعنف.
6 - إن تكون سياسة الدعوة بالأندلس نابعة من أرض الأندلس مراعية لظروفها والحقائق الموجودة على أرضها وأن لا تستورد هذه السياسة من جهة خارج الإطار الجغرافي والسياسي والاجتماعي للأندلس نفسها.
7 - أن ترتبط الدعوة إلى الله ثمة مع حاجيات الجالية المسلمة المقيمة بإسبانيا وهي جالية مهمة لا تنتظر فقط من الدعاة الخطاب الجاف والتبجح بالتقعر والتفصح ببليغ الحديث على أعواد المنابر وإنما تحتاج أيضا للرعايات التربوية والاجتماعية والصحية والمادية وسواها... وتلبية هذه الحاجات أو بعضها مما يقضي على أسباب نشوء الإرهاب أو يقلل من هذه الأسباب فاعلم ذلك.
8 - استخدام سنة التدرج في الدعوة وعدم التعجل في تحصيل النتائج المرجوة منها وهذا التدرج الذي يكون على مراحل محسوبة يقلل أيضا فرص نشوء أسباب الإرهاب.
9 - المزاوجة بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية والبراهين الحسية والواقعية تسهم في تقبيح الإجرام وتقزيمه وتحجيمه بحول الله مع الحض على معالي الأمور والتزين بالتنزه والعفة.
10 - استثمار ما كتبه العلماء الثقات في إصلاح القلوب والأخلاق في التدريب والتمرين على السماحة والعفو وحب الناس وتفويض الأمر إلى الله والتبرئ من النفس الأمارة بالسوء والتنزه عن الدعاوي الغليظة وحب الذات وأمراض القلوب وبالتالي فهذا مما يسهل على الشباب الاغتسال من جنابة اتهام الناس ومحاكمة النوايا والعمل بالظنون وازدراء المذنبين وما أحوجنا إلى هذا في الأندلس...
وبالتالي فذلك التراث يساعد الشباب على التأمل والتدبر في الملك والملكوت والاشتغال بالتعبد والتهجد والصدق في المحافظة على الأوراد الشرعية وهي أمور يستجلب بها الفتح الرباني والفهم عن الله والإلهام والخواطر والواردات القدسية مما يصفي زجاجة الفؤاد من الأدران والكدر ويحفظ من الحماقات والمغامرات الطائشة.
11 - تفعيل مقولة (ما عمت به البلوى) وفق ضوابطها الشرعية عند النظر فيما انتشر وساد وشاع وفشا من المنكرات والمعاصي والانحرافات... ولا تعني المقولة الإقرار على ذلك ولكنها مئنة من فقه الدعاة خاصة في هذا الزمان الحرج.
12 - تفعيل قواعد ومقولات مثل: رفع الحرج - الضرورات تبيح المحظورات-: {?wur (qà)ù=è? ?/?3ƒI‰÷ƒr'I/ ’n<I) Ips3è=?kJ9$ ? } (7) الآية- ونحوها.
13 - تفعيل الاجتهاد الجماعي ضمن بحوث (فقه الواقع) و(فقه الأقليات).(1/347)
14 - تعميق دراسة السياسة الشرعية في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية وظهور (العولمة) و(النظام العالمي الجديد) و(العالم الأحادي القطبية) وهذا ما ينبغي مراعاته في (الأحكام السلطانية) و(إصلاح الراعي والرعية).
15 - رفع مستوى الخطاب إلى معالجة الأزمات العالمية ومكافحة المشكلات التي تهدد الاستقرار والسلم والطمأنينة والتعايش، والارتقاء بالصحوة المباركة إلى المشاركة في وضع تصوراتنا ومقترحاتنا لإيجاد توافق مع (الآخر) ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ومن هذه المعضلات:
فساد البيئة الطبيعية- التغيرات المناخية الخطيرة- التصحر- ندرة المياه- أسلحة الدمار الشامل- الفقر- البطالة- الفوارق الاجتماعية- الكوارث الطبيعية- الإدمان على المخدرات والمسكرات- الإجرام المنظم- الدعارة وتجارة الجنس- الرشوة- الامراض المستعصية والأوبئة- العنصرية- الاستعمار الصهيوني لفلسطين الحبيبة- ديون العالم الثالث- الربا الذي يثقل الكاهل- قنبلة النمو الديموغرافي المطرد- مشكلات الحدود- مشكلات الأقليات- التنازع العرقي- الطاقة المهددة بالتضاؤل-تخلف العالم الثالث- اتساع هوة شمال جنوب- وغيرها.
فالرفع من الخطاب إلى هذا المستوى مع الحفاظ على خصوصياتنا ومميزاتنا وهويتنا يقلص فرص لجوء طوائف من الناس إلى الإرهاب.
16 - إشراك الشعوب الإسلامية في الشأن العام بإقرار تعددية سياسية ومنابر لإبداء الآراء الناصحة وتفعيل آية الشورى والاعتراف بالحريات والحقوق والعمل بالانتخاب الحر لاختيار المؤسسات العمومية وإعلان الصلح المدني والعفو عن المعتقلين لأسباب فكرية وإيجاد أرضية واسعة للتعبير الحر عن الرأي والتمتيع بحريات التجمع والنقد والتنافس والشفافية في التدبير وقبول المحاسبة والمراقبة في تسيير بيوت أموال المسلمين والمساوات بين ذممهم... كل هذا يمنع الشباب من اليأس ويقيهم من الإحباط وبالتالي يفتح أمامهم المجال للتباري الشريف لخدمة الأوطان وهذا بدوره يمنع مقابلة الظلم بالظلم ويقي من مصارع السوء ويطب الأسقام ويعالج الأدواء المستعصية فلا يبقى متسع إن شاء الله للمفتونين الفتانين سواء (عندنا) أو (عند غيرنا) فيضمحل أو يقل الإرهاب بإذن الله.
خاتمة
ختم الله لنا بالحسنى ومتعنا فضلا منه بالمقام الأسنى.
لقد كان بالود الإشارة إلى جزئيات وتفاصيل وفروع تتصل بالعمل الدعوي المعاصر في الديار الإسبانية من ذكر الهيئات وأسامي المراجع والمرجعيات والإحالة على المصادر وما أكثرها.
وكان بالود أيضا الحديث عن علاقة الدعوة بالجالية المسلمة هناك وبالمسلمين المهتدين والمؤسسات ذات الارتباط مع التنبيه لاتفاق 1992م الذي وقعته الدولة الإسبانية مع المجلس الإسلامي وكذا عن الفيدراليتين الكبيرتين للهيئات الإسلامية ثمة والمراكز والمجالس الثقافية الإسلامية وكذا عن الجهات الحكومية والأكاديمية والإعلامية ذات الصلة.
وكان بالود التطرق للأحداث الأليمة ليوم 11 مارس ومخلفاتها.
كل ذلك كان بالود من منطلق الحرص على بيان كيفية سد جميع الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها الفكر الإرهابي أعاذنا الله منه.
ولكن المساحة المخصصة للمداخلة لا تسمح بالتطويل فمعذرة: (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
وما كان من حق وصواب فهو من الله سبحانه فله الحمد على توفيقه وإلهامه.
وما كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان نعوذ بالله من وسوسته.
وفقنا الله لخدمة دينه وسنة نبيه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
==================
حرية التدين.. فريضة عصرية وضرورة أمنية
كان المؤتمر السنوي الحادي والعشرون لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا الذي انعقد في باريس الشهر الماضي وحضره أكثر من مائة ألف مسلم أول تجمع كبير لمسلمي فرنسا بعد أزمة الحجاب في المدارس الفرنسية، لذا فقد انعقد في أجواء من التوتر بسبب خطورة الأحداث والفاعليات المتلاحقة التي تمس حياة المسلمين والمقيمين بأوروبا، والتفاؤل بأن ما يحدث يصب في مصلحة انتشار الإسلام وبزوغ شمسه.
حاضر في المؤتمر 54 رمزاً من الدعاة والأئمة والساسة في أوروبا "مسلمون وغير مسلمين" حول حرية التدين في المجتمعات المعاصرة، وأجمع المتحدثون على أن الإنسانية لم تتوقف في البحث عن الوصول إلى طرق وإمكانية التعايش السلمي بين مختلف أجناسها، مؤكدين أن الحروب والصراعات تعتبر الحائل الأول أمام هذا التعايش، وهنا يبرز دور العقلاء للعمل نحو التوفيق والوسطية.
كما أكدوا أن التجربة الوحيدة في تأصيل مبدأ الحريات الدينية يدعو إليها الإسلام قولاً وعملاً.
وكان المؤتمر بمثابة تظاهرة ناجحة ورسالة قوية للسلطات الفرنسية بالكف عما يسيء إلى الحريات الدينية ومنها حجاب المسلمة وكفالة أداء الشعائر سعياً لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار.
بدأت فاعليات المؤتمر بمحاضرة د. بدر الماص الأكاديمي الكويتي، تناول فيها مفهوم التدين وأهم عقباته في مجتمع الغرب ومنها (الاستعجال الغلو والتطرف الحماس الزائد نقص العلم الشرعي الذوبان وفقدان الهوية الإسلامية ندرة المؤسسات التربوية).(1/348)
وقال: إن الغربيين في مجملهم ينظرون إلى المسلمين نظرة دونية قاصرة على أنهم أصوليون إرهابيون متخلفون ينتمون إلى عقيدة رجعية تناهض التطور الحضاري، وهذه النظرة لها أسباب منها الخلفية التاريخية للمجتمع الغربي والواقع المؤسف الذي تعيشه البلاد المسلمة.
وفي كلمته نبه التهامي إبريز رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا إلى ضرورة توخي الحكمة والعقل خاصة أن انعقاد المؤتمر يأتي في جو مشحون بالأحداث المتلاحقة التي تؤجج نيران الفتن، ثم عرج على بعض الأحداث والمواقف التي مرت خلال عام:
1 جاءت زيارة وزير الداخلية (السابق) للاتحاد على إثر انعقاد المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. تعبيراً عن دعم الوزير وتواصله مع ممثليها، ولا يخفى أن وزارة الداخلية مكلفة بملف العلاقة مع الأديان، وبعد تبادل وجهات النظر حول القضايا التي تهم الوجود الإسلامي في فرنسا، أكد الوزير تشبثه بموقفه المعارض لسن قانون يمنع المتحجبات من ولوج المدارس العمومية، وتقدم وزير الداخلية بمقترح توفيقي يتم بموجبه استعمال حجاب خفيف (Bandana).
2 بعد أن تم الاعتراف بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، سعت بعض الجهات المغرضة والمعادية للوجود الإسلامي الذي أصبح منظماً ومعترفاً به لاستغلال قضية الحجاب للنيل من صورة الإسلام والمسلمين وصرف الأنظار عن هذا المكسب الكبير الذي حققه مسلمو فرنسا.
3 إن الأعمال الاستفزازية المخالفة لقوانين الجمهورية يراد من ورائها استثارة مشاعر المسلمين لدفعهم للقيام بأعمال غير مسؤولة، ومهمتنا توجيه المسلمين وتحصينهم من أي انزلاق، لكي نبقى مدافعين عن أنفسنا في إطار الشرعية.
4 فيما يتعلق بشعار "إسلام فرنسا" الذي يراد به مواجهة (إسلام في فرنسا) نتصور أن الأسماء لا تغني عن حقائق الأمور، ولذلك نتصور أن تطبيق الإسلام في هذه البلاد ينبني على دعائم منها:
عدم التقيد بمدرسة فكرية أو فقهية معينة، وهدفنا الأخذ بأيسر الآراء الفقهية ضمن المذاهب المعتبرة لتيسير التدين لدى مسلمي فرنسا.
التفريق بين ما هو من التقاليد وما هو من صلب الدين.
مراعاة التمسك بالدين إلى الحد الذى يسمح به القانون.
استعمال مبدأ الرخصة لاجتناب الاصطدام مع قوانين البلد وتعميق فقه الأقليات فهماً وتطبيقاً.
ترسيخ علاقة الإسلام بمحيطه.
5 كثير من الجهات لم يستسغ الاعتراف بالديانة الإسلامية ولذلك يشن علينا حملة تشويهية منظمة، والذي يهمنا هو تماسك واستقرار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من داخله وتضامن أعضائه للدفاع عن القضايا الكبرى التي تهم الوجود الإسلامي في فرنسا من خلال التشاور والحوار والتواصل مع المهتمين بالشأن الإسلامي في فرنسا.
وتناول د. أحمد جاب الله مسألة الحريات الدينية في الإسلام مؤكداً مبدأ (لا إكراه في الدين) وساق أمثلة كثيرة عن سماحة الإسلام.
وكانت كلمة د. جاب الله متميزة ألقاها بلغة فرنسية سليمة، تناول خلالها دور مجلس الإفتاء والبحوث في أوروبا في تأصيل الممارسة الدينية للأقليات المسلمة في أوروبا.
وعرج على موضوع "الجهاد" وشروط مشروعيته بما يرد الشبهات التي تتخذ ذريعة للتضييق على المسلمين في أوروبا.
وفي محاضرته أكد د. أحمد الراوي رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا أن مفهوم الحرية الدينية في أوروبا لم يتبلور إلا في وقت متأخر، إذ لم يصور التاريخ لها تسامحاً إزاء الأقليات الدينية، وقد بلغ الأمر مبلغاً فظيعاً في بعض المراحل حتى استعرت نيران الحروب الدينية وجرت ملاحقات شرسة للأقليات الدينية والمخالفين في المعتقد حتى في عصر النهضة، وضرب أمثلة على ذلك منها حظر بناء كنيسة بروتستانتية في مدينة ميونخ الألمانية الكاثوليكية حتى مطلع القرن العشرين، وما زالت بعض المدن الأوروبية تضع عوائق وعراقيل أمام تشييد المساجد حتى اليوم.
وقال: لقد شهدت السنوات الأخيرة صدور عدد من الوثائق التي تضمنت تعزيزاً للحريات الدينية على المستوى الدولي، وأهم هذه الوثائق:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948.
العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الصادر عام 1966.
إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، الصادر عام 1981.
ومن هذه النصوص: المادة 9 التي تنص على حق كل شخص في حرية التفكير والتعبير والدين.. ويشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو معتقده، وكذلك حرية التعبير عنهما أو تعليمهما بإقامة الشعائر أو ممارستها أو رعايتها، بطريقة فردية أو جماعية، وفي نطاق علني أو خاص.
أما جوني بيبيرو عضو اللجنة التي بحثت قضية الحجاب والذي رفض التوقيع على تقرير "استازي" الذي بني على أساسه قانون منع الحجاب فقال: إننا في عالم قد تؤدي فيه أحادية الثقافة إلى جمود لا يمكن أن يقبل، كما أننا اليوم في مناخ صعب على الساحة الدولية، ومن المهم أن نتذكر تاريخ نشأة العلمانية في فرنسا وأهدافها التي لم تحققها إلى اليوم.(1/349)
وقال إن هدف العلمانية في فرنسا خلق مجتمع تسود فيه المساواة دون اعتبار لدين أو لجنس أو معتقد أو عرق أو لون.
وما منعني من توقيع تقرير استازي الذي أوصى بالحد من إظهار الرموز الدينية بالمدارس والمؤسسات العمومية إلا مخالفته لقوانين العلمانية التي نتشدق بها، لكن الصحافة ركزت على هذا الجانب دون أن تذكر أن اللجنة انتقدت العلمانية الفرنسية، مطالباً فرنسا بضرورة إعادة النظر في علمانيتها ووحدتها الوطنية.
وحول الإسلام والتخوف الأوروبي فجر فاتسو جييه الباحث في علم الاجتماع الأسباب الحقيقية وراء منع الحجاب في فرنسا قائلاً: أعتقد أن هناك خلفيات سياسية ناشئة عن أزمات داخلية أدت إلى صدور قرار منع الحجاب منها: أزمة إضراب المعلمين الذي دام قرابة نصف عام بهدف إجراء تعديلات تمس مكانة المعلم وتحقيق مقابل مادي جيد له، فخرج ملف الحجاب ليعلو فوق صوت إضراب المعلمين، وليغلق أزمة المعلم، وكأن الحجاب هو الذي يهدد التعليم في فرنسا أو يهدد الشخصية الفرنسية.
كما أن موجة الحر التي اجتاحت فرنسا ونجم عنها وفاة أكثر من 15 ألف مسن في أقل من شهرين سببت أزمة كان من المتوقع أن تنهار بها الحكومة لولا صدور تقرير استازي وإثارة الإعلام لقضية الحجاب، ومرت الأزمة برداً وسلاماً وكأن الدولة مهددة في أصلها وكينونتها في حجاب يستر شعر مسلمة!
وأوضح أن تخوف أوروبا من الإسلام يرجع إلى ثلاث أسباب: الخلفية اللاشعورية عن الإسلام أنه مصدر إرهاب، وشعور أوروبا بالاستعلاء على شعوب المسلمين، واستعمال الإسلام وسيلة لستر عورة الفشل.
وكان لكلمة د. محمد مرسي رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين في مصر صدى كبير في نفوس الحضور حين أكد دورهم الرئيس كأصحاب دعوة وحملة رسالة قائلاً: إن ما يحدث الآن في العالم سواء في فرنسا أو غيرها إنما هو بسبب عجزنا جميعاً مسلمين وغير مسلمين عن أن نتواصل مع بعضنا البعض، وأن يتقبل كل منا الآخر وأن يحرص كل منا على أن يتعايش مع الآخر وأن يندمج معه من غير ذوبان ولا فقدان هوية ومن غير تزلف أو استكبار، مؤكداً أن التميز لا يعني الاستكبار أو التقوقع وأن الاندماج لا يعني الذوبان أو الترك أو فقدان الهوية، وإنما إسلامنا يدعونا إلى أن نكون أمة وسطاً، وما الحجاب وما دار حوله إلا أحد هذه الظواهر.
وقال: يجب أن تدرك الحكومة الفرنسية أن الحجاب ليس مجرد رمز ديني وإنما هو واجب شرعي على بنات المسلمين ونسائهم، بل هو من صلب عقيدة وثوابت الاسلام، وينبغي أن يجري بيننا حوار وتفاهم حول جميع القضايا ذات الاهتمام المشترك.
ودعا د. مرسي المسلمين إلى عدم التفريط في حقوقهم بصفتهم رسل الخير إلى البشرية أينما حلوا؛ مشدداً على ضرورة المحافظة على ثوابت الدين والحرص على تمثله سلوكاً عملياً أمام الآخرين.
وفي مداخلته تحدث د. أبو بكر عمر الحاج أستاذ الفيزياء الدقيقة بجامعة بواتييه عن المرأة في فرنسا وطبيعة الظلم الذي تعانيه، مشيراً إلى أن الإحصاءات والأرقام تقول إن المرأة في فرنسا تتقاضى راتباً أقل من الرجل في نفس المستوى الوظيفي بأكثر من 20% كما أن المرأة لا تشغل في الوظائف العليا أكثر من 12%.
وكشف عن إحصائية أكدت حصول فرنسا على المركز قبل الأخير على المستوى الأوروبي بشأن اهتمامها بوظائف المرأة. كما كشف عن إحصائيات أخرى تشير إلى أن أكثر جرائم العنف ضد المرأة موجودة بفرنسا، وكذلك استعباد المرأة واستغلالها للموضة والجنس بات متميزاً في المجتمع الفرنسي.
واستطاعت سعيدة كدة رئيسة جمعية الدفاع عن حقوق المرأة أن تثير إشكالية خطيرة مؤداها: كيف سيكون مآل الفتاة التي تمتنع عن كشف شعرها؟ وهل يعقل أن يكون حرمانها من التعليم عقاباً، ولربما يؤدي ذلك إلى أزمة أخرى من شأنها أن تضع فرنسا أمام مشكلة جديدة تتمثل في إيجاد أميين سيكونون يوماً ما خطراً على المجتمع. علاوة على أن حرمان الفتاة من التعليم أمر يرفضه القانون الفرنسي، وأثبتت في كلمتها أن المشكلة أبعد من أن تكون غطاء رأس إذا لم تنتبه فرنسا لخطورة الأمر الذي ستقدم عليه.
وفي محاضرته أكد أبو جرة سلطاني رئيس مجتمع حركة السلم بالجزائر ضرورة الالتزام الديني لأن الدين توازن نفسي وضبط أخلاقي وتكيف اجتماعي، وأن الالتزام الشخصي هو الذي يدفع الغير إلى الاقتداء به، ولا نجاح لدعوة لا يشملها إخلاص حامليها، ولا قيمة لفكرة غامضة غير مفهومة، لأن الدين تطابق بين القول والعمل، وهذا ما دفع بصاحبي السجن مع يوسف الصديق إلى استشارته بعدما تأكدوا من صدق التزامه إنا نراك من المحسنين (36)(يوسف).(1/350)
وكانت مداخلة اللاعب الأمريكي لكرة السلة طارق عبد الواحد شائقة ومفاجئة للحضور، إذ كان يرتدي فانلة مرسوماً عليها علامة رجل ساجد ومكتوباً عليها "دعوة" وقال: إن المسلم يجب عليه أن يطرق أبواباً كثيرة للدعوة إذا ما سُدت أبواب أخرى، مؤكداً أهمية الرمز الدعوي، وضرب مثلاً لثلاثة أمريكيين "جابر رسول أمين" كانوا يشتغلون بحرف "كناس سائق شاحنات عامل بناء" واعتبروا أن الرموز لها دور كبير بربط الإنسان بمعتقده وهويته، وبالعزيمة والإخلاص استطاعوا أن يقدموا لهذا الدين الشيء الكبير بإنتاج وصناعة فانلات مكتوب عليها دعوة وعليها علامات وحركات الصلاة.
وقال: إذا افتعلت دولة ما الفتن بالمسلمين وجب عليهم تجنب الفتنة والبحث عن النافع والابتكار في إيجاد أساليب جديدة للدعوة.
وأضاف: إن أكثر من ستة ملايين مسلم يتعايشون في أمريكا بشكل جيد مع الشعب الأمريكي، لكن السيئ في التعامل فقط يتمثل في الحكومة والإعلام، مشيراً إلى أن القوانين الأمريكية تكفل حرية التدين لكن بعد أحداث 11 سبتمبر أصبح كل متدين يثير ريبة لدى السلطات الأمريكية.
وفي محاضرته أكد د. عبد الله بصفر الداعية الإسلامي أن جميع الحضارات قامت على أساس الجزاءات الأخروية التي قدمها الدين حمايةً للأخلاق وأن الدين له أثر كبير في تكوين الأخلاق وتربية الضمائر اليقظة، وكما قال أحد المؤرخين: لا ريب أن الدين كان أعظم قوة في التاريخ هذبت توحش الإنسان، وضرب أمثلة لنماذج بشرية صنعها الإنسان حتى صارت فضائل مجسدة تمشي على الأرض.
واعتبر أن التربية الإيمانية منطلق لتحرير النفوس والعقول. وخلص إلى أن التدين قيمة حضارية تصب في مصلحة الوطن "أياً كان" ليمنع الجريمة ويضعف الشر وينشر الخير والعدل والإخاء. وعلى كل دولة تحرص على وحدتها الوطنية أن تسمح بحرية التدين.
==============
إنشاء أحزاب إسلامية بالغرب
ما حكم إنشاء المسلمين للأحزاب الإسلامية في بلاد الغرب؟
اهتم علماء المسلمين المعاصرين بما يشغل إخوانهم المقيمين في البلاد غير الإسلامية وأفردوا له بابا أسموه "فقه الأقليات المسلمة"، أما بالنسبة لسؤالك فقد أفتى جمهور العلماء المعاصرين بجواز إقامة حزب إسلامي في البلاد غير الإسلامية. وإليك ما ورد في كتاب "الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي" للدكتور سليمان محمد توبولياك أستاذ الشريعة، ويذكر هنا بعض الأدلة النقلية والعقلية الدالة على جواز إقامة حزب إسلامي في البلاد غير المسلمة:
1- أن الأقليات الإسلامية التي تعيش في الدول غير الإسلامية التي تطبق النظم الديمقراطية، تستند أصلاً إلى التعددية الحزبية، والحزب في هذه الأنظمة هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على حقوق الأفراد الذين ينتمون إليه، وكل من لا حزب له لا يستطيع أن يحصل على حقوقه كاملة، والحقوق في الإسلام ضرورة، وكل ما يؤدي إلى تحقيقها فهو ضرورة، ومن هنا نقول إنه يجوز للمسلمين الذين يعيشون أقلية أن يؤسسوا حزبًا لهم.
2- أن الإسلام يأمرنا بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحزب تعد من أخص صور التعاون على البر والتقوى، وأهمها، لأنه عليه يعتمد في معظم الدول بقاء هذه الأقليات الإسلامية وتماسكها.
3- إن القرآن الكريم يطالب المسلمين بإقامة الدين ونشر الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران :104).
وهذا يتطلب من الأقليات المسلمة أن تكون منظمة، لتتمكن من تحقيق هذا الهدف، ولا يمكنها أن تفعل ذلك في ديار الكفر، إلا إذا نظمت نفسها، ووحدت صفوفها، تحت لواء واحد وذلك هو الحزب.
4- نستدل على ذلك بقاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
والواجب على جميع المسلمين بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه أن يدعوا إلى الإسلام، وأن يتصدوا لجميع مخططات الأعداء ومكائدهم، وأن يطالبوا بحقوقهم، ويحافظوا عليها، وذلك كله واجب على المسلم، وأفضل وسيلة لتحقيق ذلك إقامة الحزب في تلك المجتمعات، ومن هنا يكون ذلك واجبًا عليهم، لأن نظم تلك المجتمعات تقوم على الحزب، ومن له حزب يستطيع أن يكون له قوة ووجود في تلك المجتمعات.
وعملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، يجوز ذلك، فحتى لو سلمنا أن في إنشاء الحزب بعض المخالفة والضرر، إلا أننا نعتقد أن في عدم تأسيس الحزب ضررًا أكبر، حيث يهدد ذلك بقاء الإسلام والمسلمين في تلك البلاد، ويؤدي إلى ضياع الحقوق والحريات لهؤلاء المسلمين، ولذلك نرتكب الضرر الأخف لندفع الضرر الأكبر منه.
==============
فقه الأقليات
مقدم الحلقة:
…أحمد منصور
ضيف الحلقة:
…د. يوسف القرضاوي: داعية ومفكر إسلامي
تاريخ الحلقة:
…14/09/1997
- مصطلح فقه الأقليات ومفهومه في التراث الإسلامي القديم
- أصول فقه الاغتراب
- مفهوما دار الحرب ودار الإسلام.. توضيح وتبيين
- القواسم المشتركة بين المسلم المغترب والمسلم غير المغترب على مستوى الواجبات
- مسوِّغات هجرة المسلم لبلاد غير المسلمين
- مدى شعور المسلمين في أميركا بمسؤولية التأثير السياسي(1/351)
- مدى ضرورة اندماج المسلم المغترب في المجتمع الذي يعيش فيه
- حكم إخراج الصدقات والزكوات لغير المسلمين
- الموقف الشرعي من الانتخابات بين الجمود وضرورة صحة الفهم
د. يوسف القرضاوي
أحمد منصور
أحمد منصور: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في برنامج (الشريعة والحياة).
تناولنا في الحلقة الماضية واقع الأقليات المسلمة في العالم سواء الذين يعيشون في الشرق أم الذين هاجروا إلى الغرب، ووجدنا أن الأقليات التي يبلغ عددها حوالي أربعمائة مليون مسلم يعانون من مشاكل مختلفة، من أهمها عدم وجود مرجعية واضحة ومتكاملة لفقه الأقليات، ففقهاء الأمة على مدار الزمان لم يضعوا فقهاً للأقليات المسلمة، على اعتبار أن المسلمين يعيشون دائماً في دار الإسلام، وإذا كان مفهوم دار الهجرة ودار الحرب من المفاهيم الفقهية القديمة، فإن مفهوم دار العهد ربما يعتبر من المفاهيم الفقهية الحديثة، والآن بعدما أصبح ثلث المسلمين يعيشون في دول غير إسلامية تعتبر دار عهد، فإن الواقع يفرض على فقهاء العصر ومجتهديه أن يجددوا في الفقه وأن يؤصلوا فيه بما يحفظ على المسلمين دينهم في أي مكان يعيشون فيه، وفي أي مجتمع يشكلون جزءاً منه، وبالتالي فإننا -وعلى مدى حلقتين وربما أكثر- سوف نتناول مع الفقيه والعلامة المجتهد الدكتور يوسف القرضاوي أهم المشكلات الفقهية التي تواجهها الأقليات المسلمة لاسيما المسلمون في الغرب، وسوف نخصص هذه الحلقة للجوانب السياسية والعلاقة بنظام الدولة، أما الحلقة القادمة، فإننا سوف نخصصها -إن شاء الله- للجوانب الفقهية والمعاملات. فضيلة الدكتور، نرحب بك بعد غيبة استمرت عشر أسابيع سأل فيها كثير من المشاهدين عن فضيلتكم، وافتقدناكم فيها، وأود في دقيقة لو تعطي المشاهدين نبذة عن الجولة التي قمت بها خلال الأسابيع العشرة الماضية قبل أن نبدأ موضوعنا.
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فالواقع الجولة التي قمت بها، وكانت في أوروبا هي امتداد لهذا البرنامج..
أحمد منصور: الحمد لله.
د. يوسف القرضاوي: (الشريعة والحياة)، ولكنه كان لقاءً مباشراً بالإخوة المسلمين في تلك الديار، التقيت بالمسلمين في فرنسا في المجلس العلمي للكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية، وفي.. الإخوة في باريس، خصوصاً أئمة المساجد ورؤساء الجمعيات الدينية، والإخوة في سويسرا، وقضيت نحو عشرة أيام مع الإخوة في البوسنة والهرسك، وكانت أياماً حافلة ونافعة إن شاء الله، ثم ذهبت إلى بريطانيا، وكان هناك مؤتمر القدس، وألقيت كلمة عن القدس، وإنها قضية كل مسلم، ثم حضرت مجلس الأمناء لمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، هذه يعني خلاصة الجولة التي نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبلها وأن يجعلها خالصة لوجهه، فبرنامج (الشريعة والحياة) انتقل إلى الإخوة يعني هناك..
أحمد منصور: بشكل مباشر يعني.
د. يوسف القرضاوي: بشكل مباشر نعم.
أحمد منصور: الحمد لله على سلامتكم.
د. يوسف القرضاوي: سلمكم الله.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، الموضوع الذي نتناوله يعتبر من الموضوعات الهامة باعتبار عدم وجود مراجع كثيرة أو عدم وجود مراجع -ربما- بالمرة كتبت في فقه الأقليات، لو أخذنا فقه الأقليات في البداية كمصطلح فرضته ظروف وجود أقلية مسلمة بلغ عددها -كما أشرنا في المقدمة- حوالي ثلث المسلمين الآن أو أربعمائة مليون مسلم، ما المقصود بمصطلح فقه الأقليات؟
مصطلح فقه الأقليات ومفهومه في التراث الإسلامي القديم
د. يوسف القرضاوي: أولاً: أحب أن أُعلق يعني على كلمتك التي قلت فيها إن الفقهاء المسلمين لم يولوا هذا الموضوع أي اهتمام، وإن مصطلح دار العهد مصطلح حديث، الحقيقة هذا مصطلح قديم، لأن بعض الفقهاء يقسمون الدور إلى تقسيمة ثنائية، الأحناف عندهم الدار إما دار حرب وإما دار إسلام، ويقصدون بدار الحرب ما ليس بدار الإسلام، يعني لا يقصدون بها يعني إن فيها
حرب فعلية، ما ليس بدار الإسلام اسمها دار الحرب، مصطلح ..
أحمد منصور: هذا عند الأحناف
د. يوسف القرضاوي: عند الأحناف ولكن عند غيرهم هناك دار العهد بل هناك دار الهدنة، يعني إنه هناك دار الصلح ودار الهدنة، هناك أكثر من.. من دار ولكل منها فقهه، ولكن لم يكن المسلمون الذين يعيشون خارج دار الإسلام بهذه الكثرة، فمثلاً المسلمون في الهند مثلاً الآن يعتبرون من الأقليات، هم قبل ذلك كانوا يعتبرون داخل المجتمع الإسلامي لأن الهند كان فيها الهند وباكستان، وبنجلاديش، وكل هذه كان يكون مجتمعاً مسلماً.
أحمد منصور: دولة إسلامية.
د. يوسف القرضاوي: فالمسلمون.. وحصل انفصال أيضاً يعني بعض البلاد، وحصل في بعض الأحيان كانوا يعتبرون بعض البلاد الإسلامية الخالصة أقلية، يعني أيام الاتحاد السوفيتي كانت تعتبر أوزبكستان..
أحمد منصور: وطاجاكستان..(1/352)
د. يوسف القرضاوي: وطاجاكستان، وكازخستان وكل الأستان دي كان يعتبر إن هي أقليات، وهي بلاد إسلامية عريقة في الإسلام، وبلاد إسلامية خالصة فكانت معتبرة أقليات، بعض البلاد معتبرة في الأقليات وأهلها أكثرية، كان المسلمين في أثيوبيا في الحبشة وإريتريا وغيرها، فلذلك يعني.. أنا يعني -حقيقة- أفضل إن أنا أن أسميه يعني فقه الغربة المغترب عن دار الإسلام أو فقه الذين يعيشون خارج دار الإسلام أو خارج المجتمع الإسلامي وهناك مجتمعات إسلامية ومجتمعات غير إسلامية، وأنا أذكر منذ نحو ربع قرن عندما أصدرت كتابي "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" قابلني أحد الإخوة المهتمين بشؤون الإسلام والمسلمين وقال لي نحن نريد كتاباً آخر وبيقول هذا كتاب مهم ولكن نريد كتاباً نعتبره أهم من هذا، قلت له: ما هو؟ قال: كتاب المسلمون في غير المجتمع الإسلامي، يعني فهذا النوع هو الذي نحتاج إليه، أنه في عصرنا جدت أمور كثيرة وكثيرة جداً في داخل المجتمع الإسلامي وخارج المجتمع الإسلامي، يعني إذا كنا نحن.. نحن في داخل المجتمع الإسلامي نعاني من المستجدات والمتغيرات الهائلة، فكيف بمن يعيشوا خارج المجتمع الإسلامي؟
أصول فقه الاغتراب
فلذلك نحن في حاجة إلى تأصيل هذا الفقه، وهو في الواقع مؤصل على عدة قواعد، أولاً: أن الإسلام يقيم التكليف على حسب الوسع (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الأمر الثاني: أن الشريعة مبنية على التيسير (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الأمر الثالث: إن هناك عزائم ورخص في الدين، فأهل القوة أحق بالعزائم وأهل الضعف أحق بالرخص، ولذلك الإسلام يراعي حالة الضعيف في حالة الرقيق القرآن يقول: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ) الآمة حينما ترتكب ما نجلدهاش مائة جلدة، لأ 50 جلدة بنراعي حالة الضعف اللي.. التي عندها، وإذا كان التيسير مطلوب في كل حال فالتيسير على من يعيشون خارج المجتمع الإسلامي أولى، أيضاً قرر علماؤنا قاعدة مشهورة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وهذا أمر مُسلَّم، ولكن مهم تطبيقه، ومعنى تغير المكان يعني أيه؟ يعني هو المكان يعني من يعيش في.. في خارج دار الإسلام غير من يعيش في در الإسلام.
أحمد منصور: حتى في دار الإسلام إذا اختلف المكان..
د. يوسف القرضاوي: آه حتى المكان البادية غير الحاضرة.
أحمد منصور[مقاطعاً]: الإمام الشافعي.
د. يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: العلماء قالوا: لو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة وكان يعيش في الحواضر الإسلامية لا.. لا يعذر، إنما لو كان يعيش في بادية ومكان بعيد يمكن أن يعذر، لأنه لم يعرف هذه الأمور، فهذه القواعد هي التي تجعلنا ننظر إلى الأقليات بأننا لا نطبق عليهم كل ما نطبق علينا..
أحمد منصور[مقاطعاً]: اللي هو الأكثرية المسلمة.
د. يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: في داخل المجتمع الإسلامي، لابد أن نفرق بين هؤلاء وهؤلاء، ونراعي ونلبس لكل حالة لبوسها.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور هل فضيلتك هنا، هل.. يعني حتى لأن هذه الحلقة سينبني عليها ما بعد ذلك وكلامنا سينبني عليها، هل نسميه فقه الأقليات أم فقه الاغتراب؟ لأنه يخص حتى -كما أشرت فضيلتك- إلى المسلمين الذين يعتبرون أكثرية ويحكمون بغير المسلمين كما في أريتريا وأثيوبيا؟
د. يوسف القرضاوي: هو.. يعني.. أُفضَّل فقه الاغتراب هذا..
أحمد منصور: فقه الاغتراب.
د. يوسف القرضاوي: آه وإن كان يعني قد يكون كلمة فقه الاغتراب لا.. ربما لا تنطبق على المسلمين الذين يعيشون -أصلاً- في قلب ديارهم، هم لم يغتربوا، يعني المسلمون في الهند، المسلمون في الفلبين، المسلمون في بعض البلدان الآسيوية
أحمد منصور: الأصل أهل البلاد.
د. يوسف القرضاوي: هم من أهل البلاد الأصليين، فيعني كيف نعتبرهم مغتربين إلا إذا كانت الغربة بمعنى يعني غربة الإسلام حينما يعيش المسلم في مجتمع غير مسلم، هنا كما جاء في الحديث "بدأ الإسلام غريباً.. وسيعيش غريباً..
أحمد منصور: وسيعود غريباً.
د. يوسف القرضاوي: وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"، هذا نوع من الغربة، ممكن..
أحمد منصور: حتى فضيلتك الآن في أوروبا، كثير من الأوروبيين مسلمين من أصل البلاد، مثل الفرنسيين والأميركان كذلك.
د. يوسف القرضاوي: من أصل البلاد.. نعم.. نعم .
أحمد منصور: ربما نصف مسلمي أميركا.. هم من أصل الأميركيين.
د. يوسف القرضاوي: أكثر نصف مسلمي أميركا.
أحمد منصور: أو.. أو.. أو أكثر نعم يعني المسلمون السود هؤلاء هم أميركيون استوطنوا أميركا من قرون، وأصبحوا أميركيين.
أحمد منصور: يعني نسميه فقه الاغتراب من مبدأ "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ" وليس.. وليس من مبدأ المتغرَّب
د. يوسف القرضاوي: آه ليس.. ليس بمجرد اغتراب المكان وحده .(1/353)
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، هذا الفقه في خصائصه التي سنتناولها هل يخص هؤلاء فقط، أم أن شخص ممكن يكون يعيش في ديار الإسلام، يقول أنا لِمَ أستفيد من هذه الرخصة المتاحة لهؤلاء وهم مسلمون وأنا مسلم؟
د. يوسف القرضاوي: هذا هو يعني أحياناً قد يعني ينطبق على بعض المسلمين الذين يعيشون مستضعفين في ديارهم، فيه بعض المسلمين يعني للأسف لا يستطيع أن يمارس دينه، بعض الناس يعتبرون الصلاة في المسجد جريمة، يعتبرون الحجاب منكراً، هذا مسلم مستضعف إنما أنا يعني -الحقيقة- الشيء الذي أرفضه أن نقول إن البلاد الإسلامية هي غير دار.. ليس دار بدار إسلام.
أحمد منصور: هي دار إسلام.
مفهوما دار الحرب ودار الإسلام.. توضيح وتبيين
د. يوسف القرضاوي: أنا.. أنا أذكر يعني في سنة 74 يعني أوائل الصحوة الإسلامية بداية الصحوة الإسلامية خصوصاً في مصر وفي الجامعات المصرية كنت في معسكر في إحدى الجامعات المصرية وسألني بعض الطلاب المتشددين، وقالوا: هل مصر دية بما فيها من منكرات وما فيها مش عارف من أيه وكذا، هل تعتبر دار إسلام؟ أليست هذه دار كفر؟ فأنا -الحقيقة-ثُرت على هذا السائل ثورة عنيفة وقلت له: هذا الكلام خطير جداً، تعرف ما معنى أننا نعتبر مصر هذه خارج دار الإسلام؟ معناها إن لو جاء اليهود يهاجمونها لا ندافع عنها، لأننا لا ندافع إلا عن دار الإسلام، لا ندافع عن دار الكفر، وإن كنت لا تدافع عن دار الحرب معناها إن إحنا فيها غرباء، إنها ليست لنا، هي إذاً للشيوعيين وهي للملحدين وهي للنصارى وهي.. ونحن لسنا من.. لسنا أهلها، لأ هي دار إسلام، حتى لو ظهرت فيها بعض المنكرات، إنما الإسلام أصيل فيها لازال الأذان يؤذن، ولازالت الجوامع تقام، ولازالت الدعوة الإسلامية، ولازال الأزهر، ولازالت الجماعات الإسلامية، فمن الخطر إننا نعامل البلاد الإسلامية على أنها يعني ليست دار إسلام، حتى البلاد التي تحكمها العلمانية، أنا أعتبر تركيا، وإن كانت العلمانية تحكمها هي دار إسلام، لأنها بلاد إسلامية، يجب أن نحتفظ بها بلاداً إسلامية وندافع عنها ونحاول أن نقوي شأن الإسلام فيها ونشد أزر العاملين للإسلام حتى تعود إسلامية بحق، فلا نسلم أبداً في هذه البلاد، ولا نترك راية الإسلام يعني تسقط فيها.
أحمد منصور: يعني أي بلد فيه أكثرية من المسلمين يعتبر دار إسلام ومن المنوط للمسلمين أن يدافعوا عن هذه الدار وأن يحافظوا عليها.
د. يوسف القرضاوي: يعتبروها دار إسلام، نعم.. نعم.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، الآن فقه الأقليات إذا يعني هل هو يعم كل الاغتراب أو فقه الاغتراب يعم كل المغتربين أم أن مسلمي الهند ممكن أن تكون لهم بعض الأحكام تختلف عن مسلمي أميركا أو مسلمي أوروبا أو المسلمين في إفريقيا أو بعض المناطق الأخرى على اعتبار -كما أشرت فضيلتك- اعتبار ظروف الزمان والمكان بالنسبة للفقه؟
د. يوسف القرضاوي: لا.. لابد أن نميز ونفرق بين بعض البلاد وبعض، يعني مثلاً هناك مسلمون في ديار الغربة هذه يعيشون آمنين مطمئنين أحراراً، ممكنين من شعائرهم، أنا حضرت مؤتمرات عدة في بلاد الغرب وفي أميركا، وفي فرنسا، وفي بريطانيا وفي ألمانيا، مؤتمرات.. مهرجانات إسلامية لا نجد مثلها في البلاد الإسلامية، يعني أنا حضرت مؤتمراً في أعياد الميلاد يسمونه "الكريسماس" في فرنسا، يعني أكثر من 30 ألف مسلم يجتمعون تقام فيهم المحاضرات، ويحضرون الندوات والمناقشات، وينشدون الأناشيد الإسلامية، وبإذن من السلطات وفي أميركا نفسها، والله في بعض الأحيان قلت أنا أتمنى أن يوجد مثل هذا في البلاد الإسلامية، كثير من البلاد الإسلامية لا تسمح بمثل هذا، فعادةً يعني أوروبا الغربية وأميركا البلاد اللي هي يعني فيها..
أحمد منصور: شيء من الحرية.
د. يوسف القرضاوي: شيء من الحرية تسمح بمثل هذا، ولكن مثلاً المسلمون أيام الشيوعية في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي ما كان لهم مثل هذا، فحسَب مسألة الديمقراطية والديكتاتورية حسب السماح بالحرية وعدم السماح بها، لا يمكن أن نعامل هؤلاء مثل.. مثل هؤلاء، فلا نقول إن كل هؤلاء ينطبق عليهم حكم واحد، الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، فهذه قاعدة عامة، فكل جماعة فيه أشياء مشتركة، يعني هناك أشياء تعم الجميع، يعني..
أحمد منصور: ما هي أهم الأشياء التي يشترك فيها المسلم في الشرق والغرب ولا خلاف بتغير الزمان والمكان فيها؟
القواسم المشتركة بين المسلم المغترب والمسلم غير المغترب على مستوى الواجبات
د. يوسف القرضاوي: هناك آه، يعني هو.. يعني سؤال يعني بعض الناس يقول الله! هو انتو يعني هتعملوا إسلام للمسلمين في الشرق.
أحمد منصور: إسلام.. أوروبا.. نعم.
د. يوسف القرضاوي: فيه إسلام للمسلمين في الغرب؟! فيه إسلام أميركاني وإسلام أوروبي وإسلام آسيوي، وإسلام..؟! لأ، نحن.. بالعكس، نحن نرفض هذه الدعوة إطلاقاً المستشرقون يحاولون أن يجعلوا الإسلام إسلامات، يقول لك فيه الإسلام الآسيوي، الإسلام الإفريقي والإسلام..
أحمد منصور[مقاطعاً]: الإسلام السياسي والإسلام..(1/354)
د. يوسف القرضاوي: آه وبعدين.. وبعدين يعملوه بحسب العصور، يقول لك فيه الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، وبعدين الإسلام التقليدي، والإسلام التجديدي، لأ نحن نرفض هذه التقسيمات، نحن لا نرى إلا إسلاماً واحداً.
أحمد منصور: والتقسيمات في الفقه فقط.
د. يوسف القرضاوي: هو.. هو الإسلام الأول، إسلام القرآن والسنة، جوهر الإسلام واحد، يعني في الشرق أو في الغرب، في البلاد الأكثرية أو بلاد الأقلية الإسلام واحد، يعني العقائد، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه وإنه القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله، وأنه خاتم النبيين وأنه جاء برسالة عامة خالدة، هذه الأشياء يتفق فيه الجميع.
أحمد منصور: هذه أصول.
د. يوسف القرضاوي: كذلك أيضاً الأركان: "بني الإسلام على خمس" الأركان الخمسة، الأركان العملية، الشعائر التعبدية: الصلاة والصيام، والحج والزكاة و..
هذه الأشياء يعني أيضاً، والعبادات الباطنية: الخوف من الله، المحبة لله، الرضا بقضاء الله، الشكر لنعماء الله، الصبر على بلاء الله، الرجاء في رحمة الله، الخوف من عذاب الله،التوكل على الله، الإخلاص لله دي بنسميها العبادات الباطنة اللي بيقوم عليها علم السلوك أو علم التصوف، يعني هذه أيضاً لا يختلف فيها..
أحمد منصور: في الشرق أو الغرب.
د. يوسف القرضاوي: يعني شرق عن غرب، ولا أكثرية عن أيه..؟ عن أقلية، أصول الفضائل: الصدق والأمانة والشجاعة والسخاء والبذل، والحياء، هذه لا خلاف عليها، أصول الرذائل: الكذب والخيانة، والغدر، وهذه الأشياء أيضاً لا خلاف
أحمد منصور: إلا ومن النقاط الأخرى، نعم.
د. يوسف القرضاوي: الأحكام الأساسية أيضاً لا.. لا خلاف عليها، إنما أُمِاَّل أيه اللي.. هناك أشياء جزئيات تفاصيل..
أحمد منصور: فرعيات.
د. يوسف القرضاوي: وتختلف من..من بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان، وده من فضل الله علينا إنه هناك منطقتان في الإسلام، منطقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ودية منطقة القطعيات.
أحمد منصور: منطقة الأصول.. نعم الأصول والقطعيات.
د. يوسف القرضاوي: القطعيات الأصول، الكليات، جوهر الإسلام.
أحمد منصور: لا مساس فيها.
د. يوسف القرضاوي: العقائد، والعبادات، والأخلاقيات، وأصول الأحكام، وهناك منطقة مرنة قابلة للتغير، قابلة للاختلاف باختلاف الزمان والمكان والإنسان.
أحمد منصور: ما حكم هذه وتلك في الإسلام فضيلة الشيخ؟
د. يوسف القرضاوي: المنطقة التي لا تتغير منطقة محدودة جداً، والمنطقة القابلة للاختلاف والتغير واسعة جداً، ولكن المنطقة المحدودة جداً دي مهمة جداً، لأنها هي بتمثل الثوابت، تمثل ثوابت الإسلام يعني وهناك لأن لا.. ممكن نختلف في توقيت الفجر مثلاً في أوروبا أو في الشفق الأحمر أو في كذا، إنما لا نختلف أن هناك صلوات خمسة، هذه أشياء أساسية.
أحمد منصور: أصول لا خلاف عليها.
د. يوسف القرضاوي: آه متفقين على أن هناك صيام شهر رمضان، إنما متى يبدأ الشهر؟ بالرؤية البصرية ولا بالمراصد الفلكية، ولا.. بعلم الحساب، ولا بكذا؟ يعني أشياء..، إنما الجوهر ثابت، والجوهر ده يعني منطقته محدودة، ولكنها في غاية الأهمية، لولاها لأصبح الإسلام إسلامات وأصبحت أمة الإسلام أمماً، ولكن الله أرادها أمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ولذلك أنا يعني لا أحب استعمال كلمة الأمم الإسلامية، فيه بعض الناس يقولوا: الأمم الإسلامية. لأ، فيه الشعوب الإسلامية.
أحمد منصور: أمة واحدة.. نعم.
د. يوسف القرضاوي: إنما هي أمة واحدة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فهذه الأمة هناك أشياء ثابتة تجعلها أمة، اللي هي الأشياء، وهذه المنطقة التي لا مرونة فيها ولا مجال فيها لتغير ولا لتطور، منطقة محدودة ولكنها أساسية ومهمة وضرورية، بل في غاية الأهمية، والمنطقة الأخرى واسعة جداً.
أحمد منصور: من رحمة الله -سبحانه وتعالى- أن جعلها هكذا.
د. يوسف القرضاوي: معظم الأحكام قابلة يعني..، ولذلك جاء في الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً" ثم تلى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ) عندنا من أسباب السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية خمسة أسباب، أولها إن فيه منطقة نسميها منطقة العفو أحذاً من هذا الحديث "ما سكت عنه فهو عفو" "سكت الله عنه رحمة بكم غير نسيان" هناك بعد ذلك إن الإسلام حينما ينص.. ينص بوجه كلي، يعني الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر) إنما لم يحدد كيف تكون الشورى، ومن هم الذين يستشارون؟ وكيف يختار أهل الحل والعقد؟ وما هي المواضع التي يستشار فيها..؟
أحمد منصور: ترك المجال فيها.(1/355)
د. يوسف القرضاوي: ترك المجال للعقل الإسلامي يجتهد حسب مكانه وزمانه وحاله، وبعدين الأشياء اللي حتى اللي نُص عليها هناك تتعدد فيها الأفهام وتتغير، وبعدين هناك ظروف استثنائية، وهناك قاعدة تغير الأيه..؟ الفتوى بتغير الزمان والمكان خمس عوامل تجعل أمامنا يعني المجال واسعاً والمرونة يعني أمام المجتهد يعني..
أحمد منصور: إن شاء الله.. نعم.
د. يوسف القرضاوي: مبحبحة والحمد لله.
[موجز الأنباء]
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، من خلال الجزء الأول من الحوار هناك الآن مسلمون أصليون موجودون في الهند وموجودون في أقطار إسلامية كثيرة وهناك مسلمين يهاجرون إلى الدول الغربية على وجه الخصوص، إما لضغوط سياسية موجودة في أقطارهم وإما لأسباب اقتصادية تتعلق بتحسين مستواهم المادي والحياة الجيدة هناك، ففي ظل بعض الأحكام الفقهية القديمة يقال أنه لا يسمح للمسلمين بأن يهاجروا من درا الإسلام إلى غيرها، ففي ظل الضغوط السياسية التي يعيش فيها بعض هؤلاء الناس، وفي ظل أيضاً الضغوط الاقتصادية التي تضطرهم للهجرة، هل يجوز للمسلم أن يهاجر إلى بلاد غير مسلمة بغرض تحسين وضعه الاقتصادي؟
مسوِّغات هجرة المسلم لبلاد غير المسلمين
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الإسلام ينظر إلى الأرض باعتبارها جميعاً أرض الله، والقرآن يقول: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) يعني عبادة الله لا تقتصر على أرض واحدة، أرض الله، والقرآن الكريم يقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ..) يعني الأرض مفتوحة للمسلم، ولو وقفنا عند هذا المنطقة ما انتشر الإسلام في أكثر العالم كيف انتشر الإسلام في ماليزيا..؟
أحمد منصور: في شرق آسيا.. نعم.
د. يوسف القرضاوي: أو في إندونيسيا؟
أحمد منصور: عن طريق التجار.
د. يوسف القرضاوي: أو في الفلبين أو في كثر من بلاد إفريقيا وآسيا؟ لو كل مسلم قال أبقى في بلدي ولا أغادر إلى بلد آخر ما انتشر الإسلام، انتشر الإسلام ناس ذهبوا إلى بلاد للتجارة أو نحو ذلك وصاهروا أهلها واستقروا فيها وكثروا ونشروا الإسلام، ومعظمهم نشروا الإسلام بأخلاقهم وسلوكياتهم، لم يكونوا محترفين، لم يكونوا رجال دعوة محترفين، انتشر الإسلام وكثر، وأصبحت هذه بلاد إسلامية، فالهجرة مشروعة، بعض الناس بيأخذ بعض الأحاديث التي وردت لأسباب معينة ويعممها، ويريد أن يمنع المسلمين، لأ، الهجرة لم تمنع، الهجرة مطلوبة للأمن، طلباً للأمن، من لم يعش آمناً في بلده، ويريد أن يأمن.. أن يأمن يبحث عن الأمن (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)
أحمد منصور: وآمنهم..
د. يوسف القرضاوي: ناس.. كثير من الشباب أعرف..،إحنا كنا معتقلين في السجن الحربي سنة 54 لـ56، بعدما خرجنا سنة 56 كان معنا كثير من الشباب، قالوا إحنا سُنظل عرضة كل ما يحصل كذا هاتوا هؤلاء لاعتقال؟! ذهبوا إلى أوروبا وأميركا للدراسة وللعمل، ويسر الله لهم وفتح لهم الأبواب، وهيأ لهم الأسباب، ، فالإنسان بيطلب الأمن لا حرج على (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً.. ) أيضاً قد يضيق عليه رزقه في بلده، ولماذا لا يبحث عن سعة الرزق في بلد آخر؟ والله تعالى يقول: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)، والشاعر يقول:
بلاد الله واسعة فضاها ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوان إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
سيحوا في الأرض.. يعني ما.. فهذا أيضاً وقد يذهب الإنسان لطلب العلم، بعض الشباب يروحوا..
أحمد منصور: للدراسة.
د. يوسف القرضاوي: في الغرب.. التكنولوجيا المتطورة والبيولوجيا وثورة البيولوجيا وثورة التكنولوجيا، والثورة الفضائية، والثورة الإلكترونية، والثورة المعلوماتية، ليس عندنا فيعني.. كما قال السلف: "اطلبوا العلم ولو بالصين"، فيعني لا مانع، وهناك من يذهب لنشر الدعوة، يعني هناك.. يجوز الإنسان إنه يذهب بقصد أن ينشر الدعوة في هؤلاء وخصوصاً أن هناك من أهل هذه البلاد من أسلموا، طب إذا أسلم هؤلاء البلاد ألا يحتاجون من يعضدهم ويقويهم ويعلمهم؟ ثم أنا أقول إن الوجود الإسلامي في مثل هذه الديار مثل ديار الغرب، مثلاً.. الوجود الإسلامي ضرورة هناك يعني لابد أن يكون للمسلمين وجود قوي، لا يترك لليهود وحدهم وللصهيونية وحدها تؤثر في السياسات والقرارات والتوجهات ولا يكون لنا نحن وجود في هذا.
أحمد منصور: لكن حتى حضرتك بعض الفقها المحدثين الآن يجرمون من مع.. مع.. مع ما أفضت فيه سواء من الشواهد الشرعية أو من الشواهد الأخرى التي تؤكد على ضرورة وجود المسلم في كل أرض وفي كل مكان، هناك من يجرم من يذهب إلى هذه البلاد بهذه النوايا للأسف.(1/356)
د. يوسف القرضاوي: كيف يعني.. يعني كيف نُجرم ..؟ لو كان الإنسان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه ولا يُمكَّن منه، ويجبر على ترك عقيدته أو ترك عبادته أو نحو ذلك، فنقول له دع هذه البلد، وابحث لك عن مكان آخر، إنما إذا كان عادةً المسلم يبحث عن بلد يجد فيها حريته وأمنه ورزقه، فإذا كانت هذه الثلاثة متوفرة فلماذا نمنعه؟ قد رأينا النبي -عليه الصلاة والسلام ..
أحمد منصور: عليه الصلاة والسلام.
د. يوسف القرضاوي: يأمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة..
أحمد منصور: وهي بلاد كانت غير مسلمة.
د. يوسف القرضاوي: والحبشة لم تكن بلاداً إسلامية ولكن قال هناك ملك أرجو ألا تظلموا عنده، يعني إنه ستعيشون عنده في أمان لإنه عرف من أخبار هذا الملك ما طمأنه إلى وجود المسلمين في دياره، وقد صدقت الأيام فعلاً ظن النبي صلى الله عليه وسلم، حينما ذهبت قريش لتطلب المسلمين، رفض الرجل أن يسلمهم لقريش، النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث مصعب بن عمير إلى المدينة ولم تكن دار إسلام في ذلك الوقت إنما ذهب بنشر الدعوة فممكن المسلم يعني يذهب لنشر الدعوة، يذهب لهذه الأشياء وكما أقول إنه الوجود الإسلامي في مثل هذه الديار المهمة التي تؤثر على سياسة العالم أمر..، فنحن ..طب لنا إخوة مسلمون في هذه البلاد موجودون..
أحمد منصور: من.. من أهلها.
د. يوسف القرضاوي: من أهلها، لازم يعني نشد أزرهم، ونكثر سوادهم، فهناك أكثر من سبب يجعل هذه الهجرة إلى تلك البلاد مشروعة المهم إننا يعني لا نذوب في هذه..
أحمد منصور: نعم، نحافظ على كياننا.
د. يوسف القرضاوي: الخطر إن الواحد يذهب..
أحمد منصور: في الذوبان.
د. يوسف القرضاوي: وبعدين يضيع هناك، وده اللي حصل يعني في استراليا حينما زرت استراليا وجدت مساجد قديمة مهجورة وبيوت مسلمين قالوا هذه.. هؤلاء الأفغان، جاءوا في أول اكتشاف استراليا، لكن كانوا ناس عاديين ولم يكن معهم علماء ولا دعاة، ولا كذا..
أحمد منصور: فذابوا.
د. يوسف القرضاوي: وتزوجوا من أهلها وذابوا تماماً.
أحمد منصور: ذابوا في المجتمع.
د. يوسف القرضاوي: ضاعوا ما عدش لهم أي أثر، وكذلك في الأرجنتين وفي بعض البلاد..
أحمد منصور: في أميركا اللاتينية، نعم.
د. يوسف القرضاوي: ذهب الجيل الأول من الإسلامي ضاع..
أحمد منصور: صحيح
د. يوسف القرضاوي: فلذلك نحن عندما يغترب المسلمون لابد أن يكون معهم العلماء والدعاة والمربون حتى يحافظوا على الشخصية الإسلامية في تلك الديار.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، في ظل هجرة هؤلاء يتيسر للكثير منهم الحصول على جنسية الدولة التي يهاجرون إليها، وبعض الناس يحرمون ذلك من قبيل الولاء والبراء، وأن هذا يكون ولاء لدولة غير مسلمة، فما مدى جواز حصول المسلم على جنسية دولة غير مسلمة ويصبح فرد من أفرادها؟
د. يوسف القرضاوي: في بعض الأوقات أصدر علماء المسلمين في تونس، وفي الجزائر، وفي تلك البلاد أصدروا فتوى بأن من يحصل على جنسية فرنسا اللي هي البلد الذين احتلوا هذه البلاد..
أحمد منصور: المحتل، نعم.
د. يوسف القرضاوي: فيكون كافراً، لأنه اعتبروا هذا خيانة للدين وخيانة للأمة وخيانة للوطن وولاء لغير الله ورسوله والمؤمنين (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، هذه الفتوى في ذلك الزمن وبهذه الملابسات صحيحة، ولكن عندما يتغير الوضع
أحمد منصور: الزمان والمكان.
د. يوسف القرضاوي: آه، تغير الزمان وتغير المكان وتغير الحال، لا مانع يعني.. المسلم.. المسلمين هناك حوالي 5 مليون مسلم يعيشون في فرنسا، يعني أقلهم حصلوا على الجنسية، الجنسية أعطت المسلم قوة، قوته ولم تضعفه.
أحمد منصور: أصبح له حقوق في المجتمع.
د. يوسف القرضاوي: أصبح له حقوق المواطن..
أحمد منصور: يطالب بها ويطلبها.
د. يوسف القرضاوي: لا يستطيع أحد أن يخرجه، يستطيع أن يعني يعطي صوته في الانتخابات، يستطيع القوى السياسية المختلفة أن تخطب وده، ده اللي بيحصل فعلاً، لكن فيه أكثر من مليون ناخب من المسلمين دولا ممكن يرجحوا فعلاً، في الانتخابات..
أحمد منصور: الماضية.
د. يوسف القرضاوي: القريبة الماضية المسلمون في كثير من الدوائر كانوا مرجحين لبعض المرشحين.
أحمد منصور: صحيح
د. يوسف القرضاوي: وعرفوا.. عرفوا ذلك، فلماذا يعني لا نستغل هذا؟ إذا كانت الجنسية تقوي المسلم تُمكَّنه وتجعله يقف على أرض صلبة دون أن يتنازل عن دينه، لا.. هو المسلم يوالي الله ورسوله والمؤمنين، ولكنه يعاشر من حوله أيضاً بالمعروف ويوادهم ويحسن معاملتهم، لأن الله -تعالى- لم ينه عن بر المخالفين المسالمين للمسلمين (أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) فهذا ليس من الولاء ولكنه هو مصدر قوة للمسلم يمكنه أن يستفيد منها لدينه ودنياه لنفسه ولأسرته ولإخوانه، ولجاليته، ولأمته فيما بعد.(1/357)
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، أشرت لقضية الانتخابات، وهنا محور هام يتمثل في عملية التصويت في الانتخابات، يقال أن كل المرشحين أو معظمهم أو كلهم -تقريباً- هم من غير المسلمين، ففي هذا الوقت المسلم الذي له حق التصويت في الانتخابات لمن يعطي صوته في هؤلاء الناس، وهم بين يساري وما بين علماني وما بين لاديني أو..مسيـ.. أو في.. في أي شيء آخر؟ من يختار المسلم في هذا الوقت؟
د. يوسف القرضاوي: يختار أمثلهم، أخيارهم، أو على الأقل أقلهم شراً، لا شك أن فيهم ناس ذوي أخلاق، ناس مأمونين، ناس يحبون المسلمين ناس يقفون ضد الإباحية يعني.. يعني افرض مثلاً إنه فيه حزب بينادي بإباحة الإجهاض وينادي بالإباحية الجنسية، ويقول.. يعني.. يعني ويرعى الشواذ.. الشذوذ الجنسي للرجال والنساء ويطالب بأن تتزوج المرأة المرأة وأن يتزوج الرجل الأيه.. الرجل، يعني..
أحمد منصور: الدول الاسكندنافية على وجه الخصوص الأحزاب فيها..
د. يوسف القرضاوي: نعم، مثل.. مثل هذا يعني لا أنتخبه إنما فيه واحد ثاني أراه يعني يقر الجوانب الأخلاقية، والجوانب الأخلاقية دي جاء بها النبوات جميعاً، مش بس الإسلام، الإسلام والمسيحية، اليهودية، فأنا أشوف أقرب هؤلاء إلى القيم الأخلاقية، وأقربهم إلى نفع المسلمين، تعرف هناك أناس حتى معروف في الانتخابات، ناس ضد الأجانب بصفة عامة..
أحمد منصور: أيوه.
د. يوسف القرضاوي: هناك في فرنسا وفي ألمانيا..
أحمد منصور: صحيح.
د. يوسف القرضاوي: وفي كثير من هذه البلاد الذين يريدون ألا يبقى يعني واحد من عرق مختلف جاء مهاجراً ولو من قرون حتى، هؤلاء المتعصبون لا يختارهم الأيه.. الإنسان، إنما يختار الإنسان المنصف.
أحمد منصور: للأسف هناك -حضرتك فضيلتك- خلط موجود يعني الآن المسلمين في بعض الدول الاسكندنافية هناك بعض الأحزاب تنادي بالشذوذ والاختلاط وفي نفس الوقت تنادي بالحرية للأديان وبالحرية للمسلمين أو بالحرية بشكل عام للمغتربين ولا تراعي قضية العفة، هناك خلط لدى الأحزاب، لا يوجد حزب له مبادئ صافية يستطيع المسلم أن يقول أنا لو أيدت هذا الحزب..
د. يوسف القرضاوي: على المسلم أن يختار أقلهم شراً، يعني إذا كان ده فيه شر، وده فيه شر يشوف الشر، يعني اللي.. بينادي بإبادة غيره هذا خطر على... على كيان المسلمين، خطر على الفئة الموجودة هناك، خطر على وجودهم فممكن نتغاضى عن الأشياء الأخرى، ونقبله.. يعني ده بنسميه فقه الموازنات، الموازنة بين الخير والشر بين المنافع والمضار أو بين المصالح والمفاسد يعني فقه الموازنة هو.. هو ده أساس السياسة الشرعية عامة إن الواحد يوازن بين الأمرين،المصلحتين، أيهما أكبر وأيهما أبقى؟ وأيهما أعمق؟ وأيهما أكثر؟ يعني..ويوازن بين المفسدتين، نفس الشيء، كما يقول الفقهاء إنه يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الأيه.. العام، وهكذا وإذا -أيضاً-تعارضت المصالح والمفاسد لازم زي ما قال القرآن يعني وإتمهما (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ..) فأنا بأرجح الأكثر نفعاً.
أحمد منصور: ويفضل إن المسلم يشوف مجموع المسلمين يميل إلى أي شيء ويميل معهم على اعتبار أنه وحده يصعب عليه.
د. يوسف القرضاوي: هو الأولى إن عقلاء المسلمين.. يعني إن المسلمون هذه لا تحكمها الفردية، إنما المسلمون ينبغي أن تكون لهم منظماتهم وتكون لهم جمعياتهم ومؤسساتهم التي تنظر في هذا الأمر، يجتمع أهل الرأي والفكر ويقارنوا ويوازنوا بين الأحزاب بعضها وبعض وبين المرشحين كأفراد بعضهم وبعض، ويقولون: والله هذا الحزب أفضل حالاً للمسلمين من ذلك، وإن كان في كل منهما فساد من نوع ما، لما نختار كما يقولون أخف الضررين وأهون.. الأيه الشرين.
أحمد منصور: إحنا معنا الدكتور عبد الرحمن العمودي (مدير المركز المجلس الإسلامي الأميركي في واشنطن) دكتور عبد الرحمن..
د. عبد الرحمن العمودي: نعم، السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لعلك تابعت جانباً من الحوار مع فضيلة الدكتور حول ما ينبغي للمسلمين أن يقوموا به في خياراتهم بالنسبة لقضية الأحزاب والتصويت والانتخابات وغيرها من القضايا الأساسية التي بدأ المسلمون في الغرب والمسلمون في أميركا -على وجه الخصوص- يكون لهم تأثيرهم فيها في الانتخابات. دكتور، ما مدى تجاوب المسلمين أو شعورهم بضرورة تأثيرهم أن يكون لهم تأثيرهم السياسي في صناعة القرار في بلد مثل الولايات المتحدة يزيد عدد المسلمين فيها أو يقترب من سبعة ملايين مسلم؟
مدى شعور المسلمين في أميركا بمسؤولية التأثير السياسي(1/358)
د. عبد الرحمن العمودي: نعم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم، والله سمعت بعض ما قاله فضيلة الشيخ وأقول في قضية أميركا والمسلمين في أميركا وما يشغل بالنا حقيقة في أميركا بأنه لا يقل عن 3/1 المسلمين في أميركا من أهل البلد، ممن اعتنقوا الإسلام بفضل ونعمة من الله سبحانه وتعالى، ثم 10.. 10% من المسلمين في أميركا -إضافة إلى- ذلك أبناؤهم وأبناء المغتربين، فهذه أكثر من 40% من المسلمين من هم من أصل أميركي يا فضيلة الشيخ وليسوا مغتربين، وأعتقد أنه كذلك في غرب أوروبا أو في الدول الغربية عامة بمعنى أنه يوجد كثافة سكانية ما بين المسلمين من هم من أصل أميركا، ولهذا نحن نطالب فضيلة الشيخ وعلماءنا الأفاضل بفقه لهذه الأقليات وكيف تتعامل، لأنه لا يمكن للمسلمين أن يتركوا المهجر ويعودوا، خاصة من هم من أهل البلدان، أما من ناحية الجالية المسلمة فالحمد لله الزخم موجود التعاطف في التعامل مع القضايا السياسية، يوجد بعض إخواننا مما زالوا بعقولهم المنقلقة لعدم التفاعل مع هذه القضايا ولكن نحن..
أحمد منصور: دكتور عبد الرحمن، ما هي أهم المشكلات التي تواجهها.. التي يواجهها المسلمون في الولايات المتحدة من حيث القضايا الفقهية التي تودون من فضيلة الشيخ أن يلقي عليها الضوء تحديداً؟
د. عبد الرحمن العمودي: نعم، أولاً: عدم الرؤية في الجالية المسلمة عامةً والخلط في هذه القضايا المصيرية في أميركا، هل لنا أن نكون ونتعامل كأميركان مسلمين أو نتعامل كمسلمين أميركان؟ بمعنى هل نحن جزء..؟
أحمد منصور[مقاطعاً]: عفواً يا دكتور. دكتور، اسمع الإجابة من الدكتور هل يحق لهم أن يتعاملوا كأميركيين مثلهم مثل الآخرين فيما يتعلق بحقوقهم في المجتمع الأميركي وفيما يتعلق بتعاملاتهم أم يتعاملوا على أنهم مسلمين مهاجرين مقيمين في هذه الديار تحكمهم قواعد بلادهم التي جاءوا منها أو حتى أصولهم الإسلامية؟
مدى ضرورة اندماج المسلم المغترب في المجتمع الذي يعيش فيه
د. يوسف القرضاوي: لابد أن يكون المسلم ابن مكانه وزمانه.
أحمد منصور: كيف فضيلة الدكتور؟
د. يوسف القرضاوي: لأنه من الخطر إن الإنسان يعيش في القرن الخامس عشر الهجري وعقله في القرن العاشر، يعني عقله يعيش في قرون مضت، وأن يعيش في.. يكون في أميركا، ولكنه بيفكر تفكير من يعيش في مصر أو اليمن أو باكستان أو بنجلاديش، لأ، لابد أن يعيش في مكانه وزمانه، وأنا لاحظت إن كثير من المسلمين، وأنا زرت أميركا وزرت أوروبا كثيراً، إنه للأسف ذهبوا إلى هذه البلاد بعقلياتهم التي يعني أخذوها وبمشكلاتهم، وذهبوا إلى هناك يعني.. يعني يحاولون أن يصدروا المشكلات التي لا توجد في أميركا إلى هذه البلاد، لأ..لابد أن يتعاملوا الأميركي أميركي والأوروبي أوروبي، والاسترالي استرالي، والياباني ياباني، يعيش مع هذه البلاد ويتفاعل معها حتى يستطيع أن يؤثر فيها، أما.. ولذلك نحن نقول دائماً المطلوب هو تماسك بلا انغلاق واندماج بلا ذوبان، نندمج في المجتمع، نتفاعل معه نؤثر فيه.. هذا..
أحمد منصور: هذه قاعدة ذهبية للمسلمين في.. في الغرب.
د. يوسف القرضاوي: هذا.. وهذا قلناه يعني تكلمت كثيراً وألقيت فيها محاضرات، نتمسك ولكن لا ننغلق ونندمج ولكن لا نذوب، هذه..
أحمد منصور: دكتور عبد الرحمن..
د. عبد الرحمن العمودي: نعم.
أحمد منصور: لابد.. لابد أن تكونوا أميركيين، ونأمل كما تخططون في انتخابات عام 2000 أن يكون للمسلمين وجود ملحوظ سواء في الكونجرس أو حتى في الانتخابات الرئاسية. نأخذ الأخ حشمت خليفة من سراييفو حشمت.
حشمت خليفة: السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
حشمت خليفة: السلام عليكم أخ أحمد.
أحمد منصور: عليكم السلام.
حشمت خليفة: السلام عليكم فضيلة الدكتور.
د. يوسف القرضاوي: يا مرحباً.
حشمت خليفة: لعل حضرتك تكون وصلت بالسلامة إن شاء الله.
د. يوسف القرضاوي: الله يسلمك يا أخي بارك الله فيك.
حشمت خليفة: أنا لي حقيقة سؤالين يا أخ أحمد، الأول عن موضوع الانتخابات اللي الآن يدور الحديث عنه وهو إنه فيه أنت حضرتك بتتكلم عن بعض الدول الاسكندنافية اللي هي فيها الأحزاب الشاذة و.. و.. و، وإحنا بنفاضل ما بين أي الأفضل نختاره، فنحن هنا في البوسنة وسط مسلمين ويوجد أحزاب إسلامية أو مش إسلامية أحزاب يقوم عليها مسلمون، وتنادي بالإسلام قدر المستطاع في.. في الأرض المتاحة، ومع ذلك هناك أصوات من بعض الإخوة العرب الذين أتوا من ديارهم مثلما قال فضيلة الدكتور بمشاكلهم وأتوا من ديارهم يحرمون على البسنويين أن يذهبوا لأداء أصواتهم على أن الانتخابات من أصلها حرام والمشاركة فيها حرام، فنريد رأي فضيلة الدكتور في هذه القضية وكيف نوجه هؤلاء الإخوة.
أحمد منصور: السؤال الثاني.. السؤال الثاني يا أخ حشمت..
حشمت خليفة: نعم؟
أحمد منصور: سؤالك الثاني.
حشمت خليفة: السؤال الثاني حول تربية الأولاد في هذه المناطق وما نواجهه من مشاكل.
أحمد منصور: مثل؟
حشمت خليفة: نحن بين تيارين الأول.. تربية الأول في الغرب يعني.(1/359)
أحمد منصور: ما هي المشاكل التي تواجهونها في هذا الأمر؟
حشمت خليفة: يعني نحن بين تيارين، التيار الأول الذي يتبنى إذابة الأولاد تماماً في المجتمع الغربي وتعليمهم اللغة، حتى أن بعض الإخوة الأفاضل أولادهم الآن لا يتكلمون حتى اللغة العربية، ولا يعرفوها بدعوى أنه لابد أن يعيش في هذا المجتمع ويفهمه حتى لا يكون غريباً عنه وعن أقرانه، والتيار الآخر الذي يقول: لأ، الأولاد يرون أشياء خطر ويرون مناظر غير جيدة، ويمكن أن يسمعوا أشياء غير جيدة، وبالتالي الأفضل أن نعود -مهما كان الثمن- إلى ديارنا حتى نحافظ عليهم، هذا هو السؤال الثاني.
أحمد منصور: شكراً يا حشمت، معي الأخ أبو عبد الله من الدوحة. أبو عبد الله
أبو عبد الله: السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
أبو عبد الله: جزاكم الله خير على هذا البرنامج الجيد يا أخي.
أحمد منصور: شكراً لك.
أبو عبد الله: السؤال لفضيلة الدكتور، لما بنسافر لبلاد الغرب الواحد بيضطر يقدم شوية تنازلات، يعني بالنسبة.
أحمد منصور: ما هي التنازلات التي يطلب منك تقديمها؟
أبو عبد الله: مثلاً يعني إذا زوجتي كانت منقبة هناك، فمن الصعب جداً أن تحتفظ بنقابها هناك، فما حكم الشرع في هذا المجال؟
أحمد منصور: غيره..
أبو عبد الله: الشيء الثاني: بالنسبة للمدارس هناك كلها مدارس مختلطة فالواحد بيضطر إنه يحط أولاده في مدارس مختلطة، فما حكم الشرع في هذا؟ وجزاكم الله خير.
أحمد منصور: شكراً يا أبو عبد الله. دكتور عبد الرحمن معنا؟
د. عبد الرحمن العمودي: نعم.. نعم.
أحمد منصور: نعطيك سؤالاً ثانياً نبدأ به مع الدكتور، اتفضل.
د. عبد الرحمن العمودي: نعم.. نعم توجد قضية أخرى فضيلة الشيخ، وهي قضية العمل الإنساني والخيري والعمل الاجتماعي في الغرب، نحن في أميركا -والفضل لله والحمد لله- الجالية المسلمة الأميركية تجمع بعض الأموال لمساعدة المسلمين في خارج أميركا: مساعدة إخواننا البوسنيين، إخواننا الفلسطينيين والكشميريين وكذا، ولكن نحن نطالب هؤلاء الناس والمؤسسات الخيرية العاملة في أميركا بأن تحجز 10، 15% من هذه الأموال وتعين بها المحتاجين في أميركا من المسلمين وغير المسلمين، فما رأيكم في هذا؟
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، نأخذ سؤال الدكتور عبد الرحمن ونأخذ الأسئلة الأخرى دكتور عبد الرحمن لديه تساؤلات كثيرة فيبقى معنا على الخط. سؤاله الأول حول الطلب من المسلمين هناك أن يتبرعوا لإخوانهم، وكذلك الحصول من بعض المؤسسات الأميركية لأن القانون الأميركي يسمح للمؤسسات هناك أن تتبرع بجزء من الضرائب المخصصة لها على أن يرصد للأعمال الخيرية، فماذا لو رُصِد هذا لمساعدة المسلمين؟
د. عبد الرحمن العمودي: وغير المسلمين.
أحمد منصور: وغير المسلمين.
حكم إخراج الصدقات والزكوات لغير المسلمين
د. يوسف القرضاوي: هذا لا.. لا شيء فيه أنا أعرف يعني كثيراً من الهيئات تستفيد من هذه الناحية، أننا يعني هناك.. وخصوصاً إن الضرائب بتعفي يعني كثير من الذين يدفعون للجهات الخيرية تعفيهم من أشياء في مقابل هذا فتستفيد جهات شتى ومنها جهات يهودية وجهات تبشيرية تستفيد من هذه الأشياء، لماذا لا يستفيد.. لا يستفيد المسلمون منها؟ ليس هناك يعني أدنى حرج في.. في ذلك، فنحن نستطيع أن نأخذ من المسلمين ونأخذ من غير المسلمين ونخصص جزءاً أيضاً منه للمسلمين ولغير المسلمين، من قال إذا يعني.. هناك الإمام أبو حنيفة قال يعني يجوز أن تعطي زكاة الفطر لغير المسلمين، وكذلك عمر بن عبد العزيز كان يعطي من زكاة الفطر لبعض الرهبان، بل هناك من المسلمين من أجاز دفع الزكاة نفسها لغير المسلمين، ورأينا سيدنا عمر يعني.. يعني يعطي اليهودي الذي كان يسأل الناس، وقال: افرضوا له من بيت مال المسلمين ما يكفيه، وقال: قال الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وهذا من مساكين أهل الكتاب وعلق على ذلك بعض الفقهاء بأن هذا معناه من عمر إن يجوز أن يعطي من الزكاة، لأن.. لأن هذه الآية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وقال أكثر من واحد من علماء السلف بجواز إعطاء الزكاة نفسها، وهي الفريضة الدينية الإسلامية التي هي ركن من أركان الإسلام، وقال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ..) هذه الآية نزلت في بعض المسلمين الذين كانوا يعطون أقاربهم وبعدين يعني يتحرجون إنه يعني هم ليسوا مسلمين، قال: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.. ) فيجوز أن ندفع لغير المسلمين من أموال المسلمين، وهذا يحببه إليهم الإسلام يعني هناك أيضاً تأليف القلوب، نعرف إن من مصادر الزكاة المؤلفة قلوبهم، أن تعطي لغير المسلم لتحببه إلى الإسلام يعني فكل هذا يتيح لنا الفرصة أن نعطي غير المسلمين ما يقربهم إلى الإسلام وما يحببهم إلى.. يحبب إليهم الإسلام، ويحبب إليهم المسلمين.(1/360)
أحمد منصور: لدينا مداخلات كثيرة فضيلة الدكتور ولكن نأخذ..
د. يوسف القرضاوي: بتاع الأخ حشمت، نعم.
أحمد منصور: حشمت طب آخذ بودابست الأول حتى لا يبقى كثيراً، آخذ سؤال الأخ محمد القاضي من بودابست.
محمد القاضي: ألو.
أحمد منصور: اتفضل يا أخي.
محمد القاضي: الشكر.. قبلاً كل شيء أشكر الدكتور القرضاوي على هذا البرنامج، وأرجو منه.. أريد أن أوضح أن مشكل الأقليات الإسلامية في المجتمع.. في.. في البلدان الغربية أو أوروبا الشرقية هو أن المسجد لا يقوم بدوره الكامل كما تقوم الكنيسة في إفريقيا مثلاً على بعد البعثات التبشيرية.
أحمد منصور: نعم، نعم.
محمد القاضي: فالمسجد مثلاً يجب أن.. أن يبنى بجانبه مبنى يقوم بالرعاية وبمساعدة المسلمين وغير المسلمين حتى يعني يظهر الإسلام..
أحمد منصور: يعني يا أخ محمد أنت تطالب بأن يكون للمسجد دوره مع الأقليات المسلمة المقيمة في الغرب مثلما تقوم الكنائس، في إفريقيا على وجه الخصوص، بدورها تجاه حتى المسلمين أو الأقليات الموجودة هناك. هل لديك سؤال أو مداخلة إضافية؟
محمد القاضي: بس.
أحمد منصور: شكراً لك الأخ عبد السلام بو شداخ من باريس من فرنسا..
عبد السلام بوشداخ: السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
عبد السلام بوشداخ: دكتور، أنا نريد أن أسأل سؤال بخصوص مجالسة غير المسلمين من الأحزاب المختلفة المتواجدة في فرنسا، وكيف أنا نتوجه لهم ونقدم لهم طلبات حتى نثمن أصوات المسلمين بما ينفع المسلمين، ومطالبتهم في حقهم في حقوق المواطنة وحقهم في التعدد وحقهم في حرية اللباس بخصوص البنت المسلمة، وفي حقهم في التنظَّم وفي.. في بناء مكان للتعبد ومدارس ومستشفيات وغيرها تكون بهذا الشكل، فكيف إجابتك يا حضرة الدكتور؟
أحمد منصور: شكراً يا عبد السلام. فضيلة الدكتور، نأخذ حشمت الأول لأن هناك انتخابات في البوسنة الآن ويقول إن بعض الناس يحرمون حتى على البوسنيين وهم من أصل البلد المشاركة في الانتخابات باعتبار الانتخابات حرام.
الموقف الشرعي من الانتخابات بين الجمود وضرورة صحة الفهم
د. يوسف القرضاوي: وأنا أعجب لهذا، وأنا يعني ذكرت هذا في بعض كتبي، يعني وجدت بعض المسلمين يقولون إن لا يمكن أن تنتصر الدعوة الإسلامية وتتحقق الأهداف الإسلامية بوسائل غير إسلامية، سألت بعضهم ما هي الوسائل غير الإسلامية؟ كان هذا للأسف في أفغانستان، قال: الانتخابات، طب الانتخابات غير إسلامية ليه يا أخي؟ قال: لم يفعلها الرسول عليه الصلاة والسلام، طيب وهل كل ما لم يفعله الرسول ولا الصحابة يكون محرماً؟ ما إحنا عملنا أشياء كثيرة الآن لم يعملها الرسول ولا الصحابة، هل هذه.. هل الرسول بنى جامعات مثل ما بنينا نحن كده؟ هل الرسول ألَّف الكتب في الفقه وفي أصول الفقه؟ هل الرسول عمل نحو؟! ما إحنا عملنا النحو والصرف وعلوم البلاغة، اخترعنا علوماً يعني كيف نعتبر هذا حراماً؟! إذا كان كل جديد حراماً يبقى معناها نجمد الحياة.
أحمد منصور: الحياة.
د. يوسف القرضاوي: لا.. لابد التحريم ده لابد أن يكون بنص، كيف يحرم الإنسان؟ إحنا عندنا شيء اسمه أهل الحل والعقد؟ طيب أهل الحل والعقد كيف نصل إلى أهل الحل والعقد الذين هم أهل الشورى والذين يفصلون في الأمور ويرجع إليهم؟ زمان كان ممكن يعرف أهل الحل والعقد، فلان ده شيخ العشيرة ده.. وده رئيس القبيلة، وده زعيم القوم، وده كذا، ممكن أنا في مجتمع مثل قطر أقول لك مثلاً الناس اللي نعتبرهم يعني رموز أهل البلد أو.. إنما طيب بلد مثل مصر أكثر من 60 مليون..
أحمد منصور: تركيا.
د. يوسف القرضاوي: أو مثلاً مثل باكستان 120 مليون أو بنجلاديش، أو إندونيسيا 200 مليون كيف نعرف أهل الحل والعقد فيهم؟ الناس اخترعوا وسيلة، هذه الوسيلة هي الانتخابات، ما المانع؟ أي مانع شرعي؟ أي كتاب أو أية سُنة تمنع أن نأخذ بهذه الوسيلة؟ هذه الآليات هذه لا.. لا تحكم، لأن دية لها حكم مقاصدها، الوسائل لها حكم مقاصدها، مادمنا نستخدم هذه الوسيلة في مقصد نبيل ومقصد شريف فلا حرج في.. في استعماله، ماذا جنى الأفغانيين اللي رفضوا الانتخابات؟ اللي حصل أيه؟ قعدوا يقاتلوا بعض إلى الآن..
أحمد منصور: للأسف.
د. يوسف القرضاوي: ولم يخرجوا.. طب كان الأولى يعني كما اقترح بعضهم نلجأ إلى صناديق الانتخابات ويختار الشعب من يرضى عنه أي شيء يعني؟
أحمد منصور: ربما المدفع أفضل في التصور هذا.
د. يوسف القرضاوي: أنا قلت إن الإسلام طلب الشورى وأمر بالشورى ولكن لم يحدد كيفيتها، وده من رحمة الله لأنه لو حدد لنا صورة معينة لجمدنا على هذه الصورة، فترك لعقولنا واجتهاداتنا أن نخترع من الوسائل ما.. ما نستطيع به أن نؤدي به واجباتنا، فيعني لا أدري كيف يحرم هؤلاء؟ ده.. ده الانتخابات دي من أعظم الأشياء التي اخترعتها الحضارة الغربية، لا شك.. الانتخابات، بس هو المهم أن تؤدى الانتخابات بنزاهة وبحرية ولا تزور، لأن إحنا يعني شطار جداً في تزوير الانتخابات وإحنا بتوع الخمس تسعات 99.999 إحنا..(1/361)
أحمد منصور: يعني إذاً فضيلة الدكتور الأصل هنا ألا ليس هناك تحريم إلا بنص.. من الكتاب أو السنة.
د. يوسف القرضاوي: هو التحريم لابد أن يكون بنص، يعني (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ).
أحمد منصور: أما كل ما يجتهد فيه البشر فهو متاح.
د. يوسف القرضاوي: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) هذا داخل في دائرة العفو والسماح.
أحمد منصور: فضيلة الشيخ باقي أمامنا خمس دقائق وأكثر من خمس أسئلة على الأقل اللي أمامي الآن من المشاهدين، حشمت -بسرعة- بيسأل عن موضوع هناك منهجين: منهج إذابة الأولاد في المجتمع الغربي يتعلمون لغة القوم ويعرفون عادتهم، والمنهج الآخر الذي يميل أن يتعلموا..
د. يوسف القرضاوي: إذابة الأولاد دية جريمة ولا يمكن -أبداً- السماح بها أنا قلت للإخوة منذ زرتهم في أوائل السبعينات في أميركا، قلت لهم: إذا لم تستطيعوا أن تحافظوا على زراريكم، تحافظوا على دينهم وعلى أخلاقهم وعلى شخصيتهم، فابدءوا رحلة العودة من الغد، لابد.. نكسب الأموال ونخسر الأولاد؟! هذا جمعنا الدنيا وضيعنا الدين.. لابد ولكن ليس معنى هذا أننا أيضاً نربي أولادنا على طريقة البلاد الريفية عندنا ،لأ، لابد تربى شخصية متفتحة مستنيرة تتعامل مع مجتمعها، نستفيد من العصر في التربية المعاصرة، يعني نريد الشخص الذي يستلهم التراث ويعايش العصر.
أحمد منصور: نعم فقط آخذ زريوع محمد من ألمانيا، اتفضل يا زريوع..
زريوع محمد: السلام عليكم وجزاكم الله خيراً عنا.
أحمد منصور: عليكم السلام.
زريوع محمد: عندي سؤال يعني: امرأة ألمانية مسيحية فأسلمت يعني بعد مدة هي كانت متزوجة مع عربي مسيحي، فقالت لزوجها إما الإسلام وإما الطلاق، فما رأيكم في هذا؟ لفضيلة الشيخ.
أحمد منصور: يعني هي مسلمة؟
زريوع محمد: نعم أسلمت.
أحمد منصور: آه، أسلمت. كانت مسيحية..
زريوع محمد: كانت الأول.. كانت..
أحمد منصور: وزوجها.. زوجها عربي مسيحي؟
زريوع محمد: نعم.
أحمد منصور: شكراً يا زريوع. دكتور آخذ الأول أبو عبد الرحمن يسأل عن أنه في حالة سفره وزوجته منقبة وتضطر لخلع النقاب، وكذلك بعض الاختلاط في المدارس..
د. يوسف القرضاوي: والله يعني مسألة النقاب دية ليست.. ليست تنازلاً مهماً، لأنه النقاب يعني.. لا.. لا يوجد دليل على فرضيته، وبعدين هذه الأمور الخلافية دية الإنسان ممكن إنه يعني يستخدم النقاب إذا عاش في البلاد الإسلامية إذا خرج البلاد ما هو، أنا لا.. لا.. لا أحبذ المسلمة أنها تنتقب في البلاد الغربية، لأنه ستلتفت إليها الأنظار ويعمل كذا، خليها.. كفاية الخمار العادي. والاختلاط بالنسبة للبنات طبعاً..
أحمد منصور: في المدارس.
د. يوسف القرضاوي: إذا كانت البنت محتفظة بشخصيتها الإسلامية وبقيمها، فلا يضر الاختلاط، الذي يضر التبرج أو الخلوة بالأجنبي.
أحمد منصور: دكتور عبد الرحمن يبدو أن لديك تساؤلات كثيرة ووقت البرنامج قارب على الانتهاء وسنأخذ الحلقة القادمة -إن شاء الله- في هذا الموضوع لو يعني أترك لك المجال في سؤال واحد إلى فضيلة الدكتور.
د. عبد الرحمن العمودي: نعم، فضيلة الشيخ، مما يشغل بالنا هنا أولويات القضايا، هل على المسلم المغترب أو المسلم الغربي أن يهتم بقضايا بلده في الأول، أم يهتم بقضايا المسلمين خارج بلده؟
أحمد منصور: خارج.. تقصد بلده أميركا يعني؟
د. عبد الرحمن العمودي: نعم، أميركا أو فرنسا، نحن في أميركا لدينا الكثير من القضايا.
أحمد منصور: آه.
د. عبد الرحمن العمودي: فهل الأولويات بالنسبة لنا هل هي القضايا الأميركية أم القضايا العالمية عامة إسلامية؟
أحمد منصور: وكذلك بالنسبة للمسلمين الذي يعيشون في أوروبا أو غيرها الأقطار الأخرى.
د. عبد الرحمن العمودي: نعم.. نعم..، ومن المسلمين..
د. يوسف القرضاوي: وفي الحديث يا دكتور عبد الرحمن يقول "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" يبدأ بنفسه البلد الذي.. الذي يعيش فيه له حقوق، حتى النبي- عليه الصلاة والسلام لِما سئل من الجيران أيهما يعني أكثر حقاً عليَّ؟
قال أقربهما منك باباً، يعني البلد اللي تعيش فيها لها حق، وبعدين يعني أيضاً الأمة الإسلامية أنا ذكرت إنه المسلم المغترب عليه حق لنفسه وحق لأسرته، وحق للمجتمع الذي يعيش فيه، وحق للمسلمين خارج المجتمع، المسلمين كأمة، فلابد بعد حق النفس وحق الأسرة حق المجتمع الذي يعيش فيه، لابد أن يقوَّي هذا المجتمع ويعمل على إصلاحه ويعمل على جلب الخير له ودفع الضُر عنه، ولا يكون ذلك في أن يعيش منفرداً وإنما المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده قوي بجماعته، فيعيش مع الجماعة ويد الله مع.. مع الجماعة فهذا هو الواجب على كل مسلم، أولاً: لابد أن يعني يهتم بمجتمعه وبعد هذا يوجه اهتمامه إلى قضايا الأمة الإسلامية ولا يعيش في انعزال ولا.. ولا تنافي بين الأمرين ولا تعارض.(1/362)
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، هذه كانت من القضايا الهامة التي كنا سنتحدث فيها وهي أن يكون للمسلم دوره الأساسي تجاه البلد الذي يقيم فيه، وقضية أنه مسلم ألماني أو مسلم فرنسي أو مسلم أميركي له واجبات تجاه هذا المجتمع لابد أن يكون فيها وأن يؤديها وهذا ما سوف نكمله في الحلقة القادمة.
د. يوسف القرضاوي: إن شاء الله.
أحمد منصور: مشاهدينا الكرام، بقيت هناك قضايا كثيرة لم نتمكن من تناولها مع فضيلة الشيخ حول هذا المحور الهام، وهو محو علاقة المسلم بالدولة التي يقيم فيها إذا كانت من دول الأقليات، وهنا فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي أصَّل في فقه الاغتراب بعض القواعد الهامة مع التي تناولناها معه أو التي ذكرها بعض الإخوة المشاهدين وبقيت هناك قضايا كثيرة كنا نود أن نناقشها في هذه الحلقة ولكن سنتناولها في الحلقة القادمة وربما التي تليها أيضاً حول علاقة المسلم بالدولة التي يقيم فيها.
مشاهدينا الكرام لم يبق لنا سوى أن نتوجه.. نتوجه بالشكر الجزيل إلى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، كما نتوجه بالشكر الجزيل إلى الدكتور عبد الرحمن العمودي (المدير التنفيذي للمجلس الإسلامي الأميركي في الولايات المتحدة الأميركية) ونشكركم على حسن متابعتكم، في الختام أنقل لكم تحيات فريق البرنامج، وهذا أحمد منصور يحييكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(( تنبيه : يوجد أخطاء عديدة تدل على تساهل الدكتور كثيرا فلا يجوز الأخذ بها - علي ))
==============
فقه غير المسلمين
مقدم الحلقة:
…أحمد منصور
ضيف الحلقة:
…
د. يوسف القرضاوي: مفكر وداعية إسلامي
تاريخ الحلقة:
…21/09/1997
- موقف الشرع من دخول المسلمين الساحة السياسية في بلاد غير المسلمين
- حكم إقامة المسلم في بلاد غير المسلمين
- واجبات المسلم المغترب
- حكم مشاركة المسلم في جيش الدولة غير المسلمة
- توبة المسلمين غير الملتزمين في أوروبا
- اهتمام المسلمين في الغرب بإنشاء مؤسسات ضرورة اجتماعية
- خلافات المسلمين فيما بينهم في أوروبا..بين خطأ الفكرة وأولوية الدعوة
- حكم شراء البيوت في أوروبا بالفائدة الربوية
د. يوسف القرضاوي
أحمد منصور
أحمد منصور: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج (الشريعة والحياة)، حيث نستكمل معكم اليوم ما بدأناه في الأسبوع الماضي حول فقه الأقليات، أو ما أطلق عليه فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي مصطلح "فقه الاغتراب" أو "فقه المسلم المغترب"، ومع تأصيل بعض الجوانب الهامة في الحلقة الماضية فإننا نواصل الحوار مع فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حول ما تبقى من محاور في فقه الأقليات، وقبل أن نبدأ حوارنا يسعدنا أن نهنيء فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي بالحصول على الجائزة العالمية في الفقه الإسلامي من معهد (أكسفورد) للدراسات الإسلامية في بريطانيا التي تُمنح سنوياً لأحد الشخصيات المسلمة في العالم الإسلامي وقد حصل عليها فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي لهذا العام، نهنئك فضيلة الدكتور.
د.يوسف القرضاوي: هي جائزة سلطان بروناي .. نعم
أحمد منصور: جائزة سلطان بروناي .. نعم. فضيلة الدكتور، في الحلقة الماضية أصَّلت فضيلتك بعض الجوانب الهامة فيما اتفق على تسميته بفقه الاغتراب، وبقيت هناك جوانب هامة نتناولها في هذه الحلقة، وأبدأ بحدثين هامين وقعا في بريطانيا هذا العام، الحدث الأول هو دخول أول مسلم للبرلمان البريطاني في حزب العمال، والحدث الثاني وقع قبل أيام وهو اختيار شرطة بريطانيا المسماة بـ "اسكتلاند يارد" الضابط محمد معروف وهو ضابط من أصل مسلم، بريطاني من أصل مسلم ليكون رجل العام في الشرطة البريطانية من بين 27 ألف ضابط ينتظمون في هذا الجهاز، المحور الأول هو محور الدخول في الأحزاب والترشيح من خلالها والتمثيل في البرلمانات للمسلمين الموجودين في الدول الغربية وما يستتبع ذلك من التزام بمناهج هذه الأحزاب وهي مناهج بعضها -كما ذكرنا في الحلقة الماضية - يكون فيه بعض الأمور غير الملتزمة، فما هو الموقف أو رأي الشرع في هذا الجانب؟
موقف الشرع من دخول المسلمين الساحة السياسية في بلاد غير المسلمين(1/363)
د.يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهَّاب، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، نحمدك اللهم على كل حال ونعوذ بك من حال أهل النار، وبعد فلا زلنا فى هذا الموضوع الهام على أي التسميات سميناه، فقه الاقليات أو فقه المسلم المغترب أوفقه المسلمين في غير المجتمع الإسلامي، كلها لا مشاحة في الاصطلاح كما قال علماؤنا رضي الله عنهم، المسلم في أرض الغربة أو في خارج المجتمع الإسلامي هو عضو حي في جسم المجتمع الذي يعيش فيه، لا يستطيع أن ينفصل عن هذا الجسم، لأن أي جهاز ينفصل عن الجسم العام يموت، أي عضو، أي خلية، أي جهاز من أجهزة الجسم، هناك ارتباط بين هذه الأشياء، فالمسلم هو عضو حي في جسم المجتمع، يأخذ منه ويعطيه يستفيد منه ويفيده، لا يستطيع أن يعيش عالة على المجتمع، يأخذ من المجتمع ولا يعطي المجتمع ليس هذا شأن المسلم .. المسلم إنسان نافع في مجتمعه ولذلك هو يتفاعل مع هذا المجتمع يأخذ من خيره ويدع شره،كل مجتمع فيه خير وشر، فيه منافع وأضرار.. فيه فضائل ورذائل، المسلم يأخذ الفضائل ويترك الرذائل، يأخذ الخيرات ويتجنب الشرور، يعمل الصالحات ويترك السيئات، ومن هذا لا يستطيع المسلم وهو يعيش في مجتمع إلا أن يشارك في الحياة الاجتماعية والحياة الاقتصادية والحياة السياسية، فمن أجل هذا وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الحلقة الماضية -إنه لابد أن يشارك في الحياة السياسية، والحياة السياسية في أوروبا وفي بلاد الغرب بصفة عامة لا يمكن أن تشارك في هذه الحياة إلا من خلال تجمعات سياسية هي ما يسمى بالأحزاب، فإذا كانت هذه الأحزاب ضرورة فلا يستطيع أن ينفك عنها، إذا لم يكن.. إذا كان هناك بديل عن هذه الأحزاب .. يبحث عن هذا البديل، أمامه هذه الأحزاب وطبعاً - يعني كما ذكرنا في الحلقة السابقة- الأحزاب تتفاوت في مناهجها وبرامجها وفلسفاتها، فبعضها أقرب من بعض إلى القيم الإسلامية، إلى العقيدة الإسلامية، إلى الشريعة الإسلامية، إلى الأحكام والفضائل الإسلامية، فهو بيختار أقرب هذه الأحزاب ويتبعها، يعني ..لا قد لا يوجد الحزب المثالي -كما ذكرنا في المرة الماضية- إن هو ربما يكون حزب أبعد عن الرذائل ولكنه متعصب ضد المسلمين وضد الأجانب مثلاً بصفة عامة وهو شديد العنصرية، فهذا يعني يريد أن يبيد المسلمين، ليس أمامنا إلا أن نختار الحزب الأيه..؟ الآخر المقابل وإن كان فيه.. فهذا يقوم على ما سميته في كثير مما كتبت فقه الموازنات، فقه الموازنات أن يوازن الإنسان بين الأمور وبعض فيختار أهون الضرريْن وأخف الشريْن ويفوت أدنى المصلحتين ليحصل أعلاهما .. يتفادى الضرر اليسير من أجل دفع ضرر خطير أو الضرر الخاص من أجل ضرر عام أو الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى، فعلى هذا الأساس يدخل المسلم في هذا التيار السياسي بناءً على هذا الفقه و على الدراسة، ويحسن ألا يتم ذلك بصفة فردية.. يعني المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده قوي بجماعته، ويد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فالمسلم وحده ضعيف هو مع إخوانه يستطيع أن يبحثوا هذه الأمور، يعني حتى يكونوا كتلة.
أحمد منصور: يعني لابد من المسلمين الموجودين في التجمع أن يكون لهم تحركهم الجماعي؟
د. يوسف القرضاوي: التحرك الجماعي، بحيث إنه القوى السياسية الكبيرة تحاول أن تخطب ودَّهم، وتعرف أنهم يستطيعون أن يُنجحوا وأن يُسقطوا في بعض الدوائر على الأقل، وهذا ما حدث فعلاً في ..
أحمد منصور[مقاطعاً]: في فرنسا مثلاً على .. على سبيل المثال ويحدث الآن في بعض الدوائر في الولايات المتحدة .. نعم.
د. يوسف القرضاوي: في كثير من البلاد مثل ما حدث فرنسا وكما حدث للإخوان وفي .. المسلمين لهم وجود مكثف في بعض الدوائر فيستطيعوا.. وهذا ما يلعب به اليهود في أميركا وغيرها..
أحمد منصور[مقاطعاً]: رغم أنهم أقلية.
د. يوسف القرضاوي: هم .. رغم أنهم أقلية بسيطة إنما يستطيعوا إنهم يرجحوا كفة أحد المرشحين، فبيكون لهم وزن من هذه الناحية، فالمسلمون لابد أن يشاور بعضهم بعضاً، وأن يتعاون بعضهم مع بعض في هذه القضايا وينظروا أي الأحزاب إذا كان في حالة أحزاب أو أي المرشحين أفضل لهم .
أحمد منصور: جادين .. نعم.
د. يوسف القرضاوي: وأنفع لتقوية جانبهم وأقرب إليهم .. فبعد التشاور والدراسة يقررون، والخير في رأي الجماعة إن شاء الله.
أحمد منصور: يعني الجانب الأساسي هنا أن يتحرك المسلمون كمجموع مؤثر في البيئة التي يقيمون فيها؟
د. يوسف القرضاوي: نعم.
أحمد منصور: ولا حرج أبداً من أن يصبحوا أعضاء في تلك الأحزاب إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة والأساسية؟
د. يوسف القرضاوي: لا مانع أن يصبحوا أعضاء في تلك الأحزاب عند اللزوم، ولا مانع أن يدخلوا البرلمان، يؤثروا فيه، ذكرت أنت أنه يعني..(1/364)
أحمد منصور: أول مسلم بريطاني، وهناك اثنين مسلمين في ألمانيا .. أعتقد في..في البرلمان الألماني أيضاً من المسلمين.
د. يوسف القرضاوي [مقاطعًا] : هو طيب، يعني شيء..
أحمد منصور [مستأنفًا] : لكن للأسف أيضاً هناك -كما أشرت فضيلتك -الخطأ الأساسي الذي يقع فيه المسلمين هو أن يخرجوا بمشاكل بلادهم والتفرقة الموجودة وعدم التنسيق فيما بينهم، فهم يستطيعون أن يؤثروا ككتلة لكنهم يفشلوا كأفراد..
د. يوسف القرضاوي: وهذا ما يجب أن ننبه عليه، يعني ينبغي أن تُترك العنصرية والإقليمية والمذهبية وهذه الأشياء التي هاجر بها المسلمون من بلادهم .
أنا حينما أذهب إلى هناك خلاص أنا مسلم، أصلي باكستاني، أصلي يمني، أصلي مصري، أصلي مغربي انتهى، أنا أصبحت مسلماً أتعاون مع إخوتي المسلمين يعني إذا كان -للأسف- توجد جنسيات للمساجد يقول لك ده المسجد التركي، والمسجد المغربي، والمسجد الباكستاني، والمسجد الأفغاني، إيش هو ده؟! (وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) يمكن يعني هناك.. يعني كان مبرر لهذا في أول الهجرة، إنه كان الناس يذهبون مثلاً مجموعة من الأتراك ولا يعرفون لغة البلد الذي ذهبوا إليه فمحتاجون أن يجعلوا لهم مسجداً وأن يخطبهم واحد يعرف التركية، فهذا في أول الأمر كان مطلوباً، إنما بعد عشرات السنين يظل مسجد للأتراك ومسجد للمغاربة ومسجد للمصريين ومسجد لليمنيين .. هذا كلام لا.. لا ينبغي، فنحن نريد للمسلمين أن يتحركوا كجماعة، ويتحركوا من منطلق واقعي ومن منطلق إيماني ومن منطلق أخلاقي وينظروا إلى الأمور نظرة مستوعبة وليس نظرة جزئية أو نظرة سطحية أو نظرة آنية.
أحمد منصور[مقاطعاً]: فضيلة الدكتور، أخرج إلى جانب ربما يكون أكبر قليلاً من مجرد أن يكون عضو في البرلمان، وهو أن المسلمين الذين هاجروا إلى أميركا اللاتينية وهم يُقدر عددهم بأعداد كبيرة تمكنوا من الدخول في الأحزاب هناك ومن التأثير فيها، بل ومن تأسيس أحزاب حتى إن أحد الرؤساء اللي اختيروا في أميركا الجنوبية من أصل لبناني مسلم يُدعى عبد الله أبو كرم وإن كانت سلوكياته و غيره.. لكن كما حدث في الأرجنتين- أُجبر الرئيس وهو من أصل مسلم- حتى يصبح رئيساً أن يعمد في الكنيسة وأن يتم التنازل عن معتقداته الإسلامية، لأن دستور الدولة ينص على ذلك، فإذا طلب من المسلم الذي يمكن أن يتبوأ منصباً في تلك البلاد سواء كان من أصل أهل البلاد أو ممن لجأوا إليها أن يتنازل عن جانب من عقيدته فما هو الـ..؟
د. يوسف القرضاوي: هناك أشياء لا تساهل فيها قط، يعني مسألة العقيدة ديه .. دي لا يبيع الإنسان عقيدته بملك المشرق والمغرب، مش برئاسة جمهورية أو بأي كذا .. لأ، الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، فالإنسان يبيع دينه من أجل جناح .. جزء الجزء من جناح البعوضة؟! هذا لا ينبغي، وأنا ما أظن إنه يعني الرئيس الأرجنتيني أو كذا كان مسلماً وتنازل عن إسلامه ويبدو إنه تخلى قبل ذلك عن الإسلام، وهي دي المشكلة، إنه كثير ممن ذهبوا في أول الأمر إلى هذه البلاد لم يكونوا مسلمين أقوياء .
أحمد منصور: نعم .. ذابوا بالمجتمعات ..
د. يوسف القرضاوي: ولم يكن عندهم من يعلمهم الإسلام ومن يمسكهم على الإسلام فذابوا وضاعوا وتاهوا، انتهت هويتهم الأصلية خلاص يقول لك أصلي كذا، إنما المهم ليس بالأصل المهم الآن، من أنت الآن؟ فلا .. هناك أشياء يعني لا تقبل التنازل في حال من الأحوال.
أحمد منصور[مقاطعاً]: يعني لا بد أن تكون أيضاً هناك ضوابط في قضية المشاركة؟
د. يوسف القرضاوي: لأ.. المشاركة إن أنا أتنازل عن ديني وأتنازل عن عقيدتي هذايعني لا يجوز بحال من الأحوال ولا يقبل ولا يسوغ بأي صفة من الصفات
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، معي الأخ محمد علي الطرغوني من النرويج، محمد.. محمد..
محمد الطرغوني: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد منصور: عليكم السلام.. عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمة الله.
محمد الطرغوني: أنا بالله باسأل الشيخ عندي بأذكر حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم..
أحمد منصور: وعليه الصلاة والسلام.
محمد الطرغوني: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين" أو كما قال صلى الله عليه وسلم
أحمد منصور: عليه الصلاة والسلام.
محمد الطرغوني: وفي حديث آخر:" لا تتنارى نار المسلم ونار المشرك"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أحمد منصور: عليه الصلاة والسلام.
محمد الطرغوني: فهنا الإقامة.. هل هي الشخص ينوي الإقامة البتة دائماً على طول أو تكون الإقامة حسب الاضطرار؟
أحمد منصور: شكراً.
محمد الطرغوني: لما يجي.. آه الاضطرار هذا معناه يخرج من إقامته.
أحمد منصور: شكراً يا محمد .. فضيلة الدكتور، واضح السؤال؟
حكم إقامة المسلم في بلاد غير المسلمين(1/365)
د. يوسف القرضاوي: هذا الحديث الذي ذكره الأخ .. يعني هو جاء في سياق معين، وهذا مهم جداً الحقيقة أن نعرف السياق التي .. الذي ورد فيه الحديث، ولذلك العلماء .. علماء التفسير عُنوا بأسباب نزول الآيات، وعلماء الحديث عنوا .. عنوا بأسباب ورود الحديث، لأن الحديث إذا عُرف سببه، ووُضع في سياقه يعني استطعنا أن نحسن فهمه، النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا في سياق إن جماعة من المسلمين كانوا في ديار المشركين وكانت هذه الديار ديار حرب والحرب قائمة بين المسلمين والوثنين، المشركين فقُتل بعض هؤلاء، يعني خطأً وجاء أهلهم يطالبون بديَّاتهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين، يعنى أنا مش مسؤول عنه لست مسؤولاً عن .. عن دمه.
أحمد منصور: عن ديته.
يوسف القرضاوي: إذا قُتل يعني مع المشركين حينما يغار علي تلك الديار والحرب القائمة بين الإسلام والشرك هذا.. فهذا.. هو سياق الحديث، وإحنا ذكرنا المرة الماضية إن المسلم يجوز له أن يقيم في ديار الكفر لأسباب منها طلب الرزق أو طلب الأمن أو طلب العلم أو طلب العلاج أو لنشر الدعوة، وقلنا إن لولا هذا ما انتشر الإسلام في ..المسلمون حينما ذهبوا إلى إندونيسيا أو ذهبوا إلى ماليزيا أو ذهبوا إلى الفلبين أو ذهبوا إلى إفريقيا وذهبوا إلى هذه البلاد تجارة في أول الأمر، لو ذهبوا ورجعوا.. ما أقاموا.. لابد أن يقيم في البلاد إذا كان صاحب دعوة وصاحب رسالة وقد يصاهر هؤلاء الناس ويتزوج منهم ويصبح بعد ذلك عضواً في هذا البلد، وبعد شوية ينتشر الإسلام شيئاً فشيئاً حتى تصبح هذه البلاد بلاد إسلامية، بلاد إسلامية.
أحمد منصور: لكن فضيلة الدكتور، لو قام بين هذه البلاد وبين الدولة المسلمة أو الدول المسلمة حرب، ما هو واقع..، كما أشرت فضيلتك الآن، هذا يدفعنا إلى هذا السؤال، ماذا لو وقع قتال بين دولة غير مسلمة ودولة مسلمة ويقيم كثير من المسلمين - سواء كانوا من أهل البلد أو من المقيمين فيها - في تلك الدولة غير المسلمة ؟
يوسف القرضاوي : هذا طبعاً افتراض يعنى.. ما.
أحمد منصور: نعم.. نعم.
يوسف القرضاوي: يعني قد يحدث.. يعني الآن طبعاً العالم بتحكمه اتفاقيات ومعاهدات بين البلاد بعضها وبعض والجميع يعنى في .. المفروض أنهم أعضاء في الأمم المتحدة، في الهيئات وبين الناس بعضهم وبعض سفارات متبادلة وتمثيل دبلوماسي، فهذه الأشياء بتحكمها هذه الأفكار.
أحمد منصور: المعاهدات الدولية.. نعم.
يوسف القرضاوي: المعاهدات الدولية إنما قد يحدث يعني هذا.. هو هناك طبعاً لهذا هناك أنا أعرف إن في بعض البلاد يقول لك إن إذا الإنسان يعني كان ضميره غير..
أحمد منصور: شرط الضمير .
يوسف القرضاوي: شرط الضمير إنه ضميره غير مرتاح لهذه الحرب أو يرى إن الحرب غير عادلة من حقه إنه يعني يعتذر، فإذا استطاع الإنسان بطريق ما أن يعتذر عن المشاركة في هذه الحرب فعليه أن .. أن يفعل، وإذا لم يستطع يبقى يشارك ويحرص بقدر الإمكان على عدم الإضرار إذا أكره على أن يدخل هذه الحرب، يحرص على عدم الإضرار بالذين يحاربهم ما أمكن، ونحن نعرف إنه في حرب فيتنام كان فيه كثير من الأميركان لا يؤمنون بحرب فيتنام، فيه ناس منهم هربوا من الجيش، وفيه ناس تمردوا على الجيش وبعضهم حتى يعني أعتُبر لهم سوابق لمن رشحوا للرئاسة قالوا ده ممن هربوا.
أحمد منصور[مقاطعاً]: فضيلة الدكتور، عفواً .. هذه النقطة مهمة وسنتعرض لها لأن معي مكالمة من سراييفو.. حتى لاينتظر محيي الدين العيسى .. محيي.
محيي الدين العيسى: السلام عليكم .
أحمد منصور : عليكم السلام.
يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمه الله.
محيي الدين العيسى: سلام عليكم فضيلة الشيخ.
يوسف القرضاوي: يا مرحبا.
محيي الدين العيسي: أود أن أسأل سؤالين..
أحمد منصور: تفضل.
د. يوسف القرضاوي: تفضل.
محيي الدين العيسى: سؤال خاص بواجبات الأخ المغترب فيمن حوله من المسلمين وواجباته أيضاً نحو وطنه الأم، كثير من المسلمين ينسون أوطانهم عن غربتهم، وينسون مشاكل هذه الاوطان، نريد أن نفهم ونعرف ما واجبات الجالية الإسلامية نحو.. نحو أوطانهم، نعلم أن اليهود في أميركا..
أحمد منصور [مقاطعاً]: يعني لو تعطينا، السؤال..أخ محيي لأن الموجز الآن.
محيي الدين عيسى : نعم.
أحمد منصور: لو تعطينا السؤال الثاني، سؤالك الأول واضح.
محي الدين العيسي: السؤال الثاني، ما هي الصفات التي يجب أن تتوافر في الشخص المغترب حتى يؤثر فيمن حوله؟وجزاكم الله خيرا.
أحمد منصور: شكراً ليك.. اتفضل فضيلة الدكتور أمامنا ممكن الإجابة على الأسئلة بإيجاز.
يوسف القرضاوي:أما واجبات المسلم المغترب، فأنا ذكرتها في بعض كتبي على وجه الإجمال وفي محاضرات لي على وجه التفصيل، وربما لايتسع الوقت الآن يعني قبل الموجز.
أحمد منصور: على وجه الإجمال نأخذها فضيلة الدكتور.
واجبات المسلم المغترب(1/366)
يوسف القرضاوي: آه، نأخذها على وجه الإجمال، هي واجبات خمسة-الحقيقة، أول هذه الواجبات هو واجب المسلم نحو نفسه، في بلاد الغربة ليس معناها إنه اغترب إنه معناها إنه خلاص يعني.. يعني هيكون على حل شعره كما يقولون يفعل ما يشاء، ماحدش عارفك في هذه البلاد ..لأ.. لابد أن يظل محافظاً على شخصيته، على دينه، على خلقه، على يعني قيمه، يعني هناك أشياء لا تنازل عنها وعليه ينمي هذه الشخصية الإيمانية بالفقه والثقافة وإلى آخره، ده واجبه الأول .
أحمد منصور: نحو نفسه .. نعم.
يوسف القرضاوي: نحو نفسه ينمي نفسه إيمانياً وأخلاقياً وثقافياً وإلى.. إلى آخره.. الأمر الثاني واجبه نحو أسرته، نحو أسرته بمعنى إنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) .
أحمد منصور[مقاطعاً]: أسرته اللي معاه هناك في..
يوسف القرضاوي: اللي معاه هناك آه..، يعني هو متزوج يبقى عليه واجب نحو زوجته (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)، أب عليه واجب نحو أبنائه وبناته يعني وخصوصاً في هذه البيئة بالذات حتى لا يضيعوا في .. في المجتمع وأنا قلت لبعض الإخوة، إذا جمعت الأموال وضيعتم الأولاد، يبقى خسرتم خسارة كبرى .
فيعني لابد أن نحافظ على الذراري، وأنا ذكرت يعني..
أحمد منصور[مقاطعاً]: في الحلقة الماضية حضرتك أفضت في هذا الجانب..نعم
يوسف القرضاوي: آه، تكلمنا في هذا وقلنا يجب إن إحنا نحاول أن ننشيء مجتمعاً صغيراً داخل المجتمع الكبير.. وهذا هو الواجب الأيه؟
أحمد منصور: الثاني.. الثاني.
يوسف القرضاوي: الثاني، الواجب الثالث هو واجب المسلم نحو إخوانه المسلمين الذين يعيشون معه .
أحمد منصور [ مقاطعاً]: في المجتمع المغترب .. نعم.
يوسف القرضاوي: في المجتمع المغترب هذا .. وقلت إن المسلم لا يستطيع أن يعيش وحده، الإنسان حتى في .. وهو في دار الإسلام لا يستطيع أن يعيش وحده، فكيف وهو يعيش في دار غربة؟! لابد كما يقول الشاعر:
أيا جارتا إنَّا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيب.
أحمد منصور: للغريب نسيب . نعم.
يوسف القرضاوي: أنا أحوج ما أكون إلى أخي باستمرار وخصوصاً في دار الغربة، فأنا أقوى بأخي وأعتز بأخي وهو سند لي وهو ..وأنا سند له.
أحمد منصور: هذا ثالثا ..
يوسف القرضاوي: فهذا الأمر الثالث، الأمر الرابع واجبه نحو غير المسلمين، يعني هو يعيش في مجتمع فيه عليه واجب لهذا المجتمع، لابد أن يرى الناس منه صورة الإسلام الصحيح، المشرِّف والمشوق وأن يدعو هؤلاء الناس إلى الإسلام عمله الأساسي مهما كان، افرض إن هو بيتاجر ولا بيدرس ولا كذا، عمله إنه يعني يدعو إلى الإسلام بقوله وعمله.
أحمد منصور: [مقاطعاًً]: الجانب الخامس مع الإجابة الثانية.
يوسف القرضاوي: الجانب الخامس هو واجبه نحو أمته وأوطانه الإسلامية الأولى، إذا كان مسلم ومغترب فهو لا ينسى.. كما لا ينسى لم ينسَ اليهودي واجبه نحو اليهودية.. المسلم لا ينسى واجبه نحو أمته الإسلامية.
أحمد منصور [مقاطعاً]: شكراً فضيلة الدكتور شكراً.
[موجز الأخبار]
أحمد منصور: نود أن نبشر مشاهدي برنامج (الشريعة والحياة) إلى أن البرنامج سيبث قريباً - إن شاء الله - إن شاء الله - عبر شبكة الأنترنت، حيث سيتمكن المسلمين في جميع أنحاء العالم من متابعة فتاوى الدكتور أو نص البرنامج على شبكة الإنترنت، وربما نتمكن في الأسبوع القادم - إن شاء الله - من إعطائكم عنوان البرنامج على الشبكة.
فضيلة الدكتور، كنت فضيلتك دخلت في إطار مهم وهو إطار الجيش أو المشاركة في الجيش أو الشرطة في الغرب وأشرنا إلى حصول مسلم بريطاني هو أول..على لقب.. رجل العام في الشرطة البريطانية، وهناك ما يقرب من 5 إلى 6% من مجموع مُجنَّدي الجيش الأمريكي هم من المسلمين الأميركيين، وهناك أيضاً مشاركات من المسلمين الأوروبيين في الجيش والشرطة وهناك - كما أشرت فضيلتك- شرط الضمير، الذي يتيح لهؤلاء عدم المشاركة في الحروب التي يمكن أن تتم ضد دول العالم الإسلامي، وهناك قوانين أيضاً في الدول الأوروبية.. تتيح للشخص في ألا يحارب دولته الأم في حالة شن هذه الدولة الحرب عليها، وهنا أيضاً الأخت أم عبد الله من ألمانيا أرسلت رسالة تقول فيها أن في ألمانيا القانون يتيح لمن يُجند أن يختار الجهة التي يؤدي خدمته فيها، يمكن أن يكون في المطارات لخدمة الناس، يمكن أن يكون في الشرطة لمساعدة المجتمعات والقضاء على الجريمة، ويمكن أن يكون في نواحي أخري مفيدة للمجتمع، في ظل هذا الوضع ما هو حكم دخول المسلم إلى الجيش أو الشرطة في الدول غير المسلمة ؟
حكم مشاركة المسلم في جيش الدولة غير المسلمة(1/367)
يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، لا أرى بأساً بأن يشارك المسلم، بل أرى أن هذا مطلوب من المسلم. كما قلنا إن المسلم لا ينبغي أن يكون منعزلاً عن المجتمع، ينبغي أن يتفاعل مع المجتمع، وكما قلنا في المرة الماضي إن القاعدة الذهبية هي" تمسك بلا انغلاق و اندماج بلا ذوبان"، لابد أن يعايش المسلم المجتمع فإذا أتيحت للمسلم فرصة أن يدخل الجيش أو يدخل الشرطة ويُري الناس نموذجاً أخلاقياً النموذج الإسلامي الحق الصحيح، هذا مطلوب وهذا نوع من الدعوة، لأن المسلم بهذا يعني يمثل الإسلام ويجسده في سلوك أمام الناس، ولذلك يعني رحب الكثيرون بالمسلمين في الجيش، حتى في أميركا يعني جاءوا لهم بوعاظ ، الـ5% أو الـ6% اللي ذكرتهم أنت هؤلاء، أتوهم بوعاظ يعظونهم..
أحمد منصور: نعم.. صحيح.
يوسف القرضاوي: هم طلبوا أن يكون عندهم وعاظ يعلمونهم الدين ويذكرونهم ويدعونهم إلى الخير .
أحمد منصور [مقاطعاً]: وأصدر الرئيس (كلينتون) في الشهر الماضي قانوناً يحين لكل .. يبيح لكل الأقليات أن تصلي حتى في.. في الأماكن التي فيها وأن يؤدوا مشاعرهم..
يوسف القرضاوي: هذا كلام طيب .. هذا يعني أنا أقول لك- للأسف- إن بعض ما يتاح لهؤلاء في البلاد الذين يكونون فيها أقليات لايتاح لكثير من المسلمين في عدد من البلاد الإسلامية، يعني بعض البلاد الإسلامية لا تتيح للمسلم أن يصلي وهو في.. في الجيش المسلم، يعني أو في جيش البلد الإسلامي يعني.. البلاد..
أحمد منصور:حتي فضيلتك في الصوم أتاحوا للمسلمين في الصوم أن لا يقوموا بالتدريبات.. نعم.
يوسف القرضاوي: نعم لايأخذوا تدريبات وأن يتسحروا وأن يعني.. أتاحوا لهم هذا .
أحمد منصور: صحيح... صحيح احترام كامل للدين .
يوسف القرضاوي:هذا في.. في كثير من البلاد..
أحمد منصور : الغير مسلمة.
يوسف القرضاوي: التي تدَّعي أن أهلها مسلمون لايتاح هذا للمسلم ويحارب الذي يصلي وهو في.. في الجيش، وقد يضطر المسلم إلى أنه يروح يحارب بلد إسلامي، وإحنا للأسف نجد أن كثيرًا من البلاد الإسلامية هناك مشاكل الصراع على .. على الحدود، فكثيراً ما تحارب دولة إسلامية جارتها الإسلامية ولا يستطيع المسلم أن .. يعني شرط الضمير ده موجود في الغرب.. ليس موجوداً..
أحمد منصور : في الدول الإسلامية .
يوسف القرضاوي: عندنا في بلاد العرب والمسلمين، هذا يعني .. ولذلك نحن نقول إذا استطاع المسلم أن يدخل الجيش أو يدخل الشرطة.
أحمد منصور[مقاطعاً]: وأن يكون مثل مثل هذا الضابط المسلم في بريطانيا..نعم.
يوسف القرضاوي: مثل الضابط هذا يعني أخٌتير من 27 ألف ضابط ونُشر هذا في الصحف، في "الحياة "وفي.
أحمد منصور: "الشرق الأوسط".
يوسف القرضاوي: وغيرها يعني الصحف العربية نُشر هذا.. هذا شيء مشرف، وهذا دعوة إلى الإسلام، لأن الإسلام الدعوة.. إلى الإسلام ليست بالخطب ولا المحاضرات، أعظم دعوة إلى الإسلام تكون بالقدوة، بالأخلاق، والمسلمون إنما نشروا الإسلام في العالم - المسلمون الأولون، سلف، الأمة وخير.. نشروا الإسلام بأخلاقهم وسلوكياتهم لا بأقوالهم ولا بخطبهم.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، معي الأخ راشد الطرابيشي من الدنمارك.. راشد..
راشد الطرابيشي: ألو.
أحمد منصور: اتفضل ياراشد .
راشد الطرابيشي: ألو، السلام عليكم.
أحمد منصور : عليكم السلام.
راشد الطرابيشي: كيف الحال؟
أحمد منصور : الحمد لله يا أخي.
راشد الطرابيشي: أخينا في عندنا سؤال بالنسبة لموضوع الشيخ الشيخ يوسف..
أحمد منصور: اتفضل .
راشد الطرابيشي: القرضاوي بارك الله فيه، هناك بعض الأمور اللي تتوجب على المسلم في أوروبا فطالما.. أولاً نتكلم عن الجنسيات وكيفية حصول الجنسيات وهل هي حرام أم حلال في الحصول عليها في أوروبا؟
أحمد منصور [مقاطعاً]: هذا ما تحدث عنه الدكتور- يا أخي- في الحلقة الماضية، أما تابعت الأمر؟
راشد الطرابيشي: أخ .. أخي الكريم خليك معايا مثلاً.. أنا أسأل سؤال صغير مثلاً..
أحمد منصور: اتفضل.
راشد الطرابيشي: نحن هنا مثلاً أنا كوني أنا مثلاً كنت عايش في إحدى الدول الخليجية ما يقارب ال16 أو 17 عاماً فهنا وجدت الإسلام يطبق في أوروبا أكثر من الدول العربية، فأولادنا تتعلم اللغة والقرآن وتتكلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم..،
أحمد منصور: عليه الصلاة والسلام.
راشد الطرابيشي: والأحاديث الدينية والقرآن وكل شيء فوجدنا كل شيء من الدين مطبَّق إلا بما أنهم نظام كافر- كما يقال- ولكن يتعاملون معنا بنظام على أيام الخلافة - خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- يأخذ…ال يعطوهم الـ (بورن ريجيا) كل 3 أشهر وجلوس، هل نعكسها على عالمنا العربي الذي إذا نطقت أو التحيت .. وتسنيت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهوا إليك أكثر من علامة استفهام، فهذا .. هذا.. هذا من المؤسف أن نعيش في دول في دول أوروبا وطالما حالياً لا يوجد أرض خلافة إسلامية فكلها بلاد الله وكلها أرض الله.
أحمد منصور[مقاطعاً]: يعني أنت تؤكد على ما أشار له فضيلة الدكتور سواءً في الحلقة الماضية أو هذه الحلقة؟(1/368)
راشد الطرابيشي: أنا سمعت هذي..لكن ما..لأنه الحلقة الماضية سمعت.. عناوين الحلقة الحلقة هذه القادمة اللي تعلن الآن..
أحمد منصور: نعم، راشد، هل لديك سؤال بعد هذا.. هذه المداخلة الطيبة لك من الدنمارك؟
راشد الطرابيشي: بارك الله فيك.. سؤالي إلى شيخنا الكريم يعني كما باركت له في جائزته التي أخذها من أوروبا، فأوروبا تعطي لكل ذي حق حقه هذا عنوان إسلامنا وديننا، فشيخنا لما باركت له في الشهادة وفي الوسام أخذه من أوروبا ما أخذوش من الأزهر ولا أخذه من..
أحمد منصور[مقاطعاً]: لا هو أخذ أوسمة كثيرة أيضاً من العالم الإسلامي.
راشد الطرابيشي: أخي الكريم، بارك الله فيه وكل من نطق بكلمة إسلام ومسلم وكلمة حق عند سلطان جائر بارك الله فيه، لإن جائزته مش راح يأخذها من بشر.
أحمد منصور: وإن شاء الله وسامه عند الله سبحانه وتعالى.. هل سؤال .. لديك سؤال لديك يا راشد لو سمحت؟
راشد الطرابيشي: سؤالي.. سؤالي بالتالي تطبيق الإسلام في العالم الأوروبي والحمد لله يطبق على كل .. على أكمل .. على أكمل وجه وصوب، فهنا يعني لا هناك معارضة في وجودنا أو وجود المسلمين ككتلة عامة في الدنمارك أو في أوروبا أو في أميركا أو في أستراليا.. وهناك.. وشيخنا الكريم زار أكثر من منطقة أوروبية ووجد منها فهناك..فهناك ما يطبق الشرع على حذافيره، أنا عشت حوالي17 سنة في الخليج ما صليت ولا ركعة.. فهنا وجدت..
أحمد منصور: يعني ربنا هداك في أوروبا ؟
راشد الطرابيشي: نعم؟
أحمد منصور: هداك الله في أوروبا يعني؟
راشد الطرابيشى: الهادى هو الله .. والحمد لله أولادي .. أولادي.
يوسف القرضاوي: وهذا في الحقيقة هو يعني حال كثير من الشباب..
أحمد منصور [مقاطعاً]: يعني إن شاء الله تقوم بواجبك نحو إخوانك المسلمين في أوروبا أيضاً في هذا الأمر. آخذ الدكتور أبو الخير بريغش من إيطاليا.
أبوٍ الخير بريغش: السلام عليكم ورحمة الله -تعالى- وبركاته.
أحمد منصور: عليكم السلام آسفين يا دكتور أبقيناك مدة طويلة على الهاتف.
د. أبو الخير بريغش: معلش، ممكن إحنا ما مشكلة..
أحمد منصور: اتفضل.
د.أبو الخير بريغش: إحنا نقدر جهودكم في هذه الحلقة الطيبة.
أحمد منصور: نشكرك.
د. أبو الخير بريغش: ونسلّم عليكم وعلى الدكتور الشيخ يوسف حفظه الله للإسلام والمسلمين جميعًا.
أحمد منصور: شكرًا يا أخي.
د. أبو الخير بريغش: الحقيقة- يعني هو باختصار شديد أن هموم المسلمين الكبيرة يعني العامة في البلاد الغربية هموم مشتركة.. فتداخل بسيط ثم سؤال .
أحمد منصور: اتفضل.
د.أبو الخير بريغش: يعني شعورنا نحن الذين نقيم في هذه البلاد الغربية أننا جزء من هذا المجتمع والمساهمة في بنائه وتعميره وإصلاحه وهدايته لابد يعني أن يكون بعقلية انتزاع الاحترام للحصول على حقوقنا كمواطنين في هذا المجتمع، يعني كما تعلمنا من فضيلة الشيخ .. يعني إن عقلية المقيم، الإقامة الطارئة والتنازل عن الجزئيات وما إليه لا تساهم ولا تساعد في حصول المسلمين على يعني حقوقهم في هذه البلاد، خاصة إن -الحقيقة- يعني أن كثير من المسلمين هنا أطفال ونساء ورجال وأفراد وجماعات يعانون- يعني الحقيقة - من حرمانهم من كثير من حقوقهم، فهل يمكن يعني الحقيقة ما أدري إذا كان.. هل يمكن دعوة عدد من كبار العلماء من شتى المشارب والاتجاهات من بلاد الإسلام وعدد من قادة العمل الإسلامي في الغرب لأهمية الموضوع لرسم خطة ووضع خطوط عمل مشتركة للأمور المشتركة يعني لمصلحة الإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟ هل ترون ذلك ممكناً؟ وهل لكم من نصائح أخرى لتوحيد جهود المسلمين في الغرب؟ بخبرتكم يعني- فضيلة الشيخ -في العمل الإسلامي سواء كان في المشرق أو في المغرب حفظكم الله.
أحمد منصور: شكراً يا دكتور، فضيلة الدكتور، الدكتور أبو الخير، لأن الأخ هو كان له مداخلة اللي دخل في الأول . وهذا الأمر ربما يتعلق بموضوع المجلس الإسلامي الأوربي، نعم، تفضل.
توبة المسلمين غير الملتزمين في أوروبا
يوسف القرضاوي: آه .. أولاً: أحب أن أعلق على كلام الأخ السابق- الأخ راشد الطرابيشي، أقول له يعني الحمد لله يعني كثير من أبناء المسلمين لم يهتدوا في بلاد الإسلام واهتدوا في بلاد الغرب، وعرفت هذا كثيراً من أبناء الخليج أنفسهم، الأخ عاش في بلاد الخليج يعني..
أحمد منصور[مقاطعاً]: 17 سنة.
يوسف القرضاوي: 17 سنة لأ.. فيه من أبناء الخليج ممن لم يكن يصلي وذهب إلى أميركا وعاد، لا أقول مصلياً، وداعية إلى.. إلى الإسلام، يعني فالمسلم حينما يعني يعيش في مجتمع آخر يعني يتحول إلى يعني..يتذكر أصله الإسلامي وجذوره وإذا هيأ الله له التربة الصالحة، يجد هذا محضنًا طيباً ليعيش في دائرة الإسلام وبين أبناء الإسلام، هذا من ناحية، بالنسبة إلى المجتمع الغربي وإنه يعني .. طبعاً المجتمع الغربي فيه أشياء طيبة من ناحية السلوكيات الاجتماعية ولكن طبعاً فيه النزعة المادية المفرطة وفيه النزعة..
أحمد منصور: الإباحية ..(1/369)
د. يوسف القرضاوي: الإباحية فيعني لا ينبغي إن إحنا يعني ننسى هذا .. هناك أشياء يعني مخوفة من المجتمع الغربي إذا المسلم نسي نفسه، وذاب في هذا المجتمع ممكن يصبح أنساناً مادياً يعيش للدنيا ويعيش للمادة وممكن يبقى إباحي أو .. لأ.. فلابد أن نحذر من هذه الناحية. أما ما يذكره الدكتور..
أحمد منصور: الدكتور أبو الخير، نعم.
اهتمام المسلمين في الغرب بإنشاء مؤسسات ضرورة اجتماعية
د. يوسف القرضاوي: أبو الخير فهذا أمر مهم جداً، وأحمد الله أن المسلمين في أوروبا وفي أميركا منذ مدة بدءوا يفكرون في عهد المؤسسات، لابد أن تقوم حياتنا على المؤسسات، المسلمين في أميركا عملوا المجلس الإسلامي وقبل ذلك كان فيه اتحاد الطلبة المسلمين وبعدين نشأ عن هذا الاتحاد رابطة العلماء الاجتماعيين المسلمين، جمعية الطب الإسلامي..
أحمد منصور[مقاطعاً]: جمعية المحامين المسلمين.. نعم.
د. يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: جمعية العلماء والمهندسين الإسلاميين، الوقف الإسلامي أشياء، يعني كثيرة ..
أحمد منصور: وغيرهم .. كثيرة.
د. يوسف القرضاوي: كذلك في .. في أوروبا وبدأ منذ سنوات اتحاد المنظمات الإسلامية في .. على مستوى أوروبا، وبدأ لهذا الاتحاد يكون له فروع مثلاً هناك اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا و..
أحمد منصور: حوالي 14 دولة..
د. يوسف القرضاوي: في عدد من البلاد اتحاد المنظمات الإسلامية بدءوا يفكرون مثلاً، المسلمون محتاجون إلى علماء، إلى أئمة للمساجد، إلى خطباء يخطبون الجمعة، إلى ناس يعلمونهم ويفتونهم في دينهم، فوجدوا إنهم في حاجة إلى معهد أو إلى كلية لتخريج هذا النوع من الناس، وأُنشيء أنشئت الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في قلب في أيه؟
أحمد منصور: فرنسا..
يوسف القرضاوي: فرنسا. وأنا عضو في مجلسها العلمي وممن شاركوا في تأسيسها ومتابعتها والحمد لله تمشي يعني على نور وعلى خير، كذلك مما أنشيء في الفترة الأخيرة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهذا نشأ في مارس أو آذار في هذه
أحمد منصور: 97 الماضي.
يوسف القرضاوي : السنة ونشأ من علماء يقيمون في أوروبا ويعايشون مشاكل المسلمين وهمومهم ويتلقون أسئلتهم واستفساراتهم مع بعض العلماء الذين يشاركونهم هذا الهم وإن لم يعيشوا في أوروبا، يعني هم اختاروني يعني رئيساً..
أحمد منصور: رئيساً للمجلس.. نعم .
يوسف القرضاوي: يعني حاولت أن أعتذر ولكن ألزموني يعني بهذا .. أنا لا أعيش في أوربا ولكني أعيش في هموم أوروبا وأميركا والمسلمين المغتربين لأنه منذ ربع قرن وأنا أسافر إلى هذه البلاد وأعايشهم وأعرف يعني ..
أحمد منصور: مشكلاتهم وقضاياهم.
يوسف القرضاوي: .. فوجدوا إنه لابد من إنشاء مجلس أوروبي .. مجلس أوروبي.
أحمد منصور : نعم..نعم.. ينتمي إلى أوروبا وإلى الدول الغربية.
يوسف القرضاوي: يعني لدول أوروبا.. للإفتاء وللبحوث..
أحمد منصور: نعم.. في قضايا المسلمين المقيمين هناك.
يوسف القرضاوي: في قضايا المسلمين ومشكلاتهم التي تختص بهم، لأن -لاشك إنه - كما قال علماؤنا- إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، معنى تغير المكان يعني أيه؟ يعني المسلم في خارج دار الإسلام غير المسلم داخل دار الإسلام، هذا له مشكلات، والمسلم في المجتمع الصناعي غير المسلم في المجتمع الزراعي، فنحن هناك نجد مشكلات يعني كثيراً ما لا توجد في..في بلادنا ، ونجد أسئلة تطرح لا تطرح في ديار الإسلام، من أجل هذا أنشيء هذا المجلس.
أحمد منصور: ولعل..
يوسف القرضاوي: ليجيب عن أسئلة المسلمين الذين يعيشون في أوروبا سواء كانوا من أصل أوروبي..
أحمد منصور: أو من مغتربين المقيمين هناك ..
يوسف القرضاوي: أو من الذين ومن المغتربين، بعضهم ..بعض المغتربين حصل على جنسيات وأصبح أيضاً جزءاً من نسيج المجتمع، وبعضهم حصل على إقامات وأصبح يقيم في المجتمع من سنين طويلة.
أحمد منصور: نعم، نعم.
د. يوسف القرضاوي: فهؤلاء لهم مشاكلهم.. لهم مشاكلهم.. ولابد أن نجيب عن هذه الأسئلة ونحل هذه المشاكل في ضوء الشريعة الإسلامية، يعني نحاول أن نوجد الطب لهم ..نعالج هذه المشكلات من صيدلية الإسلام لا من صيدلية خارجية.. فهذا هو الذي.
أحمد منصور: نعم، لعل هذا فيه إجابة شاملة لطلب الدكتور أبو الخير، وربما مزيد من التفصيل في هذا الأمر معي زياد علي من لندن، زياد.
زياد علي: السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
زياد علي: أحب أوجه سؤال لفضيلة الشيخ.
أحمد منصور: اتفضل.
زياد علي: هل يجوز شرعاً أن يشهد غير المسلم على عقد قران أحد المسلمين؟
أحمد منصور : غير المسلم على عقد قران مسلم؟
زياد علي: أيوه.
أحمد منصور: شكراً لك يا زياد، معي محمد شمسان من لندن، محمد شمسان، دكتور محمد شمسان..
د.محمد شمسان: السلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
د.محمد شمسان: تحياتي لأستاذنا الدكتور الكبير الشيخ القرضاوي.
أحمد منصور: شكراً لك.
د.محمد شمسان: وأخينا ..وأخونا الأخ أحمد منصور على المجهود الكبير الذي يبذله.
أحمد منصور: شكراً ليك.(1/370)
د.محمد شمسان: أريد مداخلة بسيطة في البداية لشيخنا الدكتور حول.. أنا من متابعتي لبرامجه الكثيرة وجدت أنه يستند في.. في الفتوى والاجتهاد على.. على تقريبا -باختصار- على ثلاثة مباديء وهي تركيزه على جوهر الإسلام والعلم العميق به، والتلاءم بينه وبين الفطرة وأيضا القاعدة الفقهية قاعدة الضرر أي "الضرورات تبيح المحظورات"، فأرى في هذا نوع من.. ولذلك نجد من المشاكل اللي نجدها هنا.
أحمد منصور[مقاطعاً]: نوع من أيه؟
أحمد منصور: ترى فيه نوعاً من..؟
د.محمد شمسان: أرى فيها نوعاً من.. من الارتقاء بالاجتهاد إلى مطاف عالي جداً من الفهم..يعني أعتبره كخليفة لابن تيمية طبعاً في .. وهو من الأساتذة.
أحمد منصور: نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً. نعم.
د.محمد شمسان: ولذلك الكثيرين حتى ..من.. من غير المسلمين - يحبون يستمعون إلى هذه الفتاوى، وهناك قضية كبيرة في .. في المهاجرين في بريطانيا لاحظتها في بعض الشباب اليمنيين في لندن نجدهم ..نجدهم- هؤلاء الشباب- يقولوا بأن.. ، سألتهم فقالوا أنهم يذهبوا إلى الجامع لأن هناك مدرسة تنادي بالخلافة وهم ملتزمون بها، ووجدت بعض الآخرين يقولوا هناك مدرسة دينية .. في جامع آخر تدعو لموضوع الجهاد وهم معها ويعارضون المدرسة الأخرى، وذلك .. فأرجو رأي الدكتور في هذا الموضوع .
أحمد منصور[مقاطعًا]: سؤالك تحديداً - عفواً يا دكتور؟
د.محمد شمسان: هذا هو ..يعني ما هو رأي الدكتور لينصح هؤلاء الفقهاء أو الأدعياء أو الدعاة الذين يوجهون مدارس إسلامية في المهجر تحت ستائر دينية أو شيء، واحدة تدعو إلى الخلافة ولا غيرها في الإسلام، وواحدة تدعو إلى مدرسة الجهاد وأخرى تدعو إلى مدرسة دينية فلسفية، يعني قسموا شبابنا الذي هو- طبعاً..
أحمد منصور: أعتقد أن السؤال صار واضحاً، شكراً لك: الأخ ناصر عبيدات من قطر، ناصر.
ناصر عبيدات: يا سيدي، لطفاً.. سؤال لفضيلة الشيخ القرضاوي.
أحمد منصور: تفضل يا سيدي، لا زلت شمسان.
ناصر عبيدات: ياسيدي بدي يعني ..
أحمد منصور: لازلت شمسان؟
ناصر عبيدات: رأى سماحة الدين .. ألو.
أحمد منصور: أيوه اتفضل يا دكتور معاك اتفضل .
ناصر عبيدات: رأي سماحة الدين الإسلامي في تواجد يعني كميات كبيرة أعداد رهيبة جداً من الآسيويين تشتغل في العالم العربي ولاسيما في الخليج وعرب كتير مؤهلين تأهيل عالي ومتوسط وفني وغير فني وما بيشتغلوش هون؟
أحمد منصور: هذا الأخ ناصر عبيدات من قطر يسأل عن..
ناصر عبيدات: سماحة الدين رأي الدين في هذا، شكراً .
أحمد منصور : نعم نعم، طيب عفواً يا دكتور نأخذهم.. نأخذ الأسئلة ترتيباً ، لأن هناك أيضاً آخرين على الهاتف حتى نأخذهم تباعاً ، وعندي فاكسات، زياد على يسأل هل يجوز شرعاً أن يشهد غير مسلم على زواج المسلم؟
يوسف القرضاوي: عند الضرورة يجوز هذا، الله تعالى ذكر في سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ) إلي آخره.
فيجوز عند اللزوم .. إذا وُجد مسلم فهو أفضل، حتى المسلم العدل أفضل من المسلم يعني غير العدل .. يعني بعض المذاهب تشترط عدول الشهادة مثل مذهب الشافعي، مذهب أبي حنيفة بيشترط أي مسلم، ولكن عند اللزوم يعني نقبل غير المسلم، المسلم يحرص على أن يشهد على عقده مسلمان عدلان..آه.
أحمد منصور: دكتور محمد شمسان يسأل عن بعض التجمعات الموجودة في بريطانيا أو أوروبا وتدعو إلى دعوة محددة مثل الخلافة أو الجهاد ولا تأخذ بشمولية الإسلام وواقعه الموجود هنا.
خلافات المسلمين فيما بينهم في أوروبا..بين خطأ الفكرة وأولوية الدعوة
د.يوسف القرضاوي: والله أنا يعني أتعجب للإخوة الذين يطالبون بالخلافة الآن، الخلافة دي لا تقوم بمجرد الكلام، الآن ...معنى الخلافة يعني أيه؟ الخلافة هي حكم الأمة الإسلامية القيادة المركزية للأمة الإسلامية، لابد أن توجد الأمة الإسلامية، يعني يوجد..
أحمد منصور:الفرد المسلم، الدولة المسلمة.
د.يوسف القرضاوي: عدد من البلاد الإسلامية كل بلد منها تُحكم بالإسلام ، وبعدما تحكم هذه البلاد بالإسلام ترى إنها في حاجة إلى أن تتوحد تحت قيادة واحدة، إنما الآن العلمانية تحكم معظم بلاد المسلمين، والشريعة الإسلامية معطَّلة والمسلمون بينهم من الجفاء ومن الانقسام والتمزق ما نعلم به جميعاً، أول شيء نحاول إننا نحرر بلاد الإسلام من الطواغيت، إننا نقيم شريعة الإسلام في الأرض، إننا نطرد الصهيونية من بلاد المسلمين، إننا- بعد ذلك- نوحد كلمة المسلمين، يعني لا تقوم الخلافة بطبيعة الحال، ولا مجرد كلام.. والخلافة لا تقوم بمجرد الكلام، والجهاد يعني…
أحمد منصور: ذروة سنام الإسلام.
يوسف القرضاوي: ذروة سنام الإسلام، إنما يعني في.. في بريطانيا معنى الجهاد هناك أيه؟ الجهاد هناك تنشر الإسلام إنك تعرف غير المسلمين بالإسلام ..
أحمد منصور: وأن تلتزم بدينك.(1/371)
يوسف القرضاوي: نحن المسلمين مقصرون جدًا في دعوة الآخرين إلى الإسلام، ناس يقول لك عايزين نقاتل، تقاتل ليه؟ هو أنت بلغت رسالة الإسلام والناس أبوا؟ دا إحنا لم نترجم القرآن باللغات العالمية الكبيرة ترجمة دقيقة وبليغة ومأمونة إلى اليوم، يعني لا يوجد.. حتى اللغة الإنجليزية اللي بيتكلم بها مئات الملايين من المسلمين، لا يوجد ترجمة يرضى عنها المسلمون كل الرضا، فنحن هذا هو جهاد العصر، جهاد العصر أن نبلِّغ رسالة الإسلام ودعوة الإسلام إلى العالم ويتعاون في ذلك المسلمون، طبعاً هناك الجهاد للدفاع عن الأرض الإسلامية كما دافع المسلمون في البوسنة وكما يدافع الإخوة في فلسطين وفي لبنان، هذا دفاع فرض عين على..
أحمد منصور[مقاطعاً]: أما في بلاد الغرب فإنه نشر الإسلام و التزام بالدين.
يوسف القرضاوي: جهادنا هو الدعوة، نشر الإسلام وتعليم المسلمين، هذا هو الجهاد الآن.
أحمد منصور: ناصر عبيدات يقول أن في الدول الخليجية..
د.يوسف القرضاوي[مقاطعاً]: عبيدان.. عبيدان.
أحمد منصور: ناصر عبيدان يقول أن في الدول الخليجية رغم وجود آلاف المسلمين من المتخصصين إلا أن غير المسلمين يملؤون هذه الأماكن خاصة من مناطق جنوب شرق آسيا وغيرها، ففي استعمال.. في حالة الاستعمال تكون الأولوية للمسلم أم للكفء في مثل هذه الأمور؟
د.يوسف القرضاوي: ما فهمتش السؤال ده.
أحمد منصور: يقول إن الدول الخليجية مليئة بغير المسلمين الذين يعملون في الوظائف المختلفة، وهناك مهنيين مسلمين كثيرين متخصصين في هذه المناطق في دول العالم الإسلامي لم يتم استقدامهم للعمل، ففي هذه الحالة للمسلم حينما يستخدم هل يستخدم الأكفأ أم يستخدم المسلم؟
د.يوسف القرضاوي: هو بصفة عامة المسلم المفروض إنه يقدم المسلم على غير المسلم، النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقيّ"، فنحن.. خصوصاً يعني في بلادنا العربية والخليجية يعني نحن نشكو من كثرة العمالة الأجنبية، أصبحت يعني من الكثرة والقوة بحيث أصبح لها تأثيرها، فنحن المفروض أنا في بلاد العرب أقدم المسلم.. والمسلم -حتى- العربي على..على غيره ثم المسلم بصفة عامة إلا إذا لم أجد الكفاءة الإسلامية، إنما إذا كان عندي الكفاءة الإسلامية لماذا؟ للأسف إنه كثيراً من الناس حتى في العمال يعني من يأتي بسائق أو يأتي بخادم أو يأتي بمربية أو يأتي بكذا، يعني يأتون بغير المسلمين وفي بلاد فيها ملايين المسلمين، فأنت لا .. لا تأمن هذا من ناحية طهارته، من ناحية كذا وبعض هؤلاء..
أحمد منصور[مقاطعاً]: هل هناك إثم يقع على من يستعمل غير المسلم؟ في حالة توفر المسلم؟
د.يوسف القرضاوي: أحياناً .. أحيانًا يكون هناك إثم إذا كان من دولة تحارب المسلمين أو تعاديهم، فكأن أنا بأدي له هذا الراتب اللي بيأخده مني ينقلب ضد المسلمين هناك، فلابد للمسلم أن يراعي هذا ما استطاع وما وجد إلى ذلك سبيلاً.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور لدي، أربع فاكسات الأول من أبو عبيد الله من بريطانيا وجمال كامل من ألمانيا وزرقان الطاهر من فرنسا، ومجموعة من المسلمين من هولندا، وآخرين من الدنمارك الكل يسألون عن شراء البيوت في أوروبا والاقتراض من البنوك الموجودة هناك، وحضرتك تعرف ولك فتوى شهيرة في هذا
.. لو توجزها لهم حتى نأخذ غيرهم.
حكم شراء البيوت في أوروبا بالفائدة الربوية
د.يوسف القرضاوي: هو طبعاً في الحلقات الأولى الحلقات الأولى من هذا البرنامج أجبت عن هذا السؤال، وقلت لهم إني كنت متشدداً في هذا وظللت متشدداً يمكن حوالي عشرين سنة، ومن عدة سنوات يعني أصبحت أفتي بمذهب الإمام أبي حنيفة وهو أيضاً قول بعض الحنابلة إنه المسلم خارج دار الإسلام -وهذا تعبير الحنفية - في دار الحرب، وبعض الناس بيفهموا دار الحرب يعني اللي فيها حرب لأ، الحنفية عندهم تقسيم ثنائي ما ليس بدار إسلام اسمه دار حرب، حتى لو ماكانش فيها حرب، فالحنفية يقولون: يجوز للمسلم أن يتعامل بالعقود الفاسدة ومنها عقد الربا، يعني مع غير..
أحمد منصور: غير المسلمين .. نعم.
د.يوسف القرضاوي: المسلمين .. بشرطين، الشرط الأول أن يكون في ذلك منفعة للمسلم والشرط الثاني ألا يكون في ذلك غدر ولا خيانة بغير المسلم، فهذه الأشياء أنا-طبعاً-لم أجز، لم آخذ بهذا الرأي على إطلاقه ولم أفتح الباب على مصراعيه، إنما أجزت هذا لمن يحتاجون إلى البيوت للسكنى.
أحمد منصور[مقاطعاً]: ولا يجدون بنوك إسلامية يتعاملوا معها..
د. يوسف القرضاوي: ولا يجدون بنوك إسلامية يتعاملون معها فهؤلاء يستطيعون أن يأخذوا بالمذهب الحنفي ويشتروا هذه البيوت لأنه تحقق.. يجدون في هذا منفعة إن الإيجار الذي يدفعونه يعني يصبح الآن قسط وبعد عشرين سنة أو نحو ذلك يصبح هذا البيت ملكاً لهم، ومن ناحية أخرى هذا ليس فيه أي غدر ولا خيانة لأنه هذا حسب الأنظمة المعمول بها وبرضا صاحب البيت ولا حرج في ذلك. فهذا يعني ما .. ما أفتي به.(1/372)
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، أشرك معي الدكتور فؤاد البرازي (عضو المجمع الأوروبي للإفتاء والبحوث من الدنمارك). دكتور فؤاد.
فؤاد البرازي: السلام عليكم ورحمة الله.
أحمد منصور: عليكم السلام. دكتور فؤاد، ما هو الهدف من إنشاء المجمع الأوروبي للإفتاء والبحوث بعجالة لو سمحت؟
فؤاد البرازي: لقد حدد الباب الثاني من النظام الأساسي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أهدافه فيما يلي:
الأول: إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية والعمل على توحيد الآراء الفقهية فيما بينهم حول القضايا المهمة.
أحمد منصور [مقاطعاً]: هذا في أوروبا ..
فؤاد البرازي: نعم .. الثاني إصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا وتحل مشاكلهم مع المجتمعات الأوروبية في ضوء قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية
أحمد منصور: ثالثاً؟
فؤاد البرازي: الثالث إصدار البحوث والدراسات الشرعية التي تعالج الوقائع المستجِدة على الساحة الأوروبية بما يحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق.
الهدف الرابع: ترشيد المسلمين في أوروبا عامة، وشباب الصحوة الإسلامية خاصة عن طريق نشر المفاهيم الأصيلة والفتاوى الشرعية القويمة، تلك هي الأهداف الرئيسية
أحمد منصور[مقاطعاً]: دكتور، لماذا لم يشعر المسلمون في أوروبا حتى الآن بأي جهد ملموس للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث رغم هذه الأهداف النبيلة التي أشرت إليها؟
فؤاد البرازي: لقد ذكرت أو إن هذا المجلس أقر نظامه الأساسي وأعلن عن تشكيله في الثلاثين من شهر آذار/ مارس عام 97، أي منذ حوالي..
أحمد منصور[مقاطعًا]: يعني قبل خمسة أشهر فقط يعني
فؤاد البرازي: يعني تقريباً ستة أشهر تقريباً، وكان المجلس في هذه الفترة مشغولاً بالترتيبات الإدارية وقد هُيئ المكان المناسب له في مانشيستر في بريطانيا ورقم هاتفه لمن يريد 00441614344544 ورقم الفاكس لمن يريد0044
أحمد منصور: بهدوء يا دكتور لو سمحت. دكتور، بهدوء لو سمحت.
فؤاد البرازي: طيب، 00441614914469 ومع هذا..
أحمد منصور: نعم .. هل يمكن دكتور، عفواً.. تذكر لو سمحت لنا العنوان البريدي لو سمحت أيضاً بسرعة؟
فؤاد البرازي: العنوان البريدي الآن بصعوبة ليس بيدي الآن ولكن من شاء أن يوجه رسائل فليوجهها عن طريق الفاكس وهو أمر طيب مع من هذا أقول..
أحمد منصور: أعطني ..دكتور لو سمحت أعتقد الآن جاهز العنوان مكتوب؟ هل يمكن.. هل يمكن أن يوضع العنوان للمشاهدين الراغبين؟ دكتور لو سمحت هل يمكن لأي مسلم في أوروبا أن يتصل بكم على هذه الهواتف والفاكس للحصول على الفتوى التي يريدها؟
فؤاد البرازي: أيوه، يمكن بسهولة أن يتصل وأمامي الآن على الشاشة رقمي الهاتف والفاكس للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ويمكن للمشاهدين في أوروبا الاتصال على هذا المجلس على هذه الأرقام.
أحمد منصور: في أي الساعات يا دكتور لو سمحت؟
فؤاد البرازي: غالباً من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الساعة الثالثة بعد الظهر.
أحمد منصور[مقاطعاً]: بتوقيت بريطانيا؟
فؤاد البرازي: بتوقيت بريطانيا نعم.
أحمد منصور: اعتقد أن ذلك يمكن أن يسهم في حل مشكلات كثيرة للمسلمين المقيمين في بريطانيا والموجودين في أوروبا. أعتقد.. هل.. هل تريد أن يكون لك مداخلة مع فضيلة الدكتور القرضاوي؟
فؤاد البرازي: والله أريد فقط يعني أن أؤكد أولاً على قضية هي أن هذا المجلس -الحقيقة- اجتمع بحمد الله -تبارك وتعالى- في سراييفو بدعوة من رئيس علماء البوسنة وأنجز بعض الفتاوى الشرعية المهمة والتي ستصدر بعد ذلك - بمشيئة الله- مع مثيلاتها في كتاب مستقل، أُضيف إلى ذلك أن الآن هناك أسئلة عديدة وقضايا كثيرة يتولى أعضاء المجلس دراستها من أجل مناقشتها وإصدار الأحكام الشرعية فيها، مثل بيان الحكم الشرعي في فتح حساب جار في البنوك الأوروبية وإعطائها المودعين فوائد ربوية قليلة تترتب بشكل إلزامي على..
أحمد منصور[مقاطعاً]: صحيح ولدي بعض الأسئلة في هذا المجال نعم.
فؤاد البرازي: جيد، كما يدرس أعضاء المجلس بطاقات الائتمان التي تسمى في أوروبا " visa card"، وما يترتب عليها من فوائد ربوية فيما لن.. فيما لو لم يكن عند صاحبها رصيد في البنك، وما يتعلق بهذا الموضوع من أسئلة وإجابات، ثم بيان البديل الشرعي عن هذه البطاقات فيما لو كانت تلك غير جائزة، وأخيراً مسألة مهمة أيضاً من هذه القضايا التي أُحليت إلى المجلس: هل يجوز للمسلم المقيم في أوروبا الاقتراض من البنك بفوائد ربوية لإقامة مشروع تجاري إذا لم يجد عملاً في البلد الذي يقيم فيه بسبب انتشار البطالة؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها مما يتعلق بشؤون المسلمين في أوروبا مطروحة حالياً للدراسة لإصدار الفتاوى الشرعية فيها.
أحمد منصور[مقاطعاً]: شكراً لك يا دكتور وإذا كان لدى فضيلة الدكتور القرضاوي تعليق أو مداخلة حول هذا الأمر.
د. يوسف القرضاوي: آه.. هو الموضوع -الحقيقة- يعني كما ذكر الأخ الدكتور فؤاد. هذا المجلس له أهدافه وله بواعثه وقد أصدر عدداً من الفتاوى والأشياء المهمة ولكن مشكلته-الحقيقة- هي المشكلة التي هي مشكلة كل مشروع إسلامي.(1/373)
أحمد منصور: ما هي. فضيلتك؟
د. يوسف القرضاوي: مشكلة التمويل.
أحمد منصور: آه .. نعم نعم.
د. يوسف القرضاوي: مشكلة التمويل .. والواقع إننا نحن المسلمين في حاجة إلى أن نعرف كيف نمول مؤسساتنا الـ .. المهمة، كثير من المسلمين يعني لا.. لا يدفعون إلا للجوامع لبناء الجوامع، والجوامع لا تكفي وحدها، الجوامع لا تستطيع أن تحيي مجتمعاً مسلماً ولا أن تحفظ دينًا مسلماً، لابد من الجوامع من مدارس ومن مدارس مؤسسات، ولابد من هذه المجالس ولذلك يعني هذا المجمع في غاية الأهمية، وقد أصدرنا -الحقيقة- في سراييفو.
أحمد منصور: صحيح.
د. يوسف القرضاوي: عدد من الفتاوى والبحوث يحتاج إليها المسلمون في أوروبا وفي الغرب بصفة عامة وفي كل مكان، ولكن حتى لا نستطيع.. كثير من الإخوة لم يستطيعوا أن يحضروا في سراييفو، لأن لم يستطيعوا أنه.. المجلس ليس له مالية وليس له ميزانية، فالذين ذهبوا ذهبوا على حسابهم أو على حساب الجهات التي..
أحمد منصور[ مقاطعًا]: يعني فضيلتك تدعو إلى المساهمة في دعم المجلس؟
د. يوسف القرضاوي: أنا أدعوهم لدعم ..يعني هذا المجلس هو محتاج إلى 40 ألف جنيه إسترليني.
أحمد منصور: سنوياً؟
د. يوسف القرضاوي: يستطيع أحد المسلمين.
أحمد منصور: هذه ميزانية سنوية؟
د. يوسف القرضاوي: ميزانية سنوية
أحمد منصور: المسلمون في أوروبا أغنياء يا مولانا.
د. يوسف القرضاوي : يستطيع واحد من المسلمين أن يقوم بهذا ويقول أنا أصرف على هذا، يعني ما.. ياما هناك أناس يصرفون في بعض الرحلات أضعاف هذا المبلغ، فأنا أدعو المسلمين أن يدفعوا لهذا المجلس سواء كانوا في أوروبا أو في خارج أوروبا، من الزكوات، من الصدقات والتبرعات، من الأوقاف، من الوصايا، حتى ممن ..من الأموال المشبوهة، لو واحد جاله فوايد أو كذا ممكن يدفعها لهذا المجلس، وحتى نستطيع أن نحيي مؤسساتنا، فأنا أدعو المسلمين لمعاونة هذه المؤسسات حتى نحفظ الجيل الإسلامي أو الأجيال الإسلامية في بلاد أوروبا وفي بلاد الغرب بصفة عامة، وهذا من خير الأعمال وأعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى.
أحمد منصور: وندعو المسلمين في أوروبا أيضاً أن يسهموا في هذا العمل .. حتى..
د. يوسف القرضاوي: نعم، طبعاً المسلمين في أوروبا هم أول من يجب أن..أن.. أن يسهموا في هذا، لأن هذا عمل لخدمتهم، وهناك من المسلمين في أوروبا من عنده قدرة، هناك مسلمين يملكون الأموال والملايين للأسف ونحن نعرف، وقد عرفنا في المدة اللي فاتت من يملكون المليارات من المسلمين، هؤلاء لماذا لا يتبنون هذه المؤسسات؟ فنسأل الله سبحانه وتعالى..
أحمد منصور: يعني الآن العبء - حضرتك - شرعاً وفقهاً أصبح على مسلمي أوروبا أن يدعموا هذا؟
د. يوسف القرضاوي: أصبح على مسلمي أوروبا بصفة خاصة.
أحمد منصور: ثم المسلمين في الشرق.
د. يوسف القرضاوي: وعلى المسلمين بصفة عامة -إن شاء الله- حتى يحيا هذا المجلس ويقوم بدوره المنشود.
أحمد منصور: معي الأخ محمد من النرويج.
محمد: سلام عليكم.
أحمد منصور: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: هناك فاكسات لم يعني..
محمد: بالنسبة للسؤال الأول، ما كانت الإجابة تامة، لأن أنا ذكرت حديثين، الحديث الثاني لا تتنارى نار المسلم ونار المشرك أو كما قال صلى الله عليه وسلم وذكرت أنت يا شيخ في..
أحمد منصور[مقاطعاً]: يا أخ محمد لو.. لو تسرع لو سمحت لأن وقت البرنامج أوشك على الانتهاء وأنت يعني أخذت سؤالاً غيرك له أسئلة كثيرة، وأطرح سؤالك على الشيخ وكان هو يسأل عن الصفات التي يجب أن تتوفر -هو اتصل في أول البرنامج- ويبدو أنه يكرر طلبه، يسأل عن الصفات التي يجب تتوافر .
د. يوسف القرضاوي:هو أنا قلت يا أخي هذا الحديث له مساق وهو نفس بقية الحديث المسلم والمشرك لا تتراءى نارهما، المشرك المعادي للمسلمين إنما إذا أنت في بلاد تفتح لك يعني أبوابها وتفسح لك للعيش فيها.. هذا ليس مشركاً معادياً.
أحمد منصور: فضيلة الدكتور، هنا رسالة من أبو حسين من لندن هو يعلَّق على بعض ما ذكرته -فضيلتك- يقول ذهبنا لزيارة إحدى المدارس الإنجليزية تتبع الكنيسة الإنجليزية وجدنا فيها مكان للوضوء ومكان للصلاة خاص بالطلاب والطالبات وهو يعني سُرَّ لوجود احترام للمسلمين. لدي عدة أسئلة هنا عن الطلاق في الغرب وعندي فاطمة من بريطانيا تسأل عن حكم نفقة وحقوق المرأة المطلقة التي تريد أن تطلق على القانون المدني الأجنبي ونفس السؤال عندي من عبد المنعم من الدنمارك ونفسه من..
د. يوسف القرضاوي:أنا أرى أن نجعل الحلقة القادمة لهذه الأمور، يعني فقه الأسرة والأحوال الشخصية والمعاملات المدنية في الغرب بصفة عامة، لأن هذه قضية تحتاج إلى شيء من التفصيل ولا أظن ما بقى من البرنامج يتسع للإجابة عن هذا ومن حق إخوتنا الذين أرسلوا هذه الفاكسات -الحقيقة- أن نجيب عنهم إجابة شافية.
أحمد منصور: يعني أيضاً نخصصها لفقه الأسرة في الغرب؟
د. يوسف القرضاوي: لفقه الأسرة أيضاً في.. في الغرب وهو يعني تابع للموضع إن شاء الله.
أحمد منصور: خير إن شاء الله.(1/374)
مشاهدينا الكرام، نأمل أن نكون تمكنا خلال هاتين الحلقتين عن فقه الاغتراب من وضع الأسس التي تؤهل المسلمين في أرجاء الدنيا لفهم دينهم والالتزام به، والحلقة القادمة، رغم إننا كنا سنتناول وضع غير المسلمين في المجتمع المسلم إلا أننا سنؤجلها لما بعدها، ونتناول حقوق أو الأسرة المسلمة في الغرب كما أشار فضيلة الدكتور، وللإخوة الراغبين في إبراز مشاكل الأسرة الموجودة في الغرب أن يتصلوا على هواتف البرنامج.
نتوجه بالشكر الجزيل إلى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، كما نشكركم على حسن متابعتكم، في الأسبوع القادم -إن شاء الله- نتناول موضوع الأسرة المسلمة في الغرب. في الختام أنقل لكم تحيات فريق البرنامج، وهذا أحمد منصور يحييكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(( تنبيه - يوجد أخطاء عديدة في فتاوى القرضاوي تدل على تساهله الذي لا يجوز الأخذ به لمخالفته للنصوص الصحيحة الصريحة )) علي
===============
فوائد ودروس وعبر السياحة
للسياحة فوائد قد يعجز الإنسان عن إدراكها جميعاً، أو تعدادها على سبيل الحصر. وما ندركه اليوم قد يستدركه غيرنا غداً، لتبقى سنة التطور والتطوير، والجدد ضاربة عبر التاريخ والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
1- فمن هذه الفوائد التعرف على آيات الله في خلقه.. في أجناس الناس وألوانهم وألسنتهم.. في عاداتهم وتقاليدهم، في أفكارهم وثقافاتهم، وفي طباعهم وأمزجتهم، في ميولهم وهواياتهم.. فيزدادوا إجلالاً لله وتعظيماً لقدرته، وإقراراً بعظمته، وإقبالاً على طاعته، ورجاء بعفوه ومغفرته.
(ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لأياتٍ للعالمين) سورة الروم : الآية 22
2- ومن فوائد السياحة التعرف على آيات خلق الله في الأرض واخنلاف تكوينها وتضاريسها ومناخاتها ومعادنها وكنوزها وأنهارها وبحارخا وثرواتها، وفوارق ليلها ونهارها، وحرها وبردها:
n( إنَّ فِى خَلقِ السَّمَواَتِ وَالأَرضِ واختِلاَفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ لأَيَاتٍ لأولِي الأَلبَابِ) سورة آل عمران: الآية 190.
n (وَالأَرضَ فَرَشنَهَا فَنِعمَ الماهِدُونَ) سورة الذاريات: الآية 48.
n (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىءٍ مَّوزون) سورة الحجر: الآية 19.
n (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) سورة الحج: الآية 46.
n (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) سورة الأنبياء: الآية 31.
n (أمَّن خلق السموات وألأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون، أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أءله مع الله بل أكثرهم لايعلمون، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون، أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته أءله مع الله تعالى الله عما يشركون) سورة النمل: الآية 60 - 63.
n (خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظلمون في ضلال مبين) سورة لقمان: الآية 10، 11.
3- ومن فقه السياحة: التعرف على نهايات الظالمين، وعاقبة المجرمين ومصير الطغاة والجبارين، لتطمئن النفس إلى أن العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
n قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الأخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) سورة يوسف: الآية 109.
n وقال سبحانه: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أثكر منهم وأشد قوة وءاثاراً في الأرض فما أغنى ما كانوا يكسبون) سورة غافر: الآية 82.
n وقال جل جلاله: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثلها) سورة محمد: الآية 10.
إنه تأكيد رباني على أن سنة التدافع بين الحق والباطل ستنتهي لا محالة بانتصار الحق وأهله، وهزيمة الباطل وجنده.. ولو بعد حين (بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق) سورة محمد: الآية 15.
- في ألمانيا مررنا بمقر قيادة (هتلر) - الرايخ - الذي أطبقت جيوشه في فترة من الزمن على روسيا ومعظم الدول الأوروبية.. ثم أصبح أثراً بعد عين، وذكرى للتاريخ بعد هزيمة نكراء؟
- وفي إيطاليا تذكرنا ما فعله الديكتاتور موسوليني، وما اقترفه من جرائم بحق الشعوب الأوروبية وبعض الشعوب العربية مستذكرين ثورة عمر المختار وانتفاضة الشعب الليبي المسلم. فالعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين؟(1/375)
- وفي مصر تذكرنا الفراعنة القدامى والجدد وظلمهم وبغيهم (إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طآئفة منهم يذبح أبناءهم ويستحىِ نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين اسنضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) سورة القصص: الآية 5،4.
- وفي فلسطين مررنا بالبحر الميت وتذكرنا قصة آل لوط والمصير الأسود الذي لقيه أهل (سدوم وعمورة) بسبب فحشهم وشذوذهم.. (كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا ءل لوط نجيناهم بسحر) سورة القمر: الآية 34،33. وهكذا لا نكاد نمر ببلد إلا والعبرة ماثلة: (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) سورة ق: الآية 37.
4- ومن فوائد السياحو والسفر التعرف على ما لدى اللآخرين من علوم وفنون ومستجدات ومبتكرات وأساليب. والحكمة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)). فالحياة مدرسة تتسع وتضيق بقدر اتساع أو ضيق دائرة تعرف الإنسان عليها زماناً ومكاناً وظرفاً.. فالإنسان ابن محيطه. فمن كان حبيس بيته كان ابن بيته، ومن كان حبيس قريته أو مدينته أو بلده كان ابن هذه الدائرة. أما من ارتحل في أرض الله الواسعة، يلتمس العبر، ويقلب الفكر، ويستطلع الأحوال والثقافات والمعارف والأعراف والتقاليد والتجارب.. فإنه لا شك سيكون أوسع نظراً، وأعمق تصوراً، وأكثر خيراً، وأعظم أثراً، حيث يكون ابن عصره.
5- اقتباس العلوم والمعارف واتساع المدارك: ومن فوائد السياحة الاطلاع على ما لدى الآخرين من علوم وثقافات وحضارات وخبرات وتجارب ومهارات وعادات وتقاليد.. والأخذ بالمفيد منها، والمفعل للدور، والمطور للمشروع، والمقوي للأداء..
والملاحظ أن الذين لا يخرجون من دائرة بيئتهم، ومناطق ولادتهم وسكنهم يظلن أضيق أفقاً، وأقل معرفة وإدراكاً، وأبطأ تصوراً، وأقل عطاء من أولئك الذين يتجولون في أرض الله الواسعة، ويتنقلون بين البلاد والشعوب.
والإسلاميون بشكل خاص مطالبون بالسياحة لمعرفة زمانهم وما فيه من قوى وحضارات ومخترعات وتحديات وخصائص، للتعلم والتعليم، والأخذ والعطاء، والاحتكاك بالغير وإفادته والاستفادة منه في ضوء القاعدة النبوية (( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)).
6- ومن فوائد الياحة الاعتبار بتجارب الآخرين وما مر بهم من حرب وسلم، وضعف وقوة، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وتقدم وتخلف.. واستكشاف أسباب كل ذلك والاستفادة من كل ذلك عملاً بالمثل القائل "من رأى العبرة في غيره فليعتبر". ولقد كان الهدف من القصص القرآني التعلم والاقتباس والاعتبار.. (تلك القرى نقصّ عليك من أنبآئها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين, سورة الأعرلف:الآية 101. وفي آية أخرى (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين, سورة هود:الآية 120.
7- ومن الفوائد الجليلة للسياحة الدعوة إلى الإسلام سواءً لأهل البلاد أو للجالية الإسلامية الموجودة هناك. واليوم بات الأمر سهلاً وميسوراً لوجود المساجد والمراكز والمنتديات الإسلامية على امتداد العالم. فالدعوة إلى الإسلام في البلاد المختلفة لها فوئد كثيرة ومنافع جمة للداعية وللناس.
فبالنسبة لهؤلاء فإن أثر القادمين عليهم من بعيد أكبرمن أثر المقيمين بينهم, ثم هم بحاجة إلى من يستفتونه من مشاكل غربتهم وحياتهم الجديدة. راجع فقه الاغتراب من كتابنا نحو صحوة إسلامية على مستوى العصر.
أما بالنسبة للدعاة فإن إطلالاتهم الاغترابية وما تحتاجه من إرشاد وتوجيه وتفقيه يتناسب مع البلاد التي يعيشون فيها, والمشكلات التي يواجهونها.. يعطيهم المزيد من الخبرات, ويقدح زناد عقلهم بالجديد من الآراء والأفكار والاجتهادات التي تتناسب مع كل بيئة وبلد..وصدق الله العظيم حيث يقول:(وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) سورة التوبة:الآية 122.
8- ومن الفوائد التي فطن إليها الآخرون وسبقونا إليها ما يتعلق بالحركة الاقتصادية والنشاط الإنمائي.
إن السياحة يمكن أن تكون باباً واسعاً من أبواب التثمير, وإقامة المشاريع الصناعية والتجارية والاقتصادية, وتبادل السلع من خلال عملية التصدير والاستيراد.
والمشروع الإسلامي من خلال تكامله يحتاج إلى إلى القوة الاقتصادية, وبخاصة في عصر بات القرار السياسي مبيناً على الاعتبار الاقتصادي.
ولا أدل على ذلك مما وصل إليه اليهود من هيمنة على اقتصاد العالم وقطاعاته السياحية والمصرفية والصناعية والزراعية وغيرها..(1/376)
ولقد أدرك الأولون من سلفنا أهمية هذا الأمر فشكلوا القوافل التجارية, وجلبوا أقطار الأرض, يمارسون تجارة الدنيا والدين.. وكانوا يتنقلون على الحمر والبغال والجمال.. فيقصدون البلد تلو الآخر ولم تكن لديهم طائرات ولا سيارات وقطارات أو أي من وسائل النقل الحديثة..9- ومن فوائد السياحة الترويح عن النفس, والخروج من أسر الروتين المضني للجسم الممل للنفس عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت".
فالسياحة تجد النشاط, وتبعث الحيوية, وتشحذ الإرادة, وتصقل النفس, فيعود الإنسان إلى بلده وكأنه خلق من جديد, وخلقت معه طاقات لم يكن ليشعر بها, وفتحت أمامه آفاق لم يكن ليراها.
===============
حكم تجنّس المسلم بجنسيّة دولة غير إسلاميّة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
الجنسيّة مصطلح سياسي جديد يرجع تاريخه إلى قيام الدولة بمفهومها الحديث ، أي بعد الثورة الفرنسيّة ، ولذلك لا وجود لهذا المصطلح عند فقهاء الإسلام .
وأما الجنسيّة في الإسلام فإنها قائمة على أساس الدار ، فأهل دار الإسلام لهم جنسيّة واحدة ، وأهل دار الحرب لهم جنسيّة واحدة .
والمراد بدار الإسلام : الدار التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام وأما دار الحرب : فهي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ولا تظهر فيها ، وإنما تقام فيه أحكام الكفر (1).
معنى الجنسيّة :
لغة : الجنسيّة مشتقّة من الجنس ، وهو الضرب من كل شيء ، يقال : هذا يجانس هذا أي يشاكله .
وفي الاصطلاح ( القانون ) : الجنسيّة رابطة سياسية وقانونيّة بين الشخص ودولة معيّنة تجعله عضواً فيها وتفيد انتماءه إليها ، وتجعله في حالة تبعيّة سياسية لها (2) . فجميع الأفراد الذين ينتمون إلى الجنسيّة الواحدة يتمتّعون بالحقوق والواجبات على السواء .
الآثار المترتّبة على التجنّس :
أولاً : الحقوق ؛ ومنها ما يلي :
1-ثبوت حقوق المواطن العادي .
2-الحصول على الإقامة الدائمة لتلك الدولة .
3-له أن يتولى الوظائف العامّة في تلك الدولة من قضاء أو مناصب عسكرية أو مدنية ونحوها .
4-يتمتّع بالحماية الدبلوماسيّة لشخصه وأمواله في حالة وجوده في دولة أجنبيّة .
ثانياً : الواجبات ، وأهمها :
1-التحاكم إلى قوانين تلك الدولة في كل شؤونه ( الماليّة والاجتماعيّة والسياسية )
2-المشاركة في بناء تلك الدولة بكل مواهبه وقدراته .
3-الدفاع عن هذا البلد ومصالحه وتنفيذ أغراضه . بما في ذلك الخدمة في الجيش وغير ذلك .
الحكم الشرعي للتجنّس :
من خلال ما سبق في تعريف الجنسيّة وما يترتّب عليها من آثار يمكن أن نصل إلى النقاط التالية .
1-أن الأصل في التجنّس التحريم لأن فيه تعاهداً بقبول التحاكم إلى القوانين الوضعيّة المضادّة لأحكام الشريعة ، وقد قال تعالى : ] فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما [ . ، وقد يكون الرضى بالجنسيات الكافرة والتفاخر بها والاعتزاز بالانتماء لها وتفضيلها على الجنسيّة الإسلاميّة كفرا وردّة عن الإسلام (3) . ولأن من واجبات التجنّس الدفاع عن الدولة الكافرة ومصالحها ، وإن كان المحارب لها مسلماً وهذا من أعظم صور الموالاة للكفّار ، قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ .
2-البلاد الإسلاميّة التي احتلها المستعمر وصار المسلمون فيها أقلّة كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي سابقاً ويوغسلافيا ، فهؤلاء يجوز لهم التجنّس بجنسيّة تلك البلاد، لأنها بلادهم أصالة ، فهم أحق بها من الكفار ، ولأن ظهور الكفار حادث عارض وقد يزول ولو بعد حين ، ولحفظ حقوقهم وأموالهم ، لأن من لا جنسيّة له لا حق له في تلك المجتمعات (4) .
3-من يكون مضطهدّاً في بلده مهدداً في دينه أو نفسه أو أهله ولا يجد ملجأ إلاّ في الدول الكافرة فهذا إما أن يكون قادراً على تحصيل حقوقه دون تجنّس فالواجب عليه الاحتفاظ بجنسيّته المسلمة ، وإما ألاّ يكون قادراً على تحصيل حقوقه إلاّ بالتجنّس كمن يمنع من أوراقه الأصليّة ، فهذا يجوز له التجنّس بالجنسيّة الكافرة إن لم يجد غيرها حتّى يحفظ نفسه وأهله ، فتلك ضرورة تقدر بقدرها ، وقد علم أنه يباح من المحظور بقدر مايدفع الاضطرار ، قال تعالى : وقد فصل لكم ماحرم عليكم إلا مااضطررتم إليه . والله تعالى أعلم .
-----------------
(1)- انظر : الأحكام السياسيّة للأقليات المسلمة لسليمان محمد توبولياك (15،17) .
(2) - المراجع السابق ( 76-77) ,
(3) - الأحكام السياسية للأقليات المسلمة (81) .، بحوث في قضايا فقهيّة معاصرة محمد تقي العثماني ص (321)
(4) - الأحكام السياسية ( مرجع سابق ) ص83 .
ملاحظة : الموضوع منقول من موقع الاسلام اليوم على الرابط التالي:
================
الأسلمة في الغرب واختراق الخارطة الأوروبية بالقوة الذاتية..!!
برلين - صلاح الصيفي 20/4/1428
07/05/2007(1/377)
على الرغم من الدعاوى وحملات التشهير ضد الإسلام ونبيه الكريم والتي كشف الغرب عنها في أبشع صورها بما يتناقض مع مزاعم الحرية والديموقراطية وعدم التمييز العنصري؛ إذ أخذت هذه الحملات عدة أشكال من بينها التصريحات العنصرية ضد المسلمين من قبل رجال دين مسيحيين أو سياسيين، والتهجم على القرآن الكريم وحجاب المرأة المسلمة، واستمرار وسائل الإعلام من صحافة وفضائيات ومراكز ثقافية فى التطاول على شخص النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى رسالة الإسلام، إضافة إلى التضييق المستمر على المسلمين ومؤسساتهم الدينية والعلمية والثقافية وعلى حرياتهم الشخصية وتحركاتهم في الدول الغربية، وعلى الرغم من جدران برلين الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية والإستراتيجية المتعددة التي أقامها الغرب بينه وبين الإسلام منذ طرد المسلمين من الأندلس ومروراً بالحركات الاستعمارية، ووصولاً إلى الغارة الكبرى على عالمنا الإسلامي، إلاّ أن الإسلام استطاع أن يصل إلى جغرافيا الغرب تماماً، كما تمكن الغرب سابقاً وحالياً في الوصول إلى مواقعنا على متن البواخر الحربية والطائرات والدبابات، ولكن الفرق بين اختراق الغرب وقدومه لمواقعنا الجغرافية وذهاب الإسلام وانتشاره في مواقع الغرب الجغرافية تكمن في أن الغرب جاء إلى مواقعنا بقوة السلاح، أما الإسلام فقد اخترق الخارطة الغربية بقوته الذاتية وتعاليمه ومبادئه العظيمة وقيمه السامية وسط الشباب والشابات والأكاديميين الغربيين حتى أصبحت ظاهرة في حد ذاتها ما زال الغربيون يبحثون في أمرها حتى اليوم، فتفرغت مراكز الدراسات والمؤسسات الغربية لرصد هذه الظاهرة ومحاولة الوصول إلى الأسباب والدوافع وراء إقبال الآلاف من الشباب والفتيات وفئات مختلفة على الإسلام.
دراسات وتقارير
فقد أظهرت دراسة حديثة وضعتها مؤسسة (سويست) للأرشيف الإسلامي في ألمانيا أن أكثر من (4000) ألماني من ديانات وطوائف مختلفة تخلى عن دينه، واعتنق الإسلام ما بين شهر يوليو عام 2004 ويونيو عام 2005، أي أربعة أضعاف عدد عام 2003، وأشارت الدراسة نفسها إلى أن أهم أسباب اعتناق الإسلام في السابق كان محصوراً بالنساء الألمانيات اللواتي يتزوجن من مسلمين، إلاّ أن الوضع تغير الآن، وأصبح اعتناق الإسلام لدى الرجال والنساء لأسباب أخرى منها البحث عن الهدوء النفسي والراحة الداخلية حسب اعتقادهم والشعور بالقرب من الآخرين أو التقرب من الشرق الساحر.
وفي دراسة أخرى وضعتها نفس المؤسسة أشارت إلى أن عدد المسيحيين الألمان الذين اعتنقوا الاسلام عام 2005 وصل إلى (1.152) ليصل عددهم الإجمالي إلى (13) ألفاًً، و على الرغم من عدم وجود إحصائيات لعدد معتنقي الإسلام لعام 2006 إلاّ أن المؤسسة تتوقع وصوله إلى (5000) مسلم.
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخرًا ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخرًا، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يوميًا من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد".
كما ورد في التقرير إلى أن عدد المعتنقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى(60) ألفا مؤخراً، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، والكثير منهم من شباب المدن ومن طبقات المجتمع المختلفة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياًً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية، والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: "إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام.
أعداد كبيرة وقلق أوروبي(1/378)
وقد أشارت التقديرات المبدئية المتوفرة حول عدد المسلمين في الغرب، والتي قامت بها المؤسسات الإسلامية والمؤسسات غير الرسمية، وأحياناً المؤسسات الكنسية والبحثية أن عدد المسلمين في الغرب وصل إلى (30) مليون مسلم من مجموع سكان أوروبا البالغ (705) ملايين نسمة، ففي فرنسا بلغ عدد المسلمين ستة ملايين مسلم الأمر الذي جعل الإسلام هو الديانة الرسمية الثانية بعد الكاثوليكية، وسبعون بالمئة منهم قدموا إلى فرنسا من المغرب العربي، وحسب دراسة للمجموعة الأوروبية صدرت في العاصمة البلجيكية بروكسل في سنة 2001 فإن المهاجرين يساهمون بنسبة 14.7% من الناتج المحلي الفرنسي، وفي ألمانيا فقد بلغ عدد المسلمين قرابة أربعة ملايين نسمة، وفي بريطانيا تجاوز عدد المسلمين فيها مليوناً و 700 ألف مسلم، وفي إيطاليا، تجاوز عدد المسلمين المليون، وفي هولندا بلغ عددهم (900) ألف مسلم، وفي بلجيكا (600) ألف مسلم، وفي السويد نصف مليون، وفي سويسرا (400) ألف مسلم، وفي إسبانيا (400) ألف مسلم، وفي النمسا قرابة النصف مليون، وفي اليونان (700) ألف مسلم، وفي الدانمارك قرابة (200) ألف مسلم، وفي فلندا (60) ألفاً، بالإضافة إلى وجود مئات الآلاف من المسلمين في الدول الأوروبية التي انضمت أخيراً إلى الاتحاد الأوروبي.
وقد كشفت هذه الأعداد الهائلة من المسلمين في مختلف الدول الأوروبية أن حركة الإنجاب بين المسلمين كبيرة للغاية، وحسب الخبراء الدارسين لهذه الظاهرة فإن ذلك يعود إلى التقاليد الإسلامية الحريصة على مفهوم العائلة الكبيرة المتضامنة، أو أن ذلك يعود إلى رغبة هذه العوائل المسلمة بالاستفادة من الامتيازات التي يوفرها الضمان الاجتماعي الأوروبي للعوائل الكبيرة من خلال ما يُعرف بنقدية الأطفال.
وقد بدأت هذه الأرقام والإحصائيات تثير القلق والرعب في الدوائر الغربية لا سيما وأن كماً هائلاً من الدراسات التي أنجزها خبراء في مجال قراءة المستقبل وتحليل الثقافة الرقمية المبنية على الإحصاء والاستطلاع الموسع يؤكد أن المسلمين قد يصبحون نصف سكان القارة الأوروبية بعد خمسين سنة، وبخاصة إذا استمر إنجابهم على الوتيرة التي هم عليها الآن، إضافة إلى المستوى التعليمي الكبير للأجيال المسلمة الجديدة وانتشار حركة الأسلمة بين الغربيين أنفسهم؛ إذ أصبح المواطن الغربي المسلم هو الذي ينقل الإسلام إلى بقية المواطنين الأوروبيين، بل إن بعضهم بات يعلن أنه صاحب الشرعية في تمثيل ونشر الإسلام في الغرب، وهو الاختراق الخطير الذي رُصدت له ميزانيات ضخمة وكُلفت جهات بحثية وأمنية لدراسة أبعاد هذه الظاهرة ورصد منحنياتها؛ إذ إن اتساعها قد يفضي إلى تقوية الوجود الإسلامي في الغرب وجعله محصناً.
مواجهه الأسلمة
أصبح انتشار الإسلام بين فئات كثيرة من المواطنين في الغرب مصدر هلع ورعب في الأوساط الرسمية والإعلامية، فأصبح هناك تمويل هائل لمئات المراكز الاستشراقية التي ترصد حركة مستقبل الإسلام في الغرب، كذلك بدأت الدوائر الغربية وضع خطط تقضي على شبح الأسلمة الذي قد يهدد مستقبل الغرب، ومن هذه الخطط فصل الجيل المسلم المولود في الغرب عن آبائه عبر بذل جهد مضاعف لجعل هذا النشأ الإسلامي ذائباً في الخارطة الغربية منسجماً مع ثقافتها وعقيدتها، وقد حقق في هذا المجال بعض النجاح حيث بات مألوفاً أن يصبح للشابة المسملة عشيق غربي يعاشرها ساعة تشاء، وقد يحدث أن تجلب عشيقها هذا إلى بيت أبيها كما حدث مع عشرات العوائل المسلمة، وعندما أراد الأب المسلم أن يسيطر على سلوك ابنته، تهرول البنت إلى سماعة الهاتف لتطلب الشرطة وبالطبع تجد تأييداً ودعماً لا محدود.
وهناك إستراتيجية أخرى يتم تنفيذها في الغرب وهي تسهيل و"الحث" أحياناً على الطلاق بين المرأة والرجل المسلمين، على أساس أن الأبناء تضمحل شخصيتهم وتضعف في ظل أسرة هزيلة ومشتتة، وقد يحتدم العراك بين الرجل وزوجته، وعندها تحكم المؤسسات الاجتماعية بعدم أهلية هذه الأسرة لرعاية الأطفال، على أساس أن الأطفال يحتاجون إلى دفء عاطفي وحنان واستقرار نفسي، وهذا الحكم كفيل بتوزيع الأبناء على العوائل الغربية.
وهناك أيضاً المدارس الغربية التي أصبحت تركز كثيراً على تدريس مادة الجنس، وهي مادة ضرورية في المناهج التعليمية الأوروبية، وأحياناً وعلى الرغم من أن الصف يكون معظمه من المهاجرين العرب والمسلمين فإن المعلمة تسترسل في توصيفات من شأنها أن تفجر الشهوات المكبوتة لدى الأطفال وخصوصاً في سن المراهقة، وهذا ما يجعل نسبة الفساد الخلقي بين الأطفال المراهقين مرتفعة بشكل كبير.(1/379)
... ولكن على الرغم من كل المؤامرات التي تُحاك ضد الإسلام والتي تزداد شراسة يوماً بعد يوم، إلاّ أن قطار الأسلمة إلى الغرب لن يتوقف وسوف يسير بقوته الذاتية ومعجزته القرآنية وليس بسواعد المسلمين، يقول الله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:8-9]. صدق الله العظيم... فهل سيكون الإسلام هو الدين الأول على مستوى العالم؟
===============
الشراء عن طريق البنك هو الربا بعينه
تعليقاً على مقررات المؤتمر الفقهي الأول لرابطة علماء الشريعة الذي عُقد في شهر نوفمبر الماضي في مدينة ديترويت.
للمسلمين في أمريكا الشمالية خاصة وللمسلمين في أقطار الأرض عامة
شراء البيوت عن طريق البنوك هو الربا بعينه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإشارة إلى المؤتمر الفقهي الأول لرابطة علماء الشريعة في أمريكا الشمالية المنعقد في مدينة ديترويت بولاية متشغان بالولايات المتحدة الأمريكية في الفترة 10-13 شعبان 1420 هجري الموافق 19-22 نوفمبر 1999م وإشارة إلى القرار (ثانياً) المتعلق بحكم شراء المنازل عن طريق قروض ربوية من بنك ربوي والذي جاء فيه أنه ذهب أكثر المشاركين في المؤتمر إلى جواز التملك للمسكن عن طريق القروض الربوية إذا لم توجد البدائل الشرعية "للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة" وادعوا أنَّ الحاجة لا تندفع بالاستئجار لأنه لا يخلو من عقبات كثيرة. كما جاء فيه "وهناك من يرى المنع من استخدام طريقة التسهيلات البنكية (أي شراء البيوت عن طريق القروض الربوية) ولو تحققت الحاجة التي تُنزّل منزلة الضرورة، وأنه ينبغي الاكتفاء بالاستئجار كبديل عن التملك" ولا شك أنَّ الحاجة تندفع إذا تيسر الاستئجار وشرط الذين أجازوا شراء البيوت عن طريق القروض الربوية ما يلي:ـ
1- أن يكون المسلم خارج ديار الإسلام.
2- أن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية.
3- أن يقتصر التملك على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه، وليس للتجارة أو الاستثمار.
أقول ونحن نُرحب ببحث المشكلات والمسائل ولكن ليس بهذه الطريقة المتسرعة، وبما أنَّ صِياغة القرار غير دقيقة، فإيضاحاً للواقع وإبراءً للذمة وتحذيراً للمسلمين لئلا يُخدعوا بهذا القرار فيقعوا في حُرمة التعامل بالربا عن غير علمٍ ولا تبين، اُبيِّنُ ما يلي:ـ
أنَّ الذين لم يُوافقوا على هذا القرار هم أكثر المشاركين المدعوِّين من خارج أمريكا من علماء الشريعة وأهل الاختصاص والفتوى ولا عِبرة بالكثرة إذا لم يكونوا من أهل الفتوى أو أهل الاختصاص الشرعي فقد حشدت إدارة المؤتمر أشخاصاً ليسوا من أهل الاختصاص في العلوم الشرعية بل لقد عدُّوا من بين العلماء والأئمة المشاركين الأستاذ بيتر سميت وهو غير مسلم ومنهم اقتصاديون وتربويون… إلخ وعمدوا إلى عدم ذكر أسماء بعض المشاركين، فقد شطبوا اسمي من قائمة المشاركين مع أنني مدعو ومن أبرز غير الموافقين على هذا القرار من العلماء المشهورين ما يلي:ـ
1- الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة دمشق.
2- الأستاذ الدكتور محمود الطحان أستاذ الحديث بكلية الشريعة بجامعة الكويت.
3- الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر.
4- الأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجار أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر.
5- الأستاذ الدكتور علي الصوا أستاذ الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية.
6- الأستاذ الدكتور عتيق القاسمي أستاذ الفقه في الهند وعضو مجمع الفقه الإسلامي في الهند.
7- الشيخ عبد الله سليم من الهند ومقيم في أمريكا.
8- الشيخ موفق الغلاييني مدير المركز الإسلامي في مدينة آن أربار.
9- الدكتور حمود الصلوي من اليمن.
10- الدكتور شرف القضاة أستاذ جامعي في الأردن.
وغيرهم من العلماء الذي طلبوا من رئاسة المؤتمر ذكر أسمائهم في قائمة غير الموافقين على هذا القرار ولكن رئاسة المؤتمر رفضت طلبهم وبعد الإلحاح الشديد على هذا الطلب وعدت رئاسة المؤتمر بتلبية الطلب ثم نكثت بوعدها فلم تذكر أسماءهم وما أدري ما السبب؟
ثانياً: ما معنى أن يُباح الربا للحاجة للمسلم الذي يُقيم خارج دار الإسلام ولا يُباح للمسلم الذي يُقيم في ديار الإسلام؟ يعني هل يُباح للمسلم أن يتفلتَ من أحكام الإسلام إذا خرج من ديار الإسلام؟ مع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اتقِ الله حيثما كنتَ".(1/380)
ثالثاً: جاء نص الفقرة (ثالثاً) كما يلي: "قد تبيّن من البيانات التي قدمها بعض المختصين حول العقود المطبقة حالياً لتملك المساكن أنَّ بعض هذه العقود تقترب كثيراً من عقد بيع الأجل من حيث المضمون وأنه تُطبق هنا قاعدة ـ العِبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني وأنَّ تنقيحها ممكن بتغيير المصطلحات التقليدية المستخدمة فيها" انتهى نص الفقرة بالحرف الواحد.
وهذا أمرٌ عجيبٌ وخطيرٌ جداً ولم يُذكر في مداولات المؤتمر بل هو من عند رئاسة المؤتمر وهو يُشبه قول الكفرة في الربا ـ كما حكاه القرآن الكريم عنهم ـ ذلك بأنهم قالوا: (إنما البيع مثل الربا وأحلَّ الله البيع وحرم الربا) إنَّ الصيغة في العقود لها قيمتها ولا أريد الدخول في التفاصيل إذِ الأمر معروف لدى أهل العلم فلا يجوز تمييع الأمور حتى يختلط الحلال بالحرام فالحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ.
فبدلاً من العمل على إيجاد البدائل الشرعية ونُصح المسلمين بالثبات على التزام أحكام دينهم عمدت رئاسة المؤتمر إلى التحايل لإحلال الربا الذي حرمه الله بنصوص قاطعة واضحة في الكتاب والسنّة.
رابعاً: إنَّ سير المؤتمر والأجواء التي سادت جلسات المؤتمر غير سليمة وغير مألوفة في المؤتمرات التي تبحث في قضايا علمية مهمة وذلك لما يلي:ـ
1- لأنَّ طريقة انتخاب رئيس المؤتمر ونائبه والمقرر ونائبه لم تكن ديمقراطية وإنما كانت أشبه بطريقة الانتخابات في البلاد المتخلفة أو الدكتاتورية.
2- ولأنه لم يُؤخذ التصويت على القرارات في نهاية مناقشة كل بند من البنود المطروحة على المؤتمر.
3- ولأنه لم تُشكل لجنّة علمية متخصصة لدراسة كل بند من البنود المطروحة وإنما نُوقشت القضايا المطروحة بشكل جماهيري عام، يُعطى لكلِّ شخصٍ ثلاث دقائق ليُعلق على الموضوع المطروح.
4- ولأنه لم يكن بين أيدي أعضاء المؤتمر وثائق ولا إحصاءات ولا إثباتات تدل على الضرورة أو الحاجة العامة التي تُنزل منزلة الضرورة لشراء البيوت بالقروض الربوية.
5- ولأنه لم يُدع كل المشاركين في المؤتمر للنظر في القرارات والتوصيات على المشاركين في المؤتمر لإقرارها أو تعديلها وذلك خلافاً لما هو معمول به في المؤتمرات وخلافاً لما هو مذكور في جدول المؤتمر في اليوم الرابع وهو يوم الاثنين 22/11/1999م الذي ينص على بند لجنّة الصياغة وبند قراءة القرارات والتوصيات على المشاركين في المؤتمر.
فقد سافر رئيس المؤتمر ومقرر المؤتمر في صبيحة اليوم ولم تُقرأ على المشاركين في المؤتمر أية قرارات.
مناشدة :
وفي الختام أُناشد إخوتنا المسلمين في أمريكا الشمالية وفي كلِّ مكان من العالم ألا ينخدعوا بقرار هذا المؤتمر الذي يُبيح للمسلمين التعامل بالربا المحرم لشراء المنازل المريحة بدون ذكر الأدلة الشرعية على ذلك. وأُوصيهم بأن يلتزموا حدود الله تعالى في عدم الوقوع في الحرام ألا وهو الربا المقطوع بحرمته في الكتاب والسنّة فقد قال تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا وذروا ما بقيَ من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فهل ترضون أن تكونوا محاربين لله تعالى؟ بل إنَّ حُرمة الربا أشد من حُرمة الزنا فقد روى الإمام أحمد والطبراني في معجمه الكبير ـ رجال أحمد رجال الصحيح ـ عن عبد الله بن حنظلة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهمُ ربا يأكله الرجل ـ وهو يعلم ـ أشد من ست وثلاثين زنية) فهل ترضون أن تكونوا في الإثم أشد من الزُناة؟ أعيذكم بالله من ذلك.
هذا وإنَّ آكل الربا ومُوكله سواء في الإثم عند الله. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن رضي الله عنه أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومُوكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) كما أُوصيهم أن يُحافظوا على أحكام دينهم وعلى هويتهم الإسلامية في بلاد غير المسلمين وأن يعتزوا بالتمسك بتعاليم دينهم الحنيف وأن يعملوا على إيجاد الحلول الإسلامية والبدائل الشرعية لشراء المساكن فإنَّ في هذا القرار تعدٍ على أحكام الله كما أنَّ فيه إعلاناً بإفلاس وانهزام النظام الاقتصادي الإسلامي في إيجاد الحلول لمشكلات المسلمين الاقتصادية واللجوء إلى النظام الرأسمالي لحلِّ مشكلات المسلمين.
وأخيراً أقول لإخوتنا المسلمين المقيمين في أمريكا خاصة وفي بلاد غير المسلمين عامة، إنَّ الربا حرام بل هو من السبع الموبقات - أي المهلكات - وإنَّ حُرمته مقطوع بها ولا تُغيَّر هذه الحُرمة فتاوى بعض المتساهلين بالفتوى فدين الله واضح وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النّفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك النّاس وأفتوك).
أسأل الله تعالى أن يُثبتَ المسلمين عامة والمسلمين في غير ديار الإسلام خاصة على الالتزام بأحكام دينهم وعدم الوقوع في الحرام إنه تعالى سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد ربِّ العالمين.
أ.د. محمود الطحان
أستاذ الحديث الشريف بكلية الشريعة ـ جامعة الكويت ـ
والمقيم حالياً بتوليدو في أوهايو(1/381)
عن جريدة الزيتونة العدد 207 بتاريخ 8 من شوال 1420
==============
حكم أخذ الجنسية للمكره من دولة كافرة
[الكاتب: حمود بن عقلاء الشعيبي] الاخوة الليبيين (...) حفظهم الله تعالى:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فقد اطلعت على رسالتكم الطويلة الموجهة إلينا، التي تذكرون فيها حالتكم وما تعانونه من الملاحقة والمطاردة وعدم الأمن في بلادكم ولا في البلاد الأخرى، وقد يُلجئكم ذلك إلى أخذ الجنسية البريطانية لكي تأمنوا بذلك في تلك البلاد وفي غيرها من البلاد إذا سافرتم باعتباركم من حاملي الجنسية البريطانية فلا تتعرضون لأذى، وتسألون عن حكم ذلك؟ ثم ذيلتم رسالتكم بعدة أسئلة تطلبون الإجابة عنها؟
فنقول وبالله التوفيق يجوز حسب الحالة التي ذكرتم أخذ وطلب الجنسية البريطانية نظرا لحالتكم وما ذكرتم في السؤال.
ومما يدل على ذلك الأدلة الآتية:
1) قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا... الآية}.
فقد أجاز الله الكفر في حالة الإكراه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وطلب الجنسية المذكورة من هذا الباب، فقد جاز لكم ذلك لأنه ألجأتكم ضرورة الإكراه إلى ذلك، لكن بشرط أن يكون طالب الجنسية مبغضا للكفار معاديا لهم يرى البراءة منهم، قائما بدينه بقدر ما يستطيع.
2) قصة طلب الحماية والإجارة من الرسول صلى الله عليه وسلم من المطعم بن عدي، لما رجع من الطائف فلم يستطع أن يدخل مكة إلا بطلب الحماية من هذا الكافر، وبهذه الحماية استطاع أن يدخل مكة ويأمن فيها.
وهي مروية في السير، رواها ابن إسحاق في سيرته، وابن هشام في تلخيصه، وابن كثير في الفصول وفي البداية والنهاية.
3) انتفاع الرسول صلى الله عليه وسلم من حماية أبي طالب وبني هاشم وبني المطلب له، حيث كانوا يحمونه ويذبون عنه رغم كفرهم.
4) قصة حماية ابن الدغنة - سيد القارة - لما قام بحماية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لما خرج من مكة، فأجاره هذا الكافر وأعاده إلى مكة آمنا.
5) قصة الهجرة إلى الحبشة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمستضعفين في مكة: (الحقوا بأرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، فاحتموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه).
6) وقول ابن القيم رحمه الله لما تكلم عن تحريم الحيل قال: (لاخلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) اهـ [اعلام الموقعين: 3/191].
ومن أقوال أهل العلم في هذه المسألة ما جاء عن الزهري رحمه الله فيما روى عنه ابن حزم رحمه الله في المحلى، ويأتي نصه في كلام ابن حزم إن شاء الله.
ومن أقوال أهل العلم في هذه المسألة؛ ما قاله ابن حزم رحمه الله في "المحلى" قال: [في باب المرتدين/المسألة رقم: 2198] - لما تكلم عن من لحق بدار الكفر والحرب - قال: (وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليه ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لاشيء عليه لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور، وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور) اهـ
ومما تقدم من الأدلة يتبين؛ أنه يجوز لمثلكم أن يحمل الجنسية البريطانية، بشرط أن تكونوا كارهين لهم ولدينهم مع عدم موالاتهم. قائمين بما تستطيعون من الدين.
وأما ما ذكرتم من القسم أو التعهد عند أخذ الجنسية المذكورة؛
فما دام أنهم يخيرونكم بين القسم و التعهد ولكم مندوحة عن القسم، فتعملون بالتعهد وتضمرون الإيمان بقلوبكم بالله مع كراهيتكم لهم.
أما ما ذكرتم من مسألة التوقيع أو القسم أمام المحامي فلا حاجة لذلك، وما ذكرنا لكم يكفي إن شاء الله.
وأما ما ذكرتم في السؤال الأخير من الاستفهام عن التفريق؛ فلا فرق في ذلك.
هذا ما تبين لنا في ذلكم.
والله أعلم
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والتيسير والله يحفظكم.
أملاه؛ حمود بن عقلاء الشعيبي
في 5/6/1422 هـ
=============-===========
بوش! امنحني الجنسية الأمريكية
[الكاتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات]
بينما كان أحد المسافرين في طريقه إلى بلد عربي، وبصحبته أمه العجوز التي لا تكاد تمشي إلا متكئة على العصا، وزوجه التي تحمل طفلها الرضيع بين يديها، ومعهما طفلان آخران، إذ وصل المكان المعد لمنح التأشيرات، فوجد عدة نوافذ أمام كل نافذة من هذه النوافذ يقف العشرات من الزوار، فاحتار الرجل في أمره ماذا يفعل بأمه العجوز وأهله وأطفاله، فهم لا يقدرون على الوقوف.
وفجأة... أدرك الحل!(1/382)
أنها تلك النافذة التي ليس عليها إلا بعض الغرباء عن الوطن العربي... أجل أنه الحل، فأخذ يسعى وهو آخذ بيد أمه العجوز ويصرخ على زوجته وأبنائه: (هيا قبل أن يسبقنا أحد)، حتى وصل النافذة ووقف على الدور، وهو يسأل نفسه قائلاً: (ما لهؤلاء الناس يقفون في هذه الطوابير الكبيرة ويتركون هذه النافذة التي يجلس خلفها رجل وسيم بشوش لا تنقطع الابتسامة عن وجهه؟!).
ما كاد ينهي هذا التساؤل حتى وجد نفسه أمام الموظف، فقال له الموظف: (أين جواز سفرك؟).
فقال مبتسماً مسروراً: (هذا هو).
فنظر الموظف في هذا الجواز وقد أحمر وجهه وقدحت عيناه الشرر، وتغيرت نبرات صوته - الرجل في نفسه: (ويلي ماذا فعلت؟!) -
الموظف: (أمجنون أنت؟!).
الرجل: (لمَ ياسيدي؟!).
(هذا المكان مخصص لمن يحملون الجنسية الأمريكية).
(آسف سيدي، ولكن هل قدمت لي خدمة فأنت ترى وضعي؟!).
الموظف - في غضب -: (أغرب عن وجهي قبل أن أطلب لك الشرطي).
الرجل: (حسناً).
الرجل لأمه: (هيا يا أمي).
الأم العجوز:(هل انتهينا؟).
الابن: (ليس بعد، فعلينا أن نقف في هذا الطابور الصغير).
الأم: (لا أستطيع).
الابن: (اجلسي على المقعد حتى يأتي دورنا، وأنا سوف أحجز الدور).
الرجل ينظر إلى تلك الطوابير ويقول في نفسه: (ترى في أي طابور أقف؟ يا إلهي أنها طوابير كبيرة، ما علي... سأقف في هذا الطابور).
وقف في الطابور وزوجته من وراءه وعلى يديها طفلها الرضيع، وحولها ولديها. الرجل في الطابور: (ما لهذا الطابور لا يتقدم؟ أف لهذا الموظف لقد أتعبنا).
الزوجة: (خذ الطفل لقد تعبت منه).
الرجل: (حسناً).
الرجل لطفليه الآخرين: (أهدءا).
الزوجة لزوجها: (أبا محمد انظر هذا الطابور يتقدم أفضل).
أبو محمد: (صحيح، هيا أسرعي).
أبو محمد وزجه وأبناؤه في الطابور الجديد.
أبو محمد لأم محمد: (صحيح من يسمع كلام النساء يتعب، انظري إلى هذا الطابور فإن حاله أسوأ من الطابور الذي كنا فيه).
أم محمد: (هلا ذهبنا إلى ذلك الطابور؟).
أبو محمد: (لا هذا يكفي، عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة).
أبو محمد ينظر إلى نافذة الأمريكان ويقول: (ما أسعدهم لا يوجد عندهم طابور مثلنا).
الأم العجوز تنادي ابنها: (أي بني لقد تعبت لم أعد أقدر على الانتظار لنرجع إلى الطابور الأول فهو يسير بسرعة).
الابن: (إنه للأمريكان).
الأم: (احتلوه؟!).
الابن: (لا، ولكن لهم معاملة خاصة).
الأم: (ولمَ؟! أليسوا كفاراً ونحن أفضل منهم؟).
الابن: (نعم، ومن أجل ذلك يسارعون في تسليكهم حتى لا نصاب بأذاهم).
العجوز: (ولكني أراهم أكثر حظاً منا).
الابن: (يا أمي أني مرهق).
أبو محمد لزوجته: (خذي الطفل).
أم محمد بعد أن أخذت الطفل: (هذا الطابور لا يتحرك).
أبو محمد: (لا عليك سوف يملون منا ويتحركون).
أبو محمد بدأ الغضب يظهر عليه، وبدأت كلمات التوبيخ تتساقط على أطفاله، حتى أم محمد لم تسلم هي الأخرى، العجوز شعرت بالإعياء، الابن ينظر إلى أمه بعين الرحمة، فهي امرأة عجوز: (يا إلهي لقد تعبت أمي، ماذا أفعل؟).
الطفل الصغير أخذ يجهش بالبكاء.
أبو محمد مغضباً: (أرضعيه).
أم محمد: (أين؟ لا يوجد مكان، وأخاف على الدور!).
رجل يقف خلفها: (لا عليك، فأنت أمامي).
أبو محمد: (جزاك الله خيراً).
خرجت أم محمد من الطابور وأخذت معها أبناءها الثلاثة. العجوز بدأت تتأرجح كأنها ستسقط... والطابور هو الطابور.
أبو محمد لم يعد الأمر يحتمل: (أين الضابط؟).
أبو محمد يتجه إلى الضابط قائلاً: (هذا الطابور لا يسير).
الضابط: (لا عليك، إن الله مع الصابرين، الموظف يعمل ما عليه).
أبو محمد: (أمي، أبنائي، و...).
الضابط: (لا عليك سيأتيك دور بإذن الله).
أبو محمد يرجع إلى الطابور متمتماً.
أحد الصافين: (ماذا قال لك؟).
أبو محمد: (قال ستفرج).
وفجأة... أبو محمد يقول مسروراً: (الطابور يتحرك، نعم أنه يتحرك).
بدا أبو محمد وكأنه نسي ما لاقى، أم محمد تأتي مسرعة وهي تقول: (الحمد لله، الحمد لله)، فلقد مر على وقوفهم في الطابور أكثر من ساعتين، أما عن المرأة العجوز، فلم تعد تهتم بطول الوقت، فقد افترشت عباءتها وأخلدت إلى النوم.
أبو محمد: (دورنا يقترب، أجل إنه يقترب، لم يبق أمامنا إلا رجل واحد).
الموظف للرجل: (تقدم).
الرجل يعطيه جواز السفر، وبعد التدقيق، يمنحه التأشيرة.
أبو محمد يتقدم مسروراً لقد جاء دوره.
الموظف ينظر إلى أبي محمد ويقول له: (انتظر).
الموظف يخرج من غرفته.
أبو محمد - ممتعضاً -: (إلى أين ذهب؟).
أم محمد: (أين ذهب؟).
أبو محمد: (لا أدري).
أبو محمد يترك الصف ويذهب إلى الشاويش: (أين ذهب؟).
الشاويش: (انتظر الآن يأتي فقد ذهب للصلاة).
أبو محمد: (الله يتقبل).
عاد أبو محمد إلى الصف ينتظر: (الآن يأتي... الآن يأتي).
الموظف لم يأت بعد.
أبو محمد ينظر إلى نافذة الأمريكان ويعتصر ألماً ولسان حاله: (الله أكبر إلى أي حد بلغ فينا الأمر؟).
أم محمد: (أين ذهب الموظف؟).
أبو محمد: (إنه يصلي).
أبو محمد: (هذا الجواز الفلسطيني الذي معي لا قيمة له، لمَ لا يوجد معي جواز سفر أمريكي؟ لو كان معي جواز سفر أمريكي لكنت في راحة منذ زمن).(1/383)
أبو محمد - في صوت مرتفع دون شعور -: (بوش! امنحني الجنسية الأمريكية).
أحد الموظفين يقترب من أبي محمد صارخاً في وجهه: (اتق الله، ألا تعلم بأن مطالبتك للجنسية الأمريكية نوع من أنواع موالاة الكافرين).
أبو محمد: (أعاذنا الله من موالاة الكافرين، أعاذنا الله من موالاة الكافرين، وأيضاً أعاذنا الله من نوافذهم!!!).
- - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الأول…2
عام…2
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم…2
ضوابط العمل في المهجر…4
أخذ الجنسية الأمريكية…5
السفر للتعلم في بلاد الكفار…6
حكم الدراسة في بلاد الغرب…7
الهجرة إلى بلد غير مسلم…8
الإقامة في بلاد الكفر لتحصيل الجنسية…9
التجنس بجنسية الدولة الكافرة…10
السياحة في بلاد الكفر…13
الدراسة في بلاد الغرب…15
الهجرة إلى بلد مسلم…16
انحرافات بعض المسلمين في بلاد الغرب…18
الأقليات الإسلامية في الدول المحاربة للإسلام!…20
أداء القسم لمنح الجنسية…21
طلب الحكم من المحاكم غير الإسلامية…23
مشاركة المسلمين في الانتخابات الهولندية…25
الدراسة في أمريكا…28
الراتب الجيد أو القرب من الأهل؟…29
الإقامة في بلد الكفار .…30
معاناة شاب مسلم .…30
تعليق الصلبان والتماثيل في المسجد .…35
المسارعة إلى الزواج .…36
حكم الالتزام بأنظمة الدول الكافرة للمسلم المقيم فيها…38
زوجها مدمن خمر…44
ما المقصود بدار الكفر ودار الإسلام ؟…45
قصر الصلاة للمقيم في بلاد الكفر…46
التعامل مع الكفار .…48
هل نشارك هؤلاء في أعمال الدعوة؟…49
قضاء الدين من الربا…50
أخذ الأجرة مقابل الإعفاء من الضريبة…50
كيف نتعامل مع الفرق الأخرى؟…51
هل يجوز حلق اللحية في هذه الحال؟…52
من مكث مدة طويلة خارج بلده هل يقصر الصلاة؟…53
حكم الهجرة إلى بلاد الكفار مخافة الضرر…53
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر…54
هل تجوز لنا الإقامة في أستراليا؟…54
اتباع القوانين في بلاد الكفر…56
حكم الإقامة في بلاد الكفر…56
حكم صلاة الجمعة في بلد نصراني لا تقام فيه الصلاة…57
هل يجوز للمسلم أن يحصل على جنسية إحدى الدول الكافرة ؟…58
نصيحة للمغترب…59
هل تجب علينا صلاة الجماعة ؟…59
هل نحن مسافرون؟ وهل نعتبر جماعة؟…60
مقيم في بلد للدراسة فهل يقصر؟…60
قصر الصلاة وجمعها لمن يدرس خارج بلده…61
متى يتم المسافر ومتى يقصر ؟…62
الحصول على الجنسية البريطانية في هذه الحال…63
السفر إلى الخارج لإكمال الدراسة…63
ما حكم الإجهاض في هذه الحالة؟…64
دراسة اللغة الإنجليزية بقصد الدعوة إلى الله…65
حكم المساهمة المالية في أعياد الميلاد…66
هل يجوز الجمع بحجة عدم وجود المسجد ؟…67
متى تكون الهجرة واجبة ؟…67
الهجرة إلى ديار الإسلام .…69
موقف المسلم المغترب عن بلاد المسلمين.…71
توجيهات للمغتربين…71
هل يجوز لنا البقاء في بلاد الغربة؟…73
الدراسة في بلاد الغرب…75
سفر المرأة إلى بلاد الغرب والبقاء بدون محرم…75
القصر والجمع للمغترب…78
خاص بالمغتربين والمغتربات…79
الرجوع إلى بلد الإسلام أولى…80
الدراسة في أمريكا…81
سكنوا بريطانيا فراراً بدينهم…82
الدراسة في بلاد الغرب…84
الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة…85
أدرِكوا هذه الفتاوى قبل أن تصل للغرب!…106
حملت منه سفاحاً ثم أراد نكاحها…117
بين دعاة الوسطية والتطرف…120
مؤتمر عمان.. وإشكالية الخطاب السياسي الإسلامي…125
أمتي في العالم .. ترصد حال الأمة الإسلامية خلال قرن كامل…128
مهام إسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية…133
لا يزال بعض العلماء يعيشون زمانهم…136
نحن بحاجة لمن يجمع بين العلم الشرعي والدراية بالواقع 2 / 2…142
مسلمو جنوب إفريقيا .. نجاح دعوي وإخفاق في الاختراق الحركي!…150
أدرِكوا هذه الفتاوى قبل أن تصل للغرب!…157
البيان الختامي لمؤتمر الإفتاء في عالم مفتوح…168
لا تقام الجمعة في بلدي…179
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟!…180
الإسلام والآخرالحوار هو الحل…183
الأقليات من المصطلح إلى الاجتهاد…289
عوائل يعمل رجالها في بيع الخمور…290
حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها…291
حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة في البلاد غير الإسلامية…291
حكم استئجار الكنائس كأماكن لإقامة الصلوات…292
حكم العمل في مطاعم تبيع الخمور…292
ما الحكم في بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه ?…293
إتمام شهر رمضان…293
حكم ممارسة العادة السرية…294
الصلاة في بلد لا تغيب عنه الشمس…296
… صلاة الجمعة في أماكن اللهو والعبث…297
… الصوم في القطب الشمالي أو الجنوبي…298
… قراءة الفاتحة بغير العربية…298
… ذبائح غير المسلمين…299
ماذا نفعل في مواجهة الانحلال؟…299
جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا تدعو إلى حلول تساعد الجاليات على التعامل مع مشاكلها اليومية…300
الخطاب الإسلامي في الغرب بين الإشكاليات والبناء 2…304(1/384)
مشاركة المسلمين في العمل السياسي بالغرب ليست ولاء للكفر بل هي ضرورة مجتمعية…309
فقه الأقليات وتغير الفتوى…310
أسئلة و أجوبة في فقه الأقليات المسلمة…313
الأقليات المسلمة بين فقه الضرورة وواقع المعاناة…328
وماذا عن فقه الأقليات المسلمة؟!…336
فقه الأقليات الإسلامية في الغرب…341
الوقف في ديار الغرب..…374
فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه…374
نظرات تأسيسية في فقه الأقليات..…383
حكم أخذ القرض الربوي للحاجة والضرورة…404
حكم دراسة المسلم في المعاهد الكاثوليكية…406
حكم تعليم أطفال المسلمين في مدارس الكفار…407
هل ينطبق حكم الديار على الأفراد؟…408
روح الإسلام حب الله ورسوله…408
فقه الأقليات المسلمة…416
الأقليات المسلمة تريد حلا !…428
فرنسا: بعض تناقضات الحالة الإسلامية…435
/ نحو خروج من مأزق الطائفية…440
قسم الولاء لتحصيل الجنسية…448
الصدقة على غير المسلمين…452
هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟…453
مسلمو الصين.. هل يكونون شركاء في النهضة؟…475
من فقه التعامل مع غير المسلمين…482
الوقف في ديار الغرب…500
عقد نكاح المسلم في الكنيسة…509
نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب…510
التأصيل لفقه الأقليات.. ضرورته وموجهاته…521
لقواعد الأصولية لفقه الأقليات.. وأمثلتها…535
من فقه الأقليات المسلمة…544
المقدمة في المعاملات التجارية…565
الفصل الأول : مجتمعات غير المسلمين، وموقف الشريعة منها…580
الفصل الثاني : من أحكام الأقليات المسلمة…593
الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر…593
المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها…599
المبحث الثالث : من أحكام العبادات…602
المبحث الرابع : المعاملات…629
المبحث الخامس : النكاح…635
المبحث السادس : العادات والحياة اليومية…639
الخاتمة…651
مؤتمر إسلامى بالقاهرة يبحث : فقه الأقليات ..…652
نشأة فقه الأقليات وعلاقته بسائر فروع الفقه…653
فقه الأقليات.. رؤية مختلفة (*)…654
الأقليات في الغرب: أُكلت لحماً ورُميت عظماً!…660
مسلمو الفليبين الملف الدامي…670
مسلمو مورو: إضعاف الصحوة باسم السلام!…677
مسلمو الأويغور.. المنسيون في الأرض!…683
الدفاع عن الأقليات بالفن التشكيلي…688
أوضاع الأقليات الإسلامية في ندوة دولية بفرنسا…689
زواج (فرند) على بساط المناقشة ……690
بوي فريند .. علي سنة الله ورسوله !…698
من أولويات العمل الاجتماعي الإسلامي في الغرب…705
المواطن الأوروبي المسلم والمشاركة السياسية…717
كيف تتحقق المشاركة السياسية الأمثل للمسلمين في المجتمعات الأوروبية…717
كيفية نشأة الأقليات المسلمة والهجرة…727
مفاهيم ينبغي أن تصحح في سياق العلاقة مع الآخر…736
نقد الإسلاميين المعاصرين…745
قصة الاستيلاء على بعض مساجد المسلمين في أوروبا…751
الإسلام في سويسرا…757
الإسلام في النرويج…760
ما يتعرض له شبابنا حرب لا مؤامرة…762
مسلمو أوغندا بين التهميش والمد التنصيري…766
الهوية الإسلامية ومؤامرة القضاء عليها…770
الجوع يغرس أنيابه في النيجر…774
المسلمون في بلجيكا…779
عبد الحليم قنديل...يدين حقوق الأقليات !…783
القرضاوي .. يحلل وضع الأقليات المسلمة في الغرب…786
الأقليات في المغرب العربي .. أزمة هوية أم ثراء ثفاقي ؟…793
مشاكل الأقليات الإسلامية بأوروبا…798
المقدسات والرسول.. ورقة في إدارة الأزمة…799
ماذا يقرأ مسلمو الغرب؟…819
الإسلام الأوروبي جدلية العلاقة بين العقيدة والمواطنة…827
الإسلام الأوروبي…832
مشكلة العلاقة الجنسية لدى المسلمين في الغرب ، والحلول المختلفة لها…838
فقه الدعوة الإسلامية في الغرب ووجوب تجديدها على الحكمة والوسطية والاعتدال…863
حرية التدين.. فريضة عصرية وضرورة أمنية…884
إنشاء أحزاب إسلامية بالغرب…890
فقه الأقليات…892
فقه غير المسلمين…923
فوائد ودروس وعبر السياحة…957
حكم تجنّس المسلم بجنسيّة دولة غير إسلاميّة…962
الأسلمة في الغرب واختراق الخارطة الأوروبية بالقوة الذاتية..!!…964
الشراء عن طريق البنك هو الربا بعينه…970
حكم أخذ الجنسية للمكره من دولة كافرة…974
بوش! امنحني الجنسية الأمريكية…977(1/385)
الخلاصة في فقه الأقليات
(2)
الباب الثاني
فقه الاغتراب
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني
فقه الاغتراب
حكم المشاركة في الجيش غير المسلم ومحاربة المسلم مع الكفار(1/3)
إعداد لجنة البحث العلمي 25/7/1423
02/10/2002
في هذه الحلقات سنستعرض -إن شاء الله تعالى- مسائل مهمة طالما أرقت أبناء الأقليات المسلمة وأبناء الجاليات المقيمة في بلاد الكفر
خدمة المسلم في جيش الكفار
المقصود بالخدمة في الجيش هي: الواجب الوطني الذي يلزم به كل مواطن في الدولة التي ينتمي إليها لكي يكون مستعداً في حالة نشوب الحرب مع دولة أخرى ليدافع عنها.
يعد إعداد الجيش وتجهيزه في دولة ما من أهم عناصر وجود تلك الدولة ، ولذلك تسعى كل دولة إلى إيجاد الجيش القوي والمتدرب وإلى تسليحه بأفضل أنواع السلاح وأحدثها ، وأكثرها تطوراً ، وهذا هو المطلوب من الدولة الإسلامية من باب أولى .
ولكن ما حكم الإسلام في دخول المسلم صفوف الجيش غير الإسلامي؟ وهل يجوز للمسلم أن يخدم في جيش غير إسلامي ؟ قبل أن نقرر حكماً شرعياً في هذا الموضوع لا بد أن ننظر إلى الحال التي يعيشها المسلمون اليوم ، سواءً في البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية ، كالأقليات المسلمة التي توجد في دول غير إسلامية, ولا خلاف أن الدخول في صفوف الجيش في ذلك البلد ،من واجبات الجنسية التي تعيش فيها الأقليات الإسلامية خدمة إجبارية وفي بعضها غير ذلك.
ومن المتفق عليه أن الإسلام يحث المسلمين على الاستعداد ، وتدريب الجسم لكي يكون المسلم مستعداً دائماً للجهاد ، ومجاهدة أعدائه ، لأن الحق لا يحميه إلا القوة ، ومن ثم فإن مشاركة المسلم ودخوله في جيش دولة غير مسلمة بنية التدرب واكتساب مهارات القتال وفنونه يكون جائزاً ، وقد يصل إلى درجة الوجوب.
والأدلة على ذلك ما يلي
1- قوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ( [سورة الأنفال :60]
يقول سيد قطب عند تفسير " القوة " الواردة في الآية : " إنها حدود الطاقة إلى أقصاها ، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها "(1).
ويقول الرازي في تفسير هذه الآية : " هذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة إلا أنه من فروض الكفايات ""(2).
من هنا أرى أن على الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية أن يدخلوا الجيش ويتعلموا على الأسلحة والعلوم العسكرية الأخرى أخذاً بظاهر الآية وعمومها ، بل من الممكن أن نعتبر هذه الخدمة العسكرية نعمة أعطيت لهؤلاء المسلمين ، حيث لولاها لكان من الصعب عليهم أن يتعلموا هذه العلوم ؛ لأن تمليك الأسلحة ممنوع في معظم بل في جميع الدول ، فكيف لهم أن يتعلموا بدون التدرب على السلاح ؟
2-قوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ،احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ""(3).
وجه الدلالة
إن المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على الأذى وفي كل ذلك احتمال المشاق في ذات الله تعالى"(4).
وكل هذا لا يحصل إلا بالتعليم والتدريب ، والخدمة في الجيش هي وسيلة إلى القوة ، ومن هنا يكون ذلك واجباً ولو عند الكفار إذ لم يكن ذلك ممكناً عند المسلمين.
3-من القواعد الفقهية : مثل قاعدة ارتكاب أخف الضررين "(5) أي إن كان في الخدمة في الجيش غير الإسلامي بعض الضرر ولكن ترك الخدمة من جهة المسلم ضرر أعظم حيث يبقى جاهلاً في العلوم العسكرية ومن ثم غير مستعد لمواجهة الأعداء في حالة وقوع الحرب فيكون عاجزاً عن الدفاع عن دينه ونفسه وعرضه وماله.
وقاعدة :لا ضرر ولا ضرار "(6) حيث لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه ولا غيره ، ولكن لو ترك المسلمون الذين يعيشون كأقلية في دول غير إسلامية الخدمة لنتج من ذلك ضرر على أنفسهم ، حيث يبقون غير مستعدين عسكرياً وفي ذلك ضرر على المسلمين ، حيث يحرمون بذلك من المساواة في الحقوق مع سائر الناس في تلك المجتمعات . وهذا لا يجوز في حق المسلم ؛ لأنه يعيش عندئذ بلا كرامة إنسانية.
وقاعدة :المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة "(7) ، أي وإن كان يترتب بعض المفاسد على الدخول في الجيش غير الإسلامي التي تقع على بعض الأفراد ولكن لا يلتفت إلى ذلك نظراً إلى المصلحة التي تعود على المسلمين جميعاً .(2/1)
4-الواقع والمشهود حيث نرى أن المسلمين الذي تدربوا في الجيوش غير الإسلامية كان لهم دور كبير في مساعدة أهلهم في الحروب الدائرة في البوسنة والهرسك ، وفي الجمهوريات الإسلامية ـ تحت سيطرة روسيا حيث لم يحتاجوا إلى التدريب بل شاركوا مباشرة في الحرب وعلّّموا الآخرين على ذلك ، وكانوا قادرين على أن يستعملوا أي سلاح كانوا يشترونه أو يغنمونه ، ولو لم يكونوا دخلوا في الجيش لما علموا ذلك ولكانوا بحاجة إلى التدريب وقتاً طويلاً والعدو لن ينتظر ، ومن ثم فإنه سيحتل مناطق أكثر مما احتلّ .
5-المعقول : الجهاد و الاستعداد هو واجب على جميع المسلمين أينما كانوا وهذا يتطلب مالاً كثيراً لا تملكه تلك الأقليات الإسلامية غالباً ، ولو كانوا يملكونها ما سمحت لهم الحكومات في تلك الدول أن يؤسسوا هذه المؤسسات ، ومن هنا ليس من المعقول أن يرفض المسلم أداء الواجب الذي أوجبه الله عليه لبعض شبهات وهمية.
يقول الشيخ رشيد رضا - رحمه الله تعالى- : " وإنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان-يريد الحرب التي نشبت بينهما سنة1904م- ليست معصية لله تعالى ، ولا ممنوعة شرعاً ، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند الله ؛ إذا كانت لهم نية صالحة : " إنما الأعمال بالنيات" ، وللنية الصالحة في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه منها أن طاعته إياها تدفع عن إخوانه من رعيته شيئاً من ظلمها وشرها إذا كانت استبدادية ظالمة ، وتساويهم بسائر أهلها في الحقوق والمزايا إذا كانت عادلة . أو تفيدهم ما دون ذلك إذا كانت بين بين.
ومنها - أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم عناصر الحياة الاجتماعية في البشر ، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت حياته ، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهيناً ، والخير للمسلين من رعايا تلك الدول أن يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية ، أقوياء بقوتهم أعزاء بعزتهم ، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهم ؛ فإن الدين الإسلامي لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة ، وإذا هم اختاروا ذلك عجزوا عن حفظ دينهم ، فكان ذلك إضاعة الدين نفسه فلا يلتفت إلى متعصب جهول يقول لك : إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين إلا إذا رأيته يعقل بالكلام ، فقل له : إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العزة على الذل مهما كان مصدر العزة , والقوة على الضعف ، ويرى أن حفظ الإسلام في داره لا يكون إلا بذلك، ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في الجندية لذلك ""(8).وما عرضنا من الأدلة نرى أن دخول المسلم في الجيش غير الإسلامي في هذه الظروف والأحوال بالنية الصالحة جائز بل واجب، (أما إذا كانت النية تحصيل منصب دنيوي أو وظيفة فلا يجو لأن الأصل عدم جواز تقوية الكافرين) ولذلك أنصح إخواننا الذين يعيشون هذه الحال أن لا يترددوا في ذلك، وأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس العسكرية ليكونوا ضباطاً في الجيش؛ لان ذلك وسيلة لتقوية الإسلام والمسلمين في تلك البلاد، وعليهم قبل ذلك أن يعنوا بتربيتهم الإسلامية الأصيلة لكي يكون لديهم المناعة من كل الانحرافات, وتوجيههم إلى المقصد الشرعي من الدخول في هذا المجال.
وقد يقول قائل: وكيف تجيز للمسلم الدخول في الجيش غير الإسلامي وهو متعرض للإذلال من قبل الضباط الكفرة ولا يسمح له أن يمارس الشعائر الدينية ؟ نقول: اليوم وفي جميع جيوش العالم - تقريباً - هناك حقوق وواجبات للجنود محفوظة بالقوانين، وإذا حصلت أية مخالفة لهذه الحقوق من قبل بعض الضباط في حق الجندي فيحق له أن يشتكي ذلك الضابط إلى قضاء الجيش, وحجتي أنه يسمح للجندي المسلم أن يمارس شعائره الدينية داخل هذا الجيش, وأن أكثر الدول في العالم بدأت تتجه هذا التوجه، إذ أنهم يعلمون أن الجيش لا يمكن له أن يكون في المستوى المطلوب من القوة إلا إذا توفر لجنوده كل الاحتياجات المادية والمعنوية ، وعلى رأسها النواحي الروحية ، وهم يعلمون كذلك أن عدداً من الجنود المسلمين يكونون لبنات أساسية في جيوشهم ولا بد من المحافظة على هذه اللبنات.
ويمكن أن يقال: ماذا سيفعل هؤلاء إذا نشبت الحرب بين تلك الدولة وبين دولة أخرى غير مسلمة, أو دولة مسلمة ؟ هذا ما سنبحثه في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.
(1) في ظلال القرآن 3/1544.
(2) تفسير الرازي 9/191-192.
(3) رواه مسلم ، صحيح مسلم ،4/2052.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 16/215.
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص89 والأشباه والنظائر للسيوطي ص87
(6) الأشباه والنظائر ، لابن نجيم ،ص 85 وللسيوطي ، ص 83.
(7) الأشباه والنظائر ، لابن نجيم ص 88 ، والأشباه والنظائر للسيوطي ، ص 87، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41 ، المادة 28.
(8) فتاوى رشيد رضا 2/565-566.
==============
حكم مقاتلة المسلمين مع الكفار ضد الكفار
في حالة نشوب حرب بين دولة غير إسلامية تعيش فيها أقلية مسلمة فإن الحرب إما أن تكون مع دولة غير إسلامية أي ضد كفار آخرين أو مع الدولة الإسلامية أي ضد المسلمين(2/2)
بدءاً أقول : إنه لا يجوز للمسلم أن يعين الكفار على كفار مثلهم إذا لم يترتب على ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين ، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء (1)من الحنفية و المالكية والشافعية والحنابلة.
جاء في السير الكبير : " لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشرك؛ لأن الفئتين حزب الشيطان وحزب الشيطان هم الخاسرون ، فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعاً عنهم ، وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر ، والمسلم إنما يقاتل لنصرة أهل الحق لا لإظهار حكم الشرك (2).
وجاء في كشاف القناع: "ويحرم أن يعينهم المسلم على عدوهم إلا خوفاً من شرهم " (3).
وجاء في المدونة الكبرى : " أرأيت لو أن قوماً من المسلمين في بلاد الشرك أو تجاراً استعان بهم صاحب تلك البلاد على قوم من المشركين ناوءوه من أهل مملكته ، أو من غير أهل مملكته ، أترى أن يقاتلوا معه أم لا ؟ فأجاب سحنون : " سمعت مالكاً يقول في الأسارى يكونون في بلاد المشركين ، فيستعين بهم الملك على أن يقاتلوا معه عدوه ، ويجاء بهم إلى بلد المسلمين ، (قال) : قال مالك : " لا أرى أن يقاتلوا .
على هذا ، ولا يحل لهم أن يسفكوا دماءهم على مثل ذلك ، قال مالك : وإنما يقاتل الناس ليدخلوا في الإسلام من الشرك ، فأما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوهم من الكفر إلى الكفر ويسفكوا دماءهم في ذلك فهذا مما لا ينبغي للمسلم أن يسفك دمه عليه"(4).
مما سبق نرى أن الفقهاء لا يجيزون قتال المسلم مع الكفار ضد أعدائهم ، لأن ذلك يؤدي إلى تقوية المشركين وإلى إظهار الشرك ، وإعزازه ، وإلى تحقيق النصر للعدو كما أنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل تحت إمرة الكفار وهو ممنوع لقوله تعالى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرينَ عَلَى الُمْؤِمِنينَ سَبِيلاً ) [سورة النساء : 141].
ولقوله تعالى ( لا َتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهُ وَرَسُولُهُ ) [سورة المجادلة: 22](5).
هذا حكم مقاتلة المسلمين مع الكفار ضد أعدائهم في الأحوال العادية أي إذا لم يترتب على هذا القتال
أي مصلحة للإسلام والمسلمين أما إذا ترتب على هذا القتال مصلحة للمسلمين وهو لا يؤدي إلى تقوية الكفار .
فقد أجاز بعض الفقهاء للمسلم أن يقاتل مع الكفار ضد المشركين بشرط أن يترتب على هذا مصلحة للمسلمين ولا يترتب أي ضرر أو محظور ، وأن يقاتل المسلمون تحت رايتهم ، ويخضعون في الحرب لقيادتهم وأن لا يكون في ذلك تقوية للكفار على المسلمين ، وعلى المسلمين أن يقصدوا بهذه الحرب تحقيق المصلحة للمسلمين فقط ، وإعلاء كلمة الله والقيام بغرض الجهاد ، دون أن يقصدوا لذلك تقوية جانب الكفار ، أو موالاتهم ، أو إعلاء كلمة الكفر(6).
جاء في السير الكبير :" ولو أن أهل الحرب أرسلوا الأسرى خاصة أن يقاتلوا أهل حرب آخرين وجعلوا الأمير من الأسرى وجعلوا له أن يحكم بحكم الإسلام ، ويسلموا لهم الغنائم يخرجونها إلى دار الإسلام فلا بأس بالقتال ، على هذا إذا خافوهم أولم يخافوا ؛ لأنهم يقاتلون وحكم الإسلام هو الظاهر عليهم فيكون ذلك جهاداً منهم "(7).
ومن هؤلاء العلماء محمد رشيد رضا حيث أوردنا رأيه فيما سبق (8).
وهذا رأي وجيه جدًا خاصة في هذا الوقت حيث المسلمون ضعفاء ولا توجد الدولة الإسلامية التي تنصفهم وتحميهم وتوفر لهم الحقوق الطبيعية عن طريق الضغط على تلك الدولة التي لا تعطيهم تلك الحقوق أو عن طرق أخرى ، وهذه فرصتهم أن يحصلوا على ذلك فعليهم أن ينتهزوها مراعين الشروط التي ذكرناها.
الحالات التي يجوز فيها مشاركة المسلم القتال مع الكفار ضد الكفار.
ذكر الفقهاء بعض الحالات التي يجوز فيها للمسلم أن يقاتل مع الكفار ضد الكفار الآخرين للضرورة ، وهذه الحالات هي :
1- إذا كان المسلمون مجبرين على القتال مع الكفار ضد أعدائهم ، بحيث إن لم يفعلوا ذلك يقتلونهم ، كما لو كانوا أسرى عند الكفار ، أو أجبرتهم الدولة التي يقيمون فيها على القتال ضد كفار آخرين ، وفي هذه الحالة يجوز لهم أن يقاتلوا لدفع الهلاك عن أنفسهم .
يقول الإمام محمد بن الحسن : "وإن قالوا لهم أي للأسرى المسلمين قاتلوا معنا عدونا من المشركين وإلا قتلناكم فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم ، وقتل أولئك المشركين لهم حلال ولا بأس بالإقدام على ما هو حلال (9)عند تحقيق الضرورة ، بسبب الإكراه وربما يجب ذلك كما في تناول الميتة وشرب الخمر.
2- أن يدفعوا عن أنفسهم الأسر والضعف والهوان جاء في السير الكبير :
" ولو قالوا للأسرى ، قاتلوا معنا عدونا من أهل حرب آخرين على أن نخلي سبيلكم إذا انقضت حربنا فلو وقع في قلوبهم أنهم صادقون فلا بأس بأن يقاتلوا معهم ، ويعلل ذلك السرخسي ويقول : لأنهم يدفعون بهذا الأسر من أولئك المشركين ، فكما يسعهم الإقدام هناك فكذلك يسعهم ها هنا " (10).(2/3)
3- يجوز للأقليات المسلمة أن يقاتلوا مع القائد الكافر إذا كان يحترم المسلمين يعطيهم حقوقهم إذا خشي أن ينتصر عليه من يتوقع ظلمه لهم وهذا ما نفهمه من معاونة المسلمين للنجاشي، روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : فأقمنا عنده مع خير جار في خير دار فلم يلبث أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمنا حزناً قط هو أشد منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه ، فيأتي الملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه فجلعنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي،فخرج إليه سائراً فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر لمن تكون؟ قال الزبير - وكان أحدثهم سناً - أنا فنفخوا لهم قربة فجعلها في صدره فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة ، فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه فجاءنا الزبير يليح لنا بردائه ويقول :ألا فابشروا فقد أظهر الله النجاشي ،قلت : فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي ثم أقمنا عنده حتى خرج منا من خرج وأقام من أقام(11).
ومن هذه القصة نرى بوضوح أن المسلمين كانوا يستنصرون الله للنجاشي، وأن الزبير حضر الوقعة مع النجاشي ضد خصمه، مخافة أن يكون مغلوباً فيأتي بدله غيره ولا يعرف من حقوقهم ما يعرفه, ولا يهمنا هنا إذا كان النجاشي مسلماً، في ذلك الوقت أم لا، إنما يهمنا أن جيشه كان غير مسلم ، وكان يطبق عليهم نظاماً غير إسلامي.
ومما يستدل به في هذا المقام قاعدة تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
يقول ابن تيمية : " إن الشريعة جاءت بتحصيل المصلحة وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما(12)
- وقد أشار ابن عطية إلى ضرورة أخرى وهي إذا خاف المسلمون عدواً كبيراً يجوز لهم معاونة العدو الصغير للقضاء على العدو الكبير ودفع أذاه (13).
قال ابن عطية في بيان فرح المسلمين لانتصار الروم على الفرس : " ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة ومتى غلب الأكثر غلب الخوف منه فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم إرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه "(14).
ومما سبق نرى أن المسلمين الذين يعيشون أقلية في دولة غير إسلامية يجوز لهم أن يشاركوا في الحرب مع الكفار ضد أعدائهم من الكفار إذا كان لهم في ذلك مصلحة كأن يحصلوا على حقوقهم وتتحسن أوضاعهم وأن لا يترتب على ذلك ضرر على المسلمين ، أو إذا كانوا مكرهين على ذلك . أما في غير ذلك فلا يجوز لهم أن يشاركوهم في قتالهم ضد كفار آخرين والله أعلم,
أما مقاتلة المسلم مع الكافرين ضد المسلمين فهو ما سنتحدث عنه
- إن شاء الله تعالى - في الحلقة القادمة
(1)- انظر :محمد أحمد السرخسي ، شرح كتاب السير الكبير ، تحقيق د. صلاح الدين المنجد ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، 4/1515 المدونة الكبرى ، 1/518 ، كشاف القناع ، 3/ 63ن والمبسوط ،10/97-98.
(2) شرح السير الكبير4/1515.
(2) كشاف القناع 3/63.
(4) المدونة الكبرى 1/518.
(5) المبسوط ، 10/97 ، ومحمد عثمان شبير ، الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد الإسلامي ، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية ، العدد السابع ، 1978 ، ص 305.
(6) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية ، 3/1636.(7) شرح السير الكبير، 4/1525.
(8) انظر : صفحة 114، من هذا البحث
(9) شرح السير الكبير ، 4/1516-1517.
(10) المرجع السابق ، 4/1518.
(11) البداية والنهاية ، 3/ 123، الطبعة الأولى ، 1992 ، دار الحديث ، القاهرة ، أبو الحسن علي أبو الكريم ابن الأثير ، الكامل في التاريخ تحقيق : أبو الفداء عبد الله القاضي ، الطبعة الأولى ، دار الكتب العملية ، بيروت 1987،1/600.
(12) مجموع الفتاوى 20/48.
(13) أبو محمد عبد الحق بن عطية ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق وتعليق : عبد بن إبراهيم الأنصاري ، والسيد عبد العال السيد إبراهيم ، الطبعة الأولى ، مؤسسة دار العلوم ، قطر ، 1985، 11/425.
(14) أبو محمد عبد الحق بن عطية ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق وتعليق : عبد بن إبراهيم الأنصاري ، والسيد عبد العال اليد إبراهيم ، الطبعة الأولى ، مؤسسة دار العلوم ، قطر ، 1985، 11/425.
================
حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد المسلمين
لا يجوز للمسلم أن يقاتل مع الكفار إخوانه المسلمين في أي حال بل هو من أكبر الكبائر وأفظع الجرائم للأدلة التالية :
1- قوله تعالى :(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) [سورة الإسراء: 33].(2/4)
والمراد بالنفس التي حرمها الله هي التي جعلها الله معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد ، فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بسبب شرعي كالردة والزنا من المحصن وكالقصاص من القاتل عمداً (1).
ومعاونة المسلم الكافر على قتل المسلم فيه إنهاك لعصمة دم المسلم الثابتة له بالإسلام.
2- قوله صلى الله عليه وسلم : " من حمل علينا السلاح فليس منا "(2) .
فيه دليل على تحريم حمل السلاح على المسلمين وقتالهم وأن ذلك من كبائر الذنوب حيث ترتب عليه براءة النبي صلى اله عليه وسلم منه (3).
3- قوله صلى الله عليه وسلم : كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (4)" من هذه الأدلة وغيرها نرى انه لا يجوز للأقليات المسلمة أن تشترك مع الكفار في أي معركة ضد المسلمين تحت أي ظرف من الظروف حتى ولو أكرهوهم على ذلك فإن عليهم أن يمتنعوا عن قتال المسلمين ولو قتلوهم لذلك.
جاء في شرح السير الكبير : " وإن قالوا لهم - أي الكفار - قاتلوا معنا المسلمين ، وإلا قتلناكم لم يسعهم القتال ضد المسلمين لأن ذلك حرام على المسلمين بعينه فلا يجوز الإقدام عليه بسبب التهديد بالقتل كما لو قال :اقتل هذا المسلم وإلا قتلتك"(5).
ويقول ابن تيمية : " إذا كان المكره على القتال في الفتنة فليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلوماً فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام ، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه رجل على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل فليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس" (6).
ويقول القرطبي : " وأجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة "(7).
ومن خلال النصوص التي ذكرناها يتضح أنه لا يجوز للمسلمين في الجيش غير الإسلامي أن يشاركوا في الحرب ضد المسلمين وعليهم إن أجبروا على ذلك أن يحاولوا أن يفلتوا بأي وسيلة من الوسائل من المشاركة في هذه الحرب حتى ولو دفعوا المال إلى الكفار بدل المشاركة وهذا جائز (8)، أما إذا لم يمكنهم ذلك ، فعليهم في الجبهة أن لا يمارسوا أي عمل ينتج عنه قتل المسلمين وذلك إما بالإمساك عن القتال أصلاً كما ذكرنا أو أن يجعل أعماله القتالية لا تؤدي إلى إراقة دماء المسلمين أو الإضرار بهم كأن يطلق قذائفه ورصاصه في اتجاهات لا تصيب أحداً يحرم عليه قتله أو أذيته(9).
والأفضل لهم في هذه الحالة إذا خرجوا إلى أرض المعركة وأتيح لهم أن يستسلموا لجيش للمسلمين متفادين بذلك أن يضطروا إلى قتال المسلمين فهذا واجب عليهم لأنه في هذه الحالة يتعين طريقاً لتجنيب الوقوع في الحرام كما أنه لجوء إلى أهون الشرين, بل من الأولى لهذا المسلم أن يوجه سلاحه في وجه الكافر حتى لو تعرض للموت ,فهو في كل الحالات معرض للموت ومن الخير أن يموت على يد الكافر بسلاحه ,بدلاً من أن يموت بسلاح المسلم _والله أعلم بالصواب-
(1) - انظر فتح القدير ، 3/223، وتفسير الرازي ،10/202.
(2) رواه البخاري ، صحيح البخاري شرح فتح الباري ، 13/23، ورواه مسلم ، صحيح مسلم،1/98.
(3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ، 4/245.
(4) رواه البخاري ، صحيح البخاري بشرح فتح الباري ، 10/481 .
(5) شرح السير الكبير، 4/1517.
(6) مجموع الفتاوى ، 28/539.(7) تفسير القرطبي :10/183.
(8) انظر : الفروق للقوافي ، 2/33.
(9) انظر : أبو عبد الفتاح علي بن حاج ، فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام ، دار العقاب بيروت ، 1994، ص 202.
- انظر الأحكام السياسية في فقه الأقليات المسلمة لمحمد سليم
=============
قسم الولاء لتحصيل الجنسية
الشيخ/ سعيد الغامدي 15/1/1425
06/03/2004
أنا مقيم في أمريكا وأريد أن أحصل على الجنسية الأمريكية؛ لأن المقيم يجد بعض المشاكل كوجوب البقاء في أمريكا ستة أشهر من كل سنة وغير ذلك، والجواز الأمريكي يساعدني على السفر إلى أغلب دول العالم، بخلاف الجواز الذي أحمله الآن.
المشكلة أنه من شرط الحصول على الجنسية أن أتلو أمام القاضي بيعة الولاء. وصيغنها كما يلي:
"إني أقسم أنني أتخلي عن أي ولاء لدولة أخرى أو حاكم آخر قد سبق لي أن أواليه، وأنني سأدافع عن دستور الولايات المتحدة الأمريكية وقوانيتها ضد جميع أعدائها الداخلية والخارجية، وأنني أوالي الولايات المتحدة الأمريكية، وأنني سأحمل السلاح للولايات المتحدة الأمريكية حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأخدم الجيش الأمريكي فيما دون القتال حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأقوم بالعمل المدني للوطن حينما يلزمني القانون بذلك وأنني أتحمل هذه المسؤولية طوعا دون تردد ومن غير نية الإعراض عنها، وعلى كل هذا أقسم بالله"
هل يجوز لي أن أحصل على الجنسية الأمريكية بهذا الشرط؟ هل هناك حيلة تساعدني؟ لم أجد في الإنترنت إلى الآن جواباً عن سؤالي.(2/5)
أجاب عن السؤال الشيخ/ سعيد الغامدي (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد).
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:
هذه القضية من قضايا الولاء والبراء،ولذلك لابد من بيان معنى الولاء وأقسامه وأحكام كل قسم، ثم يمكن بعد ذلك تطبيق سؤال السائل عليه:
الولاء: مصدر والى يوالي موالاة ، وهو المحبة والقرب والدنو والمناصرة، وهو ضد البراء والمعاداة ، وحقيقته إضمار المودة في القلب وإظهارها في الأقوال والأفعال محبة ونصرة وهو على أقسام :
الأول: الولاء لله ولدينه ولرسوله – صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فهذا من حقائق التوحيد والإيمان وهو واجب على كل مسلم .
الثاني: الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم العبد، وهذه هي الموالاة العامة التي إذا صدرت من مسلم لكافر عدَّ صاحبها كافراً، ومن الموالاة العامة: الدفاع عن الكفار وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ومحبة انتصارهم ، وهذا كفر صريح يخرج من الملة، ويسمى (التولي) وهو أخص من الموالاة ، وداخل ضمن مفهومها .
والتولي : مصدر تولّى أي اتخذه ولياً ، وهو بذل المحب لما يرضي المحبوب بذلاً تاماً ، والتولي أخص من الموالاة ، فكل تولٍ داخل في مفهوم الموالاة ، وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي ، بل موالاة الكفار موالاة مطلقة عامة تعدُّ كفراً صريحاً .
وهذه الموالاة مرادفة لمعنى التولي وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار ، وأن من والاهم فقد كفر كما قال - تعالى -: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [المائدة : 51] فالتولي يفيد معنى الاتخاذ والالتزام الكامل بمن يتولاه ، بخلاف الموالاة التي تدل على المحبة والمتابعة بدرجات متفاوتة ، وبين التولي والموالاة عموم وخصوص .
والتولي المأمور به أصل عظيم في دين الله كما قال تعالى: "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" [المائدة :56] ويكون ذلك بحب الله - تعالى - وحب ما يحبه وبغض ما يبغضه، وحب رسوله – عليه الصلاة والسلام - وكتابه وحب دينه وأهل دينه ومناصرتهم ، وبغض أعداء دينه ومجاهدتهم.
الثالث : الموالاة الخاصة وهي المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد وعدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام ، فهذه كبيرة من الكبائر ، وبين هذا القسم والذي قبله وهو التولي مراتب ، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم بحسب نية الفاعل وقصده .
وفي القسم المذكور من أمور الولاية العامة أمور وهي: الالتزام بدستورها ونظامها وهو - بلا شك - كفري، ومنها حمل السلاح والقتال معها وهذا لايجوز،ويكون من أفعال الكفر إذا كان في قتال المسلمين، وهذا ما تفعله أمريكا اليوم في أفغانستان والفلبين وفعلته في الصومال، وقد تفعله غداً في العراق أو إيران أو غيرها من بلاد المسلمين .
وخير للمسلم أن يكون في إحدى بلاد المسلمين- ولو حصل له بعض الضيم والعنت- من البقاء في الغرب حيث الكفر والفساد واستبطان العداوة للمسلمين، والتخطيط لذلك واستيلاء اليهود ومتطرفي النصارى على زمام الأمور،لاسيما وقد تبين لكثير من الناس مقدار ضخامة الخدعة المسماة ( الديموقراطية) والعدل وحقوق الإنسان، وخاصة بعد الأحداث الأخيرة.
وهناك حالة الاضطرار التي يكون فيها بعض المسلمين مطارداً أو ملاحقاً أو مضطهداً في بلده ويتوقع حصول الأذى الشديد عليه، وليست لديه القدرة على العيش في بلاد المسلمين، ولا القدرة على الهجرة إلى بلاد تؤويه من بلدان المسلمين، وليس أمامه سوى بلاد الكفار، فيجوز له في هذه الحالة، شريطة أن يكون مبغضاً للكفار يعتقد البراءة منهم، مع قيامه بالدين علماً وعملاً حسب المستطاع.
وأصل هذا الحكم الاستثنائي ما حصل للصحابة الكرام – رضي الله عنهم - حين هاجروا إلى الحبشة، وقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً" هذا لفظ ابن هشام في السيرة (2/164) والحديث في دلائل النبوة للأصبهاني (103) وتاريخ الطبري (1/546)، وتفسيره (9/249).
وعندما رجع – صلى الله عليه وسلم – من الطائف ومنعته قريش، طلب الحماية من بعض كفار مكة فأجاره المطعم بن عدي فدخل مكة واعتمر، وبهذه الحماية استطاع – صلى الله عليه وسلم – العيش في مكة آمنا، رواه ابن هشام (2/244)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (3/95) والاستيعاب لابن عبد البر (1/40) وقال في فتح الباري (7/324) أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل.
وقد استفاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في مكة من حماية بني هاشم وبني المطلب وحماية عمه أبي طالب، رغم كفرهم وشركهم، وفي صحيح البخاري (2/804) قصة خروج أبي بكر – رضي الله عنه – متوجهاً إلى الحبشة فوصل إلى برك الغماد جنوب مكة فلقيه ابن الدغنة سيد القارة، فأعاده إلى مكة وأجاره وأدخله إلى مكة آمنا وبقي في جواره مدة.(2/6)
وهذا الحال الاضطراري يدخل في عموم قوله - تعالى -: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً" [ النحل:106] قال ابن القيم مستدلاً بهذه الآية عند كلامه على تحريم الحيل (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن بالتكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) إعلام الموقعين (3/191) قال ابن حزم في المحلى(11/198):
(وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله - تعالى - وعن إمام المسلمين وجماعتهم ويبين هذا حديثه - صلى الله عليه وسلم - أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين فيما رواه الترمذي (1604) والنسائي(4780) وأبو داود(2645)من حديث جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ وهو - عليه السلام - لا يبرأ إلا من كافر قال الله - تعالى - "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة: 71] فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها من وجوب قتله متى قدر عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبرأ من مسلم وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان الكفار عليهم ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم؛ لأن الوليد بن يزيد كان قد نذر دمه إن قدر عليه وكان هو الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور).
=============
أولويات في حياة المغترب
د0 رياض المسيميري 5/1/1425
25/02/2004
نحن مجموعة من الشباب ولدنا ونشأنا في الغرب، وفي المدينة التي نسكن بها يوجد آلاف من المسلمين بين مئات آلاف من غير المسلمين، وأغلبية المسلمين لا يمارسون شعائر الإسلام، ومن بينهم هناك من يمارس شعائر الدين ويدعو له، وهناك مجموعات و طوائف كثيرة بعضها متشدد وبعضها معتدل، هناك بعض الأشخاص المتكلمين الذين هم على المنهج الصحيح ويدعون له وهم قليلون جداً، أي: أنهم يدعون إلى سبيل القرآن والسنة وفقًا لطريقة السلف، الحمد لله أوضح الله -سبحانه- الطريق السوي لمجموعة منا من بين الشباب وهم بالكاد يتجاوزون عدد أصابع اليد وهذا يحمينا من كثرة الارتباك.
وهذا بالفعل رحمة من الله الكريم نحمده ونشكره عليها، منحنا الله -سبحانه- فرصة التقاء بعض العلماء والدعاة الذين زاروا مدينتنا فأزالوا -بحمد الله- عنا مفاهيم خاطئة كثيرة ومنحنا الفرصة للتلقي من علماء الأمة، مثلكم يا فضيلة الشيخ وغيركم، نحمد الله ونشكره أن أوضح لنا الطريق ونسأله -تعالى- أن يهدينا لأفضل السبل ويحفظنا للتمسك بها، في الوضع الذي نحن فيه نحاول أن نفهم أساسات ديننا، ندرس العقيدة والفقه وما إلى ذلك، ونحاول أن نحفظ القرآن الكريم غيباً، إضافة لمحاولاتنا لتعلم اللغة العربية بقدر استطاعتنا، نرجو ألاّ نكون قد أطلنا عليكم، لكن من الأشياء المتعارف عليها، وأرجو ألا نكون على خطأ أن فهم العالم لخلفية السائل والبيئة التي يعيش فيها تسهل وتصوب إجابة العالم على السائل لما فيه مصلحة السائل.
والسؤال الآن: في وضعنا الحالي ماذا يجب علينا أن نفعل؟ ما أولويات العمل عندنا؟ أولاً ما هي أولوياتنا في طلب العلم؟ وبمعنى أدق: ما هي فروع العلم الذي يجب أن نتجه إليه سواءً في هذه المراحل الأولية من طلب العلم ثم بعد ذلك في المراحل الأخرى؟ بمعنى: هل نبدأ بالعقيدة أو علم الحديث؟ ثانياً: ما الخطوات اللازمة لنبني إيماننا إلى المستوى الذي يجعلنا أهلاً لحمل رسالة الدين؟ بمعنى ما الأعمال المطلوبة منا -بخلاف الفرائض- لإصلاح وتطهير مقاصدنا، بناء شخصياتنا ونحو ذلك حتى نكون مقتدين بأسوتنا نبي الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ثالثاً: فيما يتعلق بالدعوة وحيث إن ما لدينا من علم هو في مرحلة مبتدئة ما نوع الأنشطة التي يتعين علينا القيام بها خصوصاً لفئة الشباب لدعوتهم وتدريبهم ليصبحوا على مستوى المسلم الجيد؟ وما الأشياء التي ينبغي علينا أن ندرسها لهم وندرسها نحن أيضاً؟ بمعنى: هل نبدأ بحلقة أم معسكر؟ هل لديكم تصور معين عن أنشطة فعالة في دعوة الناس إلى الإسلام؟ مثل توزيع الأشرطة أو المنشورات...إلخ .
رابعاً: كيف نتعامل مع من يعارض هذه الرسالة النقية من المسلمين؟ مثل من يدعو إلى سبيل يتعارض مع سبيل النبي -صلى الله عليه وسلم- سواء من ناحية العقيدة أو المنهج أو نحو ذلك، ولا نتحدث هنا عما يكون ناتجاً عن جهد بشري من أهل السنة، لكن يخلطون بين الحق والباطل، ولكن أولئك الذين يعادون صراحة شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم هم يدّعون أنهم مسلمون ويقودون الناس إلى التهلكة، إلى أي حد نصل في تحذير الناس من ذلك وإلى أي مدى يكون ذلك معلقاً في رقابنا بالنظر إلى عدم وجود من يفعل شيئاً تجاه هذا الأمر؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/7)
أجاب عن السؤال الشيخ/د0 رياض المسيميري (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام)
الجواب:
الحمد لله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد أسعدني كثيراً ما تضمنته رسالتكم الكريمة من مشاعر إسلامية صادقة وحماسة دينية أصيلة، ورغبة جادة في رفع مستوى ثقافتكم الشرعية، وأدائكم الدعوي -نحسبكم كذلك ولا نزكي على الله أحداً- فلكم منا خالص الدعاء، وعظيم الشكر والعرفان.
إخواني الشباب، لا شك أن وجودكم في هذه الديار يُضاعف من مسؤوليتكم، ويتطلب مزيداً من الجهد حتى تصلوا إلى ما تأملون من العلم الصحيح والعمل السليم، وما ذلك إلا لبعدكم من العلماء الراسخين، والأجواء الإسلامية، فضلاً عن وجود العديد من أدعياء الإسلام بين أظهركم كالقاديانية والبهائية، وبعض الفرق الضالة الأخرى.
أما بخصوص الفقرة الأولى من سؤالكم، فأقول:
1-يتعين عليكم أولاً تعلم العلم الواجب، وعلى رأسه أصول الإيمان والتوحيد، وأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها مما لا غنى للمسلم عن معرفته ليقوم بالعمل الواجب على أساس صحيح، وقد يتفاوت الناس فيما يلزمهم تعلمه بحسب أحوالهم، فمن لديه أموال أو تجارات يلزمه تعلم أحكام الزكاة أكثر من غيره ممن لا يملك ذلك.
ولذا أنصحكم بحفظ ما تيسر من كتاب الله وسنة رسوله -عليه السلام-بشكل تدريجي مع المراجعة المستمرة والضبط التام، كما يستحسن مطالعة كتاب في التفسير، كتفسير ابن كثير، أو تفسير السعدي أو البغوي.
وأنصح بحفظ (ثلاثة الأصول) و(القواعد الأربع) وكتاب (التوحيد) و(كشف الشبهات)، وجميعها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ويحفظ من الحديث (الأربعون النووية) للإمام النووي، و(عمدة الأحكام) للمقدسي، ويكون الحفظ بالتدريج وحسب الطاقة ومن سار على الدرب وصل.
وتقرؤون في الفقه (عمدة الفقه) لابن قدامة أو (فقه السنة) لسيد سابق، مع العناية بمعرفة الدليل وحفظه، والبعد عن التعصب والجدال العقيم.
2-يفضل أن يكون بينكم عالم، أو طالب علم متمكن يشرح لكم ما صعب، ويُوضح ما غمض، ويُسهل ما عسر، وأن يكون منصفاً، مأموناً، متجرداً عن الهوى والتعصب.
3-إذا لم يتيسر عالم أو طالب علم يمكنكم أن تقرؤوا المختصرات من الكتب بهدوء وتدبر، وتدونوا ما أشكل عليكم في كراسة خاصة ثم تراسلون من تثقون بعلمه وأمانته كفضيلة الشيخ: سلمان العودة، أو الشيخ: عبد الله بن جبرين، أو اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
4-من تيسير الله -تعالى- ومنته وجود مئات من الدروس والمحاضرات العلمية المسجلة في أشرطة الكاسيت لكبار أهل العلم والفضل ومنهم: أصحاب الفضيلة: الشيخ: عبد العزيز بن باز، والشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ: محمد بن عثيمين، وغيرهم من أهل العلم، فعلى سبيل المثال: شرح ابن عثيمين كتاب (التوحيد)، كاملاً وشرح العقيدة (السفارنينة)، و(مقدمة التفسير) و(القواعد الحسان في تفسير القرآن)، وغيرها كلها في مجموعات وحقائب خاصة فيمكنكم شراؤها والاستماع إليها، وتدوين فوائدها، وهذه المجموعات متوفرة لدى تسجيلات الاستقامة الإسلامية بمدينة عنيزة بالمملكة العربية السعودية.
وأظنكم من خلال ما تقدم قد أدركتم أنه لا مانع من الجمع بين دراسة العقيدة وحفظ الحديث وقراءة شروحاته، مع العناية بكتاب الله أولاً.
الجواب عن الفقرة الثانية:
مما يعينكم على تحقيق إيمانكم وزيادته، وتهيئة الفرصة لنجاحكم في حمل أعباء الرسالة والدعوة ما يلي:
1-العلم، فتحرصون -بارك الله فيكم- على طلب العلم والاستزادة منه واغتنام وقت الشباب -خاصة- في الحفظ مبتدئين بالأهم فالأهم -كما تقدم- قبل قليل، فلا عمل بلا علم قال الله:"فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك"[غافر: 55] فأمر بالعلم أولاً ثم الاستغفار ثانياً وهو العمل، والعلم سبيل الخشية والخوف والتعظيم لله، قال الله:"إنما يخشى الله من عباده العلماء"[فاطر:28].
2-القراءة في كتب السيرة وأخبار السلف الصالح وتاريخ الفتوحات والوقائع الإسلامية -وهذه القراءة من العلم أيضاً- إلا أنها تدفع إلى التأسي بنبينا محمد -عليه السلام- وأتباعه وتوقد الحماس في الصدور لإعادة مجد الأمة المفقود، وعزها المسلوب.
3-العمل بكل ما تعلمتموه في الحال من فرائض ونوافل، وأن تجتهدوا في إحياء السنن التي أماتها الناس سيما في ديار الغربة كقيام الليل، وصيام النوافل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعيادة المرضى، وصلة الأرحام، ودعوة المفتونين بزيف الحضارة الغربية، وكل عمل صالح تعملونه ستجدون أثره زيادة في الإيمان، وقوة في اليقين، وثقة بالله، وشجاعة في القلب بإذن اللطيف الخبير.
الجواب عن الفقرة الثالثة:(2/8)
وأما بخصوص مجالات الدعوة فأنصحكم أولاً بطلب العلم –كما تقدم-، وبعد أن تقطعوا فيه شوطاً مطمئناً تجمعوا حينئذ بين العلم والدعوة بالرفق واللين ووسائل الدعوة –بحمد الله- كثيرة فمنها إقامة المحاضرات في المراكز الإسلامية لديكم، واستضافة الشباب المسلم في هذه المراكز ودعوتهم إلى حضور المناشط الدعوية، ومما ينفع كثير ويؤثر على الشباب المبتدئين الذين ترغبون في دعوتهم بل وعامة الناس القراءة عليهم من سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- ومن الكتب النافعة في هذا الشأن (الرحيق المختوم) للمباركفوري، أو مختصر السيرة لابن عبد الوهاب.
ومن الوسائل كذلك إقامة المخيمات الدعوية في الإجازات ويتخللها برامج علمية مفيدة، ومسابقات، وطرائف تدفع السآمة عن النفوس، وتشوق الجميع للمشاركة.
ومن الوسائل توزيع الكتيبات، والأشرطة، والمطويات الدعوية ذات الموضوعات المناسبة لطبقات المدعويين.
وأما الفقرة الرابعة من السؤال فيتعين عليكم أن تعلموا أن ضوابط التعامل مع المخالف في العقيدة كما يلي:
أولاً: مقدمات مهمة
1-العقيدة التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها ولا يجوز له مخالفتها هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وتسمى عقيدة الفرقة الناجية، وهي ما كان عليها نبينا –عليه السلام- وأصحابه الكرام، ودرج عليها أصحاب القرون المفضلة، ولا تزال إلى اليوم –بحمد الله- واضحة المعالم، بينة المسائل، محررة الأصول، معلومة الحدود، وقد كتب في بيانها وضبطها وشرحها عشرات المؤلفات –ولله الحمد والمنة-.
2-ومن رحمته –تعالى- ورأفته بعباده أن السلف –رضوان الله عليهم- قد أجمعوا على تلك العقيدة، ولم يحدث بينهم نزاع، في أي من مسائلها بله أصل من أصولها وقواعدها، اللهم إلا جزئيات ملحقة يسع الخلاف فيها، كمسألة رؤية نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- لربه في الدنيا ونحوها مما ساغ فيه الاجتهاد، ومن تمام النعمة اتفاق السلف على منهج العقيدة أيضاً تلقياً وأداء ودعوة إليها.
3-أن العقيدة توقيفية مصدرها الكتاب الشريف، والسنة الصحيحة وإجماع السلف الصالح، قال الزهري –رحمه الله-: من الله الرسالة وعلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- البلاغ وعلينا التسليم (صحيح البخاري- كتاب التوحيد 46).
4-أن فهم العقيدة إنما يكون بفهم السلف الصالح، ووفق ما اعتقدوه وتعلموه من نبيهم –عليه السلام-، سيما مع سعة علومهم، وفرط ذكائهم وقوة إيمانهم، وحسن مقصدهم، وتمام عدلهم –رضي الله عنهم-.
5-لا ينبغي لطالب الحق أن يتلقى عقيدته مما هب ودب من الكتب والمصنفات، سيما كتب المقالات والفرق؛ لأن بعض أصحاب هذه المقالات قد أسسوها على أسس فلسفية ومنطقية ولم يؤسسوها على الأدلة الشرعية، ولكن الواجب تعلم العقيدة على علماء أهل السنة الراسخين، والاستفادة من تراث السلف ومصنفاتهم، كالإيمان لابن مندة، ولابن أبي شيبة، والإبانة الكبرى والصغرى لابن بطة، وأصول الاعتقاد للالكائي، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرها كثير –بحمد الله-.
ثانياً: الاختلاف والتفرق:
1-أمر الله –تعالى بالوحدة والائتلاف، والاعتصام بالكتاب والسنة، وذم وعاب التفرق والاختلاف، ونهى عنه وحذر منه، فقال: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"[ آل عمران: 103] وقال: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات"[ آل عمران:105].
2-يجب التسليم لقضاء الله وقدره بأن الاختلاف والافتراق سيقع في الأمة لا محالة، فقد أخبر المعصوم –عليه السلام- بذلك فقال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (رواه أبو داود (4596)والترمذي (2640) وغيرهما وقال: حسن صحيح) وفي لفظ:"كلها في النار إلا واحدة" عند ابن ماجة (2993) من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ وجاء الحديث بألفاظ وطرق متعددة.
وهذا لا ينافي الأمر بالوحدة والاتفاق؛ لأن الخبر بل الأخبار الكثيرة جاءت في الصحيحين وغيرهما بأنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيام الساعة.
3-ليس كل خلاف موجب للفرقة والتنازع، فالاختلاف اليسير فيما يسع فيه الاجتهاد أمر مقبول، بل قد حصل بين السلف شيء يسير من هذا سبق ذكره، وإنما الحذر من الاختلاف في الأصول والكليات (يراجع الاعتصام للشاطبي).
4-أن الاختلاف قد يدّعى مع كونه لا حقيقة له بالفعل، وإنما بسبب سوء فهم المسألة من قبل طرفين متنازعين، فيظن أحدهما أن عبارة السلف في تعريف الإيمان مثلاً أنه: قول وعمل، تخالف قول صاحبه أن الإيمان: قول وعمل واتباع للسنة مثلاً، كما نقل عن سهل بن عبد الله التستري، فيتنازع الاثنان في مسألة لا خلاف فيها أصلاً.
5-ليس كل من خالف السلف في مسألة أو مسألتين من مسائل العقيدة يخرج بالكلية من زمرة السلف، ويرمى بالبدع، فقد خالف إمام الأئمة ابن خزيمة وأبو ثور وغيرهما في مسألة الصورة، فبُيّن خطأهما بهدوء بلا قسوة، وبعدل بلا جور، ولم يُخرجا من أهل السنة والجماعة بسبب زلة أو زلتين.(2/9)
6-لزوم الحذر من الوقوع في الخلاف بسبب الهوى والجهل والظلم، إذ كثير من الخلافات تنشأ نتيجة هذه الأمور الثلاثة والله المستعان.
ثالثاً: ضوابط في معاملة المخالف:
1-العدل: قال الله: "وإذا قلتم فاعدلوا"[ الأنعام:152] وقال: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"[النساء:58] فلا نتجاوز الحدود، ونهضم الحقوق، ونلغي الحسنات بسبب خلاف يسير، يمكن تجاوزه بل إصلاحه بشيء من الصبر والحكمة.
2-المناصحة والرفق: قال -عليه السلام-: "الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-.
فمن وجدناه مخالفاً في مسألة ما وتحققنا مخالفته فيها بذلنا له النصيحة في قالب من الرفق واللين، والرحمة والشفقة، بعيداً عن التشنج والانفعال والغلظة والقسوة.
3-الدعاء له بإخلاص: قال الله -تعالى-: "اهدنا الصراط المستقيم"[الفاتحة:6] وقال:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" [ آل عمران : 8] وهو دعاء بصيغة الجمع في الآيتين، وفيه إشارة إلى مفهوم الجسد الواحد.
فلو كل من خالفنا طلبنا من الله له الهداية، وصدقنا في دعائنا له لقلت بواعث الخلاف والفرقة.
4-البعد عن التبديع والتفسيق: ليس كل خلاف يستدعي وصم صاحبه بأنه مبتدع، ومفارق للجماعة، كما أنه ليس كل من نصر مذهب إحدى الفرق في بعض المسائل يجعل منهم وينسب إليهم، فابن حجر قال بقول الأشاعرة في جملة من الصفات وكذا فعل النووي ومع ذلك لا يعدان أشعريين، وإن زعمه البعض.
5-يجب التفريق بين المخالف والمتعصب وطالب الحق، فهناك من يخالف حمية وهوى وعصبية، وتقليداً وآخر يخالف اجتهاداً أو غفلة أو سوء فهم أو ملبساً عليه، فالأول يهجر إن غلظت بدعته واستعصت استجابته والآخر يحفظ حقه في الوصل ودوام النصح حتى يراجع الحق.
6-يجب التفريق بين المخالفة والبدعة المغلظة، وغيرها، فهناك بدع كبرى كالتجهم والرفض ونحوها، فيعامل أصحابها بما يناسب حالهم، وتبين معتقداتهم حتى تحذر وشخوص معتنقيها حتى تهجر، وخصوصاً مع خاصتهم وكبرائهم، وأما العامة فلا بأس من دعوتهم إلى الإسلام وإقناعهم به لمن قوي على الدعوة، وعرف ما يدعو إليه وما يحذر منه.
7-الاختلاف في مناهج الدعوة والإصلاح قد تقع من أصحاب العقيدة الواحدة، لا ينبغي أن يكون الاختلاف في وسائل الدعوة وطرائقها المتنوعة مستنداً للتبديع والتفسيق والتصنيف والافتراء، طالما أن العقيدة واحدة والدعوة إليها هدف، والبراءة من مخالفتها مطلب، والخلاف في الوسائل محل اجتهاد ونظر.
8-الرد إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" [ النساء: 59] ولفظة "شيء" نكرة في سياق الشرط فتعمّ كل شيء.
و ينبغي لكم أن تحذروا الناس من المذاهب والفرق الضالة، كالقاديانية، والبهائية، والرافضة وغيرهم، خصوصاً مع عدم وجود من يُحذر ويُنكر -كما ذكرتم-.
وختاماً أسأل الله لكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ودعوة مستجابة، ، والله أعلم وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه والسلام عليكم
==============
الإقامة بين غير المسلمين لحديثي العهد بالإسلام
الشيخ/د. سعود الفنيسان (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً) 24/3/1424
25/05/2003
ازدادت في العقود الأخيرة -وبشكل بارز- ظاهرة السفر والتنقل إلى البلاد الغربية ؛ بهدف العمل أو الدراسة . ومع تنامي هذه الرحلات؛ لعله من المناسب التذكير بأهم شروط سفر المسلم إلى تلك البلاد, وهي ثلاثة:
الأول: وجود دين يمنعه من الوقوع في الشهوات المحرمة.
والثاني:أن يكون لدى المسلم المسافر علم يدفع به الشبهات التي تصادفه.
والثالث: أن يكون محتاجاً إلى السفر، كأن يكون مريضاً يطلب العلاج، أو مرافقاً لمريض، أو لتجارة مباحة، أو لطلب علم لا يجده عند المسلمين، أو لغرض الدعوة ونشر الدين...إلخ.
وعليه أن يظهر شعائر دينه أثناء سفره هذا، وأن يكره ما عليه أهل الكفر من باطل وهوى.(2/10)
وهذه الشروط تنطبق على من أسلم حديثاً وهو في ديار الكفار، غير أن الهجرة إلى بلد مسلم -إن تمكن من ذلك- فتنبغي له المبادرة إليها، أما إذا لم يتمكن فلم يجد من يستقبله من ديار المسلمين؛ فلا شيء عليه حينئذ. فقد ثبت أن عدداً من أهل مكة وغيرها بقوا في ديارهم حتى أتتهم الفرصة فقدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، أو وافوه في الطريق في بعض الغزوات فجاهدوا معه، ولم يأمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- (والحالة هذه) بالهجرة إليه، ولم يستفصل منهم هل هم عاجزون عن الهجرة، أم لا؟ ومن هؤلاء عمه العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-. ونعيم النحام لما أراد أن يهاجر جاء إليه قومه المشركون من بني عدي، وقالوا: أقم عندنا وأنت على دينك، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فبقي عندهم، ولما جاء فتح مكة قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:"قومك كانوا خيراً من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك" ومعلوم أن عدداً ليس بالقليل من المؤمنين غير المستضعفين تأخرت هجرتهم، ولو كانت الهجرة واجبة على الفور لأمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك وأنكر على من تخلف منهم.
ويجب أن يعلم أن الهجرة في مفهوم القرآن الكريم والسنة النبوية ليست عملية انهزام وهروب؛ ولكنها عمل حركي للانتقال من دار الباطل إلى دار الحق، وليست عملية انسحابية؛ ولكنها تحيز إلى فئة هي جماعة من المسلمين في أي بقعة من الأرض، ليقيم المسلم معهم شعائر دينه دون معاناة أو تضييق، والكل يعلم أن أكثر المسلمين الذين يفتنون في دينهم من الأقليات -في ديار الكفر- غير قادرين على الهجرة، فهم معذورون شرعاً، لا سيما أنه لا يكاد يوجد من دول الإسلام من تقبل مثل هؤلاء بأن يدخل هؤلاء باسم الهجرة الشرعية ويعاملوا على أساسها، وكل جماعة مسلمة -وإن قل عددها في بلاد الكفر- تقدر على الانعزال والتفرد عن الكفار شعورياً على الأقل وهو الأهم، كما أنها تستطيع أن تندمج عملياً في ذلك المجتمع دون ذوبان أو تبعية؛ بل يستطيع المسلم الجديد إذا أقام في بلده الكافر أن يظهر شعائر دينه، وينشر الإسلام والدعوة إليه ربما أكثر من غيره لمعرفته بأوضاع البلاد وقوانينها وعادات أهلها، ويستخدم من وسائل الدعوة وطرقها ما قد يجهله غيره.
كما أن الهجرة الواجبة في القرآن والسنة، والتي كان يبايع عليها النبي الناس هي: الهجرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما البيعة فأمر زائد على الهجرة، وهذا كان قبل الفتح، أما بعد فتح مكة (فلا هجرة، ولكن جهاد ونية) وجاء في الحديث الصحيح "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويديه والمهاجر من هجر ما نهاه الله عنه" فتعدد معاني الجهاد والهجرة في الإسلام فيه سعة ويسر على المسلمين؛ ليؤخذ لكل زمن منه ما يناسبه، أما طلب العلم الشرعي وأحكامه للمسلم الجديد فيمكنه أن يأخذ ذلك عمن هو أعلم منه مباشرة إن تيسر له ذلك، أو يأخذه من كتاب شرعي معتمد، أو يتلقى المعرفة الضرورية عن طريق وسائل الاتصال الحديثة التي قربت البعيد، وجمعت المتفرق من: إذاعة مسموعة، أو مرئية، وعبر قنوات فضائية، أو إنترنت... إلخ.
وفق الله الجميع إلى كل خير، وثبتنا على الحق حيثما كنا.
=============
مسائل الطهارة في البلاد غير الإسلامية(1)
د/عبد الكريم الخضر* 4/2/1424
06/04/2003
المسألة الأولى:
حكم استعمال أواني الكفار**
حكم استمال أواني الكفار إذا تيقن طهارتها :
اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنه إذا تيقن المسلم طهارة أواني الكفار ، فإنه يجوز له استعمالها(1)
قال النووي في المجموع بعد ذكره لجواز استعمال أواني الكفار إذا تيقن طهارتها: (ولا نعلم فيه خلافا)(2)
المسألة الثانية:
حكم استعمال أواني الكفار إذا لم يتيقن طهارتها :
اختلف الفقهاء في حكم استعمال المسلم لأواني الكفار إذا لم يتيقن طهارتها ولم يغسلها على ثلاثة أقوال هي :
القول الأول : أنه يجوز استعمالها مطلقاً .
وهذا القول وجه عند الشافعية(3) ، و المذهب عند الحنابلة (4)
القول الثاني : انه يكره استعمالها .
وهذا القول مذهب الحنفية (5) ، ومذهب الشافعية (6) ورواية عند الحنابلة (7).
القول الثاني أنه يكره استعمالها .
القول الثالث : أنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها.
وهذا القول مذهب المالكية(8) ، ووجه عند الشافعية (9)، ورواية عند الحنابلة (10).
الأدلة
أدلة القول الأول
الدليل الأول :
قال الله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) المائدة:5
وجه الدلالة:
أنه الله سبحانه وتعالى أباح لنا أكل طعام أهل الكتاب ، ومعلوم أن طعامهم يطبخونه في قدورهم ويباشرونه بأيديهم وهذا يدل على طهارة أوانيهم التي يطبخون بها ويستعملونها (11).
الدليل الثاني :
عن عمران بن حصين رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضؤوا من مزادة مشركة )(12).
وجه الدلالة أن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مزادة مشركة يدل على طهارتها وهي من أواني المشركين مما يدل على طهارة أوانيهم .
الدليل الثالث :(2/11)
عن جابر بن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بهم فلا يعاب علينا(13) .
وجه الدلالة :
حيث دل هذا الحديث على استمتاع المسلمين واستفادتهم من آنية المشركين ، ولم يعاب عليهم وهذا يدل على طهارتها .
الدليل الرابع:
عن أنس رضي الله عنه أن يهودياً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير، وإهالة سَنَخَةٍ (14) ، فأجابه (15).
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب اليهودي الذي دعاه إلى الطعام ، ومعلوم أن الطعام يطبخ ويقدم في أواني ، وهذا يدل على أن أواني الكفار طاهرة ؛ لان أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها دليل على طهارتها؛ لأنها لو كانت نجسة لما أكل منها النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الخامس :
عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية (16).
وجه الدلالة :
أن وضوء عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ماء النصرانية الذي في جرتها دليل على طهارة آنيتها ؛ لأنها لو لم تكن طاهرة لم يصح الوضوء من الماء الموجود فيها ، وهذا دليل على طهارة أواني الكفار .
الدليل السادس:
أن الأصل في أوانهيم الطهارة ، فلا ينتقل عن الأصل إلا بدليل ، ولا دليل ينقل عن الأصل فيبقى (17).
أدلة القول الثاني :
الدليل الأول:
عن أبي ثعلبة الخشني قال : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم ، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك قال : أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل لكتاب ، تأكلون في آنيتهم ، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد ، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل ، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر الله عليه ثم كل ، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل (18) .
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية أهل الكتاب إلا إذا لم يوجد غيرها فإنها تغسل ثم تستعمل ، وهذا يدل على كراهية استعمالها مع وجود غيرها.
ونوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول :
أن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون فهيا لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود (19) .
الوجه الثاني :
أن النهي عن استعمالها مع وجود غيرها محمول على الاستحباب (20) .
الوجه الثالث:
قال البيهقي : روى عن أبي ثعلبة الخشني ما دل على أن الأمر بالغسل قد وقع عند العلم بنجاسة آنيتهم(21) .
الدليل الثاني :
أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة (22) .
يناقش : بأنه لا يسلم لكم أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة ، بل إن منهم من يتورع عنها ، وقد تبين لنا من الأدلة السابقة كيف توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مزادة مشركة ، وكيف أجاب اليهودي الذي دعاه إلى خبز شعري وإهالة سنخة ، وهذا يدل على أنهم يتورعون عن النجاسة في الأواني فالأصل طهارة أوانيهم ما لم يثبت ويعلم يقيناً نجاستها.
أدلة القول الثالث :
الدليل الأول :
قال الله تعالى : ( إنما المشركون نَجَسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) التوبة:28
وجه الدلالة :
أن الله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية نجاسة المشركين ، ومعنى هذا أنهم نجس وكل ما يباشروه من أوانٍ ونحوها ، فإنه يكون نجساً لنجاستهم فلا يصح استعماله قبل غسله.
نوقش :
بأن المراد بنجاسة المشركين في هذه الآية نجاسة اعتقادهم ودينهم المحرف، وليس المراد نجاسة أبدانهم وأوانيهم ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أدخلهم المسجد) واستعمل آنيتهم وأكل طعامهم (23).
الدليل الثاني :
عن أبي ثعلبة الخشني قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت يا رسول الله ، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم ، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك ، قال : أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب ، تأكلون في آنيتهم ، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم لك ، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر الله ثم كل ، وما صبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل"(24).
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية أهل الكتاب إلا إذا لم يوجد غيرها فإنها تغسل ثم تستعمل . وهذا يدل على نجاستها؛ لأنها لو لم تكن نجسة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها .
ونوقش من ثلاثة أوجه : سبق ذكرها (25) .
الترجيح:(2/12)
بعد النظر في هذه المسألة والإطلاع على الأقوال الواردة فيها ، ومعرفة أدلة هذه الأقوال ، ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة من هذه الأدلة ، تبين لي -والله أعلم بالصواب- أن القول الراجح هو القول الأول - وهو أنه يجوز استعمال أواني الكفار إذا لم يعلم بنجاستها ولم يتيقن طاهرتها - ؛ وذلك لقوة أدلته وكثرتها وسلامتها من المناقشة ، ودلالتها الصحية على محل الخلاف ، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى لو عدم سلامتها من المناقشة ، ولما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه من استعمال أواني الكفار في مناسبات كثيرة وعدم تحرزهم ن ذلك مما يدل على طهارتها والله أعلم بالصواب.
*- أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود/فرع القصيم
**ن/ع مجلة المجمع الفقهي العدد 13 /النسة الثالثة عشرة
(1) - انظر : المبسوط 1/97، حاشبة الدسوقي 1/66 ، الشرح الكبير للدردير1/61 ، المجموع 1/363 ، المقنع 1/155، الشرح الكبير لابن قادمة 1/155 ، الإنصاف 1/155 ، المغني 1/109 شرح منتهى الإرادات 1/26.
(2)- المجموع1/263.
(3)- حلية العلماء1/124.
(4)- المغني 1/109 ، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155 ، شرح العمدة في الفقه 1/1109 ، المقنع 1/155، الإنصاف 1/155، شرح منتهى الإرادات 1/26.
(5)- البحر الرائق 8/223، المبسوط 24/27.
(6)- المهذب 1/12، المجموع 1/263 مغني المحتاج 1/31.
(7)- المغني 1/109 ، شرح العمدة في الفقه 1/119 ، الإنصاف 1/155، الفروع 1/100 .
(8)- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/78، الكفار ص 178.
(9)- روضة الطالبين 1/27 ،حلية العلماء 1/124.
(10)- الفروع 1/100 ، الإنصاف 1/156.
(11)- المجموع1/264
(12)- رواه البخاري صحيح البخاري 1/881 ، كتاب التيمم ، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء ، ورواه مسلم ، صحيح مسلم 1/474 وما بعدها ، كناب المساجد ومواضع الصلاة ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها . والحديث طويل وفيه قصة.
(13)- رواه الإمام أحمد في المسند 3/379 ، وأبو داود ، سسن أبي داود 4/177، كتاب الأطعمة ، باب الأكل في آنية أهل الكتاب ، ورواه البيهقي ، السنن الكبرى 1/22 ، كتاب الطهارة ، باب التطهير في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة . قال الألباني : هذا إسناد صحيح إرواء الغليل 1/76 ، وجاء في مسند الإمام أحمد تحقيق شعيب الأرنوؤط عن هذا الحديث قوله : " إسناده قوي " . انظر : الموسوعة الحديثية ، مسند الإمام أحمد 23/292.
(14)- الإهالة : الدسم ما كان والسَّنخةُ : المتغيرة . انظر :ليان العرب 3/27 باب الخاء المعجمة ، فصل السين المهملة ، مادة ( سنخ) . وقيل الإهالة ما أذبت من الشحم . وقيل : الإلهالة الشحم والزيت ، وقيل : كل دهن أو تدم به إهالة ، والإهالة الودك .. وقيل هو ما أذيب من الآلية والشحم . قيل : الدسم الجامد ، والسنخة : المتغير الريح . لسان العربي 11/23 ، حرف اللام ، فصل الهمزة ، مادة ( أهل) .
(15)- رواه الإمام أحمد في المسند 3/210 ، 270 ، قال الألباني : وإسناده صحيح على شرط الشيخين " إرواء الغليل 1/71 ، وجاء في مسند الإمام أحمد تحقيق شعيب الأرنؤوط عن هذا الحديث قوله : إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبان -وهو ابن يزيد العطار -فمن رجال مسلم،انظر : المسوعة الحديثية ، مسند الإمام أحمد 20/424.
(16)- ذكره البخاري تعليقاً فقال : وتوضأ عمر بالحميم ومن بيت نصرانية . صحيح البخاري 1/56 ، كتاب الوضوء ، باب وضور الرجل مع أمرأته وفضل وضوء المرأة ، ورواه البيهقي . السنن الكبرى 1/22، كتاب الطهارة ، باب التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة ، واللفظ له ، وقال النووي : " صحيح رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح ، وذكره البخاري في صحيحه بمعناه تعليقاً " المجموع 1/363.
(17)- انظر المجموع 1/356.
(18)- رواه البخاري ، صحيح البخاري 6/219 ، كتاب الذبائح والصيد ، باب صيد القوس ، ورواه مسلم ، صحيح اسلم 2/1522 ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد بالكلاب المعلمة ، واللفظ له.
(19)- روى أبو داود بسنده عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا " سنن أبي داود 2/391، كتاب الأطعمة ، باب الأكل في آنية أهل الكتاب .
(20)- انظر : المجموع 1/265.
(21)- السنن الكبرى 1/33.
(22)- المغني 1/111.
(23)- انظر المجموع1/264-265.
(24)- سبق تخريجه .
(25)- سبق ذكر الأوجه الثلاثة
================
المسألة الثانية: حكم لبس ثياب الكفار**
وفيه أمران:
-الأمر الأول: لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم.
-الأمر الثاني: لبس ثياب الكفار التي تلي عوراتهم.
الأمر الأول:
حكم لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم.(2/13)
اختلف الفقهاء في حكم لبس المسلم للثياب التي استعملها الكفار مما لا تلي عوراتهم ، كالعمائم الثياب الفوقانية والمعاطف ونحوها على ثلاثة أقوال هي :
القول الأول : أنه يجوز لبسها واستعمالها.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، والحنابلة (2).
القول الثاني : أنه يكره لبسها.
وهذا مذهب الشافعية (3).
القول الثالث : أنه لا يجوز لبسها .
وهذا مذهب المالكية (4).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
الدليل الأول:
أن الأصل في الثياب هو الطهارة فلا تثبت النجاسة بالشك (5).
الدليل الثاني :
"أن التوارث جارٍ فيما بين المسلمين بالصلاة في الثياب المغنومة من الكفرة قبل الغسل" (6).
الدليل الثالث:
أن خبث الكفار في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه فتبقى ثيابه على أصلها في الطهارة(7).
أدلة القول الثاني :
الدليل الأول :
عن أبي ثعلبة الخشني قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم ، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك ، قال : أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب ،تأكلون في آنيتهم ، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد،فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل،وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل(8).
وجه الدلالة:
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال أواني أهل الكتاب فيقاس عليه استعمال ثيابهم ، ولبسها وأقل أحوال النهي الكراهة ، فيكون استعمال ثيابهم ولبسها مكروهاً.
يناقش:
بأنه لا يسلم لكم هذا الاستدلال؛ لأن هذا الحديث لم يرد في الثياب وإنما ورد في الأواني فلا يصح قياس الثياب على الأواني ؛ لوجود الفارق بينها.
وعند التسليم بصحة قياس الثياب على الأواني فإنه يرد عليه الاعتراض من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول :
أن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون فهيا لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود
الوجه الثاني :
أن النهي عن استعمالها مع وجود غيرها محمول على الاستحباب
الوجه الثالث:
قال البيهقي : روى عن أبي ثعلبة الخشني ما دل على أن الأمر بالغسل قد وقع عند العلم بنجاسة آنيتهم
الدليل الثاني :
أن هذه الثياب قريبة من موضوع الحدث فقد لا يتنزهون من البول (9).
يناقش:
بأنه لا يسلم لكم أن هذه الثياب قريبة من الحدث؛ لأنها لا تلي عوراتهم فهي بعيدة عن مواضع الحدث ، وعلى هذا فإنها تبقى على أصلها وهو الطهارة.
الدليل الثالث:
أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم ثيابهم منها ،وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة (10).
يناقش : بأنه يسلم لكم أنهم لا يتورعون عن النجاسة ، ولكن ذلك يكون في الثياب التي تلي عوراتهم وهلي موضع النجاسة ، دون الثياب التي لا تلي عوراتهم فهي بعيدة عن موضع النجاسة ، فتبقى على أصلها وهو الطهارة ما لم يعلم يقيناً نجاستها.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول :
قال الله تعالى :( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا )التوبة:28.
وجه الدلالة :
أن الله سبحانه وتعالى بيَّن في هذه الآية نجاسة المشركين ، ومعنى هذا أنهم نجس وكل ما يباشرونه من ثياب ونحوها فإنه يكون نجساً ؛ لنجاستهم فلا يصح استعماله قبل غسله.
نوقش : بأن المراد بنجاسة المشركين في هذه الآية نجاسة اعتقادهم ودينهم المحرف ، وليس المراد نجاسة أبدانهم وثيابهم وأوانيهم بدليل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم المسجد واستعمل آنيتهم وأكل طعامهم (11)
الدليل الثاني :
عن أبي ثعلبة الخشني قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم ، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك ، قال : أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب ، تأكلون في آنيتهم ،فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد ، فما أصبت بقوسك فاذكر السم الله عليه ثم كل ، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل ، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل " (12).
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال أواني الكفار إلاَّ عند عدم وجود غيرها فإنه يجب غسلها ، فيقاس عليه استعمال ثيابهم ولبسها فيكون محرماً إلاَّ عند عدم وجود غيرها فإنه يجب غسلها.
يناقش هذا الدليل :
بما نوقش به الدليل الأول من أدلة القول الثاني في هذه المسألة (13).
الترجيح:
بعد النظر في هذه المسألة والاطلاع على الأقوال الواردة فيها ومعرفة أدلة كل قول منها ، ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة ، تبيّن لي - والله أعلم بالصواب- أن القول الراجح هو القول الأول ، وهو أنه يجوز لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم واستعمالها، ولو كان ذلك قبل غسلها ؛ لأن الأصل فيها الطهارة ، والنجاسة طارئة لا تثبت بالشك.(2/14)
وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة ، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى وعدم سلامتها من المناقشة ، ولأن الأصل في الثياب الطهارة، والنجاسة مشكوك فيها، فلا يقدم المشكوك فيه على المتيقن ، والله أعلم.
الأمر الثاني :
حكم لبس ثياب الكفار التي تلي عوراتهم
اختلف الفقهاء في حكم استعمال المسلم كملابسهم الداخلية التي تباشر أجسادهم (14) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يحرم استعمالها.
وهذا مذهب المالكية (15)، ووجه عند الحنابلة ذهب إليه القاضي أبو يعلى (16).
القول الثاني أنه يكره استعمالها .
وهذا مذهب الحنفية (17)، والشافعية (18)، ورواية عند الحنابلة(19).
القول الثالث : أنه يجوز استعمالها .
وهذا القول رواية عند الحنابلة وهي المذهب (20).
الأدلة:
أدلة القول الأول :
الدليل الأول :
عن أبي ثعلبة الخشني : " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا" (21).
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال أواني أهل الكتاب عند مباشرتها للنجاسة ، كالخنزير والخمر عند وجود غيرها ، وأمر بغسلها عند عدم وجود غيرها ، مما يدل على نجاستها ، فيقاس على أوانيهم ثيابهم التي تباشر النجاسة وهي ثيابهم التي تلي عوراتهم ،فتكون نجسة لا تستعمل عند وجود غيرها ، وعند عدم غيرها تغسل لنزول النجاسة ثم تستعمل .
الدليل الثاني:
أن هذه الثياب التي تلي عوراتهم قريبة من موضع الحدث بل موالية له ، وهم في العادة في هذا الزمان لا يتنزهون من البول ، بل يلبسون ثيابهم هذه بمجرد انتهائهم من التبول ، دون أن يستنجوا أو يستجمروا ، فتكون نجسة .
أدلة القول الثاني :
الدليل الأول :
قالوا : قلنا بالجواز لأننا على يقين من الطهارة ، وفي شك من النجاسة. وأما الكراهة فلأنه يلي موضع الحدث وهم لا يحسنون الاستنجاء ويعرقون فهيا لا محالة ، والظاهر أن إزارهم لا ينفك عن نجاسة فتكره الصلاة فيه (22)
يناقش:
بأن آخر دليلكم صحيح ، ويعارض أوله حيث ذكرتم فيه أنهم لا يحسنون الاستنجاء ، بل هو لا يستنجون أصلاً ولا يستجمرون ، وهم يلبسون ثيابهم الموالية لعوراتهم بعد انتهائهم من البول مباشرة ، قبل استنجائهم أو استجمارهم ، فتكون ثيابهم الموالية لعوراتهم نجسة يقينية نقلت من حكم الطهارة الأصلي.
الدليل الثاني :
أن الثياب التي تلي عورات الكفار قريبة من موضع الحدث ، فقد لا يتنزهون عن الحدث ؛ فيكون استعمالها مكروهاً للشك في نجاستها (23).
يناقش :
بأننا نسلم لكم أن الثياب التي تلي عورات الكفار قريبة من موضع الحدث ، ولكننا لا نسلم لكم ببقية الدليل وهو أنهم قد لا يتنزهون عن الحدث فيكون استعمالها مكروهاً للشك في نجاستها ، بل نقول : إنهم يقيناً لا يتنزهون عن الحدث فيكون استعمالها محرماً لتيقننا نجاستها.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول :
أن الأصل في الثياب هو الطهارة فلا تثبت النجاسة بالشك (24).
يناقش بأنه يسلم لكم أن الثياب التي لا تلي عورات الكافرين الأصل فيها الطهارة ، والنجاسة فيها كشكوك فيها فتبقى على الأصل وهو الطهارة ، ولكنه لا يسلم لكن أن ثياب الكفار التي تلي عوراتهم الأصل فهيا الطهارة ؛ لأننا نعلم يقيناً أنهم لا يتورعون عن النجاسة وأنهم يتبولون فلا يستنجون ولا يستجمرون.
الدليل الثاني :
أن خبث الكافر في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه (25).
يناقش:
بأنها نسلم لكم أن خبث الكفار في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه ، ولذلك لا نقول إن نجاسة ثياب الكفار المالية لعوراتهم منتقلة إليهم ومتعدية من أجسادهم أو من اعتقادهم ، وإنما نقول إن هذه النجاسة جاءت من كونهم لا يتورعون عن النجاسة ، حيث إنهم يتبولون ولا يستنجون ولا يستجمرون ولا يتنظفون عقب ذلك فتصيب النجاسة ثيابهم التي تلي عوراتهم .
الترجيح :
بعد النظر في المسألة السابقة ومعرفة الأقوال الواردة فهيا ،والإطلاع على أدلتها ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة منها ، تبين لي أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول ، وهو انه لا يجوز استعمال ثياب الكفار التي تلي عوراتهم – ما لم تطهر بعدهم -؛ لنجاستها ؛ وذلك لقوة أدلته ، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى وعدم سلامتها من المناقشة ، ولأن الغالب على الكفار الآن عدم تنظفهم بعد قضاء الحاجة ، بل يلبسون ثيابهم مباشرة ، والله أعلم •* استاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود/فرع القصيم
** ن/ع مجلة المجمع الفقهي العدد 13 /النسة الثالثة عشرة
(1) بدائع الصنائع 1/81، المبسوط 1/97، شرح فتح القدير 1/211، حاشية ابن عابدين 1/205.
(2) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121 ، المقنع 1/155، الشرح الكبير لابن قدامة 1/158، شرح منتهى الإرادات1/26.
(3) المهذب 1/، المجموع 1/263 مغني المحتاج 1/31.
(4) المدونة1/35، الشرح الكبير للدردير 1/61،التاج والإكليل1/121 ، حاشية الدسوقي 1/61.(2/15)
(5) انظر بدائع الصنائع 1/81، المبسوط1 /97.
(6) بدائع الصنائع 1/81.
(7) انظر المبسوط 1/97.
(8) رواه البخاري ، صحيح البخاري 6/219 ، كتاب الذبائح والصيد ، باب صيد القوس ، ورواه مسلم ، صحيح اسلم 2/1522 ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد بالكلاب المعلمة ، واللفظ له.
(9) انظر : بدائع الصنائع 1/81.
(10) انظر :الشرح الكبير لابن قدامة 1/157.
(11) انظر المجموع 1/264-265..
(12) سبق ذكر تخريجه.
(13) سبق ذكر هذه المناقشة.
(14)عند سبر أحوال الكفار - في هذا الوقت- نجد أنهم لا يتورعون عن النجاسة عن قضاء الحاجة ؛ حيث إنهم يتبولون ويلبسون ثيابهم دون أن يستجمروا أو يستنجوا . وقد شاهدت هذا في جميع البلاد الغربية التي زرتها . منها ( فرنسا، إيطاليا ، أسبانيا ، بريطانيا ، التشيك ، ألمانيا) ، وقد أخبرني كثير من المسلمين الذين يعيشون في هذه البلدان بأن هذا حال لكفار دائماً.فالإنسان منهم يتبول وهو قائم ثم يلبس لباسه ، ويخرج من دورة المياه دون أن يتننظف بالاستنجاء أو الاستجمار ، وتجد أنه يتبول في دورات مياه ليس فيها ماء ولا حتى مناديل ورقية ، ثم يلبس ملابسه ويخرج ، وهذا بالتالي يجعل الإنسان يقطع بأن ثيابهم التي تلي عوراتهم نجسة بالنظر لحالهم .
(15) المدونة 1/25، حاشية الدسوقي 1/66، الشرح الكبير للدردير1/ 61، التاج والإكليل 1/121.
(16) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155، الإنصاف 1/155.
(17) بدائع الصنائع 1/ ه1، شرح فتح القدير 1/211 ، المبسوط 1/97، حاشبة ابن عابدين1/205.
(18) المهذب 1/121، المجموع1/263 ، مغني المحتاج1/31.
(19) الإنصاف1/155.
(20) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155، الإنصاف 1/155، شرح منتهى الإرادات1/26.
(21) رواه ابو داود . سسن أبي داود 2/291، كتاب الأطعمة ، باب الأكل في آنية أهل لكتاب.
(22) المبسوط 1/97
(23) انظر بدائع الصنائع 1/81.
(24) انظر بدائع الصنائع1/81، المبسوط1/97.
=============
اللجوء السياسي إلى البلاد غير الإسلامية
إعداد/ لجنة البحث العلمي 6/1/1424
09/03/2003
اللجوء السياسي: من المصطلحات الحديثة في الفقه السياسي لم يتعرض له فقهاء الإسلام عندما تكلموا عن عقد الأمان والمستأمن في كتب الفقه الإسلامي بهذا الاسم وإن كنا نفهم معناه عند كلامهم عن مستأمن,وقد أطلق هذا المصطلح في القانون الدولي على الحماية التي تمنحها الدولة فوق أراضيها أو فوق مكان تابع لسلطتها لفرد طلب منها هذه الحماية ، والهدف منه هو إنقاذ حياة أشخاص أو حريتهم يعتبرون أنفسهم مهددين في بلادهم (1).فكل شخص هجر موطنه الأصلي أو أبعد عنه بوسائل التخويف والإرهاب أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو مذهبية ولجأ إلى إقليم دولة أخرى طالباً للحماية أو العيش لحرمانه من العودة إلى وطنه الأصلي يسمى لاجئاً سياسياً في مفهوم القانون الدولي (2).
ومن هنا نرى أن اللجوء السياسي هو الحماية التي تمنحها دولة ما فوق أراضيها أو فوق أي مكان تابع لسلطتها لفرد طلب منها الحماية. وأما اللاجئ السياسي فهو الشخص الذي طلب تلك الحماية لأسباب معينة.
حكم اللجوء السياسي إلى البلاد غير الإسلامية:
إن مفهوم الأرض في الإسلام هو أن كل أرض لله وليست لأحد ، وأينما وجد المسلم أرضاً يمكنه أن يعبد الله فيها بحرية فهي أرضه ، وليس هناك بقعة من الأرض أحق من أخرى برسالة المسلم ، ولن يكون المسلم عبداً لمكان ما في هذه الدنيا مرتبطاً بأسبابه(3) .
وعلى هذا الأساس نفهم قوله تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ، فإياي فاعبدون) سورة العنكبوت:56]
قال سيد قطب في تفسير هذه الآية: " أنتم عبادي وهذه أرضي وهي واسعة ، فسيحة تسعكم فما الذي يمسسكم في مقامكم الضيق الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم أحراراً في عبادتكم فإياي "فاعبدون" وما دامت كلها أرض الله فأحب بقعة منها إذاً هي التي تجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه(4).
كما أن الإسلام بما فيه من سماحة ويسر يقدر دوافع الإباء التي تجعل الإنسان الحر يرفض الدنية في الدين والدنيا (5)والإسلام يربي الإنسان الحر مستقلاً في رأيه ومواقفه.
وفقهاء الإسلام-رحمهم الله- لم يتعرضوا لبحث هذه المسألة إلا ابن حزم في كتاب"المحلى" وذلك أن أسلافنا ما كانوا يتصورون بعدما عاشوا في الدولة الإسلامية أعزاء أقوياء مكرمين أن يأتي زمان على المسلمين يهاجرون من بلادهم(6).
الأدلة على جواز اللجوء السياسي إلى بلاد الكفر:
1-دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوار المطعم ابن عدي, وكان كافراً.
2-دخول أبي بكر -رضي الله عنه- في جوار ابن الدغنة وكان كافراً.
3- هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الحبشة ودخولهم في جوار النجاشي وكان يومها كافراً(2/16)
4- يقول ابن حزم -رحمه الله- في المحلى ( 12/125) : وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعانهم عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره ، فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره
وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ، كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم ، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام ، فمن كان هكذا فهو معذور . انتهى ,ومعلوم أن الزهري عالم من علماء السلف ، وابن حزم يقول عنه معذور رغم أنه كان سيهاجر من أرض الإسلام إلى دار الكفر ليدفع عن نفسه الظلم والقتل . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يعذر المسلم عندما يهاجر ـ تحت ظروف الاضطرار والإكراه ـ إلى دار الكفر ويطلب فيها حق اللجوء ليأمن من إعادته إلى حيث هلكته وليدفع عن نفسه الظلم والقهر.
الشروط الشرعية لجواز طلب اللجوء السياسي:
1-أن يتأكد من وقوع الظلم عليه في دار الإسلام ، ويختار الأرض التي يكون فيها آمناً هو وأهله وأمواله ، ويمكنه أن يعبد الله بحرية أكثر من بلاد الإسلام ، فإن لم يجد فليبحث بعد ذلك بين البلاد غير الإسلامية ، وأن يكون في حماية تلك الدولة ؛ لأن الظلم في الإسلام واحد ، سواء جاء من المسلمين أم من الكافرين وما الفائدة من تغيير صاحب الظلم والفتنة ؟!
2-أن لا يعين الكفار على المسلمين بأي أسلوب من أساليب الإعانة ؛ كأن يفشي لهم أسرار المسلمين ، أو أن يقاتل معهم ضد المسلمين ؛ لأن هذا يعتبر خيانة كبرى في الإسلام.
3-أن ينوي الرجوع إلى دار الإسلام فوراً بعد أن تزول الأسباب التي من أجلها ترك دار الإسلام ، إلا إذا كان في بقائه مصلحة عامة للإسلام والمسلمين ، كأن يرجى إسلام أهل الكفر ، أو تعليم المسلمين الذين أسلموا في دار الكفر .
4-أن يكون سفيراً للإسلام في تلك البلاد بخلقه وعمله وإخلاصه ، وأن يقوم بتعريف الناس بالإسلام ، إذا كانت تسمح له ظروف تلك الدولة وقوانينها .
إشكال وجوابه:
هل طلب اللجوء من الدول الكافرة والاستئناف أمام محاكمها من التحاكم الى الطاغوت؟
الجواب:
1-إن الاحتكام إلى القوانين الوضعية ذات الطابع الإداري والتنظيمي ، والتي لا تتعارض مع دين الله وشرعه في شيء ، لايعد ذلك من ضروب التحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر صاحبه.
يقول الشنقيطي في أضواء البيان ( 4/84) : اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لايقتضي ذلك .
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي . أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم . وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر ، وكاشرائه ـ أعني عمر رضي الله عنه ـ دار صفوان بن أمية وجعله إيَّاها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر . فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شؤون الموظفين ،وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة . انتهى .
ومن يتأمل قوانين اللجوء والاستئناف المعمول بها في بلاد الغرب يجدها لا تخرج عن كونها قوانين تنظيمية وإدارية تنظم عملية اللجوء وشؤون اللاجئين وما لهم من حقوق، وبالتالي لا يجوز تحميل المعاني مالا تحتمل وإقحام التحاكم إلى الطاغوت الذي هو كفر بخالق السماوات والأرض في هذا النوع من التحاكم .
2- من يتأمل قصة لجوء الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى النجاشي يجد أنهم قد اضطروا ـ بعد لجوئهم الأول ونزولهم في ديار الحبشة ـ للمثول أمام الحاكم النجاشي ـ الكافر يومئذٍ ـ مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم ، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم ، وكان احتمال تسليمهم إلى كفار قريش في كل مرة وارداً في حال كانت حجتهم واهية أمام مزاعم قريش التي وشوا بها إلى الملك .
وبعد انتهاء الجلسة الثانية وظهور الصحابة على خصومهم كفار قريش أمام الملك ، تقول أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : فخرجا ـ أي عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ـ من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار .(انظر قصة الصحابة مع النجاشي في مسند الإمام أحمد حديث رقم 1740 قال أحمد شاكر: وإسناده صحيح, وصحيح السيرة النبوية ص 101-108 )
والشاهد من هذه القصة أن تكرار الجلسة في مجلس قضاء الملك مرتين وفي زمانين مختلفين ، وفي حضور الخصوم وجميع الأطراف ، هو نفسه ما يسمى في زماننا بالاستئناف ، فهل يصح أن يقال في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بذلك قد تحاكموا إلى الطاغوت وكفروا .. اللهم لا ، وألف لا .(2/17)
ـ علماً أنه ليس للمسلم أية حقوق شرعية يستطيع أن يُلزم بها الكفار عند لجوئه إليهم ، وطلبه الأمان منهم ، وما يتحصل عليه من حقوق في ديارهم هو من إنصاف القوم وعدلهم، وهذه الشهادة منا لا ينبغي أن يصدنا عنها عداوة القوم وشنآنهم لنا .
3- أن طالب اللجوء إنما يؤكد للطرف الآخر أنه ممن لهم الحق في طلب الأمان ، وهذا أمر لا يتعارض مع دين الله وحكمه في شيء ، وهو مما كان يمارسه ـ أي طلب الأمان والجوار من الكفار والمشركين ـ الصحابة والمسلمون الأوائل عند توفر دواعيه وأسبابه ، بينما المتحاكم إلى الطاغوت يتحاكم في أمور تضاهي وتعارض حكم الله ورسوله (7).
وبعد هذا يتبين أن طلب اللجوء السياسي في بلاد الكفر تحت ظروف الاضطرار والإكراه بسبب فراره من الظلم لا يعد من التحاكم إلى الطاغوت,
والله أعلم ,وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1)-الموسوعة السياسية ، 5/467.
(2)- القاموس السياسي، ص 1043.
(3)-انظر :محمد الغزالي ، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ، الطبعة الأولى ، مطبعة السعادة ، 1963 ،ص 189.
(4) - في ظلال القرآن 5/2749
(5)- انظر : حقوق الإنسان بين تعليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة: ص 186
(6)-(انظر الأحكام السياسية للأقليات الإسلامية ص 56 )
(7)- (انظر حكم الاستئناف لطلب اللجوء السياسي ص 6)
================
حكم بيع المساجد
فضيلة الشيخ / محمد تقي العثماني نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي 22/12/1423
23/02/2003
ما حكم بيع المسجد- إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه - ، وكثيراً ما يشتري المسلمون منزلاً ويحولونه مسجداً ، فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل ، وقد يستولي عليه آخرون ، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون . فما حكم هذا البيع أو الاستبدال ؟ وإذا لم يتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
إن المواضع التي يصلي فيها المسلمون في البلاد الغربية على قسمين : الأول : ما يتخذونه موضع صلاة للمسلمين ، ومحل اجتماعاتهم الدينية ، دون أن يجعلوه مسجداً فقهياً ، بأن يقفوا ذلك المحل والبناء كمسجد ، ولذلك ربما يسمونها ( المركز الإسلامي ) أو ( دار صلاة ) أو ( دار جماعة ) ولا يسمونه مسجداً .
وإن الأمر في مثل هذه المواضع سهل ميسور ، لأنها وإن كانت تستعمل للصلاة فيها ، ليست مساجد شرعية ، لأن أهلها لم يجعلوها مسجداً ، فكلما أراد أهلها أن يبيعوا هذه المواضع لمصالح المسلمين جاز لهم ذلك بالإجماع.
والثاني : ما اتخذوه مسجداً شرعياً ، وجعلوا أرضه وقفاً كمسجد فالحكم في مثل ذلك عند جمهور الفقهاء أن هذا المكان يبقى مسجداً إلى قيام الساعة ، ولا يجوز بيعه في حال من الأحوال ، ولا يرجع إلى ملك واقفه أبداً ، وهذا مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى.
يقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله :
( ولو انهدم مسجد، وتعذرت إعادته أو تعطل بخراب البلد مثلاً، لم يعد ملكاً، ولم يبع بحال ،ولم ينقض إن لم يخف عليه بإمكان الصلاة فيه ولإمكان عوده كما كان... فإن خيف عليه نقض ، وبنى الحاكم بنقضه مسجداً آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه ، وبناؤه بقربه أولى ، ولا يبني به بئراً )(مغني المحتاج 2/392)
ويقول الموّاق من فقهاء المالكية :
(يمنع بيع ما خرب من ربع الحبس مطلقاً ،.... وعبارة الرسالة : ولا يباع الحبس وإن خرب ... وفي الطرر عن ابن عبد الغفور : لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة ، لأنها وقف ، ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك )(التاج والإكليل 6/42 )
وجاء في الهداية من كتب الفقه الحنفي :
( ومن اتخذ أرضه مسجداً لم يكن له أن يرجع فيه ، ولا يبيعه ، ولا يورث عنه ، لأنه تجرد عن حق العباد ، وصار خالصاً لله ، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى ، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه ، كما في الإعتاق. ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه ، فلا يعود إلى ملكه ) ( الهداية مع فتح القدير 5/446 )
إلا أن مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - في مثل هذا أن المسجد يجوز بيعه عندما وقع الا ستغناء عنه بالكلية ،
فقد جاء في المغني لابن قدامة :
( إن الوقف إذا خرب ، وتعطلت منافعه ، كدار انهدمت أو أرض خربت ، وعادت مواتاً ، ولم تمكن عمارتها ، أو مسجد . انتقل أهل القرية عنه ، وصار في موضع لا يصلى فيه ، أو ضاق بأهله ، ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعب جميعه ، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته ، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ) (المغني مع الشرح الكبير 6/225 )
وهناك قول آخر ، وهو قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني أن الوقف إذا استغني عنه تماماً ، فإنه يعود إلى ملك الواقف أو إلى وارثه بعد موته ،
يقول صاحب الهداية :(2/18)
( وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وارثه بعد موته ، لأنه عين لنوع قربة ، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه ) (الهداية مع فتح القدير 5/446 ) فإذا عاد إلى ملك الواقف جاز بيعه بعد ذلك.
وقد استدل الجمهور على قولهم بعدم جواز البيع, وعدم انتقاله الى ملك الواقف , بقصة عمر -رضي الله عنه -بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان من شرائط الوقف : أنه لا يباع أصلها , ولا تباع ولا تورث, ولا توهب . أخرجه الشيخان, وهذا لفظ مسلم في باب الوقف.
واستدل الإمام أبو يوسف للجمهور بالكعبة أيضاً, فإن زمن الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الأصنام , وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية , ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع طاعة وقربة خاصة لله تعالى , فكذلك سائر المساجد , واعترض عليه ابن الهمام في فتح القدير 5/ 446 بأن الطواف لم يزل باقياً في عهد الفترة أيضاً , فلم تترك العبادة المقصودة بالكعبة راساً, وأجاب عنه العثماني التهانوني -رحمه الله - بأن القربة التي عينت لها الكعبة هي الصلاة إليها دون الطواف وحده لقوله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام -بعد ذكر إسكانه وذريته عند البيت الحرام (ربنا ليقيموا الصلاة) ولم يذكر الطواف , وقوله (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين ) مفسر بالمسافرين والمقيمين كقوله (سواءً العاكف فيه والباد ) (انظر إعلاء السنن 13/212 )
ومن أقوى أدلة الجمهور في هذا الباب قول الله تعالى (وأن المساجد لله )
قال ابن العربي :( إذا تعينت أصلا وعينت له عقداً, فصارت عتيقة عن التملك, مشتركة بين الخليقة في العبادة ) (أحكام القرآن 4/1869 )
وأما الإمام أحمد فاستدل له ابن قدامة "بما روي أن عمر _رضي الله عنه- كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : انقل المسجد الذي بالتمارين , واجعل بيت المال في قبلة المسجد , فإنه لن يزال في المسجد مصلٍ" (المغني 6/226 )
وأجاب عنه ابن الهمام بأنه يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد (فتح القدير 5/446 )
ويبدو أن المذهب الراجح في هذا ,مذهب الجمهور, فلا ينبغي أن يباع مسجد بعد ما تقرر كونه مسجداً , وإلا صارت المساجد مثل كنائس النصارى , يبيعونها كلما شاؤوا , ولكن المسألة لما كانت اجتهادية, وعند الفريقين أدلة من الكتاب والسنة, فلو خيف الاستيلاء من قبل الكفار على مسجد ارتحل عن جواره أهله, ولم ترجَ عودة المسلمين إلى ذلك المكان , ففي مثل هذه الضرورة الشديدة يبدو أنه لا بأس بالأخذ بقول الإمام أحمد , أو محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى - ، ويباع بناء المسجد ، ويصرف ثمنه إلى بناء مسجد آخر ، لا إلى مصرف سوى المسجد ، قد نص عليه فقهاء الحنابلة حيث قالوا : ( ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة ، لجاز تخريب المسجد ، وجعله سقاية وحوانيت ، ويجعل بدله مسجداً في موضع آخر) (المغني 6/226 )
ثم إن جواز هذا البيع إنما يصار إليه إن تحقق انتقال جميع السكان مما حول المسجد ، ولم يرج عودهم إليه ، فإن انتقل أكثر السكان ، وبقي منهم بعض ، فلا سبيل إليه ، قد نصّ عليه فقهاء الحنابلة أيضاً حيث قالوا:
"وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلّت، وكان غيره أنفع منه وأكثر, رد على أهل الوقف ولم يجز بيعه ، لأن الأصل تحريم البيع ، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله ، ومع الانتفاع ، وإن قلّ ما يضيع المقصود" (المغني 6/227 )
============
الخلاف حول وقت عيد الأضحى
الشيخ/ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء 29/11/1423
01/02/2003
السؤال
في ولايتنا في أمريكا تم الخلاف حول صلاة عيد الأضحى إلى ثلاثة أقوال ، قول : نصلي يوم السبت ونصوم الجمعة حسب اختلاف المطالع ، والثاني : نقتدي بالسعودية نصلي الجمعة ونصوم الخميس ، ورأي آخر : نصوم الخميس لأن المسلمين يقفون بعرفة الخميس ، ونصلي ونحتفل بالعيد السبت فما رأيكم في ذلك ؟ وكيف نقلل من حدة الخلاف؟
الجواب.
الاختلاف ممكن في رؤية هلال رمضان وهلال عيد الفطر ، وإن كان الأفضل عند جمهور الفقهاء أن يصوم جميع المسلمين ويفطروا عند رؤية الهلال في أي قطر من الأقطار.
أما بالنسبة لعيد الأضحى فلا يجوز ذلك إطلاقاً ولا ينظر في هلال ذي الحجة إلى الحساب ولا إلى رؤية الأقطار، وإنما ينظر فقط إلى الأوقات التي يسير عليها الحجاج فعلاً. فيوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الحجيج في عرفة فعلاً، ولا عبرة بالرؤية في جميع الأقطار ولا بالحساب إذا خالف ذلك.
هذا في رأيي هو الاجتهاد الأصح، إلا أنه لا يمكن مصادرة عقول الناس وإلزامهم باجتهاد واحد ، فالخلاف في مثل هذه الأمور كان موجوداً منذ القدم ، وسيظل موجوداً إلى أن تقوم الساعة . لكن ، ربط عيد الأضحى بالسعودية باعتبارها مكان أداء مناسك الحج هو الاجتهاد الأقرب لجمع الناس عليه
================
خطبة الجمعة بغير العربية
فضيلة الشيخ: عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله- 15/11/1423
18/01/2003(2/19)
مسألة أحدثت اختلافاً بين المسلمين في بعض المناطق الناطقة بغير العربية فقوم يرون وجوب أن تكون خطبة الجمعة بالعربية، وآخرون يرون أن تكون بلغة المخاطبين وسداً لأبواب الاختلاف ننقل فتوى بعض أهل العلم المعتبرين في هذه المسألة.
فتوى الشيخ عبد العزيزبن باز-رحمه الله -:(1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن ولاه ، أما بعد : فقد تنازع العلماء رحمهم الله في جواز ترجمة الخطبة المنبرية في يوم الجمعة والعيدين باللغات الأعجمية ، فمنع ذلك جمع من أهل العلم ، رغبة منهم _رضي الله عنهم_ في بقاء اللغة العربية والمحافظة عليها والسير على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في إلقاء الخطب باللغة العربية في بلاد العجم وغيرها ، وتشجيعاً للناس على تعلم اللغة العربية والعناية بها . وذهب آخرون من أهل العلم إلى جواز ترجمة الخطب باللغة العجمية إذا كان المخاطبون أو أكثرهم لا يعرفون اللغة العربية ، نظراً للمعنى الذي من أجله شرع الله الخطبة ، وهو تفهيم الناس ما شرعه الله لهم من الأحكام ، وما نهاهم عنه من المعاصي والآثام , وإرشادهم إلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة ، وتحذيرهم من خلافهما ، ولا شك أن مراعاة المعاني والمقاصد أولى وأوجب من مراعاة الألفاظ والرسوم ، ولا سيما إذا كان المخاطبون لا يهتمون باللغة العربية ولا تؤثر فيهم خطبة الخطيب بها، تسابقاً إلى تعلمها ، وحرصاً عليها . فالمقصود حينئذ لم يحصل ، والمطلوب بالبقاء على اللغة العربية لم يتحقق ، وبذلك يظهر للمتأمل أن القول بجواز ترجمة الخطب باللغات السائدة بين المخاطبين الذين يعقلون بها الكلام ويفهمون بها المراد أولى وأحق بالاتباع ، ولا سيما إذا كان عدم الترجمة يفضي إلى النزاع والخصام ،فلا شك أن الترجمة والحالة هذه متعينة لحصول المصلحة بها ، وزوال المفسدة ، وإذا كان في المخاطبين من يعرف اللغة العربية ، فالمشروع للخطيب أن يجمع بين اللغتين ، فيخطب باللغة العربية ، ثم يعيدها باللغة الأخرى التي يفهمها الآخرون ،وبذلك يجمع بين المصلحتين ، وتنتفي المضرة كلها وينقطع النزاع بين المخاطبين .ويدل لذلك من الشرع المطهر أدلة كثيرة ، منها ما تقدم ، وهو : أن المقصود من الخطبة نفع المخاطبين وتذكيرهم بحق الله ، ودعوتهم إليه ، وتحذيرهم مما نهى الله عنه ، ولا يحصل ذلك إلا بلغتهم . ومنها :أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل عليهم السلام بألسنة قومهم ؛ ليفهموهم مراد الله سبحانه بلغاتهم ، كما قال عز وجل : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) ، وقال عز وجل : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) ، وكيف يمكن إخراجهم به من الظلمات إلى النور ، وهم لا يعرفون معناه ، ولا يفهمون مراد الله منه ، فعلم أنه لا بد من ترجمة تبين المراد ،وتوضح لهم حق الله سبحانه إذا لم يتيسر لهم تعلم لغته ، والعناية بها ، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليكاتبهم بها ، ويقيم عليهم الحجة ، كما يقرأ كتبهم إذا وردت ويوضح للنبي صلى الله عليه وسلم مرادهم ، ولا شك أن هذا السبيل لا بد منه ، ولا سيما في آخر الزمان ، وعند غربة الإسلام ، وتمسك كل قبيل بلغته ، فإن الحاجة للترجمة ضرورية ولا يتم للداعي دعوة إلا بذلك.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين أينما كانوا للفقه في دينه والتمسك بشريعته والاستقامة عليها وأن يصلح ولاة أمرهم، وأن ينصر دينه، ويخذل أعداءه إنه جواد كريم.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فتوى الشيخ:محمدبن صالح العثيمين -رحمه الله-:(2)
الجواب: الصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز لخطيب الجمعة أن يخطب باللسان الذي لا يفهم الحاضرون غيره، فإذا كان هؤلاء القوم مثلاً ليسوا بعرب ولا يعرفون اللغة العربية فإنه يخطب بلسانهم، لأن هذا هو وسيلة البيان لهم، والمقصود من الخطبة هو بيان حدود الله سبحانه وتعالى للعباد،ووعظهم وإرشادهم ، إلا أن الآيات القرآنية يجب أن تكون باللغة العربية ، ثم تفسر بلغة القوم، ويدل على أنه يخطب بلسان القوم ولغتهم قوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلى بلسان قومه ليبين لهم ) .[ سورة إبراهيم: الآية :4]
فبين الله تعالى أن وسيلة البيان إنما تكون باللسان الذي يفهمه المخاطَبون .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا
(1)- انظر فتاوى اللجن الدائمة 8/251
(2)- فتاوى أركان الاسلام 393
==============
التجنس بجنسية غير إسلامية "المشكلة والحل"
فضيلة الشيخ: أبوبكر الجزائري 2/11/1423
05/01/2003
المشكلة(2/20)
التجنس هو أن يطلب المرء تبعية دولة من الدول المعاصرة، فيعطاها فيصبح تابعاً لتلك الدولة، يجري عليه ما يجري على أفرادها من أحكام وقوانين سياسية ومالية واجتماعية في الجملة ودون تفصيل، وبما أن العلمانية سادت أكثر دول العالم، فإن التدين أصبح حراً، فللمواطن بالأصالة أو التبعية أن يتدين بما شاء، فالمسلم إذا حصل على جنسية بريطانية لا يصبح نصرانياً، والبريطاني إذا حصل على جنسية باكستانية لا يصبح مسلماً، وكذا الفرنسي إذا حصل على جنسية مغربية أو جزائرية أو تونسية، لا يصبح مسلماً بل يبقى على دينه الذي اعتنقه أو ورثه عن آبائه وأجداده.
وإذا عرف هذا فهل يصح أن يحكم على المسلم إذا أخذ جنسية دولة كافرة كأمريكا أو بلجيكا أو فرنسا أو بريطانيا، وبقي على دينه الإسلامي عقيدة وعبادة، يحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، هل يصح أن يحكم عليه بالكفر والردة.
والجواب متروك لأهل العلم والنظر، أما أنا شخصياً فلا أقول بكفره، ولا بردته وأبرأ إلى الله تعالى من أن أكفر مسلماً وأحكم عليه بالردة كما أبرأ إلى الله تعالى ممن يكفر مسلماً أو يحكم بردته لمجرد أنه تابع لدولة كافرة قانونياً، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، ويحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله من المطاعم والمشارب والمناكح وغيرها.
الحل
إن حل هذه المشكلة يكون باتخاذ ما يلي وهو:
إرجاع كل مسلم في بلاد الكفر إلى بلاده الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وهنا يطرح هذا السؤال: هل بالإمكان إرجاع المهاجرين المسلمين وتهجير من أسلم من الكافرين إلى بلاد المسلمين؟.
وإذا كان الجواب: إن هذا من غير الممكن اليوم وغير متأت أبداً، فما هو الحل إذاً يا ترى؟
الجواب: إن الحل لهذا المشكل العويص ليس في الحكم بردة المتجنس ، وإنما هو اتباع ما يلي:
تكوين لجنة عليا يتكون أعضاؤها من كافة البلاد الإسلامية تحت عنوان اللجنة العليا لرعاية المهاجرين، وتكون لها ميزانية يسهم فيها كل بلد إسلامي بقدر معين من المال بحسب حال البلد قوة وضعفاً، وتتلخص مهام تلك اللجنة فيما يلي:
1- بناء مساجد لهم يصلون فيها ويتعلمون الضروري من دينهم الإسلامي.
2- تعمير تلك المساجد بالأئمة الأكفاء القادرين على تربية إخوانهم روحياً وسلوكياً وتزويدهم بالكتاب الصالح النافع الذي يجمع ولا يفرق ويهدي ولا يضل كمنهاج المسلم.
3- العمل على توحيد المهاجرين في البلد الذي هم فيه بحيث تنعدم الفوارق بينهم ويصبحون جماعة واحدة ليس لها انتماء إلا إلى اللجنة العليا لرعاية المهاجرين.
4- إيجاد تعليم لأبناء المهاجرين يتناسب مع ما لديهم من وقت يتعلمون فيه ما لا بد منه من العقيدة والعبادة والخلق والأدب، مع اللغة العربية لغة الكتاب والسنة.
5- العمل على إيجاد تعاون بينهم يثمر ما يلي:
أ) وجود مجزرة ومقبرة ليأكلوا الحلال من اللحوم، وليقبروا موتاهم في مقابر خاصة بهم.
ب) تكوين لجنة من ثلاثة علماء في كل بلد فيه مهاجرين مهمتها:
إصلاح ذات البين بين أفراد المهاجرين المسلمين، ليتحاشوا التحاكم إلى محاكم غير إسلامية.
عقد النكاح بين الزوجين وتقرير فرقة الطلاق بينهما إذا خيف الضرر عليهما أو على أحدهما، وتعذر الإصلاح برفع الضرر.
قسمة كل مسلم تركته وهو حي على ورثته وكتابة صك بذلك حتى إذا مات نفذ ما في الصك كأنه وصية وحتى لا تتدخل السلطة الحاكمة في تقسيم التركة حسب قوانينها.
إيجاد قانون مالي بينهم وذلك بإنشاء مصرف للإيداع والإنماء وفق الشريعة الإسلامية التي تحرم الربا وتبيح الربح بالتعاون المشروع.
هذا هو الطريق لحل مشكلة المهاجرين في بلاد الكافرين، فهل في الإمكان سلوكه إنقاذاً لملايين المسلمين من الذوبان في مجتمعات الكفر والإلحاد وأداء لواجب الدعوة إلى الإسلام وفي وقت الدعوة فيه لا تكلف عرقاً ولا دماً إذ لم تزد على الدينار والصدق في جمعه وصرفه لا غير.
وقبل أن ينهض المسلمون بهذا الواجب، وهو حل مشكلة ملايين المهاجرين في ديار الكفر أقدم فتواي التي أراها حلاً جزئياً للمشكلة وهي أن على المسلمين المهاجرين العودة إلى بلادهم فوراً إذ هجرتهم ما كانت فراراً بدينهم (1)، ولا كانت إلى دار إسلام، بل كانت إلى دار كفر، وقد تسببت هجرتهم في ضياع دينهم أيضاً فلا يسعهم البقاء على هذه الحال إلا بالإلتزام بما يلي:
1- أن ينووا الرباط في سبيل الله، وذلك بتكثير سواد المسلمين في ديار الكافرين.
2- أن يقوموا بالدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.(2/21)
3- أن يصححوا عقائدهم، ويعبدوا ربهم بما شرع لهم، ويهذبوا أخلاقهم ويكملوا في آدابهم لتكون دعوتهم بالحال، وهي أنفع من دعوة القال باللسان وليعلموا أن هذا لا يتم إلا بوجود علماء صالحين يربونهم عقائد وعبادات وأخلاقاً وآداباً فليطلبوا هؤلاء العلماء وليطيعوهم طاعة كاملة ما أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا هذا وتحقق لهم فهم مرابطون في سبيل الله ولهم أن يأخذوا جنسية الدولة التي هم فيها، سواء كانوا مهاجرين أو مواطنين على شرط أن يكون التجنس -وهي غير التدين قطعياً- مساعداً لهم على دعوة الإسلام التي هم مرابطون من أجلها.
هذه فتواي والله أسأل أن تكون مرضية له عز وجل، نافعة لعباده المؤمنين، وأن لا يحرمني أجر اجتهادي فيها آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(2)
(1)يستثنى من هذا التعميم الفارون- بدينهم من الحكومات الظالمة .
(2)-ن/ع كتاب إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام 40-47 للشيخ الجزائري- حفظه الله-بتصرف يسير-
================
التعامل مع الجار الكافر
الشيخ :محمد بن صالح العثيمين رحمه الله 18/10/1423
22/12/2002
يشكل على بعض الإخوة المقيمين في بلاد الكفر التعامل مع جيرانهم الكفار لذا كان من الواجب توضيح الحكم الشرعي حول بعض الإشكالات التي أجاب عنها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-*•
سؤال:1
هل يجوز للمسلم أن يزور جاره النصراني أو الكافر إذا هو مرض أو يتبع جنازته إذا مات؟
الجواب:
أما عيادته إذا مرض فلا بأس لأنه يرجى أن يلين قلبه - أي قلب هذا الكافر - فيسلم كما جرى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع الشاب اليهودي حين عاده النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ودعاه إلى الإسلام فالتفت الشاب إلى أبيه كأنه يستشيره فقال له أبوه أطع محمداً فتشهد شهادة الحق ثم مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أنقذه بي من النار(1).
سؤال:2
إذا كان جاري كافراً فهل يجوز لي أن أقضي حاجته التي يطلبها مني؟
الجواب:
هذا يعود إلى ما جرى به العرف فإذا كان من عادات الجيران أن بعضهم يقضي حاجة الآخر كما لو نزل الجار إلى السوق وقال له جاره اشتر لي معك كذا وكذا من فاكهة أو طعام أو نحوها ، فلا بأس أن يفعل ذلك مع جاره الكافر لأن ذلك من إكرام الجار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره )(2)•
*- أنظر "الإجابات على أسئلة الجاليات " ص 13 وص 15
(1)-الحديث أخرجه البخاري 3/176 كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه ، وهل يعرض على الصبي الإسلام ، وأبو داود رقم3095 في الجنائز باب في عيادة المريض ، عن أنس بن مالك.
(2)- أخرجه البخاري 10/373 كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر وباب إكرام الضيف ، وفي النكاح ، باب الوصاة بالنساء ، وفي الرقاب باب حفظ اللسان ، ومسلم رقم 47 ، في الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار ، وأبو داود رقم 5154 في الأدب باب في حق الجار ، من حديث أبي هريرة.
==============
حكم إعطاء الكفار من الزكاة والصدقات
لجنة البحث العلمي 4/9/1423
09/11/2002
مما لاشك فيه أن فرائض الاسلام قد تضمنت الحِكم العظيمة والمقاصد النبيلة ومن هذه الأحكام فريضة الزكاة فقد تضمنت معاني التكافل والتراحم وتحقيق التوازن الاقتصادي وعطلت أسباب الصراع الطبقي والاحتكار الراسمالي وغير ذلك من الحِكم والأسرار التي منها تأليف قلوب الناس على الاسلام وإيجاد أنصار يدافعون عن الاسلام أو يدفعون عنه, مسلمين كانوا أم كفاراً ويظهر المعنى الأخير من خلال مصرف المؤلفة قلوبهم , قال الله تعالى (إِنَّماَ الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )[ سورة التوبة/60]
، قال ابن كثير :وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام :
1- منهم من يعطى ليسلم كما في قصة صفوان بن أمية لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين. قال صفوان : "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ " ، (رواه أحمد ومسلم والترمذي).
2- ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه ، كما جاء في الصحيحين أن علياً بعث إلى النبي الله صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها من اليمن ، فقسمها بين أربعة نفر الأقرع بن حابس ، وعيينة بن بدر ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، وقال : أتألفهم " .
3-ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه .
4- ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد .(تفسير ابن كثير بتصرف 2/332)
أما غير المؤلفة قلوبهم فلا يجوز إعطاؤهم من الزكاة الواجبة وهذا مذهب الجمهور, بل نقل ابن المنذر الإجماع فقال : أجمعت الأمة أنه لايجزىء دفع الزكاة إلى الذمي -أي في غير التأليف- (فقه الزكاة للقرضاوي 2/705)(2/22)
ولابد من ملاحظة أن الإعطاء بغرض التأليف من صلاحية الدولة المسلمة -إن وجدت - أو الجمعيات و المراكز الإسلامية بالنسبة للمسلم المقيم في بلاد الكفر فهي بالنسبة له تقوم مقام الدولة المسلمة (فقه الزكاة للقرضاوي2/608 وفتاوى اللجنة الدائمة10/109)
وما سبق إنما هو في الزكاة الواجبة, أما إعطاء غير المسلمين من صدقات التطوع تأليفاً لقلوبهم على الإسلام فيجوز لقوله تعالى :(لاَ ينْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فيِ الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إَنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [ سورة الممتحنة: 8] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يكرهون الصدقة على أنسابهم وأقربائهم من المشركين ، فسألوا فرخص لهم ، ونزلت هذه الآية :( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَّشَاءُ ، وَمَاتُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونْ ) [سورة البقرة/272] ، وقد مدح الله الأبرار من عباده بقوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَّيَتِيماً وَّأَسِيراً) [سورة الإنسان/8] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان أسراهم يومئذ مشركين . وقال ابن كثير : ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء .(تفسير ابن كثير4/411)
وهذا الحكم في غير المحاربين, أما المحارب فلا يجوز إعطاؤه لقوله تعالى: ( إِنَّمَا ينْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )[ سورة الممتحنة/9]، ولأنه حرب على الإسلام وأهله ، ومثله الملحد الذي ينكر وجود الله ويجحد النبوة والآخرة ، فهذا بطبيعته حرب على الدين ، وكذلك المرتد المارق من الإسلام بعد ما دخل فيه ، لأن حقه القتل لاقترافه جريمة الخيانة العظمى بارتداده عن الدين ومفارقته لجماعة المسلمين ، قال عليه والصلاة والسلام :" من بدل دينه فاقتلوه" (رواه أحمد والبخاري وأهل السنن عن ابن عباس ) .(فقه الزكاة للقرضاوي 2 /702 ) .
وبناء على ما سبق فإذا رأى المسؤلون في المراكز الإسلامية أن في إعطاء بعض الكفار من الصدقة أو الزكاة تأليفاً لقلوبهم رجاء إسلامهم أو إعطاء شخصيات علمية أو اجتماعية تدافع عن المسلمين في تلك البلاد فإنهم في فسحة ولا يلحقهم حرج من الناحية الشرعية ضرورة انضباط مفهوم المؤلفة قلوبهم وغير المحاربين وعدم التوسع في ذلك تحت ذرائع وعواطف ينقصها الفقه والورع .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
==============
صلاة التراويح مظهر للاجتماع أم مدخل للافتراق
عبد الرزاق الكندي 30/8/1423
05/11/2002
لقد تميز المهرجان الرمضاني -إن صح التعبير - بتنوع العبادات فيه ,وكان الصوم بحد ذاته مظهراً من مظاهر وحدة الأمة حيث لم يترك الشارع الحكيم لأفراد الناس أن يختاروا الأيام المعدودة التي يصومونها بل جعل لها حداً زمنياً موسميا ويوميا لجميع الناس فكان الصيام مظهرا للاجتماع, ومن العبادات التي يتجلى فيها مظهر الاجتماع وتحقق الترابط الروحي صلاة التراويح فقد كان الناس يصلونها أوزاعاً فأقلق ذلك عمر -رضي الله عنه - فجمع الناس على أمام واحد ,فقد روى البخاري عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال ثم خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط, فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله (1)وقد فعل عمر ذلك ليتحقق الصف الواحد وتتقارب أجسادهم لتلتحم قلوبهم وهو مفهوم (2)قوله صلى الله عليه وسلم لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم - البخاري ومسلم-, وإن مما يحزن أن تتحول صلاة التراويح من مظهر للاجتماع إلى سبب للاختلاف,وأدهى منه أن يكون ذلك في مناطق تجمع المسلمين في بلاد الغرب حيث يواجهون التحديات الكبيرة فطائفة تصلي في مركزها إحدى عشرة ركعة وطائفة تصلي في مسجدها ثلاثاً وعشرين ركعة وجالية خلف إمامها ثلاث عشرة ركعة, اختلفوا في صف الصلاة فاختلفت قلوبهم وكان حري بهم أن يجعلوا من رمضان فرصة لائتلاف القلوب, ولاشك أن حصول مثل
هذا الاختلاف في صلاة التراويح مرده إلى أمرين
1- عدم تحرير مسألة صلاة التراويح من الناحية العلمية
2- عدم إدراك فقه الاجتماع والمصالح العامة للمسلمين
وخلاصة تحرير المسألة في صلاة التراويح هل هي إحدى عشرة ركعة أوثلاث عشرة أوثلاثاً وعشرين أو أكثر من ذلك-كما هو عند المالكية-؟(2/23)
أولاً:حضور صلاة التراويح في جماعة مقصد شرعي وخير من صلاتها فرادى, فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثلاث ليال ثم ترك خشية أن تفرض كما روى ذلك البخاري (3) وتركه الصلاة معللاً بخشية أن تفرض ولكن بقي استحباب الاجتماع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوال العلة, وبدليل السنة القولية, فقد قال صلى الله عليه وسلم( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)(4), وهذا لا يتعارض مع حديث (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) (5) فهذا إنما هو في النوافل التي لم تشرع لها الجماعة أما ما شرعت لها الجماعة فصلاتها مع الجماعة أولى كالكسوف والاستسقاء والعيدين والتراويح ,وإنما لم تبق مشروعية فعلها في جماعة في زمنه صلى الله عليه وسلم لما سبق من التعليل (خشية أن تفرض) وعلى هذا يتقرر أن صلاة التراويح في جماعة أفضل من فعلها في البيت فرادى وهو مذهب الجمهور (6).
ثانياً :كم عدد صلاة التراويح ؟
جاءت الأحاديث والآثار الصحيحة تدل على أن الأمر في عدد ركعات التراويح واسع فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة (7) كما ثبت انه صلى ثلاثاً عشرة ركعة (8) وقام في آخر حياته بسبع وبتسع ,(9)كما جاءت روايات أخرى تدل على أن عمر رضي الله عنه قد أقر من صلاها - أي التراويح - عشرين ركعة غير الوتر .
فقد روى الإمام مالك عن يزيد بن رومان أنه قال : كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة(10)وذكر ابن قدامة بصيغة الجزم ، فقال : ولنا أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة ، وقد روى الحسن : أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ركعة (11).
بل إنه ورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر أن تصلى التراويح عشرين ركعة.
- فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى يحيى بن سعيد : أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة (12).
فابن إسحاق هنا يثبت رواية من روى أنها - أي صلاة التروايح صليت عشرين ركعة في زمن عمر رضي الله عنه لكنه كان يرى أن ما روي في هذا الأثر أثبت بصيغة التفضيل ، وذلك لما وافقه من حديث عائشة ، وحديث عائشة الذي يعنيه هو ما رواه البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ،يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً فقلت : يا رسول الله : أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة : إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي(13).
وهذه الآثار لا تعارض ما رواه السائب بن يزيد في أن صلاة التراويح في عهد عمر كانت تصلى إحدى عشرة ركعة، ومرة روى أنها كانت تصلى ثلاث عشرة ركعة، فقد روى أيضاً أنها كانت تصلى ثلاثاً وعشرين ركعة .
فقد روى البيهقي بسنده عن السائب بن يزيد أنه قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة ، وكانوا يقرءون بالمئين ، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام (14).
هذه الروايات ظاهرها الاختلاف و يجاب عنه من ناحيتين :
1- الجمع : بأنه لا يستبعد أن يكون السائب بن يزيد قد علم أن عمر رضي الله عنه أمر أبياً وتميماً بأن يصليا للناس بإحدى عشرة ركعة في بادئ الأمر ، ثم إن الناس صلوا في زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة فلم يعبهم عمر رضي الله عنه ، وأقرهم على ذلك ، فروى ذلك السائب بن يزيد ، ثم إن الناس بعد ذلك صلوا التراويح عشرين ركعة والوتر ، فلم يعبهم عمر بن الخطاب وأقرهم على ذلك ، لدليل علمه أو اجتهاد منه ، فروى ذلك السائب بن يزيد ، وكان معنى ذلك أن صلاة التراويح إذا صليت على صفة من تلك الصفات الثلاث ، كان ذلك جائزاً ولا لوم على أحد فعل ذلك.
وقد جمع البيهقي بين الروايات بمثل هذا الجمع، فهو يقول : كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة ، ثم كانوا يقومون بعشرين ، ويوترون بثلاث والله أعلم(15) .
وما زال المسلمون إلى يومنا هذا منهم من يصلي التراويح مع الوتر إحدى عشرة ركعة، ومنهم من يصليها ثلاث عشرة ركعة ومنهم من يصليها ثلاثاً وعشرين ركعة, لأن كل ذلك سنة.
2-الترجيح : وذلك أن الرواية المأثورة عن عمر من طريق السائب بن يزيد التي ذكر فيها أن صلاة التراويح كانت تصلى في زمن عمر رضي الله عنه ثلاثاً وعشرين ركعة ، أيدتها روايات أخرى مروية عن السائب بن رومان ويحيى بن سعيد وحسن هو عبد العزيز ، والسائب بن برقان والحسن البصري على ما ذكره ابن قدامة ، ولا شك أن كثرة الطرق من أسباب الترجيح كما هو معروف في مصطلح الحديث فيكون رواية من روى أن صلاة التراويح كانت في عهد عمر تصلى عشرين ركعة والوتر هي الراجحة ، ولعل ذلك كان آخر الأمر, يقول ابن حبيب من المالكية : رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعة(16) .(2/24)
وهذه الآثار لا تتعارض مع ما روته عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم مازاد في رمضان ولافي غيره على إحدى عشرة ركعة, فإنها إنما تحدثت عما رأته ,ورأى غيرها من الصحابة غير ذلك, أو أنها إنما أرادت الغالب فقد روت عائشة نفسها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في آخر حياته بسبع وبتسع كما سبق -عند الإمام أحمد - كما أننا لو رجحنا رواية إحدى عشر ركعة وأهملنا الروايات الأخرى التي عند احمد فإنه لا يلزم التوقف عليها -بحجة أن العبادات توقيفية فهذا إنما يُسلم لولم يكن بيان للنصوص المجملة في القيام إلا هو ,أما وقد ورد بيان هذا المجمل بالنص القولي في قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى "(17) ، وهذا فهم الصحابة حيث أدركوا أن الأمر في قيام الليل على السعة فقد جمع عمر الناس على إحدى عشرة ، وثلاث عشر وعلى عشرين وعلى ثلاث وعشرين وعلى ست وثلاثين وعلى أكثر من ذلك ، واجتماع الصحابة لعمر على العشرين دون نكير على عمر دليل على أنهم يدركون أن الأمر واسع فكانت العشرين سنة عمرية وقد قال النبي : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "(18) ، كما أن الإمام مالك أدرك الناس في المدينة يصلون ستاً وثلاثين " ولهذا فمن صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو عشرين أو ستاً وثلاثين فهو على السنة .
ثالثاً : لو تقرر عند بعضنا أن كل ما سبق صحيح ولكن الأولى والأقرب إحدى عشرة ركعة ، وعند الآخر ثلاثاً وعشرين وعند آخر أكثر أو أقل فهل من مقتضى الشرع أو العقل أن نفترق لتحصيل الأولى والأكمل فنحقق كمالاً في سنة ونترك واجب الاجتماع في ظرف تتداعى علينا الأمم ويسعى أعداء الله أن يفرقوا صفنا ؟ اللهم لا ..
إن السنة القولية والعملية تدل على وجوب الاجتماع ولو على خلاف الأولى مادام الأمر ليس في أصول الدين ، لتحقيق المصالح العظيمة التي تفوت بالاختلاف ، " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " / سورة الأنفال 46 ، ومن الصبر ، الصبرُ على رأي المخالف والنزول عليه لأجل الاجتماع ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " (19) وهذا نص في إقامة الصف في الصلاة وهذا هو المقصد الشرعي من إطباق الأئمة على تحريم تعدد الجمعة في البلد الواحد إلا عند عدم استيعاب المكان لكل الناس ، وقد فعل الصحابة الأولى لتحقيق مصلحة الاجتماع فقد صلوا خلف عثمان أربعاً في منى مع أن السنة القصر فقيل لابن مسعود كيف تصلي خلفه وهو خلاف السنة قال : الخلاف شر (20) .
فعلى المسلمين عموماً إدراك هذا المعنى وإظهار الوحدة والاجتماع, وخاصة الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث إن ظرفهم لا يحتمل هذه الخلافات والاختلافات, فليجتمعوا على صلاة واحدة وإمام واحد ولو كان غيره خيراً منه _ لأجل الاجتماع _ فقد قرر الفقهاء الصلاة خلف المبتدع والفاسق ما لم تكن بدعته مكفرة, ولم يقرروا أن على المسلمين إنشاء جماعة أخرى وهذا في زمن كانت الخلافة قائمة وشرع الله ظاهراً فماذا يكون الأمر في زماننا .
اجتمعوا أيها المسلمون صفاً واحداً وتخندقوا جميعاً أمام الهجمة الشرسة على الإسلام وتعاذروا وتغافروا وتعاونوا أو اختاروا الأخرى فتهلكوا ..
وفقكم الله وسدد على الحق خطاكم
(1) -البخاري كتاب صلاة التراويح /باب فضل من قام رمضان (1906)
(2)-مفهوم مخالفة
(3)-كتاب الجمعة /924
(4) -انظر صحيح الترمذي للالباني /810
(5) - البخاري 5762 ومسلم 781
(6) -انظر المجموع 4/30 والمغني مع الشرح الكبير 1/799/800 وفتح الباري 4/252
(7) - البخاري 1096 ومسلم 738
(8) - صحيح ابن خزيمة 1076
(9) - رواه احمد 24088
(10) - انظر فتح الباري 4/ 253 ، المجموع 3/30 ، قال النووي : رواه مالك في الموطأ ورواه البيهقي لكنه مرسل ، لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر ، وانظر سنن البيهقي 2/496 ، . وموطأ مالك بشرحه تنوير الحوالك 1/138 ، وحدثني عن مالك عن يزيد بن رومان...
(11) - انظر المغني والشرح الكبير 1/799.
(12) - مصنف ابن أبي شيبة 2/393 ن حدثنا وكيع عن مالك ين أنس عن يحيى بن سعيد ..
(13) - صحيح البخاري مع فتح الباري 4/251.
(14) سنن البيهقي 2/496 ، ذكره البيهقي بسنده إلى علي بن الجعد أنبأ ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد .. انظر المجموع 4/32 ، الذي قال فيه مؤلفه : رواه البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن السائب بن يزيد.
(15)- سنن البيهقي 2/496.
(16) - انظر التاج والإكليل : لمختصر خليل مطبوع مع مواهب الجليل 2/ 71، ط دار الفكر الطبعة الثانية ، عام 1398هـ.
(17) - البخاري (946) باب ما جاء في الوتر ، مسلم (749) باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل
(18) - الترمذي (2676) ، ابن ماجه (42) باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين
(19) - البخاري (685) ومسلم (436)
(20)- أبو داود(1958) وصححه الألباني صحيح أبي داود (1726) وأصل الحديث في البخاري
===============(2/25)
ثبوت شهر رمضان في الدول غير الإسلامية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء 28/8/1423
03/11/2002
سؤال: نحن الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا ، يصادفنا في كل بداية لشهر رمضان مشكلة تسبب انقسام المسلمين إلى ثلاث فرق:
1- فرقة تصوم بتحري الهلال في البلدة التي يسكنون فيها .
2- فرقة تصوم مع بداية الصيام في المملكة العربية السعودية.
3- فرقة تصوم عند وصول خبر من اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا وكندا الذي يتحرى الهلال في أماكن متعددة في أمريكا ، وفور رؤيته في إحدى البلاد يعمم على المراكز المختلفة برؤيته فيصوم مسلمو أمريكا كلهم في يوم واحد على الرغم من المسافات الشاسعة التي بين المدن المختلفة .
فأي الجهات أولى بالاتباع والصيام برؤيتها وخبرها ؟
أفتونا مأجورين أثابكم الله.
الجواب:
أولاً : اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حساً وعقلاً ، ولم يختلف فيها أحد من العلماء وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
ثانيا : مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الاختلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد .
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين : فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع ، ومنهم من لم ير اعتباره ، واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة ، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد ، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلناَّسِ وَالْحَجِّ )(1)وبقوله صلى الله عليه وسلم :" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث . وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقاً في الاستدلال به .
ونظرًا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها ونظراً إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليس له آثار تخشى عواقبها فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً ، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة فإن أعضاء مجلس كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه ، وعدم إثارة هذا الموضوع وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة ، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته .
ثالثاً : نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب وما ورد في ذلك من أدلة في الكتاب والسنة واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك فقرروا بإجماع : عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية لقوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث . وقوله : " لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه "الحديث ، وما في معنى ذلك من الأدلة وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن اتحاد الطلبة المسلمين في الدول التي حكوماتها غير إسلامية يقوم مقام حكومة إسلامية في مسألة إثبات الهلال بالنسبة لمن يعيش في تلك الدول من المسلمين .
وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من قرار مجلس الهيئة يكون لهذا الاتحاد حق اختيار أحد القولين : إما اعتبار اختلاف المطالع ، وإما عدم اعتبار ذلك ، ثم يعمم ما رآه على المسلمين في الدولة التي هو فيها ، وعليهم أن يلتزموا بما رآه وعممه عليهم ؛ توحيداً للكلمة ، ولبدء الصيام وخروجاً من الخلاف والاضطراب ،وعلى كل من يعيش في تلك الدول أن يتراءوا الهلال في البلاد التي يقيمون فيها ، فإذا رآه ثقة منهم أو أكثر صاموا بذلك ، وبلغوا الاتحاد ليعمم ذلك . وهذا في دخول الشهر . أما في خروجه فلا بد من شهادة عدلين برؤية هلال شوال أو إكمال رمضان ثلاثين يوماً ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء
10/109
(1) سورة البقرة ، ا لآية 189.
==============
حكم إقامة التمثيليات في مساجد المراكز الإسلامية
8/7/1423
15/09/2002
فتوى الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-*
سؤال:
المراكز الإسلامية التي تحوي مساجد وأماكن للأنشطة الأخرى مثل الاحتفالات وحفلات الزواج والمحاضرات العامة وحتى بعض المسابقات الرياضية ، و هذه المراكز منبع الإشعاع في تلك الأصقاع وندعو أحياناً إلى محاضرات قد يكون فيها تمثيليات هادفة أو أناشيد أو ما شابهها مما ليس فيه موسيقا ، فهل يجوز لنا فعل ذلك في المسجد فأحياناً قد لا توجد صالات مخصصة لهذا وليس لنا مقام آخر نجتمع فيه ونتحد ونتناصح فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
جواب:
القيام بالتمثيليات اختلف فيه علماء عصرنا ، فمنهم من يقول : أنه لا يجوز القيام بالتمثيليات إطلاقاً وعللوا قولهم هذا بأن التمثيلية كذب ، لان الرجل الذي يقوم بدور فلان مثلاً ليس هو فلاناً وحينئذٍ يكون كاذباً في دعواه لأن الكذب ما كان خلاف الحقيقة.(2/26)
وقال بعض أهل العلم : إنه لا بأس بالتمثيليات ، وأنه ليس فيها الكذب ، وذلك لأن الكذب هو الإخبار بخلاف الحقيقة والواقع ، وهذا الرجل ممثل ، وهو لا يقول : إنني فلان نفسه ، ولكنه يقول: أنا أمثل فلاناً ، أي أفعل فعلاً يشبه فعل فلان ، وهذا واقع وحقيقة ، والحاضرون يعلمون كلهم أنه هذا هو المراد بالتمثيلية بخلاف من جاء إليك في بيتك ودق الباب وقال أنه فلان وهو يكذب ، هذا هو الكذب ، أما رجل يقوم بدور إنسان آخر ، فإنه لم يكذب وليس يدعي أنه هو نفسه ، فبناء على هذا لا يكون في المسألة كذب ، ولكن إذا اشتملت التمثيلية على شيء محرم كأن يستلزم تنقص ذوي الفضل فإنها لا تجوز ، وعلى هذا فأرى أن الصحابة رضي الله عنهم لا يمثلون ولا سيما الخلفاء الراشدون منهم.
كذلك إذ تضمنت شيئاً محرماً كما لو قام فيها الرجل بدور المرأة أو المرأة بدور الرجل ، لأن هذا من باب التشبه ، وقد لعن النبي عليه الصلاة والسلام المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
كذلك إذا اشتملت على محاكاة البهائم والحيوان فإن هذا لم يرد في القرآن والسنة إلا في مقام الذَّم قال الله عز وجل : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب) [الأعراف: 175]
فالمقام هنا مقام ذم، وقال تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) [الجمعة : 5] هذا مقام ذم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه "فإذا اشتملت التمثيلية على محرم صارت حراماً من هذا الوجه لا لأنها كذب.
فإذا كانت التمثيلية حلالاً مباحة يبقى النظر في إقامتها في مكان الصلاة ، إذا كان فيها مصلحة ودعوة إلى الإسلام حقيقة فإنه لا بأس به ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أقر الحبشة على أن يلعبوا بحرابهم في مسجده تأليفاً لقلوبهم على الإسلام ، فإذا كانت مصلحة هذه أكثر من مضرتها فإن المصلحة تتبع ، وإذا أمكن أن يجعلوا لهم صالة أخرى فهو أولى وأحسن.
*كتاب الأقليات المسلمة ص:58
=============
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه
الشيخ/فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء 11/6/1423
20/08/2002
السؤال: من الملاحظ في الغرب أن النساء اكثر إقبالاً على الدخول في الإسلام من الرجال ، وهي ظاهرة معروفة فإذا كانت المرأة غير متزوجة ، فلا إشكال , إلا من حيث حاجتها إلى الزواج من مسلم.
ولكن الإشكال يكمن فيما إذا كانت المرأة متزوجة ودخلت في الإسلام قبل زوجها ، أو دون زوجها ، وهي تحبه وهو يحبها ، وبينهما عشرة طيبة طويلة وربما كان بينهما أولاد وذرية . ما ذا تفعل المرأة هنا وهي حريصة على الإسلام ، وفي الوقت نفسه حريصة على زوجها وأولادها وبيتها ؟
إن عامة المفتين هنا يفتونها بوجوب فراقها لزوجها بمجرد إسلامها أو بعد انقضاء عدتها منه على الأكثر . وهذا يشق على المسلمة الحديثة العهد بالإسلام أن تفعله ، فتضحي بزوجها وأسرتها .
وبعضهن يرغبن في الدخول في الإسلام بالفعل ، ولكن عقبة فراق الزوج تقف في طريق إسلامها هل من حل شرعي لهذه المشكلة العويصة في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة؟
أفيدونا أفادكم الله ، وجزاكم عن الإسلام وأهله خيراً .
الجواب:
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا وأسوتنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
فقد أجمع العلماء والمذاهب قاطبة على تحريم زواج المسلمة من غير المسلم من حيث الابتداء ، واعتبروا مثل هذا الزواج إن حصل باطلاً لا يثبت به شيء.
أما إذا كان الزوجان غير مسلمين ، ثم أسلمت الزوجة وبقي زوجها على دينه..
ففي هذه الحالة مسألتان :
المسألة الأولى : حول انفساخ العقد أو فسخه ومتى يكون ذلك ؟ في هذه المسألة أربعة أحوال :
الأول : ينفسخ العقد لحظة إسلام الزوجة وهو رأي الظاهرية وأبو ثور .
الثاني : ينفسخ العقد وتقع الفرقة إذا انقضت عدة الزوجة دون أن يسلم الزوج, وهو قول الشافعية والحنابلة والمالكية والزيدية مع الخلاف بينهم حول عرض الإسلام عليه أم لا.
الثالث :الحنفية والثوري يفرقون بين دار الحرب ودار الإسلام :
-ففي دار الحرب تقع الفرقة إذا انقضت العدة ولم يسلم الزوج.
-وفي دار الإسلام يرفع الأمر للقاضي فيعرض الإسلام على الزوج ، فإن أبى فرق القاضي بينهما ، وإن لم يفرق فهي زوجته . وهذا مقتضى قول ابن شهاب الزهري وطاووس وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وعمر بن عبد العزيز.
الرابع : مذهب ابن تيمية وابن القيم أن العقد باق لكنه موقوف ، وتمنع المعاشرة الزوجية بينهما .(2/27)
المسألة الثانية : حرمة المعاشرة الزوجية ، سواء انفسخ العقد بالإسلام أو بعد انقضاء العدة ، أو بموجب قرار القاضي وعلى هذا الرأي اتفق جميع العلماء والمذاهب بعد التابعين ، وما يروى عن علي بن أبي طالب(1)وعمر بن الخطاب(2)والشعبي والنخعي وحماد(3)خلاف ذلك لم يأخذ به أحد. إلا أن الأحناف اعتبروا أن حكم التفريق في دار الإسلام يجب أن يصدر عن القاضي المسلم والتفريق واجب عليه ، لكن(مالم يفرق القاضي فهي زوجته)
أما الظروف المحيطة بالمسلمات الجديدات في البلاد غير الإسلامية في هذا العصر فتتخلص بما يلي:
إن أكثر البلاد غير الإسلامية هي اليوم بالنسبة للمسلمين دار عهد ، و أصبح الرجل والمرأة فيها يدخل في الإسلام دون أن يتعرض إلى فتنة عن دينه . وهو لا يستطيع أن يهاجر إلى بلاد المسلمين لأسباب كثيرة . والمرأة من جنسية دولة غير إسلامية ، عندما تدخل في الإسلام تصبح خاضعة لأحكامه الشرعية ، ولكنها لا تستطيع أن تتحلل من قوانين بلادها المدنية . وعقد الزواج هو اتفاق ين رجل وامرأة بالتراضي الكامل على الحياة الزوجية المشتركة ، لكنه بعد حصوله يخضع لقوانين الأحوال الشخصية النافذة في كل دولة . وفسخه لا يمكن أن يتم إلا بموجب هذا القانون.
وبناء على ذلك فإننا نرى :
1-
إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دينه تحرم عليها المعاشرة الزوجة بعد انتهاء العدة الشرعية إذا لم يسلم لقوله تعالى : )لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن( ولأن السنة الصحيحة لم تفرق بين المسلمة وزوجها غير المسلمة فوراً ، بل تركت الأمر إلى مدة غير محددة ، واتفق جمهور الفقهاء على تحديدها بمدة العدة . حتى ابن القيم نفسه الذي لا يعترف بالعدة أجلاً للتفريق ، يعتبرها أجلا يجيز للمرأة إذا تم النكاح من رجل آخر ، ولا يبيح لها مقاربة زوجها السابق .
2-
يجب على المرأة المسلمة أن تطالب بفسخ زواجها من زوجها غير المسلم وفق القانون الذي عقد في ظله ، وذلك التزاما بأمر الله تعالى أولاً في منع الحلية بينها وبين زوجها ، وحتى تتمكن من الزواج بآخر . وريثما يصدر القرار بفسخ الزواج أو التفريق بينها وبين زوجها ، فهي زوجة من الناحية الرسمة ، لكنها ليست زوجة من الناحية الشرعية.
3-
نحن لا ننصح الزوجة المسلمة في هذه الحالة بالزواج من رجل مسلم ، ولو كان ذلك جائزا لها شرعاً ، لما يترتب عليه من إشكالات وتناقضات ومخالفات قانونية كتسجيل أولادها من زوجها المسلم على اسم زوجها الأول غير المسلم ، أو أولاداً غير شرعيين ، ومعاقبتها قانوناً بتهمة تعدد الأزواج وهو ممنوع في قوانين جميع البلاد ، وغير ذلك .
4-
إن فترة انتظار الزوجة المسلمة إلى أن يسلم زوجها فتعود إليه أو حتى يتم فسخ زواجها منه وتستطيع أن تتزوج من غيره، قد تمتد إلى عشر سنوات ، وهي مدة طويلة جداً لا تستطيع الصبر عليها المرأة العادية ، ونحن نلاحظ أن الإسلام أباح زواج المتعة في ابتداء الإسلام لصعوبة غياب الرجل عن زوجته عدة شهور في الحرب ، ونتذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حدد للمجاهدين في الجيش الإسلامي أن لا تطول فترة غيابهم عن زوجاتهم أكثر من أربعة أشهر ، لأن المرأة المسلمة لا تصبر أكثر من هذه المدة على غياب زوجها ..
فما هو الحل في مسألتنا هذه؟
-إما أن تتزوج المرأة المسلمة من رجل مسلم بعد انتهاء عدتها ، وهذا أمر جائز شرعاً ، لكنه قد يسبب لها مخالفات قانونية وإشكالات شريعة كما ذكرنا.
-وإما أن تعاشر زوجها الأول باعتبار أن العقد لم يفسخ بعد ، لكنها هنا تتعرض لمخالفة شرعية واضحة أكثر مما تتعرض له في الحل الأول . ولا يباح لها ذلك إلا إذا تعذر عليها الحل الأول ، وطال أمد الانتظار ، ولم تستطع الصبر ، فإنها قد تكون مضطرة للوقوع في هذا الحرام، والضرورات تبيح المحظورات ، ولكن هذه ضرورة فردية ،ولا يصح أن يبنى عليها حكم عام.
-وفي هذه الحالة لا بد أن نؤكد أ ن معاشرة المرأة المسلمة لزوجها غير المسلم ليست من قبيل الزنا . فهي امرأته ، لكن لا يجوز له وطؤها لسبب مؤقت - وهو أنه غير مسلم- كما لو كانت حائضاً فوطئها ، فقد ارتكب حراماً لكن لا يعتبر زنا .
وإذا كانت المعاشرة الزوجية محرمة من حيث الأصل كغيرها من المحرمات ، فإن التحريم يمكن أن يرتفع للضرورة.
أما إجراء عقد مبتدئ بين مسلمة وغير مسلم فهو عقد باطل أصلاً ، والوطء فيه يعتبر من الزنا.(2/28)
-ومن المعروف والمؤكد أن كثيراً من النساء المسلمات المستضعفات بقين في مكة مع أزواجهن الكفار بعد نزول التحريم في آيتي البقرة والممتحنة وحتى فتح مكة ، وهي مدة تصل إلى سنتين . لقد كن معذورات في البقاء مع أزواجهن الكفار لأنهن مكرهات على البقاء في مكة ، ولا يستطعن الهجرة . ومن المعروف أيضاً هذه الأيام أن المرأة المسلمة الجديدة في البلاد الإسلامية يتعذر عليها الهجرة إلى بلاد المسلمين ، بل إن كثيراً من هذه البلاد لا يستقبلها أصلاً عن أنها لا تستطيع الهروب من قوانين بلادها الوطنية ، خاصة إذا كانت من رعايا إحدى الكبرى التي تستطيع تنفيذ قوانينها على رعاياها ولو كانوا مقيمين في بلاد إسلامية . كما أن بقاءها في بلادها فيه مصلحة دعوية مهمة تجاه قومها ، وليس من العدالة الشرعية أن نحملها ما لا تطيق ، وأن نكلفها بأكثر مما كلفت به النساء المسلمات في مكة قبل الفتح.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
(1)-أثر علي الذي فيه إقرار المرأة مع زوجها المسلمة مع زوجها الكافر فيه ضعف لأنه جاء من طريقين الاولى من طريق الشعبي والشعبي رأى عليا ولم يروي عنه ففيها انقطاع والطريق الثانية عن سعيد بن المسيب ومدارها على قتادة وهو ثقة إلا انه يدلس ولم يصرح بالسماع
(2)-أثر عمر الذي فيه إقرارها مع زوجها بعد إسلامها ضعيف لأنه من رواية الحكم بن عتيبة وهو لم يدرك عمر ولا قاربه, أما الأثر الذي فيه تخييرها فقد ورد بلفظ إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه كما ذكر ابن القيم وابن حزم وعبارة أقامت عليه تفسر بالانتظار والمحافظة على عقد الزوجية دون وطء لتوافق رواية عمر الأخرى بالتفريق بينهما كما توافق محكمات النصوص التي انعقد الإجماع عليها كما نقل ذلك القرطبي 3/72 وابن قدامة في المغني 10/10
(3) - خالفهم سائر التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابن شهاب وغيرهم كما أن المنقول عن الشعبي انه يرى غير ماروى انظر المحلى 7/312و314 ( الحواشي من وضع المحرر )
=============
يم تهم الداعية المغترب(الحلقة الرابعة)
عبد الرزاق الكندي 25/6/1423
03/09/2002
( الدعوة إلى الله بين القطرية والعالمية )
إن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم ( بعثت إلى الناس كافة ) [ البخاري.. ]
ومن هذا المنطلق كانت الرابطة الإسلامية بين صهيب الرومي وأبي بكر القرشي و بلال الحبشي أجناس شتى وهدف واحد ، وحدة في الهم والهدف والمصير .على هذا المعنى سارت الأجيال جيوش الفتح وحلقات العلم وسكان المصر تجمع ألوان الطيف البشرية وهذا المفهوم ظل راسخا ولا يحتاج إلى مزيد تدليل .
ومن هذا المنطلق يتقرر أن مفهوم القطرية مرفوض ويشتد رفضه إذا كان في العمل الإسلامي ،فأخوة الإسلام تستوعب كل ألوان الطيف البشرية والتنادي بالقطرية خطأ و خطر من الناحية الشرعية فقد عاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عندما تنادوا بها وعدها عودة إلى الوراء حينما قال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية وفي رواية أخرى قال دعوها فإنها منتنة . (رواه مسلم)
هذا هو الأصل شرعا ولا بد أن يدركه العاملون في المراكز الإسلامية والدعاة المغتربون الذين يعملون في مناطق تجمع أجناس شتى وأن تتوجه العملية الدعوية والتربوية للجميع وهذا لا ينافي تخصيص أبناء كل بلد بمعان تربوية و دعوية خاصة أخذاً بعين الاعتبار الظرف الذي تعيشه مناطق هؤلاء فهذا له ما يبرره من الناحية العملية .
( أما أن تظهر بين الإسلاميين- وخاصة الدعاة المقيمين في المهجر- عصبية الجاهلية ويتنادوا بأجناسهم وأقوامهم إما قولا أو عملا والأخير أكثر ،إلى الحد الذي يخشى أن تصبح معه هذه النعرة ظاهرة وما كان ينبغي لهذه اللوثة أن تسري والإسلاميون في وعي لهدي دينهم وفقه لمبادئ دعوتهم ووقوف عند سيرة قائدهم الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فهل يرضى أحد من الإسلاميين بعد تمثله هذا الهدي العالي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرتد إلى جاهلية جهلاء في التعصب للقوم ، كما صوره دريد بن الصمة بقوله:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت … …
غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولا يخفى على الإسلاميين أنه لا تجتمع أخوة الإسلام والعصبية الإقليمية في قلب مسلم نطق بالشهادتين واطمأن بهما قلبه ووعى دينه ، ومن هنا كانت القطرية الضيقة من أشد السلبيات سوءاً وأخطرها في حياة الإسلاميين و دعوتهم ، وكان التخلص منها من الأولويات التي يجب أن يخصها الإسلاميون باستئصال شأفتها أينما وجدت وحيثما ذرّ لها قرن (1).(2/29)
وهذا التأصيل لا يمنع العمل بمفهوم القطرية في الإطار المشروع فقد يحتف بالواقع من الملابسات ما يلزم الداعية العمل في الإطار القطري فقط ، كما لا يتعارض مع خصوصيات كل قطر في معالجة مشاكله واختيار الأساليب الدعوية الأنجع والأنفع ولكن تبقى عالمية الدعوة هي الأصل وما سواها عارض ، وليس منا من دعا بدعوى الجاهلية (متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم ومن دعا دعوى الجاهلية فهو جثا(2)جهنم (أي من جماعتها) فقال رجل:يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال نعم وإن صام وصلى(رواه أحمد والترمذي والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم)
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى,,,
(1)- سلبيات في حياة الإسلاميين 44-47 (بتصرف)
(2) -الجثا الحجارة المجموعة
================
مفاهيم تهم الداعية المغترب
(الحلقة الثانية)
فلنتعاون فيما اختلفنا فيه
عبدالرزاق الكندي 3/1/1423
17/03/2002
مما لا يخفى أن التشرذم الذي أصبح ظاهرة بين أهل الدعوة إلى الله وأبناء الصحوة الإسلامية ، أفراد وتنظيمات ومراكز جعل قاعدة ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ) ـ مما يسوغ فيه الاختلاف ـ حلماً لرجال الإصلاح وحاملي راية لم الشمل وجمع الكلمة .
ولكن عند التأمل في النصوص والقواعد الشرعية وسيرة السلف الصالح نجد أنه يسعنا أكثر من هذه القاعدة فالخلافات التي تعصف بالصف الإسلامي على قسمين :
1-ما يسع الجميع أن يعمل كل بما يراه راجحاً ولا يكون العمل به مؤثراً على وحدة الصف فقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في كثير من المسائل وعمل كل بما يراه راجحاً من غير إنكار بعد المناصحة وبيان كل وجهة نظره ـ مع الإبقاء على وحدة الصف والائتلاف وهذا أمر متقرر ، سبق ذكره في الحلقة الأولى .
2-ما لا يسع الجميع العمل كل بما يراه راجحاً حيث لو عمل كل بما يراه لتشتت الصف وتفرقت الكلمة وضعفت القوة وهذا القسم هو الذي تدل النصوص الشرعية وعمل السلف الصالح على وجوب النزول على رأي واحد من الناحية العملية مع احتفاظ كل بما يراه من الناحية العلمية حيث لا يجوز للإنسان أن يعتقد خلاف ما يراه صواباً شرعاً ولكن يسعه العمل بخلاف ما يراه ، بل قد يجب عليه تحقيقاً لمصلحة أعظم كاجتماع الكلمة ووحدة الصف(1)
وقد دلت النصوص الشرعية وفعل السلف على ذلك قال الله تعالى :( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن )الله مع الصابرين (2)
ففي الآية إشارة إلى أن عدم التنازع يلزم لتحقيقه الصبر على قبول ما لا يراه المرء راجحاً أو صواباً وهذا من أسرار ختم الآية بالوصية بالصبر وقد أشار إلى هذا المعنى القاسمي والطاهر بن عاشور عند تفسير هذه الآية (3)
وهذا هو أيضا مدلول التطاوع في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن فقال : " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ، وتطاوعا ولا تختلفا " (4)
ووجه الاستشهاد هنا قوله صلى الله عليه وسلم : " تطاوعا ولا تختلفا " ، فالأمر فيها واضح ، والنصيحة محددة ، وهي تعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر ـ مسبقاً ـ أن مبررات الخلاف بين الاثنين موجودة ، وأن تباين وجهات الرأي والتفكير والنظر واقعة لا محالة ، وإلا لما كان هناك معنى للنصيحة أصلاً .
ومن ثم ، فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم نصيحته إلى صاحبيه بالتطاوع ، ونهاهما عن الاختلاف ، والنهي ـ بطبيعة الحال ـ ليس متوجهاً إلى حقيقة الشيء ، وإنما هو متوجه إلى ناتجه ومآله ، بمعنى أنه لا يعني نهيهما عن أن يكون لكل منهما رأيه ، ووجهة نظره في القضية المطروحة ، لأن ذلك معناه إيقاف التفكير أصلاً ، وهو باطل واضح ، فيبقى أن أمره صلى الله عليه وسلم يعني ألا يؤدي ذلك التباين " الفكري" إلى افتراق (الموقف العملي ) ، بمعنى آخر ، إذا كان من حق كل منهما أن يكون له رأيه وترجيحاته وموقفه نظرياً ، فإن من حق " واقع المسلمين " أن يتعامل مع رأي واحد، وموقف واحد عملياً .
ومن هنا كان مفتاح الحل لهذه الأمور المحتملة المحددة ، في النصيحة النبوية " تطاوعاً " بمعنى ألا يصرّ كل منهما على رأيه ، ويتعنت فيه ، ويصعد الخلاف حوله ، وإنما يتساهل فيه ، ليقدم وحدة " العمل " على " اختلاف " الرأي (5).
ومن الأدلة على تقرير هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا "(6)
حيث أرشدهم إلى ترك القراءة مع ما فيها من الفضل وليس في الترك فضل إلا أن مصلحة الاجتماع وائتلاف القلوب ووحدة الصف جعلت الترك راجحاً .
وقد فطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ـ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح تحقيقاً لمبدأ الاجتماع ـ فقد روى أبو داود أن عثمان رضي الله عنه لما أتم الصلاة في منى أتم معه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم اقتناعهم بما فعل ولما سُئل ابن مسعود كيف تتم أربعاً وأنت تنكر عليه قال : الخلاف شر (7)(2/30)
ولا زال عمل السلف على هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه : " ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصحلة فعلها ـ المستحبات ـ كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب "(8)
فإذا كان هذا لتأليف القلوب فهو من باب أولى وأوجب فيما إذا كان العمل بالراجح سيؤدي إلى تشتيت الصف وضعف القوة ولا زال الراسخون في العلم يقررون هذا المعنى يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مسألة ثبوت شهر رمضان إن الناس فيه تبع للإمام وإن اختلفت مطالعهم جمعاً للكلمة وتوحيداً للصف, في حين يقرر في نفس الموضع أن الراجح علمياً أن ثبوت الشهر يختلف باختلاف المطالع (9)
كما أن القاعدة عند العلماء أنه إذا تزاحمت المصالح قدم الأعظم منهما (10) ولا شك أن مصلحة اجتماع الكلمة ووحدة الصف أعظم من العمل برأي مرجوح ـ فيما يسوغ فيه الاجتهاد ـ0
إن عدم فقه هذا المعنى هو الذي شرذم العمل الإسلامي حتى إنك لترى جماعات ومراكز تشتت جهودها وتفرقت راياتها وضعفت قوتها بسبب الموقف من قضية اجتهادية وكان يسعها أن تعمل معاً فتحقق النصر أو تعمل بأسبابه
فمتى يدرك الدعاة والتجمعات الإسلامية هذا المعنى ناهيك عما يقتضيه فقه المرحلة (11) مما هو أوسع من العمل بهذا وأشمل .
اللهم ألهمنا رشدنا واهدنا سبل السلام وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1) نظرات في منهج العمل الإسلامي ( جعفر الشيخ إدريس ص:74 )
(2) - الأنفال 46
(3) انظر محاسن التأويل 8/71 والتحرير والتنوير 10/32
(4)مسلم كتاب الجهاد و السير رقم [1733]
(5)انظر فقه الاختلاف ( جما ل سلطا ن ص: 22)
(6) البخاري / كتاب اعتصام بالكتاب والسنة / باب كراهية الاختلاف حديث رقم 7364
(7) أبو داود 1958 وصححه الألباني صحيح أبي داود 1726 وأصل الحديث في البخاري
(8)الفتاوى 22/405
(9) انظر الممتع شرح زاد المستقنع 6/320-322
(10) الموافقات 4/105-106
(11) وسيكون موضوع الحلقة الثالثة من مفاهيم تهم المغترب إن شاء الله تعالى ==============
مفاهيم تهم الداعية المغترب
(الحلقة الثالثة)
فقه المرحلة
عبد الرزاق الكندي 2/3/1423
14/05/2002
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد : فقد تحدثنا في الحلقتين الماضيتين عن وحدة الكلمة ،وعن مفهوم التعاون فيما اختلفنا فيه،واليوم نواصل الحديث عن فقه المرحلة.
فقه المرحلة
معنى المصطلح :
إن مصطلح فقه المرحلة ليس بدعاً من القول فالمراد بالفقه الفهم والفطنة لغة,والفهم لأحكام الشرع العلمية والعملية وهو المراد بالفقه في النصوص الشرعية .
وأما المرحلة فأصلها المسافة التي يقطعها الراحل - المسافر - بالإبل المحملة في يوم وليلة ، ومعلوم أن ذلك يختلف باختلاف طبيعة المكان الذي يسير فيه فالمسافة التي يقطعها في السهل غير التي يقطعها في الجبال والهضاب- بنفس الزمن- كما أن لكل مرحلة ركوبها وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلىالله عليه وسلم حين دفع من عرفات كان يسير العنق -والعنق المشي برفق-فإذا وجد فجوة نص- أي سار سيراً شديداً-(1)والمراد بالمرحلة في المصطلح طبيعة الوضع الذي يعيشه الداعية في زمان أو مكان ما .
شرعية المصطلح :-
من المعلوم أن الدعاة إلى الله يقطعون المراحل المختلفة وكل مرحلة تحتاج إلى فقه خاص في حاجياتها وترتيب أولوياتها وطريقة السير ووسائله فلابد من إدراك أن ما لا يجوز في مرحلة قد يجوز في أخرى والعكس .
وقد دلت النصوص الشرعية على فقه المرحلة - أي أنّ لكل مرحلة وضعاً خاصاً منح الشارع المكلف فيه مرونة في التعامل معه- فمن ذلك ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن تقطع الأيدي في الغزاة (2).وقد كتب عمر-رضي الله عنه-إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولاسرية رجلاً من المسلمين حداً وهو غازٍ,حتى يقطع الدرب قافلاً,لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار(3).ومع أن القطع من الحدود التي لا يتساهل الشارع في إقامتها لكن الظرف الذي تعيشه الجماعة المسلمة في الحرب فيه من الإشكالية ما جعل تأخير إقامة الحد خشية الفتنة واللحاق بالعدو أمراً مشروعاً,فأعطى الشارع المحارب حصانة فترة الحرب حتى تنتهي ويرجع إلى دار الاسلام0
ومما يدل على شرعية المصطلح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا دجانة يختال في مشيته بين الصفين يوم أحد قال إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع(4) , وهذا يدل على تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لحساسية الموقف وأن للظروف الخاصة فقهها الخاص, وفي قصة قتل كعب بن الأشرف دلالة أخرى على شرعية المصطلح فقد روى البخاري ومسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فأذن لي أن أقول شيئاً, قال : قل(2/31)
(5).قال الحافظ ابن حجر : وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه - أي من النبي - ويعيبوا رأيه ولهذا جاء في روايته أن محمد بن مسلمة قال لكعب :" كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء, حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة "(6)ففي هذا الحديث دلالة واضحة على المرونة التي منحها الشارع الحكيم للمكلف عند التحرك الميداني, وقد سئل الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- أهي رخصة لمحمد بن مسلمة أم للمسلمين عامة ؟ فأجاب بل هي رخصة لكل من يستطيع أن يحقق للإسلام مصلحة عظيمة(7).ومن الأدلة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لسلوك علي والزبير والمقداد - رضي الله عنهم - مع المرأة التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إلى المشركين ، حيث هددوها تهديداً جازماً بتجريدها من ملابسها إذا لم تخرج الكتاب(8),مع أن ذلك كان بعد فرض الحجاب, والأصل أن أعراض
المسلمين مصونة بأصل الشرع ولكن الموقف يتيح التحرك بمساحة أوسع
والأدلة على شرعية فقه المرحلة كثيرة والمقال إشارات للداعية المغترب .
العمل بفقه المرحلة :
إذا تقررت شرعية المصطلح أدرك الداعية في أرض الغربة وغيرها أن الشارع الحكيم يمنحه من المرونة في العمل الميداني ما يجعله يقطع المراحل على بصيرة دون مصادمة للسنن الكونية أو الشرعية مدركاً الحرب الشرسة الدائرة على الإسلام بكل مذاهبه وتياراته(9).
فمثلاً من فقه المرحلة- للداعية المغترب- ألاّ يستعدي الفرق والمذاهب المخالفة لأهل السنة في جزئيات أو كليات بل ولا يستعدي بعض الملل الكفرية التي تجمعه بها مصالح مشتركة في مواجهة من هو أكفر منها - وهذا لا يعني إقرارها, بل تُربى الأجيال على الطريق القويم والصراط المستقيم وعدم الخلط بين تحقيق مبدأ الولاء والبراء ومراعاة الحال زماناً ومكاناً ودرء المفاسد الكبرى,وبينهما خيطٌ رفيع يوفق إليه من سلمت فطرته وفقه دينه, وإنما أعني عدم الاستفزاز والمواجهة- فهذا شيخ الإسلام سكت عن أهل البدع زمن حرب التتار وهو من هو غيرة على الإسلام والمسلمين, بل هذا القرآن الكريم يقر فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس ويسميه نصر الله كما في سورة الروم(10)
ومن فقه المرحلة - للداعية المغترب- الاستفادة من القوانين الجاهلية لحماية الدعوة فقد استفاد من حماية عمه أبي طالب له, ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو كافر,
ومن فقه المرحلة أيضاً- في بعض الظروف- قبول قيادة الناصحين للإسلام وإن كانوا على بدعه- ما لم تكن مكفرة- وقد قاتل كثير من السلف تحت قيادة من كان معروفاً ببدعة, وهذا يختلف باختلاف المرحلة التي يعيشها الداعية, فما يسعه في مرحلة قد لا يسع غيره .
وإدراك فقه المرحلة يذهب العتب بين الدعاة أفراداً وجماعات, ويُوجد التعاذر والتغافر.
ولا يُشكل على ما تقرر أن الدين قد اكتمل, فإن فقه المرحلة من كمال الدين وتمام النعمة.
الكلمة لمن :
إن المرونة التي منحها الشارع الحكيم للداعية عند التحرك الميداني ليست مرسلة لكل من آنس من نفسه اشتغالاً بالدعوة إلى الله فالأمر بالغ الخطورة, حيث إن فيه موازنة وفقه,وفيه حلال وحرام وليس حكماً واحداً على حال ثابتة, فالكلمة فيه لأهل العلم المدركين طبيعة التحرك الميداني .
وأخيراً :
وأنت في أرض الغربة اعلم أنه قد سبقك إلى الميدان كثير من الدعاة والمصلحين أسسوا المراكز الإسلامية وقعّدوا للعمل الدعوي, منهم من هو من أهل فقه المرحلة فاجتهد أن تبني فوق بناء من سبق.
أسأل الله أن يلهمنا جميعاً الرشد والسداد
والله يرعانا ويرعاك
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى .
(1) -صحيح مسلم كتاب الحج باب 47/حديث رقم 283
(2) - أحمد حديث 1969وأبو داود كتاب الحدود 2/441 والترمذي حديث رقم 1450والحديث وإن كان فيه مقال فإن إجماع الصحابة على ذلك يقويه وقد نقل إجماعهم ابن قدامة في المغني 13/173
(3) - عبد الرزاق في المصنف 5/197
(4) - الطبراني6/109
(5) - البخاري كتاب المغازي /باب قتل محمد بن مسلمة ,ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قتل كعب بن الاشرف حديث رقم1801
(6) - انظر فتح الباري 7/338
(7) - راجع شرح الشيخ أبن عثيمين-رحمه الله-لصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير/باب قتل كعب بن الاشرف
(8) - البخاري/كتاب المغازي-باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة حيث رقم42743
(9) - عدا تلك المذاهب الباطنية التي تعد طابوراً خامساً لأعداء الله, كالقاديانية والبهائية ونحوها .
(10) - الآيات 1-5 من سورة الروم .
=============
مفاهيم تهم الداعية المغترب(الحلقة الرابعة)
عبد الرزاق الكندي 25/6/1423
03/09/2002
( الدعوة إلى الله بين القطرية والعالمية )
إن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم ( بعثت إلى الناس كافة ) [ البخاري.. ](2/32)
ومن هذا المنطلق كانت الرابطة الإسلامية بين صهيب الرومي وأبي بكر القرشي و بلال الحبشي أجناس شتى وهدف واحد ، وحدة في الهم والهدف والمصير .على هذا المعنى سارت الأجيال جيوش الفتح وحلقات العلم وسكان المصر تجمع ألوان الطيف البشرية وهذا المفهوم ظل راسخا ولا يحتاج إلى مزيد تدليل .
ومن هذا المنطلق يتقرر أن مفهوم القطرية مرفوض ويشتد رفضه إذا كان في العمل الإسلامي ،فأخوة الإسلام تستوعب كل ألوان الطيف البشرية والتنادي بالقطرية خطأ و خطر من الناحية الشرعية فقد عاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عندما تنادوا بها وعدها عودة إلى الوراء حينما قال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية وفي رواية أخرى قال دعوها فإنها منتنة . (رواه مسلم)
هذا هو الأصل شرعا ولا بد أن يدركه العاملون في المراكز الإسلامية والدعاة المغتربون الذين يعملون في مناطق تجمع أجناس شتى وأن تتوجه العملية الدعوية والتربوية للجميع وهذا لا ينافي تخصيص أبناء كل بلد بمعان تربوية و دعوية خاصة أخذاً بعين الاعتبار الظرف الذي تعيشه مناطق هؤلاء فهذا له ما يبرره من الناحية العملية .
( أما أن تظهر بين الإسلاميين- وخاصة الدعاة المقيمين في المهجر- عصبية الجاهلية ويتنادوا بأجناسهم وأقوامهم إما قولا أو عملا والأخير أكثر ،إلى الحد الذي يخشى أن تصبح معه هذه النعرة ظاهرة وما كان ينبغي لهذه اللوثة أن تسري والإسلاميون في وعي لهدي دينهم وفقه لمبادئ دعوتهم ووقوف عند سيرة قائدهم الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فهل يرضى أحد من الإسلاميين بعد تمثله هذا الهدي العالي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرتد إلى جاهلية جهلاء في التعصب للقوم ، كما صوره دريد بن الصمة بقوله:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت … …
غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولا يخفى على الإسلاميين أنه لا تجتمع أخوة الإسلام والعصبية الإقليمية في قلب مسلم نطق بالشهادتين واطمأن بهما قلبه ووعى دينه ، ومن هنا كانت القطرية الضيقة من أشد السلبيات سوءاً وأخطرها في حياة الإسلاميين و دعوتهم ، وكان التخلص منها من الأولويات التي يجب أن يخصها الإسلاميون باستئصال شأفتها أينما وجدت وحيثما ذرّ لها قرن (1).
وهذا التأصيل لا يمنع العمل بمفهوم القطرية في الإطار المشروع فقد يحتف بالواقع من الملابسات ما يلزم الداعية العمل في الإطار القطري فقط ، كما لا يتعارض مع خصوصيات كل قطر في معالجة مشاكله واختيار الأساليب الدعوية الأنجع والأنفع ولكن تبقى عالمية الدعوة هي الأصل وما سواها عارض ، وليس منا من دعا بدعوى الجاهلية (متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم ومن دعا دعوى الجاهلية فهو جثا(2)جهنم (أي من جماعتها) فقال رجل:يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال نعم وإن صام وصلى(رواه أحمد والترمذي والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم)
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى,,,
(1)- سلبيات في حياة الإسلاميين 44-47 (بتصرف)
(2) -الجثا الحجارة المجموعة
===============(2/33)
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الأولى )
د.عبدالقادر القادري 19/1/1423
02/04/2002
مقدمة :
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد ،،،
فإنه لما كانت الأسرة هي نواة المجتمع وأساسه عُني الإسلام بها عناية تحفظ كيانها متماسكة متجانسة ، قوية الإيمان محاطة بأحكام الدين وآدابه ، وذلك لا يتأتى إلا بأن يختار الزوج المسلم الصالح المرأة المسلمة الصالحة، وبهما تبدأ الأسرة المسلمة التي ترضي ربها بتنشئة أبنائها على دين الله وطاعته .
الأسرة في أول البعثة النبوية :
عندما نزل القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الدين كان للناس الذين بعث فيهم عادات ومعاملات يتعاطونها فيما بينهم وكان المسلمون مرتبطين بالمجتمع الجاهلي ارتباطاً أسرياً واجتماعياً واقتصادياً ، ومن الصعب أن يطلب منهم فك ذلك الارتباط دفعة واحدة ، والله تعالى يعلم ما جبلت عليه النفوس من حب العوائد والتمسك بها والدفاع عنها ، ويعلم تعالى أن التكليف بالأحكام الشرعية التي لم يألفها الناس فيه صعوبة على نفوسهم ، وأن السبيل إلى قبولهم ذلك التكليف - سواء كان بأحكام لم يألفوا العمل بها ، أو ترك عادات ألفوها - إنما يكون بغرس الإيمان به أولاً في قلوبهم ، وكذلك الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر، فإذا ما ثبت ذلك في النفوس أذعنوا وانقادوا لأمر الله وتركوا كل شيء من عاداتهم لرضا ربهم سبحانه وتعالى .
ولهذا بدأ الإسلام بهذا الأساس ، فنزل القرآن الكريم يدعو إلى الإيمان بالغيب الذي يشمل الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته دون ما سواه ، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته وحده ، وعدم طاعة كل من خالفه ، والإيمان بالوحي المنزل من عند الله الذي هو منهج حياة البشر ، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه البعث والعرض والجزاء والحساب والثواب والعقاب .
واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذا الأساس وترك كل ما يخالفه ثلاثة عشر عاماً ، ما كان يدعو إلى أحكام شرعية أخرى إلا ما ندر منها ومن الآداب والأخلاق العامة التي اتفقت على حسنها الأمم ، كالصدق والأمانة وصلة الأرحام .
لذلك كان الناس يتعاملون فيما بينهم بما ألفوا من عادات اجتماعية واقتصادية وغيرها .
ومن ذلك الزواج ، فكان المسلم يتزوج الكافرة والمشركة ، والكافر يتزوج المسلمة الطاهرة ، وبقي كثير من تلك المعاملات والعادات على حالها ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وهناك صار للمسلمين أرض يعيشون عليها أعزة ، جمع الله فيها بين كتيبتي الإسلام : المهاجرين والأنصار ، فأصبحوا قوة تتولى شؤون الدولة الإسلامية الناشئة ، وتنفذ أوامر الله ، فبدأ القرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالأحكام الشرعية في تدرج إلى أن أكمل الله لخلقه دينهم الذي ارتضاه لهم .(2/35)
تحريم زواج المسلم بالكافرة وتحريم زواج الكافر بالمسلمة
ومن تلكم الأحكام التي نزلت تحريم التناكح بين المسلمين والمشركين ، فلا يجوز للمسلم أن ينكح مشركة ابتداء ولا أن يمسكها في عصمته إن كان زوجه له من قبل إلا أن تسلم ، كما لا يجوز لمسلمة أن تتزوج كافراً كذلك ، كما قال تعالى :) يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أ'لم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله بينكم والله عليم حكيم ( (1).
قال القرطبي رحمه الله : " والمراد بالعصمة هنا النكاح ، يقول : من كانت له امرأة فقد انقطعت عصمتها ... وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك في هذه الآية "(2),"وكان هذا بعد صلح الحديبية "(3).
وفي هذا التحريم تحقيق لأمرين : الأمر الأول المفاصلة بين عباد الله المؤمنين وأعدائهم الكافرين ، والأمر الثاني تأكيد ولاء المسلمين فيما بينهم وهما أمران تواترت بهما النصوص القرآنية ، كما وردت بهما السنة النبوية ، والتطبيق العملي الذي سار عليه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين .
وقد اتفق العلماء على تحريم زواج المسلم بالكوافر من غير أهل الكتاب ، وهن اليهوديات والنصرانيات ، وفي المجوسيات والصائبات خلاف ...
قال ابن قدامه رحمه الله :" وسائر الكفار غير أهل الكتاب كمن عبد ما استحسن من الأصنام والأحجار والشجر والحيوان فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم ، وذلك لما ذكرنا من الآيتين (4) وعدم المعارض لهما ، والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت ، لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي انتقلت إليه في إقرارها عليه ، ففي حلها أولى "(5).
وإذا خرجت الكتابية عن دينها إلى عبادة الأوثان صار حكمها حكم الوثنية لا يجوز نكاحها للمسلم ، وإن ادعت أنها من أهل الكتاب ، وكذلك إذا ألحدت فأنكرت الدين مطلقاً ، كما هو حال الشيوعيين في هذا العصر.
قال الخرقي رحمه الله :" وإذا تزوج كتابية فانتقلت إلى دين آخر من الكفر غير دين أهل الكتاب أجبرت على الإسلام ، فإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها "(6).
وإذا لم يجز استدامة نكاحها فالابتداء أولى بعدم الجواز .
(1) الممتحنة : 10.
(2) الجامع لأحكام القرآن _ ( 18/65) .
(3) نفس المرجع ( 18/61) .
(4) يعني آية الممتحنة وآية البقرة السابقتين .
(5)المغني (7/131).
(6)نفس المرجع :(7/132) وراجع كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ( 7/157) .
===============
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الثانية )
د.عبدالقادر القادري 3/2/1423
16/04/2002
الزواج بالكتابية - وهي اليهودية والنصرانية فقط *، على الصحيح من أقوال العلماء - وعليه فالكلام ينحصر في الآتي :
(1)حكم الزواج بالكتابية في دار الإسلام
ورد النهي صريحاً في نكاح المشركات وعدم حلهن للمسلمين في آية البقرة : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن )(1) وآية الممتحنة :( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) (2) وظاهره العموم في كل كافرة ومشركة .
وورد الإذن بحل طعام أهل الكتاب ونسائهم للمسلمين على وجه الخصوص في قوله تعالى :( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) (3).
وعندما نزلت هذه الآيات الحاظرة أو المبيحة ، كانت الأرض تنقسم إلى دار الإسلام التي ترتفع فيها راية هذا الدين ، وتنفذ فيها أحكام الله ، وإلى دار الحرب التي بين أهلها وبين المسلمين القتال المستمر إلى أن يدخلوا في الإسلام أو يخضعوا لنظام الإسلام ويدفعوا الجزية ويبقوا على دينهم فيكونوا أهل ذمة تدخل أرضهم في دار الإسلام ،وإلا استمرت الحرب بينهم وبين المسلمين ، ولم يكن المسلمون يسكنون في دار الحرب لأن الله تعالى أمرهم بالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، ونهاهم عن المقام بين ظهراني المشركين ، لا فرق بين أهل مكة - قبل فتحها - وغيرها ، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى يوم القيامة .
والمقصود من ذكر هذا هنا أن يعلم أن كلام علماء المسلمين في جواز نكاح الكتابية أو عدم جوازه إذا أطلق فالمراد به في دار الإسلام ، أما دار الحرب فإنهم يصرحون بذكر حكم الزواج فيها مقيدا بذكر دار الحرب ، ولم يكن يدخلها من المسلمين إلا الأسير أو التاجر أو الرسول ، كما سيأتي الكلام على ذلك .
مذاهب أهل العلم في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام .
اختلفت مذاهب العلماء رحمهم الله في حكم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الإسلام .
* المذهب الأول :
مذهب جمهور العلماء ، وهو جواز نكاح الكتابية في أرض الإسلام مع الكراهية (3)،(4).
أدلة الجمهور .(2/36)
وقد استدل الجمهور لما ذهبوا إليه من الجواز بالكتاب والأثر والمعقول :
أما الكتاب فقول الله تعالى :( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) كما مضى ورأوا أن هذه الآية - وهي آية المائدة - إما مخصصة لعموم قوله تعالى في سورة البقرة :) ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( وإما ناسخة لها ، لأن آية المائدة متأخرة ، وإما أن لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب .
وأما الأثر فما ورد في نكاح بعض الصحابة اليهوديات والنصرانيات منهم طلحة بن عبيد الله ، وحذيفة بن اليمان ، وعثمان بن عفان ، رضي الله عنهم .
وأما المعقول ، فإن الكتابية وقد آمنت في الجملة بالله وبعض كتبه واليوم الآخر وبعض الرسل وقد تميل إلى الإسلام إذا نبهت إلى الحقيقة ، فرجاء إسلامها أقرب من الوثنية .
وأما قولهم بالكراهة :
فقد عللوه بخوف الفتنة أما على الرجل أو على الولد بحيث يميل إلى دين أمه ,وبخشية مواقعة المومسات منهن كما علل بذلك عمر رضي الله عنه حينما كتب لبعض الصحابة في الأمصار .
* خالف في ذلك بعض العلماء ، ومنهم ابن حزم كما في المحلى ( 9/445) فجعل حكم المجوسية كحكم الكتابية ، وكذلك الشوكاني ، كما في السيل الجرار (/245.252) وراجع ا لمغني لابن قدامة ( 7/131.130) .
(1) البقرة : 221.
(2) الممتحنة : 10 .
(3) المائدة : 5 .
(4)) ،(5انظر : بدائع الصانع ( 3/1414)
-المبسوط ( 4/210)
-الشرح الصغير على الدريدير ( 2/420) .
-المنهاج ( 3/187) ورونق الطالبين ( 7/137.135) .
-المغني ( 9/545) .
-مجموع الفتاوى ( 32/178) .
-الجامع لأحكام القرآن ( 3/69) .
-الفقه الإسلامي وأدلته لوهبه الزحيلي ( 7/154) .
=============
حكم زواج المسلم بالكتابية . ( الحلقة الثالثة )
د.عبد الله القادري 16/3/1423
28/05/2002
المانعين الزواج بالكتابية مطلقاً
* المذهب الثاني :-
تحريم الزواج بالكتابية على المسلم :
وهو قول ابن عمر - رضي الله عنه - وابن حزم والهادوية (1).
* أدلتهم :
واستدل أهل هذا المذهب بأدلة :
الدليل الأول : من القرآن ، وفيه آيتان صريحتان في النهي عن زواج المسلم بالمشركة ، والكتابيات مشركات والنهي عن إمساك المسلمين نساءهم الكوافر الذي كان مسكوتاً عنه في أول الإسلام .
الآية الأولى : آية البقرة ، وهي قوله تعالى : (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون )(2).
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى نهى عن نكاح كل امرأة مشركة وجعل غاية النهي عن ذلك الإيمان، فكل مشركة داخلة في هذا العموم ، والكتابيات مشركات بدليل وصف الله تعالى أهل الكتاب بذلك ، كما في قوله تعالى :
( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )(3). فقد وصف اليهود والنصارى بأنهم يشركون به تعالى ، وعلى هذا القول تعتبر آية البقرة ناسخة لآية المائدة -على عكس ما ذهب إليه بعض أهل القول الأول - وقد ذكر ابن حيان قولاً لابن عباس : أن آية البقرة هذه عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات وكل من على غير دين الإسلام ونكاحهن حرام ، والآية محكمة على هذا ناسخة لآية المائدة ، وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية ، وإن كانت متأخرة في التلاوة ويؤيدها قول ابن عمر في الموطأ : ولا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة : ربها عيسى ...."(4) ، ومعنى هذا أن سورة المائدة وإن كانت من آخر سور القرآن نزولاً ، فلا يمنع ذلك من أن تكون آيتها متقدمة على بعض آيات السور التي نزلت قبلها في الجملة .
جواب الجمهور:
وأجيب عن دعوى نسخ آية المائدة بآية البقرة بأمرين :
الأمر الأول : عدم وجود الدليل على تأخر آية البقرة على آية المائدة ، ودعوى نسخ آية البقرة بآية المائدة أولى، لأن سورة المائدة متأخرة عن سورة البقرة باتفاق العلماء (5)، وعلى فرض عدم تأخر آية المائدة على آية البقرة فإن الأولى المصير إلى الأمر الثاني .
الأمر الثاني : وهو الجمع بين النصوص إذا أمكن بدلاً من إعمال أحدها وإهمال حكم الآخر ، والجمع هنا ممكن وهو ما ذهب إليه الجمهور من اعتبار آية البقرة عامة تشمل جميع الكافرات بما فيهن الكتابيات وآية المائدة استثنت الكتابيات من النهي فبقين على الجواز .
والآية الثانية: هي قوله تعالى:(ولا تمسكوا بعصم الكوافر)(6)ولفظ الآية عام يتناول كل كافرة ، فلا تحل كافرة بوجه من الوجوه ، ولا عبرة بخصوص سبب نزولها في نساء المسلمين من مشركات مكة ، بل العبرة بعموم لفظها.
وأجيب عنها بما أجيب عن آية البقرة السابقة بأن الكتابيات مستثنيات بآية المائدة ودل عليها عمل الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (7).
(1)انظر : المبسوط ( 4/210) والمحلى ( 9/445) والسيل الجرار ( 2/252-254).
(2) البقرة : (221) .(2/37)
(3) التوبة : ( 30-31)
(4) التفسير الكبير ( 2/164) وراجع فتح الباري لابن حجر ( 9/417.416) .
(5) راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 32/178) وما بعدها .
(6) الممتحنة 10
(7) راجع الجامع لأحكام القرآن (18/65 ) ومابعدها
=============
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الرابعة)
د. عبد الله القادري 30/3/1423
11/06/2002
تتمة أدلة المانعين من زواج المسلم بالكتابية مطلقاً
الدليل الثاني :ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من النهي عن زواج المسلم بالكتابيات كما مضى عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم ، فقد نهى عمر رضي الله عنه طلحة وحذيفة عن إمساك امرأتيهما الكتابيتين وغضب غضباً شديداً وهم أن يسطو عليهما و عندما قالا له : نحن نطلق ولا تغضب قال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء ، و معنى هذا أن نكاحهن باطل عند عمر رضي الله عنه .
و نقل ابن جرير عن ابن عباس ما يدل على تحريم نكاح الكتابيات كغيرهن من الوثنيات ، وأما ابن عمر فقد صرح بأنه لا يعلم شركاً أعظم من قول النصرانية ربها عيسى وهو عبد من عباد الله ، فهذه الآثار دالة على التحريم .
الجواب :
وأجاب الجمهور على ذلك بأجوبة :
منها: أن عمر رضي الله عنه إنما كره ذلك ولم يحرم ، وقد صرح بعدم التحريم عندما أمر حذيفة أن يفارق امرأته اليهودية ، فكتب إليه حذيفة : أحرام هي ؟ فكتب إليه عمر : لا ، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن(1)
وذكر ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس رواية أخرى تدل على أنه يرى جواز نكاح المسلم الكتابية فقد روى عنه بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله :" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" ثم استثنى نساء أهل الكتاب ، فقال :" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " حل لكم " إذا آتيتموهن أجورهن ".
كما أنه ذكر عن عمر رضي الله عنه القول بالجواز ، فروى بسنده عن زيد ابن وهب ، قال : قال عمر : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة . ثم قال : وإنما كره لطلحة و حذيفة ـ رضي الله عنهما ـ نكاح اليهودية والنصرانية ، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك ، فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، فأمرهما بتخليتهما ثم روى بسنده عن شقيق ، قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه : خل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال :" لا أعلم أنها حرام و لكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن"(2)
فهذه الروايات تدل أن غاية ما قصده عمر وابن عباس هو الكراهية ولم يريدا التحريم وبذلك يجمع بين الروايات عنهما .
وأما ابن عمر فقد روي عنه الكراهية ، فقد روى عنه نافع أنه كان لا يرى بأساً بطعام أهل الكتاب وكره نكاح نسائهم ، ولما سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال : إن الله حرم المشركات على المسلمين قال : فلا أعلم من الشرك شيئاً أكبر، أو قال أعظم من أن تقول ربها عيسى وهو عبد من عبيد الله . قال الجصاص رحمه الله ـ بعد أن ساق ـ الروايتين : فكرهه في الحديث الأول، ولم يذكر التحريم ، وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء ، وإنما أخبر أن مذهب النصارى شرك ، ثم ذكر عنه رواية أخرى استنبط منها أن ابن عمر رضي الله عنهما كان متوقفاً في الحكم ، فروى بسنده عن ميمون بن مهران قال : قلت لابن عمر : إنا بأرض قوم يخالطنا فيها أهل الكتاب ، فننكح نساءهم ،ونأكل طعامهم قال : فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم، قال : قلت إني أقرأ ما تقرأ ، فننكح نساءهم ونأكل طعامهم فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم ...". ثم قال الجصاص : قال أبو بكر : عدوله بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفاً في الحكم ، غير قاطع فيه بشيء ، وما ذكره عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على وجه التحريم ، كما يكره تزوج نساء أهل الحرب من الكتابيات لاعلى وجه التحريم.(3)
و كذا زعم ابن المرابط تبعاً للنحاس أن كلام ابن عمر محمول على كراهية التنزيه أو التوقف, ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما قال الحافظ ابن حجر(4).
تلك هي الآثار التي ذكرها أهل هذا المذهب محتجين على تحريم زواج المسلم بالكتابية ، وهذه أجوبة المبيحين عليها.
وبهذا يعلم أنه لم يوجد دليل يقوى على معارضة آية المائدة الدالة على الإباحة .
إشكال وجوابه :
أشكل على البعض في هذه المسألة ما يحصل في نفس الزوج من المحبة لزوجته وكذا الأبناء مع أن الله أمر بمعاداة الكفار و عدم مولاتهم كقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.."الآية (5)
الجواب :
إن الله تعالى الذي أمره بمعادة الكافرين وعدم مولاتهم هو الذي احل له نساء أهل الكتاب وهو يعلم سبحانه ما يترتب على ذلك فالمحبة الطبيعة لا تضره وإنما يضره أن يحبها لدينها وعاداتها واخلاقها التي تخالف الإسلام وحكمه كحكم أمه وأبيه المشركين .(2/38)
و الخلاصة : أن زواج المسلم بالكتابية التي لم تخرج عن دينها إلى الوثنية أو الإلحاد ، جائز مع الكراهة إذا تزوجها في دار الإسلام ـ وهي الذمية ـ والدليل الراجح مع الجمهور الذين رأوا الجواز .
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/333).
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/376 -378).
(3) أحكام القرآن (1/332-333).
(4) فتح الباري (9/416-417)
(5) المائدة (51)
==============
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الخامسة )
د. عبد الله القادري 14/4/1423
25/06/2002
حكم زواج المسلم بالكتابية الحربية
إن الآية التي دلت على جواز زواج المسلم بالكتابية لم تفرق بين أن يتزوجها في دار الإسلام أو دار الحرب ، ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام بأن الهيمنة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد ، يحكمون بما أنزل الله ويظهرون شعائر الإسلام ، و احتمال ميل الزوجة الكتابية إلى زوجها المسلم وارد ، كما أن احترامها لآداب الإسلام وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب ، إرضاءً لزوجها الذي تغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات ، بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة فيها للكفار ، لأنهم أهل الحل والعقد و الحكم فيها بقوانينهم وهي تخالف الإسلام ، والشعائر الظاهرة هي شعائر الكفر وليست شعائر الإسلام ، والأخلاق السائدة هي أخلاق الكفار ، ولهذا فإن الزوجة الكتابية في بلاد الحرب أكثر تمسكاً بعقيدتها وأخلاقها وعاداتها ، وأقل ميلاً إلى دين زوجها ، بل يخشى على زوجها أن يتأثر بالمحيط الكافر الذي يعيش فيه ، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه ، لهذا اختلف العلماء رحمهم الله في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب .
فقد ذكر القرطبي رحمه الله أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حرباً ؟ فقال : لا يحل ، وتلا قول الله تعالى : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ( إلى قوله تعالى : (وهم صاغرون)(1).
قال المحدث : حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه ـ يعني أن إبراهيم يقول بالتحريم ـ وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ،و لتصرفها في الخمر و الخنزير )(2)اهـ .
فمذهب ابن عباس رضي الله عنه وإبراهيم النخعي تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب ، والسبب في ذلك أن المسلم مأمور بقتال الكفار المحاربين ، وزواجه بالحربية فيه ركون إليها ، وداع إلى سكناه في دارها وهي دار الحرب ، وذلك ينافي معنى قتالها ، بل فيه تكثير لسوادهم على المسلمين بسكناه بينهم وبذريته من الكتابية الحربية ، التي قد تنشئهم على الكفر ومحبة أهله والعداوة للإيمان وأهله ، وغير ذلك من المفاسد الناشئة عن زواج المسلم بالحربية .
وقد صرحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الحرب ، إلا أن منها ما تفسر الكراهة بالكراهة التنزيهية و منها ما تفسرها بالكراهة التحريمية .
فقال السرخسي- رحمه الله-" بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب فكره ذلك وبه نأخذ ، فنقول : يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب ، ولكنه يكره ، لأنه إذا تزوجها ثمة ، ربما يختار المقام فيهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا برئ من كل مسلم مع مشرك لا تراءى نارهما "(3).ولأن فيه تعريض ولده للرق ، فربما تحبل فتسبى فيصير ما في بطنها رقيقاً ، وإن كان مسلماً ، وإذا ولدت تخلق الولد بأخلاق الكفار ، وفيه بعض الفتنة ، فيكره لهذا ..."(4).
ورجح الفقيه الحنفي : محمد أمين الشهير بابن عابدين ، رحمه الله أن الكراهة هنا تحريمية وليست تنزيهية ، فقال : وفيه أن إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أنها تحريمية ، والدليل عند المجتهد على أن التعليل يفيد ذلك ، ففي الفتح : ويجوز تزوج الكتابيات ، والأولى أن لا يفعل .. وتكره الكتابية الحربية إجماعاً ، لافتتاح باب الفتنة ، من إمكان التعليق المستدعي للمقام معها في دار الحرب ، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر ، وعلى الرق ، بأن تسبى وهي حبلى ، فيولد رقيقاً وإن كان مسلماً . اهـ فقوله : والأولى أن لا يفعل يفيد كراهة التنزيه في غير الحربية ، و ما بعده يفيد كراهة التحريم في الحربية ، تأمل "(5).
وقال في الشرح الصغير ـ في المذهب المالكي ـ :" و تأكد الكره ـ أي الكراهة ـ إن تزوجها بدار الحرب ، لأن لها قوة بها لم تكن بدار الإسلام ، فربما ربت ولده على دينها ، ولم تبال باطلاع أبيه على ذلك ... "(6).
وقال النووي رحمه الله :" و تحل كتابية ، ولكن تكره حربية وكذا ذمية على الصحيح " وقال في الحاشية : لكن الحربية أشد كراهة منها(7).(2/39)
وقال الخرقي رحمه الله : " ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة ، فيتزوج مسلمة و يعزل عنها ولا يتزوج منهم ، ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج ، وهو في أرضهم " . وقال ابن قدامة معلقاً على ذلك : " يعني و الله أعلم من دخل أرض العدو بأمان ، فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج ، وقد روي عن سعد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أبا بكر أسماء ابنة عميس وهم تحت الرايات ، أخرجه سعيد ، لأن الكفار لا يد لهم عليه ، فأشبه من في دار الإسلام .أما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج مادام أسيراً ، لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه ، مع صحة نكاحهما، وهذا قول الزهري ، فإنه قال : لا يحل للأسير أن يتزوج مادام في أرض المشركين "(8).
وقال ابن القيم رحمه الله :" وإنما الذي نص عليه أحمد ما رواه ابنه عبدالله ، قال : كره أن يتزوج الرجل في دار الحرب أو يتسرى من أجل ولده ، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم : لا يتزوج ولا يتسرى الأسير في دار الحرب ، وإن خاف على نفسه لا يتزوج ، وقال في رواية حنبل : ولا يتزوج الأسير ولا يتسرى بمسلمة إلا أن يخاف على نفسه ، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد .. "(9).
وبهذا يظهر أن مذهب الإمام أحمد أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب و يليه المذهب الحنفي في ذلك .
و الأسباب التي دعت بعض علماء المسلمين إلى القول بالتحريم أو الكراهة تتلخص في ثلاثة أمور رئيسية :
الأمر الأول: الخوف على ذرية المسلم من الكتابية الحربية من أن ينشأوا على دينها ، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرساً يكثر به سوادهم و يخسر ذلك الغرس المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم ، و قد علم أن حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة ، والمقصد الأساس من حفظ النسل أن يكون النسل البشري محققاً لعبادة الله في الأرض
الأمر الثاني :الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفرة الحربيين وفي ذلك عدة مفاسد .
المفسدة الأولى : مخالفة الأمر الإلهي بالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ، وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه و إذلال نفسه لعدوه .
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين و تقليل عدد المسلمين و ذلك يسبب قوة الكافرين وإضعاف المسلمين .
المفسدة الثالثة : تعريض ذريته للكفر أو الاسترقاق ولو كانوا مسلمين ، ذلك أن امرأته قد يأسرها المسلمون وهي حامل فيكون ولدها رقيقاً .
هذا مع ما يتعرض له المسلم في بلاد الكفر من المحرمات التي قد لا يستطيع الإفلات منها ومشاهدة المنكرات التي لا يقدر على إنكارها ، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها ، وقد تمارس امرأته أنواعا ً منها ،وقد يميل مع طول الوقت إلى كثير من عاداتهم المخالفة للإسلام إن سلم من الارتداد عن دينه ، وهذا هو الأمر الثالث .
وبناء على ذلك فالذي يبدو رجحانه هو القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية الحربية ، لأن تناول الشيء المباح إذا أدى إلى مفاسد تفوق مصلحته غلب جانب تلك المفاسد على مصلحته ، ومفاسد نكاح المسلم الكتابية الحربية تفوق المصالح المترتبة عليها كما هو واضح والله أعلم .
(1) التوبة : 29.
(2) الجامع لأحكام القرآن (3/69)
(3) أبو داود (3/105) ولفظه :" أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : " لا تراءى ناراهما".
(4) المبسوط (5/50) وراجع مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/328) و كذا كتاب السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني (5/1838).
(5) حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45) ، وصرح الدكتور وهبة الزحيلى في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (7/145) أن الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب .
(6) الشرح الصغير (2/420).
(7) المنهاج مع حاشيته (3/187)
(8) المغني (9/292-293) .
(9) أحكام أهل الذمة (2/420)
=============
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة السادسة )
د. عبد الله الأهدل 26/4/1423
07/07/2002
زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم (أ)
توطئة :
لقد كانت الأرض في العصور الإسلامية السابقة تنقسم إلى بلاد إسلام تطبق فيها أحكام الله، وأهل الحلّ والعقد فيها هم المسلمون ، وترفع عليها راية الإسلام ، وتبعث منها كتائب الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ، وبلاد كفر أهلها يحاربون المسلمين حرباً مباشرة ، ولا تخرجها عن كونها بلاد حرب المعاهدات المؤقتة التي تعقد بين المسلمين والكفار.(2/40)
أما الآن فإن كثيرا من بلدان المسلمين التي كل سكانها مسلمون - ولو بالاسم - أو أغلبهم مسلمون ، أهل الحل والعقد فيها ليسوا بمسلمين بل هم كفار، يحاربون الإسلام وأهله أشد من الكفار الحربيين في الزمن الماضي ، ومثال ذلك الشعوب المسلمة التي يحكمها شيوعيون ملحدون لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر ولا بالوحي ، بل يعدون الإيمان بالغيب الذي جاء به الرسول ونزلت به الكتب خرافة يجب محاربتها والقضاء على كل من يعتقدها ، وكذلك العلمانيون الذين يرون أن قوانين البشر أنفع لحياة الناس من القرآن والسنة ، وقلما تخلو من هذين الصنفين بلاد من المسلمين - وإن كانوا في بعض الشعوب لا يجرؤن على الظهور ، لأن ظروفها غير مناسبة لظهورهم - فبماذا نحكم على هذه الشعوب التي يحكمها هؤلاء ؟ أهي بلاد إسلام نظراً لأن كل سكانها منتسبون للإسلام أو أغلبهم ، وإن كان أهل الحل والعقد فيها كفرة يجاهرون بمعاداة الإسلام ، أم هي بلاد كفر نظراً لكون الأحكام التي تنفذ فيها هي أحكام الكفر ، وأهل الحلّ والعقد فيها كفار؟ وتعريف علماء الإسلام لبلاد الإسلام وبلاد الكفر يرجح اعتبارها دار كفر وليست دار إسلام ، فقد قال علاء الدين الكاساني رحمة الله : " إن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ... وإن دار الإسلام تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها ".(بدائع الصنائع9/4374)
وقد سألت من علماء هذا العصر رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية - سابقاً - الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله عن تعريف بلاد الإسلام وبلاد الكفر فأجاب بما يلي : " نفيدكم أن العبرة بمن كانت له الولاية والحَلّ والعقد والتصرف في البلد ، فإن كان ذلك للمسلمين فهي دولة إسلامية وإن وجد بها كفار ، وإن كان الحلّ والعقد والتصرف والولاية للكفار فتعتبر الدولة كافرة ، وإن كثر فيها المسلمون "(بعث به إليَّ في خطاب خاص برقم 422/1بتاريخ7/3/1401)
وقد ابتلى المسلمون بهذا الوضع الشاذ في كثير من بلدانهم ، ولو طبقنا تعريف علماء المسلمين لبلاد الكفر لما سلم منها إلا القليل وفي ذلك مخاطر عظيمة ، إذ ينبني عليه أن لا يتزوج المسلم في بلاده التي تلك صفتها بالمسلمة فضلاً عن الكتابية ، وإذا اضطر إلى ذلك فلا يقصد الولد ، لهذا لا أريد الخوض في هذا ، وعلى المسلمين أن يتقوا الله ما استطاعوا في بلدانهم وأن يصبروا على التمسك بدينهم وعلى تنشئة أولادهم عليه حسب قدرتهم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ,ولندع بلدان المسلمين وننتقل إلى الكلام عن بلدان الكفر لنعرف كيف تغيرت أحوالها هي أيضاً ، لأنها المقصودة في هذا الفصل .
صفة بلاد الكفر في هذا الزمان
لقد كانت الخلائق في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب (1)، والمراد بالمسالمين له الآمنين الذين كانوا أهل ذمة ، وأما الأرض ،
فكانت قسمين : أرض الإسلام وهي التي يدين أهلها بالإسلام ، أو يخضعون لحكمه بأداء الجزية ، وأرض كفر وهم المحاربون للإسلام .
وهكذا استمرت الأرض في عهد أصحابه رضي الله عنهم ، إما بلاد إسلام و إما بلاد حرب ، والبلدان التي كانت تعقد هدنة مؤقتة مع المسلمين هي بلاد حرب ما لم يؤد أهلها الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام .
أما الآن فإن بلدان الكفار إذا تأملت واقعها ، وجدتها تنقسم إلى أقسام: منها ما هي دار حرب ، لأنها معلنة الحرب على الشعوب الإسلامية كما هو الحال في أرض فلسطين التي احتلها اليهود و شردوا أهلها ولا يزالون يشردونهم ويقتلونهم .
والذي يبدو أن لا فرق بين دور الحرب في الماضي من حيث عدم جواز زواج المسلم بالحربية فيه ، لما مضى من الأدلة القاضية بذلك ، ولكن المسلمين لا زالوا كثرة في هذه الدار ، يصعب معه أن يطبق عليهم حكم دار الحرب فيمنعون من التزاوج فيما بينهم أو من قصد الولد ، لأن التزاوج وقصد الأولاد والإكثار من النسل قد يكون في صالح المسلمين ليستمر صراعهم لأعداء الله لإجلائهم عن بلدانهم ، ولو أوجبنا عليهم الهجرة من بلادهم بسبب أنها بلاد حرب إلى بلاد الإسلام لما وجدوا من يقبلهم مهاجرين في البلدان الإسلامية ، ثم إن في هجرتهم من بلادهم إلى غيرها فرصة لليهود ليستقلوا بها وضياعاً لتلك الأرض ، لهذا يبدو أن حكمهم في التزاوج فيما بينهم حكم المسلمين في بلاد الإسلام ، وحكم زواجهم بالكتابية حكم زواج المسلم بها في دار الحرب .
ومن تلك البلدان من يعلن أهلها الدعوة إلى السلم وعدم إرادة الحرب مع الشعوب الإسلامية وغيرها ، وهي ذات صفتين : صفة تبدو بها أنها ليست دار حرب ، وهي صفة المعاهدات والاتفاقات الدولية التي يترتب عليها تبادل السفراء والتبادل التجاري والاقتصادي و الصناعي والثقافي وما أشبهه ، فهي بهذا شبيهة ببلاد العهد في العصور الإسلامية السابقة إلا أن العهد في هذا العصر يتخذ صفة الدوام ، وليس على أسس إسلامية ، وغالب المعاهدات تكون المصالح فيها راجحة لبلدان الكفر ، ومن الأمثلة على هذا القسم أمريكا وبعض دول أوربا وغيرها كروسيا .(2/41)
وإذا نظرت إليها من جهة أخرى وجدتها ذات صفة ثانية وهي دار حرب وذلك من ثلاثة جوانب :
الجانب الأول : أنها تساعد الدول المحاربة للمسلمين بالمال والسلاح والغذاء والخبراء والإعلام وكل ما تحتاجه الدول المحاربة .
الجانب الثاني :أن أساطيلها البحرية وأسرابها الجوية ، وجحافلها البرية مستعدة في أي لحظة لغزو أي دولة أو شعب من الشعوب الإسلامية التي لا يخضع حكامه لسياساتهم وتوجيهاتهم .
والجانب الثالث :أنها تسعى لإيجاد أحزاب تؤيدها في داخل الشعوب الإسلامية ، تحارب الإسلام والمسلمين ، وهي تمدها بالمال والتوجيه والسلاح ، وتدفع تلك الأحزاب للقيام بانقلابات في داخل الشعوب الإسلامية من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين ، وتكفي هذه الجوانب الثلاثة لعد تلك الدول الكافرة دول حرب وبلادها بلاد حرب (2) وإن كانت الشعوب الإسلامية غير قادرة في الوقت الحاضر ، بسبب ضعفها و تفرقها أن تعامل تلك الدول الكافرة معاملة الحربيين في كثير من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية ، كدعوتها إلى أحد أمرين : الأمر الأول : الدخول في دين
الله ، والأمر الثاني : أداء الجزية والخضوع لأحكام الإسلام العامة ، فإن أبوا فجهادهم في سبيل الله ، كما كان ذلك دأب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولاً وفعلاً ، وعليه مضى السلف الصالح عندما كانوا متمسكين بدين الله .
حكم زواج المسلم بالكتابية في دارالكفر اليوم
سبق أن جمهور العلماء على جواز نكاح المسلم الكتابية في ديار الإسلام مع الكراهة ، وبعضهم يرى جواز ذلك في ديار الحرب مع الكراهة الأشد ، وبعضهم يرى تحريم ذلك في ديار الكفر .وأن بعض السلف يرى التحريم مطلقاً في ديار الإسلام وديار الكفر .
وسبق أن بلاد الكفر في هذا الزمان ليست دار حرب محضة كما كانت دار حرب في الماضي ، وليست دار عهد محضة ، فهي بلاد حرب غير مباشرة ، كما هو الحال بالنسبة للدول التي تساعد اليهود ضد المسلمين بالمال والسلاح والرجال وغيرها ، وهي مستعدة للحرب المباشرة في أي لحظة ، كأمريكا وأوربا وروسيا ، وهي أيضاً بلاد حرب مباشرة كما هو الحال بالنسبة لأفغانستان ، وأنكى من ذلك أن تلك الدول تحارب المسلمين بالمسلمين ، حيث تنظم الأحزاب الموالية لها وتساعد على ضرب شعوبها بالسلاح .
وهي شبيهة بدار العهد ـ في الجملة ـ من حيث الاتفاقات الدولية و تبادل السفراء ، والمعاملات الاقتصادية وغيرها .
وكثير من الاتفاقات الدولية المبرمة بين دول الكفر والشعوب الإسلامية تكون في صالح دول الكفر أكثر مما هي في صالح الشعوب الإسلامية ، بل الضرر الذي يلحق الشعوب الإسلامية من تلك الاتفاقات أكثر من النفع الذي يحصل منها.
كما أن بعض المعاهدات تخالف مقاصد الإسلام ، وأهم ذلك إبطال الجهاد في سبيل الله ، الذي هدفه الأول الدعوة إلى الله ودخول الناس في هذا الدين ، أو خضوعهم لنظامه العام بدفع الجزية وإلا قوتلوا ، كما كان عليه الرسول صلى الله وأصحابه والسلف الصالح ،وهو الحكم القائم إلى يوم الدين (3).
وسبق بيان حالة المسلمين في ديار الكفر ، وأنهم معرضون للذوبان في المجتمع الكافر ، وأن بعضهم يرتد عن الإسلام ، وبعضهم يبقى مسلماً بالاسم والانتساب ، وهو قد ضاع في تلك المجتمعات الكافرة ، والناجون من ذلك قليل .
فإذا نظرنا إلى ديار الكفر من جهة ما تقوم به من حرب مباشرة ضد المسلمين ، أو غير مباشرة ، فإن القياس يقتضي تحريم زواج المسلم بالكتابية فيها قياساً على تحريم ذلك عند بعض العلماء في دار الحرب ، وإذا نظرنا إليها من جهة ما بينها وبني حكام الشعوب الإسلامية من معاهدات واتفاقات ، فالقياس يقتضي إباحة الزواج بالكتابية في ديار الإسلام ـ وإن كانت لا تعتبر ذمية ولا حربية ـ أما الزواج بها في ديار الكفر التي فيها شبه بدار الحرب المحضة و شبه بدار العهد فإن فيه إشكالاً ، لأن هذه الدار التي هذه صفتها جديدة لم تكن موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، و لا في عهد خلفائه لأن الديار كلها كانت إما دار إسلام ـ ويدخل فيها أهل الذمة ـ وإما دار حرب ، ويدخل فيها دار العهد المؤقت ـ وعندما كان المسلمون يتزوجون بالكتابيات إنما كانوا يتزوجون بهن في ديار الإسلام ، وديار الإسلام كانت محكومة بشريعة الله و المجتمع فيها كان مجتمعاً إسلامياً ،والكتابية ذمية وليست حربية وإسلام الكتابية التي يحيط بها المجتمع الإسلامي الذي تطبق فيه أحكام الإسلام في المنزل والمسجد والشارع مأمول ، وتربية أبنائها على الإسلام و تنشئتهم على مبادئه وآدابه هي الأساس ، لأن البيئة كلها تساعد على ذلك : الأسرة، و الجيران ، والمسجد ، ودور العلم ، والمجتمع كله ، لأن القوة في كفة الإسلام و المسلمين ، والمرأة أقرب إلى التأثر بالإسلام من التأثير في ولدها بالكفر وعاداته .(2/42)
ولو فرض أنها حاولت التأثير فيه فإنها ستفشل ، وإذا علم الزوج أو أسرته أو أي مسلم بذلك يبادر إلى إحباط تلك المحاولة ، ولو تقدمت بشكوى إلى القضاء تطلب فيها الاستقلال بتربية أولادها ، فإن الشرع الإسلامي لا يبيح لها ذلك ، بل يحكم بالإشراف على الأولاد و تربيتهم لمن في إشرافه و تربيته مصلحتهم في دينهم ،ولا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
وإذا فرض أن زوج الكتابية تساهل معها في تربية أولاده، فإن المسلمين لا يسكتون عن ذلك ، لتمسكهم بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،إما من قبل المحتسبين من المجتمع ، وإما من قبل الحاكم المسلم هذا بالنسبة لدار الإسلام .
(1)- زاد المعاد (3/160
(2)- وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً ـ في مدة عهدهم ـ حرباً على المسلمين بسبب إعانتهم بني بكر ـ الذي دخلوا في عهدهم ـ على خزاعة ـ الذين دخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانت إعانتهم لهم بالسلاح . راجع في ذلك تفسير الإمام البغوي ، رحمه الله (2/266-267).
(3)- يأتي إبطال الجهاد من حيث دوام المعاهدات بين حكام الشعوب الإسلامية والدول الكافرة ، مع أن كثيراً من تلك المعاهدات فيه إجحاف بالمصالح الإسلامية
==============
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة السابعة )
د. عبد الله الأهدل 13/5/1423
23/07/2002
حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم(ب)
(المفاسد المترتبة على الزواج بالكتابية في دار الكفر اليوم)
المفسدة الأولى :إقامة المسلم في دار الكفر وهجره لبلدان الإسلام ، وذلك مخالف لحكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، كما هو معروف .
المفسدة الثانية : إعانة المسلم المقيم في بلاد الكفر للكافرين على المسلمين ، لما يبذله من جهد و طاقة في تقويتهم بعمله معهم ، سواء كان الجهد بدنياً في المصانع وغيرها ، أو عقلياً في شتى العلوم المهمة ، كالطب والهندسة والفلك وغيرها ، ويدخل في ذلك تقصيره في قتال الكفار المحاربين للمسلمين وهي مفسدة عظيمة لا يجوز إغفالها (1).
المفسدة الثالثة :تعرض المسلم نفسه لعادات أهل الكفر و أخلاقهم ومعاملاتهم التي يكون كثير منها محرماً عليه في دينه ، وقد لا يقدر على ترك ذلك لاضطراره إلى الاختلاط بهم في المنازل و أماكن العمل والتنقلات ، ويخشى عليه إن كان جاهلاً ضعيف الإيمان أن يترك دينه و يدخل في دين الكفر وهذا واقع .
المفسدة الرابعة : فقد معنى الولاء و البراء الذي أمر الله به المؤمنين كما قال تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين](2).
وقوله تعالى : [ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ].(3) وقوله تعالى : [ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ... ](4)
والغالب أن المسلم الذي يخالط الكفار و يؤاكلهم و يشاربهم ويصاهرهم يذهب من قلبه العداء لهم ، ويقل في قلبه ولاؤه لله ولرسوله ولعباده المؤمنين .
المفسدة الخامسة :الرضا بالمنكر الذي يراه يتكرر أمام ناظريه في كل وقت : من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والكفر بالإسلام ووسائل الزنا ، بل والزنا نفسه ، وقد يقع هو نفسه في كل تلك المعاصي ، لأن إحساسه بمفاسدها وكونها من مساخط الله تعالى يضعف في نفسه لتكرارها وبقائه في محيط أهلها .(2/43)
المفسدة السادسة :تأثير امرأته الكتابية عليه بعاداتها وأخلاقها أكثر من تأثيره هو عليها ، لأن المحيط الذي يعيش فيه هو محيطها والبيئة بيئتها ، وهي تأكل لحم الخنزير و تشرب الخمر وتختلط بالأجانب من الرجال أمامه ، محارم وغير محارم وهي كاشفة أغلب جسمها ، وقد تصافحهم وقد تراقصهم وهو يرى ذلك كله ويسكت عنه فيألف الدياثة ، وقد ينالون منها ما وراء ذلك كله وهو يدري أو لا يدري ،كما أنه هو قد يختلط بقريباتها وصديقاتها اختلاطاً فيه مفاسد كثيرة على دينه وخلقه ، و كيف ينجو من التأثر بذلك هو في محيطه وبيئته ؟! ولا بد هنا من التأكيد على صفة الإحصان التي أباح الله بها للمسلم أن يتزوج الكتابية في قوله تعالى :[ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب](5). فإن اشتراط هذه الصفة يدل على عدم جواز زواج المسلم بالكتابية التي لا توجد فيها صفة الإحصان ، وقد اختلف في صفة الإحصان هذه على قولين : القول الأول : أن المراد بها العفة ، فإذا كانت الكتابية عفيفة لم تقارف الفاحشة جاز نكاحها ، وممن فسر الإحصان بالعفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه عندما كتب إليه حذيفة بن اليمان : " أحرام هي ـ يعني الكتابية ـ كتب إليه عمر قائلاً : لا ، ولكني أخاف أن توا قعوا المومسات منهن ، قال أبو عبيد : يعني العواهر ..." وقال مطرف عن الشعبي في قوله تعالى :[ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم] قال : " إحصان اليهودية والنصرانية : أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها ..."(6).
و ممن قال بذلك : السدي ، ومجاهد و سفيان .
والقول الثاني : " أن المراد بالإحصان هنا الحرية ، أي يجوز نكاح الكتابية الحرة ـ دون الأمةـ وإن كانت قد أتت بفاحشة إذا تابت منها ، بشرط أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر "(7) وعلى كلا القولين فإن الكتابية التي في دار الكفر ـ وليست في دار الإسلام ـ يرجح جانب الحذر منها ، لما في بيئتها من الفساد الواضح ، وكيف تكون عفيفة من توصم بالعار والأمراض النفسية إذا بلغت سناً معينة ولم تجد من يعيش معها كما يعيش الزوج مع زوجته ؟ و كيف لا يخشى من عدم عفة امرأة تختلط بالأجانب في الخلوة كالجلوة كما مضى ؟
المفسدة السابعة :أن امرأته وهي لا تلتزم بأمر الله و نهيه قد تنجب ذرية من غيره وينسبون إليه ، ويترتب على ذلك أحكام كثيرة فاسدة : فيرثونه إذا بقوا على دينه ـ ولو في الظاهر ـ ويختلطون بأبنائه وبناته على أنهم محارم ، وكذلك أخواته وإخوانه ، مع أنهم في الواقع ليسوا أولاده .
المفسدة الثامنة : أنها قد تنشئ أولاده على الكفر وعادات الكفار وأخلاقهم ، و تأخذهم معها إلى الكنيسة والمراقص و المسارح و أماكن اللهو ، وتفسد قلوبهم ، ولا يستطيع هو أن يحول بينها وبين ذلك ، وقد اشترط ابن جرير رحمه الله في جواز الزواج بالكتابية :" أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده ، أن يجبر على الكفر "(8) وليس من شرط الإجبار على الكفر أن يكون بالقهر المادي كالتهديد بالقتل ، أو الحبس أو الضرب ، بل قد يكون على الإجبار على الكفر بالضغوط الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية وتشويه الإسلام وهذا كله واقع في بلاد الكفر .
المفسدة التاسعة: أن القانون الأسري في مصلحتها في بلادها ، فلو أراد أن يطلقها فإن القانون يجبره على مغادرة منزله وتركه لها ولأولادها ويحكم لها بالأولاد ما داموا دون سن معينة كالثامنة عشرة ، فيخسر أولاده و تربيهم هي كما تريد ، وهو يشاهد فلا يقدر على حمايتهم من ذلك ، بل إن المرأة الكافرة التي يتزوجها المسلم وينقلها إلى بلاده في أي شعب من شعوب المسلمين ، إذا كرهته تستطيع أن تذهب في غفلة منه إلى سفارة بلادها في ذلك الشعب بأولادها فتصبح بذلك كأنها في بلاد الكفر تحميها دولتها وقوانينها وتنقلها مع أولادها إلى بلادها ولا تستطيع دولة الشعب المسلم أن تفكها ولا تفك أولادها .
المفسدة العاشرة : ترك المسلم التزوج بالمسلمة ، وإيثاره التزوج بالكتابية ، وفي ترك التزوج بالمسلمة الموجودة في بلاد الكفر تعريض المسلمات للفتنة ، إما بالزنا الصريح أو باستباحة زواجهن بالكفار الذي لا يحل لهم أن يتزوجوا المسلمات ، وهذا الأمر موجود في بلاد الكفر ، فقد وجدنا كثيراً من المسلمين يشكون من هذه الحالة ، و يتمنون أن يجدوا لبناتهم أزواجاً مسلمين في نفس البلد الذي يتزوج فيه المسلمون الكافرات لأغراض دنيوية ، كالحصول على الإقامة أو التجنس أو الوظيفة .
وقد ذكر العلماء أن من أسباب كراهية بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كعمر رضي الله عنه ، الزواج بالكتابية الذمية في دار الإسلام زهد المسلمين في الزواج بالمسلمات ، كما قال ابن جرير رحمه الله : " وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة ـ رحمة الله عليهم ـ نكاح اليهودية والنصرانية ، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك ، فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني فأمرهما بتخليتهما "(9).(2/44)
وإذا كان هذا السبب يؤدي إلى كراهة الزواج بالكتابية في دار الإسلام خشية من الزهد في الزواج بالمسلمات اللاتي يجدن الأزواج الراغبين فيهن غالباً ، فإنه ـ أي هذا السبب ـ صالح لتحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر إذا أدى إلى ترك الزواج بالمسلمة وافتتانها بالزنا أو الزواج بالكفار ، وهو محرم عليها كالزنا .
وإذا كان زواج المسلم بالكتابية مباحاً ، والمسلمون إنما تعاطوه في دار الإسلام ، ومع ذلك وجد من يرى تحريمه من السلف و عامة أهل العلم كرهوه ، وكثير منهم حرموه في دار الحرب ، وإذا علمنا تلك المفاسد التي تترتب عليه في دار الكفر فما حكمه ؟!.
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/366).
(2) المائدة :51.
(3) المائدة :55-57
(4) الممتحنة :4
(5) المائدة : 5
(6) أحكام القرآن للجصاص (2/324).
(7) وقد رجح هذا القول ابن جرير الطبري وذكر القائلين به في تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6/107-108).
(8) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6/108).
(9) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/378).
=============
حكم زواج المسلم بالكتابية( الحلقة الأخيرة )
د.عبدالله الأهدل 27/5/1423
06/08/2002
حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر (د)
حكم المسألة :
إن المفاسد التي سبق ذكرها في الحلقة الماضية ليست مفروضة ، وإنما هي واقعة في الغالب مع الغالب من المسلمين المقيمين في دار الكفر ممن يتزوجون الكافرات ، وقد تكون هناك مفاسد كثيرة يعرفها أولئك المسلمون الذي يقعون في شراك الاستيطان في بلاد الكفر ولو لم يكن من تلك المفاسد إلا وقوع المسلم نفسه في الارتداد عن دينه ، أو التخلق بأخلاق الكفار التي لا يقرها الإسلام ، وكذلك مفسدة تنشئة نسله على الكفر وعادات الكفار ، لو لم يكن من تلك المفاسد كلها إلا هاتان المفسدتان لكانتا كافيتين في القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر ، فكيف بها إذا اجتمعت كلها ؟!.
إذا أفضى المباح إلى محرم
معلوم أن المباح هو ما استوى طرفاه (1) ، أي : فعله و تركه ، فهو ليس مطلوب الفعل و لا مطلوب الترك شرعاً من حيث هو مباح
فإذا كان وسيلة إلى مندوب صار مطلوب الفعل ندباً ، وإن كان وسيلة إلى مكروه صار مطلوب الترك كراهة فإذا كان ذريعة إلى محرم صار مطلوب الترك تحريماً .وإن كان وسيلة إلى واجب صار مطلوب الفعل وجوباً ؟ و نكاح المسلم الكتابية مباح من حيث هو فإذا صار ذريعة إلى تلك المفاسد التي كل مفسدة منها محرمة وحدها ، فإنه يصير مطلوب الترك تحريماً لذلك .
هذا هو الحكم الذي اطمأنت إليه النفس بالنسبة لزواج المسلم بالكتابية في ديار الكفر ، ما دامت تلك المفاسد تترتب عليه ، فإذا ادعى مدع أن تلك المفاسد لا تترتب على ذلك و أثبت حجة على دعواه فالأمر عندئذ يختلف ، وما إخال أحداً يثبت ذلك اللهم إلا في مسائل فردية نادرة ، والعبرة بالغالب وليس بالنادر .
و لا أظن أن الذي توصلت إليه في هذه المسألة يخالف ما ذهب إليه علماء الإسلام قديماً ، فإن تحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر في هذه الأيام أكثر شبهاً بدار الحرب في الماضي ، وقد حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب : الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما، ورجح ذلك بعض علماء المذهب الحنفي ، وكرهه آخرون منهم ، كما كرهه كراهة شديدة الإمام مالك وهو كذلك في المذهب الشافعي ، وصرح بتحريمه علماء الحنابلة وعللوا ذلك بمفسدة ركونه إليها وسكناه في دار الحرب ، وتنشئة أولاده على الكفر و محبة أهله .
وهذه المفاسد وغيرها موجودة في دار الكفر في هذه الأيام .
وهناك قاعدة شرعية عظيمة ، وهي أن الدين من الضرورات التي يجب حفظها ، والزواج بالكتابية في دار الكفر يعود على هذه الضرورة بالنقض ، إما دين الزوج المسلم وإما دين ذريته ، وإما دينه ودين ذريته (2).
و لعل في هذه الأمور مقنعاً لمن يريد الحق والعمل بما يرضي الله سبحانه وتعالى .
الضرورة تقدر بقدرها :
إذا كان حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر هو التحريم لما مضى من المفاسد المترتبة عليه ، فما حكم المشقة المترتبة على تحريمه بالنسبة لمن يضطر إلى السكن في دار الكفر من أصناف المسلمين الآتية ؟
صنف السفراء والموظفين التابعين لهم:الذين تندبهم حكومات الشعوب الإسلامية للقيام بمصالحها في تلك الدول .
صنف الطلبة :الذين يبتعثون لأخذ العلوم التي لا غنى لبلادهم عنها ، وهي لا توجد في بلادهم .
صنف بعض المسلمين الذي يؤذون في بلادهم :بالاعتداء على دينهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو تلك الأمور مجتمعة ، من قبل حكام بلادهم الظلمة بسبب مخالفتهم لهم في بعض تصرفاتهم المخالفة للإسلام ، أو بسبب بعض الاتجاهات السياسية المختلفة ، ولا يجدون من يأذن لهم بالهجرة إلى بعض البلدان الإسلامية ، فيضطرون إلى الانتقال إلى بعض بلاد الكفر التي يحصلون فيها على أمن نسبي ، كما هو الحال في بلدان الغرب ، كالدول الأوربية الغربية ، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا ونحوها .
صنف المسلمين الذين هم أصلاً من بلاد الكفر :(2/45)
صنف التجار :الذين يحتاجون إلى البقاء في بلاد الكفر .
والجواب : أن الضرورة تقدر بقدرها.
فإذا خاف هؤلاء الأصناف من الوقوع في جريمة الزنا بسبب المغريات والسبل الداعية إليه في تلك البلدان فعليهم أن يتزوجوا مسلمات صالحات من بلادهم ويسافروا بهن معهم ، وأن يحاولوا إيجاد مساكن متقاربة لهم في البلد الذي ينزلون فيه ، لتكون أسرهم متجاورة حتى يحصل بينهم التزاور والتعاون على الخير ليعشوا عيشه إسلامية حسب الاستطاعة .
وهذه الحالة تشمل الطلاب و السفراء ومن يتبعهم من الموظفين و بعض الجاليات التي يتمكن أفرادها من بعث أولادهم إلى بلدانهم أو إيجاد مدارس إسلامية خاصة بهم في بلاد الكفر .
وكذلك الذي يدخل في الإسلام من أهل تلك البلدان إذا تمكن من الحصول على زوجة مسلمة صالحة ومجاورة الأسر المسلمة ليتعاون معها على تربية أسرته وأولاده .
أما المسلم الذي يحتاج إلى البقاء في تلك البلدان فترات قصيرة للتجارة و نحوها فعليه أن يصبر ويتقي الله في ترك المحرمات ، وإذا رأى أنه يخاف على نفسه فليصطحب معه أهله وبعض محارمها لمرافقتها عند انشغاله ، فإذا قضى حاجته رجع إلى بلاده .
وكل من يقدر على ترك السكنى في بلاد الكفر فلا يجوز له البقاء فيها خشية الفتنة على نفسه وأسرته ، ومن اضطر إلى البقاء فيها ـ والله أعلم بالمضطر ـ ولم يجد مسلمة يحصن بها نفسه وخاف على نفسه الزنا فيجوز له ـ من باب الاضطرار ـ أن يتزوج الكتابية - اليهودية أو النصرانية التي مازالت تعترف بدينها ولم تتنكر له بالإلحاد - ولكن يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنعها من الإنجاب له ، لأنه إذا أنجبت له أولاداًَ خاف عليهم من إفسادهم بتنشئتهم على الكفر وعادات الكفار ، فإنه شبيه بالأسير في بلاد الحرب والتاجر ، وقد مضى بأنهما لا يتزوجان الكتابية ولا يطآن زوجاتهم المسلمات خشية من اعتداء الكفار عليهن وإنجابهن أولاداً ليسوا من أزواجهن المسلمين ، إلا أنني أرى أن الزوجة المسلمة يمكن لزوجها أن يطأها وينجب منها إذا كانت صالحة ، وغلب على ظنه تمكنه من تربية أولاده منها في بلاده ، أو في مدرسة إسلامية في نفس البلاد التي يعيش فيها كما مضى وإنما قلنا بوجوب اتخاذ الوسائل التي تمنع الإنجاب من الكتابية ، لما مضى من المفاسد المترتبة على الزواج بها في بلاد الكفر ، ومن ذلك تنشئة الأولاد على الكفر وأخلاق الكفار ، فإذا غلب على ظنه تنشئتهم على الإسلام فلا يجب عليه حينئذ أن يتخذ وسائل عدم الإنجاب ، وهذا يشمل المسلم الوافد إلى بلاد الكفر والذي يدخل في الإسلام من أهل ذلك البلد .
نتائج البحث
وبعد ، فإن الصحيح ما عليه جمهور علماء المسلمين من جواز المسلم بالكتابية في بلاد المسلمين - وهي الذمية التي تخضع لأحكام الإسلام العامة - وأن الأفضل - مع الجواز - ترك ذلك وقد كرهه أغلب العلماء .
وأنه لا يجوز للمسلم الزواج بالحربية ، وهي الكتابية التي تعيش في بلاد الحرب ، على الصحيح من أقوال العلماء .
وأن بلاد الكفر اليوم حكمها حكم بلاد الحرب في هذا الحكم بالذات لأن المفاسد التي تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الحرب تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم .
وإذا دعت الضرورة أن يتزوج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر وغلب على ظنه أن ذريته ستنشأ تنشئة إسلامية فلا يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنع الإنجاب ، وإن غلب على ظنه عكس ذلك وجب عليه اتخاذ ذلك .
أما إذا غلب على ظنه فتنته هو في دينه أو فتنة أولاده منها أو من غيرها فإنه لا يجوزله أن يتزوج بها مطلقاً ، وعليه أن يتقي الله ويبتعد عن الحرام ويبحث عن زوجة مسلمة صالحة .
هذا ما ظهر لي في هذا البحث ، فإن كان صواباًَ فالله هو الذي وفقني للوصول إليه ، وإن كان خطأً فأستغفر الله وأتوب إليه ، وفي كلا الأمرين اسأل الله ثوابه فإني ما قصدت إلا رضاه ، وسبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(1) راجع الموافقات للشاطبي (1/109) تحقيق عبدا لله دراز .
(2) راجع أول الجزء الثاني من كتاب الموافقات ..
==============
مفاهيم تهم الداعية المغترب
(الحلقة الاولى)
جمعة العلوي 7/11/1423
19/02/2002
1-توحيد الكلمة ونبذ الفرقة
لا شك أن عودة الإسلام أصبحت واقعاً لا مرية فيه ، وأن تيار العائدين الجارف أضحى حقيقة مفرحة للمصلحين ، ومرعبة للحاقدين . إن سفن الدعاة أوشكت أن ترسي على بر الفاتحين لتعيد الجولة للإسلام فيبلغ ما زوي للنبي صلى الله عليه وسلم منها . وكل يوم يخرج المستضعفون المعلقون آمالهم على وصول سفن الدعاة ، كل يوم يشرقون مع شروق الشمس على المراسي ، فينتظرون وصولها ، ينتظرون إلى المساء ، ثم يعودون أدراجهم مع الغروب أسفين على تأخرها ، كل يوم . هي - سفن الدعاة - تزداد وتكبر وتكثر إذ تشق عباب الموج الهادر في طريقها ، لكن ثمة عوائق وسدود تحول دون وصولها إلى المراسي . تُرى ما هذه والعوائق والسدود؟ .(2/46)
إن أعظم العوائق هي شغل الشيطان الذي رضي به بديلاً بعد أن يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ؛ كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم " (1) . فإذا حصل أن حمل نفر من أهل جزيرة العرب تحريشهم إلى إخوانهم في خارجها ووزعوه كما توزع الجرائد والمجلات والأشرطة ، فإن هنالك ثمة مفاهيم ينبغي أن يتحصّن بها المسلم المغترب ضد هذا التحريش .
لقد ضرب الأديب مصطفى صادق الرافعي مثلاً ينطبق علينا إذا عدل تعديلاً طفيفاً : يقول الرافعي رحمه الله : " إن قوماً من العرب ترحّلوا عن بعض منازلهم فكان من أنسائهم (2) قطعة مرآةِ صقيلة كأنها وجه المليحة التي نَسِيَتْهَا ، فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبحَ طلعة وجهامةََ منظر ، حتّى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتذت بها ، فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسناها ، وما كادت تنظر فيها حتّى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل ... فانقبضت الضبع وزوت وجهها وقالت : (من شرٍّ ما اطرحك أهلك أيتها المرآة) (3) " . إن الناظر إلى الإسلام أول ما ينظر منه هو هذا التنازع الشرس بين بنيه ، أفنلومه إذا ردد مقولة الضبع ؟ !
وأكبر من هذا أنّه لو سبر المنصف التاريخ لوجد أن كل تسلط للأعداء على المسلمين سببه التفرّق والاختلاف بينهم ؛ تبدأ المشكلة صغيرة ، ثم تظل تكبر وتكبر ، حتى تطفح ، وكان التتر والصليبيون- واليوم الغر ب- هناك يرقبونها بحذر وانتباه ، يؤججون أوارها ، حتى إذا نضجت الفتنة وتشاغلنا بها عن هدفنا أحرقتنا مدافعهم وأخرجتنا من ديارنا وأبنائنا .
إن من رحمة الله جل وعلا بالأمة الإسلاميّة المعاصرة أن قيّض لها علماء ودعاة وفصائل يرابطون على إحياء فرائض مختلفة ، فكان الأليق بشكر هذه النعمة أن يحترم كل فرد أو فصيل عبودية أخيه ، وأن يتذكر أن أخاه رفع عنه إثم التقصير في أداء ما ضاق عنه وقته ، فيتناصح الجميع ويتراحمون من أجل أن تتكامل هذه الفرائض على إقامة الدين كلّه ، فيكونون بذلك أهلاً لتحقيق وعد الله بالنصر والتمكين.
أمور تلح علىتوحيد الكلمة:
أولاً: كثرة نصوص الكتاب والسّنّة الآمرة بالاجتماع ونبذ التفرّق ، من ذلك قول الله تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا )(آل عمران 203 ) ، وقال : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(الأنفال 46 ). وقال : (ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا ) (الروم 31،32 ) ،وقال : (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) (الأنعام 159 )
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . ويوم أن حاول عبد الله بن أبي بن سلول تشتيت أخوّة المهاجرين والأنصار اغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك أيما غمّ ، وسار بالناس سيراً ينسيهم تعبه مكيدة هذا المنافق ، ثم أنزل الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وسورة سمّيت سورة المنافقين لفضح دسائسهم ؛ يقول الله تعالى في ثناياها : (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)(المنافقون : 7،8 ) والنصوص في ذلك كثير .
ثانياً : إننا أمام هجمة عظيمة وكيد كبارمن الكفّار ؛ النصارى الذين يعملون ليل نهار على تحويل الأمة الإسلاميّة إلى أمّة غير ذات رسالة ، واليهود الذين يسعون إلى جعل المنطقة الإسلاميّة منطقة نفوذ لليهود ، ولا يمكن مجابهتهم بأقوى من جمع الكلمة ووحدة الصف .
ثالثاً : المنافقون المندسّون في الصفوف ، والذين يستخدمون الأدب والشعر والصحافة والتلفاز والإعلام والمقصف والمدرسة والجامعة وكل وسيلة لتغيير عقليات المسلمين وأفكارهم ، وهؤلاء يجاهرون بدعواتهم في بلاد الغربة ولا يحتاجون إلى النفاق، فالواجب قطع الطريق عليهم ومجابهتهم صفّاً واحداً .
رابعاً : المشركون الوثنيون من عباد البقر وغيرها من الأوثان ، الذين أصبحوا يشمخون بأنوفهم ويرفعون عقيرتهم على الإسلام وأهله .
كل هذه الهجمة تستهدف وجودنا وديننا ، وتحتاج ولا شك منا إلى جمع الكلمة لمواجهة هذا الكيد العظيم المدروس المدبّر المدجج بأحدث ألوان التقنية الغربية . وهم مع هذا أعداء معلنون للعداوة ، وقد نجحوا في تضليلنا وإفسادنا وإهدار كرامتنا ، بل نجحوا في تغيير عقائد الجم الغفير من جهلة المسلمين ، وهناك دول ، وأقاليم ، وطوائف قد لحقت بالنصارى ، وأخرى بأهل الأوثان ؛ مصداقاً لما أخبر به الصادق المصدوق عليه صلاة الله وسلامه في حديث ثوبان : " ولا تقوم الساعة حتّى تلحق فئام من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان "
خامساً : أضف إلى ذلك أن المغترب أولى بنبذ الفرقة ، لأنه الصورة الأولى التي تعكسها مرآة الإسلام الصقيلة إلى غير المسلمين .(2/47)
أفلا يحتم علينا كل هذا أن نناقش المسائل المختلف فيها بكل معاني الصراحة . خاصة إذا تبين لنا أن هذه المسائل أو تلك لا تتجاوز دائرة ترتيب الأولويات ، مع الاتفاق على جواز العمل بالمرجوح والمفضول رعاية لمصلحة شرعيّة معتبرة .
بعض المسائل المختلف فيها
1-المسائل الفقهيّة .
2-المسائل الواقعيّة : مثل :
-العمل السياسي ، وضوابط دخول المغترب فيه .
-المؤسسات الأخرى ، والتي نستطيع من خلالها انتزاع حقوقنا والدعوة لديننا .
- الجماعات الإسلاميّة والتفضيل أو الانتماء وأحاديث الطائفة المنصورة .
- العمل الجهادي و توقيته .
- أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شؤون الدعوة .
ولنبدأ أولاً بالمسائل الفقهية
لا أظن أن المسلم المغترب يجهل أن المسائل الفقهية الخلافيّة مما لا ينبغي أن تكون مجالاً للتضليل أو التفسيق أو التبديع أو الولاء والبراء ، ليس فيها هدى وضلال وحق وباطل ، وإنما فيها راجح ومرجوح وصحيح وأصح .
قال شيخ الإسلام : " وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوّة " (4)
ولقد سأل أبو جعفر المنصور الإمام مالك أن يحمل الناس على كتابه الموطأ ، كما ذكر ابن عساكر وغيره ، فقال الإمام مالك رحمه الله : " لا تفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث وروايات ، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم ، وعملوا به ، ودانوا به . . . وإن ردهم عما اعتنقوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم " . فقال أبو جعفر : " لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت به " . (5)
وسئل شيخ الإسلام عن والٍ لا يرى جواز شركة الأبدان فهل له أن يمنع الناس من ذلك ؟
فأجاب رحمه الله : " ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد . . . إلى أن قال : ولهذا قال العلماء المنصفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره : إن مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ، ولكن يتكلّم فيها بالحجج العلميّة ، فمن تبين له صحّة أحد القولين تبعه ، ومن قلّد القول الآخر فلا إنكار عليه " . (6)
ثانياً : المسائل الواقعيّة
هذه المسائل أقرب إلى الاختلاف من سابقتها ، لأن المسائل الفقهيّة فيها نصوص أحياناً وفيها أصول عامّة ، بخلاف المسائل الواقعيّة ؛ فقد لا يوجد نص يعالج المسألة بذاتها ، وقد يدخلها شخص تحت نص ويدخلها آخر تحت نص آخر .
وأكثر هذه المسائل الواقعية يخضع لأبواب السياسات الشرعيّة التي تتفاوت فيها الأنظار ويختلف فيها النظار وتحتاج من يعالجها إلى ثلاثة أمور قد لا تتوفّر اليوم للكثير ممن يبحثها .
الشرط الأول : العلم بالشرع : لأن الله تعالى قال :( وكل شيء فصّلناه تفصيلا )(الإسراء : 12 )، وقال : (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء )( النحل : 89 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت أمراً يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ أنبأتكم به " وقال بعض الصحابة : " ما ترك رسول الله الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه في السماء إلاّ بيّن لنا منه علما " .
فكان لا بد لمن يتصدّى للمسائل الواقعيّة الحادثة أن يكون متدرّعاً بالنصوص الشرعيّة والأصول العامة والقواعد الكلّيّة ، التي هي كالنور الهادي لمعرفة ما حدث وجد بين الناس .
الشرط الثاني : المعرفة بالواقع لأنه يريد أن يحكم على واقع ، كما أن المسائل الشرعيّة لا يفتي فيها إلاّ من يتصوّرها ، والفقهاء يقولون : الحكم علىالشيء فرع عن تصوّره .
الشرط الثالث : أن يملك المتصدّي لهذه المسائل سعة الأفق والعقل والفهم والإدراك ، حتى لا يفتي بغير حكم الله بسبب ضيق تصوّره ، خاصّة إذا تصوّرنا أننا في هذا الزمان نواجه أحوالاً وأوضاعاً غاية في التعقد والتشابه ، وهي بحق تعد من النوازل التي ينبغي أن يتنادى فقهاء الأمّة وعلماؤها إلى مؤتمرات ومجامع ومجتمعات ليتباحثوا فيها ويتناقشوا ثم يخرجوا فيها برأي موحّد أو بآراء متقاربة .
وهنا نعود إلى الأمور التي أشرنا إليها آنفاً ونناقشها بشيء من الإيجاز :
أولا : العمل السياسي ، وضوابط دخول المغترب فيه .
إن كل ما يتاح لنا كمغتربين في ديار الغربة هو التصويت لحزب أو لآخر ، وهذا يحتاج منا إلى توحيد الصفوف ، لأننا به نتوصل إلى انتزاع بعض حقوقنا . ولقد كونت الأقليات الإسلامية جمهرة هائلة لا يستهان بها في كثير من البلدان، بل باتت الأحزاب تخطب ودّها، والحكمة ضالة المؤمن ، فإذا استطاع اليهود وهم قلة أن يوجهوا سياسات تلك الدول لصالحهم ، فإننا نملك من العدد والعُدد ورؤوس الأموال ما يؤهلنا لتأثير أكبر وتوجيه أدق ولو على الأمد البعيد . وعلى من لا يرى هذا ألاّ يكون حجر عثرة في طريق إخوانه .
ثانياً : المؤسسات الأخرى ، والتي نستطيع من خلالها كذلك انتزاع بعض حقوقنا والدعوة لديننا .(2/48)
لندع الشيخ محمد عبد الهادي العمري (7) يتحدّث عن هذا الشأن . يقول – حفظه الله – قد تسهّلت السيطرة على المدارس الحكوميّة في بريطانيا عن طريق المدرسين ومجلس الأمناء ، وذلك أن المدارس تحتاج إلى المدرسين المؤهلين ، فبدأت بعض الجهات برامج جديدة لإعداد المعلمين وتدريبهم على حساب الحكومة ، فلو رُشّح الشباب المسلمون للتدريب فبسهولة سيجدون الفرص للعمل في المدارس ومن ثم سيكون عندهم مجال واسع لنشر الأفكار الإسلاميّة بين الطلبة . كما يمكن إدخال المسلمين في مجلس الأمناء ، والآن حسب النظام البريطاني السلطة العليا للمدارس لدى مجلس الأمناء ، فهم يستطيعون أن يضيفوا في المواد الدراسيّة أو يحذفوها ويرتبوا البرامج التربوية ويغيّروا المدرسين ونحو ذلك ، ويتم اختيار معظم الأمناء من قبل أولياء الطلبة . . . ولو ينتبه المسلمون إلى هذا الجانب وترشدهم المراكز الدينية لظهرت فوائد عظيمة ؛ فعلى سبيل المثال : في مدينة برمنجهام في بريطانيا في المدرسة الحكوميّة الثانوية انتخب رئيس مجلس الأمناء رجل مسلم صالح ومتحمّس للدين ، فهو بالتعاون مع المركز المجاور وبعض أعضاء المجلس نجح في إدخال المادة الدينية كمادة إجباريّة في المدرسة الحكوميّة ، والآن جميع الطلبة يدرسون الإسلام ، كما خصص مكان في المدرسة للصلوات ولمزاولة المناشط الدينيّة "(8) .
وهذه المسألة واضحة ، جليلة الفوائد ، فعلى من لا يراها أن لا يضيق الطريق على إخوانه .
ثالثاً : الجماعات الإسلاميّة وأحاديث الطائفة المنصورة .
وهذه من المسائل التي نقلناها من مواطن الإسلام إلى المغتربين ؛ حيث انتقلت جماعاتنا بخلافاتها وتهارجها إلى هناك ، ولم ننقل ديننا صقيلاَ صقالة مرآة أولئك الأعراب الرحّل .
إن رفع الشعارات التي تنمّي عقدة التميّز والتفرّد هي من أعظم أسباب التجاذب والتهارج والبغي وفساد ذات البين .
إن جميع فصائل العمل الإسلامي السنّيّة المعاصرة لا تضم بين صفوفها أحداً من أهل البدع المغلّظة ممن يرفعون راية التجهّم أو الجبر أو القدر ونحوه وإنما ينتسب الجميع إلى أهل السنّة والجماعة والطائفة المنصورة ، ويبرأون ممن يخالفهم ، فلنتصوّر بشاعة الخطأ الذي يتلبّس به من يسعى في تكريس الخصومات بين هذه الفصائل بمخالفات جزئيّة إعمالاً لقاعدة الزجر بالهجر ، وتنزيلاً لمقالات أهل العلم في مجانبة أهل الأهواء على من تلبّس بشيء من هذه البدع الجزئية في ساحة العمل الإسلامي رغم أنّه إلى الإخبات أقرب منه إلى العناد والمكابرة .
يذكر شيخ الإسلام أن أحق الناس بوصف الطائفة المنصورة أهل الحديث الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأحواله وأفعاله ، ولكنّه يشرح لنا ما يعنيه بأاهل الحديث فيقول : " ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته ، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً ، واتباعه باطناً وظاهراً ، وكذلك أهل القرآن ، وأدنى خصلة في هؤلاء محبّة القرآن والحديث ، والبحث عنهما وعن معانيهما ، والعمل بما علموه من موجبهما ، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم ، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفيّة غيرهم ، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبويّة من غيرهم ، وعامّتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم " (9) .
وقال رحمه الله في موضع آخر : " فالأصول الثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنه ، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض ، وهم أهل السنّة والجماعة ، وما تنوّعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوّعت فيه الأنبياء . . . . إلى أن قال : والتنوع قد يكون في الوجوب تارة ، وفي الاستحباب أخرى " (10) .
ولهذا فإن الجميع مدعوون إلى إصلاح هذا الخلل وتقويم هذا الشعور المتنامي بالاستعلاء والتفرّد ، وتأسيس النظرة إلى هذا التعدد على أنّه تنوّع وتخصص ، تتكامل به الجهود ، وتتكافل به الأمّة في جميع الفروض الكفائيّة ، وأن من فتح الله عليه في باب فلا يحل له أن يستعلي بذلك على الآخرين (11)، بل إن كان من فروض الأعيان سعى في دعوتهم جيمعاً إلى إقامته معه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإن كان من فروض الكفايات قنع بأدائه هو ومن اتبعه ، ولم يستطل على الآخرين .
رابعاً : العمل الجهادي و توقيته .
كل المسلمين يتفقون على أن الجهاد ذروة سنام الإسلام ، وأن فضل المجاهد في سبيل الله كفضل الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، وأن الله أعد للمجاهد مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماوات والأرض .
ولكن ثمّة خلاف في أمور، منها :
أ-أنه قد يوجد بعض البدع أحيانا في بلاد الذين رفعوا راية الجهاد ، كالأفغان سابقاً مثلاً . ولكننا ندعو ألاّ نجعل من تلبّس بعض المجاهدين بشيء من البدع حائلاً يحول دون نصرتهم على ما عندهم من الحق . وإلاّ فإن نتيجة(2/49)
هذه النظرة المقتضية منع نصرة أمثال هؤلاء ضخمة لن نستطيع استيعابها ولا تحمّلها كما أنّا لم نستطع استيعاب صدمة ذهاب الأندلس وفجيعتها . ثم إن هذه النظرة تؤدي إلى تعطيل فريضة الجهاد ، فقلما تخلو بلد من بلاد المسلمين من بعض البدع والمخالفات.
ب-توقيت الجهاد . لا بأس أن نختلف في توقيت الجهاد ، ولكن اختلاف وجهات النظر يجب ألاّ يُذهِب للود قضيّة ، فما بيننا من الأواصر أعظم . ستبقى الألسن تلهج بالدعاء للمجاهدين وتدافع عنهم في كل محفل ، وستبقى الأيدي تمتد بالنصرة لهم ، وستبقى القلوب معلّقة آمالها بنصر الله لهم ، وسيبقى الشعور بالأخوة ، وتحيّن الفرص للمشاركة بكل وسيلة ، وفي كل خير .
خامساً : أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شؤون الدعوة وهذه مثل سابقتها ترجع إلى تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها .
(12)وأخيراً عشرون نصيحة لتجنّب التحريش
أولا: يجب ألاّ تكون الدعوة لشخص أحد إلاّ لشخص النبي صلى الله عليه وسلم ، أما من سواه من الأشخاص فلا ينبغي أن يكونوا متبوعين ، تحذيراً من سبل التفرّق قبل وقوعه .
ثانيا: الإقبال على النفس ، وتكميلها ؛ علما ، وعملاً ودعوة ، واتهام النفس بنقصها ، وازدرائها وعتابها ، وأن يستخدم كل منا عقله ، فلا نعير عقولنا لغيرنا . قال تعالى : (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ) . وطوبى لمن شغله عيبه عن عيب الناس .
ثالثاً : الحرص على تأليف القلوب ، فالخلاف شر – كما قال عبد الله ابن مسعود رضي عنه ، ولكنّه قائم شئنا أم أبينا ، وستقوم الساعة والمسلمون مختلفون فيما بينهم في مسائل تقل أو تكثر ، لكن الحزم كل الحزم في تخفيف الشرّ المترتب عليه .
رابعاً : حسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن ، قال المصطفى عليه السلام : " أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً " .
وقال الشاعر :
وذو رحم قلّمت أظفار ضغنه … …
بحلمي عنه وهو ليس له حلمُ
وإن الذي بيني ولين بني أبي … …
وبين بني عمي لمختلف جدّا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم … …
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ … …
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
خامساً : محبّة الخير للآخرين ؛ بالحرص على كمالهم وهدايتهم والحرص على أن يقبلوا مني النصيحة التي أريد أن أقدمها لهم ، فلتحرص أيها الناصح أن تتسلل إلى قلب من تريد أن تنصحه بأفضل والوسائل وأصوب السبل ، وما يدريك لعلك أنت المخطئ .
سادساً : تجنّب الاستبداد في القول والعمل والعلم والدعوة ، لأن الاستبداد يثير مشاعر الآخرين ويحملهم على البحث عن العيب والخطأ والزلل .
وإذا كنا نرى أن الاستبداد السياسي الذي يعصف بالعالم الإسلامي من أهم أسباب الانشطار والتفرّق في المجتمعات ، فإننا نعلم أن الاستبداد في الدعوة من أهم أسباب التمزّق داخل الصف الإسلامي .
سابعاً : العناية بالجوانب الإيجابية في الأشخاص والجماعات والمؤسسات الخيريّة وغيرها ، وليس بالجوانب السلبية .
ولنا سلف ، بل دليل : فكلام النبي صلى الله عليه وسلم في المناقب يبلغ أسفاراً ؛ مناقب القبائل والأشخاص والأمم ، حتّى فارس قال فيهم : " لو كان الأيمان بالثريّا لناله رجال من هؤلاء" ، أما المثالب فلا تكاد تذكرعنه صلى الله عليه وسلم . إن هذا الثناء أسلوب تربوي مؤثر وقوي إذا اتسم بالاعتدال وخلا من المجاملة والتزّلف .
ثامناً : الاعتراف بإنجازات الآخرين؛ طوائف وجماعات ، للإشادة بها لا على سبيل التمهيد لما بعدها من ذكر المثالب .
تاسعاً : ألاّ تجعل من الأشخاص أوالجماعات أو المصطلحات منطلقاً للحديث والدعوة ليذهب الأشخاص من كانوا ولتذهب الرايات واللافتات والأسماء ، وليبق دين الله وشريعته وسنّة رسوله الله صلى الله عليه وسلم ، فما تلك إلاّ وسائل لنصرة دين الله .
عاشراً : أن نصحح النيات والمقاصد ؛ فلا يكون هدفنا أسقاط تلك الجماعة أو ذلك الشخص . هب أني شوّهت صورتك فأسقطتك ، وأنك شوّهت صورتي فأسقطّني ، من يبقى للناس ؟ من للدعوة ؟ من للعمل الإسلامي ؟
الحادية عشرة : أن نجعل أمامنا هامشاً للخلاف فيما لا نص فيه . ولن نكون أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد اختلفوا واتسعت صدورهم للخلاف .
الثانية عشرة : العناية بالمطالب الشرعيّة المتمثلة في المعروف ، والمناهي المتمثّلة في المنكر
الثالثة عشرة : سعة الأفق ، سعة الأفق ، سعة الأفق : قالها ثلاثاً .
إنك تجد الأمم في الأزمات الكبرى العامّة التي تجتاح الأمة كلها تتغير فيها التحالفات ، وتتفاوت الاهتمامات ، وذلك لأن صدمة الحدث وقوته غيّرت تفكير الكثيرين ، وأجبرتهم إجباراً على النظر والتفكير ، واقتحمت مجالات ومدارات التأمل لديهم ، واضطرّتهم إلى تغيير اهتماماتهم .
أفلا تغيّر هذه الأزمات التي تمر بنا ، وتكالب الأمم علينا من اهتماماتنا ، وتنسينا تنافرنا ولو إلى حين :
-لنتصوّر خطر التنصير
-قضيّة فلسطين وصراعنا مع اليهود .
-ما يدك بلاد الإسلام من حروب في كل مكان.
-انحرافات الشباب ، الأفلام ، المخدرات ، البث المباشر ، قرناء السوء (13) .
-مشكلات المرأة .(2/50)
فليكن مثل هذا حادياً لنا إلى وحدة الكلمة ونبذ الفرقة وتجاوز الخلاف .
الرابعة عشرة : ضرورة التناوب في القيام بفروض الكفايات :
-السياسة وتبصير الأمة بالخطر الذي يهددها .
-الفقه ، الوعظ ، الدعوة .
-التبرعات ومناصرة إخواننا المسلمين في كل مكان .
-التعليم والإعلام والتأليف . . . . إلى آخر ذلك .
الخامسة عشرة : ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ( ؛ فلتتخير الألفاظ الحسنة في ذكرك أخاك ؛ وانظر كيف أن ( الشّهد ) مدح ، ( وقيء الزنابير ) ذم لشيء واحد :
تقول شهداً إذا ما جئت تمدحه … …
أو شئت ذمّا فقل قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت قدرهما … …
والأمر قد يعتريه سوء تعبير
فلقل (شهدا)ً في وصف جهد أخيك ؛ لأنّه يقلل معك من الفساد والمنكر ، ولا تقل (قيء الزنابير) لكون جهده مخالفاً لجهدك .
السادسة عشرة : حسن الظن : التمس لأخيك سبعين عذراً ، فإن لم تجد فقل : لعل له عذراً لم أعرفه .
السابعة عشرة : دع الخلق للخلاق تسلم وتؤجر ؛ فانبذ الغيبة والنميمة والكلام في الناس ، لا تهدِ حسناتك للآخرين بذكر مساوئهم في كل مجلس .
الثامنة عشرة : استحضر أنك في آخر الزمان .
التاسعة عشرة : عليك بالاحتياط والورع فيما يتعلّق بأمر الناس والجماعات ؛ فلأنْ تخطيء بحسن الظن خير من أن تخطيء بسوء الظن . ولأنْ تخطيء في العفو خير من أن تخطيء في العقوبة .
العشرون : أننا لن نفلح في جمع كلمة المسلمين ما لم نفلح في جمع كلمة الدعاة ولن نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم والمصلحين ما لم يكن هذا همّاً يؤرقنا ويقلقنا ويملأ عقولنا ويجعل النوم لا يجد إلى عيوننا سبيلا من الأحزان التي نعانيها من التفرّق والشتات والاختلاف والتطاحن والتنازع فيما بيننا .
هذه جمل أجملتها لك ، فخذ بأحسنها ، ولسْتُ معلّماً ، وإنما مذكر وناصح ، فما كان فيها من خير فنحن جميعاً أولى به . سلك الله بنا سبيل الرشد ووقانا سبل الغي . . آمين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
1- رواه مسلم
2 - الأنساء : ما ينساه القوم المترحّلون من هنات المتاع ، وكان العرب إذا ترحلوا قالوا : انظروا أنسائكم ، يريدون هذا .
3- هذه العبارة أصلها المثل العربي السائر : ( لأمر ما جدع قصير أنفه ) . حديث القمر ص12
4 - مجموع الفتاوى (24/173) .
5 - كشف الغطاء ص 47 .
6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام (30/80) .
7 - رئيس جمعيّة أهل الحديث المركزيّة ( برمنجهام - بريطانيا ) .
8 - بحوث ملتقى خادم الحرمين ( المؤسسات الإسلاميّة في مجتمع الجاليات والأقليات ، نظرة مستقبليّة ، المحور الأول (ص18) .
9 - مجموع الفتاوى : 4/95 .
10 - مجموع الفتاوى (19/117-118) .
11- مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي للدكتور صالح الصاوي . بتصرّف .
12- للشيخ سلمان العودة من شريط : ( ولكن في التحريش بينهم ) وقد استفدنا منه كثيراً في هذه المقالة .
13 - وهذا لدى المغتربين أكثر ، وستطرحه هذه النافذة في فصول لاحقة إن شاء الله .
===============
مفاهيم تهم الداعية المغترب
(الحلقة الثانية)
فلنتعاون فيما اختلفنا فيه
عبدالرزاق الكندي 3/1/1423
17/03/2002
مما لا يخفى أن التشرذم الذي أصبح ظاهرة بين أهل الدعوة إلى الله وأبناء الصحوة الإسلامية ، أفراد وتنظيمات ومراكز جعل قاعدة ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ) ـ مما يسوغ فيه الاختلاف ـ حلماً لرجال الإصلاح وحاملي راية لم الشمل وجمع الكلمة .
ولكن عند التأمل في النصوص والقواعد الشرعية وسيرة السلف الصالح نجد أنه يسعنا أكثر من هذه القاعدة فالخلافات التي تعصف بالصف الإسلامي على قسمين :
1-ما يسع الجميع أن يعمل كل بما يراه راجحاً ولا يكون العمل به مؤثراً على وحدة الصف فقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في كثير من المسائل وعمل كل بما يراه راجحاً من غير إنكار بعد المناصحة وبيان كل وجهة نظره ـ مع الإبقاء على وحدة الصف والائتلاف وهذا أمر متقرر ، سبق ذكره في الحلقة الأولى .
2-ما لا يسع الجميع العمل كل بما يراه راجحاً حيث لو عمل كل بما يراه لتشتت الصف وتفرقت الكلمة وضعفت القوة وهذا القسم هو الذي تدل النصوص الشرعية وعمل السلف الصالح على وجوب النزول على رأي واحد من الناحية العملية مع احتفاظ كل بما يراه من الناحية العلمية حيث لا يجوز للإنسان أن يعتقد خلاف ما يراه صواباً شرعاً ولكن يسعه العمل بخلاف ما يراه ، بل قد يجب عليه تحقيقاً لمصلحة أعظم كاجتماع الكلمة ووحدة الصف(1)
وقد دلت النصوص الشرعية وفعل السلف على ذلك قال الله تعالى :( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن )الله مع الصابرين (2)
ففي الآية إشارة إلى أن عدم التنازع يلزم لتحقيقه الصبر على قبول ما لا يراه المرء راجحاً أو صواباً وهذا من أسرار ختم الآية بالوصية بالصبر وقد أشار إلى هذا المعنى القاسمي والطاهر بن عاشور عند تفسير هذه الآية (3)(2/51)
وهذا هو أيضا مدلول التطاوع في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن فقال : " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ، وتطاوعا ولا تختلفا " (4)
ووجه الاستشهاد هنا قوله صلى الله عليه وسلم : " تطاوعا ولا تختلفا " ، فالأمر فيها واضح ، والنصيحة محددة ، وهي تعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر ـ مسبقاً ـ أن مبررات الخلاف بين الاثنين موجودة ، وأن تباين وجهات الرأي والتفكير والنظر واقعة لا محالة ، وإلا لما كان هناك معنى للنصيحة أصلاً .
ومن ثم ، فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم نصيحته إلى صاحبيه بالتطاوع ، ونهاهما عن الاختلاف ، والنهي ـ بطبيعة الحال ـ ليس متوجهاً إلى حقيقة الشيء ، وإنما هو متوجه إلى ناتجه ومآله ، بمعنى أنه لا يعني نهيهما عن أن يكون لكل منهما رأيه ، ووجهة نظره في القضية المطروحة ، لأن ذلك معناه إيقاف التفكير أصلاً ، وهو باطل واضح ، فيبقى أن أمره صلى الله عليه وسلم يعني ألا يؤدي ذلك التباين " الفكري" إلى افتراق (الموقف العملي ) ، بمعنى آخر ، إذا كان من حق كل منهما أن يكون له رأيه وترجيحاته وموقفه نظرياً ، فإن من حق " واقع المسلمين " أن يتعامل مع رأي واحد، وموقف واحد عملياً .
ومن هنا كان مفتاح الحل لهذه الأمور المحتملة المحددة ، في النصيحة النبوية " تطاوعاً " بمعنى ألا يصرّ كل منهما على رأيه ، ويتعنت فيه ، ويصعد الخلاف حوله ، وإنما يتساهل فيه ، ليقدم وحدة " العمل " على " اختلاف " الرأي (5).
ومن الأدلة على تقرير هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا "(6)
حيث أرشدهم إلى ترك القراءة مع ما فيها من الفضل وليس في الترك فضل إلا أن مصلحة الاجتماع وائتلاف القلوب ووحدة الصف جعلت الترك راجحاً .
وقد فطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ـ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح تحقيقاً لمبدأ الاجتماع ـ فقد روى أبو داود أن عثمان رضي الله عنه لما أتم الصلاة في منى أتم معه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم اقتناعهم بما فعل ولما سُئل ابن مسعود كيف تتم أربعاً وأنت تنكر عليه قال : الخلاف شر (7)
ولا زال عمل السلف على هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه : " ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصحلة فعلها ـ المستحبات ـ كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب "(8)
فإذا كان هذا لتأليف القلوب فهو من باب أولى وأوجب فيما إذا كان العمل بالراجح سيؤدي إلى تشتيت الصف وضعف القوة ولا زال الراسخون في العلم يقررون هذا المعنى يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مسألة ثبوت شهر رمضان إن الناس فيه تبع للإمام وإن اختلفت مطالعهم جمعاً للكلمة وتوحيداً للصف, في حين يقرر في نفس الموضع أن الراجح علمياً أن ثبوت الشهر يختلف باختلاف المطالع (9)
كما أن القاعدة عند العلماء أنه إذا تزاحمت المصالح قدم الأعظم منهما (10) ولا شك أن مصلحة اجتماع الكلمة ووحدة الصف أعظم من العمل برأي مرجوح ـ فيما يسوغ فيه الاجتهاد ـ0
إن عدم فقه هذا المعنى هو الذي شرذم العمل الإسلامي حتى إنك لترى جماعات ومراكز تشتت جهودها وتفرقت راياتها وضعفت قوتها بسبب الموقف من قضية اجتهادية وكان يسعها أن تعمل معاً فتحقق النصر أو تعمل بأسبابه
فمتى يدرك الدعاة والتجمعات الإسلامية هذا المعنى ناهيك عما يقتضيه فقه المرحلة (11) مما هو أوسع من العمل بهذا وأشمل .
اللهم ألهمنا رشدنا واهدنا سبل السلام وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1) نظرات في منهج العمل الإسلامي ( جعفر الشيخ إدريس ص:74 )
(2) - الأنفال 46
(3) انظر محاسن التأويل 8/71 والتحرير والتنوير 10/32
(4)مسلم كتاب الجهاد و السير رقم [1733]
(5)انظر فقه الاختلاف ( جما ل سلطا ن ص: 22)
(6) البخاري / كتاب اعتصام بالكتاب والسنة / باب كراهية الاختلاف حديث رقم 7364
(7) أبو داود 1958 وصححه الألباني صحيح أبي داود 1726 وأصل الحديث في البخاري
(8)الفتاوى 22/405
(9) انظر الممتع شرح زاد المستقنع 6/320-322
(10) الموافقات 4/105-106
(11) وسيكون موضوع الحلقة الثالثة من مفاهيم تهم المغترب إن شاء الله تعالى .
=============
مفاهيم تهم الداعية المغترب
(الحلقة الثالثة)
فقه المرحلة
عبد الرزاق الكندي 2/3/1423
14/05/2002
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد : فقد تحدثنا في الحلقتين الماضيتين عن وحدة الكلمة ،وعن مفهوم التعاون فيما اختلفنا فيه،واليوم نواصل الحديث عن فقه المرحلة.
فقه المرحلة
معنى المصطلح :
إن مصطلح فقه المرحلة ليس بدعاً من القول فالمراد بالفقه الفهم والفطنة لغة,والفهم لأحكام الشرع العلمية والعملية وهو المراد بالفقه في النصوص الشرعية .(2/52)
وأما المرحلة فأصلها المسافة التي يقطعها الراحل - المسافر - بالإبل المحملة في يوم وليلة ، ومعلوم أن ذلك يختلف باختلاف طبيعة المكان الذي يسير فيه فالمسافة التي يقطعها في السهل غير التي يقطعها في الجبال والهضاب- بنفس الزمن- كما أن لكل مرحلة ركوبها وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلىالله عليه وسلم حين دفع من عرفات كان يسير العنق -والعنق المشي برفق-فإذا وجد فجوة نص- أي سار سيراً شديداً-(1)والمراد بالمرحلة في المصطلح طبيعة الوضع الذي يعيشه الداعية في زمان أو مكان ما .
شرعية المصطلح :-
من المعلوم أن الدعاة إلى الله يقطعون المراحل المختلفة وكل مرحلة تحتاج إلى فقه خاص في حاجياتها وترتيب أولوياتها وطريقة السير ووسائله فلابد من إدراك أن ما لا يجوز في مرحلة قد يجوز في أخرى والعكس .
وقد دلت النصوص الشرعية على فقه المرحلة - أي أنّ لكل مرحلة وضعاً خاصاً منح الشارع المكلف فيه مرونة في التعامل معه- فمن ذلك ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن تقطع الأيدي في الغزاة (2).وقد كتب عمر-رضي الله عنه-إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولاسرية رجلاً من المسلمين حداً وهو غازٍ,حتى يقطع الدرب قافلاً,لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار(3).ومع أن القطع من الحدود التي لا يتساهل الشارع في إقامتها لكن الظرف الذي تعيشه الجماعة المسلمة في الحرب فيه من الإشكالية ما جعل تأخير إقامة الحد خشية الفتنة واللحاق بالعدو أمراً مشروعاً,فأعطى الشارع المحارب حصانة فترة الحرب حتى تنتهي ويرجع إلى دار الاسلام0
ومما يدل على شرعية المصطلح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا دجانة يختال في مشيته بين الصفين يوم أحد قال إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع(4) , وهذا يدل على تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لحساسية الموقف وأن للظروف الخاصة فقهها الخاص, وفي قصة قتل كعب بن الأشرف دلالة أخرى على شرعية المصطلح فقد روى البخاري ومسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فأذن لي أن أقول شيئاً, قال : قل
(5).قال الحافظ ابن حجر : وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه - أي من النبي - ويعيبوا رأيه ولهذا جاء في روايته أن محمد بن مسلمة قال لكعب :" كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء, حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة "(6)ففي هذا الحديث دلالة واضحة على المرونة التي منحها الشارع الحكيم للمكلف عند التحرك الميداني, وقد سئل الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- أهي رخصة لمحمد بن مسلمة أم للمسلمين عامة ؟ فأجاب بل هي رخصة لكل من يستطيع أن يحقق للإسلام مصلحة عظيمة(7).ومن الأدلة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لسلوك علي والزبير والمقداد - رضي الله عنهم - مع المرأة التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إلى المشركين ، حيث هددوها تهديداً جازماً بتجريدها من ملابسها إذا لم تخرج الكتاب(8),مع أن ذلك كان بعد فرض الحجاب, والأصل أن أعراض
المسلمين مصونة بأصل الشرع ولكن الموقف يتيح التحرك بمساحة أوسع
والأدلة على شرعية فقه المرحلة كثيرة والمقال إشارات للداعية المغترب .
العمل بفقه المرحلة :
إذا تقررت شرعية المصطلح أدرك الداعية في أرض الغربة وغيرها أن الشارع الحكيم يمنحه من المرونة في العمل الميداني ما يجعله يقطع المراحل على بصيرة دون مصادمة للسنن الكونية أو الشرعية مدركاً الحرب الشرسة الدائرة على الإسلام بكل مذاهبه وتياراته(9).
فمثلاً من فقه المرحلة- للداعية المغترب- ألاّ يستعدي الفرق والمذاهب المخالفة لأهل السنة في جزئيات أو كليات بل ولا يستعدي بعض الملل الكفرية التي تجمعه بها مصالح مشتركة في مواجهة من هو أكفر منها - وهذا لا يعني إقرارها, بل تُربى الأجيال على الطريق القويم والصراط المستقيم وعدم الخلط بين تحقيق مبدأ الولاء والبراء ومراعاة الحال زماناً ومكاناً ودرء المفاسد الكبرى,وبينهما خيطٌ رفيع يوفق إليه من سلمت فطرته وفقه دينه, وإنما أعني عدم الاستفزاز والمواجهة- فهذا شيخ الإسلام سكت عن أهل البدع زمن حرب التتار وهو من هو غيرة على الإسلام والمسلمين, بل هذا القرآن الكريم يقر فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس ويسميه نصر الله كما في سورة الروم(10)
ومن فقه المرحلة - للداعية المغترب- الاستفادة من القوانين الجاهلية لحماية الدعوة فقد استفاد من حماية عمه أبي طالب له, ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو كافر,
ومن فقه المرحلة أيضاً- في بعض الظروف- قبول قيادة الناصحين للإسلام وإن كانوا على بدعه- ما لم تكن مكفرة- وقد قاتل كثير من السلف تحت قيادة من كان معروفاً ببدعة, وهذا يختلف باختلاف المرحلة التي يعيشها الداعية, فما يسعه في مرحلة قد لا يسع غيره .
وإدراك فقه المرحلة يذهب العتب بين الدعاة أفراداً وجماعات, ويُوجد التعاذر والتغافر.(2/53)
ولا يُشكل على ما تقرر أن الدين قد اكتمل, فإن فقه المرحلة من كمال الدين وتمام النعمة.
الكلمة لمن :
إن المرونة التي منحها الشارع الحكيم للداعية عند التحرك الميداني ليست مرسلة لكل من آنس من نفسه اشتغالاً بالدعوة إلى الله فالأمر بالغ الخطورة, حيث إن فيه موازنة وفقه,وفيه حلال وحرام وليس حكماً واحداً على حال ثابتة, فالكلمة فيه لأهل العلم المدركين طبيعة التحرك الميداني .
وأخيراً :
وأنت في أرض الغربة اعلم أنه قد سبقك إلى الميدان كثير من الدعاة والمصلحين أسسوا المراكز الإسلامية وقعّدوا للعمل الدعوي, منهم من هو من أهل فقه المرحلة فاجتهد أن تبني فوق بناء من سبق.
أسأل الله أن يلهمنا جميعاً الرشد والسداد
والله يرعانا ويرعاك
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى .
(1) -صحيح مسلم كتاب الحج باب 47/حديث رقم 283
(2) - أحمد حديث 1969وأبو داود كتاب الحدود 2/441 والترمذي حديث رقم 1450والحديث وإن كان فيه مقال فإن إجماع الصحابة على ذلك يقويه وقد نقل إجماعهم ابن قدامة في المغني 13/173
(3) - عبد الرزاق في المصنف 5/197
(4) - الطبراني6/109
(5) - البخاري كتاب المغازي /باب قتل محمد بن مسلمة ,ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قتل كعب بن الاشرف حديث رقم1801
(6) - انظر فتح الباري 7/338
(7) - راجع شرح الشيخ أبن عثيمين-رحمه الله-لصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير/باب قتل كعب بن الاشرف
(8) - البخاري/كتاب المغازي-باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة حيث رقم42743
(9) - عدا تلك المذاهب الباطنية التي تعد طابوراً خامساً لأعداء الله, كالقاديانية والبهائية ونحوها .
(10) - الآيات 1-5 من سورة الروم .
==============
حكم السفر والإقامة في بلاد الكفار
خير الدين مبارك 17/2/1423
30/04/2002
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد :
فقد اضطر المسلمون في العقود الماضية إلى السفر إلى بلاد الكفار والإقامة فيها لأسباب كثيرة يرجع معظمها إلى ما تعيشه بلاد المسلمين من بعد عن الدين وضعف اقتصادي وتخبط في السياسة وأحيانا أخرى -وهي قاصمة الظهر - ما يبتلى به المسلمون من فتن وحروب داخلية واضطهاد من حكومات علمانية مستبدة - و الله المستعان - ولهذا كله وجب تجلية حكم السفر والإقامة في ديار الكفر ، وننبه إلى أنه ليس المقصود هنا الكلام في كل جزئيات هذا الموضوع وإنما المراد وضع قواعد وأطر يبني عليها المسلم أحكام هذه المسألة . والكلام في هذا المقام في مسألتين :
الأولى : السفر إلى بلاد الكفار .
الثانية : الإقامة في بلاد الكفار .
المسألة الأولى : حكم السفر إلى بلاد الكفار .
السفر إلى بلاد الكفار جائز بشروط :-
1-أن يكون السفر إما لغرض مشروع أو مباح ( شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين 131)
مثال المشروع : الدعوة إلى الله وتعليم المسلمين هناك .
مثال المباح : التجارة والعلاج ونحو ذلك .
2-القدرة على إظهار الدين وعدم موالاة المشركين .فقد أجمع المسلمون على أن من لم يستطع إظهار دينه هناك حرم عليه السفر ] تفسير المنار ( 3/281)( ولا فرق في ذلك بين المدة الطويلة والقصيرة .]مجلة البحوث العدد (25) ص 210)
3-أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات ( شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين 131 ) .
المسألة الثانية : الإقامة في بلاد الكفار .
و هذه أخطر من سابقتها و أعظم تأثيرا في إفساد دين المسلم وعقيدته وسلوكه ،كما أن نشأة أهله وأبنائه بين الكفار مما يدفعهم إلى تقليدهم والتأثر بعاداتهم وأخلاقهم ، الأمر الذي يثمر موالاتهم ومودتهم .
وهذه المسألة على أقسام :
الأول : المضطر إلى الإقامة فيها كالمضطهدين من المسلمين في ديارهم الممنوعين من إظهار دينهم فيها ولا يستطيعون حماية أعراضهم وأموالهم والمحافظة على أديانهم فيها ، فهؤلاء يجوز لهم الإقامة في ديار الكفر إذا لم يجدوا في بلاد المسلمين مأوى لهم وكانوا يستطيعون إظهار دينهم وممارسة شعائر الإسلام بحرية .(الأحكام السياسية للأقليات المسلمة ص 69 ) .
الثاني : من ليس مضطرا للإقامة في ديار الكفار ولكنه يستطيع إظهار دينه ولا يجد معارضة لذلك ، فهذا جمهور العلماء على أنه يجوز له البقاء فيها مادام يستطيع إظهار دينه .
الثالث : من تكون إقامته في بلاد الكفار فيها مصلحة للمسلمين كتعليمهم أمور دينهم أو يكون له مدخل في تحصيل مصالح للمسلمين أو دفع الشر عنهم فهذا إقامته هناك مستحبة على أقل الأحوال .
الرابع : من لايكون قادرا على إظهار شعائر دينه فهذا يحرم عليه البقاء فيها بالإجماع كما سبق .
•مسألة : هل يجب على من أسلم من الكفار أن يهاجر إلى بلاد الإسلام ؟ في هذا تفصيل على النحو الآتي :(2/54)
أولا : من تجب عليه الهجرة وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه كالصلوات ونحوها ، قال تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم . قالوا كنا مستضعفين في الأرض . قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا )وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب ، و إقامة الدين في هذه الحال لا تتم إلا بالهجرة فتكون الهجرة واجبة .
ثانيا : من لاتجب عليه الهجرة وهو من يعجز عنها لمرض أو إكراه أو ضعف ، قال تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ).
ثالثا : من تستحب في حقه ولا تجب عليه ، وهو من يقدر على الهجرة ولكنه يستطيع إظهار دينه ، فهذا تستحب له الهجرة ليتمكن من جهاد الكفار، وتكثير المسلمين ومعونتهم ، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ، وقد كان العباس - رضي الله عنه - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه (المغنى (13/149) بتصرف ) .
الحِكَم التي شُرعت لأجلها الهجرة :-
لقد شرعت الهجرة لثلاث حكم ، اثنتان تتعلقان بالأفراد والثالثة بالجماعة .
فأما اللتان تتعلقان بالأفراد فهما :
1- ألا يبقى المسلم في بلد ذليلا مضطهدا في دينه وحريته الشخصية .
2- تلقي الدين والتفقه فيه . فمن كان في بلد ليس فيه من أهل العلم من يعرف أحكام الدين وجب عليه أن يهاجر إلى حيث يتلقى الدين والعلم .
و أما الثالثة المتعلقة بجماعة المسلمين : فهو أنه يجب على المسلمين أن تكون لهم جماعة أو دولة قوية تنشر دعوة الإسلام و تقيم أحكامه وحدوده و تحمي بيضته .
فإذا كانت هذه الجماعة أو الدولة ضعيفة يخشى عليها من إغارة الأعداء وجب على المسلمين حيثما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى ونقوم بما يجب عليها ، فإذا توقف ذلك على هجرة البعيد وجب عليه ذلك و إلا كان راضيا بضعفها معينا لأعداء الإسلام على إبطال دعوته وخفض كلمته .]تفسير المنار (5/361-362) بتصرف ). والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
===========
أمور تنبغي مراعاتها في دعوة غير المسلمين
د.عبدالله الاهدل 22/12/1423
06/03/2002
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
فهذه إشارات أردت بيانها لإخواني الدعاة في دعوتهم غير المسلمين؛ تنير لهم الطريقة وتوضح لهم السبيل ، وليس لي فيها إلا الجمع والتأليف.
أرجو أن ينتفع بها الدعاة ويزدادوا بها بصيرة ليكون لدعوتهم أثرها المحمود وثمارها المرجوة .
•أولاً : العناية بالتوحيد :
التوحيد أول دعوة الرسل قال الله تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (الأنبياء/25) وقال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل/36) وقال: النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه لليمن - إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله ....(1)).
لقد صرّح كثير ممن أسلم بأن من أهم الأشياء التي جذبته للإسلام وكانت سبباً في هدايته التوحيد الذي جاء به الإسلام وما فيه من إفراد الله تعالى بالعبادة والخضوع له وحده فقط دون غيره ، سواء كان نبياً أو ملكاً أو غير ذلك ، وذلك أن التوحيد هو مقتضى الفطرة والعقل .
فينبغي على الدعاة أن يعلمو هم أنفسهم هذا التوحيد ويعملوا به, ويبينوه للناس في دعوتهم ويبينوا لهم مفاسد ضد ذلك وأثره على نفسية الإنسان وسلوكه .
قال تعالى : (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (الزمر/29)
وعلى الداعي أن يسلك في بيان هذا الأصل العظيم أقرب الطرق وأسهلها ويستعين في ذلك بالأدلة القرآنية والأمثال المحسوسة والمعقولة ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير بينه العلماء ؛ من ذلك ما في قوله تعالى ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون )(الطور/36.35)
وقوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون )إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على أعظم وأصح الأدلة العقلية والبراهين الحسية .
ثانياً : بيان ما يتصف به الخالق من صفات الكمال وماله من أسماء الجمال والجلال .
قال تعالى (ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) (النحل/60) وقال تبارك وتعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (الأعراف/180)(2/55)
إن الغربيين وغيرهم من الكفار تشوهت عندهم صورة الرب سبحانه وتعالى بسبب ما ورثوه من ثقافات ، فمن إنجيلية وتوراتية محرفة وإغريقية يونانية وثنية وآخرها مادية ملحدة ، لذلك كان من أهم الأشياء بيان هذا الأصل لأنه أصل التوحيد والعبادة ، والله تبارك وتعالى قد فطر الخلق على محبة الكمال والجمال ، فإذا بين لهم صفات الرب عز وجل وأنه الخالق البارئ المصور الرحمن الرحيم ، الذي رحمته وسعت كل شيء الحكيم في خلقه وشرعه العلي العظيم ، مباين لخلقه ، " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" الرقيب الشهيد ، المحيط بخلقه لا يعزب عنه شيء من ذرات الكون " وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " ( الأنعام/59) ، أحبوه وعظموه ، وتيقنوا استحقاقه للعبادة دون ما سواه ، وعلموا أن من كان هذا وصفه امتنع أن يخلق الخلق عبثاً لغير حكمة ، بل إنما خلقهم لحكم عظيمة وغاية حميدة ، وهي عبادته وحده لا شريك له قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوى المتين ).
ثالثا : اليوم الآخر .
إن كثيراً من الغربيين لايؤمنون بالبعث والنشور ولا أن الناس محاسبون ، بل هم كما قال تعالى حكاية عن أسلافهم المشركين أنهم قالوا ( إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) ( الأنعام /29) والإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان قال الله تعالى ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ..)( البقرة /177) وفي حديث جبريل الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإيمان أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره (2)) فعلى الداعية أن يبين لهم في دعوته أهمية الإيمان بهذا الأصل وأنه سبب السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة مستعينا في ذلك بالأدلة النقلية والعقلية ومبينا أن الإيمان باليوم الآخر هو مقتضى العقل ومقتضى حكمة الله تبارك وتعالى ، قال تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) ( المؤمنون / 115-116) .
رابعا : القرآن الكريم .
إن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين وهو معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة). وقد وصف الله كتابه بقوله ( و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (فصلت /41-42). وسماه نورا فقال جل شأنه ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ، وأنزلنا إليكم نورا مبينا) ( النساء / 174 )وقد أبدى كثير من الغربيين تأثرا واهتماما بهذا الكتاب ولذلك ينبغي على الدعاة أن يقربوه لهم ويبينوا لهم معانيه حتى يعرف هؤلاء حقيقة الإسلام والإيمان من أصل هذا الدين وهو القرآن الكريم ، ويجب على الهيئات والمؤسسات والدول والحكومات أن تسعى في تحقيق هذا بتهيئة ترجمة معاني القرآن بشتى اللغات حتى ينتشر هذا النور بين الناس ويظهر الحق ويكبت الباطل ، وينبغي على الداعية أن يختار من الترجمات أصحها وأقربها لمن يدعوه ، فإنه يوجد من ترجمات القرآن ما فيه من الضلال والباطل الشيء الكثير كترجمات الصوفية والرافضة والقاديانية ، وعليه أن ينبه من يدعوهم إلى الترجمات الصحيحة الموثوق بها .
(1) متفق عليه
(2)رواه مسلم
=============
حكم تجنّس المسلم بجنسيّة دولة غير إسلاميّة
خيرالدين مبارك 26/11/1423
09/02/2002
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
الجنسيّة مصطلح سياسي جديد يرجع تاريخه إلى قيام الدولة بمفهومها الحديث ، أي بعد الثورة الفرنسيّة ، ولذلك لا وجود لهذا المصطلح عند فقهاء الإسلام .
وأما الجنسيّة في الإسلام فإنها قائمة على أساس الدار ، فأهل دار الإسلام لهم جنسيّة واحدة ، وأهل دار الحرب لهم جنسيّة واحدة .
والمراد بدار الإسلام : الدار التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام وأما دار الحرب : فهي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ولا تظهر فيها ، وإنما تقام فيه أحكام الكفر (1).
معنى الجنسيّة :
لغة : الجنسيّة مشتقّة من الجنس ، وهو الضرب من كل شيء ، يقال : هذا يجانس هذا أي يشاكله .
وفي الاصطلاح ( القانون ) : الجنسيّة رابطة سياسية وقانونيّة بين الشخص ودولة معيّنة تجعله عضواً فيها وتفيد انتماءه إليها ، وتجعله في حالة تبعيّة سياسية لها (2) . فجميع الأفراد الذين ينتمون إلى الجنسيّة الواحدة يتمتّعون بالحقوق والواجبات على السواء .
الآثار المترتّبة على التجنّس :
أولاً : الحقوق ؛ ومنها ما يلي :
1-ثبوت حقوق المواطن العادي .
2-الحصول على الإقامة الدائمة لتلك الدولة .(2/56)
3-له أن يتولى الوظائف العامّة في تلك الدولة من قضاء أو مناصب عسكرية أو مدنية ونحوها .
4-يتمتّع بالحماية الدبلوماسيّة لشخصه وأمواله في حالة وجوده في دولة أجنبيّة .
ثانياً : الواجبات ، وأهمها :
1-التحاكم إلى قوانين تلك الدولة في كل شؤونه ( الماليّة والاجتماعيّة والسياسية )
2-المشاركة في بناء تلك الدولة بكل مواهبه وقدراته .
3-الدفاع عن هذا البلد ومصالحه وتنفيذ أغراضه . بما في ذلك الخدمة في الجيش وغير ذلك .
الحكم الشرعي للتجنّس :
من خلال ما سبق في تعريف الجنسيّة وما يترتّب عليها من آثار يمكن أن نصل إلى النقاط التالية .
1-أن الأصل في التجنّس التحريم لأن فيه تعاهداً بقبول التحاكم إلى القوانين الوضعيّة المضادّة لأحكام الشريعة ، وقد قال تعالى : ] فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما [ . ، وقد يكون الرضى بالجنسيات الكافرة والتفاخر بها والاعتزاز بالانتماء لها وتفضيلها على الجنسيّة الإسلاميّة كفرا وردّة عن الإسلام (3) . ولأن من واجبات التجنّس الدفاع عن الدولة الكافرة ومصالحها ، وإن كان المحارب لها مسلماً وهذا من أعظم صور الموالاة للكفّار ، قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ .
2-البلاد الإسلاميّة التي احتلها المستعمر وصار المسلمون فيها أقلّة كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي سابقاً ويوغسلافيا ، فهؤلاء يجوز لهم التجنّس بجنسيّة تلك البلاد، لأنها بلادهم أصالة ، فهم أحق بها من الكفار ، ولأن ظهور الكفار حادث عارض وقد يزول ولو بعد حين ، ولحفظ حقوقهم وأموالهم ، لأن من لا جنسيّة له لا حق له في تلك المجتمعات (4) .
3-من يكون مضطهدّاً في بلده مهدداً في دينه أو نفسه أو أهله ولا يجد ملجأ إلاّ في الدول الكافرة فهذا إما أن يكون قادراً على تحصيل حقوقه دون تجنّس فالواجب عليه الاحتفاظ بجنسيّته المسلمة ، وإما ألاّ يكون قادراً على تحصيل حقوقه إلاّ بالتجنّس كمن يمنع من أوراقه الأصليّة ، فهذا يجوز له التجنّس بالجنسيّة الكافرة إن لم يجد غيرها حتّى يحفظ نفسه وأهله ، فتلك ضرورة تقدر بقدرها ، وقد علم أنه يباح من المحظور بقدر مايدفع الاضطرار ، قال تعالى : وقد فصل لكم ماحرم عليكم إلا مااضطررتم إليه . والله تعالى أعلم .
(1)- انظر : الأحكام السياسيّة للأقليات المسلمة لسليمان محمد توبولياك (15،17) .
(2) - المراجع السابق ( 76-77) ,
(3) - الأحكام السياسية للأقليات المسلمة (81) .، بحوث في قضايا فقهيّة معاصرة محمد تقي العثماني ص (321)
(4) - الأحكام السياسية ( مرجع سابق ) ص83 .
=============
فقه الاغتراب
لا يزال العمل الإسلامي في بلاد الاغتراب يجري على نسق ما عليه العمل في الأقطار الإسلامية، مع شيء يسير من التعديل والتطوير والتغير. وهذا ما ضيّع ويضيّع على الساحة الإسلامية فرصاً عالمية، وحجماً كبيراً ونوعياً من الطاقات والإمكانات، لو أمكن توظيفها وتسخيرها ضمن إطار المشروع الإسلامي، على المستوى القطري والعالمي، بحقق الكثير من الفوائد، ولقفز بمستوى الأداء الإسلامي قفزات كبيرة إلى الأمام.
وإذا كانت المشكلة أن كثيراً من الطاقات ذاتها لا تزال معطلة في البلاد الأم (ودار الإسلام) فمن الطبيعي أن تكون معطلة أكثر في الخارج أي في (دار الحرب).
غيبة فقه التسخير:
وإن السبب الأساسي الذي تعود إليه ظاهرة تعطّل الطاقات والإمكانات سواء في الحضر أو السفر، وسواء في العالم الإسلامي أو العالم الأجنبي، يعود إلى غياب فقه التسخير غياباً شبه كلّي.
إن الإلمام بفقه التسخير، وعلم توظيف الأوقات والطاقات والمؤهلات - حيث وجدت - في إطار المصلحة الإسلامية العليا، وفي خدمة الأهداف الإسلامية القريبة والبعيدة، من شأنه أن يدفع بالعمل أشواطاً إلى الأمام، ويرتقي به درجات إلى الأعلى.
فالله سبحانه وتعالى سخّر للإنسان كل شيء، والإنسان مطلوب منه بالتالي أن يسخّر كل شيء في سبيل الله، بحيث يتحقق كمال الشكر، وتمام الأجر، ومناط التوفيق والنصر...
- فهنالك موجبات شرعية تتعلق بتسخير الفرص والمناسبات.
- وهنالك موجبات شرعية تتعلق بتسخير الأوقات.
- وهنالك موجبات شرعية تتعلق بتسخير العلوم والمبتكرات: (الحكمة ضالة المسلم أنّى وجدها التقطها) (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم)، واللغة هنا قد تكون علوماً وفنوناً ومبتكرات ومخترعات وصناعات... الخ.
- وهنالك موجبات شرعية تتعلق بتسخير المؤهلات والاختصاصات.
والمشروع الإسلامي إن كان بحاجة إلى علماء في الشريعة، فإنه بحاجة كذلك إلى علماء في السياسة، والاقتصاد، والإدارة، والبرمجة، والإعلام، إلى ما لا نهاية من علوم ومعارف.(2/57)
وإذا كانت الحركة الإسلامية حريصة على أن تكون في مستوى العصر، فإنه عليها أن تدرك أنها تعيش في عصر الاختصاصات، واختصاص الاختصاصات، وفي كل جانب من الجوانب. وجريمة نكراء ترتكبها الحركة، حينما تكون عندها هذه الاختصاصات – وهي موجودة – ثم هي لا تلتفت إليها، ولا تعمل على توظيفها وتسخيرها بشكل شامل وكلّي في دائرة العمل الإسلامي.
طبيعة بلاد الاغتراب:
إن بلاد الاغتراب – كائناً ما كانت – تختزن من العلوم والطاقات والمعارف والخبرات ما لا يتسع المقام لإحصائه وحصره.
والمغتربون سواء انتقلوا إلى بلاد الاغتراب للدراسة، أو العمل، فإنهم ظلّوا على التزامهم لله ورسوله وعهدهم للدعوة، بإمكانهم أن يقّدموا لإسلامهم خدمات نوعية لا يمكن أن تتاح لأولئك الذين يعملون في الداخل، وإن كان الجميع على ثغور الإسلام، والفريقان لا غنى لأحدهما عن الآخر.
إن التلاقح مع الآخرين، والاستفادة من خبراتهم وعلومهم، والتعرّف إلى الطرق والأساليب المعتمدة عندهم في التخطيط والتنظيم والتأهيل، وهي علوم تجريدية، من الممكن أسلمتها ووضعها في خدمة الإسلام، مما يختصر الأوقات المهدورة، ويحرّك الطاقات المعطلّة والعناصر الجامدة أو المجمّدة.
إن الأمثلة على ذلك كثيرة، وأكثر من أن تحصى، وفي كل مجال، مما يتّسع المجال لتناولها في هذه العجالة..
ومن طبيعة بلاد الاغتراب تنّوع الناس فيها لغة، وقومية، وذهنية، وطباعاً، وأمزجة، وعادات، وتفاليد. مما يثري التجربة ويعطيها بعداً عالمياً، ومما يُكسب الأخ الداعية خبرة لا يمكن أن تتاح له فيما لو بقي في بلده، وبين من يشابهونه ويشابههم في كل شيء، ومما يجعله واقعي التصرف، منظّم الفكر والتصرف، منطقي التحليل والدراسة والتقويم..
فقه العمل الإسلامي في بلاد الاغتراب:
لا بد للعمل الإسلامي في بلاد الاغتراب من فقه يختلف – في القضايا الاجتهادية – والتي تقع ضمن دائرة المتغير لا الثابت، عن فقه العمل في العالم الإسلامي.. وعلى قاعدة قول الرسول e: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"، لا بد وأن يكون الأداء والخطاب الإسلامي في مستوى عقول الناس، سواء كانوا مسلمين وافدين، أو مسلمين أجانب، أو أجانب غير مسلمين.
1- إن الأداء والخطاب الإسلامي مع المسلمين الوافدين من البلاد الإسلامية، يختلف أسلوباً وبعداً وهدفاً عن غيره، وله خصوصتيته وخصائصه. والهدف المحوري مع هذا الفريق يجب أن يتمحور حول دفعهم إلى الالتزام الإسلامي، وإلى التعاون وعدم التفرّق والانقسام، إلى أن يعطوا الأجانب صورة مشرّفة عن الإسلام. إضافة إلى تهيئتهم وتحضيرهم ليكونوا بعد عودتهم إلى أقطارهم جنوداً ومساندين للعمل الإسلامي..
2- أما الخطاب والأداء الإسلامي مع المسلمين الأجانب، فيجب أن يتمحور حول تأصيل معرفتهم بالإسلاموالتزامهم به، والاستفادة من آرائهم وتصوراتهم ومقترحاتهم في العمل للإسلام والدعوة إليه. ويمكن للحركة أن تستفيد كثيراً من زوايا التفكير التي لدى هؤلاء، والتي تختلف بشكل كبير عن زوايا التفكير عندنا.
3- أما الأداء والخطاب الإسلامي مع غير المسلمين، فيجب أن يختلف بشكل جذري عمّا هو مع المسلمين. إن مادة الخطاب يجب أن تلامس عمق المشاكل التي يعيشون، وتحرك العقول والمشاعر في الاتجاه الصحيح، والفطري، والذي هم عنه غافلون.
ويجب أن ندرك أن الناس في بلاد الاغتراب في ضياع وفراغ روحي، وقلق ويأس نفسي وسريعي التجاوب مع من يحرّك عواطفهم، ويستثير انتابهم، ويشدهم إلى ما يبعث في نفوسهم الطمأنينة، وإلى ما يبلسم جراحاتهم النفسية العميقة.
وهذا ما يجعل الدعاة في بلاد الغتراب سفراء للإسلام، فإما أن يحسنوا السفارة، وإما أن يسيئوا إليها، وإما أن يكونوا أداة اجتذاب للإسلام أو أداة تنفير، وفتنة للذين كفروا..
وهنا يأتي دور الدعوة بلسان الحال، ومن خلال المعاملة، وليس فقط من خلال لسان المقال والدعوة الفطرية إلى الإسلام. وفي المثل: (إن لسان الحال أوقع وأبلغ من لسان المقال).
مقومات العمل الإسلامي في بلاد الاغتراب:
إن للعمل الإسلامي في بلاد الاغتراب مقومات قد لا تكون متوفرة في أقطار العالم الإسلامي، والتي تواجه فيها الحالة الإسلامية ضغوطاً متعددة، مما يجعل التنسيق والتعاون بينهما سبيلاً إلى التكامل على كل صعيد..
1- إن مناخ الحرية المتاحة – والتي بدأت بالانحسار في الفترة الأخيرة – يجعل العمل الإسلامي متحركاً بلا ضغط، يلحظ سلّم الأوليات، والتوازنات، وسنة التدرج والتطور، مما يكسبه واقعية وثباتاً واستمرارية، ولا يجعله قفزاً في الفراغ، أو ردّات لأفقال اللآخرين. وهذه مزية يجب الاستفادة منها.
2- وإن مناخ العلمية والتقدم، في مجالات التطور الصناعي والتقني على كافة الصعد، يتيح للعاملين في بلاد الاغتراب فرص الاستفادة من هذا التطور، وبالتالي نقله إلى البلاد الأم كيما تستفيد منه الحركة الإسلامية، في كافة خطواتها ونشاطاتها وأعمالها.(2/58)
3- أما مناخ الحرية الاقتصادية، فإن من شأنه أن يمنح الحركة الإسلامية فرصاً للتثمير المالي، في العديد من المشاريع التجارية والصناعية والسياحية وغيرها، وبخاصة في حالات تعثّر الأوضاع الاقتصادية في العالم الإسلامي.
4- ويضاف إلى ذلك مناخ حرية التعبير، الذي يمنح الحركة الإسلامية فرصة امتلاك العديد من الوسائل الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، وبخاصة بعد أن أصبحت وسائل الإعلام في العالم الإسلامي أسلحة حرب على الحركات الإسلامية، أداة تعتيم على نشاطاتها المختلفة..
5- أما التعددية القطرية في بلاد الاغتراب فتعتبر من المقومات الهامة في صياغة المشروع الإسلامي العالمي، بعد تشكيل الشخصية الإسلامية العالمية بما يتكافأ مع هذه المهمة.
6- أما الأهم من هذه المقومات، فهو الدور الذي يمكن أن يضطلع به المغتربون، في تقديم الإسلام إلى العالم كرسالة إنقاذ مما تعاني منه من مشاكل على كل صعيد، ولتترجم الجملة التي قالها الدكتور مراد هوفمان: الإسلام هو الطريق الوحيد للبشرية: (Islam is the only way for Humanity).
دور المغتربين في المشروع الإسلامي القطري:
إن دور الإخوة المغتربين في الإطار القطري يتلخص بما يلي:
1- تحقيق تماسكهم وانتظامهم، وقيامهم بما هو مطلوب منهم من قبل القيادة القطرية، وعلى كافة الصعد التربوية والدعوية والحركية وغيرها.
2- قيامهم باجتذاب الجالية الإسلامية القطرية التي ينتمون إليها، من خلال النشاطات العامة، والزيارات الخاصة، والعلاقات التجارية والعلمية وغيرها.
3- قيامهم بدعوة الجالية القطرية غير الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، من خلال نشاطات مدروسة، وزيارات هادفة، وقدوة حسنة، تلفت إلى جمال الإسلام وتحبب به وتقرب إليه، وعلى أساس القاعدة النبوية "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" وفق قوله تعالى ]وقولوا للناس حسناً[ وقوله: ]ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن[
4- إسهامهم بتطوير العمل الإسلامي القطري، من خلال أفكار ومقترحات ومشاريع تقدّم إلى الجهات المعنية.
5- إسهامهم بتنمية الموارد المالية القطرية، عبر اقتراح مشاريع تجارية وصناعية تثميرية، من شأنها تأمين عائدات مادية، تساعد على سد حاجات العلم في جوانبه المختلفة.
دور المغتربين في المشروع الإسلامي العالمي
أما على صعيد الدور الإسلامي العالمي فلا بد من ملاحظة التالي:
1- السعي إلى توحيد العمل الإسلامي في بلاد الاغتراب، والابتعاد عن معترك النزاع والصراع.
2- تقديم تصورّات عصرية، وأفكار متطورة من شانها أن ترتفع بجهوزية الحركة الإسلامية، وتضاعف من قدرات استيعابها للآخرين، وذلك من خلال اعتماد سياسة التأهيل للقيادات وللأجهزة كما للأفراد، تحقيقاً وتأميناً لتوافر البدائل التي يحتاجها المشروع الإسلامي علىكل صعيد.
3- السعي إلى اجتذاب الجاليات الإسلامية للعمل والدعوة من خلال برامج خاصة ونوعية.
4- السعي إلى اجتذاب أصحاب الفكر، ومواقع القرار، في العالم الغربي من خلال ندوات تعقد، ومحاضرات تقام، وكتب تهدى، من شأنها جميعاً أن تقدّم صورة مشرقة عن الإسلام، بدل الصور المشوهة التي يعمل على تأصيلها وترشيخها من قبل القوى المعادية للإسلام.
5- الاستفادة من الشخصيات التي اعتنقت الإسلام، وبخاصة تلك كانت على مواقع هامة، من أمثال:
- روجي جارودي
- دافير بنيامين - صاحب كتاب، محمد في الإنجيل.
- الدكتور مراد هوفمان - صاحب كتاب كتاب الإسلام كبديل.
- موريس بوكاي - صاحب كتاب القرآن والكتب والمقدسة في ضوء العلم.
- الدكتور رو كفاك Ro Kavak.
- الدكتور روبرت كرين، المعروف بـ: فاروق عبد الحق.
- مدير الأمن القومي في عهد نكسون، وصاحب رسالة (القيادة الإسلامية في القرن الواحد والعشرين).... وغيرهم
================
فوائد ودروس وعبر السياحة
للسياحة فوائد قد يعجز الإنسان عن إدراكها جميعاً، أو تعدادها على سبيل الحصر. وما ندركه اليوم قد يستدركه غيرنا غداً، لتبقى سنة التطور والتطوير، والجدد ضاربة عبر التاريخ والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
1- فمن هذه الفوائد التعرف على آيات الله في خلقه.. في أجناس الناس وألوانهم وألسنتهم.. في عاداتهم وتقاليدهم، في أفكارهم وثقافاتهم، وفي طباعهم وأمزجتهم، في ميولهم وهواياتهم.. فيزدادوا إجلالاً لله وتعظيماً لقدرته، وإقراراً بعظمته، وإقبالاً على طاعته، ورجاء بعفوه ومغفرته.
(ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لأياتٍ للعالمين) سورة الروم : الآية 22
2- ومن فوائد السياحة التعرف على آيات خلق الله في الأرض واخنلاف تكوينها وتضاريسها ومناخاتها ومعادنها وكنوزها وأنهارها وبحارخا وثرواتها، وفوارق ليلها ونهارها، وحرها وبردها:
n( إنَّ فِى خَلقِ السَّمَواَتِ وَالأَرضِ واختِلاَفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ لأَيَاتٍ لأولِي الأَلبَابِ) سورة آل عمران: الآية 190.
n (وَالأَرضَ فَرَشنَهَا فَنِعمَ الماهِدُونَ) سورة الذاريات: الآية 48.(2/59)
n (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىءٍ مَّوزون) سورة الحجر: الآية 19.
n (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) سورة الحج: الآية 46.
n (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) سورة الأنبياء: الآية 31.
n (أمَّن خلق السموات وألأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون، أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أءله مع الله بل أكثرهم لايعلمون، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون، أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته أءله مع الله تعالى الله عما يشركون) سورة النمل: الآية 60 - 63.
n (خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظلمون في ضلال مبين) سورة لقمان: الآية 10، 11.
3- ومن فقه السياحة: التعرف على نهايات الظالمين، وعاقبة المجرمين ومصير الطغاة والجبارين، لتطمئن النفس إلى أن العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
n قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الأخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) سورة يوسف: الآية 109.
n وقال سبحانه: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أثكر منهم وأشد قوة وءاثاراً في الأرض فما أغنى ما كانوا يكسبون) سورة غافر: الآية 82.
n وقال جل جلاله: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثلها) سورة محمد: الآية 10.
إنه تأكيد رباني على أن سنة التدافع بين الحق والباطل ستنتهي لا محالة بانتصار الحق وأهله، وهزيمة الباطل وجنده.. ولو بعد حين (بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق) سورة محمد: الآية 15.
- في ألمانيا مررنا بمقر قيادة (هتلر) - الرايخ - الذي أطبقت جيوشه في فترة من الزمن على روسيا ومعظم الدول الأوروبية.. ثم أصبح أثراً بعد عين، وذكرى للتاريخ بعد هزيمة نكراء؟
- وفي إيطاليا تذكرنا ما فعله الديكتاتور موسوليني، وما اقترفه من جرائم بحق الشعوب الأوروبية وبعض الشعوب العربية مستذكرين ثورة عمر المختار وانتفاضة الشعب الليبي المسلم. فالعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين؟
- وفي مصر تذكرنا الفراعنة القدامى والجدد وظلمهم وبغيهم (إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طآئفة منهم يذبح أبناءهم ويستحىِ نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين اسنضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) سورة القصص: الآية 5،4.
- وفي فلسطين مررنا بالبحر الميت وتذكرنا قصة آل لوط والمصير الأسود الذي لقيه أهل (سدوم وعمورة) بسبب فحشهم وشذوذهم.. (كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا ءل لوط نجيناهم بسحر) سورة القمر: الآية 34،33. وهكذا لا نكاد نمر ببلد إلا والعبرة ماثلة: (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) سورة ق: الآية 37.
4- ومن فوائد السياحو والسفر التعرف على ما لدى اللآخرين من علوم وفنون ومستجدات ومبتكرات وأساليب. والحكمة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)). فالحياة مدرسة تتسع وتضيق بقدر اتساع أو ضيق دائرة تعرف الإنسان عليها زماناً ومكاناً وظرفاً.. فالإنسان ابن محيطه. فمن كان حبيس بيته كان ابن بيته، ومن كان حبيس قريته أو مدينته أو بلده كان ابن هذه الدائرة. أما من ارتحل في أرض الله الواسعة، يلتمس العبر، ويقلب الفكر، ويستطلع الأحوال والثقافات والمعارف والأعراف والتقاليد والتجارب.. فإنه لا شك سيكون أوسع نظراً، وأعمق تصوراً، وأكثر خيراً، وأعظم أثراً، حيث يكون ابن عصره.
5- اقتباس العلوم والمعارف واتساع المدارك: ومن فوائد السياحة الاطلاع على ما لدى الآخرين من علوم وثقافات وحضارات وخبرات وتجارب ومهارات وعادات وتقاليد.. والأخذ بالمفيد منها، والمفعل للدور، والمطور للمشروع، والمقوي للأداء..
والملاحظ أن الذين لا يخرجون من دائرة بيئتهم، ومناطق ولادتهم وسكنهم يظلن أضيق أفقاً، وأقل معرفة وإدراكاً، وأبطأ تصوراً، وأقل عطاء من أولئك الذين يتجولون في أرض الله الواسعة، ويتنقلون بين البلاد والشعوب.(2/60)
والإسلاميون بشكل خاص مطالبون بالسياحة لمعرفة زمانهم وما فيه من قوى وحضارات ومخترعات وتحديات وخصائص، للتعلم والتعليم، والأخذ والعطاء، والاحتكاك بالغير وإفادته والاستفادة منه في ضوء القاعدة النبوية (( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)).
6- ومن فوائد الياحة الاعتبار بتجارب الآخرين وما مر بهم من حرب وسلم، وضعف وقوة، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وتقدم وتخلف.. واستكشاف أسباب كل ذلك والاستفادة من كل ذلك عملاً بالمثل القائل "من رأى العبرة في غيره فليعتبر". ولقد كان الهدف من القصص القرآني التعلم والاقتباس والاعتبار.. (تلك القرى نقصّ عليك من أنبآئها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين, سورة الأعرلف:الآية 101. وفي آية أخرى (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين, سورة هود:الآية 120.
7- ومن الفوائد الجليلة للسياحة الدعوة إلى الإسلام سواءً لأهل البلاد أو للجالية الإسلامية الموجودة هناك. واليوم بات الأمر سهلاً وميسوراً لوجود المساجد والمراكز والمنتديات الإسلامية على امتداد العالم. فالدعوة إلى الإسلام في البلاد المختلفة لها فوئد كثيرة ومنافع جمة للداعية وللناس.
فبالنسبة لهؤلاء فإن أثر القادمين عليهم من بعيد أكبرمن أثر المقيمين بينهم, ثم هم بحاجة إلى من يستفتونه من مشاكل غربتهم وحياتهم الجديدة. راجع فقه الاغتراب من كتابنا نحو صحوة إسلامية على مستوى العصر.
أما بالنسبة للدعاة فإن إطلالاتهم الاغترابية وما تحتاجه من إرشاد وتوجيه وتفقيه يتناسب مع البلاد التي يعيشون فيها, والمشكلات التي يواجهونها.. يعطيهم المزيد من الخبرات, ويقدح زناد عقلهم بالجديد من الآراء والأفكار والاجتهادات التي تتناسب مع كل بيئة وبلد..وصدق الله العظيم حيث يقول:(وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) سورة التوبة:الآية 122.
8- ومن الفوائد التي فطن إليها الآخرون وسبقونا إليها ما يتعلق بالحركة الاقتصادية والنشاط الإنمائي.
إن السياحة يمكن أن تكون باباً واسعاً من أبواب التثمير, وإقامة المشاريع الصناعية والتجارية والاقتصادية, وتبادل السلع من خلال عملية التصدير والاستيراد.
والمشروع الإسلامي من خلال تكامله يحتاج إلى إلى القوة الاقتصادية, وبخاصة في عصر بات القرار السياسي مبيناً على الاعتبار الاقتصادي.
ولا أدل على ذلك مما وصل إليه اليهود من هيمنة على اقتصاد العالم وقطاعاته السياحية والمصرفية والصناعية والزراعية وغيرها..
ولقد أدرك الأولون من سلفنا أهمية هذا الأمر فشكلوا القوافل التجارية, وجلبوا أقطار الأرض, يمارسون تجارة الدنيا والدين.. وكانوا يتنقلون على الحمر والبغال والجمال.. فيقصدون البلد تلو الآخر ولم تكن لديهم طائرات ولا سيارات وقطارات أو أي من وسائل النقل الحديثة..
9- ومن فوائد السياحة الترويح عن النفس, والخروج من أسر الروتين المضني للجسم الممل للنفس عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت".
فالسياحة تجد النشاط, وتبعث الحيوية, وتشحذ الإرادة, وتصقل النفس, فيعود الإنسان إلى بلده وكأنه خلق من جديد, وخلقت معه طاقات لم يكن ليشعر بها, وفتحت أمامه آفاق لم يكن ليراها.
==============
الصيف والسفر
السنة الخامسة - العدد ( 51 ) - جمادى الأول1425هـ - يونيو/يوليو
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
لقد اعتاد كثير من الناس في حر الصيف اللافح أن يقضوا إجازاتهم في رحلات إلى شواطئ الأنهار وإلى شواطئ البحار في بلاد الكفار أو في بلاد تشبهها، وقد يصطحب أولئك الناس عوائلهم من نساء ومراهقين ومراهقات، أو يذهبون وحدهم، وبعضهم يصل به الأمر إلى إرسال أولاده أو بناته إما بدعوى السياحة أو النزهة أو بدعوى أخرى مماثلة، وينفقون في سبيل ذلك كله أموالا طائلة مما أنعم الله عليهم.
ولك أن تتعجب أخي القارئ من أن عددا ضخما من الذين فقدوا الحياة وأسرفوا في الاستهتار من أغنياء ومترفين يضربون أسوأ الأمثال، فلا يعملون لأوطانهم، ولا يشتركون في النعماء والبأساء مع إخوانهم، بل يفرون من ديارهم إلى ديار الكفر في رحلات عابثة كلها إسراف وتبذير.
ومن الغريب أن السائح المسلم يساوي ضعفه من السياح من أي دين آخر لماذا؟ لأنه ميال للبذخ والتبذير، ويقيم في أرقى الفنادق ويأكل في أرقى المطاعم، وينثر المال ذات اليمين وذات الشمال في كل قطر، وهو لذلك صيد ثمين جدا.(2/61)
أخي الكريم.. أختي الكريمة .. هل تعلم أنه في تلك البلاد والمصائف تتعرى الأجساد المحرمة وتشرب الخمور كالماء وينتشر الزنا كانتشار النار في الهشيم، هذا كله فضلا عن الجو المادي الذي تقسو فيه القلوب فتصبح شغوفة بالشهوات والملذات، ناهيك عن الشبهات العقدية والانحرافات، فيأنس أولئك المصطافون لتلك المناظر ويعتادونها، وربما يواقعها البعض منهم، ثم ينطلق المراهقون والمراهقات من الصغار والكبار غير مصدقين ما هم فيه من فوضى وإباحية لاسيما وقد اعتادوا في بلادهم جو المحاصرة وقطع الشهوات إلى حد ما، فيألفون هذه المناظر وتتهيأ نفوسهم لقبولها فيقعون فيما لا يحمد عقباه ولا يرضي المولى عز وجل.
أخي الكريم.. أختي الكريمة .. لقد ابتدأ موسم السفر عند الكثير من الناس، وقد قسم العلماء السفر إلى ثلاثة أنواع: سفر مذموم، وسفر محمود، وسفر مباح.
> فأما السفر المذموم: فهو السفر إلى معصية الله، يشد المسافر رحاله إلى بلاد يعصي فيها الرب عز وجل، فهذا السفر محرم لايجوز، وعواقبه في الدنيا والآخرة وخيمة لايعلمها إلا الله.
> وأما السفر المحمود: فمنه السفر للحج والعمرة، ومنه السفر لزيارة المساجد الثلاثة، ومنه السفر لطلب العلم وزيارة العلماء وأهل الخير.
> وأما السفر المباح: فهو السفر في طلب المعاش، والسفر بقصد الاستجمام والترويح عن النفس في حدود ما أباح الله.
أما التعود على السياحة المجردة ففيها تضييع الأعمار والإسراف في الأموال وتشتيت القلب وإجهاد البدن مالا يخفى على أولي الألباب.
أخي الكريم.. أختي الكريمة .. لقد ذكر العلماء للسفر آدابا كثيرة نذكر بعضا منها على سبيل الاختصار:
1 - فمنها التوبة من المعاصي والذنوب، ورد المظالم وقضاء الديون الواجبة، وإعداد النفقة لمن تلزمه، ثم أخذ المال الحلال الطيب، ومن العجيب أن تجد بعض الناس يسافر بالأقساط كما تفعله بعض السفريات، فيذهب فرحا مسرورا بإجازته ويرجع وإذا الديون عليه متراكمة قد أفسدت فرحته في سفره.
2 - ومنها الحرص على طيب الكلام وإطعام الطعام وإظهار مكارم الأخلاق، لأن السفر فيه تعب شديد ومشقة بالغة وضيق نفس فلابد من التخلق والتحلي بالصبر ومكارم الأخلاق.
3 - ومنها الاستخارة.. قال صلى الله عليه وسلم : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم.." الحديث أخرجه البخاري من حديث جابر.
4 - ومنها أن يستأذن الشاب والديه، وتستأذن المرأة زوجها بشرط أن تسافر مع محرم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" متفق عليه.
5 - ومنها أن يطلب الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير وتذكره إذا نسي، قال تعالى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكهف 28، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة 119
وثبت عند أبي داود من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " لاتصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي"
6 - ومنها ألا يسافر لوحده بل في رفقة ثلاث فأكثر ويؤمرون عليهم أحدهم، ثبت في صحيح البخاري عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده" وثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" وذلك لكي لايقع الخلاف والشقاق بينهم.
7 - ومنها أن يقول عند الخروج من بيته دعاء الخروج من المنزل، ثبت عند أبي داود من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يخرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله" يقال له هديت وكفيت ووفيت، فيقول شيطان لآخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي" ثم يقول دعاء السفر : (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل) وإذا رجع قالهن وزاد فيهن (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) رواه مسلم.
8 - ومنها أن يقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر فيكبر الله عند كل مرتفع ويسبح الله عند كل واد، كما ثبت عند أبي داود (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علو الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا).
9 - ومنها السفر يوم الخميس. قال كعب رضي الله عنه " لقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس" رواه البخاري(2/62)
10 - ومنها أن يغتنم السفر في الليل فإن الأرض تطوى بالليل وتقصر المسافة، فعن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالدُّلجة، فإن الأرض تطوى بالليل) رواه ابن خزيمة.
11 - ومنها أنه إذا أراد الراحة فليجتنب الطريق فإنها مأوى الهوام بالليل، لقوله صلى الله عليه وسلم : (إذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوي الهوام بالليل) أخرجه مسلم. والتعريس هو نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة.
12 - ومنها أنه إذا نزل منزلا فليقل دعاء المنزل: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" . ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نزل أحدكم منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه).
13 - ومنها أن يعجل العودة إذا قضى حاجته من السفر. ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الرجوع إلى أهله".
14 - ومنها إنه إذا رجع إلى أهله فلا يدخل عليهم في غفلة بل يخبرهم قبلها كما في الصحيحين قال أنس رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا كان لا يدخل إلا غدوة أو عشية).
15 - ومنها أن يحضر لأهل بيته ما يفرح به الأهل والأولاد لأن الأعين تمتد إلى القادم من السفر والقلوب تفرح به.
منكرات السفر
أخي القارئ الكريم .. هناك منكرات كثيرة تقع في الأسفار ينبغي على المسلم الحذر منها:
1 - فمنها السفر إلى بلاد الكفار والمشركين، أتعلم أخي الكريم ماذا في تلك البلاد؟ إنه الكفر والإلحاد، إنه الإباحية والفساد، إنه الأمراض المعدية الفتاكة، إنه إضاعة المال وتبذيره، مفاسد خطيرة تكفي واحدة منها لقوم يعقلون.
ولذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } النساء 97
وثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين".
وقد استثنى العلماء من ذلك من يسافر إلى بلاد الكفر للجهاد في سبيل الله أو السفر للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة المباحة، كل ذلك مشروط بأن يكون مظهرا لدينه عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله قادرا على إقامته شعائره.
2 - ومنها ارتياد أماكن الفساد والمحرمات والملاهي وما يصاحبها من الفواحش والرذائل، فيحذر المسلم أن يقع فيما يغضب ربه وسخطه، وليعلم أن ربه مطلع عليه تام الإطلاع، وليستح من نظر ربه إليه، وليحذر من بعض شركات السفريات التي لا تقيم للدين وزناً فتسهل السكن في بعض الفنادق المشبوهة جريا وراء العادة، وفي بلاد المسلمين ولله الحمد ما هو خير من ذلك كله.
3 - ومنها ما يقوم به بعض الجهلة والجاهلات، من ترك الصلاة المفروضة ونزع الحجاب حين الصعود إلى الطائرة وكأن الدين والعفة لا وزن لها في السفر.
4 - ومنها الإسراف في شراء البضائع ومتابعة أحدث الموديلات وبذل الأموال الطائلة في ذلك.
أخي القارئ الكريم .. لا يعني ما سبق ذكره أن يكون المسلم نشازا مع أهله فلا يرفههم ولا يدخل السعادة في قلوبهم، فقد صح عند الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
فباستطاعة المسلم أن يرفه أهله وأولاده ويسلك بهم السبل المباحة من عمرة إلى بيت الله الحرام أو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أو إلى ربوع البلاد الإسلامية المأمونة في نزهة بريئة ومصائف مباحة يأمن فيها المسلم على أهله وأولاده مع تحقيق رغبتهم في الترفه واللهو البريء المباح مع حفظ الدين والصلاح.
واعلم أخي المسلم أنك بذلك ترضي ربك عز وجل فتكون مستسلما لشرعه وأمره، وهو شأن المسلم، يرضي ربه ولو شق ذلك على نفسه، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } النور 51، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب 36 .
أما الذين يتبعون شهواتهم ورغباتهم ولا يعنيهم أيرضي الله شيئا أم يسخط منه فلا حديث معهم لأنهم في حاجة إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم.
والله أسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يهدينا سواء السبيل وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
==============(2/63)
كيف تدعو إلى الإسلام
الداعية الموفق هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالفكر, ويجذبه إلى الحركة بالأسلوب الذي يؤثر فيه ، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم : [ نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم على قدر عقولهم ].
تعرف إلى الشخص قبل دعوته:
وإذا كانت لمسألة هكذا ؛ فإنه يصبح من واجب الداعية أن يتعرف إلى الشخص الذي يود دعوته إلى الإسلام.. يتعرف إلى أفكاره , ويكتشف مشكلاته ، وهو بذلك سيصل إلى معرفة المنافذ التي يمكن أن ينفذ من خلالها نفسه.
من أين تبدأ.. وكيف؟:
إن الإصابة في تحديد نقطة البدء توفر على الداعية كثيرًا من الوقت ، وتسهل عملية الإقناع والجذب, وفي كثير من الأحيان يكون فشل الداعية في اجتذاب العناصر الجديدة إلى الدعوة مرده إلى سوء تقديره لنقطة البدء , وسوء تشخيصه للعلة المراد تطبيقها، فيبدأ من حيث ينبغي أن ينتهي , أو ينتهي من حيث ينبغي أن يبدأ.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: [ما أحد يحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم].
مشروع منهج قياسي:
ولهذا كان لا بد من منهج قياسي تحدد بواسطتة نقطة البداية، ويعرف بواسطتة الداعية كيف يبدأ ومن أين , ففي اللقاءات الأولى ينبغي أن يحرص الداعية على تقييم العنصر المراد دعوته إلى الإسلام , فإذا تم له ذلك أصبح بمقدوره مقارنته بالأنموذج القياسي، وفي اعتقادي أن الأنموذج القياسي ينبغي أن تحدد مواصفاته على الشكل التالي:
أولاً: طور بناء العقيدة :
أي إيجاد الفكر الصحيح عن الكون والإنسان والحياة، ومن شرائطه :
1- تحقق الإيمان بالله وسائر أركان الإيمان الخمسة, وهذا الطور يعتبر الطور الأساسي في تكوين الشخصية الإسلامية؛ لأنه القاعدة التي تتمخض عنها سائر الأطوار.
2- تحقق الإيمان بالإسلام وأنه المنهج المبرأ من عوامل العجز البشري، وأنه المنهج الشامل المتكامل، وأن المناهج الأخرى باطلة أساسًا؛ لأنها بشرية المصدر.
ثانيًا: طور التطبيق:
أي طور تجسيد النظريات الإيمانية سلوكًا إسلاميًا صحيحًا , وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل].
ومن مقتضيات هذا الطور :
أ - دعوة المرء إلى أخذ نفسه بما يوافق عقيدته , وينسجم انسجامًا كليًا مع التشريعات المنبثقة عن هذه العقيدة .
ب - جعل الإسلام المقياس الذي ينبغي الصدور عنه والرجوع إليه في كافة شؤون الحياة.
ثالثًا: طور الانخراط في العمل الحركي للإسلام :
ذلك أن الفرد لوحده لا يقوى على إقامة المجتمع الإسلامي وإيجاد الدولة الإسلامية.
الاتصال الفردي المباشر:
من خلال التجارب الكثيرة التي مرت بها الحركة الإسلامية تأكد للعاملين والدعاة أثر الاتصال الفردي المباشر في كسب عناصر جديدة للحركة , وفي تزايد الإنتاج الحركي لدى كل فرد من أفراد التنظيم.
أولاً : مفهوم الاتصال الفردي
والمراد به هو قيام كل فرد من أفراد التنظيم بواجب الاحتكاك المقصود الهادف بعناصر جديدة , ومحاولة جذبها إلى الفكرة أولاً , وإلى الحركة أخيرًا، وحري بصاحب الفكرة أن يحاول الاستفادة من كافة العلاقات والظروف لطرح أفكاره ومحاولة إقناع الآخرين بها , وبالتالي الخروج بطبيعة صلاته وعلاقاته من نطاقها (التجريدي) العفوي إلى النطاق (الموجه) الذي يخدم الفكرة الإسلامية ويفتح أمامها كثيرًا من الأبواب والمنطلقات , والفرد ـ كل فرد ـ له وجود وله أثر , ووجوده لا يغني عن أثره ؛ بل إن أثره يدل على قيمة وجوده .
ثانياً : الاتصال الفردي واجب شرعي
وعلى الأخ المسلم أن يدرك أن مهمة نشر الدعوة واجب شرعي ومسئولية فردية ، لا يسقطها عنه انتسابه لجماعة.
إن مسئولية العمل الإسلامي مترتبة على كل مسلم ، سواء كانت هناك حركة أم لا ، وكان الهدف من التنظيمات الحركية استيعاب النشاطات الفردية ، وتنميتها وتوجيهها وتحويلها مع الزمن إلى طاقة ضخمة ، يمكن بها مواجهة القضايا الكبرى التي لا طاقة للأفراد منعزلين على مواجهتها.
إن صيغ المخاطبة الفردية ورد بها التكليف القرآني والنبوي , وهي تؤكد المسئولية الشخصية , وعلى سبيل المثال قوله تعالى:] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)[ سورة فصلت. ] فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ .....(15)[ سورة الشورى ، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.
وقد يفهم كثير من العاملين في الحقل الإسلامي خطأ أن مهمة القيام بأعباء وتكاليف الاتصال الفردي ونشر الدعوة إنما تفرض على من يريد أن يتصدى لها ممن يكون على جانب كبير من العلم والمعرفة؛ مما لا يمكن أن يتوفر إلا لقليل من الأفراد الذين قد تسمح لهم ظروفهم وإمكانياتهم بهذا..(2/64)
وفي اعتقادي أن الأمر أبسط من هذا بكثير , فإن الأخ إذا تكاملت جوانب فهمه للإسلام , وأصبح بمقدوره التعبير بوضوح عن هذا المفهوم بات من واجبه أن يضع قدمه عند أول الطريق , وأن يباشر مسئولياته كداعية، ولكن ضمن ثلاثة شروط:
1- أن يعرف حده من العلم والمعرفة , فيعمل في نطاقه وعلى مستواه.
2- أن يعمل على تنمية ثقافته الإسلامية والبلوغ بها.
3- أن يكون في سلوكه منسجمًا مع المبادئ التي يدعو الناس إليها.
ثالثاً : عقبات في الطريق
إنني لا أجد للعقم والانعزال الذي مني به الكثيرون إلا سببًا واحدًا؛ وهو:
زيادة خوفهم وتهيبهم من الناس والمجتمع , فهؤلاء لا يخلون من أحد ثلاثة:
• إما أن يكونوا ضعفاء الثقة بأنفسهم , فينبغي أن يعالجوا أنفسهم من هذا الجانب.
• أو أنهم يخافون على حياتهم ؛ فيتحاشون تعريضها للإيذاء , وهؤلاء أقل ما يقال فيهم أنهم ضعفاء جبناء , ويلزمهم معالجة وتطييب قبل أن يرشحوا لتطبيب الناس ومعالجتهم ,كما أن الخوف من الناس لا يمكن أن يكون صفة من صفات المؤمنين؛ لأن الإيمان بطبيعته يكسب الإنسان الجرأة في الحق والشجاعة فيه يؤكد ذلك قوله تعالى: ] الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)[سورة آل عمران , وإلى هذا يشير الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: [أمرت أن أقول الحق ولو كان مرًا ] , وقوله: [أمرت أن أقول الحق ولا أخشى في الله لومة لائم], و إلى هؤلاء وأمثالهم يشير القرآن الكريم بقوله: ] الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(168)[ سورة آل عمران , وقوله: ]قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8)[ سورة الجمعة .
• أنهم أصحاب مصالح , يبالغون في المحافظة عليها ولو على حساب الإسلام.
رابعاً : من حسنات الاتصال الفردي
للاتصال الفردي المباشر حسنات كثيرة لا مجال لحصرها , ولكن نكتفي بالإشارة إليها فمنها :
1- يتيح للدعاة التعرف على العناصر المراد جذبها إلى الدعوة , وتبليغها الفكرة عن كثب.
2- يمكنهم الاحتكاك من الوقوف على أوضاع هؤلاء ومشاكلهم ، ويسهل عليهم بالتالي عملية التشخيص والتوجيه والمعالجة؛ بينما لا يتحقق في مجالات الاتصال الجماعي فوائد التأثير المباشر الذي يلامس العلة ذاتها , ويعالج الداء نفسه.
3- أنه يضع الإخوان جميعًا وبدون استثناء أمام مسئولياتهم وواجباتهم، وبهذا لا يبقى العمل الإسلامي محصورًا في عدد من الأفراد الذين يمارسون مهام التوجيه والإرشاد، وهذا من شأنه أن يحول الجماعة إلى خلية عمل الكل فيها يعمل وينتج.
4- يجنب الحركة كثيرًا من مواقف الإحراج التي تفرضها أحيانًا الظروف السياسية.
5- يعين الدعاة على مواجهة كافة الأسئلة المطروحة بالنقاش الموضوعي , وبالتبسيط والتفصيل مما لا تتيحه أجواء الاتصال العام؛ كأجواء الاحتفالات والمهرجانات والمحاضرات.
وبهذا يكون الاتصال الفردي الوسيلة المثمرة التي تؤتي أكلها من غير ضجيج أو ضوضاء، وتبلغ الحركة الغاية المنشودة منها بأيسر التكاليف وأقصر الأوقات، وأخيرًا فليضع الدعاة أمام أعينهم باستمرار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها].
====================
المسلمون ومرحلة الغربة
د. الحسين آيت سعيد
بعض المسلمين لَمَّا يسمعون أحاديث الغربة، يتبادر إلى أذهانهم أن هذا الدين قد انحسر بالكلية عن مواقعه، وأنه ضعُف واستكان، ولم يعد له مفعول قوي، وأن عودته للظهور البارز وسرعة الانتشار، بات أمراً بعيد المنال، وهذا الفهم ليس بصحيح ولا سليم، تكذبه النصوص الواردة في الغربة، وفي
أ ـ الغربة مرحلة، وليست سُنة لا تزول:(2/65)
القراءةُ الصحيحة لأحاديث الغربة، هي فهمها على أنها مبشرات لعودة هذا الدين لمسرح الحياة كما كان، ومقدماتٌ لانتشاره ودخوله كل بيت من مدَر أو وبَر، ولا ينبغي أن نُؤيِّس المسلمين ونشل حركتهم، ونُفقدهم الأمل في دينهم بما يُفهم أولَ وهلة من بعض هذه النصوص؛ فهذه النصوص إذا ضمت لأشباهها، وفُهمت في سياقها، فإنها تفيد أن غربة الدين ما هي إلا مرحلة عارضة، تمر منها الأمة، ولا تستقر فيها ولا تدوم عليها، ثم تعود إلى المرحلة الطبيعية التي هي انتشار هذا الدين بين العالمين، وبلوغُه ما بلغ الليل والنهار؛ ففي حديث ثوبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»(1). فهذا الحديث من أعظم الأحاديث الدالة على أن الله تكفل باستمرار هذا الدين، وأنه يبعث له في كل زمان حماة يحمونه ويلتزمون به، ويدافعون عنه إلى يوم القيامة، وهذه الطائفة ما انقطعت ولن تنقطع بضمان الله - عز وجل - لاستمرارها، وذاك يشجع المسلم أن يكون من جنود هذا الدين، ويدفعُه أن ينخرط في سلك هذه الطائفة المنصورة، حتى تتحقق له بشارة الثبات على الحق والدفاع عنه، والانتظام في جماعة أهله، فيضاعف المسلم جَهده ليكون على الحق، ويكون ممن يظاهر الحق ويناصره. وفي حديث تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر»(1). وكان تميم الداري يقول: قد عرفتُ ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرُ والشرفُ والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذلُّ والصَّغار والجزية. ففي هذا الحديث بشارة صريحة أن هذا الدين سيعم الكرة الأرضية، وأنه لا يبقى بيت إلا دخله، أبى ذلك من أباه أو قَبِله من قبله، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن غربة الدين وغربة أهله لا تستمر، وأنها ليست قانوناً حتمياً؛ كما يفيد الحديث أن العزة ستعود للمؤمنين، وأن الذلة ستلحق الكافرين، ولو عَلوا وطغوا وتجبروا بما أتوا من قوة وجبروت، لكن يبقى أن يتحرك المسلمون وأن يعملوا جميعاً لتحقيق هذا الوعد والتعجيل به، فالله ـ - تعالى -ـ قد تكفَّل لدينه بالظهور، ويبقى تنفيد الوعد بأيدي المسلمين حتى لا يفهم أحد من هذه البشارات التواكل، والاسترخاء، وعدم العمل، وترك التبليغ، والركون إلى الدَّعة، بحجة أن الله سينصر دينه لا محالة؛ فهذا الفهم ليس بسليم، فالله - تعالى - سينصر هذا الدين بنا، وإن تخلينا فسينصره بغيرنا. قال ـ - تعالى -ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] فما أحوجنا إلى رجال يحققون وعد الله، ويستنزلون نصر الله، ويكونون رحماء بإخوانهم المؤمنين، ويوم تتحقق فينا هذه الأوصاف، فإننا سنخرج من دائرة الغربة إلى دائرة الكثرة والشمولية. وفي حديث ثوبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى ـ ضم وجمع ـ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها»(2) فهذا الحديث علم من أعلام النبوة، وإخبار صادق بأن ملك هذه الأمة سيبلغ المشرق والمغرب، وأن الخلافة على منهاج النبوة ستعود، وفيه تحفيز للعاملين للإسلام وتثبيت لهم، وشحذ لعزائمهم إلى العمل البنَّاء الذي تسود فيه الرحمة والمحبة، كما فيه إيقاظ الغافلين، وتحميس المتواكلين، وبعث الأمل في نفوس اليائسين، وقطع الطريق على المتربصين. وفي إطار هذه البشارات الثلاث التي تدل عليها هذه الأحاديث، يمكن أن تُفهم أحاديث الغربة، التي يستعملها أعداء هذا الدين سلاحاً للتأييس، وتثبيط الهمم؛ فعن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس»(3).(2/66)
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم ـ ونحن عنده ـ: «طوبى للغرباء! فقيل: مَنِ الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناسِ سوءٍ كثيرٍ، من يَعصيهم أكثر ممن يطيعهم»(4). فهذان الحديثان، فيهما وصف أهل الغربة بأنهم قلة، وأنهم صالحون مصلحون، وأنهم بين كثرة فاسدة، لذلك يعملون للإصلاح، ويحاولون إزالة الفساد؛ وهذا يدل على غيرتهم وتمام قيامهم بواجبهم، فليسوا يائسين مستسلمين، ولا قابعين في بيوتهم، يتأوهون على ما صار إليه الحال من غربة الدين، مسَلِّمين بالأمر الواقع، بل هم على العكس، متحركون، فاعلون، إيجابيون، مواصلون، متشبثون بالدين، منافحون عنه، موسعون لدائرته، متحدُّون لكل العراقيل الموضوعة في طريقهم. قال ابن تيمية ـ شارحاً لهذا الحديث ـ: وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزِع، وكلَّ، وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر، والتوكل، والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون...وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتر بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام كما كان الأمر حين بدأ، وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون في بعض الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً(5)، وقال ابن القيم: «فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً، سُمّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، و أهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع، فيهم غرباء، والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين، أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم … وغربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم»(1).وهذا هو الفهم السليم لأحاديث الغربة، لا ما جنح إليه من لم يفقه عن الله ورسوله مرادهما.
ب ـ ما الواجب على العلماء في زمن الغربة أن يفعلوه؟
الواجب على العلماء مما ألزمهم الله به وفرضه عليهم، هو وظيفة الدعوة إلى الله - تعالى -، والأمرِ بالمعروف بالمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكر. قال - تعالى -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
فهذه الآية تقرر فضيلة الدعوة والدعاة، وأنه لا أحد أفضل عملاً، وأكثر أثراً، وأنفع خلقاً من الدعاة إلى الله، العاملين بالصالحات، المصلحين بالآيات البينات، وهل من فضيلة فوق فضيلة تربية الخلق، ودلهم على الله، وإيصالهم به، وحثهم على ملازمة هديه، وتبصيرهم بطريقه ومنهجه؟ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم»(2) فهذه الفضيلة قد يستقلها من لا يزن الأمور بميزان الشرع، ولا يعقلها بهديه، ويعدُّها مبالغة وترغيباً، لكن لو أمعن النظر لعلم أن كل مهدي ومتعلمِ خيرٍ على يد رجل، فإنه يكتب له أجره في كل ما عمله من خير، دون أن ينقص ذلك من أجره شيئاً، وإذا هُدي أو تَعلَّم على يد ذلك المهدي الأول أحدٌ آخر، فإن أجره يكتب للهادي الأول والثاني، دون أن ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً، وهكذا ما استمرت عملية الهداية تتعاقب في الأجيال.
ولهذا فأجور هذه الأمة المحمدية وحسناتها تكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه الهادي الأول لها، ولا ينقص ذلك من أجر العاملين شيئاً، وهذا يستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده، كُتِب له مثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعدَه، كُتِب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»(3) ويزداد الأجر، وتعظم المثوبة في زمن الغربة، الذي يقلُّ فيه النصير، ويندُر فيه المواخي، ويكثر فيه المخالف، ويَنزُر فيه الموافق، ويشتد فيه الابتلاء، وتعظم المحنة، مما يستدعي مضاعفة جهد الداعية، على واجهات عديدة، كلها مشرعة الأبواب، تنتظر من يلجها ليعالج بالإسلام مشاكلها، ويزيلَ بالوحي عقباتها، ويمهد بذلك السبيلَ للمستضعفين، المغلوبين، لينعموا بنعمة الإسلام، ويتفيؤوا ظلاله، ويستنشقوا عبيره، ويشعروا بنسيمه يدب في أوصالهم، ويتواصلوا بروح جديدة تحيي منهم ما اندثر ـ أو أوشك أن يندثر ـ من معالم الفطرة؛ فطرةِ هذا الدين التي قال الله - عز وجل - فيها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].(2/67)
وهذه الفطرة، هي التي ينبغي للدعاة أن يسعوا لإزاحة ما ران عليها من ركام الذنوب، وأوزار الآثام حتى غلَّفتها، ومنعت الحق أن يصل إليها، فلا بد أن تعود إلى حالتها الأولى نقية صافية، ثم تُملأَ بما ينفع من العلم والعمل الصالح، ولا بد من التخلية أولاً ثم التربية ثانياً، وبهما معاً تصل النفوس إلى كمالها المنشود. وهذه العملية ليست بسهلة وميسورة ينجح فيها كل من ينسب نفسه للدعوة، ويحشر أنفه في صف الدعاة، وإنما ينجح فيها من آنس من نفسه الرشد، واتصف بأوصاف: هي شرائط لهذا الأمر، لا ينفذ ولا يتم إلا بها، وهي كالتالي:
العلم: فالداعية في حاجة إلى أن يكون على دراية تامة بما يدعو إليه وبأصناف المدعوين، حتى تنجح دعوته وتؤتي أكلها، وما يدعو إليه الداعية هو الإسلام، فلا بد أن يصل إلى مستوى البصيرة والرسوخ فيه، قال - تعالى - مبيناً هذا الشرط: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. فما لم يصل الداعية إلى مستوى البصيرة فيما يدعو إليه، فإنه ـ بلا ريب ـ سيخفق في دعوته.
والبصيرةُ تعني أن يكون متقناً لأصول هذا الدين وفروعه، وما يُتوصل به إلى ذلك من وسائل، وأن يكون مجتهداً نسبياً في ذلك، قادراً على إلحاق المتجددات بمناطاتها التي ترتبط بها، ولا يكفي الداعيةَ أن يتعلم مقداراً ضئيلاً من أحكام هذا الدين، ويعتقد أنه به ينقذ الحيارى والهلكى؛ فالداعية المؤثِّر المقتدر، هو من يتصرف في العلوم المطلوبة، ويقدر على ذلك، لشدة ممارسته لها، وطول عكوفه عليها، حتى أصبحت مَلَكة وسجية له، يستطيع بها أن يوجد لكل نازلة حكمها الشرعي الملائم. وأما من اقتصر على الضروريات التي لا بد من معرفتها، أو أتقن جوانب دون أخرى، فحسبُه أن يقتصر في دعوته على ما يعلمه ولا يتعداه؛ فإن فعل فهو من جملة الدعاة، لكن ليس بالمعنى الذي تقرره الآية، ولا يمكن أبداً أن تستقيم الدعوة ولا أن تنجح، في غياب دعاة وصلوا إلى مرتبة البصيرة في الدين وأحكامه وواقعِه الذي ينزَّل عليه ويعالَج به؛ فهذه الدرجة، ينبغي للأمة أن تهيئ لها جماعات يصلون لهذا المستوى، وإلا ضاع الدين وضاعت الأمة بضياعه، وكما تنفق الدولُ ميزانيات لتكوين أطر علمية مقتدرة في الاقتصاد، والصناعة، والسياسة، وتعتمد آراءهم وتخطيطاتهم؛ فكذلك يجب عليها أن تنفق بالمقدار نفسه أو أكثر منه على تكوين دعاة بصراء بهذا الدين، قادرين على التجديد فيه، والاجتهاد في مضامينه، وفق القواعد والأصول المقررة المسلَّمة؛ وبذلك يكون التجديد في الخطاب والوسائل، مواكباً للتجديد في الأحكام والاجتهاد في النوازل، حتى يحور بذلك إلى الإسلام من بحث عن حلول لمشاكله في غيره، فيستعيد ثقته بدينه، ويعوَّل عليه في حل طوارئه.(2/68)
وأكبرُ مشكلة تعترض الدعوة، ويلمسها كل مخلص، هو قلة المؤطِّرين الإسلاميين المقتدرين على هضم الثقافة الإسلامية وهضم الواقع الذي تنزل عليه تلك الثقافة. وما دمنا لم نقتل الماضي بحثاً، ولم نستوعب الحاضر فقهاً، فإننا سنبقى نجتر ما كان، دون أن نفقه معناه لنأخذ منه ما يلائم أوضاعنا. والحركةُ الإسلامية ـ مع امتدادها وانتشارها ـ لا بد لها أن تستشعر بإحساس بالغ ضرورةَ التمكن من العلوم الشرعية، وأخذ أصحابها زمام الدعوة ومِقْوَدَها. ولغياب العلماء القادرين عن بعض المواقع، اضطربت بعضُ مفاهيم الدعوة، وتخلخلت فتاوى المتولين لها، واعوجَّ علاجهم لواقع الأمة وأزماتها، وإذا كان الغرب الصليبي الحاقد أدرك إدراكاً كاملاً خطورة الأطر المتخصصة والمدرَّبة بشكل كاف وممتاز ـ فهيأ لهم لذلك مدارس متخصصة وخاصةً بهم، ووضع تحت تصرفهم ما يحتاجون إليه من ماديات ومعنويات ومشجعات ـ فإنه لم يفعل ذلك سدى، ولا تبناه بغير دراسة، ولكنه أدرك جيداً أن التأثير السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتحولات التي تشهدها المجتمعات، لا تكون إلا برجال أقوياء، تعرَّفوا على سنن الله في خلقه، وبنوا على تلك السنن ما تؤدي إليه من نتائج، فقَلبوا بذلك الدنيا رأساً على عقب، وتحكموا فيها وفي بشرها وخيراتها من المحيط إلى المحيط، فالمأمول في الدول الإسلامية هو التغيير الجذري، ولن يكون ذلك إلا بالإسلام، والإسلام لا بد له من رجال أوفياء، ولن يكونوا إلا العلماء بهذه الشريعة، وبسنن الله في الكون والأنفس والآفاق، وهم الذين تثق فيهم الأمة، وتسلِّم لهم زمام أمرها؛ لأنهم في مستوى الأحداث التي تجري في العالم. فعالميةُ الرسالة المحمدية تستوجب أن يعم نورُها جميع القارات، حتى يخرج الصالحون المصلحون من دائرة الغربة إلى دائرة الكثرة والسعة، وذلك يحتاج إلى العلم بالله، وبشرع الله، وبسنن الله في دينه وخلقه وشرعه وكونه، والبيوتُ تؤتى من أبوابها. قال - تعالى -: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] الحكمة(1): والشرع عند تطبيقه وتنزيله على الوقائع وعلى الناس، لا بد أن تصاحبه الحكمة. ونعني بالحكمة السدادَ في القول والتطبيقِ معاً، والصوابَ فيهما؛ والحكمةُ يدور معناها على هذا، وهي هبة من الله - عز وجل - يمنحها من يشاء من عباده من جهة، ومن جهة أخرى تُصقَل بالمعاناة والتجربة والخبرة. قال - تعالى -: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وهو ما يسمى إتقان العمل. والمراد بالحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والإتقانُ يستدعي تبصُّراً وعلماً، فيتوقف مفهوم الحكمة على العلم، فالحكمة تمنع صاحبها من الجهل، والحكم يمنع من الظلم. والحَكَمة تمنع الفرس أن يجمح بصاحبه، والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق، والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع، كما دخل في الحد بالمنع، جزءُ معناه لا جميع معناه(2).
وهذا المعنى للحكمة، يستمد من الوحي وبه يكون وينمو؛ لأن الوحي كله حكمة، وهو حكمة الله للأولين والآخرين. قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] فوظيفةُ النبوة التعليم والتربية، ولا فلاح إلا بهما، وأي أمة لم تصل مناهجها التعليمية إلى مستوى التزكية، فهي أمة ميتة، ميؤوس منها، والحكمة يتجلى عنصُرها جيداً ويصبح ضرورياً عند التطبيق والتنزيل؛ فكم من قيلٍ هو حق في ذاته، لكنه لما أسيء فهمه عند التطبيق، ووضع غير مواضعه، اشمأز الناس منه ونفَروا، وابتعدوا عنه وتفرقوا، وهو حق يحمل في طياته جميع عناصرالحقيقة، ولهذا المعنى يشير قوله - تعالى -: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]؛ فالمَواطن التي تتطَلب فيها الأناة، لا ينبغي فيها العجلة، ومواطن الرفق واللين لا تجوز فيها الخشونة، ومَواطن القوة لا يجوز إظهار الضعف فيها؛ فكل مدعو يعامَل بأسلوب يناسبه، وهذا هو غاية الحكمة التي أمر الله بها في الدعوة.(2/69)
ولما سوَّى بعض الناس بين المقامات كلها، وخلطوا هذه بتلك، كانت النتائج سيئة أحياناً، ومسيئة للإسلام أحايين، ومدمِّرة تارات أخرى، فانقلبت النتيجة إلى ضدها، وانعكس القصد، وضاعت الجهود، وانحصرت الدعوة في متاهات لا يعلم مداها إلا الله - عز وجل -؛ فكم من حق أسيء استخدامُه، فأصبح في نظر الناس غُولاً يُتقى ويحارَب؛ فمن المسؤول عن هذه الوضعية المزرية؟ إنه من يتصدى للدعوة، وهو خالٍ من علم الدعوة، ومن انتصب لنشرها، وهو لا يملك من أساليبها وحكمتها شيئاً، ولا يعلم عنهما قطميراً ولا نقيراً؛ ولا ريب أن من كان هكذا، فهو آثم شرعاً، متحمل وزر من تنكروا للحق وجحدوه؛ لأنه هو الذي قدمه لهم في صورة الباطل، فنفروا منه، وكل من كان كذلك، فهو مشمول بقوله - تعالى -: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله - تعالى -: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة: «ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(1).
فهذه الأدلة مفيدة أن المتسبِّب في الشيء، يؤخذ بمسبَّبه، ويُسأل عنه، وإن كانت نيته صالحة مع الجهل؛ لأن النية الصالحة لا تشفع للجاهل، ولا ترفع عنه حكم ما تسبب فيه، وإنما تخفف عنه الحكم أحياناً، ولكنها لا تدفعه بالكلية. وهذه الحقيقة لا يعيها كثير من الدعاة إلى الإسلام بدون علم ولا حكمة، وإنما يدفعهم الحماسُ الزائد للدعوة، بحجة أن العلماء المكوَّنين ليسوا بموجودين الآن، وإذا وُجدوا لا يتحركون ولا يعملون، فيجب أن نعمل نحن، وننشر ما نعلم، وغاب عن أصحاب هذه المقالة أن المشروط يفقد بفقدان شرطه، فما داموا يعترفون بأنهم ليسوا من أهل العلم؛ فالواجب عليهم أن يتركوا الدعوة لأهل العلم إذا وجدوا، ويحمِّلوهم مسؤوليتهم أمام الله - عز وجل -، وإذا لم يوجَدوا فعليهم أن يسعوا في إيجادهم وتكوينهم من منطلق فقه: توقُّف المشروط على وجود شرطه.
ثم هم ليسوا كلهم صادقين في أنهم يدعون لما يعلمون فحسب، فجلُّهم يتجاوز ما علمه إلى ما لا يعلمه؛ فكم من واحد نعرفه يدغدغ العواطف في بداية اتصاله بالدعوة بأنه واقف عند ما علمه، ثم لا يلبث أن يتصدر ويُستفتَى، فيستنكف أن يقول: لا أعلم، فيفتي ويقضي فيما أحجم أهل بدر أن يقضوا فيه، وينصب نفسه مصدراً في كل علم، فيَضل بذلك ويُضل، ويدخل في عداد من قال فيهم المعصوم - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(2).(2/70)
والجدير بالذكر أن غربة الدين، يكون هذا السبب أحدَ أسبابها؛ لأنه يتضمن أن يتكلم في علوم الوحي من لا يحسنها، فيقدمها بذلك في حلة باهتة، لا تجلب رغبة، ولا تثير حماساً، ولا تشحذ عزيمة، ولا تنبه الغافلين، ولا تؤُزُّ المعادين ولا تزعجهم، فينشأ عن ذلك الإعراض الكلي، الذي تنشأ عنه غربةُ الإسلام وأهله المتمسكين به، ويسبب لهم وحشة بين أقوامهم. صحيح أن الإسلام ليس حكراًً على أحد، وليس بمحرم على من لم يتخصص في علومه أن يتكلم فيه؛ لأنه رسالة الله للعالمين من الجن والإنس، ولكن ما ليس بصحيح، هو أن يتكلم الإنسان فيما لا يعلمه من دقائق هذا الدين وعلومه؛ والكلام فيه لا بد أن يكون بعلم؛ فمن تكلم في حدود ما يعلمه، وأحال على غيره فيما لا يعلمه، فلا أحد يلومه؛ فلو كان بعض الناس قد التزم بهذا المبدأ لأراح واستراح، ولم يكن سبباً في ضلال أحد؛ ولا في تحريف فهم أحد؛ فهذا القياس لا اعتراض على أحد أن يتكلم وأن يناقش فيه؛ لأن ضروريات هذا الدين لازمة لكل أحد، مفروض عليه علمها والسؤال عنها، فهي مِلك مشاع لجميع البشر؛ ولهذا لا يفترض أن يوجد في ديار المسلمين من يجهل ضرورياته، ولكن يفترض أن عامة الناس ليسوا في مستوى التنظير والاجتهاد والاستنباط؛ فإذا تكلم هؤلاء في هذه الدقائق، فقد ضلوا وأضلوا، والإسلام لا يرغب في ضلالهم ولا إضلالهم؛ فكما لا يوجد عندنا في الواقع طبيب يتكلم في غوامض الطب دون أن يتخصص في ذلك حتى عُرِف تأهلُه فيه، واشتهر فيه علمُه ومعرفته، فكذلك علوم الدين الدقيقة، لا بد أن يكون من يتكلم فيها عالماً بها، متخصصاً فيها؛ فكما ينكر الناس تلقائياً على الأول ويتنكرون له ولا يتطببون عنده؛ فكذلك ينبغي أن يفعلوه مع هذا الثاني، بأن لا يثقوا في علمه، ولا يعتمدوا فتواه، ولا يُكْبِروا أمره، لكن الذي وقع، هو أن الناس منسجمون مع فطرهم وواقعهم في الأول دون الثاني؛ فلن تجد أحداً يأتي غير الطبيب الحقيقي إلا نادراً، ولكن تجد الناس بالآلاف يستفتون من لم يتأهل للفتوى، ويعتبرون العالم من عَطِلَ عن حلية العلم؛ فنشأ عن ذلك ما نلاحظه من رقة التدين، وقلة الحماس لعلوم الدين.
الحِلْم: ومع العلم والحكمة، فلا بد من الحلم؛ فموقع الحلم من الدعوة، موقع العضد من الكتف. والحِلْم يعني ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب(3)، وهو صفة كمال، وليس بصفة نقص، ولذا سمى الله - تعالى - نفسه حليماً، فقال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]. وحِلمُه - تعالى - أنه يعفو عن عباده ويصفح عنهم، ويتجاوز عن عصيانهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، وجعَل لكل شيء نهاية وقدراً ينتهي إليه.
والداعيةُ في حاجة لخلُق الحلم والأناة؛ فبالحلم يقبل من الجاهل، ويعذر المخطئ، ويتحمل الإساءة، وهذا يجعل الخلق مقبلين عليه، راغبين في دعوته، لما يرونه في سلوكه من الأناة، وكظم الغيظ، والصبر على الأذى؛ فالحلم للدعوة، كالإدام للطعام؛ فكما لا يستساغ الطعام إلا بتأديمه، فكذلك الدعوة لا تستساغ إلا بحِلم، ولا ينبغي أن يغفل الداعية أن الحلم لا ينبغي أن يزداد عن حده، ولا أن ينقص عنه؛ لأنه خصلة حميدة بين رذيلتين: رذيلةِ الغضب بسرعة والانفعالِ الاندفاعي الذي يستجيب للنزغات بلا تبصر ولا روية، ورذيلةِ الذلة والبلادة والرضا بالظلم وهضم الحقوق.
والحِلمُ هو العفو عمن يستحق مع المقدرة، والصبر مع من يعترف به، وليس عجزاً ولا غفلة، ولا غباء كما يعتقد بعض، والأناةُ واجهة من واجهات الحلم، وهو تدبرُ الأمور، والنظرُ في مآلاتها وعواقبها، ثم التحركُ لعلاجها وفق ما تتطلبه عواقبها، من حسم، أو إغضاء. ولو كان الحلم إنساناً يمشي على قدميه، ما كان إلا محبوباً عند الناس كلهم، مرغوباً في مجالسته ومعاشرته؛ فلو لم يكن في الحلم إلا عواقبُه الحميدة، لكان محل إجماع على احتياج الناس إليه؛ فما بالك إذا كانت نتائجه وخصاله عديدة.
وأحق من يحتاج إلى الحِلم، الداعية في دعوته، فلا شك أنه يواجه المشكلات وتواجهه، ويصادف التحديات وتعترضه، فلا أمل في أن يتغلب عليها في جل أحواله إلا بالحلم والأناة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشجّ عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة»(1).(2/71)
وكثيرٌ من المواقع التي يمارَس فيها التشنج، والغلظة، وعدمُ الأناة، وقلةُ الصبر، تراجعت فيها الدعوة، وهانت فيها كلمة الحق؛ لأن النفوس التي تحملها لم تَتربَّ على هذا الخلق الرفيع، وقد لا تعرف إلا التشدد مسلكاً، والتيئيس شعاراً، والتعنت أسلوباً، والإعجابَ برأيها منهجاً متبعاً، لذلك ترى مثل هذه النفوس الهزائمَ انتصاراً، والانتكاسات تقدماً، فانقلبت حقيقة الدعوة إلى سوق من البغضاء، والفرقة، والجدال حول أمور ما وُضعت مواضعهاالحقة لتظهر نصاعتها وأحقيتها، مع العلم أن الرفق، من أعظم الأعمدة التي بنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته، ووصل به إلى الانتصارات الباهرة في فتح مغاليق النفوس، قبل الانتصار على أعداء هذا الدين. قال - تعالى -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
فانظر إلى تقرير القرآن أن خُلُق اللِّين والحِلم، هبة ورحمة من الله لعباده، وأن خلق الفظاظة والغلظة، ينفِّر الناس، ويبعدهم عن الداعية، ويفرقهم من حوله. فما أحوجنا أن نحذو حذو المواقف النبوية في تطبيقات هذا الخُلُق الفريد. عن أنس بن مالك قال: «كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، ثم أمر له بعطاء(2). الله أكبر؛ إنه كمال النفس في كمال خُلُق يتحمل الأذى، ويتجاوز عن المسيء، ولا يقابله بمثل فعله؛ فهذه الأخلاق الرفيعة، هي التي أثرت في الأعراب ذوي الطبائع الشرسة، والأخلاق الشكسة، فأذعنوا للحقيقة وأسلموا وجوههم لله وحده.
فما أحوج الدعاة في زمن الغربة، التي كثر فيها الأذى والقذى، أن يستلهموا مواقف دعوتهم من سيرة سيد العرب والعجم، ولهذا فالقوة لا تقاس بقوة الجسم، وإنما تقاس بقوة النفس على التحمل، وكظم الغيظ، وعدم مقابلة السيئة بمثلها، وشاهد هذا حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(3). ولما طلب رجل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوصيه بأعلى خصلة حسنة يتصف بها المرء، قال له: «لا تغضب»(4) لأن الغضب خلُقٌ مدمر للمروءة، مفسد للعمل، مبعد للناس عن صاحبه، موصِد لأبواب التواصل الذي هو أحوج ما يحتاج إليه في زمن الغربة لإزالة الغربة، وإن لم يكن في الغضب من السوء إلا تغيُّرُ الملامح، وانتفاخ الأوداج، لكان يليق بعاقل عادي أن يتركه، فما بالك إذا كان داعية متصدراً لهداية الناس وإرشادهم. جعلنا الله - تعالى - ممن تخلَّق وتحمَّل، وعمل لدينه وأمته وما توانى، والحمد لله رب العالمين.
--------------
(1) أخرجه مسلم في الإمارة/1523/23/3 وأخرجه البخاري في كتاب الاعتصام من حديث المغيرة بن شعبة. ح 7311.
(1) حديث صحيح: أخرجه أحمد في المسند 103/4 والحاكم 4/430 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وله شاهد عن المقداد بن الأسود عند ابن حبان 6699.
(2) رواه مسلم في الفتن 4/2251/3.
(3) أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 1/66، بإسناد صحيح.
(4) أخرجه أحمد 222/177/2، والطبراني في الكبير ـ كما في الجامع 10/259، وقال: وله في الكبير أسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح، قلت: وصححه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في المسند.
(5) مجموع الفتاوى 291 ـ 503/18.
(1) مدارج السالكين 3/195، 196.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، حديث 3701، ومسلم كذلك 4/1872.
(3) أخرجه مسلم في العلم 4/2061، 2062.
(1) المفردات للراغب الأصفهاني ـ مادة حكم 127.
(2) مجموعة الرسائل لابن تيمية 2/7.
(1) أخرجه مسلم.
(2) أخرجه البخاري في العلم - بالفتح - 4/2085/ ومسلم في كتاب العلم 1/234/ وروى أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة أن ذلك كان في حجة الوداع.
(3) مفردات الراغب: ص 129.
(1) أخرجه 1/48 - مسلم في الإيمان.
(2) أخرجه البخاري - بالفتح - في الخمس 6/251.
(3) أخرجه البخاري - بالفتح - الأدب - 4/2014 ومسلم 10/518.
(4) مسلم 10/518.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
================
الغربة
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
قبل أكثر من سنة، وصلتني رسالة من فتاة تشكو غربتها في بيت أهلها، ولم تكن تلك الرسالة هي الأولى وبالتأكيد ليست هي الأخيرة!
ولما تأمّلت الرسالة وجدت أننا ربما صنعنا الغربة بأيدينا! كيف؟
نُحيط أنفسنا بهالة من الوهم -ربما-، ثم لا نخرج منها! أو ينفرد الصالح بصلاحه، أو يتقوقع داخل دائرة ضيقة محدودة، فلا يرى في الصفحة البيضاء إلا الأسطر السوداء!
بل ربما رأى أسطر الصفحة البيضاء كأنها قضبان سجن!(2/72)
إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم (يوسف الصّدّيق - عليه الصلاة والسلام -) أُلقي في الجبّ وهو صغير فلم ييأس، وبيع بيع العبيد بثمن بَخْس فلم ييأس، وسُجن بعد أن استبانت براءته فلم ييأس، ودخل معه السجن فَتَيَان فاغتنم الفرصة ليدعو إلى الله وتوحيده - سبحانه وتعالى -!
إنها دعوة إلى الله أولاً، ودفع لغربته ثانياً، وذلك بأن يُكثر حوله الأتباع على دينه.
ثم سجن سنين عدداً مع عِلم ويقين من سجنوه أنه برئ، وطُلِب منه تعبير رؤيا فلم يتأخر، بل أمحض لهم النصح، فأحسن إليهم رغم إساءتهم إليه. وطُلب منه الخروج من السجن فتأخّر!
حتى تُعلن براءته للجميع. ولما مثُل بين يدي عزيز مصر تطلّعت نفسه إلى الإصلاح فقال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
فكان من شأنه ما كان حتى تحققت رؤياه بعد زمن طويل: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}..
هكذا عاش يوسف الصديق - عليه الصلاة والسلام - غريباً لكنه حاول دفع الغربة بكل ما أمكنه من وسيلة.
وأعجب من هذا، أن تقف أمام قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - الموصوف بالقوة في القلب والبدن، المنعوت بالأمانة في الديانة، يخرج خائفا وجِلاً بعد أن جاءه النذير فقال: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
خرج خائفاً وحيداً شريداً طريداً، يتلفّت يمنة ويسرة ينتظر الطّلب ويخشى أن يُدركه.
قال البغوي: "وكان موسى قد خرج خائفاً بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد، وكانت مدْين على مسيرة ثمانية أيام من مصر". ا.هـ.
وقال القرطبي: "لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء.. ولما رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوّه من زاد وغيره أسند أمره إلى الله - تعالى -بقوله: {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ}.
ولما ورد ماء مَدْيَن ورد على حين تعب ونصب وجوع وخوف، لكنه لم ينس صنائع المعروف، فسقى للفتاتين {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}؛ فهو لم ينسَ أنه بحاجة إلى العون الرباني، وإلى العناية الإلهية؛ فهو وحيد فريد، شريد طريد.. لا أهل ولا مأوى، لا صديق ولا حبيب، لا قريب ولا أنيس..
وسبحان الله اللطيف الخبير، تنقلب الغُربة إلى أُنس، والوحشة إلى سرور؛ فيُدرك الضيافة، ويجد العون والعمل والزوجة!
فأي غُربة كان فيها؟ وأي وحشة كان سوف يُعانيها لولا صنائع المعروف؟ فيعود من رحلة الفاقة والمسغبة، وقد تأهّل وزالت غربته، وكان معه من يونس وحشته.. ذهب حافياً وعاد مُنتعلاً، حتى قيل له: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}.
فلم يصل إلى أرض مصر إلا وقد أُوحي إليه.
هكذا عاد رافع الرأس حتى وقف أمام فرعون مرّة قائلاً: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يفِرْعَونُ مَثْبُوراً}..
وإذا العناية لاحظتك عيونها ** نَمْ فالحوادث كلّهن أمان
إن باستطاعتنا أن نُزيل عوامل الغربة التي نعيشها أو على الأقل أن نُضعفها.. ولكن، كيف؟!
عندما يهدي الله شابا أو فتاة في بيت يعجّ بالمنكرات، بل ربما في بيت يفشو فيه الشرك والكفر، فيجد نفسه ضعيفاً غريباً في وسط يُعارِضه في كل قول وفعل، فيبقى يشكو وَضْعه ويندب حظَّه، ويعيش مع رؤوس أموال المفاليس (الأماني)!
لكنه لم يتحرّك خطوة واحدة ليزيل عنه الغربة، وليكشف عنه الكُربة؛ لا يجتهد في دعوة أو في دعاء.. ربما كان له حظّ من قيام، أوْ له نصيب من صيام، وله دعوات صالحات، وبينه وبين مولاه أسرار..
ولكنه أغفل استغلال هذه الفُرص، وعجز عن استعمال هذا السلاح.. أمَا إنه لو اجتهد على والد أو والدة، أو أخ أو أخت، ورأى أقربهم إليه، وأكثرهم تعاطفاً معه، وأحبهم إلى قلبه، فجعله غَرَضاً لدعوته، وهدفاً لإصلاحه، فبدأ به عبر رحلة الألف ميل، يدعوه ويدعو له. إن قام في ليل دعا له، وإن صادف ساعة إجابة أشركه في دعائه، وإن صام وحضّر إفطاره، لجّ في الدعاء، وألحّ على الله.
فما هي إلا دعوات صادقة، وجهود مُبارَكة، فإذا بذلك المدعو يسير في رِكابه، ويشدّ من أزْرِه، فيتّخذه عوناً له -بعد الله- على هداية بقية الأسرة، وإذا به قد كسب الرِّهان، وكسر حاجز الغُربة، ووجد من يُناصرِه ويعضد قوله.
وما هي إلا سنوات وبتوفيق الله تكون الأُسرة قد سَلَكَت طريق الهداية، وربما أصبح اللائم بالأمس على الهدى والاستقامة يلوم على التقصير وضعف الاستجابة!
ووالله لقد رأيت هذا رأي عين!(2/73)
شاب حجّ البيت فسمع أن من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فعزم على فتح صفحة بيضاء، بدأها فور عودته من الحج بأوبة صادقة، هدم معها بناء المعصية، وأقام صروح الطاعة. وكانت أسرته تلومه أن تشدّد -حسب زعمهم- وما هي إلا سنوات حتى كسر حواجز الغربة، وأزال حب المعصية، حتى أصبح - أحياناً - يُلام على بعض تقصيره -الذي كان يُعدّ بالأمس تشدّداً -! ووجد من يأخذ بيده -إن لم يكن بتلابيبه- ليقول له: اتق الله. ووجد من يُقوّمه إذا اعوجّ، ويشد من أزرِه إذا تذكّر.
والمشكلة تكمن أحياناً في اليأس، وأنه لا سبيل لإصلاح من يعيش بينهم، وأنه لا يُمكن أن يهتدوا، وأن قلوبهم تشرّبت حُبّ المعصية كما تشرّبت قلوب بني إسرائيل حُبّ العجل!
ليس أحد أشد من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قيل عنه: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب! قيل ذلك مُبالغة في اليأس منه ومن إسلامه!
ولكنه ما لبث أن أسلم فقيل عنه: كان إسلامه فتحاً على المسلمين، وفرجاً لهم من الضيق.
وقال عبد الله بن مسعود: وما عبدنا الله جهرة حتى أسلم عمر!
ولقد حرص الصّدّيق - رضي الله عنه - منذ أول وهلة دخل فيها الإسلام على كسر حاجز الغُربة، فاجتهد في دعوة الأقربين، وحرص على صنائع المعروف حتى أعتق الأعبد، فقد أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله، وهم: بلال بن أبي رباح، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبيس.
فمن أراد إزالة الغربة فليبدأ بأقرب أهله إليه، وليحرص على صنائع المعروف، وليُحسن إلى أهله حتى يُرى أن صلاحه ما زاده إلا بِرّاً وإحساناً.
والله الهادي إلى سواء السبيل..
بتاريخ: 02 - 05 - 2005
http://www.islamway.com المصدر:
================
أنا.. والغربة
خالد البيطار
أنا مهما أبعدتني المحنُ *** ليس لي في غير روضي سكنُ
فاعصفي يا ريح ما شئت على *** باسم الزّهر وطُلْ يا زمن
إن قلبي صابر محتسب *** وعلى غرسته مؤتمنُ
أنا إن طال اغترابي وبدا *** في جبيني وعيوني الوَهنُ
وغدا دربي الذي أسلكه *** ملؤه غيمٌ ثقيلٌ دَكنُ
ففؤادي واثقٌ من خطوه *** يبتغي النصرَ وهذا ثمنُ
أنا إن قلَّ عتادي ونمى(1) *** أمره في الناس حتى افتتنوا
وغدا زادي الذي في جعبتي *** خشناً تطفح منه المننُ
لن تراني يائساً مستسلماً *** إنّ ظني بإلهي حسنُ
-----------------------------
(1) نمى ينمي:نمى الخبر وانتشر وذاع.
http://www.odabasham.net المصدر :
==============
الغربة والغرباء
مالك إبراهيم الأحمد
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء« [1].
وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء « قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: » الذين يَصلُحون إذا فسد الناس« [2] وروي بزيادة بلفظ: »قيل ومن الغرباء؟ قال: النُّزاع من القبائل« [3].
كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم« [4].
في الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب ذلك ويفتن في دينه، ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم. وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا) لقلة المتمسكين به. وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس.
أما فتنة الشبهات فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة [5].
وأما فتنة الشهوات فقد بين الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذلك حيث قال: »والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم« [6].
أما فتنة الشبهات فينجى منها الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث. »لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك« [7] وهم الغرباء في آخر الزمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: »..وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا فطوبى لمن تمسك بالشريعة كما أمر الله ورسوله« ا هـ.(2/74)
قال ابن القيم: »..فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جداً سُمُّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء. وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين. هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين«.
وقال أيضاً: » ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم.
فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم«.
وقال أيضاً: »فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه واذدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه - صلى الله عليه وسلم -، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم« [8].
ونجد في كتب السلف مدح السنة وأهلها، ووصفهم بالغرباء. قال الأوزاعي: » أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ترفقوا - يرحمكم الله- فإنكم من أقل الناس «.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: » إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غرره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار «.
وقال الآجري في وصفه الغريب: » فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة ويئن بزفرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا يبالي بذهاب دنياه إذا أسلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران « ا هـ.
وكما بين الحديث أن الغرباء قلة في الأزمان، من يطيعهم قليل ومخالفوهم كثير، وهم صنفان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح نفسه ويصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى الصنفين وأفضلهما.
والغربة أنواع: أولها غربة أهل الحق، أهل الله وأهل الإسلام بين المسلمين وهي الغربة الممدوحة، وأصحابها هم الطائفة المنصورة.
والغربة الثانية: هي غربة الباطل بين أهل الحق وهي غربة مذمومة.
والثالثة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن الوطن.
صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره:
والغريب قد يكون غير مشتهر عند الناس، ولا يأبه به كما ورد في صفة الغريب بعض الأحاديث، منها: حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » طوبى لعبد مغبرة قدماه في سبيل الله - عز وجل -، شاعث رأسه، إن كانت الساقة كان فيهم، وإن كان في الحرس كان منهم، وإن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له « [9].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » رب أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله - عز وجل - لأبره « [10].
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » إن الله يحب العبد النقي الغني الخفي « رواه مسلم في صحيحه.
وروى البيهقي في الأسماء والصفات أن عمر بن الخطاب دخل المسجد فوجد معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك - لرجل من أصحابه -؟ قال: لا.
ولكن حديثاً حدثنيه حبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في هذا المسجد.
فقال: ما هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أخبرني أن الله - عز وجل - يحب الأخفياء، الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة [11].
ونختم حديثنا عن الغرباء بقول الآجري - رحمه الله -: » من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته.(2/75)
فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك.
فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة..«.
---------------------------------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير، رقم 1576.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1273.
(3) توقف الألباني في تصحيحه وتضعيفه انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1273.
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1619.
(5) انظر رواياته في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204، 205.
(6) رواه البخاري في صحيحه.
(7) رواه البخاري في صحيحه.
(8) مدراج السالكين 3 / 194-201.
(9) رواه البخاري تعليقاً، والطبراني بإسناد صحيح.
(10) رواه الترمذي وحسنه.
(11) قال محقق كتاب الغرباء:إسناده صحيح، وروي بطرق كثيرة فيها ضعف.
http://www.albayan-magazine.com المصدر :
================
مداراة في الغربة
نعماء محمد المجذوب
تداعيات موقف:
نزلنا من القطار في «سدني»، واجتزنا حواجز عديدة، ثم سرنا في الطريق الطويل المؤدي إلى شاطئ البحر، لتقلنا سفينة إلى الغابة الشاسعة التي تضم في أرجائها أنواعاً شتى من الحيوان، بين الصخور، وفي الكهوف، والطرقات الملتوية في صعود إلى التلال، وهبوط نحو الأودية.
كانت الأشجار تزين جانبي الطريق، والطبيعة تنثر من أزهارها، وأريجها، وجمالها في كل ركن، والناس يتجهون نحو المرفأ في ازدحام شديد، ليزيلوا ما علق بهم من إرهاق العمل، في أحضان الغابات.
كنت في سعادة غامرة مع بعض أفراد أسرتي، وفي نفسي شره للاستمتاع بجمال المناظر الرائعة في «أستراليا» قبل أن أعود إلى وطني، فلفت بصري وسمعي الفرقة الموسيقية تسير ببطء، وتذرف أنغاماً حزينة في الأجواء، فتلقي ظلالاً من الوجوم والكآبة على الوجوه في صمت ثقيل فلا يسمع إلا وقع الخطى، على رغم بواعث البهجة والسرور.
الجرح العميق:
إنه اليوم السابع عشر من سبتمبر، والجرح العميق لم يزل ينزف منذ اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه، لاحظت العيون ترمقنا بشذر، والجوانح تنطوي على غيظ يكاد يقفز من الصدور كالأسنة والسهام، وتود لو تلقي بنا في عرض البحر.
والحق أننا لم نحافظ على وصية جاليتنا العربية المسلمة في عدم الظهور في هذه الأيام العصيبة، فقد يسبب لنا ذلك التعرض للأذى من قبل الأستراليين الحاقدين على المسلمين الذين لا يزالون في قفص الاتهام، فخروجنا، والسير بجانبهم يشعرهم بالتحدي لهم، والشماتة بهم، لم نفكر سوى بالتنزه، ولملمة أحلى الذكريات والصور من «سدني» الجميلة.
تغافلنا عما تتعرض له المساجد من حرق وتحطيم، استدعى أهل الغيرة والمروءة من الشباب المسلم كي يبيتوا فيها لصد أي اعتداء عليها، ولا ما يتعرض له طلاب الجالية من رشق بالحجارة، وشتائم وهم في الحافلات التي تقلهم إلى المدارس، حتى الأستراليون الذين اعتنقوا الإسلام هم وأبناؤهم لم يسلموا من الأذى والإهانة بأساليب متنوعة، كما بدا ذلك في إهمالهم، وعدم التعامل معهم في المحلات التجارية، وفي مقر أعمالهم، ورميهم بالألفاظ المشينة الجارحة، والسخرية والاستهزاء بهم، وبخاصة المتحجبات من النساء.
تمثال الحرية:
استرعى انتباهي ونحن نشق الجموع «تمثال الحرية» القابع فوق قاعدة رخامية مرتفعة، يمثل امرأة تحمل في كف يدها الممتدة في الهواء مشعل الحرية، وفي الأسفل منه صندوق لجمع التبرعات. وقفت حياله لحظات أتأمل بإعجاب دقة النحت والتصوير، والفن الرائع البديع الذي يماثل الواقع، ولكن سرعان ما تملكتني الدهشة حين أعرض التمثال بوجهه عني واستدار نصف استدارة، صوبت بصري إلى القاعدة، فلم أجد ما يدل على شيء يحركه، استدرت مع استدارته، وكررت النظر والتدقيق، فوجئت بالعينين ترمشان، وقتئذ تأكدت بأنني أمام امرأة حقيقية، مموهة بلون الرخام من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، وتخايل في عينيها شحنة من الكرة ممزوجة بالأسى..قارنت بين تطلعاتها وتطلعات الناس، فوجدتها تنبع من إحساس واحد، هو الألم النفسي المكتوم، والرغبة الملحة في الانتقام منا، مما أصاب البرجين الشاهقين في «نيويورك».
أخطأنا في الخروج:
بالفعل كانت مغامرة منا، إذ أخطأنا في الخروج في هذا الظرف القاهر، كان علينا أن نتريث، ونداري مشاعرهم كي لا يفسروا الأمر بما يحلو لهم ونحن بين ظهرانيهم.(2/76)
لملمت أشتات نفسي لاستهانتي بالنصح المقدم إلينا من إخواننا، إذ كان علينا الاعتكاف والمداراة ما دمنا في ديارهم «فدارهم مادمت في دارهم».
نظرت إلى وجه المرأة «التمثال» بتأسف واعتذار عما حصل، ثم ألقيت في صندوق التبرعات ما تيسر، وشجعت أفراد أسرتي على مثل ذلك، ولأن نظراتها القاسية كانت أشد وقعاً على نفسي من الصفع، ودعتها بقبلة صامتة فيها لطف ومحبة، فبادلتني الشعور بمثله بصمت، ورأيت شفتيها تهمسان بكلمتين موجزتين لم يسمعها غيري تشكرني بالإنجليزية والعربية معاً.
لم أستطع أن أخفي دمعتين تدحرجتا على رغم مني، لوحت لها مودعة، بادلتني برموشها وصفاء عينيها الوداع، ثم تابعت المسير، وبعد فترة التفت، فإذا بها لم تزل في وقفتها بجمود التمثال الرخامي.
ماجت في صدري تداعيات متناقضة، وتساؤلات محيرة حول علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فالبشرية من أب واحد وأم واحدة «آدم وحواء»، أليس من الخير التعايش بسلام ووئام؟! أم أن إبليس قد نجح في تكوين حزبه حزب الشيطان ليغوينا بالعداوة والانتقام، ونتوارث الشحناء والبغضاء منذ بدء الخليقة.
قفزت إلى ذهني الآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم... » الحجرات/13.
فديننا يدعو إلى الالتفاف حول الإله الواحد، وإلى السلام، وتبادل العلوم والمعارف الإنسانية، مع التشديد على عقيدة التوحيد، والتعامل بالقيم والفضائل الإسلامية بالتقوى.
http://www.al-mostaqbal.com المصدر:
=================
عودة الغربة
عبد الباقي شرف الإسلام
الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والصلاة والسلام علي إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى أصحابه وأهل بيته وأزواجه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
فإن مما لا شك فيه أننا نعيش زمن غربة شديدة، وهذا أمر أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع بقوله في حديث أبي هريرة عند مسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"، وقد تتبع الحافظ ابن رجب طرق وروايات هذا الحديث في رسالته الثمينة (كشف الكربة في وصف أهل الغربة)، ويمكن تلخيص الخصال التالية لأهل الغربة:
1. أهل الغربة هم النزاع من القبائل (رواية أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود)، أي أنهم قلة قليلة جداً كما كان المسلمون في العهد المكي يسلم الواحد والاثنان من القبيلة المؤلفة من ألوف وقبائل ليس فيهم مسلم واحد.
2. أهل الغربة يصلحون إذا فسد الناس (رواية الآجري).
3. أهل الغربة يفرون بدينهم من الفتن.
4. أهل الغربة يصلحون ما أفسد الناس من سنة الرسول صلى اله عليه وسلم - (رواية الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده).
5. أهل الغربة قوم قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (رواية أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو).
6. أهل الغربة فرارون بدينهم، يبعثهم الله مع عيسى - عليه السلام -.
وإن من الخطأ أن يظن الظان أن الغربة الثانية سببها قلة من ينتسبون إلى الإسلام، بل هم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، أما أهل الغربة فهم الفئة المتمسكة بالسنة عقيدة وعملاً ومنهجاً، وهذا الذي فهمه الإمام الأوزاعي من هذا الحديث حين قال: " أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد"، وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول لأصحابه: "يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس"، وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: "استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء"
والسبب الرئيس لغربة الدين أمران: الشهوات و الشبهات. وقد خشي الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته منهما كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي برزة "إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم و فروجكم ومضلات الفتن"، ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه بكى، فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم، ولعله رضي الله عنه تذكر قول المصطفي - عليه السلام -: "كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون" [أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما].
وعندما شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الغربة الثانية بالغربة الأولي فإن علينا أن نوازن بين المجتمعين (المجتمع المكي والمجتمع الراهن) لنستجلي مواضع الشبه في الجوانب التالية:
قلة العدد:
كان عدد الداخلين في الإسلام قليل (نزاع القبائل)، وهذا الذي ذكّر الله به المؤمنين بعد تكوين المجتمع المدني "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ" (الأنفال: من الآية26)، وهذا هو حال أهل السنة السائرين على منهاجهم إيماناً وعقيدة وسلوكاً في هذا الزمان فهم اليوم قليل - نسأل الله أن يجعلنا منهم-.
وجود الشهوات:(2/77)
فقد كانت أبواب المغريات مفتوحة على مصراعيها للحيلولة دون وصول هذا الدين في آذان أهل مكة ومن حولها، وسلكوا شتى وسائل الترغيب والترهيب لصد الراغبين في دخول الإسلام أو لإرغام الداخلين فيه للخروج منه، وقد نال قائد الغرباء في المجتمع المكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الكثير، وعرضوا عليه الملك والزوجة والمال، وعندما استطاع محمد أن يطرب قلوب القوم بالوحي الإلهي، سعي أولئك أن يطربوا أسماعهم بالوحي الشيطاني وأحضروا القينات والمعازف.
أما الشهوات في غربتنا فحدث ولا حرج، حتى أجلب إبليس وأعوانه من شياطين الإنس علينا بخيله ورجله، وامتطي صهوة الثورة التقنية والإتصالات ليفتح أبواب الشهوات في غرفة النوم عند غياب الرقيب عبر القنوات الفضائية ليلقي محاضراته وفي أكاديمياته وعلى الهواء مباشرة!
وجود الشبهات:
أثار كفار قريش شبهات كثيرة حول الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفوه بأنه ساحر، وكاهن ومجنون، وأنه يفرق بين المرء وأحبته، وأن الذي يأتيه شيطان ما يلبث أن يتركه، واستعانوا بعلماء سوء من يهود المدينة لإثراء شبهات حول الدعوة، حتى أنهم تحملوا كل المسؤوليات وأصدروا وثيقة تأمين عجيبة "اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم"، ويحدثنا الصحابي أبو ذر الغفاري أن أهل مكة حذروه من سماع كلام محمد حين قدم إليها قبل اعتناق الإسلام حتى إنه وضع القطن في أذنيه!
وتدور الأيام ويعود الإسلام غريباً وتصاغ الشبهات العظام ويتولى كبرها أهل الملل والأديان ومن افتتن بهم من أبناء المسلمين اللذين شكلوا طابوراً خامساً يفتتون في عضد الأمة ويصطادون في الماء العكر، ورمي من التزم بالسنة بالإرهاب، وأعيد صياغة "عبادة رب محمد سنة على أن يعبد محمد الأصنام سنة" في قالب التسامح والتعايش ودين إبراهيم وحوار الأديان وطمس الكراهية ضد الأديان، ومحو مفهوم الولاء والبراء والجهاد، والتهكم بسنن المصطفي - عليه السلام - وإخراج المرأة من نور العباءة السوداء إلى ظلمة حضارة الرجل الأبيض!
من يعصهم أكثر ممن يطيعهم:
وهذا واضح في المجتمع المكي حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتابه شيء من اليأس فكان الله دائماً يسليه في غربته "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" (الكهف: 6)، "وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (الأنعام: 35).
أما في غربتنا فهو واضح أيضاً، فإن علماء السنة اللذين يعرفون الحق ويرحمون الخلق لا يسمع لنصائحهم ولا يستجاب لمبادراتهم، ويطرق جميع الأبواب للمشورة إلا بابهم، وهل نقموا منهم إلا أنهم سلكوا سبيل السلف في نصح الأمة؟ وهل هم إلا الدعاة لمنع خرق السفينة، ليس أدق من وصف غربتنا من هذا الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً".
وتأمل كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول: إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في (الحلية)، وبعد أن أورد ابن رجب هذا الأثر عقب عليه قائلاً: "فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟ " ونحن نعقب على ذلك ونقول: وكيف الحال إذا علم الأنطاكي والحنبلي أن اليهود والنصارى يملون على المسلمين دينهم ويرسمون الخطوط الحمراء التي يحظر على المسلمين تجاوزها حتى وهم في البلاد الإسلامية!! وكيف الحال إذا علما أن شيخاً مقعداً أفنى حياته نصرة للأقصى من براثن اليهود يغتال ثم لا يستنصر!!(2/78)
و تأمل أيها المغترب قول الحسن: لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعِثَ اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لئن عاش إلى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله - عز وجل - وقلبه يحن إلى السلف الصالح فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم. [أخرجه الإصبهاني]
ولعلنا في زمن الغربة نسلي أنفسنا بصفات أهل الغربة التي سطرها الإمام علي - رضي الله عنه - ولعله قال هذه الكلمات في أواخر أيامه حين هجمت عليه الهموم من كل جانب، فقوم فرطوا فيه حتى أخرجوه من دائرة الإسلام وقوم أفرطوا في تعظيمه حتى عدُّوه إلهاً من دون الله يقول - رضي الله عنه-: "والله هم الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم" [رواه أبو نعيم عن كميل بن زياد]
28/3/1425
http://www.almoslim.net المصدر:
===============
وانمحى عار الغربة
بديع الزمان الهمذاني
وعادت ابنتي البالغة من العمر السابعة من رحلةٍ إلى الشرق العربي واستقبلتها في المطار وعانقتها، وقالت كيف حالك يا أبي؟.. ونطقت بالجواهر! لقد أجابتني بالعربية واسترسلت تقصُّ لي بعض وقائع الرحلة بالعربية.
لقد تعجبت من رحلة الشهر هذه وأثرها اللغوي. وللعلم فإني كنت أكلم ابنتي دوماً بالعربية، ولغة المنزل لغةٌ عربية ما خلا بعض المصطلحات الإنكليزية التي لا أعرف لها مقابلاً أصلاً. ولقد بذلت عائلتنا جهدها في المحافظة على العربية وتذكيتها … فمنذ نعومة أظفار الأولاد جلبنا لهم شرائط "افتح يا سمسم" وجلبنا لهم العديد العديد من القَصص العربي، وبعثناهم إلى مدارس نهاية الأسبوع لتعلم العربية والتوجيهات الإسلامية. حتى أننا (الأم والأب) عدّلنا من لهجتنا العامية ونحاول ما استطعنا استعمال كلمات فصحى أو أقرب للفصحى. ولكن.. ورغم هذا الجهد فإن ابنتي كانت تسمع منا العربية وتستجيب بالإنجليزية.
ولقد حدث أن زارنا صديق خلال سفر أولادي للمشرق واجتمع بأولاد صديقٍ لي مهاجر حالُ أولاده يشبه حال أولادي، فعاب عليهم أنهم يجيبون بالإنكليزية ورأى في ذلك انسلاخاً عن الهوية الإسلامية المتمركزة حول لغة القرآن ولام الأهل على تفريطهم ووعظَ وتفلسف. ولو رأى أولادي قبل سفرهم لنالني من التعنيف ما نال الصديق ولشعرت بالعار من قدمي إلى مفرق رأسي.
والذي أريد أن أشير إليه هنا أن تقييماتنا الاجتماعية كثيراً ما تكون متعسفةً تنظر إلى الظاهر ولا تراعي الظرف والواقع. من هنا فإنني أرى أن أي تقييم سلبي لأولادي (قبل اللمسة السحرية والإجابة بالعربية) هو ظلمٌ لهم ولجهودنا العائلية في الحفاظ على عربيتهم. وهذا ليس اعتذاراً عن أولئك المتفرجين الذين لا يهمهم إلا أن يرطن الولد بالأعجمية، فكما قدّمت نحن من الذين بذلوا جهدا لا بأس به في تثبيت اللغة، ولكننا حكما محدودون بالوسائل المتاحة من مدارس الجالية ومدى جودتها وفعاليتها والقصص المبسط. محدودون بتوفر الكتب العربية و تعليمها لأولادنا، ومحدودون بالإنتاج المرئي والمسموع بالعربية. أي أن المسألة تتجاوز أفراد العائلات(وإن كانت لا تنفي مسؤوليتها) لتكون مسألة أمة. والتقييم المتعسف هذا ليس مشكلاً من باب أنه يظلم بعض العائلات، بل لأنه يصرف النظر عن المهمة الجماعية المطلوب أن تشارك في تحقيقها الأمة.
إن اللغة تُعتبر بعداً حضارياً من أبعاد أمتنا لابد أن يرعى ويخدم، والتحدي الحضاري اليوم لا يعكس نفسه فقط في الاقتصاد والسياسة بل وفي اللغة أيضا. فاللغة هي الوعاء الثقافي الذي يحتضن المشاعر والمفاهيم ويساهم في رسم نسق ثقافي للأمم، وأحد زوايا مشكلة قوة اللغة وبقائها وانتشارها هو التجديد فيها. وما يقال في الفقه عن ضرورة التجديد يمكن أن يقال في اللغة. وربما لا يشعر أحدٌ بوطأة قصور التجديد في اللغة مثل المهاجر الذي يسعى إلى تعليم العربية، وذلك أنه تعترضنا في تعليم العربية كثير من العقبات التي يمكن أن تذلله الجهود الجماعية. فإذا كان هناك وجهٌ لغوي في لفظ أو إعراب يبسط اللغة ويخفف مثلا من حالات الشذوذ، ويُدرج عدداً أكبر من المسائل تحت قاعدة عامة… فإن مثل هذا التجديد يسهل انتشار اللغة وبقائها. ومثل أي تجديد فإن هذا النوع من التجديد يمكن أن يكون اعتباطياً يحرف اللغة وينقضها، ويمكن أن يكون تجديدا مبصراً يزيد في نماء اللغة.(2/79)
أعود لتعنيف صاحبنا علينا لأقول أن فيه أيضا إشكالاً من ناحية الحس الحضاري المعاصر، ذلك أن تعدد الألوان والألسن من آيات الله التي لا تمحى ولم يرد الإسلام نسخها من تاريخ البشرية و واقعها. وإن الوعي الإسلامي المعاصر يجب أن يدرك هذا، فالأمة الإسلامية تمتد على شريحة واسعة من اللغات. والذي أقترحه هنا أن الإسلام لا يبغي شنّ سياسة تعريب موازية لسياسة الفرنسة في الجزائر مثلاً، وإنما الذي يبتغيه الإسلام هو جعل العربية اللغة العالمية مع المحافظة على اللغات المحلية. بل إننا إذا كنا في سياق مناقشة اللغات التي يتكلم بها العالم الإسلامي فإنه تبرز لنا مفارقة جديرة بالاهتمام: إن اللغات المحلية الإسلامية أصبحت حاملةً لمعاني إسلامية وجزءاً لا يتجزأ من هوية تلك البلاد الإسلامية. أي أن تصور تدمير هذه اللغات (الأردية مثلا) فيه تدمير للهوية الإسلامية ذاتها.
أعود إلى حالة المهاجر في الغرب لألفت النظر إلى نقطة يصعب على العرب تصورها. ذلك أن الهوية الإسلامية للناشئ في الغرب ليست مرتبطة مطلقاً باللغة العربية، بل هناك بالإضافة إليها لغة إنكليزية إسلامية (إن صحت التسمية).. ولو زرت الجاليات المسلمة التي لا تتكلم العربية لوجدت عندهم لغة محلية "إسلامية". ولا أقصد هنا لغة متكاملة وإنما أقصد أنها لغة بمعنى Lingo تشمل المفردات الإنكليزية وتحتوي على مصطلحات وطرق تعبير خاصة يصعب على غيرهم من المتكلمين بالإنكليزية فهمها. والذين يدرسون الجاليات من الأمريكان يقضون فترة حتى يتمكنوا من فهم مرامي الكلمات وسياق المعاني. وبالطبع فإن هذه اللغة المحلية متأثرة باللغات الإسلامية واللغة العربية بالذات. والذي أريده هنا هو أن هناك تحققاً عميقاً للهوية الإسلامية عند الكثير رغم قلة البضاعة في العربية، وليس كل خلوٍ من العربية خلواً من الإسلام، بل إن معاني الدين العامة يمكن أن تفهم بلغات أخرى (وقد سبق أن نوقش هذا في هذه الدورية في مقال بعنوان "العربية وعالمية الرسالة" للأستاذ رياض أدهمي) ولكن توازن هذه المعاني ودقتها وطيف الآفاق التي يمكن أن تأخذها وتشير إليها إنما هو مكنون في العربية ومصطلحاتها، وهذا هو بالضبط إصرارنا على تعليم اللغة العربية كلغة القرآن وليس كلغة محادثة محلية قومية أو إثنية.
وفي الختام فإنني أتمنى أن يزورنا صاحبنا العربي في هذه الأيام المقبلة ويسمع كلام ابنتي العربي قبل أن تمر بضع أسابيع وأشهر من معاشرة الأصدقاء غير العرب وينقلب لسانها مرة ثانية للإنكليزية.وقبل أن تطالبني بأن أطرد هؤلاء الأصدقاء وألعنهم، ألفت إليك النظر أنهم مسلمون… وطيبون.
http://www.alrashad.org المصدر:
-==============
أنين العفة في زمن الغربة
يقشعر جلد المسلم وهو يسمع ما أصاب بيوت المسلمين إلا ما رحم ربي ويتقلب قلب المسلم للقدر إذا اشتد عليه غليانه.. كل ذلك وهو يفكر فيما أصاب هؤلاء.... إلى الله المشتكى.
فهذا السائق مع تلك الفتاة يذهب بها وإذا بك ترى وياليتك ما رأيت... السائق يضحك بصوت مرتفع والفتاة تتمايل... الموضوع ساخن بينهم حتى كادت سخونته تحرق قلب ذلك المسلم الذي رأى ذلك الموقف، فما أن يغيب عن ناظريك هذا المشهد النكد حتى ترى مشهداً آخر يحرق ما تبقى... عندها وقف ذلك المسلم حائراً... أنسته حيرته طريق بيته... وصارت السيارة تمشي كأنها بدون سائق... وذلك المسلم يفكر في هذا الزمن وهذه الغربة الشديدة التي يعيش فيها المسلم اليوم... وفكر المسلم كيف يكمل العفيف وكيف تكمل العفيفة ما تبقى من العمر في هذه الغربة... دون أن يتأثر العفاف الذي تبقى لهما.
فكر المسلم وفكر... كيف يثبت هذا العفاف أمام تلك القنوات... كيف يثبت أمام تلك المشاهد في الشارع وفي السوق... حتى العمل بات مكان دعاية مجانية لتلك القنوات السيئة فذلك يمدح البرنامج الفلاني... وذلك يحكي عن جمال تلك المفتونة... فيما يجد المسلم الأنين يئن بداخله... ففتش فإذا به أنين العفة في زمن الغربة... فهل يعتزل المسلم والمسلمة المجتمع؟ أم ماذا يفعل... وعندها ضغط ذلك المسلم على شريط قرآن كي يسمع شيئاً من كتاب الله لعله يذهب عنه بعض ما أصابه وإذا به يسمع الحل الرباني أمام هذه البلايا وكأنه يسمعها لأول مرة... يا سبحان الله هذه آية في كتاب الله أين كنت عنها... كيف غفلت عنها؟ فهدأ ذلك الأنين في قلبه... وصار يردد تلك الآية بصوت منخفض (ا لم احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) إنه التميز العظيم لكل مسلم ومسلمة. يوم يقول الفتى: أنا مسلم وتقول الفتاة: أنا مسلمة. هنا تظهر الحقيقة عند الاختبار.(2/80)
تلك المشاهد التي لاعبت قلب ذلك الرجل المسلم هي نوع من الاختبار. هي الفتنة فهل ينجح المسلم والمسلمة في هذا الامتحان حينما تعرض تلك الفتن بأنواعها وألوانها ومغرياتها فيقف أمامها كأنه طود شامخ خاصة والله - تعالى - أكرمنا بجوارح نميز بها بين الخير والشر وعند عرض هذا البلاء على النفس ينتصر الإنسان على غلبة الهوى... عندها يتميز من بين الركام العظيم فيكون مسلماً حقاً حقاً. وتعلو نفسه ويهدأ أنينه ويحفظ عفافه. وفقنا الله وإياكم لذلك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://muslm.net المصدر:
===============
الغربة الحقيقية
إن الغربة الحقيقية إنما هي غربة اللحد والكفن، فهل تذكرت انطراحك على الفراش، وإذا بأيدي الأهل تقلبك، فأشتد نزعك وصار الموت يجذبك من كل عرق، ثم أسلمت الروح إلى بارئها، والتفت الساق بالساق، ثم قدموك بعد ذلك ليصلي عليك، ثم أنزلوك في القبر وحيدا فريدا، لا أم تقيم معك، ولا أب يرافقك، ولا أخ يؤنسك.
وهناك يحس المرء بدار غريبة ومنازل رهيبة عجيبة، وفي لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم إن كان ممن تاب وأمن وعمل صالحا، أو ينتقل إلى دار الجحيم والعذاب الأليم إن كان ممن أساء العمل وعصى المولى - جل وعلا -.
لقد طويت صفحات الغرور، وبدا للعبد هول البعث والنشور، مضت الملهيات والمغريات وبقيت التبعات.. فلا إله إلا الله من ساعة تطوى فيها صحيفة المرء إما على الحسنات أو على السيئات، ويحس بقلب متقطع من الألم والحسرة على أيام غفل فيها كثيرا عن الله واليوم الآخر، فها هي الدنيا بما فيها قد انتهت وانقضت أيامها سريعا، وها هو الآن يستقبل معالم الجد أمام عينيه، ويسلم روحه لباريها، وينتقل إلى الدار الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة. في لحظة واحدة أصبح كأنه لم يك شيئا مذكورا… فلا إله إلا الله من ساعة ينزل فيها الإنسان أول منازل الآخرة ويستقبل الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة، أو عيشة نكيدة والعياذ بالله.
ولا إله إلا الله من دار تقارب سكانها، وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان المقيم، وقبر في دركات الجحيم والعذاب الأليم، فهو ينادي ولكن لا مجيب، وهو يستعطف ولكن لا مستجيب.
ثم يأتي بعد ذلك اللقاء الموعد واليوم المشهود، اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، وصاح الصائح بصيحته فخرج الموتى من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلا، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه ولا مال،
(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) المؤمنون: 101-104
إنه اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، إنه اليوم الذي تتبدد عنده الأوهام والأحلام، إنه اليوم الذي تنشر فيه الدواوين وتنصب فيه الموزاين، إنه اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، واليوم الذي يود المجرد لو يفتدي فيه من العذاب ببنيه وصحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
http://www.twbh.com المصدر:
===============
فتنة الغربة
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
إن البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسببها، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة طرق، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث، ونختم الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.
روايات حديث الغربة:
1- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) قال: قيل:ومن الغرباء؟ قال: (النّزّاع من القبائل)(1).
2- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء) قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: (الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس)(2).
3- عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها)(3).
4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: (طوبى للغرباء) فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: (أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)(4).(2/81)
من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة، وأنهم نُزّاع من القبائل، وهذا يشير إلى قلتهم، وأنهم يُصلِحُون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غيرة ودعوة وإصلاح ولم يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما اشتدت الغربة ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل. ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله (عز وجل).
ولذلك ـ والله أعلم ـ صدّر الإمام الهروي، (رحمه الله تعالى) منزلة الغربة بقوله (تعالى): ((فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ)) [ هود: 116].
وقال ابن القيم (رحمه الله تعالى) في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية: (استشهاده، ـ أي: مؤلف كتاب منازل السائرين ـ بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن؛ فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية)(5).
من أقوال السلف في الغربة وأهلها:
- قال الأوزاعي (رحمه الله) في قوله: (بدأ الإسلام غريباً...) الحديث: أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد)(6).
- وقال يونس بن عبيد (رحمه الله تعالى): (ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها)(6).
- وعن سفيان الثوري (رحمه الله تعالى) قال: (استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء)(6).
- وقال ابن رجب (رحمه الله تعالى): (وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما)(7).
وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) في [مجموع الفتاوى: 18/251]، والإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في [منزلة الغربة: 3/194] والإمام الشاطبي (رحمه الله تعالى) في كتابه النفيس (الاعتصام): 1/97 والإمام ـ ابن رجب ـ (رحمه الله تعالى) في كشف الكربة فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة.
وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها:
1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجد غربة تامة في مكان دون مكان وفي جانب من الشريعة دون جانب. والله أعلم.
2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة (رضي الله عنهم) والتابعين لهم بإحسان.
3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم؛ لأن من أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله (عز وجل) ويصلحون ما أفسد الناس ويجددون لهم دينهم.
4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم؛ لكنهم ـ بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون به ـ ثابتون مطمئنون.
5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) بقوله: (وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويُعرف)(8).
وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.
وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)(9)، وقوله: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل: عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)(10).
6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشد منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة. وأشد منها غربة أهل العلم بين عامة أهل السنة. وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله (تعالى): (هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم) وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن من ورائكم أياماً: الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أوَ منهم؟ قال: بل منكم)(11).
7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثر الناس؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
مظاهر الغربة في زماننا اليوم:(2/82)
يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
1- غربة في العقيدة، فلا يوجد مَنْ هو متمسك بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلا القليل من الناس؛ حيث تنتشر الخرافة والشركيات والبدع في أكثر بلدان المسلمين.
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة.
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلق؛ فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل.
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة الشهوات.
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء؛ حيث مُيّعَتْ هذه العقيدة عند كثير من الناس، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7- غربة في أهل العلم؛ حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر الجهل وكثرت الشبهات وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة:
إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية تبرز عادة في غيبة الحق وفشو الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات التي تطمّ وتنتشر عادة في عصور الغربة وقلة أهل الحق وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله (عز وجل) مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة؛ سواء كان ذلك التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.
3- فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس وترك الدعوة حين يرى (إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله)(12).
وإن فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى (عز وجل) في عصور الغربة لا يقف عند حد؛ بل قد تؤدي بصاحبها والعياذ بالله ـ إلى الضعف والنقص في دينه شيئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات؛ ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ وإغراءات وفشو منكرات وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد. فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة ـ ولو كانت قليلة ـ يأوي إليها ويدعو معها إلى الله (عز وجل) حسب الوسع والطاقة فإنه لا بد أن يتأثر بالفساد وأهله إلا من رحم الله (عز وجل) ومن غير المقبول عقلاً وشرعاً وحساً أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة وهو تارك للدعوة بعيد عن أهلها، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر.
نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال التام عن الناس في شعف من الجبال، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله (عز وجل) ويواجه الفساد. وعلى أي حال فالعزلة الشرعية لها أحكامها وضوابطها التي سنعالجها (إن شاء الله تعالى) في حلقة قادمة.
إذن: فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين:
إما مجاهد في سبيل الله (عز وجل) داع إلى الخير آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر.
أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعل هذا ما يفهم من الحديث الذي رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مِنْ خَيْرِ معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يلتمس الموت، والقتل مكانه. أو رجل في رأس شعفة من الشعاب، أو بطن واد من هذه الأودية: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين،ليس من الناس إلا في خير)(13).
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة؛ مما يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح والمفاسد؛ فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد وفساد أكبر على أهل الغربة.
الهوامش :
(1) الترمذي 5/18، أحمد 1/398، والبغوي في شرح السنة 1/18 وصححه.
(2) أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267.
(3) مسلم شرح النووي 2/76.(2/83)
(4) أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650).
(5) مدارج السالكين: 3/194.
(6) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
(7) كشف الكربة ص32.
(8) انظر مجموع الفتاوى: 18/305.
(9) رواه مسلم في الفتن (2889).
(10) رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان)، وصححه الألباني في السلسلة 1/7.
(11) أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في السلسلة (494).
(12) في ظلال القرآن 5/2719، 2720 (باختصار).
(13) مسلم في الإمارة: (3/1503، 1504) (1889).
Cd مجلة البيان
================
غربة أهل الحق
يقول المولى عز وجل : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ، وقال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } ، وقال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا ، فطوبي للغرباء )).
قال ابن القيم رحمه الله : ( بل الإسلام الحق الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه هو اليوم اشد غربة منه في أول ظهوره ، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة ).
فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء اشد غربة بين الناس ...
فما اشبه الليلة بالبارحة ، وما اشبه غرباء اليوم بالغرباء الأولين ... بل غرباء اليوم اشد غربة من الغرباء الأولين في صدر الإسلام ...
فالآلهة قد زادت ، والأعداء قد تجمعوا وتكاتفوا ، والباطل قد اتخذ صورا يضاهي بها الحق ويشاكله .
فالحق لا يُعرف بكثرة اتباعه مهما بلغوا ، وما كان العدد الكثير ولا الجمع الغفير في يوم من الايام - ولن يكون - دليل صحة وصواب ، كما يحلو للبعض أن يردد ويزايد على الغرباء في هذا الزمان أنهم قلة لا يؤبه لهم ، وان الناس لا تتبعهم وتنفر منهم ، وتُعرض عن دعوتهم !
فهذا منطق أهل الأرض الذين اخلدوا لمقاييسهم الأرضية التي استقوها من المبادئ البشرية ومن واقع الناس المريض ، وتحت ضغط الجاهلية المعاصرة بعيداً عن منهج الله .
فأغلب الناس يعرض عن أهل الحق وينفر منهم ، بل ويناصبهم العداء ويعلن عليهم الحرب ، وهذه سنة الله في الدعوات واصحابها ، سنة ربانية لا تتبدل { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } .
تعيرني أنا قليل عدادنا ...
فقلت لها إن الكرام قليل
ومن اوصاف أهل الحق ، ما اخرجه الطبراني عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهم : (( ... الذين يصلحون حين فساد الناس )) ، فإذا فسد الناس وانتشر الشر وفاحت الرذيلة يعتصم هؤلاء بدينهم ويتمسكوا بسنة نبيهم ويقاوموا تيار الشهوات والشبهات ، ذلك التيار العاتي الذي يجرف أمامه الكثير من الناس - إلا من رحم الله - ويتركوا الدنيا لاهلها ، فهم يعلمون أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، وإنها جيفة نتنة طلابها كلاب ، فلا ينافسوهم فيها ... أما هم فيتنافسون في ميدان آخر ، ميدان الآخرة { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف بليغ يعبر اصدق تعبير وأجمله عن حقيقة ما هم فيه ، بأنهم (( القابضون على الجمر )) أخرجه أبو داود والترمذي .
[عن نشرة البلاغ / الجمعة 4 شوال 1416 / العدد4]
===============
غربة التوحيد
عبد الله قهبي
aburyan999@hotmail.com
اعلموا رحمكم الله أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل السالكين، قال - تعالى - (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم) رواه مسلم برقم 2865.
قال العلامة سليمان آل الشيخ: " الشرك أعظم ذنب عصي الله به وهو الذنب الذي لا يغفره الله - تعالى - قال - تعالى -: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) أي مادون الشرك من الذنوب، يغفره الله، أما الشرك فلا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح منه قبل الموت، والمشرك خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، والجنة حرام عليه قال - تعالى -(إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) فيجب على المؤمن أن يخاف منه ويحذره قال حذيفة - رضي الله عنه -: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.
عباد الله:
اتفق إن الأصل في الإنسان هو التوحيد، لأن البشر خلقوا من نفس واحدة وهي نفس آدم - عليه السلام - كما قال تعالى(ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء: 1] وآدم - عليه السلام - كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلّم أبناءه التوحيد.(2/84)
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة، قال تعالى(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ) يونس: 19]، قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام). ثم وقع بعد ذلك الشرك والله - تعالى - أخبر في كتابه أن الفطرة التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص. فقال - تعالى -: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم30 ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] هذا هو الإسلام يا عباد الله، وما سمي إسلاما إلا لما فيه من الاستسلام لله، والذل له، والعبودية له، والانقياد لطاعته، وتوحيده والإخلاص له.، تعلم أنه - سبحانه - هو الإله الحق، والمستحق لأن يعبد ويطاع ويعظم لا إله غيره ولا رب سواه. ونحن نردد ونقول في كل صلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين وحدك، لا رب ولا معين سواك، فجميع ما يقع من العباد هو من الله قال - تعالى -: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) فهو - سبحانه - المنعم، وهو المستعان والمعبود بالحق - جل وعلا -. فأنت يا عبد الله إذا جاءتك نعمة على يد أي أحد من الناس فكله من نعم الله - جل وعلا - عليك، وهو الذي ساق ذلك ويسره لك - سبحانه -، وخلق من جاء بها وساقها على يديه إليه وحرك قلبه ليأتيك بها، وأعطاه القوة والقلب والعقل، وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك. يدبر الأمر - جل وعلا -، كما قال - سبحانه -: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) وتوحيد الله - عز وجل - الذي هو معنى لا إله إلا الله، يعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله بالحق، وتثبتها لله وحده، كما قال سبحانه عن سيد الموحدين (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) وبهذا نعلم أن ما يصنع حول القبور المعبودة من دون الله. مثل قبر البدوي، والحسين وأشباه ذلك، وما يقع من بعض الجهال من الحجاج وغيرهم عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طلب المدد والنصر على الأعداء، والاستغاثة به والشكوى إليه ونحو ذلك، أن هذه عبادة لغير الله - عز وجل -، وأن هذا شرك الجاهلية الأولى، عن عائشة أن أم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) وهاهي آيات القرآن تصدح ببيان واضح جلي لتبين أن دعاء المخلوق الميت لا يمكن بحال أن ينتفع به أحد قال - تعالى -(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) فهل هناك تقريع أشد من هذا، وهكذا ما قد يقع من بعض الصوفية من اعتقادهم أن بعض الأولياء يتصرف في الكون ويدبر هذا العالم والعياذ بالله إن لم يكن هذا الشرك بعينه فما هو الشرك إذا،،.إذا علم هذا فلنعلم أنه لا توحيد ولا إسلام ولا إيمان ولا نجاة إلا بإفراد الله بالعبادة،، وهذا معنى قوله - تعالى -: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وإذا أنحرفنا عن هذا المنهج القويم وقع في شر أعمالنا قال - تعالى -(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) عباد الله: نحن في زمان غلب فيه الجهل، وقل فيه العلم، وأقبل الناس إلا من شاء الله، على علوم أخرى وعلى مسائل أخرى، تتعلق بالدنيا، فقل علمهم بالله، وبدينه لأنهم شغلوا بما يصدهم عن ذلك، وصارت أغلب الدروس في أشياء تتعلق بالدنيا، أما التفقه في دين الله، والتدبر لشريعته - سبحانه -، وتوحيده، فقد أعرض عنه الأكثرون، وأصبح من يشتغل به اليوم هو أقل القليل.قال - تعالى -(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) لقد جهل المشركون توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان "الجن، والإنس"، وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله؛ مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم(2/85)
لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحق، وأنكروا على الرسل وقاتلوهم على هذا الأساس الباطل، كما قال - سبحانه -: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) وقال - سبحانه -: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) وهكذا حال الروافض لعنهم الله يستغيثون ويدعون من دون الله الحسين - رضي الله عنه - وفاطمة الزهراء وعليا ويقولون ما قال المشركون من قبل (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى) وهكذا قبر البدوي وغيرها من القبور وصدق الباري - سبحانه - (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عباد الله لقد أقر المشركون بربوبية الخالق - سبحانه - ولكنهم أنكروا توحيده كما قال - سبحانه -: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) والمعنى ما دمتم تعلمون هذا أفلا تتقون الله في توحيده والإخلاص له، وترك الإشراك به، وأنتم مقرون بهذا وتعلمون أن الله هو ربكم وخالقكم ورازقكم، فيا من تقرأون كتاب الله تدبروا كتاب الله كما أمركم ربكم بذلك فقال (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته) تدبروا كتاب الله الذي ينهاكم عن الشرك فيقول (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) وإذا كان المولى - جل وعلا - يقول لنبيه (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) فكيف ينفع غيره - عليه الصلاة والسلام -، هذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول يلجأ إلى ربه فيقول (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) فهو يسأل بتوحيده والإيمان به، واعتراف العبد بأنه ربه الله ومعبوده الحق.وهكذا يجب على العبد أن يسأل ربه بالأعمال الصالحات، ويتوسل(2/86)
إليه بها، فهذا كله من أسباب الإجابة كما سأله أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة؛ وهم قوم دخلوا غاراً للمبيت فيه والاتقاء من المطر، فأنزل الله عليهم صخرة سدت الغار عليهم، فلم يستطيعوا رفعها، فقالوا فيما بينهم: إنه لن يخلصكم من هذه الصخرة إلا الله بسؤالكم الله بأعمالكم الصالحة، فتوسل أحدهم ببره لوالديه، والآخر بعفته عن الزنا، والثالث بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم الصخرة فخرجوا، كما صح بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتوسلوا بفلان أو فلان أو جاه فلان، بل لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يتوسلون بدعائه في حياته، فيقولون: يا رسول الله أدع الله لنا، ويدعو لهم - صلى الله عليه وسلم - كما وقع في أيام الجدب وكان على المنبر، فطلبوا أن يدعو الله لهم، فدعا الله لهم واستجاب الله له، وفي بعض الأحيان كان يخرج إلى الصحراء، فيصلي ركعتين ثم يخطب ويدعو. فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - عدل عمر إلى عمه العباس، فقال: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، فقام العباس ودعا فأمنوا على دعائه فسقاهم الله. ولو كان التوسل بالذات أو الجاه مشروعاً لما عدل عمر والصحابة - رضي الله عنهم - إلى العباس، ولتوسل الصحابة بذاته؛ لأن ذاته عظيمة - عليه الصلاة والسلام - حيا وميتا. والمقصود من هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صان هذا التوحيد وحماه، وبين أن الواجب على الأمة إخلاص العبادة لله وحده، وأن يتوجهوا إليه - جل وعلا - بقلوبهم وأعمالهم في عبادتهم، وألا يعبدوا معه سواه لا نبيا ولا ملكا ولا جنيا ولا شمسا ولا قمرا ولا غير ذلك. فوجب على الأمة أن تخلص لله العبادة، فالعبادة حق الله وحده وليس لأحد فيها نصيب، كما قال الله - سبحانه -: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، وقال - سبحانه -: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) وقال - تعالى -: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)وقال - جل وعلا -: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) متفق على صحته عباد الله ولقد وفق محمد - صلى الله عليه وسلم -، نجح في دعوته أعظم توفيق، وأكمل الله له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعل شريعته شريعة كاملة عامة لجميع الثقلين وناسخة لجميع الديانات ونافعة لجميع مصالحهم العاجلة والآجلة، كما قال الله - عز وجل -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) وهذا نص قرأني يرد على الروافض لعنهم الله الذين يقولون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - فشل في تربية أصحابه فارتدوا كلهم بعد موته إلا سبة نفر منهم (قاتلهم الله أنى يؤفكون) إنهم يكذبون الله القائل في كتابه (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) عباد الله لقد أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل عليهم الكتب لإنكار الشرك، ودعوة الخلق كلهم إلى عبادة الله وحده دون كل ما سواه فلا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يتقرب بالنذور والذبائح إلا له - عز وجل -، إلى غير ذلك من أنواع العبادة ومتى حققنا التوحيد الخالص تحقق لنا النصر والتمكين والإستخلاف في الأرض بإذن الله قال - تعالى -(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
03-02-2007
http://islamselect.com المصدر:
=============
منظومة في غربة الإسلام
العلامة سليمان بنِ سحمان
مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَحْمَانَ إلى الأَخِ الْمُكَرَّمِ وَالْمُحِبِّ الْمُقَدَّمِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاشِدٍ آل حَمَدْ حَلاَّهُ اللهُ بِحِلْيَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَعَمَّرَهُ بِآلائِهِ وَنَعْمَائِهِ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ بَيْنَ أَهْلِ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ آمِينَ. سَلامُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعْدُ:(2/87)
فَأَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللهَ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ، وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْخَطُّ وَصَلَ بِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَفَقَّنَا اللهُ وَإيَّاكَ لِقَبُولِ الْوَصَايَا الشَّرْعِيَّةِ، وَأَعَاذَنَا مِنْ سَيِّئَاتِ الأَعْمَالِ الكَسْبِيَّةِ، وَأُوصِيكَ بِمَا أَوْصَيْتَنِي بِهِ وَبِلُزُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِمَا، فَإنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ نَبَذُوهُمَا ظِهْرِيًّا وَزَهِدُوا فِيمَا تَضَمَّنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، اللَّهُمَّ إلاَّ أَنْ يُوَافِقَ الْهَوَى، وَاذْكُرْ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِحُذَيْفَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْفِتَنِ قَالَ: "اقْرَأْ كِتَابَ اللَّهِ وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ " كَرَّرَهَا ثَلاثًا. قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ: " وَالْحِكْمَةُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَقْتَ الْفِتَنِ وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ وَالتَّقَلُّبِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَغَيْرِهِمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، وَالْمُؤْمِنُ مَن اشْترَى نَفْسَهُ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ عَنْهُ الْجُهَّالُ وَالْمُتْرَفُونَ " انتهى. وَتَذَكَّرْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غُرْبَةِ الدِّينِ وَانْدِرَاسِ مَعَالِمِ الإسْلامِ، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْتَ، فَالأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ وَأَعْظَمُ مِمَّا إلَيْهِ أَشَرْتَ، فَإنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ "...الْحَدِيثَ.وَقَدْ صَارَ إقْبَالُ النَّاسِ وَإكْبَابُهُمُ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَإصْلاحِهَا وَلَوْ بِفَسَادِ دِينِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ - رحمه الله -: " مِنْ عَجِيبِ ما قدمت فِي أَحْوَالِ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلافِ، وَالتَّحَسُّرِ عَلَى الأَرْزَاقِ وَذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ وَقَدْ رَأَوْا مِنِ انْهِدَامِ الإسْلامِ وَشَعَثِ الأَدْيَانِ وَمَوْتِ السُّنَنِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَتَقَضِّي الْعُمُرِ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لا يُجْدِي، فَلا أَحَدَ مِنْهُمْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ وَلا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمُرِهِ وَلا تَأَسَّى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ، وَلا أَرَى ذَلِكَ إلاَّ لِقِلَّةِ مُبَالاتِهِمْ بِالأَدْيَانِ وَعِظَمِ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَرْضَوْنَ بِالْبَلاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ... "انْتَهَى.
فَلأَجْلِ غُرْبَةِ الإسْلامِ وَانْطِمَاسِ مَعَالِمِهِ الْعِظَامِ وَإكْبَابِ النَّاسِ عَلَى جَمْعِ الحُطَامِ أَقُولُ:
عَلَى الدِّينِ فَلْيَبْكِ ذَوُو الْعِلْمِ وَالْهُدَى *** فَقَدْ طُمِسَتْ أَعْلامُهُ فِي الْعَوَالِمِ
وَقَدْ صَارَ إقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهُمْ *** عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ
وَإصْلاحِ دُنْيَاهُمُ بِإفْسَادِ دِينِهِمْ *** وَتَحْصِيلِ مَلْذُوذَاتِهَا وَالْمَطَاعِمِ
يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا *** سَوَاءٌ لَدَيْهِمْ ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ
إذَا انْتُقِصَ الإنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى *** يَكُونُ لَهُ ذُخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ
وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِنَ الْحُزْنِ وَالأَسَى *** عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ
وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا *** وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ
فَأَمَّا عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى *** وَمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ
فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالَّذِي فَلَقَ النَّوَى *** مِنَ النَّاسِ مِنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ
وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ *** وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الإِسْمُ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
فَلا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا *** وَلا زَاجِرٌ عَنْ مُعْضِلاتِ الْجَرَائِمِ
وَمِلَّةُ إبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا *** عَفَاءً فَأَضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ
وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفَتْ *** عَلَيْهَا السَّوَافِي فِي جَمِيعِ الأَقَالِمِ
وَمَا الدِّينُ إلاَّ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا *** كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ
وَلَيْسَ لَهَا مِنْ سَالِكٍ مُتَمَسِّكٍ *** بِدِينِ النَّبِيِّ الأَبْطَحِيِّ ابْنِ هَاشِمِ
فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الدِّينِ وَامَّحَتْ *** بِهِ الْمِلَّةُ السَّمْحَاءُ إحْدَى الْقَوَاصِمِ
فَنَأْسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي *** إلَى اللهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ(2/88)
فَنَشْكُو إلَى اللهِ الْقُلُوبَ الَّتِي قَسَتْ *** وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ
أَلَسْنَا إذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخٌ *** بَأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ
نَهَشُّ إلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالثَّنَا *** وَنُهْرَعُ فِي إكْرَامِهِمْ بِالْوَلائِمِ
وَقَدْ بِرِئ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ *** يُقِيمُ بِدَارِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُصَارِمِ
وَلا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدا *** فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ
وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُّ عِنْدَنَا *** مُسَالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنْ كُلِّ آثِمِ
فَيَا مِحْنَةَ الإسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ *** وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ
وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إنْ كُنْتَ حَازِمًا *** عَلَى الدِّينِ فَاصْبِرْ صَبْرَ أَهْلِ الْعَزَائِمِ
فَمَنْ يَتَمَسَّكْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي *** أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ
لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ امْرَأً مِنْ ذَوِي الْهُدَى*** مِنَ الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ
فَنُحْ وَابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا *** إلَيْهِ فَإنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ
لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا عَفَتْ *** مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ وَالآلِ كُلِّهِمْ *** وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْمَكَارِمِ
بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَى *** وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلالِ الْغَمَائِمِ
هَذَا مَا لَزِمَ،، وَلَدَيْنَا الشَّيْخُ المُكَرَّمُ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللَّطِيفِ وَأَوْلادُهُ، وَحَاضِرُ الخَطِّ وَبَلِّغِ السَّلامَ الشَّيْخَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَخَوَاصَّ الإخْوَانِ مِنَّا عُمُومًا وَمِنْكَ خُصُوصًا عُمَرُ بْنُ يُوسُفَ، الكُلُّ يُبَلِّغُونَكَ السَّلامَ وَأَنْتَ سَالِمٌ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
http://islamselect.com المصدر:
================
غربة
د. عثمان قدري مكانسي
علني ألقى الأحبهْ *** في بلادي عن قريب
طال هجراني لصحبي *** مرغماً، هذا نصيبي
لست أجفوهم، ولكنْ *** ظلمُ غدار كذوب
فرّق الأحبابَ دهراً *** طال في جوٍّ غريب
لست أشكو ما يعاني ال *** قلبُ من مُرِّ الوجيب
إنّ في الله اصطباري *** فهو حِبي وطبيبي
فإذا ما ضاق صدري *** في شروق أو غروب
لذت بالقرآن أتلو ال *** آي في شوق رغيب
أذكر الله بقلب ال *** عابد الراجي اللبيب
فإذا الأحزان تُمحى *** بالهدى الهادي الحبيب
وإذا الأفراحُ تترى *** بالشذا الفوحِ الطريب
أيها العيد سلاماً *** جئت في ثوب قشيب
كنت ترجو أن يكون الن *** اس في حال طروب
لن يكونوا في هناء *** إن عدا ضبع الدروب
أو سطا ذئب لئيم *** لم يؤدَّبْ بقضيب
سيظل الذئب يعدو *** أو يقطِّع بالنيوب
إن يك الراعي جباناً *** يختشي خوض الحروب
بالجهاد الحرُّ يحيا *** فالتمس عيش الأريب
othman47@hotmail.com
http://www.odabasham.net المصدر:
===============
غربة الإسلام
وليد بن إدريس المنيسي
الخطبة الأولى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
- روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي أخذ بمنكبه وقال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل), وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
وفي لفظ: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُدَّ نفسك في أهل القبور).
- قال ابن حجر: شبه الناسك السالك بالغريب ثم ترقى إلى عابر السبيل، لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة.
- وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.
- ومراد ابن عمر بوصيته التي أوصى بها عقب رواية الحديث: (وخذ من صحتك لمرضك) أن يبادر المسلم إلى اغتنام الأوقات في الأعمال الصالحات لأنك تستطيع من الأعمال الصالحة في حال الصحة ما لا تستطيعه في حال المرض، وفي حال الغنى ما لا تستطيعه في حال الفقر، وهو مستفاد من قول النبي فيما رواه الحاكم عن ابن عباس أن النبي قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [صححه الألباني].
- وقوله: (وعُدَّ نفسك في أهل القبور) أي استعد للموت وقصّر الأمل وهو ما شرحه ابن عمر - رضي الله عنهما - بقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
- من فوائد الحديث العظيمة أن المسلم يعيش في الدنيا كالغريب بين قوم يخالفونه في الدين وفي الأخلاق والعادات واللغة وغير ذلك.
وذلك أن غربة الإسلام نوعان:(2/89)
1- غربة المسلمين بين الكفار، كما قال: (أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود).
2- غربة المتمسكين بالسنة والعاملين بدينهم بين المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يعملون به ولا يتمسكون بالسنة، كما قال سفيان الثوري وهو بالكوفة إذا بلغك عن رجل بالمغرب أنه من أهل السنة فأقرئه مني السلام فإن أهل السنة غرباء.
- وغربة الإسلام هي التي أشار إليها النبي في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء). وطوبى مصدر من الطيب أو هي شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة سنة.
- وقد جاء في روايات صحيحة لهذا الحديث أن الصحابة - رضي الله عنهم - سألوا النبي فقالوا: من الغرباء يا رسول الله، فقال: (الذين يَصْلحون إذا فسد الناس), وفي رواية ثانية: (الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي), وفي رواية ثالثة: (أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
ويستفاد من مجموع هذه الروايات أن الغرباء هم الصالحون في أنفسهم الذين يُصلحون غيرهم وذلك بإظهارهم دينهم وتمسكهم به ودعوتهم إليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
- هؤلاء الغرباء هم الفرقة الناجية التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه أبو داود, والترمذي, وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة, وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة, وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة). وفي رواية صححها الألباني: (الذين هم على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وهذا تفسير للمراد بالجماعة، وروى اللالكائي بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: (الجماعة من كان على الحق ولو كنت وحدك).
وذلك لأن المراد جماعة النبي وأصحابه، فمن سار على طريقتهم بعد ذلك في آخر الزمان فهو من هذه الجماعة حتى لو خالف أهل زمانه لكونهم تركوا ما عليه النبي وأصحابه.
- وهؤلاء الغرباء أيضاً هم الطائفة المنصورة التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر ومعاوية - رضي الله عنهما - أن النبي قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرين على الناس).
وظهورهم على الناس إما أن يكون بالسيف والسنان وإما أن يكون بالحجة والبيان.
قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلست أدري من هم؟ والمراد بأهل الحديث المتمسكون بما كان عليه النبي وأصحابه.
- أيها المسلمون: إن غربة الإسلام اليوم لا تخفى مظاهرها على أحد، فأكثر بلاد المسلمين اليوم قد غاب عنها الحكم بما أنزل الله وصار من يدعو إلى ذلك في بلاد الإسلام غريباً، وفشا فيهم بناء المساجد على القبور والاستغاثة بالأموات والذبح لهم والنذر لهم إلى جانب فشو الربا والزنا وسائر المنكرات، فيا شديد الطول والإنعام، إليك نشكو غربة الإسلام.
- ولكن في الأحاديث التي ذكرناها وغيرها بشارات وأمل، ففيها أن الله - تعالى - قد حفظ هذا الدين، وأنه لابد وأن تظل طائفة من المسلمين ظاهرين على الحق، فعلى كل مسلم أن يحرص على أن يكون من هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
- وقد أخبر النبي أنه في آخر الزمان ستعود الخلافة على منهاج النبوة، وأنه لن يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الشرك وأهله، وهذه انتصارات المجاهدين في الشيشان تتتابع وتبشر بالنصر القريب، وكذلك بدأت الصحوة الإسلامية في جميع البلدان وأقبل المسلمون على دينهم فالحمد الله.
- من مظاهر غربة الإسلام في آخر الزمان:
روى مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنكم في زمان كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ خطباؤه، كثيرٌ معطوه قليلٌ سُؤّاله، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي بعدكم زمان كثيرٌ خطباؤه، قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ سُؤاله، قليلٌ معطوه، الهوى فيه قائد العمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل).
قال الحافظ في الفتح: وسنده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي. قال ابن عبد البر: هذا الحديث روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة، والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان.
- المطلوب من الغرباء أن يتعارفوا ويتقاربوا ويتعاونوا على أمور غربتهم، فإذا كانت غربة الدنيا تجعل الغرباء يفعلون ذلك فغربة الدين أولى كما قال القائل:"فكل غريب للغريب نسيبُ" والحمد لله رب العالمين.
http://www.alminbar.net المصدر:
================
غربة
عبد الرحمن الحياني
يا غربة طالت وما برحت تسو *** م الروح أصناف الرّزايا والمنونْ
أسقمتِ كل جوارحي وجوانحي *** وتركتني غرضاً تمزّقه السّنونْ
أسقيتني كدر الشّراب ومرّه *** لم تعبئي يوماً بدمعاتي الهتونْ
وجعلتني أحيا كطفل تائه *** عبثت به دهم المصائب والشجونْ
هلا رفقت بمهجتي وبعبرتي *** فلقد همت حتى تقرّحت الجفونْ(2/90)
علي إذا ما عدت يوماً أن أرى *** بين الأحبة يألفون ويؤلفونْ
فأعيش بعضاً من سويعات الهنا *** في روضة قد زانها قلب حنونْ
وأقبل الكف التي من راحها *** يجري النّعيم كأنه مَنُّ الغصونْ
تلك التي ما راعها إلا البعا *** د وغيبة الفلذات عن تلك العيونْ
عاشت على أمل يداعب قلبها *** ترنو إلى فرج وشيك أن يكونْ
أماه إنْ عزّ اللقاء فإنما *** بمشيئة الدّيان تُقضَى ذي الشّؤونْ
لا تجزعي أماه إن حكم القضا *** وتصبّري علَّ الشدائد أن تهونْ
http://www.odabasham.net المصدر:
================
غربة غريبة
فيصل بن محمد الحجي
خطبي غريبٌ ذِكرُهُ في الناس ِ*** ما لا أُريدُ أُريدُهُ وأُقاسِي !
عَيْشُ الكَريم ِ بفِطنةٍ وَنباهَةٍ *** كيْفَ اشْتَهَيْتُ بَلادَة لإحْساسِ؟!
كَيْفَ اشْتهَيْتُ ضَيَاعَ ذاكِرَتِي التي *** أرْبَى توَقدُها عَلى الألماسِ؟
قِنديلِيَ الغلسُ البَهيمُ وَ بَلسَمي *** دائِي..وَكُلُّ مَآتِمِي أعْراسِي !
أنا مَيِّتٌ..أهْوَى دَوامَ المَوت ِ، كمْ *** أخشى الحَيَاة! ألوذبا لأرْماس
أمْشِي عَلى رأسِي.. وَترْفعُ رايَتِي *** قدَمي.. وَتنْعَمُ بالفذى أنْفاسِي!
أنا صادِقٌ أمْ كاذبٌ؟ أنا مُؤمِنٌ *** أمْ كافِرٌ؟ أنا ذاكرٌ أمْ ناس ٍ؟
ماذا دَهانِي؟ هَلْ أنا ذاكَ ال (أنا)؟ *** أوْشَكْتُ أُنْكِرُ سِحْنَتِي وَلِباسي!
وَهنُ العَزيمَة ِ؟ أمْ ضَلالُ بَصِيرَتي؟ *** أمْ فِتْنة ُالوَسْواس ِوَالخَنَّاس ِ؟
هَلْ ذاكَ؟ أمْ ثِقلُ الخطوبِ أطاحَ بي *** وَبِثَرْوَتي كَيْ يُعْلنوا إفْلاسِي؟
أمْ أُمْنِياتٌ كُلما اشْتعَلتْ خبتْ ؟ *** أمْ ذِكْرَياتٌ مُرُّها فِي كاسِي ؟
أمْ قحْط ُدُنيايَ التي جَعَلتْ يَدي الس *** فْلى وَأحْنتْ هامَتِي لِلناس ِ؟
يَأبَى لِسانِي أنْ يَبُوحَ بنبْسَةٍ *** يَأبى يَراعِي أنْ يَرى قِرْطاسِي!
صَمْتِي أمانٌ خادِعٌ.. وَ الناسُ تجْ *** هَلُ حَيْرَتِي وَتخبّطِي فِي ياسِي
يَتوَهمُونَ بيَ الهُدى.. وَبِيَ الضلا *** لة ُتَضْربُ الأخْماسَ بالأسْداس
*** *** ***
رَباهُ أيْنَ النورُ؟ أيْنَ مَعالِمُ ال *** دَرْبِ الذي يَهدِي إلى نِبْراسِي؟
مابالُ مِصْباحِي؟ أغاضَ الزّيْتُ مِنْ *** زَيْتُونَةٍ صَرعى الغصُون ِيَباسِ؟
ماتَ الدَّوا.. هرَبَ الطبيبُ وَأُغلِقتْ *** كُلُّ الْمَشافِي فِي وُجُوه ِالناس
مَهْلاً رُوَيْدَكَ يا طبيبُ.. تفِرُّ مِنْ *** دائِي؟ سَأكْشِفُ سِرَّهُ يا آسِي!
هوَ غرْبَتِي عن دَعْوَتِي.. فإذا جَمَعْ *** تَ الشّمْلَ أعْرفُ أيْنَ يَجْلِسُ راسي
من ديوان دموع الرجال الماثل للطبع.
http://www.odabasham.net المصدر:
==============
غربة الأموال العربية ومهانتها
الهيثم زعفان
قضية الأموال العربية في الخارج مثارة منذ سنوات عديدة، وكثرت الكتابة عنها في أعقاب أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تفاوتت تقديرات الاقتصاديين حول حجم الأموال العربية في الخارج؛ فهناك تقديرات قد تكون أقرب للمنطق، وهناك تقديرات بعيدة كل البعد عن الاستدلال المنطقي.
تُستثمر هذه الأموال في قنوات عدة شرعية وغير شرعية، وتواجه ـ خاصة في المرحلة الحالية - تهديدات عدة أهمها التجميد.
أحدثت غربة هذه الأموال فجوات اقتصادية واجتماعية مكَّنت القوى الخارجية من بسط نفوذها علينا بأشكال عديدة؛ أهمها: الديون ـ الاستثمارات الأجنبية ـ المعونات ـ والتمويل الأجنبي للأعمال الخيرية.
وأخيراً .. هناك استثمارات حيوية في منطقتنا تنتظر عودة الأموال العربية الصحيحة.
سأحاول في هذه المقالة تقديم عرض مختصر لبعض جوانب تلك القضية المعقدة والمتشعبة.
* إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج:
بداية؛ إن تناول إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج يتطلب عرض تقديرات الخبراء الاقتصاديين الأقرب لساحة الاستثمار، ثم أعلق بعد ذلك للوصول إلى نتيجة منطقية عن حجم تلك الأموال، والاستثمار الأمثل لها.(2/91)
د. أحمد جويلي(1) ذكر في مؤتمر «الاندماج الاقتصادي العربي بين الطموحات والواقع» ـ والذي عقد في أكتوبر 2001م ـ أن حجم الأموال العربية في الخارج يتراوح بين 600 و 700 مليار دولار، في ذلك المؤتمر أكد طاهر حلمي ـ وهو خبير اقتصادي ـ أن حجم الأموال العربية المستثمرة خارج المنطقة العربية يتراوح ما بين 600 و 800 مليار دولار. وفي المؤتمر العلمي السادس للمحاسبين المصريين ـ والذي نظمته الجمعية العلمية للمحاسبة والمراجعة والنظم بالقاهرة في أكتوبر 2001م ـ قدرت الأموال العربية المهاجرة إلى الخارج بنحو 800 مليار دولار، وذكر الدكتور نبيل حشاد ـ خبير اقتصادي ـ في دراسة له أن مدير عام «المؤسسة العربية للاستثمار» التي تملكها 15 دولة عربية؛ صرح بأن مجموع الأرصدة العربية المستثمرة في الخارج بلغ 850 بليون دولار في نهاية عام 1994م، وعلق «حشاد» بأنه يلاحظ التضارب الكبير في البيانات، وأضاف أنه يمكن القول إن معظم التقديرات تشير إلى أن حجم الأموال العربية في الخارج يتراوح بين 600 - 800 مليار دولار(1). دراسة «حشاد» كُتبت في عام 1999م؛ أي بعد خمس سنوات من تصريح مدير عام «المؤسسة العربية للاستثمار»، وسوف نوضح دلالة ذلك بعد قليل.
د. خالد أبو إسماعيل رئيس «الاتحاد العام للغرف التجارية والصناعية للبلاد العربية» أكد أن الأموال العربية المهاجرة والمستثمرة في العالم كله بلغت في آخر إحصائية ودراسة لها 900 مليار دولار، تستثمر معظمها في الأسواق المالية الدولية؛ خاصة في الأسهم والسندات التي تحققت بالبورصات العالمية(2).
تقرير أعدته لجنة أمنية (أمريكية - أوروبية) مشتركة، ونشرت معالمه صحيفة الأسبوع القاهرية، أوضح التقرير أن حجم الأموال العربية حتى نهاية عام 2001م في المصارف الأوروبية والأمريكية قد تجاوز 900 مليار دولار، وهذا الرقم يمثل النقود السائلة، في حين أن هناك العديد من الأصول الأخرى كالعقارات والشركات والمؤسسات التي تخضع لملكية عربية(3). وهنا تظهر حتمية التفريق بين ما هو (مالي)، وما هو (مادي)، ومع وضع هذا التفريق في الحسبان قد يرتفع التقدير إلى رقم كبير.
مصادر مصرفية بريطانية ذكرت أن حجم الأصول والموجودات والثروات العربية في البنوك الخارجية تزيد قيمتها على تريليون دولار (أي ألف مليار دولار)، وأن هذه الثروات مملوكة لأفراد وحكومات وشركات، وهي تمثل مجال أعمال خصب وكبير للبنوك العالمية؛ خاصة أمريكا(4).
الدكتور عبد الله دحلان - أمين عام الغرفة التجارية في السعودية - أوضح أنه وفقاً لبعض التقديرات؛ فإن حجم الاستثمارات الخليجية في الخارج يقدر بنحو 1400 مليار دولار.. وأن معظم هذه الاستثمارات تتمركز في الولايات المتحدة؛ حيث تستوعب أمريكا نحو 60% من الاستثمارات الخليجية المغتربة(5).
نقف قليلاً أمام هذا التصريح؛ فحديثنا عن الأموال العربية يشمل أموال جميع الدول العربية وأثريائها، وبالتالي فعندما يقصر د. «دحلان» الأموال المذكورة على الخليج فقط؛ فمعنى ذلك أن المبالغ العربية مجتمعة أكبر بكثير من الرقم المذكور الغائب.
«جبر إبراهيم» عضو مجلس الشعب المصري ذكر في اجتماع لجنة الشؤون العربية بمجلس الشعب المصري أن هناك تقريراً مالياً صادراً عن إحدى بيوت الخبرة الاقتصادية بالخارج؛ هذا التقرير يؤكد أن حجم الأموال العربية في البنوك الأوروبية والأمريكية يصل إلى 4. 1 تريليون دولار(6). والدكتور أحمد جويلي بعد أقل من ثلاثة أشهر من تصريحه السابق صرح - ضمن اجتماعات «الاتحاد العربي» التي عقدت بالقاهرة - أن الأموال العربية المستثمرة خارج الوطن العربي تقدر بنحو 1400 مليار دولار(7)!
سياحة طويلة بين تضارب الأرقام تجعلنا نسأل أنفسنا سؤالاً يفرض نفسه: من هو صاحب المصلحة في تضارب الأرقام؟ ولماذا؟ وما هو التقدير الأقرب للصحة؟
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال يجب التفرقة بين أمرين:
1- الأموال العربية المودعة بالبنوك الأجنبية تحت بند حسابات سرية.
2- الاستثمارات المباشرة ـ أو حتى غير المباشرة عن طريق وسطاء غير البنوك - في الدول الأجنبية، والتي من الممكن حصرها، ومن ثم تكون تقديراتها في الغالب أقرب للصحة.
أحسب أن الالتباس كله موجود في النقطة الأولى، وهي ـ في وجهة نظري ـ تمثل الغالبية العظمى من الأموال العربية، وأحسب أنها السبب الرئيس في تضارب الأرقام.. فمن المستفيد؟ المستفيد طرفان:
1- المودِع.
2- المودَع لديه.
فالمودِع: يحيطه غموض شديد في تمسكه بالسرية؛ ربما بسبب الضرائب المرتفعة.
والمودَع لديه: تمثل تلك الأموال عصباً مركزياً لاستثماراته؛ بحيث لو تم سحبها لوضع في دائرة الموت؛ لذلك فإن الاحتفاظ بالسرية شبه المطلقة يضمن السلامة من ردود الأفعال والضغوط القوية لسحب تلك الأموال في حال كشف الغطاء السري. ليس هذا فقط بل يمكننا افتراض فرضية مؤداها أن هذين الطرفين يعملان على بث أرقام منخفضة وبعيدة عن الصحة حتى يتم صرف الأنظار عن الأرقام الحقيقية؛ وبذلك يتم حصر المبالغ في رقم معين منخفض.(2/92)
هذه الفرضية ربما تؤيدها عدة شواهد؛ ففي الندوة التي عقدها رؤساء المؤسسات الصناعية التونسية في خريف عام 1985م؛ ذُكر أن إجمالي فائض العائدات البترولية العربية المستثمرة حتى أواخر عام 1985م يقدر بـ 600 مليار دولار تقريباً، وأن بلدان العالم الصناعي الرأسمالي تستأثر بحوالي 82% منها.
بتحليل ذلك يتضح الآتي:
أولاً: هذه الأرقام خاصة بقطاع البترول فقط دون حساب باقي القطاعات في الدول العربية، لكن فلنتجاوز هذه النقطة على الرغم من أهميتها.
ثانياً: هذه الأرقام كانت في نهاية عام 1985م، ولو اعتبرنا أن 82% من 600 مليار دولار؛ أي 500 مليار دولار أمريكي تقريباً مستثمرة خارج المنطقة العربية منذ 17 عاماً، وبافتراض أن متوسط ريع هذه الأموال 20%؛ يكون ناتج ريع رأس المال مضروباً في عدد السنوات هو 1700 مليار دولار، وإضافة إلى المبلغ الرئيس 500 مليار دولار يكون الناتج 2200 مليار دولار تقريباً.
أيضاً من ضمن الشواهد التي تؤيد الفرضية التي وضعناها: تصريح مدير عام «المؤسسة العربية للاستثمار» الذي ذكرناه في البداية، كان مجموع الأرصدة العربية المستثمرة في الخارج حوالي 850 مليار دولار في نهاية عام 1994م، فلو تم ضرب المبلغ في صافي ربح 20%، ومضروب في 8 سنوات (1995 - 2002م)؛ يكون الناتج 1360 مليار دولار، أضف إليه المبلغ الرئيس 800 مليار؛ يكون الناتج 2160 مليار دولار، وهو رقم لا يفترق كثيراً عما توصلنا إليه قبل قليل وهو 2200 مليار.
ها هنا بعض التعليقات على الحسابات آنفة الذكر:
1 - لم يتم سحب أجزاء تذكر من رؤوس الأموال العربية خلال السنوات السابقة (بغضِّ النظر عن الجزء الذي سحبته دول مجلس التعاون الخليجي (20 مليار دولار)، وذلك في أعقاب 11 سبتمبر، كما جاء على لسان «حسام حطيني» مدير معرض ومؤتمر المال والاستثمار(1). وهذه خطوة نحسبها مباركة، ونأمل أن يحذو حذوها باقي المستثمرين العرب)، ولو كان حجم ما سحب في السنوات السابقة كبيراً لشعرنا بأثره في مجتمعاتنا.
2 - لم يتم حساب التحويلات الجديدة من المنطقة العربية إلى الدول الأجنبية؛ سواء منذ عام 1986 أو 1995م حتى الآن.
3- إذا أثيرت قضية حجم ما يخسره العربي في الخارج تزيد المأساة بشكل يفوق التصور.
ما يمكن قوله إن الأرقام الصحيحة قد تزيد كثيراً عما يثار، وبهذا فمن المحتمل أن تكون الفرضية التي وضعناها أقرب للصحة.
كسر حاجز الـ (2000 مليار) اقتربت منه الدكتورة سلوى حزين رئيس مركز «واشنطن للدراسات الاستراتيجية» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أكدت أن الأموال العربية تصل إلى تريليونين دولار (2000 مليار دولار)؛ تتمثل في أرصدة بعض الحكومات العربية، واستثمارات الأفراد والقطاع الخاص. وتقول إن معظم هذه الأموال يتم استثمارها في الولايات المتحدة الأمريكية(2). قد يسأل سائل: أين هؤلاء الذين يملكون كل هذه الأموال؟ نجد الجواب عند عضو مجلس الشعب المصري في التقرير السابق ذكره.
إن إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج إشكالية معقدة، والجزم برقم محدد أمر من الصعوبة بمكان، وما توصلنا إليه هو استدلال منطقي، وهو يوضح صعوبة اعتماد رقم أقل من الـ (2000 مليار دولار)، لكن هناك من قد يختلف معنا ومن ثم يقدم تقديرات أدق، وأحسب أن الساحة مفتوحة لعرض جميع الآراء.
ننتقل الآن للحديث عن طبيعة الاستثمارات التي تعمل فيها الأموال العربية في الخارج.
* طبيعة الاستثمارات العربية في الخارج:
تستثمر الأموال العربية المهاجرة أو تستقر في إحدى القنوات الرئيسة الآتية:
1- ودائع مختلفة الآجال في المصارف التجارية العالمية.
2- سندات حكومية.
3- سندات شركات تجارية.
4- أسهم الشركات التجارية.
5- أذون الخزانة.
6- شراء العقارات والذهب.
7- استثمارات في المؤسسات المالية الدولية.
8- قروض إلى الحكومات والهيئات الدولية.
هذا بالإضافة إلى مجموعات من القنوات الفرعية.
ويؤكد كثير من الاقتصاديين أن استثمار تلك الأموال بالأشكال سالفة الذكر لا يمثل حصة مسيطرة على المشروع؛ مما ينعكس على نشاطه وإدارته، ولعل هذا يتضح مع قول السيناتور (حسن حسني فهمي) كبير مستشاري ولاية «بروسبيكت بارك»، وعضو مجلس النواب الأمريكي، والذي صرح بأن هناك استثمارات عربية في وسائل الإعلام داخل الولايات المتحدة إلا أن النسبة الكبرى تكون لليهود؛ ولذا تسهم هذه الوسائل في تشويه صورتنا، ويرى أنه من الجدوى أن يسحب العرب والمسلمون استثماراتهم المحدودة في هذه الوسائل، ويستثمرونها في محطات أخرى تكون نسبة رأس المال العربي فيها أكثر من 50%؛ وبذلك يكون لهم حق تحديد توجه المحطة الإعلامية، ويصبح من السهل علينا تصحيح صورتنا مثلما يفعل اللوبي اليهودي(1).(2/93)
إن عدم تجاوز نسبة 50% في استثمارات الأموال العربية ليس وليد الصدفة، فهو أمر مدروس ومخطط، ولعل ذلك ما أوضحته دراسة «أميرة الحداد» والتي جاء فيها: «لقد وضعت الدول الصناعية مجموعة من الإجراءات تهدف إلى احتواء الموارد المالية العربية في الاتجاه الذي يخدم مصالحها فقط، وإلى تحقيق عملية التدوير المنشودة لتلك الموارد المالية، ووضعها في القنوات التي تعزف عنها رؤوس الأموال الوطنية الأوروبية والأمريكية، وعدم سيطرتها على أية نشاطات مهمة ومربحة»(2).
نريد أن يقف المستثمر العربي مع نفسه قليلاً؛ فهو يضع الأموال التي استخلفه الله فيها في بلاد الغرب؛ حيث لا شريعة تضبط قنوات العمل، ما الذي يمنع الأموال العربية من أن يتم استثمارها في أحد مصانع الخمور، أو في بث القنوات الإباحية، أو في إقامة الملاهي الليلية، أو إقامة مدن كاملة تضم بيوت الدعارة.. هل يستطيع المستثمر العربي أن يمنع ذلك؟
* مخاطر تهدد الأموال العربية:
تتعرض الأموال العربية في الخارج لمخاطر عدة؛ أهمها سياسة التجميد التي تستخدمها أمريكا كورقة سياسية مربحة، وهي ليست وليدة أحداث سبتمبر، ولكنها سياسة قديمة تستخدم مع من يخالف قواعد اللعبة، ولعل ما يوضح ذلك أنه في 7 نوفمبر عام 1989م أفرج الرئيس الأمريكي عن 570 مليون دولار ودائع إيرانية مجمدة(3)، هذا بالإضافة إلى ما حدث للأموال العراقية من تجميد. وسياسة التجميد لا تقوم بتنفيذها أمريكا وحدها بل تساعدها أوروبا؛ فقد قامت البلدان الأوروبية بتجميد أموال عربية (يُشك) في أن أصحابها ينتمون لمنظمات إرهابية! وذلك أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وقد نقلت صحيفة «الفايننشال تايمز» عن «بول أونيل» وزير الخزانة الأمريكي الذي وصل في زيارة إلى أوروبا قوله: «إن هذا المستوى من تجميد الأموال يعكس مستوى التعاون الكبير من البلدان الأوروبية مع أمريكا»(4).
يقول الدكتور مصطفى الفقي: «إن رأس المال العربي المهاجر يتعرض لتهديدات المصادرة بدعوى العلاقة بمنظمات الإرهاب، وما تم تجميده بلغ حتى الآن 400 حساب شخصي ومؤسسي»(5).
إن القضية ليست قضية استثمار وأرباح، ولكنها يجب أن تكون قضية ميزان نقيس به المكسب والخسارة؛ ليس بمنظور الدنيا فقط ولكن بمنظور الدنيا والآخرة.
هناك من لا يعلم أن أمواله تستثمر بصورة غير مقبولة، وأحسب أن هؤلاء ستكون نتيجة توقفهم مع أنفسهم مجزية بإذن الله، وهناك من يعلم، وأيضاً نحسن الظن بردود أفعالهم.. نقول لجميع الأطراف إلى متى تكتنزون وقد يكون العمر تقدم بكم! وتسوِّغون أعمالكم بأنها من أجل الأبناء والأحفاد..! نقول لكل (ثري): هل بلغت في شهرتك وثروتك (أسطورة أوناسيس) أسطورة القرن العشرين؟!.. ماذا حدث لثروة أوناسيس؟ اكتنزها أوناسيس من أجل أبنائه وأحفاده، مات ابنه الوحيد في ريعان شبابه في حادث طائرة وفي حياة والده، ثم ماتت ابنته الوحيدة في حمام منزلها (شبهة انتحار) بعد إصابتها بالاكتئاب النفسي نتيجة إخفاقها في أربع زيجات، وبقيت أثينا حفيدة أوناسيس لابنته لتؤول إليها ثروة جدها بالكامل.
* انعكاسات الغربة:
هروب الأموال العربية أحدث قصوراً في التمويل؛ مما نتج عنه فراغ اقتصادي واجتماعي داخل المجتمع نتج عنه مشكلات اقتصادية واجتماعية كثيرة، لكن كان لا بد من إشباع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية؛ فماذا حدث.. دعونا نرى بعض أشكال الحلول التي قدمت:
1 - مأساة الديون: غرقت كثير من الدول العربية في الديون مركبة الفائدة؛ وجميعنا يعلم ما أحدثته الديون الربوية بنا. وتبلغ ديون الدول العربية 159 مليار دولار، تم تخفيضها في مايو 2002م إلى 144 مليار دولار(1). بالمقارنة لما للعرب في الخارج لا تستحق كلمة (ديون عربية) كل الهالات والانكسارات التي تثار حولها مع كل موقف تذكر فيه.
2 - الاستثمارات الأجنبية في المنطقة: حيث المجال خصب لأن تفرض تلك الاستثمارات نفسها وهي لها مخاطر عدة؛ لعل أهمها:
أ - عدم اكتمال دائرة الأموال المحلية؛ فما تدفعه من أموال لا يعود عليك بأي نفع اقتصادي أو اجتماعي؛ لأن نهاية الدائرة المالية في بلد المستثمر وليس في بلدك، وهنا تبرز أهمية المقاطعة، ولكن في الوقت نفسه لا بد من التنشيط الاقتصادي المحلي وإلا حدث انهيار اقتصادي.
ب - الانسحاب المفاجئ لهذه الاستثمارات من المنطقة العربية ينتج عنه انهيارات اقتصادية داخلية نظراً لتشعبه في صناعات حيوية عندنا.
يوضح النقطتين السابقتين ما جاءت به دراسة د. محمد الصطوف؛ حيث يقول: «إن الاستثمار الأجنبي لا يأخذ بعين الاعتبار تحقيق تنمية اقتصادية في الدولة التي يدخلها، ويهتم فقط بالأرباح والعوائد التي يمكنه تحقيقها وإن كان ذلك على حساب الاستقرار والتوازن الاقتصاديين»(2).
3 - المعونات: يقول الرئيس نيكسون بصورة قاطعة في حديثه في عام 1968م خلال حملته الرئاسية:
"Let us remember that the main Purepose of American aid is not to help other nations، but to help ourselvesس.
(يجب أن نتذكر أن الغرض الرئيس للمعونة الأمريكية ليس مساعدة الشعوب ولكن مساعدة أنفسنا)(3).(2/94)
4- التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية: توضح سناء المصري أنه بعد تضخم ظاهرة الجمعيات غير الحكومية صار مرض التمويل الأجنبي متفشياً، والعلاقات مع الخارج مفتوحة على مصراعيها لقاء بعض التقارير عن الداخل تصب مباشرة لدى المؤسسات الدولية مهما اختلفت مسبباتها(4).
وهذا ما يوضحه الدكتور نبيل السمالوطي؛ حيث يقول: «إن التمويل الأجنبي يُوظَّف لا لتنمية المجتمعات النامية بشكل متوازن، ولكن يُوظَّف في بعض الأحيان لتنفيذ التوجهات العالمية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً لصالح احتكارات الغرب ولغير صالح الدول النامية»(5).
وتقوم بهذا الدور مؤسسات مالية دولية عالية المستوى، فقد قامت مؤخراً هيئة عربية تعمل كمظلة للجمعيات العربية غير الحكومية بإعداد دليل ضم 81 مؤسسة دولية للتمويل، جاء على رأسها (فورد، والاتحاد الأوروبي).
ومؤسسة (فورد) تقول عنها سناء المصري نقلاً عن حميدة نعنع الكاتبة السورية: «مجرد ذكر اسم «فورد فونديشن» يجرنا إلى نقاش مستفيض حول تاريخ هذه المؤسسة، والأدوار التي مارستها في بعض دول أمريكا اللاتينية والهند وزيمبابوي. وهي أدوار كان ظاهرها المساعدة الإنسانية بينما استخدمت هذه المساعدة لإجراء بحوث ودراسات انتهت كلها إلى مكاتب المخابرات الأمريكية»(1).
أما (الاتحاد الأوروبي) فقد أثيرت حوله قضية سعد الدين إبراهيم ومركز ابن خلدون؛ تلك القضية التي شغلت مساحات إعلامية واسعة النطاق على المستويات المحلية والدولية كافة، وكانت البداية تمويلاً من (الاتحاد الأوروبي) قدره 220 ألف يورو.
إن العناصر الأربعة السابقة: (الديون ـ الاستثمارات الأجنبية ـ المعونات ـ التمويل الأجنبي) كانت بعضاً من كثير مما أحدثه هروب الأموال العربية للخارج.
* وقفة استثمارية:
- قضية الأموال العربية يكمن أحد جوانب مشكلتها في النظرة الجزئية للأموال، فبعض المستثمرين العرب ينظرون إلى الـ (مليون دولار) التي هي كل ثروة الواحد منهم أو نصفها على أنها لا تمثل شيئاً في تلك القضية المعقدة، ومن ثم فهم يرسلونها للخارج، لكن هل يعلمون أنه إذا تم حساب حصيلتهم مجتمعة فسوف يكوّن الرقم جزءاً كبيراً من القضية، هذه نقطة.
النقطة الأخرى: قد يجزم بعض المستثمرين بأنه يعلم جيداً أن استثماراته كلها نظيفة، وأن أصول أمواله مستثمرة مثلاً في الصلب أو صناعة السيارات، نقول: ما الذي يمنع إدارة تلك المشروعات أن توجه الأرباح إلى الاستثمارات القذرة التي لا حدود لربحيتها، وخاصة أن حصتك غير مسيطِرة على المشروع ـ كما أوضحنا ـ؟!
نعلم جيداً أن هناك عوامل طرد وعوامل جذب، وتسعى الحكومات العربية جاهدة في معالجة العوامل الطاردة؛ من ضرائب وجمارك وما إلى ذلك من معوقات، لكن ألا يجدر بنا أن نفكر في القضية بصورة معيارية؛ بمعنى أن نكون أصحاب غاية حقيقية، إن الانسحاب لا يحل القضية بل يزيدها تعقيداً.. كما أن بعض تصريحات الاقتصاديين قد تصيب المستثمرين العرب بالإحباط، ويوضح ذلك عبد الرحمن الزامل رئيس «مركز تنمية الصادرات السعودي»؛ حيث يقول: «إن الأموال الخليجية في الخارج أرسلت بحثاً عن الفرص التي أصبحت محدودة جداً في الخليج»(2). نشك في محدودية الاستثمار في الخليج، ولو كانت الاستثمارات في الأرض أو الجو انتهت؛ فهناك استثمارات أعماق البحار حيث اللؤلؤ والمرجان والأسماك، وهي أعلى ربحية من الاستثمارات الأرضية والجوية؛ تلك الاستثمارات ألا يمثل الخليج مجالاً خصباً لها؟! وعلى سبيل المثال؛ فإن صناعة اللؤلؤ تمثل ثقلاً اقتصادياً مزدهراً في جنوب شرق آسيا، وهناك خبراء استثمار كثيرون يمكن أن يدلوا بدلوهم في هذا الأمر. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: لماذا نحصر الاستثمار في الخليج فقط؟ لماذا لا نتشعب في قنوات الأمة؟ السودان على سبيل المثال بها 200 مليون فدان فائقة الجودة الزراعية، المياه متوفرة، العمالة جاهزة؛ سواء السودانية أو المصرية، ما ينقص هو التمويل.. لماذا لا يقوم أحد المستثمرين بالتجربة على ألف فدان فقط وينظر إلى العائد؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا عملياً.(2/95)
مصر.. الاستثمار بها قابل لاستيعاب مشروعات كثيرة جداً.. نجرب الاستثمار الإسكاني، إن مليون وحدة سكنية يمكن أن تكلف 10 مليارات جنيه مصري وتباع في اللحظة نفسها بـ 15 مليار جنيه؛ أي هناك 50% مكسب مضمون، إضافة إلى أن مثل هذا المشروع يؤمِّن مستقبل مليوني فتى وفتاة توضع دعواتهم في ميزان حسنات المستثمر العربي، أيضاً يمكن تجربة هذا الأمر على ألف وحدة سكنية متوسطة الشكل قليلة التكلفة، يقبل عليها قطاع عريض من الشباب ممن ينتظرون تلك الفرصة على أحر من الجمر. أراضي البناء متوفرة في أطراف المدن، الحكومة المصرية تقدم تسهيلات كبيرة في بيعها، ولكن يحجم عنها المستثمر لعدم وضعه البعد الأخروي في ذهنه أثناء الاستثمار، وبحثه عن مجالاته، ويهتم ببناء مساكن تُهتك فيها الأعراض، ويرفع شعار الشيطان في أماكن لا ترى ذلك عيباً أو حراماً. كما سبق أن أوضحنا علينا أن نزن الأمر بميزان الدنيا والآخرة، وقد أصبح لسان حال الشباب يكاد يقول لهذا المال العربي المغترب: S. O. S «أنقذوا أرواحنا».
وأخيراً.. صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»(3)، وذلك لمن أراد أن يصنع ولداً صالحاً يدعو له؛ فيرفعه إلى أعلى الدرجات عند الله، حتى وهو في داخل قبره.
---------
(1) الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ووزير التموين المصري الأسبق.
(1) نبيل حشاد: (الجات ومنظمة التجارة العالمية، أهم التحديات في مواجهة الاقتصاد العربي)، مكتبة الأسرة بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م، ص 279 - 280.
(2) (الأموال العربية المهاجرة... هل تعود للوطن؟) تحقيق راوية الصاوي، جريدة الأهرام المصرية: 1/2/ 2002م.
(3) صحيفة الأسبوع القاهرية: 4/3/ 2002م.
(4) جريدة الأهرام المصرية: 24/11/2001م.
(5) صحيفة السياسة الكويتية: تحقيق محمد إبراهيم، 21/10/2001م.
(6) جريدة الأهرام المصرية: 2/1/2002م.
(7) جريدة الأهرام المصرية: 2/2/2002م.
(1) أميرة محرم الحداد: رؤوس الأموال العربية كأحد مقومات التكامل الاقتصادي العربي، دورية الباحث، أكتوبر 1994م، دورية ربع سنوية يصدرها مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(2) جريدة البيان الإماراتية: 6/3/ 2002م.
(1) أموال العرب وصورتنا في أمريكا: حوار عادل أبو طالب، مجلة الأهرام العربي: 16/3/ 2002م.
(2) أميرة محرم الحداد: مرجع سابق
(3) عبد المنعم شفيق: حزب الله رؤية مغايرة (حقيقة المقاومة.. قراءة في أوراق الحركة السياسية الشيعية في لبنان)، ط 1، 2002م، ص 301.
(4) www. g n y banks. com
(5) صحيفة صوت الأمة الثالث: 31/10/2001م.
(1) موقع هيئة الإذاعة البريطانية على الإنترنت.
(2) محمد الحسين الصطوف: أهم محددات الاستثمار واتجاهات استخدام نماذج المدخلات والمخرجات لتخطيط الاستثمارات، المجلة العلمية لكلية التجارة (بنين)، جامعة الأزهر، العدد 27، السنة 2002م، ص 146.
(3) ماجد رضا بطرس: تقييم أداء المعونة الأمريكية في قطاع الصحة في مصر، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1997م، ص 97.
(4) سناء المصري: تمويل وتطبيع (قصة الجمعيات غير الحكومية)، سينا للنشر، 1998، ص 34.
(5) نبيل السمالوطي: التنظيمات والجمعيات غير الحكومية وموقفها من العولمة، المؤتمر الحادي عشر، كلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان، 1998م، ص 8.
(1) سناء المصري: مصدر سابق، ص 67.
(2) رئيس مركز تنمية الصادرات السعودية لـ الحياة: الفرص الاستثمارية محدودة جداً في الخليج: جريدة الحياة اللندنية، 8/10/ 2001م.
(3) أخرجه أحمد في المسند، مسند الشاميين، رقم 17309.
المحرم 1424هـ * مارس 2003م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
==============
غربة الإسلام - فضل عمل غربائه
عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله، معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده - سبحانه -، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه واشكره على وافر بره ونعماه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله - صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه -، وكل من تمسك بهديه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فقد روى الإمام مسلم - رحمه الله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كم بدأ؛ فطوبى للغرباء". وفي رواية غير مسلم: "الذين يُصلحون ما أفسد الناس". وفي رواية:"يصلحون ما أفسد الناس".(2/96)
- عباد الله - لقد ساق - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث على وجه الإخبار عن الإسلام في أوائل مبعثه - صلوات الله وسلامه عليه -، بأنه ظل فترة من الزمن حاله كحال غريب مشرّد فيما تسكنه الأعداء والوحوش من بقاع الأرض، لا يجد حامياً يحميه، ولا مؤوياً يؤويه سوى مرارة الغربة، ووحشة الوحدة ظل هكذا يبكي لدوس تعاليمه، وضياع مُثُله، وندرة المستجيب له حيث لا يوجد آنذاك إلا في قلة ونزع من الناس، ولا زال كذلكم حتى أظهر الله دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فألقى الإسلام رحله بكل طمأنينة وأمن في قلوب أمة محمد، وأخذ الصدارة الكاملة، والقيادة في كل الشؤون، وأقبل الناس على الدخول فيه أفواجاً. وفي هذا الإخبار الصادق، إن الناس كما دخلوا فيه أفواجاً فسيخرجون منه أفواجاً كما دخلوا فيه، عياذاً بالله.
- عباد الله -: إن تأويل هذا الإخبار وحقيقته قد وقع، فلقد اشتدت غربة الإسلام في بلدان الإسلام وأضحت - وللأسف - رسالة الله النيرة تُطمس معالمها وتأخذ في التقلص والاغتراب، بل وتُطارَد أشد مطاردة وتحارب حتى في الصحاري وكهوف الفلاحين. فيا أبناء الإسلام، إن مفاد الإخبار بغربة الإسلام ومغزاه الذي يهدف إليه وسيق من أجله، والله أعلم، هو حثُّنا معشر المسلمين وأمرنا بأن نتمسك بحبل الإسلام ولو أفلته الناس، ونُغلّيه ولو أرخصوه، وندافع عنه وإن نالنا أ أذى، أو سُخر منا، أو وصفنا بألقاب العصر، المفتراة على أهل الإسلام من تأخر أو جمود أو رجعية أو غير ذلك. فالتمسك بالإسلام والدفاع عنه هو معارج السمو ومراقي الخلود، هو التقدم الحقيقي والانطلاقة الصحيحة، لا أن ذلكم جمود أو تأخر كما هو مفهوم الأذواق المعكوسة، والمفاهيم المتحللة التي لم تذق طعم الإسلام، ولم تفهم ما أودع الله فيه من أسرار وحكم،، جعلته صالحاً لكل زمان ومكان. فصبراً وتمسكاً يا أبناء الإسلام، فلقد وُصف من هو أجل منكم بأكبر من ذلك وأوذوا وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولا ذنب لهم إلا أنهم قالوا: ربنا الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا. فاتقوا الله أيها المسلمون، وتمسكوا بكتاب ربكم، وسنة نبيكم، واثبتوا على إيمانكم فما - والله - اشتد بالمؤمنين الصادقين أمر، أو ضاق بهم ذرع إلا وأعقبه يسر وسعة، {فإن مع العسر يسراً}، {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} ولا تغتروا بكثرة الهالكين، ولا بالمدعين للإسلام {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} حتى تتجلى في أعمالهم المتابعة الصحيحة، وتوزن بمعيار"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"قيل من هم يا رسول الله؟ قال"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يسوق لنا هذا الحديث وحديث: "بدأ الإسلام غريباً"، وحديث "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً فعليك بنفسك". وأمثالها يريد منا قصر النفس عن متابعة الأهواء وإشباع الرغبات، يريد منا الصبر والتمسك والثبات على ما كان هو عليه وأصحابه الكرام، رضوان الله عليهم.
فاتقوا الله - أيها المسلمون - واصبروا، وتمسكوا بدينكم، على ما كان من أذى أو مضايقة، أو غير ذلكم، تلحقوا بالفرقة الناجية وبغرباء الإسلام الذين وُعدوا طوبى وحسن المآب. ولا تستوحشوا أو تستطيلوا الطريق، فهي طريق وفادة إلى الله ومهاجر إلى رسول الله. يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم:"العبادة في الهرج كهجرة إليّ"والهرج هو انتشار المعاصي وظهور فتن الشهوات. ويقول فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما:"ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكرحتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام، الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله". قيل يا رسول الله منا أو منهم، قال:"بل منكم".
أقول قولي هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يحيينا مسلمين ويتوفانا مسلمين، إنه غفور رحيم.
http://www.alsalafyoon.com المصدر:
===============
ا(2/97)
فى غربة الإسلام
فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 395)
حديث : فى غربة الإسلام
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح معنى غربة الإسلام فى مبدأ الدعوة وعودته غرييا فى آخر الزمان ؟
الجواب
روى مسلم فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء " وفى رواية أخرى " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها" ومعنى يأرز ينضم ويجتمع ، والمسجدان هما مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، وفى جامع الترمذى فى الإيمان " إن الدين ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل .(2/99)
إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى" ومعنى ليعقلن يمتنعن كما تمتنع الأروية من روءس الجبال والأُروية-بضم الهمزة وسكون الراء وكسر الواو وتشديد الياء -هى الأنثى من الوعول. . . وهى خراف الجبال ، وجمعها أراوى - على وزن أفاعيل - فإذا كثرت فهى الأروى - على وزن أفعل - على غير قياس كما ذكره الدميرى فى كتابه "حياه الحيوان الكبرى - أروية " . تخبر هذه الأحاديث عن غربة الإسلام فى أول تاريخه وآخره ، وهو نهاية العالم ، لأنه دين عام خالد يصلح لكل زمان ومكان . ولا ينسخه دين آخر إلى أن تقوم الساعة . " والغربة إما غربة فى الأشخاص وإما غربة فى المبادئ والمعنيان صحيحان ، فقد بدأت الدعوة الإسلامية بمكة ، وكان عدد المسلمين فيها قليلا وظل كذلك حوالى ثلاثة عشر عاما، وكان المسلمون بين مشركى مكة كالجالية الإسلامية فى دولة غير إسلامية ، وبعد الهجرة بدأ عدد المسلمين يتكاثر وتتابع دخول الناس أفواجا فى الدين بعد فتح مكة، وما زال عددهم يزيد حتى تعدى اليوم ألف مليون من المسلمين لا تخلو منهم قارة من القارات أو دولة من الدول فى العالم كله . وفى آخر الزمان سيقل عددهم بسبب غزو الأفكار وكثرة الأراء والمذاهب المنحرفة وتحكم المادية فى النفوس وغلبة أهل البغى والفساد على البلاد الإسلامية .. . ومحاولة تقليل عددهم بالقتل أو التجويع أو بوسائل أخرى حتى يكون عددهم قليلا جدا بالنسبة إلى غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى وبسبب تراخى المسلمين عن التمسك بدينهم لعدم فهمهم له فهما صحيحا يسايرون به ركب التطور، ولعدم غيرتهم عليه والقناعة به أمام المغريات أو الضواغط المحيطة بهم .
والغرباء فى أول الزمان وأخره لهم منزلة عالية عند اللّه لأنهم تمسكوا بدينهم ولم ينزلقوا كما انزلق غيرهم رغبا أو رهبا، وهو معنى "فطوبى للغرباء" أى العاقبة الطيبة لهم عند الله لأنهم فى شجاعتهم وقوتهم كالقابضين على الجمر، وفى إصلاحهم ما أفسده الناس من الدين أبطال مغاوير فى ميدان الجهاد ، يعانون ويقاسون محتسبين أجرهم عند الله سبحانه .
وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الغرباء فى آخر الزمان بقوله "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله " .
هذا فى غربة الأشخاص ، أما غربة المبادئ التى جاء بها الإسلام فواضحة ، لأن أحمل مكة بالذات واجهوا الدعوة بعنف ، لغرابة ما جاءت به فى عقيدة التوحيد والبعث بوجه خاص {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب } ص : 5 ، { إئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون } الواقعة : 47 ، وكذلك كانت سائر المبادئ الأخلاقية والتنظيمية التى شملت كل قطاعات النشاط البشرى ، موضع دهشة لمن يسمع عنها .
ثم موضع إعجاب وتقدير لمن تدبرها وآمن بها ، لأنها حققت كرامة الإنسان وسعادته بما لم تحققه النظم والمبادئ الأخرى .
ونظرا لكثرة الحملات المسعورة ضد الإسلام الذى أنشأ أمة توحِّد الله وتسبِّح بحمده فى رقعة واسعة من الأرض فإن المبادئ الأخرى التى تمس جانبا واحدا من جوانب السعادة . وهو الجانب المادى فى العاجل قد جذبت بعوامل الإغراء ووسائل الدعاية أنظار الكثيرين من الناس وصرفتهم عن الجانب الروحى من السعادة ، وصارت الدعوة إلى القيم الدينية والروحية غريبة وسط الدعوات الأخرى كما كانت غريبة حين جاء بها الإسلام منذ عدة قرون. والجهاد فى هذه الظروف جهاد يعتمد إلى حد كبير على شرح المبادئ الإسلامية بأسلوب يناسب العصر، ونشرها بكل وسيلة ممكنة لغزو الأفكار المضادة فى عقر دارها . لا يكتفى فيه بالدفاع المتراخى الذى لا يصمد أمام الأسلحة المدمرة بحدَّيها المادى والأدبى . . .
ومهما يكن من شىء فإن النصر سيكون للحق فى النهاية ، لأن اللّه هو الحق ، ولأن الإسلام دين الحق ، والنصر إن لم يكن عاجلا فى الدنيا -كما ندعو إليه -فسيكون آجلا فى الآخرة كما نثق به ، لأن ذلك مقتضى عدل الله سبحانه والإيمان بصدق وعده حيث ، قال {وكان حقا علينا نصر المؤمنين } الروم : 47 ، وقال {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } الحج : 40 ، وقد تحقق النصر فى العصور الأولى لأن المسلمين نصروا دين الله بالتمسك به تمسكا صحيحا شاملا خالصا ، وقرار اللّه باق وصادق إن حقق المسلمون اليوم نصر الدين تحقق نصر الله لهم {إن اللّه لا يخلف الميعاد} .
إن العدو متربص يخشى عودة الإسلام مرة أخرى دولة قوية ، فهو يحاربه فى كل مكان وبكل سلاح ،فلنتسلح بكل سلاح تنفس عنه الابتكار والتطور، دون جمود على الأساليب القديمة التى كانت تناسب عصرها، فلكل مقام مقال ، ولكل ميدان سلاح وذلك كله فى ظل الإيمان بالله القوى الذى لا يغلب {وما النصر إلا من عند الله } آَل عمران : 126 ، {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } البقرة :249
===============
غربة الإسلام
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 3 / ص 357)
معنى حديث: "بدأ الإسلام غريبًا..."
فتوى رقم (7377):(2/100)
س: أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ » فهل معنى هذا أنه سيعود له المجد والهيمنة والسلطان كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم غير ذلك؟ مع الوضع في الاعتبار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » فظاهر الحديث يدل على أن خير قرن الذي كان فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأنه لن يأتي قرن يساويه في الخير. والحديث الأول "بدأ الإسلام" كلمة: "كما بدأ" التي في آخره تدل على أنه كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله، ويسود الود والوئام بين المسلمين في هذه الصورة التي نراها في هذا الزمان من اقتتال بين المسلمين وافتراق وبطش ذوي السلطان على رجال الدين وهزأ المجتمع منهم ومحاربتهم وغزو بلاد الغرب لبلاد المسلمين بثقافات هادمة وأفكار لا تصلح المسلمين وموديلات من اللبس يتكشف فيه عورات الكثير من المسلمات المتبرجات، أفيدوني إفادة شافية أفادكم الله وأعانكم.
ج: معنى الحديث: أن الإسلام بدأ غريبًا حينما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليه فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فكان حينذاك غريبًا بغربة أهله، لقلتهم وضعفهم مع كثرة خصومهم وقوتهم وطغيانهم وتسلطهم على المسلمين، حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة فرارًا بدينه من الفتن وبنفسه من الأذى والاضطهاد والظلم والاستبداد، وحتى هاجر رسول الله صلى لله عليه وسلم بأمر الله تعالى إلى المدينة بعد ما ناله من شدة الأذى ما ناله رجاء أن يهيئ الله له من يؤازره في دعوته، ويقوم معه بنصر الإسلام، وقد حقق الله رجاءه فأعز جنده ونصر عبده، وقامت دولة الإسلام وانتشر بحول الله في أرجاء الأرض، وجعل سبحانه كلمة الكفر هي السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، واستمر الأمر على ذلك ردحًا من الزمن، ثم بدأ التفرق والوهن، ودب بين المسلمين دبيب الضعف والفشل شيئًا فشيئًا حتى عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، لكن ليس ذلك لقلتهم فإنهم يومئذٍ كثير، وإنما ذلك لعدم تمسكهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وتنكبهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من شاء الله فشغلهم بأنفسهم وبالإقبال على الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس من كان قبلهم، وتناحروا فيما بينهم على إماراتها وتراثها، فوجد أعداء الإسلام المداخل عليهم وتمكنوا من ديارهم ورقابهم فاستعمروها وأذلوا أهلها وساموهم سوء العذاب، هذه هي غربة الإسلام التي عاد إليها كما بدأ بها.
وقد رأى جماعة - منهم الشيخ محمد رشيد رضا - أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية آخذين ذلك من التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: « وسيعود غريبًا كما بدأ » ، فكما كان بعد الغربة الأولى عز للمسلمين وانتشار للإسلام فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار.
وزيادة في الفائدة نرفق لك تفسير الشاطبي للحديث في كتابه [الاعتصام] ومعه تعليق للشيخ محمد رشيد رضا يتبين منه الرأي الثاني، وهذا هو الأظهر، ويؤيده ما ثبت في أحاديث المهدي ونزول عيسى عليه السلام آخر الزمان من انتشار الإسلام وعزة المسلمين وقوتهم ودحض الكفر والكفرة . (1)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو // عضو // نائب رئيس اللجنة // الرئيس //
عبد الله بن قعود // عبد الله بن غديان // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز //
_________
(1) الحديث رواه الإمام أحمد (1 / 398)، والإمام مسلم برقم (145)، وابن ماجه برقم (3988)، والدارمي في [السنن] برقم (2758).
==============
معنى غربة الإسلام ومعنى خير القرون قرني
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 6 / ص 318)
معنى غربة الإسلام ومعنى خير القرون قرني
السؤال الثامن من الفتوى رقم (8540):
س8: ما معنى "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" ومعنى "خير القرون قرني"؟
ج8: معنى « بدأ الإسلام غريبا » : غربته بغربة أهله، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرًا، فآمن به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وزوجته خديجة ومولاه زيد ، ثم أخذ يعرض الإسلام على من يثق به فآمن به من آمن حتى زالت الغربة وانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، وفي آخر الدنيا تعود الغربة ثانية إلى دين الإسلام، فلا يكون في القبيلة إلا الرجل الواحد على دين الإسلام.
ومعنى « خير القرون قرني » : أن الأفضلية للقرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرن: هو الجيل الذي يكون فيه الإنسان، سمي قرنا من الاقتران؛ لأن أهله يقترنون في أعمارهم وأحوالهم في زمن واحد.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو // عضو // نائب رئيس اللجنة // الرئيس //
عبد الله بن قعود // عبد الله بن غديان // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز //
==============(2/101)
من مظاهر غربة الدين في هذا الزمان
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 576)
رقم الفتوى 60673 من مظاهر غربة الدين في هذا الزمان
تاريخ الفتوى : 25 صفر 1426
السؤال
لقد ضاق صدري مما أرى و أسمع فإنني لا أجد أحدا أشكو إليه همي بعد الله من أهل الحق إلا أنتم حيث إننا هنا في مصر صارت حالنا إلى حال يشبه أيام الجاهلية الأولى فقد انتشرت بيننا البدع وأمور الشرك الأصغر والأكبر من احتفالات عظيمة بالموالد والأعياد والتبرك بقبور الأولياء والصالحين وغير الصالحين من المنافقين والأفاقين والمشعوذين والدجالين فللأسف لا يوجد قرية ولا مدينة على أرض مصر إلا وبها ضريح ولي أو قبر رجل صالح يتبرك به الناس ويلجئون إليه في قضاء حوائجهم من دون الله الواحد القهار الضار النافع. كما يقام كل عام أكثر من ألف عيد من أمثال أعياد( أبو حصيرة في البحيرة وأبو الحجاج في الأقصر والفلكي في الشرقية والبدوي في طنطا والمرسي أبو العباس في الإسكندرية) وهذه مجرد نماذج صغيرة للأشخاص الذين تقام لهم أعياد ناهيك عما يحدث في هذه الموالد من بدع ومحرمات دينية وأخلاقية وكل هذا بخلاف الاحتفال الكبير بمولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة مبالغ فيها تنافي مبادىء الشريعة الإسلامية الحنيفة وتقام على أساس لم يرد في سنة الخلفاء الراشدين ولا التابعين وأيضا بخلاف الاحتفال السنوي بموالد أهل البيت رضي الله عنهم جميعا مثل مولد السيد الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والدعاء عند قبورهم والتوسل إلى الله بهم والتقرب إليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكأننا نعيش في هذه الحياة من أجل أن نحتفل ونحتفل ونحتفل بكل شيء و بأي شيء فلا يوجد أناس في هذا العالم يحتفلون مثلنا أو يستطيعون أن ينافسونا في مجال الاحتفال.
وكل هذا صغير مقارنة بما انتشر في طول البلاد وعرضها من أعمال السحر والربط والتفريق والدجل والشعوذة وأعمال الزار واللجوء إلى السحرة لتسيير أمور الحياة وحل مشاكلها وأحيانا اللجوء إلى القساوسة والرهبان في الكنائس لمهارتهم في هذا المجال فأكاد أقسم بالله أنه لا تخلو دار في قرى مصر من هذه الأمور فاعلا أو مفعولا له فإن نسبة من لهم علاقة بهذه الأمور قد تعدت 50 % من أهل مصر المحروسة (المحروسة طبعا بالشياطين والمردة والعفاريت), ومصادر معرفة الناس في هذا المجال لا تنضب من كتب السحر الأسود والأصفر والبنفسجي كما أن إخواننا من علماء المغرب العربي لم يبخلوا علينا بأي من كتب علوم السحر السفلي والعلوي والهوائي والناري وأمدونا مشكورين بكل ما نحتاج إليه لنكتب طلسما أو نعمل حجابا أو نعمل عملا أو نفك تعويذة فقد انتشرت هذه الكتب في الأسواق بين الناس وأصبح حجم تداولها لا يصدق والعياذ بالله.
كما أصبح رجال الدين أضعف وأوهن مما تتصورون فلا فتوى صريحة ترضي الله ولا نصيحة سليمة تصيب عين الداء ولا دلالة واضحة إلى الطريق السليم وإلى اتباع شرعي كامل لسنة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقد أصبح علماؤنا في واد و نحن في واد و سبحان الله.
فانظروا ماذا ترون وكيف تنصرون الدين وتساعدون الأمة؟
مسلم حزين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله نسأل أن يصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يفرج همك ويقر عينك بعودة أهل الكنانة إلى السنة المحمدية، واعلم أيها الأخ الكريم أن ما ذكرته مظهر من مظاهرغربة الدين في هذا الزمان بل من زمن طويل والله المستعان. ولكن أبشر فإن مع العسر يسرا، وعليك بالصبر وطلب العلم النافع والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقا للضوابط والقواعد الشرعية المعروفة، وقد ذكرناها في الفتويين: 9358 و 30715 .
واعلم أنه على الرغم مما ذكرته من انتشار مظاهر الباطل فإن القطر المصري والحمد لله مليء بالخير وبأهل السنة العاملين وبالدعاة والعلماء وطلاب العلم، والصحوة الإسلامية المباركة تعم البلاد طولا وعرضا، وكل هذا من مبشرات الخير، وكذلك كثير من علماء الأزهر على خير ويعملون بعلمهم؛ وإن كان الإعلام غير مسلط عليهم، ففتش عن هؤلاء وتعاون معهم على البر والتقوى. ولا تنظر إلى المجتمع من زاوية واحدة سوداء فتيأس. وراجع الفتاوى ذات الأرقام: 12916 و 32949 و 58011 و 22163 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
غربة المسلم
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3698)
رقم الفتوى 64427 غربة المسلم..الحب.. الفراغ.. الحيرة.. مشكلات لها حلول
تاريخ الفتوى : 30 جمادي الأولى 1426
السؤال
لن اطيل المقدمات(2/102)
في غمرة مشاغل ولهوات هذه الحياة نحن جيل الشباب نجد بعض الصعوية في الثبات على الصحيح بما أن الصحيح بين والغلط بين الفراغ غير المسيطر عليه نوعا ما كفيل بأن يقود إلى أشياء عدة وأنا برأيي أن الحب أحدها لكن أريد أن أعرف رأي الدين في هذه المسألة لاشك أن له حكما شرعيا فيها خير من آراء ووجهات نظر العوام وخاصة الشباب وأبناء الجيل الحالي والأفكار والمباديء التي يؤمن بها، لذا أرجو توضيح وجهة نظر ديننا الحنيف في مثل هذه القضية التي لابد لكل فرد منا أن تراوده و لو لبرهة (طبعا مع اختلاف القناعات والمباديء التي يملكها كل منا).
سؤال آخر: عندما يكون المرء في حالة من تخبط الأفكار والحيرة القاتلة بين أمور مختلفة وتراوده الأفكار والشكوك في كل شيء من حوله يصبح في حالة من الكراهية لكل شيء وعدم الرغبة في عمل أي شيء لمساعدة نفسه للخروج من هذه الحالة لأنه مدرك بأنه هو فقط من يستطيع أن يساعد نفسه ومع ذلك لا يبدي حراكا ولا يقوم بأي مبادرة لحل الأمور ماذا يفعل؟ أنا فعلا بحاجة إلى حل من ديننا لأنه هو الملاذ الوحيد لأن الله سبحانه وتعالى لا ينسى أحدا لكن أريد الحل الناجع لمثل هذه الحالة المعقدة أرجو أن أتلقى رداً يخرجني من هذه الحالة.
ولكم جزيل الشكر وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن المسلم في آخر الزمان يجد من الصعوبة في التمسك بالدين وفي الاستقامة على أمر الله ما لم يجده المسلمون في وقت علو الدين أيام الصحابة، ولذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتمسكين بالدين في آخر الزمان بأنهم غرباء وبشرهم بالأجر العظيم، وانظري الفتاوى ذات الأرقام التالية: 58011 ، 63743 ، 19738 ، 55038 .
وأما الفراغ، فله سلبيات كثيرة ولا ينبغي للمؤمن أن يشكو الفراغ، فإنه في شغل دائم.. إما فيما يصلح دينه، وإما فيما يصلح دنياه، أما حياة اللهو والعبث فليست للمؤمن، لأنه يعلم يقيناً أنه سيسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وانظري الفتوى رقم: 57084 .
وأما مسألة الحب بين الجنسين قبل الزواج وحكمه، فقد بحثناها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 29766 ، 44940 ، 5707 .
وأما الحيرة الشكوك التي تصيب الإنسان، فإن سببها الأعظم هو الجهل والذنوب، فإن صاحب الذنب المصر عليه تعمى بصيرته، وكذلك الجاهل فإنه لا يرى الحق حقاً، وللوصول إلى اليقين وطمأنينة القلب على المرء أن يحذر ذنوبه ويتوب منها توبة نصوحاً، ويتعلم العلم النافع الذي يُعرِّفه بمولاه وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقه على عباده، وما أعد لعباده إن هم أطاعوه وما توعدهم به إن هم عصوه.
وانظري الفتاوى ذات الأرقام التالية: 59868 ، 59729 ، 61074 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
اشتداد غربة الإسلام في آخر الزمان
مجموع فتاوى ابن باز - (ج 28 / ص 192)
10 - بيان اشتداد غربة الإسلام في آخر الزمان
س : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل « يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل » (1) ما المقصود بالكفر في الحديث وكيف يكون بيع الدين ؟ (2) ج : لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم » (3) بادروا بالأعمال يعني الصالحة « فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مسلما ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ، ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل » (4) المعنى أن الغربة في الإسلام تشتد حتى يصبح المؤمن مسلما ، ثم يمسي كافرا ، وبالعكس يمسي مؤمنا ، ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ، وذلك بأن يتكلم بالكفر ، أو يعمل به من أجل الدنيا ، فيصبح مؤمنا ويأتيه من يقول له : تسب الله
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/304).
(2) من أسئلة حج عام 1415 هـ ، شريط 49\ 9 .
(3) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/390).
(4) أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب الحث على المبادرة بالأعمال برقم 118 .(2/103)
وتسب الرسول ، تدع الصلاة ونعطيك كذا وكذا ، تستحل الزنا ، تستحل الخمر ، ونعطيك كذا وكذا ، فيبيع دينه بعرض من الدنيا ، ويصبح كافرا ، أو يمسي كذلك أو يقولوا : لا تكن مع المؤمنين نعطيك كذا وكذا لتكون مع الكافرين ، فيغريه بأن يكون مع الكافرين وفي حزب الكافرين ، وفي أنصارهم ، حتى يعطيه المال الكثير ، فيكون وليا للكافرين ، وعدوا للمؤمنين ، وأنواع الردة كثيرة جدا ، وغالبا ما يكون ذلك بسبب الدنيا ، حب الدنيا وإيثارها على الآخرة ، لهذا قال : « يبيع دينه بعرض من الدنيا » (1) وفي لفظ آخر : « بادروا بالأعمال الصالحة ، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا ، أو موتا مجهزا ، أو مرضا مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو الدجال شر غائب ينتظر ، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر » (2) المؤمن يبادر بالأعمال ، يحذر قد يبتلى بالموت العاجل ، موت الفجأة ، قد يبتلى بمرض يفسد عليه قوته ، فلا يستطيع العمل ، يبتلى بهرم ، يبتلى بأشياء أخرى ، على الإنسان أن يغتنم حياته وصحته وعقله ، بالأعمال الصالحات ، قبل أن يحال بينه وبين ذلك تارة بأسباب يبتلى بها ، من مرض وغيره ، وتارة بالطمع في الدنيا ، وحب الدنيا ، وإيثارها على الآخرة ، وتزيينها من أعداء الله ، والدعاة إلى الكفر والضلال .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/390).
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ، باب ما جاء في المبادرة بالعمل برقم 2306 .
================
غربة الإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1474)
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
الخطبة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
- روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي أخذ بمنكبه وقال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
وفي لفظ: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُدَّ نفسك في أهل القبور)).
- قال ابن حجر: شبه الناسك السالك بالغريب ثم ترقى إلى عابر السبيل، لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة.
- وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.
- ومراد ابن عمر بوصيته التي أوصى بها عقب رواية الحديث: (وخذ من صحتك لمرضك) أن يبادر المسلم إلى اغتنام الأوقات في الأعمال الصالحات لأنك تستطيع من الأعمال الصالحة في حال الصحة ما لا تستطيعه في حال المرض، وفي حال الغنى ما لا تستطيعه في حال الفقر، وهو مستفاد من قول النبي فيما رواه الحاكم عن ابن عباس أن النبي قال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [صححه الألباني].
- وقوله : ((وعُدَّ نفسك في أهل القبور)) أي استعد للموت وقصّر الأمل وهو ما شرحه ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
- من فوائد الحديث العظيمة أن المسلم يعيش في الدنيا كالغريب بين قوم يخالفونه في الدين وفي الأخلاق والعادات واللغة وغير ذلك.
وذلك أن غربة الإسلام نوعان:
1- غربة المسلمين بين الكفار، كما قال : ((أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)).
2- غربة المتمسكين بالسنة والعاملين بدينهم بين المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يعملون به ولا يتمسكون بالسنة، كما قال سفيان الثوري وهو بالكوفة إذا بلغك عن رجل بالمغرب أنه من أهل السنة فأقرئه مني السلام فإن أهل السنة غرباء.
- وغربة الإسلام هي التي أشار إليها النبي في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)). وطوبى مصدر من الطيب أو هي شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة سنة.
- وقد جاء في روايات صحيحة لهذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي فقالوا: من الغرباء يا رسول الله، فقال: ((الذين يَصْلحون إذا فسد الناس)) وفي رواية ثانية: ((الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي)) وفي رواية ثالثة: ((أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)).
ويستفاد من مجموع هذه الروايات أن الغرباء هم الصالحون في أنفسهم الذين يُصلحون غيرهم وذلك بإظهارهم دينهم وتمسكهم به ودعوتهم إليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.(2/104)
- هؤلاء الغرباء هم الفرقة الناجية التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي قال: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة)). وفي رواية صححها الألباني: ((الذين هم على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) وهذا تفسير للمراد بالجماعة، وروى اللالكائي بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: (الجماعة من كان على الحق ولو كنت وحدك).
وذلك لأن المراد جماعة النبي وأصحابه، فمن سار على طريقتهم بعد ذلك في آخر الزمان فهو من هذه الجماعة حتى لو خالف أهل زمانه لكونهم تركوا ما عليه النبي وأصحابه.
- وهؤلاء الغرباء أيضاً هم الطائفة المنصورة التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر ومعاوية رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرين على الناس)).
وظهورهم على الناس إما أن يكون بالسيف والسنان وإما أن يكون بالحجة والبيان.
قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلست أدري من هم؟ والمراد بأهل الحديث المتمسكون بما كان عليه النبي وأصحابه.
- أيها المسلمون: إن غربة الإسلام اليوم لا تخفى مظاهرها على أحد، فأكثر بلاد المسلمين اليوم قد غاب عنها الحكم بما أنزل الله وصار من يدعو إلى ذلك في بلاد الإسلام غريباً، وفشا فيهم بناء المساجد على القبور والاستغاثة بالأموات والذبح لهم والنذر لهم إلى جانب فشو الربا والزنا وسائر المنكرات، فيا شديد الطول والإنعام، إليك نشكو غربة الإسلام.
- ولكن في الأحاديث التي ذكرناها وغيرها بشارات وأمل، ففيها أن الله تعالى قد حفظ هذا الدين، وأنه لابد وأن تظل طائفة من المسلمين ظاهرين على الحق، فعلى كل مسلم أن يحرص على أن يكون من هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
- وقد أخبر النبي أنه في آخر الزمان ستعود الخلافة على منهاج النبوة، وأنه لن يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الشرك وأهله، وهذه انتصارات المجاهدين في الشيشان تتتابع وتبشر بالنصر القريب، وكذلك بدأت الصحوة الإسلامية في جميع البلدان وأقبل المسلمون على دينهم فالحمد الله.
- من مظاهر غربة الإسلام في آخر الزمان:
روى مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنكم في زمان كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ خطباؤه، كثيرٌ معطوه قليلٌ سُؤّاله، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي بعدكم زمان كثيرٌ خطباؤه، قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ سُؤاله، قليلٌ معطوه، الهوى فيه قائد العمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل).
قال الحافظ في الفتح: وسنده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي. قال ابن عبد البر: هذا الحديث روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة، والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان.
- المطلوب من الغرباء أن يتعارفوا ويتقاربوا ويتعاونوا على أمور غربتهم، فإذا كانت غربة الدنيا تجعل الغرباء يفعلون ذلك فغربة الدين أولى كما قال القائل: "فكل غريب للغريب نسيبُ" والحمد لله رب العالمين.
================
غربة الإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1903)
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في صحيح مسلم عنه قال: ((بدأ الدين غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء))(1)[1] وفي بعض الألفاظ: قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس)) (2)[2].
أيها المسلمون، بعث الله محمداً بالهدى ودين الحق، بعثه رحمةً للعالمين، بعثه وقد عمّ الأرض جهل عظيم، وضلال مبين، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، بعثه على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم والهدى، بعثه وأهل الأرض في ضلال، ما بين أهل كتاب قد حرّفوا كتبهم، وزادوا ونقصوا، وما بين عربٍ عبدة أوثان وأشجار وأحجار، وما بين عبدة النيران من المجوس وأمثالهم، بعث الله محمداً بهذا الدين الحنيف، بعثه بتوحيد الله وعبادته، كما بعث من قبله من الأنبياء والمرسلين، بعثه رحمةً للعالمين برسالة إلى عموم الخلق كلهم، عربهم وعجمهم، إنسهم وجنهم، واختار الله لمبعثه مكة أم القرى شرفها الله، فابتدأ دعوته بقومه العرب يدعوهم إلى توحيد الله، وإخلاص الدين لله، وإفراد الله بجميع أنواع العبادة، فما كان منهم إلا أن أنكروا دعوته، وردوا عليه دعوته وكذّبوه وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5]، مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ [ص:7].(2/105)
نعم، إنه بعثه لقوم ما أتاهم من نذير من قبله، وما عرفوا الحق قبل أن يأتيهم، بعثه ليدعوهم إلى الله، فابتدأ دعوته، وما استجاب له إلا الواحد تلو الواحد، وقومه قد ناصبوه العداوة، لما رأوه عاب أصنامهم، عاب آلهتهم، سب أوثانهم، انتقد ما عليه أسلافهم، من الضلال المبين، فكان الإسلام إذ ذاك غريباً، كان غريباً وحُقَّ له أن يكون غريباً، فالأعداء كثيرون، والمستجيبون قليل، ومن استجاب تحمّل كل الأذى، وتعرّض لأنواع التعذيب من قريش، فمن أسلم آذوه وعذبوه، وألحقوا به أنواع العقوبة. كل ذلك لأنهم لم يؤمنوا بهذا الدين، ولم ينقادوا له، فكان الإسلام إذ ذاك بمكة غريباً، كان غريباً بقلة الأتباع، وقلة الأنصار، ومن يحمي هذه الدعوة ويؤيدها، ومحمد صابر محتسب يصبر على كل الأذى، والله يثبت قلبه ويقول له: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، ويقول له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف:35].
فمضى في دعوته إلى الله سِراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فما يستجيب إلا القليل، ومن منكر ومكذب، ومقابل بالسوء، وهو صابر محتسب، يرجو من الله هدايتهم وبصيرتهم، جاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق على أهل مكة أخشبيها، لما بلغ الأذى منهم ما بلغ، فقال: ((أتأنَّى بهم، فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً))(3)[3].
أذن الله له فهاجر إلى المدينة، وعند ذلك وجد النصرة والتأييد من الأوس والخزرج، فحموه وحموا دعوته، رضي الله عنهم وأرضاهم، وتلقوا المهاجرين، وواسوهم بأنفسهم وأموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فاستقر قراره بالمدينة. ففي المدينة كملت شرائع الإسلام من أول ما قدمها إلى آخر عام من حياته فقد أكمل الله له الدين، وأتم به النعمة، ورضي به الإسلام ديناً، ففرضت الفرائض، وشرعت الأحكام والحدود، وما توفي إلا وجزيرة العرب قد انقادت له بأسرها، وعمّها الإسلام، واختفى الشرك والضلال، وأصبح الإسلام قوياً عزيزاً، ثم حمله أصحابه بعده إلى أرجاء المعمورة، فنصر الله دينه، وأعلى كلمته، وتحقق قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
فعاش المسلمون بهذا الدين في قوة وعزة يحكمون شرع الله، ويتحاكمون إليه، ويقيمون حدوده، وينفذون أحكامه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والإسلام في عزة وقوة ومنعة، ولكن ما زال النقص يدب إلى المسلمين قرناً بعد قرن، إلى أن وقع في المسلمين ما وقع من التفريط في دين الله، وتضييع شرع الله، وعدم القيام بهذا الواجب، ولهذا قال : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، قال: حتى تلقوا ربكم))، قال أنس: سمعته من نبيكم (4)[4].
فما زال الضعف يسري في الأمة، قرناً بعد قرن، إلى أن وقع في الأمة ما وقع من الشرك بالله والكفر به والإعراض عن دينه، وابتغاء نظم غير نظام الإسلام، وقوانين غير أحكام شريعة الله، ولهذا قال : ((وسيعود غريباً كما بدأ))، أي يعود الإسلام غريباً بين أهله، كما بدأ غريباً في مبدئه؛ أولاً غربته لجهل الناس به، وغربته الثانية لإعراض الناس عنه، فلما أعرضوا عنه وتجاهلوه وانصرفوا عن أحكامه، صار الإسلام بينهم غريباً.
حقاً إنه غريب بين كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، الإسلام غريب في كثير من العالم المنتسب إلى الإسلام، الإسلام غريب بينهم، الإسلام لا قيمة له بينهم، الإسلام قد عُزِل عن نظم الحياة، فلا يلتفت إلى أحكامه، ولا يقام وزنٌ لنظمه وآدابه، وإنما اكتفوا بالانتساب إلى الإسلام اسما مع تعطيل أحكامه، وعدم المبالاة به في المعاني، ولا شك أن تلك المصيبة، فغربة الإسلام بين أهله أن لا يحكّم، أن لا تنفذ أحكامه، أن لا تقام حدوده، أن لا يتأدّب بآدابه، أن لا يتخلّق بأخلاقه، أن يبعد عن نظم الحياة وعن الأخلاق والسلوك.
إن المسلم وهو يتأمل حال كثير من المسلمين، للأسف الشديد يرى الإسلام غريباً بين أهله، إن جئت في باب توحيد الله وعبادته وإخلاص الدين له، وجدت كثيراً من عالمنا الإسلامي مخالفين لذلك، لو قام قائم يقول لهم: اعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، لآذوه، وقالوا: هذا المبتدع، وهذا الذي أتى بقول خارج عن الخير، وإلى آخر ذلك، ولذا يقول الله: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، فإذا ذكرت توحيد الله، وإخلاص الدين لله، وأن أموات القبور لا ينفعون داعيهم، لا يسمعون دعاءه، ولو سمعوا ما استجابوا له و لا يعلمون حاله، لأنكروا عليك ذلك، وقابلوك بالعداوة والبغضاء، وقالوا: تسبّ الصالحين، وتعيب الصالحين، وتستنقص الأولياء، إلى غير ذلك مما زيّن لهم الشيطان، وحسّن لهم من الباطل، حتى رأوا الباطل حقاً والحق باطلاً، ولا شك أن هذه من غربة الإسلام.(2/106)
إن الإسلام الذي جاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله خلقاً لهذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، إذا ذكرت ذلك عابوك؛ لأنهم يرون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، قد انقلبت الحقائق، انعكست الفطر، فصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً وتلك المصيبة العظيمة.
غربة الإسلام بين أهله، حتى في الصلوات الخمس، فكثير من عالمنا الإسلامي، الصلوات الخمس لا تقام على الحقيقة، مساجد معمورة، ولكنها خراب من قلة المصلين، لا بصيرة ولا علم عندهم بهذه الصلاة، إنما يصليها أفراد من الناس والمعظم معرضون عنها، ولا شك أنها من غربة الإسلام والعياذ بالله.
غربة الإسلام أيضاً - أيها المسلمون - غربة الإسلام بين أولئك، إذا نظرت إلى أحكام الشريعة، وقد عُطّلت أحكام الشريعة، وتحوكم إلى القوانين الوضعية، وعوديت أحكام الشريعة عن التحاكم إليها، وإنما يتحاكم الناس ويحكّمون نُظماً غربية، جاؤوا بها من أعدائهم، حكّموها وتحاكموا إليها، فلا حدود تقام، ولا قصاص يقام، ولكنها الأحكام الوضعية المشتملة على الظلم والعدوان، وأكل أموال الناس بالباطل.
غربة الإسلام في التعامل، فالمعاملات الإسلامية التي جاء بها محمد ، تلك النظم الخالية من الظلم والغرر والغش والخداع، المعاملات الشرعية المبنية على العدل والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، رأيت الإسلام غريباً بين أولئك، رأيت المعاملات الربوية وما لها من الشأن الكبير، رأيت المعاملات الربوية وكيف سرت في عالمنا الإسلامي، حتى يتصور البعض أنه لا يمكن أن يعيش إنسان بلا ربا، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم بلا ربا، ولا يمكن أي مجتمع أن يعيش بلا ربا، فأصبح الربا يرونه ضرورة من ضروريات الحياة، وإذا قلت لهؤلاء: هذا الربا حرمه الله، ولعن النبي آكله ومؤكله وآذن الله أكلته بالحرب، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وأن الربا ممحق للبركة يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، وحذرتهم من ذلك، قالوا: أنت إنسان تعيش في قرون ماضية، وقرون خالية، وعقول جامدة، لا تفهم الحياة، ولا تعرف قدرها. لماذا؟ لأنك قلت: الربا حرام، وقلت لهم: إن المعاملات يمكن أن تقوم بلا ربا، بل لو عطّل الناس الربا لرأوا في المعاملات الشرعية ما فيها من العدل والإنصاف، وعموم النفع لكل البشر، ولكن الإسلام غريب بين هؤلاء، يرون الربا أمراً ضرورياً لا بد منه، وأن التخلي عن الربا انعزال عن اقتصاد العالم، وهو [انفصال] عن العالم؛ لأن الإسلام غريب في هذه المعاملات، المعاملات الإسلامية المبنية على العدل والإنصاف تكون غريبة بين المجتمعات الذين لا يريدون إلا معاملةً ربوية قائمة على الظلم والعدوان.
إن أولئك إذا ناقشتهم في كل المعاملات الشرعية قالوا: إنك إنسان لا تفهم الحياة، صار الدين غريباً في تلك المعاملات لأنهم عزلوا الإسلام عن نظم الحياة، واستبدلوا بها نظماً جاهلية هي غربية من حيث تأسيسها، فهم لا يرون المعاملات الشرعية، لا يرونها حقاً، وإنما يرونها أموراً انتهت، فأصبح الإسلام غريباً في تلك المعاملات.
في باب الأخلاق والسلوك الإسلام غريب بين كثير من عالمنا الإسلامي، الإسلام جاء بالأخلاق الفاضلة، جاء بالفضائل، وقطع أسباب الشر والفساد، وحارب الفساد والمفسدين، ولكن أولئك الإسلام غريبٌ بينهم، إذا قلت لهم: الإسلام حرّم القمار، حرّم الميسر، حرّم القمار لما فيه من الظلم والعدوان، أنكروا عليك وقالوا: تلك أمور لا بد منها، فالإسلام غريب بينهم. إن قلت لهم: إن الإسلام أوجب على المرأة الحجاب لتكون امرأة مسلمة صيّنة عفيفة بعيدة عن الاختلاط بالرجال قالوا: هذا كلام لا يصلح، وأنت عزلت نصف المجتمع، وشللت المجتمع من نصفه، وإن المرأة لا بد أن تشارك الرجال، ولا بد أن تخالطهم، ولا بد أن تعيش معهم، وإن الحجاب يشوّه المرأة، ويقبّح منظرها، فلا بد أن تسفر عن وجهها، ولا بد أن تخالط الرجال، ولا بد أن تسافر وحدها، وتتنقّل وحدها، دون أي رقيب أو ملاحظ عليها؛ لأنهم يرون ما جاء به الإسلام من آداب المرأة المسلمة بإلزامها الحجاب، وحثها على ذلك، وأمرها بالصيانة والعفة والبعد عن هذه الرذائل، يرون ذلك منقصة في حق المرأة، وهواناً للمرأة، طاعةً لأعداء الإسلام الذين يريدون تجريد المرأة المسلمة من كل أخلاقها وقيمها وفضائلها، فالإسلام غريب بين هؤلاء.
من يقول إن اختلاط الجنسين ضرر وفساد في الحاضر والمستقبل هو غريب بين من تشبعوا بتلك الأفكار السيئة، والآراء المضللة، الذين يريدون منها مسخ فطرة المسلمة وتحويلها من امرأة مسلمة متمسكة بدينها إلى امرأة غربية منحلة من كل قيم وفضائل.(2/107)
إذا قلت لهم: يا أمة، إن الأمة الإسلامية مطالبة بدين الله، مطالبة بالبعد عن كل لهو عن كل لعب وعن كل باطل، وعن كل ما تقضي الأوقات فيه بلا خير ولا فائدة، قالوا: إنك كتمت حرية الناس، كتمت حريتهم، ولم تعطهم حريتهم المطلوبة. ما هي حرية الناس؟ حرية كل فرد أن يعيش على ما يهوى كان باطلاً أو حقاً، لا رقيب عليه، ولا آمر ولا ناهي، والإسلام جاء بالأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق أطراً، فالمنادي بهذا غريب بين من يرى تلك الأباطيل والأضاليل.
أيها المسلمون:
إن غربة الإسلام اليوم بين كثير من العالم الإسلامي بدت واضحة في عدم فهم الإسلام، أو الإعراض عنه مع العلم به، واستبداله بغيره، فتلك والله غربة الإسلام.
إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ولكن طوبى للغرباء، طوبى للمتمسكين به، إن فسد الناس فهم على صلاحهم وتقواهم، وهم ساعون في إصلاح المجتمع، ودعوته إلى الخير فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، ولكن الله جل وعلا كفل لهذه الأمة المحمدية أنه لا يزال في هذا الدين باقية، ولا تزال أمة من هذه الأمة ينادون بالحق ويدعون إليه يقول : ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله))(5)[5]، فلا يزال طائفة من هذه الأمة متمسكة بهذا الدين، مقيمة حجة الله على العالمين، وذلك فضله على هذه الأمة.
إنما الواجب على المسلم أن يتمسك بدينه، وأن يستعصم بهذا الدين ويتمسك به، ولا يصغي إلى آراء المضللين وآراء المفسدين، وآراء من يصدّون الناس عن دين الله، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [الأنعام:112-113].
أما المؤمنون بالله حقاً، والمؤمنون بلقاء الله حقاً، فهم لا تروج عليهم تلك الشبه والأباطيل، ولا تخدعهم تلك الأفكار، بل موقفهم منها موقف من يعرف زيفها وباطلها، ويعرف مقصود أهلها، فهو متمسك بدينه، داع إلى الله محافظ على هذا الدين لا يهمّه كثرة المنحرفين وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فالمسلم متمسك بهذا الدين ثابت عليه، مهما يسمع من أقوال وأفكار، ومهما يبلغه فهو متمسك بما عليه من الحق، وبما يعرفه من هذا الشرع، ثابت عليه، يسأل الله أن يثبته وأن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه، هكذا المسلم حقاً.
إن هذه الدعايات المضللة ضد الإسلام وأهله من أعداء الإسلام، كلها من حقدهم وبغضهم لهذا الدين، فهم أعداء له بكل ما يملكون من وسيلة، أعداء لهذا الدين، يشكّكون المسلم في عقيدته، يشككونه في قيمه وفضائله، يدعونه إلى التجرد من هذا كله، وصدق الله: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن تمسك المسلم بدينه حينما يرى بعد الناس عنه، وانحرافهم عنه له فضل كبير فقد أخبر : أن الصابر على دينه في آخر الزمان [كالقابض] على الجمر، وأن له أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، أمِنا أو منهم؟ قال: ((بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً، وهم لا يجدون على الحق أعوانا)) (6)[1].
ولهذا المسلم عليه أن يتمسك بدينه ويسأل الله الثبات على دينه، فما عرف من الحق، فما عرف من الهدى فليتمسك به، وليدم عليه وليثبت عليه ولا يهولنّه ما يقال وما يقال، فإن كثيراً من الناس اغتروا بهذه الآراء الباطلة، وأصغوا إليها آذانهم، وتأثرت بها نفوسهم، أما المسلم فهو ثابت على الحق، لا يصغي للباطل، ولا يقبله، بل يتمسك بما عرف من الحق والهدى.
أسأل الله لي ولكم الثبات والاستقامة على دينه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله...
__________(2/108)
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [145] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) هذا اللفظ أخرجه الآجري في صفة الغرباء من المؤمنين (ص19-20) ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وفي سنده أبو إسحاق السبيعي وقد عنعن ، ولكن له شواهد يتقوى بها ، انظر : تخريج بدر البدر لصفة الغرباء.
(3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق [3231] ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير [1795] من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الفتن [7068].
(5) أخرجه البخاري في كتاب المناقب [3641] ، ومسلم في كتاب الإمارة [1037] من حديث معاوية رضي الله عنه. وورد أيضاً من حديث المغيرة بن شعبة ، وثوبان ، وجابر بن سمرة ، وجابر بن عبد الله ، وعقبة ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ، وكلها في الصحيح.
(6) أخرجه أبو داود في الملاحم [4341] ، والترمذي في التفسير [3058] ، وابن ماجه في الفتن [4014] بنحوه وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان [385] ، والحاكم (4/422) ، ووافقه الذهبي ، وانظر: السلسلة الصحيحة [494].
==============
غربة الإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1969)
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
الخطبة الأولى
أما بعد:
إخوة الإيمان، إننا في أيامنا هذه نرى أن المتمسك بدينه المحافظ على أوامر الله المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو بين الناس شاذاً غريباً، والكثير من الناس يتعجب من حاله ومقاله، بل إن البعض منهم يلومه ويذمه ويرى أنه على غير الصراط المستقيم وأنه متنطع متشدد.
وهذا وضع يتألم له المؤمن ويحزن، لكن … ليعلم أن هذه سنة من سنن الله جعلها ابتلاء للمؤمنين ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
أيها الموحد، إنك بتمسكك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعك لهديه عليه الصلاة والسلام ستبتلى وتواجه بعض الصعوبات، لكنك إن صبرت كانت العاقبة خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة.
عباد الله يقول تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]. إنها دعوة من الله للناس أن يكون منهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عند فساد الناس، وأصحاب هذه الصفة هم الناجون من عذاب الله في الدنيا والآخرة. ومن هم يا ترى أهل هذه الصفة! إنهم أولئك الغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس. ومن هؤلاء؟ إنهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)) [رواه أحمد].
وفي الحديث الآخر من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل)) [رواه أحمد وابن ماجه].
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: ((طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) [رواه أحمد].
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنني ويعلمونها الناس)).
فكم من الناس اليوم يتصف بصفات الغرباء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه المتعددة؟! كم من الناس اليوم قد أصلح نفسه عند فساد الكثير؟ وكم من الناس اليوم يصلح ما أفسده الناس؟ وكم من الناس اليوم يحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكم من الناس اليوم ينشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمها للناس؟
إخوتي الكرام: هؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سمّوا (غرباء) فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فالمسلمون في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء أيضاً، وأهل السنة في هؤلاء غرباء. والداعون إلى السنة الصابرون على أذى المخالفين هم أشد غربة في هؤلاء. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
لكن هذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفاه. قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال، وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب".(2/109)
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها. وترك ما أحدثوا. وإن كان هو المعروف عندهم. وتحقيق التوحيد وإن أنكر أكثر الناس ذلك. وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس لائم لهم. فغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة لمعظم الناس.
نعم هم غرباء وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن اليهود انقسمت إلى إحدى وسبعين فرقة والنصارى انقسمت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وتنقسم هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
ولهذا جعل للمسلم الصادق المتمسك بالسنة في هذا الوقت أجر خمسين من الصحابة في الحديث من حديث أبي ثعلبة الخشني: ((إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)) قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين رجلاً منكم)) [رواه الترمذي].
فإذا أراد المؤمن الموفق من عند الله أن يسلك هذا الطريق فليستعد لقدح الجهّال فيه وأهل البدع وطعنهم عليه واستهزائهم به وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم. غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته. لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف.
واعلم رحمك الله أن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست بدار مقام لهم، ولا هي الدار التي خلقوا لها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [متفق عليه].
أما الإسلام فقد عادت غربته اليوم كما أخبر المصطفى ويالها من غربة، إنها غربة وكربة، بعد وانفلات، تهاون وتفريط.
دين ملأ الأرض عدلاً ورحمة وسعادة … يصبح اليوم غريباً طريداً. نشهد أنه رسول الله حقاً وصدقاً، ونزداد إيماناً ويقيناً في كل يوم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين. وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر المسلمين: إن غربة الدين تظهر اليوم في جهل كثير من المسلمين بأهم وأبسط أمور دينهم كالصلاة مثلاً. وتظهر في إنكار بعض الناس لسنة رسول الله . وتظهر في انصهار الكثير من المجتمعات الإسلامية في مجتمعات غربية كافرة انصهاراً تذوب فيه المبادئ والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد. وتظهر في انتشار المخالفات الشرعية ومجاهرة بعض المسلمين بها دون حياء من الله. وتظهر في إعجاب كثير من المسلمين بأعداء الله من الكافرين وتقليدهم لهم وتعلقهم بهم. وتظهر في تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة عند الكثير من المسلمين غير مبالين بما يترتب على ذلك من سخط الله وعقوبته. وغير ذلك الكثير من مظاهر الغربة.
وإذا أردت أن تعرف مدى الأسى والألم الذي يعتصر قلب مؤمن يرى غربة دينه وغربته هو في وسط أهله، فاسأل غريباً حال غربته قد فارق أهله وأحبابه وهجر وطنه وأصحابه. وجاء إلى بلد لا يعرف فيه أحداً فأخذ ماله وضرب ظهره وأهين واحتقر، ولم يجد من ينصره أو ينصفه، كيف يكون شعوره وما هو حاله؟
أتراه يهجع والناس نيام؟ أتراه يكف عن البكاء والناس يضحكون؟
فليتك تراه وهو يشكو إلى الله وعيناه مغرورقة بالدموع. يشكو غربته وكربته.
يشكو ضعفه وقلة حيلته. يشكو عجزه وهوانه على الناس. شارد الذهن، تائه الفكر. لا يدري ماذا يفعل. ليس له أحد ينصره إلا الله جل في علاه.
هذه هي حال الغريب، واسأل مجرباً إن شئت لتسمع وصفاً تتفطر له القلوب وتتفتت له الأكباد. هذا في غريب الدنيا فكيف بغريب الدين؟!!(2/110)
أخي الغريب يبعث إليك هذه الكلمات غريب مثلك يعاني ما تعاني، ويقاسي ما تقاسي. والله إن القلب ليتفطر عندما يرى حال أمة الإسلام في هذه الأيام. يكاد يشك في نفسه، يكاد يجن.. مما يرى من تمادي الباطل وانتشار الفساد إلا في قلة ممن حفظ الله. ويكاد اليأس يدب في القلوب لولا أنه يتذكر قول الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. ويشرق في أفق الأمل حديث رسول الله الذي رواه المقداد بن الأسود: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)) [رواه ابن حبان]. ووعد الله آت والله معلٍ كلمته وناصر دينه ولو كره الكافرون.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من يهود ونصارى ومن مجوس وحداثيين وعلمانيين، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداُ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
===============
غربة الدين والواقع المؤلم
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3238)
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى.
أيها الأحبة، قام أنبياء الله ورسوله بأعظم رسالةٍ في تاريخ البشرية، فقد أدّوا رسالات الله وجاهدوا وصبروا وبلّغوا وبيّنوا وأعذروا إلى الله وبلغوا رسالاته رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، أما رسالتهم فهي الحق، الحق الذي من أظهر صفاته وضوحُه وبيانه وقوة أدلته وظهور حججه، فللحق إشراق وضياء، وللباطل ظلمةُُ وغموضُُ وخفاء، والحقُّ أبلج، والباطل لجلج، والحق أبداً واضحُُ مبين يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ الآية [النساء:26].
لقد أنزل الله آياته مبيّنات، وأرسل رسله بالبيّنات، وجاءت أصول ديننا الإسلامي كالشمس وضوحاً لا ينكرها أو يتعامى عنها أحدٌ، حتى اللغة التي أرسلت بها الرسل كانت بلغة أقوامهم وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وكان في مقدمة هؤلاء الرسل نبينا ورسولنا محمدٌ الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين ولحق بالرفيق الأعلى بعد أن ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا الهالكون.
ثم نقل الدين بعده أصحابه رضي الله عنهم، ففارقوا من أجل هذا البيان أوطانهم وأولادهم، وضحوا بكل غالٍ لديهم، من أرواحهم أموالهم وأعمارهم، ثم تناقل الدين العلماء المخلصون والمجددون العاملون حتى وصلنا الدين صافياً كما أُنزل على محمد فكتاب ربنا وسنة نبينا بين أيدينا، لكن هذه الأمة التي غادرها النبي قوية، عزيزةً موحدةً على كلمة الله قائمةً بأمر الله، وبعد أن تولّت عنها الأزمنة الفاضلة نفذت إليها عوامل الضعف والترّدي كما نفذت إلى الأمم السابقة، وأثرت فيها أسباب التفرق والاختلاف والتنازع حتى أصبحت أهواءَ شتى وآراء متباينة، وفرقاً يكفر بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً إلا من عصم الله منهم.
ولذلك فقد جاءت النصوص الشرعية من قرآن وسنة مبينة افتراق الأمم واختلافها، وكذلك التحذير الصحيح من الفتن وأسبابها ودواعيها ومبينة أثر هذا الافتراق على الأمة، وهو علامة من علامات غربة هذا الدين التي بدأ بها وسينتهي إليها.
أخي المؤمن، إذا قلبت نظرك في حال المسلمين اليوم تتبين لك غربة الدين واضحة، تراها في حال المسلمين رغم هذا الضياء لدين الله، ترى حال الأمة يؤول إلى ما أخبر عنه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز إلى المسجدين كما تأرز ـ أي ترجع ـ الحية إلى جُحرها)) رواه مسلم وغيره.
استحكمت غربة الدين في مظاهر كثيرة في واقعنا المعاصر وفي مجتمعنا الإسلامي، منها ما نشاهده في كثير من بلاد الإسلام من انحراف خطير في عقيدتهم في رب العالمين والإيمان به وتوحيده بالعبادة ومن عودةٍ إلى الوثنية وانتشار مظاهر الشرك وعبادة القبور وتقديس الأولياء المزعومين، عادت الغربة عبر مظاهر مزرية من الانحلال الخلقي في السلوك. أصبح ظاهراً ومعلناً ومحمياً من قبل الدول، وترعاه مؤسسات وقنوات، ويدخل إلى الأسر والبيوتات.(2/111)
عادت الغربة من خلال تساهل كثير من المسلمين في كبائر الإثم ووقوعٍ في الموبقات والفواحش، عادت الغربة من خلال التفريط في العبادات وتضييع أوكد المفروضات، وجهل كبير بأحكام الحلال والحرام، وغير ذلك من الآفات والآثام، حتى صار الإسلام في نفوس كثير من المسلمين بالاسم والهوية، ليس إلا عاطفةً باردة، أو فكرةً جميلة، أو عصبيةً أو عرقيةً، أو قصةً عبر التاريخ، لا يبذل لها شيئاً يكلفه، ولا يدافع عنها بشيء يخسره، ولا يضحي لأجل الدين، وهكذا بقي ما بينه وبين الإسلام إلا اسمه الذي سمي به، أو وطنه الذي يعيش فيه، التبست لدى كثير من الناس معالم الدين ومكارم الأخلاق، وتداخلت لديهم الحدود بين الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، إما بسبب غزوٍ فكري خارجي أو تراخٍ علمي، أو تراجع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى رفعَ في هذه الأجواء أهلُ الجهل رؤوسَهم، وشحذ أهل الجاهلية ألسنتهم وأسنتهم، وبرَوا أقلامهم ليتربصوا بالدين وأهله الدوائر.
إن من أهمِّ أسباب غربة الدين ما ذكره الله تعالى وحذرنا منه حين قال معاتباً أهل الكتاب: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، إن لبس الحق وتزيين الباطل والتغرير بالأمة ومنع الحق وحبسه عن الناس ثم سوق الباطلُ في لباسِ الخيرِ، كلُّ ذلك سبب لضياع الحق وانتشار الباطل وظهور الفساد في البر والبحر، وهذا ما بليت به الأمة، فالحق كتمه أهله من العلماء والمصلحين، إما تواكلاً وفتوراً، وإما جبناً وخوراً، وإما جهلاً بوسائل نشره، وإما خشيةً من ذهاب بعض دنياهم، وإما طمعاً في جاه أو دنيا ينالونها بسكوتهم ويقدمون الثمن بالدين.
أليس من العار أن نرى الملايين من المسلمين يطوفون بالقبور ويتمسحون بالأوثان ويعظمون الأولياء ويقدسون الآيات في الحوزات، وقد فقدَ كثيرٌ منهم عقيدةَ الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، ويشرك بعضهم بالله الشرك الأكبر بكل وسائله، ثم لا يجد هؤلاء من العلماء في بلدانهم نكيراً ولا توجيهاً ولا تعليماً، بل قد يجد بعضهم أعذاراً يتعذرون لهم بها عن هذا الشرك إلا ما قلّ، فهل بعد هذا من غربة؟!
أليس من العار أن نرى العالم الإسلامي يحكم غالبه بالجبت والطاغوت، عبر قوانين وضعية يهمل فيها شرع الله ثم لا تجد من أهل العلم إلا تنديداً واهياً لا يسمن ولا يغني من جوع، أما أهل الباطل فمكروا كل المكر، وكادوا المكائد، وكان سلاحُهم لبسَ الحق بالباطل وتقديمُ المنكرات في ثياب التغرير والتلبيس على الأمة، وتزعموا منابر لتوجيه في الإعلام والتعليم فإذا هم دعاة على أبواب جهنم سخروا ألسنتهم وأقلامهم، وصحفهم وبرامجهم لهدم الإسلام في نفوس المسلمين، نمقوا الباطل وقدموه بأسماء مختلفة وذرائع شتى، وهذبوه حتى هان في قلوب كثير من المسلمين، أسسوا لفكر مشبوه، وجعلوا من أنفسهم مراجعَ سلوكية، ومصادر معرفية تضخُّ إعلاماً عفناً وعلماً إبليسياً، ويملؤون الساحة صياحاً ونباحاً كلما تصدى متصدٍ وقاوم مقاوم محاولتهم تغريب المسلمين، مناهج ومدارس وأنظمة علمية ومنظومات فكرية.
لقد روَّج أهلُ الباطل باطلهم وخلطوا معه شيئاً من الحق حتى تقبَّله الناس وعمَّ وطمَّ وفُرض على الأمة وأصبح واقعاً محتوماً لا ينكر، أما الحق فقد شككوا فيه وسخروا من أهله ووصفوه بأقبح العبارات ورموا الدعاة إليه بأنواع التهم التي تحول بين المسلمين وبين الاقتداء بهم.
ثم حاربوا الحق جهاراً لما ضعُف ناصروه وقلّ أعوانه وسلكوا في سبيل ذلك مسالك شيطانية، وصاغوا الباطل في قوالب شتى وشخصيات مختلفة، وإذا ما دعا عالم أو طالب علم إلى تأسيس المعرفة على الإيمان وإقامة الحياة على الإسلام، وإحياء الجهاد تنظيراً وتطبيقاً، والولاء والبراء معتقداً، وصيانة المرأة عقلاً وقلباً وحجاباً، نعقت تلك الغربان في صحفها وإعلامها، ورفعت عقيرتها بالتعجب تارة والتهكم تاراتٍ والتهجم على تلك الأفكار، في عالم نحِّي فيه الدين وحكم العقل وعُطلت المبادئ وأعملت المصالح وهمَّش العفاف وقُدِّم السفور والتبذل.
يقضى على المرء في أيام محنته ……حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
تراهم يتهجمون على العلماء في بعض فتاويهم ودعوتهم وهم يعلمون أنهم إنما أفتوا بالإسلام، وحكموا بالكتاب والسنة حسب اجتهادهم، ولكنهم يهاجمون الإسلام ويحاولون نقض أساساته في صورة المفتين والدعاة، تراهم يسمُّون التمسك بالإسلام أصوليةً، والجهاد في سبيل الله إرهاباً، والبراءة من المشركين تشدداً، والتخاذل للأعداء سلاماً، وتعدد الزوجات والحجاب وقوامة الرجل على المرأة عاداتٍ وتقاليد بالية، وباتوا يتحججون بكتاباتهم في الجرائد، بمسمى الحرص والوطنية ونبذ الفتنة أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ [التوبة:49].(2/112)
وهكذا وبفعلهم هذا استحكمت غربة الدين لدى الأفراد والمجتمعات في عالمنا الإسلامي وانقلبت الموازين، المعروف أصبح منكراً، والمنكر معروفاً، وانقلب الإفساد في الأرض إصلاحاً، والإصلاح إفساداً، صار الصدق سذاجة، والكذب دهاء، وأصبحت الوقاحة والتبجح جرأة، وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنةً وفضولاً وتدخلاً في شؤون الغير، وتُكال الهجمات المبطنة والظاهرة على جهاز الحسبة ورجاله، يريدون إسقاطه، أما المجاهرة بالمعاصي والاستعلان بالمنكر فحرية شخصية، وأما الاستهزاء بالدين والطعن فيه وفي جهاته فهذا من حرية التعبير والفكر التي لا يحاسب قائلها أو كاتبها.
لكن هذه الحرية تضيق جداً عن الجهر بالحق والدعوة إليه وتوضيح الحق للأمة، وهكذا أصبح وبات المسلمون، فشباب الأمة أغوتهم أنواع الانحلال وأغرتهم المحرمات من الشهوات، فإذا نظرت إليهم فإذا هم لاهون عن مصاب أمتهم التي يراق دمها وتدنس مقدساتها وتستباح أراضيها، وهم عكوف على دور اللهو والقنوات الفضائية حيث تذبح الفضيلة ويفْرى الحياء، وكأنهم يرقصون على جراح أمتهم، أو تراهم على مدرجات الملاعب حيث تبديد الطاقات والأوقات والأموال على الكرة.
أما الربا الذي هو حرب على الله وعلى رسوله من أكبر الكبائر واستحق مرتكبوه ومن شاركوهم فيه لعنة الله، خفّ كل ذلك في قلوب ومعاملة الكثيرين، وصار الربا مجرد فائدة أو عوائد بنكية، وأصبح مالاً حلالاً، له مؤسساته ومبانيه الشاهقة المحمية بقوة الأنظمة، أما المجون والعربدة والجنس الرخيص فصار يحاط بكلمة الفن من غناءٍ وتمثيل ورقص وغيرها، ومن ثم يتبجح به أهله وتقام له في بلاد المسلمين الدور والمعاهد لتعليمه للأجيال وتصرف من أجله الطاقات والأموال، لأنه بزعمهم من ضروريات الحياة العصرية، بل وتقام الحفلات والمهرجانات الغنائية الصيفية والشتوية بلا مراعاة لجراح الأمة ونكباتها، ويكرم أهل الفن وتصرف لهم الأوسمة، فأي غربة للإسلام نعيشها؟
كان لحن الحياة فينا أذاناً ……يتغنى به الأباة والصيد
يملؤون الوجود براً ونوراً ………حين يصحو على الآذان الوجود
وإذا اللحن صيحة من رقيع ………و إذا الترس في المعامع عود
كان أمس الأباة مشرق مجدٍ……وإذا اليوم في حمانا اليهود
وأذل العدو منا جباهاً ………وتلاشا من راحتينا الحديد
ذل من يزعم الهزيمة نصراً ………تتهاوى من راحيته البنود
أيها الأحبة، كم زين دعاة الضلالة الباطل؟ كم هونوا من الجرائم الخلقية؟ كم حاولوا إبعاد الإسلام عن الصراع؟ وكم جابهوا الدعاة بأبشع الألقاب؟ وهم من بني جلدتنا ويتكلمون ويكتبون بألسنتنا، كم زيّنوا للمرأة عملها وإن كان بعيداً عن الحياء ؟كم تجاهلوا عمل الأم في بيتها وتربيتها لأبنائها ليمجدوا خروجها من بيتها مهملةً أولادها ؟! كم حاربوا تعليم المرأة المستقل وسعوا بكل ما أُوتوا لاختلاطها مع الرجال؟! كم دعمت بعض وسائل الإعلام إن لم تكن أكثرها التغريب في عقول المسلمين وقلوبهم؟! وكما أن دعاة الباطل ورموزه قساة في حربهم على دعاة الحق فإنك تراهم رقيقين مع اليهود والنصارى ومن شايعهم من أديان الباطل يحزنون لمصابهم، ويتعاطفون معهم ضد المسلمين، ويتقاربون منهم.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من غربة الإسلام اليوم أن يهان المسلمون ويذبحون ويحرقون وتطرح جثثهم في الشوارع والمخيمات لأجل دينهم، ثم لا تجد من ينصرهم من المسلمين، بل يتخاذلون عنهم، هذا إن لم تنبر فئة منافقةُُ لخيانتهم!!
إن من غربة الإسلام أن يصبح قاموس الأخلاق مبنياً على العبِّ من الشهوات بلا حساب وعلى كسب مادي يحرك هذه القنوات الفضائية بأفكار تدميرية تجوس في بيوت الناس!!
إن من الغربة المستحكمة أن يقوم كاتب أو روائيُُ في بلادنا بكتابةِ رواياتٍ ثلاثيةٍ ذات مفاسد أخلاقية، وامتلأت فسقاً ثم يعترف مؤلفها على رؤوس الأشهاد أنه بطل تلك الرويات ثم لا يجد محاكمة أو حتى محاسبة، هذا إن لم يكرم ويقدم ويؤخذ برأيه!!
إن من غربة الإسلام أن يلاحق الخيرون في عدد من بلاد العالم الإسلامي وتمتلئُ بهم السجون، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد!!
إن من غربة الدين أن يكرم الفنانون والمتلاعبون بمصير الأمة وأخلاقها وتصرف لهم الأوسمة، وكأن ما فعلوه في صالح الأمة، في حين أنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون!!
إن من غربة الإسلام أن يؤخذ رأي فئة من فساق من كتبة الصحف ممن يستغلون الأزمات كما المنافقين، تؤخذ آراؤهم في قرارات مصيرية تتعلق بأمن الأمة وتعليمها وأخلاقها، في ذات الوقت الذي يهمش فيه رأي العلماء والصلحاء الغالبية الذين ينصحون للأمة!!
إن من غربة الإسلام هذه الهجمات الشرسة التي تكال للأمة، هجمات شاملةُ متنوعةُ وإجماع من طوائف الكفر على محاربة الإسلام وأهله!!(2/113)
إنها أمثلةٌُ عجلى من لبس الحق بالباطل وأوصاف ومظاهر للغربة تطال الدين وأهله، وهكذا أصبح الإسلام يموج وسط أمواجٍ من الغربة التي بدأ بها وانتهى إليها، فأين، أين المصلحون ؟ قال رسول الله : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء))! قالوا: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: ((الذين يُصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أحداً من أهل التوحيد بذنب)).
إن علينا أن نجد لأنفسنا دوراً نحتسب من خلاله إصلاح فساد الناس وتخفيف مظاهر الغربة والمساهمة في نصرة الأمة، كل بما يستطيع، إن علينا أن نوقظ في حس كل مسلم ووعيه أن يزن الأمور بميزان الشرع ويحتكم إلى الكتاب والسنة، وألا ينخدع بزخرف أهل الباطل وكذبهم، إن علينا أن نقيم في الأمة وسائل دفع هذه الغربة وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الثبات في مواجهة الابتلاء وبناء الدول والمجتمعات على الحق دعوتهم للخير والتمسك برباط الطائفة المنصورة الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، فالعزة لأهل الإيمان والحق باقية ما استقاموا على النهج وأصلحوا أنفسهم ومن حولهم، وإن خيرية الأمة محفوظة ما استقامت على الطريقة، وإن على المسلمين اليوم وبين أيديهم كتاب الله وسنة نبيهم أن يتقوا ربهم وأن يراجعوا أحوالهم وينظروا في سنن الله وأحوال من قبلهم ومع غيرهم ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
إن الخلافة والتمكين مرتبطةُ بالأعمال الصالحة، والله سبحانه ناظر كيف يعملون وما يبرمون ومن ظلم وخالف فلن يفلت من سنة الله في الظالمين.
وإن مما جلب الغربة للأمة وأعاق نصرها وسبب ماحاق بها من بلاءٍ أنها دانت بمنهاج على غير دين الله، اختلطت عليها السبل، واصطبغت بغير صبغة الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، تغيرت أحوالهم وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وتركوا الجهاد، لم يكونوا أشداءَ على الكفار ولا رحماءَ بينهم، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة.
أما أعداء الأمة فإنهم مخذولون مهزومون بحول الله، وخَبَر الله فيهم لا يتخلف لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111]، إنه ضرٌ لا يؤدي إلى هدم كيان الأمة، وخبر الله فيهم مؤكد وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [آل عمران:111].
إن النصر الموعود لهذه الأمة وللطائفة المنصورة من الله، وهذا النصر ليس مرتبطاً بشخص أو دولة، يزول بزوالهم، بل إن جذوره لتضرب في الأرض وتقاوم عوادي الحوادث، وعلى مر العصور ظلت دولة الإسلام ـ رغم ما أصابها ـ قائمة ممكنة، يستظل المسلمون بظلها قروناً طويلة، وبالرغم من حرب وكيد اليهود والنصارى ومن عاونهم ظل الإسلام يشمخ برأسه عزيزاً، يمثله المؤمنون المتمسكون، والعلماء العاملون، والمجاهدون المستبسلون تصديقاً لموعود الله ببقاء الطائفة المنصورة وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.(2/114)
أيها المؤمنون، إن من مظاهر الغربة في أمتنا الإسلامية ما نراه الآن من تغافل عربي وعالمي عن قضايانا الإسلامية في كل مكان، لكن قضية فلسطين بينت لنا كل مستور، وأبانت كل خبث وسوء طوية وتخاذل يؤخر نصرنا على اليهود، أليس من غربة أمتنا أن ترى جثث المسلمين في فلسطين في جنين ونابلس وغيرها مطروحة في الشوارع يعلوها الذباب وقد تفحم بعضها وهدمت البيوت فوق رؤوس أصحابها، وهذا معروضٌ علينا، ثم ترى من غربتنا أن فئاماً منا علَّقوا آمالهم على زيارة وزير صليبي لم يلبث أن أيد اليهود وشجعهم على عدوانهم، وهذا كله مما يوضح خبثهم إن كان أحدٌ لازال يظن بهم غير ذلك، أليس من العار أن يعلق بعضنا الآمال على رئيس دولة أُسِّ الكفر، أمريكا الصليبية الذي يتهم بلادنا قبل يومين بدعم الإرهاب ويصف طاغية اليهود شارون بأنه رجل سلام في حين أن عمل اليهود بزعمه ليس إرهاباً وإنما هو دفاعٌ عن النفس، ولا زال بعض زعمائنا يعلق عليهم الأمل برعاية السلام، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين حين تعرض مناظر جثث إخواننا في فلسطين وأطفالهم ونساؤهم في جنين، ونسمع الصراخ والأنين لأمهاتنا المكلومات هناك ونداءاتهم لطلب النصرة وإغاثة الجرحى الذين لم يسعفهم أحد منذ أيام، ثم ترى بعد كل ذلك أن جهادنا لجوءٌ إلى هيئة اللمم أو مجلس العفن الذي امتلأ حقداً صليبياً وجوراً وظلماً، ترى إخواننا في بيت لحم يلجؤون إلى الكنائس لعل اليهود يهابونهم أو لعل النصارى ينجدونهم عبر بابا الفاتيكان ثم ترانا لا يحرك ذلك في أكثرنا ساكناً، يفعل بنا اليهود تلك الفظائع التي نراها في مخيم جنين ونابلس وغيرها، وكأن العالم الإسلامي لا يملك حولاً ولا قوة ولا جيوشاً، بل ننتظر مبعوث الأمم المتحدة ليغيث إخواننا هناك فأي ذلة ؟أي مهانة أن يتأثر لمصابنا (لارسون) مبعوث الأمم المتحدة وغيره ممن زار أو رأى جرائم الصهاينة أكثر من تأثر السياسيين الذين يلهثون خلف اليهود لطلب السلام، أكثر من تأثر بعض التجار، ممن تخاذل وخذّل عن دعم إخواننا هناك، يتأثر أولئك أكثر من تأثر بعضٍ من أئمتنا الذين تركوا القنوت أو الدعاء في إهمال شنيع لمصاب إخوانهم.
أي ذلة وخورٍ وصلنا إليها حين يصاب المسلمين بكل هذه الفضائع المعروضة، ولا زلنا في عالمنا العربي والإسلامي من يرقص على جراحهم بأغانٍ مائعة وحفلات ماجنة والتشجييع على مدرجات الملاعب وبذل الأموال في المسابقات، فهل ننعي عاطفتنا الإسلامية التي ماتت!أو هل نندب نخوتنا العربية التي ولت؟! ونرثيها؟!
أيها القوم نحن متنا فهيا ……نستمع ما يقول فينا الرثاء
قد عجزنا حتى شكا العجز منا ……وبكينا حتى ازدرانا البكاء
وركعنا حتى اشمأز ركوع ……ورجونا حتى استغاث الرجاء
وشكونا إلى طواغيت بيتٍ ……أبيض مِلء قلبه الظلماء ُ
ولثمنا حذاء شارون حتى ……صاح: (مهلاً، قطعتموني) الحذاء
أيها القوم نحن متنا ولكن ……أنفت أن تضمنا الغبراءُ
قل لمن دبجوا الفتاوى رويداً……ربُ فتوى تضج منها السماء
حين يدعى للجهاد يصمت حِبرٌ ……ويراعٌ والكتب والفقهاء
حين يدعو الجهاد لااستفتاء …الفتاوى يوم الجهاد والدماءُ
إننا أيها الأحبة كلنا ثقة بموعود نصر الله، هذ النصر الذي نرى بشائره في صبر إخواننا في فلسطين، هذا النصر الذي نرى بشائره في الشيشان هذه الأيام بقتل أعداد من الملاحدة الروس على يد المجاهدين، وهذا النصر الذي نراه في تخبط الصليبيين وهم يقذفون بعضهم بعضاً بقذائفهم التي أرادوها لبلاد الإسلام.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تنصر إخواننا في فلسطين وأفغانستان والفلبين وكشمير والشيشان، اللهم آمن خوفهم وفك حصارهم، ووحد صفوفهم، وسدد رميهم واجبر كسرهم، اللهم ارحم موتاهم وتقبلهم شهداء في سبيلك، اللهم انصرهم يوم قلَّ الناصر وأعنهم يوم فُقد المعين، اللهم أهلك طاغية اليهود شارون وأعوانه ودولة أمريكا الصليبية وزعماءها، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك واجعلهم أذلةً صاغرين واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم واشف صدور قومٍ مؤمنين، بنصر الإسلام والمسلمين وكبت اليهود النصارى والهندوس الملحدين والعلمانيين، اللهم واحفظ بلاد المسلمين من كل سوء ونساء المسلمين من مكر العلمنة والفسوق إنك سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم الله بذلك حيث قال عز من قائلٍ عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
================
غربة
مجلة البيان - (ج 43 / ص 139)
غربة
شعر عبد الله الخميس
يستوي الليل عنده والصباح ومن العيش بالممات يراح
يعتريه الأسى ويكسوه حزن ويُرى منه صبره والكفاح
ملء عينيه سؤله كيف صارت من هدي الله أمة تستباح؟
غارة لوعة وظلم كبير ولهيبٌ وخسَّة اجتياح
صرخة دمعة وذل عظيم ودماء وحسرة وجراح
داعي الخير ناله الظلم ممَّن قلبه للفساد والظلم ساح
صوتهم في الخفا وإن جُنَّ ليلٌ يملأ الكون في الظلام النِّباح(2/115)
أيها الطامعون -لا- لن تنالوا مطمعاً فارجعوا إلى من أباحوا
ارجعوا أيها الطغاة وإلا سينال الرقاب منكم سلاح
سوف يبقى الدعاة كي يطردوكم مثلما يطرد الظلامَ الصباحُ
ويعود الربيع من بعد غيثٍ وتولي أدبارهنَّ الرياح
================
غربة الإسلام
مجلة البيان - (ج 117 / ص 52)
نص شعري
غربة الإسلام
شعر: فتحي الجندي
بينما كنت أحضّر لكتاب: (غزوة فريدة ودروس عديدة) عن غزوة ذي قَرَد وبطلها: (سلمة بن الأكوع رضي الله عنه) جرى القلم بهذه القصيدة:
في زمن الغُربة يا ولدي أحدو للحق فهل تَسمعْ؟
أبواقُ الفتنة يا ولدي تنبحنا في أرضٍ بلقع
ضوضاءُ الفتنة تنهشنا وبسوط الباغي تتلفّع
أبناءُ (سلول) يا ولدي منعوا (رايتنا) أن تُرفع
يخشون العبد إذا صلّى والفُحْشُ لديهم لا يُمنع
هذي يا ولدي قصّتنا والبغي علينا يتربّع
ونداء الحق غدا غرضاً في كل جوانبها الأربع
والحق الأبلج قد وضعوا في كلْتَا عيْنَيْهِ أُصْبَع
والعبدُ الصلحُ في سجن وبكفّ أبي جهلٍ يُصفع
عبّاد (الذات) لكم جدّوا واجتهدوا في رصْد الرّكّع
إن سمعوا (قرآناً) خافوا فالسلطة منهم قد تُنزع
كم عقروا خيلاً يا ولدي ضجرت من قيد لا يُرفع
وبكت إسلاماً مكبوتاً ورقاب فوارسها تقطع
ولأجل الحق لكم نُرمى بالبغي - صغيري - ونُبدّع
فاكْفُر بالطاغوت العاتي ولغير الباري لا تركع
***
يا خيلَ الله متى يأتي بطلٌ في ثوب (ابن الأكوع)
يا ماجدَ (غزوةِ ذي قَرَدٍ) قد صرنا وسْط المستنقع
وكلابُ الصيد تُلاحقنا بنيوبِ سكاكينٍ تقطع
فأعرنْي رجْلَيْكَ لأعْدو فأنا في قيدي أتوجّع
وأعرنْي صَوْتَك لأُنادي: (سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
===============
غربة
شعر: عصام العطّار
تطاولَ لَيلي والسُّهادُ مُرافقي وما أطولَ الليلَ البهيمَ لآرقِ
غريبٌ يُقلّبُهُ الحنينُ على الغَضَى ويُرمضهُ شوقاً إلى كلِّ شائقِ
تناءتْ به دارٌ وأوحشَ منزلٌ وظلّله همٌّ مديدُ السُّرادقِ
وألقتهُ أحداثٌ على غاربِ النَّوى فيا ليتَ شِعري هلْ معادٌ لتائقِ؟!
تمرُّ به الأيامُ جُرحاً و أسهُماً وصبراً تحدَّى كِبرهُ كلَّ راشقِ
وشُعلةَ إيمانٍ يزيدُ اتّقادها على عَصَفاتِ الدَّهرِ عندَ المآزقِ
أحبّايَ يا مَهوى الفؤادِ تحيّةً تجوزُ إليكم كلَّ سدٍ وعائقِ
لقد هدّني شوقٌ إليكم مبرّحٌ وقرَّحَ جفني دافقٌ بعدَ دافقِ
وأرَّقني في المظلماتِ عليكمُ تكالبُ أعداءٍ سَعَوا بالبوائقِ
فمنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائهِ ومنهم عدوٌ في ثيابِ الأصادقِ
ومنهم قريبٌ أعظمُ الخطبِ قربهُ لهُ فيكمُ فعلُ العدوّ المُفارقِ
أردتمْ رضا الرحمنِ قلباً و قالباً ولم يَطلبوا إلا حقيرَ الدّوانقِ
فسدّدَ في دربِ الجهادِ خُطاكمُ وجنّبكمْ فيه خَفيَّ المزالقِ
بروحي شبابٌ منكمُ غيّبَ الثَّرى تهاوَوْا كِراماً صادقاً إثرَ صادقِ
بروحي الدَّمُ المُهراقُ في ساحةِ التُّقى يُلوّنُ دربَ الحق لونَ الشّقائقِ
بروحيَ ذاكَ الطُّهرُ والعلمُ والنُّهى بروحيَ ذاكَ العزمُ في كلِّ سابقِ
بروحيَ أسدٌ كبَّلَ البغيُ خَطوها وأوسعَها عَسفاً بكلِّ المرافقِ
فلمْ يرَ فيها غيرَ أصيدَ صابرٍ ولم يرَ فيها غيرَ أرعنَ شاهقِ
وغيرَ أبيٍّ باعَ في الله نفسَهُ وأرخصَها في المأزِقِ المتضايقِ
وقفتُ شَجيّاً لا أرى ليَ مَخلصاً إليكمْ وقد سُدَّتْ عليَّ طرائقي
تمنيتُ أنّي أفتديكمْ بمُهجتي وأحملُ ما حُمّلتم فوقَ عاتقي
على "منقذٍ" منّي السلامُ وصحبهِ و علَّ فِراقاً لا يطولُ لوامِقِ
شبابٌ كما الإسلامُ يرضى خلائقاً وديناً ووعياً في اسودادِ المفارقِ
قلوبهمُ طُهرٌ يفيضُ على الوَرَى وأيديهمُ تأسو جراحَ الخوافقِ
همُ السلسلُ الصافي على كلِّ مؤمنٍ وفي حومةِ الهيجاءِ نارُ الصواعقِ
أطلّوا على الدنيا كواكبَ تهتدي بنورهمُ عندَ اشتباهِ المفارقِ
وسادُوا عليها مخلَصينَ لربّهمْ فلمْ يحملوا أغلالَها في العواتقِ
سبيلُهمُ ما أوضحَ اللهُ نهجَهُ إذا حادَ عنهُ كلُّ وانٍ وفاسقِ
فلمْ يَرهبوا في اللهِ لومةَ لائمٍ ولمْ يَحذروا في اللهِ غضبةَ مارقِ
ولمْ يُطْبِهمْ يوماً ثوابُ مُساومٍ ولمْ يُصْبهمْ يوماً ثناءُ مُنافقِ
هُمُ الذّهبُ الإبريزُ سِراً ومَظهراً جباهُهُمُ بيضٌ بياضَ الحقائقِ
هُمُ الحُلمُ الرّيَّانُ في وَقدةِ الظَّما وليسَ على الآفاقِ طَيفٌ لبارقِ
هُمُ الأملُ المرجوُّ إنْ خابَ مأملٌ وأوهَنَ بُعْدُ الشَّوطِ صبرَ السّوابقِ
كأني أراهمْ والدُّنا ليستِ الدُّنا صَلاحاً و نورُ اللهِ ملءُ المشارقِ
أقاموا عَمودَ الدّينِ من بعدِ صَدعهِ وأعلَوا لواءَ الحقِّ فوقَ الخلائقِ
على البُعدِ يا أحبابُ أهفو إليكمُ خَيالُكمُ أنَّى سَريتُ مُعانِقي
أقاموا سُدودَ الظلمِ بيني وبينكمْ وما نقموا إلا يقيني بخالقي
فبتُّ على "لبنانَ" قلباً مُعذَّباً أُكابدُ في الأضلاعِ جمرَ الحرائقِ
فلا راحةٌ حتى ولو لانَ مضجعٌ ولا رَوحَ حتى في ظلالِ البَواسقِ
أُلامحُ من خلفِ الحُدودِ مَنازلاً تلوحُ كما لاحَ الشِّراعُ لغارقِ
تمنيتُ حتى ضجعةَ السجنِ بينكمْ على الصَّخرِ في جوٍّ من الجَوْرِ خانقِ(2/116)
صَلابةُ أرضِ السجنِ إنْ كانَ قُربَكمْ أحبُّ وأشهى من طَريِّ النَّمارقِ
ولم ترَ وجهي عندَ نعشكَ (مُصطفى) وذلكَ جرحٌ لا يغورُ بخافقي
مكانكَ في قلبي الوَفيّ مُوطَّدٌ فأنتَ على طولِ الزَّمانِ مُرافقي
أحبّايَ صَبراً للفِراقِ وما رمتْ به غاليَ الأكبادِ أيدي الطَّوارقِ
أحبَّايَ إنْ النَّصرَ لابدّ َ قادمٌ وإني بنصرِ اللهِ أولُ واثقِ
سنصدعُ هذا الليلَ يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كلَّ داجٍ وغاسقِ
ونَمضي على الأيامِ عَزماً مُسدَّداً ونبلغُ ما نرجوهُ رغمَ العوائقِ
فيعلو بنا حقٌّ - عَلونا بفضلهِ - على باطلٍ - رغمَ الظواهرِ - زاهقِ
ونصنعُ بالإسلامِ دُنيا كريمةً وننشرُ نورَ اللهِ في كلِّ شارقِ
==================
غريبٌ أنا أم زماني غريبُ؟!
غريبٌ أنا ! أم زماني غريبُ؟! ...... وحيّرَ فكري السؤالُ العجيبُ
غريبٌ ! وكيفَ وكلُّ شعاعٍ ...... سرى في السماء لعيني قريبُ؟
غريبٌ! وكيف وكلّ جمالٍ ...... بهذا الوجودِ لقلبي حبيبُ؟
وكيف أكون غريباً وحولي ... حبورٌ ونورٌ ولحنٌ وطيبُ؟
وعندي رجاءٌ ..وفوقي سماءٌ ...... تظلُّ، وشعرٌ ،وفكرٌ خصيب؟
وكيف أكون غريباً وشمسي ...... أقامت بطول المدى لا تغيبُ؟
وكلُّ البرايا معي ساجداتٌ ...... لِربّي نُلبّي ...له نستجيبُ
فذرّاتُ هذا الوجودِ تلبّي ...... وأسمعُها لو تَشِفُّ الغيوبُ
تسبّحُ سرّاً بغير ذنوبٍ! ...... أسبِّح جهراً وكُلّي ذنوبُ
غريبٌ أنا! أم زماني غريبُ؟! ...... يحيّرني ذا السؤالُ العجيبُ
غريبٌ! وكيف وهذي سبيلي ...... وغيري هوى،ضيَّعَتْهُ الدروبُ؟
وكيف ودربي ابتداهُ الرسولُ ...... يقود القلوبَ،فتحيا القلوبُ؟
أنا إنْ سجدتُ أناجي إلهي ...... فؤادي يطيبُ ، وروحي تذوبُ
أعيش بظلِّ النجاوى سعيداً ...... فأدعو ،وأدعو ،وربّي يُجيبُ
وربي قريبٌ، قريبٌ، قريبُ ...فكيف يُقال: بأني غريبُ؟
===================
الأقليات الإسلامية بين التقيد بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة «?»
قبل الدخول في صلب الموضوع لابد من القاء نظرة اجمالية على اوضاع المسلمين خارج البلاد الاسلامية والتعرف على عناصر القوة والضعف لديهم.
من المعروف أن عدد المسلمين خارج العالم الاسلامي راح يقرب من عددهم داخله، كما ان عددهم داخل بعض البلدان كالصين والهند وفرنسا وروسيا واميركا يربو على عدد سكان كثير من البلدان الاسلامية ويتمتع هؤلاء المسلمون بميزات كثيرة اخرى لعل أهمها:
اولا: التنوع:
فهم ينتمون الى شتى الاعراق والامم حتى ليمكن القول بان انتماءاتهم يقارب عدد الاعراق في العالم اذ لا تجد قومية الا وفيها مسلمون اما يمتدون مع الزمن الى تاريخ طويل أو أنهم اسلموا في اوقات متأخرة.
وكمثال على ذلك نلاحظ ان كاتبة غربية هي «اكيينر» كتبت تقول: في الاتحاد السوفيتي يوجد الآن خمسة واربعون مليونا ونصف مليون مسلم وهؤلاء يمثلون احد التجمعات الاسلامية الكبيرة في العالم، والثاني من حيث الحجم بعد بلدان مثل اندونيسيا، بنغلادش، والهند وباكستان وهو مجتمع له صفات استثنائية من حيث البنى والثقافة والاختلاف الاقليمي.
ويتوزع المسلمون السوفيت على ارض غربا الى حدود بولندة وشرقا الى حدود الصين، يتواجدون في مناطق سيبرية شمالا وفي وسط آسيا وعبر القفقاز جنوبا.. انهم يمثلون لوحة واسعة من المجموعات العرقية.
ثانيا: الاعتزاز بالاسلام وتأصله في النفوس:
وهذه ظاهرة واضحة نرجعها نحن الى طبيعة الاسلام نفسه باعتبار طاقاته الذاتية على النفوذ الى اعماق النفس وتوجيه السلوك الانساني ومجمل الثقافة، وباعتبار انسجامه مع الفطرة الانسانية.
تقول الكاتبة السابقة: «والواقع أن ظاهرة بقاء الاسلام هي في الواقع اكثر إثارة للاهتمام من نهوضه، وقد اعتقد كثير من الناس أن الاسلام خلال القرن ال?? قد افلس روحيا، وقد تحدث رحالة مثل «شبيلر» و «فامبيري» عن الغياب الظاهر للدين الحقيقي في وسط آسيا. ولابد انه كان من الصعب عليهما ان يدركا أنه بعد قرن من ذلك الوقت وفي ظل نظام مختلف أن اولئك المواطنين مازالوا يعرفون أنفسهم على انهم مسلمون، والواقع ان كثيرا من المسلمين السوفيت لم يمارسوا واجباتهم الدينية كما يجب.
وهذا النص يشع بكثير من الامور ويوضح التفاعل بين الاسلام والقومية، ومدى تأصله في النفوس حتى عندما يكون الضغط بمستوى قهر السوفيت الطاغي والشامل والمتعمق بكل تخطيط لمحو الاسلام قبل كل شيء.
وقد حضرت مؤتمرا في جمهورية آذربايجان تحدث فيه رئيسها المتوفى «حيدر علييف» وكان مستشارا لبريجنيف رئيس الاتحاد السوفيتي فاكد ان الشيوعيين رغم محاربتهم للدين عموما باعتباره - كما تدعي الماركسية - افيون الشعوب، فقد مسوا المسيحية مسا خفيفا وركزوا كل همهم على الاسلام وتمزيقه. وتبين للعالم بعد انتهاء الحكم الشيوعي ان الاسلام اقوى من كل تخطيط لضربه مهما كان واسعا.
ثالثا: الشعور باللحمة التي تربطهم بالعالم الاسلامي بقوة.(2/117)
وهي ظاهرة عامة وان كانت تختلف شدة وضعفا من منطقة الى اخرى وهي ايضا ناتجة من طبيعة الاسلام وتخطيطه للحياة. وتعتبر من اهم العناصر الايجابية التي يجب تقويتها بشدة وهي نفسها ما يرعب اعداء الامة ويشكل هاجسا مستمرا لهم وربما يظهر هذا الهاجس احيانا في فلتات ألسنتهم.
رابعا: المشاكل المشتركة
ويشتركون جميعا في مواجهة حملة شرسة تعمل على افقادهم هويتهم وتقاليدهم وربما استهدفت وجودهم في تطهير عرقي فضيع كما شاهدنا الأمر في البوسنة. وتكاد المشاكل تتحد في اكثر الاماكن.
وبالطبع فان هناك تفاوتا كبيرا بينهم في الشدة والضعف، وفي القدرة على المواجهة الا ان الملاحظ تماما هو عملية الاستهداف المنسق والذي يزداد يوما بعد يوم وخصوصا بعد حوادث ?? ايلول في اميركا.
بعض المشاكل المشتركة:
والمشاكل التي يواجهونها كثيرة ومتنوعة فهناك مشاكل ثقافية ترتبط بالتشكيك في العقيدة واعطاء الجيل الناشئ معلومات مادية. ويزداد الامر خطورة عندما يتم ذلك في اجواء مادية بعيدة عن المعنويات تترك أثرها السلبي؛ عبر ايجاد حالة اللامبالاة وتعميق روح استغناء الفرد عن العائلة، وعدم الاكتراث والاهتمام بتطبيق الواجبات والحذر من المحرمات. وهناك مشاكل اجتماعية خطيرة تعليمية وتربوية واعلامية وسنذكر فيما يلي بعضها:
أ - المشاكل الثقافية:
اولا: وتعتمد ثقافة كل مسلم على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومفتاح فهم هذه الثقافة هو اللغة العربية. وفي الوقت الحاضر فان الاختلاف الثقافي الأساسي بين الاقليات المسلمة والبلدان غير الاسلامية يعود الى الاختلاف في اللغة او بتعبير افضل عدم معرفة اللغة العربية في تلك المجتمعات.
وهذا الاختلاف يؤدي الى تباين نمط التفكير لدى هذه الاقليات خلال البحث عن المصادر الثقافية للفكر الاسلامي وهذا الامر اكبر خطر يهدد عقيدتها نفسها.
وثانياً: يحصل نوع من اللاابالية لدى ابناء الاقلية تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، مما يسفر - بحد ذاته- عن التفكك العائلي وازدياد حالات التمرد لدى الاطفال، والانتحار بين الكبار وخاصة بين المترفين والأثرياء، وفقدان الموجّه للشباب المسلمين.
وثالثاً: ان ذلك يسفر عن ظهور حالة من الفتور وعدم الاقبال تجاه تنفيذ الاحكام الاسلامية وأحقية الاسلام، وهذه الحالة لوحظت بين افراد الجيل الثاني للنساء وخاصة فيما يخص التزامهن بالحجاب وظهرت فيما بينهن حالة ازدواجية الشخصية.
فمن جانب؛ نجدهن يفضّلن عدم ارتداء الحجاب لكي لا يصبح ذلك سبباً في لفت الانظار اليهن وليتمكّن من العيش في المجتمع بسهولة وراحة اكثر. ومن جانب آخر فان التعاليم الاسلامية تمنعهن من القيام بذلك.
ورابعاً: يحصل نمط من الاختلاف الفاحش والبون الكبير في الاحتياجات المعنوية والنفسية للجيلين الاول والثاني.
ب - المشاكل الاجتماعية:
عندما يقطن مسلم في أحد البلدان غير الاسلامية يواجه العديد من المشاكل وما أقصد تبيانه هنا المشاكل الاجتماعية في المجتمعات التي تتوافر فيها حرية العقيدة والمذهب وباستطاعة المسلمين أن يؤسسوا الجمعيات والاتحادات الاسلامية وأن يمارسوا كل نشاطاتهم وعباداتهم الاسلامية.
ويمكن تقسيم أبرز المشاكل الاجتماعية التي يعانونها الى أربعة أصناف هي:
- مشكلة التعليم.
- المشاكل التربوية.
- مشكلة الاختلاط .
- مشكلة الاعلام.
اقتراحات لحل المشاكل الاقتصادية للاقليات:
?- ينبغي لمنظمة المؤتمر الاسلامي أن تقوم بخلق الظروف الاقتصادية المناسبة للاقليات الاسلامية لأن لذلك دوراً كبيراً في تحسين اوضاعها الثقافية.
?- ينبغي أن تؤسس منظمة المؤتمر الاسلامي جمعية او رابطة مهمتها التواصل مع الشباب المسلمين الذين غادروا بلدانهم ومسقط رأسهم لغرض الدراسة، وتقوم هذه الجمعية او الرابطة بتقوية اواصر هؤلاء الشباب مع بلدانهم الاصلية والحيلولة دون انقطاع صلاتهم بها نهائياً، والعمل على توفير مهن ووظائف وفرص عمل لهؤلاء الخريجين في بلدانهم نفسها.
?- تأسيس صندوق دولي لرعاية الأقليات المسلمة بمشاركة واسهام البلدان المسلمة والمنظمات الاسلامية والاثرياء الخيرين من المسلمين. وظيفة الصندوق دعم ومساعدة الاقليات المسلمة في شتى المجالات كتأسيس المدارس والمعاهد والمكتبات ومراكز تحفيظ القرآن الكريم والتعليم الديني.
?- يقوم الصندوق المذكور بتوفير ظروف معيشية وفرص عمل مناسبة ووحدات سكنية ومراكز تعليم مناسبة للمسلمين في البلدان غير الاسلامية التي يقطنونها.
?- من الضروري أن تخصص منظمة المؤتمر الاسلامي المزيد من المساعدات للبرامج والخطط المتعلقة بتحسين اوضاع الاقليات المسلمة، لغرض تمكينها من تأسيس المدارس والمراكز الاسلامية والثقافية.
?- دعوة الاقليات الاسلامية لمواصلة نضالها ومقاومتها لغرض المحافظة على كيانها وعلى حريتها الاقتصادية والقيام بواجباتها الدينية وشعائرها المقدسة وتوفير التسهيلات اللازمة لابناء هذه الاقليات ليؤدوا فريضة الحج وغيرها من الفرائض الدينية.(2/118)
ج - المشاكل السياسية للاقليات الاسلامية: في الحقيقة ان الاقليات الاسلامية فقدت كيانها السياسي ولابد لمنظمة المؤتمر الاسلامي أن تستنفر كل امكاناتها وتستخدم شتى الاساليب السياسية والدولية لاسترجاع كيان هذه الاقليات وترسيخ وجودها.
ولا شك ان الاقليات الاسلامية تتعرض في كثير من دول العالم للتعذيب والمجازر والتدمير. ومن الطبيعي أن مثل تلك الانظمة التي تنتهك أبسط حقوق الانسان ترى أن أبرز مشكلة تواجهها هو أن تحافظ الاقليات الاسلامية على كيانها السياسي. ولذلك نرى أن هذه الانظمة تمارس التمييز العنصري ضد الاقليات الاسلامية، وتحرص على حرمانها من حقوقها ومن امتلاك وسائل الاعلام، وتعتدي على الثقافة والقيم والعقائد التي يؤمن بها المسلمون في تلك البلدان، وتفرض مضايقات متعددة وبأنماط شتى على تلك الاقليات.
سر المشكلة واختلافات الحالات
ويمكن القول ان سر المشكلة يكمن في التناقض بين ثوابت ومقتضيات الاسلام «عقيدة ومفاهيم وشريعة» ومقتضيات العيش في مجتمعات لا تنسجم مع ذلك ويتفاوت عدم الانسجام هذا من حالة الى حالة:
أ - فقد يكون الى حد ما طبيعياً بأن يتطلب الأمر قيام المسلم بمقتضيات المواطنة التي تعني تحمل المسؤولية في المجالات الاجتماعية والسياسية العامة والخاصة بما يصاحب ذلك احياناً من تناقض مع الثوابت الاسلامية وتنازل عنها.
ب - وقد يكون مصحوباً بهجوم وتخطيط حكومي لمحو كل مظاهر الهوية الاسلامية في جو ديمقراطي مدعي بحجة التوطين او تحقيق الانسجام وتوحيد الموقف كما لاحظنا في قضية الحجاب في فرنسا وأمثالها.
ج - وقد يتم ذلك في جو لا انساني فضيع كما حدث في روسية والصين والبوسنة وانغولا واثيوبيا «وان كان المسلمون فيها هم الاكثرية» وغيرها من البلدان حيث التهجير، والتطهير العرقي، والتفكيك، والعزل، والتشكيك والتمييع وغير ذلك.
الثوابت الاسلامية:
وهي مالا يمكن التنازل عنه من وجهة نظر الاسلام، وتشمل:
أولاً: مجال العقيدة وتشمل كل أبعاد العقيدة الاسلامية التي تتمحور حول الايمان بالتوحيد والنبوة والمعاد بتفريعاتها التي تثبت بالعقل او النقل الصحيح، ولا ضرورة لدخولنا في التفاصيل.
ثانياً: مجال التشريع الالزامي: وتدخل فيه كل الاحكام التكليفية الالزامية «الواجبة او المحرمة» بما يلازمها من احكام وضعية مشابهة كقضايا الملكية والزوجية والصحة والفساد.
ثالثاً: مجال الاحكام غير الالزامية ويشمل التقاليد الاسلامية والمستحبات والمكروهات التي يحرص المسلم على تنفيذها في حياته. ولا ريب في ان هذا المجال مما يمكن التسامح فيه الى الحد الذي لا يتنافى مع الصبغة الاسلامية العامة.
فقه الغربة عن العالم الاسلامي
ومن هنا احتاج الأمر الى عنصر مهم يجب العمل على تحقيقه مهما كلف الأمر.
وهو توفر مركزية فقهية معترف بها وذات نفوذ بين اوساط المسلمين بحيث يمكنها ان تنظم الأمور وتنسق المواقف مع امتلاكها لتصورات فقهية تحقق التوازن المطلوب بين الحفاظ على الثوابت والاستفادة الجيدة من عناصر المرونة لمواجهة الضغوط وتحقيق المصالح ودرء المفاسد.
وتقوم هذه المرجعية بالعمل في المرحلة الاولى على توفير الجو الطبيعي لتطبيق كل توجهات الاسلام حتى على مستوى الاحكام غير الالزامية ذلك ان هذه الاحكام تشكل في الغالب طريقاً لتطبيق الاحكام الالزامية وضمانة للاداء الجيد لها فان مستحبات شهر رمضان مثلاً توفر اجواء التنفيذ الجيد لواجب الصوم، ومكروهات التعامل بين الرجل والمرأة تعمل على ابتعادهما عن المحرمات وهكذا.
وقد يصل الحال ببعض الامور المستحبة ان تشكل معالم للمجتمع المسلم من قبيل بناء المساجد او افشاء السلام او امتلاك مقابر خاصة او عقد صلوات الجماعة الكبيرة، او اقامة مراسم الافطار الجماعي وحينئذ يتم الاصرار مهما امكن على الاحتفاظ بها بل وتوسعتها. ويستعين هذا المركز بمجموعة كاملة من الاضوية الكاشفة.
الاضواء الكاشفة - المساهمة في عملية تكوين الموقف الاسلامي
هناك احكام وقواعد وتعليمات اصولية وفقهية وعامة تشكل اضواءً في مسيرة التعامل مع الآخرين يمكن ان يعتمدها هذا المركز او هذه المرجعية للوصول للموقف الصحيح وقد تجد هذه الامور تطبيقاتها في كل الظروف لكن البعض منها يجد مصاديقه بشكل اوضح في حياة المغتربين والاقليات الاسلامية. ومنها مايلي:(2/119)
المقاصد الشرعية العامة، وقاعدة توخي القسط، وقاعدة الدفاع عن حقوق المستضعفين، وقاعدة قضاء حاجة المحتاجين واطعامهم وكسوتهم، وقاعدة اتيان الرخص الشرعية، قاعدة الطهارة، وقاعدة الاباحة حتى تثبت الحرمة، وقاعدة الاستصحاب وقد ورد انه «لا تنقض اليقين بالشك» و«ابق ما كان على ماكان»، وقاعدة الحوار السليم المتسم بالموضوعية ونسيان الماضي واستهداف الحقيقة وعدم المجادلة وتطلب النقاط المشتركة والابتعاد عن التهويل واعتماد البرهان، وقاعدة المنع من الافراط والتفريط واتباع المنهج الوسطي، وقاعدة التعاون على البر والتقوى، وقاعدة المودة، وقاعدة احترام الانسان باعتباره انساناً قال الامام علي: «فانهم صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق»، والاستفادة من احكام الهجرة اللازمة عند التضييق في الدين، والاستفادة من احكام الطهارة المتنوعة، واحكام الصلاة المتنوعة، واحكام الصوم، احكام الدفن، واحكام الطعام والشراب، واحكام التعامل مع القوانين النافذة هناك، واحكام العمل والتداول المالي، والاحكام الاجتماعية.
هذا وهناك الكثير من الموارد التي يمكن ذكرها ولكننا نكتفي بما ذكرناه باعتبارها نماذج وإشارات ينتفع به فقه المغتربين بملاحظة الظروف هناك وهي متنوعة من قطر لآخر ومن حكومة لأخرى.
ثم أنه قد تستجد او تفرض ظروف قاهرة تمنع من تطبيق هذه الاحكام التي نسميها «الاحكام الأولية» باعتبارها تترتب على الشيء بعنوانه وطبيعته، وهذه الظروف القاهرة تمنح الموضوع عنواناً استثنائياً ولذلك نسمي ذلك «العنوان الثانوي».
…
الحقوق والواجبات الاجتماعية للمسلمين في الأقطار غير الإسلامية «?»
إن اختيار عنوان «المسلمون في الأقطار الإسلامية حقوقهم وواجباتهم، مشاكلهم وحلولها» للمؤتمر الدولي للوحدة الإسلامية في دورته التاسعة عشر في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها الأمة الإسلامية من هجمة على الإسلام وعلى نبي الإسلام الرسول الأكرم«ص» تستدعي منا الرد عليها بالمزيد من الوحدة تأسياً بقوله تعالى «واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».
تمهيد
الإنسان في مهده أو مسرحه الكوني له حقوق حباه الله إياها دونما شريك معه أو ظهير له كما أنشأ سائر المخلوقات في الزمن الدنيوي وغير الدنيوي وأساس تلك الحقوق الحرية التي نشأت معه جزءاً من كينونته الإنسانية هذه الحرية تضبط مجرياتها الفطيرة الأصلية التي أودعها الله في الإنسان، والتي يتوجها العقل الذي تفتقر إليه بقية الكائنات على الأرض، ولا يحق لمخلوق بشري أن يسلب أخاه في البشرية تلك الهبة المقدسة لاستعباده.
ولقد كان من الله سبحانه وتعالى ثلاث مشيئات هي: الكون والإنسان والكتب السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن. وهي مشيئات تختلف في الأشكال والهيئات والعَرَض ولكنها تتماثل وتتناغم في علاقات جدلية إيجابية، في سمات جواهرها وحركات تطلعاتها وخلجات ومضاتها وانشداد أشواقها وطموحاتها إلى البارئ تعالى أي نحو الخالق المطلق كونها نتاج أمره أي آياته أو كلماته، عنه صدرت وإليه الرجوع ؟قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ؟ ؟... قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُون؟ .
إذن وأمام هذا الواقع الجلي فإن الكون مسرح لكل الناس ولكلٍ منهم الحرية في إختيار المكان الملائم لعيش كريم وعمرٍ هادئٍ مطمئن دون أن يتجاوز حدود حريته إلى حرية الآخرين لاستلابها في تعدٍ غاشم ظالم، فالعدل والمحبة والسلام والرحمة وغيرها من القيم وما في الأرض كلها تشكل أمانة في أعناق جميع بني البشر على مختلف دياناتهم وصونها واجب مقدّس لا بدَّ من تمثُّله لعيش مجتمع إنساني مُصان الحقوق والحدود والواجبات والأمن والأمان.
ومهما تباينت المذاهب الفكرية والعقائدية والنظرات المختلفة إلى الإنسان والكون والحياة، على أبناء الإنسانية، بمختلف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعقائدهم أيضاً عليهم أن يسيروا على ميزان العدل والقسطاس المستقيم والسلام المتبادل التي تحترق في موقدها العامر شوائب الأحقاد والضغائن والاستئثار والاستكبار.
إن هذه القيم هي جزء من كينونة الأنوار التي أودعها الله في رسالات السماء: التوراة «هدى ونور» والإنجيل «هدى ونور» «قرآن كريم» والقرآن شامل لجميع تلك الرسالات منذ عهد سيدنا إبراهيم حتى عهد السيد المسيح المؤيد بروح القدس وتأسياً على ذلك يقول الإمام علي بن أبي طالب:''أما والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم..... ولما اختلف في الأمر شيء'' «نهج البلاغة».(2/120)
من هنا وعبر هذا المنظور جاء تصدينا لموضوع: «المسلمون في الأقطار غير الإسلامية» وفي رأينا، هو موضوع بالغ الحساسية والدقة، والتصدي له يجب أن يأتي عبر دراسة علمية وموضوعية قدر المستطاع لكونهم أقليات إسلامية تعيش في مجتمعات مختلفة المشارب والمسارب والتقاطع ضمن أنظمة غير مسلمة، وعلينا كعلماء دين إسلاميين وكمؤسسات إسلامية أن نلتفت إليهم التفاتة رعاية وإحاطة ومؤازرة على المستويات كافة فكرية وثقافية واجتماعية وما قد تحتاجه.
إذن علينا أن نكون إلى جانبهم ونشد من أزرهم ليكونوا بدورهم أوان الحاجة إليهم، بجانبنا ويكونوا المرآة الصافية التي تعكس صورة الإسلام المشرقة.
لذلك فإن بحثنا هذا، سيتناول مجموعة من المفاهيم والأسس التي تعرض لحقوق الإنسان من المنظور الغربي وكذلك من المنظور الإسلامي كما أننا سندرس أوضاع تلك الأقليات في بعض الأقطار على المستويات كافة في تأثيرها وما لها وما عليها وما يمكن أن تقدمه من دعم لقضايا العالم الإسلامي. وسوف نستعرض أيضاً التحديات التي تواجه تلك الأقليات خصوصاً بعد ?? أيلول ???? وما جرَّ من مضاعفات عليها.
حقوق الإنسان من المنظور الغربي:
سنتطرق في هذا المحور إلى حقوق الإنسان من خلال المفهوم الغربي، دون الغوص في شروحات وتفسيرات وسنستعرض هذه الحقوق والحريات من خلال ما تطرقت إليه وثيقة حقوق الإنسان العالمية.
إن أهم ما أعلنته وثيقة حقوق الإنسان العالمية هو:
?- المساواة.
?- الحق بالحريات: الحرية الجسمانية، وحرية الحركة والانتقال، وحرية الرأي والمعتقد الديني، وحرية التعبير والنشر، وحرية تأسيس العائلة، وحرية اختيار العمل، والحرية السياسية «على أساس المساواة وباعتبار أن مصدر السلطة العامة هو إرادة الشعب»، وحرية الانتساب الوطني، وحرية الاشتراك في الاجتماعات وفي دخول الجمعيات المسالمة وفي عدم الدخول بجمعية ما.
? - الحق بالعدالة وباللجوء إلى المحاكم.
?- الحق بالأمن والطمأنينة.
? - الحق بالكرامة للشخص والمنزل.
? - حق الملكية.
? - الحق بالراحة اللازمة وبالعيش الكريم وبالحماية من البطالة مع رعاية خاصة للأمومة والطفولة.
? - الحق بقسط من الثقافة وبالمشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية وبحماية الملكية الأدبية والفكرية.
? - حق المضطهد في بلد ما بأن يلجأ الى بلد آخر.
??- الحق عند الضرورة القصوى بالثورة على الاستبداد والطغيان.
حقوق الإنسان في المفهوم الإسلامي:
أما عن الإسلام وحقوق الإنسان، فإن تاريخ الحقوق الطبيعية للإنسان، وإن كان قد صور منهجياً كمفهوم غربي، إلا أن ذلك لا يعني أسبقيتهم وتفردهم في هذا المجال إذ إن حقائق تاريخية تؤكد اهتمام الفلسفات والثقافات الشرقية العريقة في الصين والهند وفارس «إيران» بالإنسان وحقوقه، وعلى أهمية المساواة بين الناس.
وإذا كانت جميع الفلسفات والديانات الغربية والشرقية قد اهتمت بفكرة حقوق الإنسان، فإنه لا بُد لنا من إلقاء نظرة على الفكر الإسلامي في هذا المجال.
فالإسلام يؤكد بصورة لا لُبْسَ فيها على وجود حقوق ثابتة وطبيعية بل وضرورية ولحرمة الإنسان، وهي حقوق يتطابق العقل الإنساني والوحي الإلهي على توكيدها واحترامها منذ الأزل وهبها الله له بعد أن خلقه وفضّله على سائر مخلوقاته.
لقد اعترفت وأقرت الشريعة الإسلامية منذ فجرها بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية في وقت لم يكن فيه للإنسان حقّ أو حرية أو كرامة في ذلك المحيط حيث التمايز بين الرجال والنساء والأحرار والعبيد بصورة تنتهك فيه حرمة الإنسان بالنسبة للمرأة والعبد، إضافة لعدم وجود أي احترام وحماية للملكية والمال بصورة عامة، إذ كان ديدن العرب في الجاهلية هو الاعتداء على أموال وممتلكات بعضهم البعض، بل كان ذلك من السمات المميزة للعرب قبل هداية الإسلام لهم.
ولما كان التحرر من العبودية ومن الخوف والفاقة هما العمود الفقري المقوم للكرامة الإنسانية، لذا نرى أنَّ مبدأ الحرية في الإسلام، وكما هو وثيق الارتباط بالعقيدة نفسها فإنه يستقيم مع فطرة العقل السليم التي فطر الله عليها الإنسان، وهي بذلك تدخل دائرة الحقوق الطبيعية حتى في الفكر الإسلامي «أنها عنصر جوهري في كيان الإنسان وظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة تبعاً لمدى حيويتها، وهي الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان والتي تعتبر بحق أهم المقومات الجوهرية للإنسانية لأنها تعبر عن الطاقة الحيوية فيها فالإنسانية بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى، وهي بهذا المعنى خارجة عن نطاق البحث العلمي».
والحرية كما يراها الإسلام هي الحرية اللائقة بالإنسان، الجديرة بشأنه ومكانته، فهي التي تكون ضمن قوانين وسنن وحدود وموازين معقولة تضمن نمو القوى البشرية، وتكامل المواهب الإنسانية وسيرها في الاتجاه الصحيح وبلوغها إلى كمالها الممكن عن طريق توفير الفرص المناسبة لنمو الاستعدادات والقابليات الإنسانية في الفرد والمجتمع.(2/121)
ولم يكتف الإسلام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله وحفظ حريته، إنما أعطى للكيان المعنوي للإنسان المتعلق بكرامته حماية أيضاً، فتحريم القتل بغير حق هو تأكيد للحق في الحياة لقوله تعالى «؟وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ؟» وقوله تعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا؟».
ولن ندخل في بحث حقوق الإنسان في الإسلام بشكل شامل لكونها حقيقة ثابتة، ولكن سنعرض لمبدأ كرسه الإسلام وهو الحد اللائق لمعيشة الإنسان كجزء من حماية كرامته، فجاء بمبدأ «الضمان الاجتماعي» ومؤداه، أن يتعين لكل فرد يعيش في المجتمع الإسلامي ضمان المستوى اللائق للمعيشة له ولأسرته، وهو يوفره لنفسه بجهده وعمله، فإن عجز عن ذلك بسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة فإن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين أيا كانت ديانة هذا الفرد .
لأن الضمان الاجتماعي ترجمة للعدل الاجتماعي، فإن قصَّر الضمان انعدم العدل وانتهك أهم حق للإنسان الأمر الذي يعطي للمسلم الحق في مساءلة الحاكم بل والناس، ومن هنا كان عجب الصحابي أبي ذر الغفاري وتعجبه عندما قال: ''عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
وأمام هذا الاهتمام الإسلامي الواقعي بالإنسان والذي تسنده أحكام شرعية ملزمة بمقتضى نصوص قرآنية محكمة، أقرّت للإنسان في الإسلام حقوق تحفظ وتعزز من كرامته.
ولا مجال للمقارنة أو المقاربة بين موقف الإسلام وبين الفكر الوضعي وقوانينه في هذا الخصوص «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير» فالإسلام أعطى هذه الحقوق ابتداءً صفة الإلزام لا صفة الطواعية الأخلاقية.
وليست حقوق الإنسان التي قامت مع الإسلام أمنيات أو تمنيات، فالإسلام يقرّ الحقوق الإنسانية كجزء من الشريعة وصيانتها وظيفة شرعية تدخل كأساس في التشريع الإسلامي والعمل واجب شرعي وعبادي يدخل في إطار العلم والعمل المكونين للإيمان بالله وبما أُنزِل من كتب سماوية وبحاملي تلك الرسالات التي هي شفاء في صدور المؤمنين الملتزمين بها.
يقول البروفسور ليك: «هناك حقيقة جديرة بالاعتبار والتقدير وهي أنه في الوقت الذي كان العالم يرزح تحت نير العبودية جاء الإسلام ينادي بالحرية والإخاء والمساواة في الحقوق والواجبات». وأن ما قام عليه الدين الإسلامي من مبادئ سامية شكّل العامود الفقري لوثيقة حقوق الإنسان وحمايته وحفظاً لحرية الانتقال والحركة والعيش بكرامة داخل المجتمعات التي يحل فيها. وقد ساهمت عوامل عديدة في انتقال المسلمين من أقطارهم إلى بلاد بعيدة نستعرضها في بحثنا.
ونذكر ما ورد في كتاب الله العزيز من آيات تدل وتؤكد على معاني الحرية والمساواة في الحقوق في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا»، «لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا»، «ا؟وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا»، «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِن فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون».
================
مفهوم الأقليات والجاليات الإسلامية:
بدأت ظاهرة الأقليات الإسلامية في العصر الحديث، مع تصاعد الهجرة من البلدان الإسلامية إلى مختلف أقطار الأرض، خلال العقد الأول من القرن العشرين في مستواها الأول، وأما في مستواها الثاني فبرزت هذه الظاهرة، مع نشوء الدول الحديثة في العديد من المناطق التي كانت تقع تحت حكم المسلمين، إلى أن أعيد رسم الخريطة الجغرافية والسياسية لهذه المناطق، بحيث تضاءل نفوذ المسلمين وتقلص حضورهم، ليصبحوا أقلية في المجتمعات التي كانوا يحكمونها
ومع نمو حركة الهجرة من العالم الإسلامي إلى شتى أقطار العالم، وبخاصة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم إلى أميريكا الجنوبية وكندا واستراليا، نشأت ظاهرة الأقليات الإسلامية لأول مرة تقريباً في تاريخ الإسلام، حيث وصل المسلمون إلى هذه الدول يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها أديانها ولغاتها وثقافاتها، ولها أنماط العيش وأساليب الحياة الخاصة بها والتي تختلف عما ألفوه ونشأوا عليه وعاشوا في كنفه في بلدانهم الأصلية.
وبالاحتكام إلى المقتضيات القانونية والدستورية المتعارف عليها دولياً، فإن الأقليات الإسلامية، هي إحدى الفئات الثلاث التالية:
أولاً : رعايا دولة غير إسلامية، ينتسبون إلى هذه الدولة بالأصل والمواطنة، عليهم ما على مواطني تلك الدولة من حقوق وواجبات. وتمثل هذه الفئة الكبيرة من الأقليات الإسلامية «مسلمي الهند، والصين، والفليبين، وروسيا الاتحادية» وينضم إلى هذه الفئة، مواطنو الدول غير الإسلامية الذين اعتنقوا الإسلام في أوطانهم، فهم جزء لا يتجزأ من شعوبهم.(2/122)
ثانياً: رعايا دولة إسلامية يقيمون في دولة غير إسلامية ويخضعون لمقتضيات القانون الدولي ولأحكام القانون المحلي، وتأتي هذه الفئة في الدرجة الثانية من حيث التعداد. «مثال المسلمين من دول منظمة المؤتمر الإسلامي المقيمين في شتى بلدان العالم».
ثالثاً : رعايا دولة غير إسلامية يقيمون في دولة أجنبية غير إسلامية، وتمثل هذه الفئة نسبة كبيرة من الجماعات والأقليات الإسلامية المقيمة في دول غربية وشرقية عديدة.ومن الواضح أن هذه الفروق التي نشير إليها هنا، إنما تخضع لمفهوم القانون الدولي، ولكن حينما يتعلق الأمر بالمفهوم الإسلامي للقضية بحد ذاتها، فإن هذه الفروق تتلاشى بصورة تلقائية، عملاً بمبدأ الأخوة الإسلامية، طبقاً لقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة
========================
الفهرس العام
الباب الثاني…2
فقه الاغتراب…2
حكم المشاركة في الجيش غير المسلم ومحاربة المسلم مع الكفار(1/3)…2
حكم مقاتلة المسلمين مع الكفار ضد الكفار…8
حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد المسلمين…15
قسم الولاء لتحصيل الجنسية…18
أولويات في حياة المغترب…23
الإقامة بين غير المسلمين لحديثي العهد بالإسلام…34
مسائل الطهارة في البلاد غير الإسلامية(1)…37
اللجوء السياسي إلى البلاد غير الإسلامية…56
حكم بيع المساجد…63
الخلاف حول وقت عيد الأضحى…68
خطبة الجمعة بغير العربية…69
التجنس بجنسية غير إسلامية "المشكلة والحل"…72
التعامل مع الجار الكافر…77
حكم إعطاء الكفار من الزكاة والصدقات…78
صلاة التراويح مظهر للاجتماع أم مدخل للافتراق…81
ثبوت شهر رمضان في الدول غير الإسلامية…90
حكم إقامة التمثيليات في مساجد المراكز الإسلامية…92
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه…94
يم تهم الداعية المغترب(الحلقة الرابعة)…101
مفاهيم تهم الداعية المغترب…104
مفاهيم تهم الداعية المغترب…108
مفاهيم تهم الداعية المغترب(الحلقة الرابعة)…113
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه…116
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الأولى )…122
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الثانية )…127
حكم زواج المسلم بالكتابية . ( الحلقة الثالثة )…130
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الرابعة)…133
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة الخامسة )…136
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة السادسة )…142
حكم زواج المسلم بالكتابية ( الحلقة السابعة )…150
حكم زواج المسلم بالكتابية( الحلقة الأخيرة )…156
مفاهيم تهم الداعية المغترب…161
مفاهيم تهم الداعية المغترب…178
مفاهيم تهم الداعية المغترب…183
حكم السفر والإقامة في بلاد الكفار…188
أمور تنبغي مراعاتها في دعوة غير المسلمين…192
حكم تجنّس المسلم بجنسيّة دولة غير إسلاميّة…196
فقه الاغتراب…199
فوائد ودروس وعبر السياحة…207
الصيف والسفر…213
كيف تدعو إلى الإسلام…221
المسلمون ومرحلة الغربة…227
الغربة…244
أنا.. والغربة…249
الغربة والغرباء…250
مداراة في الغربة…256
عودة الغربة…260
وانمحى عار الغربة…266
أنين العفة في زمن الغربة…270
الغربة الحقيقية…271
فتنة الغربة…273
غربة أهل الحق…282
غربة التوحيد…284
منظومة في غربة الإسلام…291
غربة الإسلام…296
غربة…300
غربة غريبة…301
غربة الأموال العربية ومهانتها…303
غربة الإسلام - فضل عمل غربائه…319
الغربة والغرباء…322
فى غربة الإسلام…329
غربة الإسلام…333
معنى غربة الإسلام ومعنى خير القرون قرني…336
من مظاهر غربة الدين في هذا الزمان…337
غربة المسلم…339
اشتداد غربة الإسلام في آخر الزمان…342
غربة الإسلام…344
غربة الإسلام…349
غربة الإسلام…360
غربة الدين والواقع المؤلم…366
غربة…380
غربة الإسلام…380
غربة…382
غريبٌ أنا أم زماني غريبُ؟!…384
الأقليات الإسلامية…385
بين التقيد بالثوابت والقيام بمقتضيات المواطنة «?»…385
مفهوم الأقليات والجاليات الإسلامية:…403(2/123)
الخلاصة في فقه الأقليات
(3)
الباب الثالث
صناعة الفتوى وفقه الأقليات
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث
صناعة الفتوى وفقه الأقليات
صناعة الفتوى وفقه القليات:
أخر كتب سماحة العلامة عبدالله بن بيه واحد أهم الكتب التي تعالج موضوعا في غاية الأهمية والحساسية في كل العصور وفي زمننا الحاضر خصوصا الا وهي مسالة الفتوى .
هذا الكتاب جعله مولانا الشيخ مرتّباً ومبوَّباً كما يلي :
الجزء الأول - تصدير عن الصناعة
مقدمة عن النازلة والفتوى : لغةً واصطلاحاً .
الفصل الأول : ما به الفتوى و الأدلة المعتمدة في عهد الصحابة.
الفصل الثاني : تعريف المفتي
المفتى به في المذاهب الأربعة .
الفصل الثالث : نماذج من منهجية الفتاوي والنوازل وأمثلة منها بعد عصر المجتهدين مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة منها في التعامل مع القضايا المستجدة.
الجزء الثاني :
الفصل الأول : فقه الأقليات : تعريف المصطلح ومقاصده وأهميته ومنهج تحرير الاجتهاد فيه.
الفصل الثاني : قواعد كبرى يحتاج الفقيه إليها في فقه الأقليات.
1- قاعدة التيسير. 2- وتغير الفتوى بتغير الزمان.
3- وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة.
4- قاعدة العرف وتحقيق المناط. 5- وقاعدة النظر في المئالات.
6- وقاعدة تنزيل جماعة المسلمين منزلة القاضي.
الفصل الثالث : أمثلة لمسائل لها أهمية خاصة من فقه الأقليات:
- مسألة الإقامة بديار غير المسلمين.
- مسألة تأثير الدار على حكم المعاملات.
- مسألة تأثير الاستحالة وانقلاب العين في طهارة بعض الأطعمة.
ملحق بفتاوى المجلس الأوربي مع التعليق على بعضها تعضيداً أو نقداً وتسديداً .
- خاتمة.
واسمع مولانا الشيخ يقول فيه :
ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فإجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وتعمل وصنعة بالمعنى الأنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة والمجتهدين والفقهاء لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.
ذاك ما سميناه صناعة الفتوى.........ويسرنا ان نقوم هنا بالتعاون مع موقع الإسلام اليوم بنشر حلقات من الكتاب علما ان الكتاب لم ينزل الى الاسواق بعد.
خطر الفتوى وآداب الإفتاء ومسئولية المفتي:
حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهو فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.
قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه" أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى ، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.
ففي حديث الدارمي عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: "أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ".
وأخرج الدارمي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ".(3/1)
وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ" سنن البيهقي الكبرى.
وأخرج الشيخان عن ابن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال:" مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه".
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ".(المعجم الكبير 10 / 211)
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره " مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ".
وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا.
ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:
من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:
تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي … …نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا
وقال أحمد بابا التنبكتي وهو يتحدث عن فترة مقامه بمراكش بعد محنته:.. (وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني).
وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس.ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.
آداب الفتيا:
وللفتوى آداب يجب أن يتحلى بها المفتي نسوقها فيما يلي:
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
أوّلها: أن تكون له نيّة فإن لم تكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية "أي من العيش" وإلاّ مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس ( أعلام الموقعين4/199).
المفتي المستبصر:
لقد أشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تندرج في الضوابط : إيّاك ومفهومات المدونة فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنّة فما ظنّك بكلام الناس .. إلى قوله .. ولا تفتِ إلاّ بالنَّص إلاّ أن تكون عارفاً بوجوه التعليل ، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر ، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه إما مطلقاً أو على مذهب إمام من القدوة ، ولا يغرّك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء ، واحفظ الحديث تقوى حُجَّتك ، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك ، واعرف العربية والأصول وشفّع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول.(المعيار 6/377").
قال الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة :"أفتان أنت يا مُعاذ ؟". وقال: "إن منكم مُنَفِّرين".
وقال:"سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا." وقال: "عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا". وقال: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ".
ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.(3/2)
لأن المستفتي إذا ذٌهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة.(الموافقات 5/277)
قال الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه الله قلت: وينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخ استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظ لدينه، مشفقاً على أهل ملته.
مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله فإن ذلك أول أسباب التوفيق. متورعاً عن الشبهات صادفاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد.
ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة. واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفا بالاختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما خفي عليه.( الفقيه والمتفقه 2/158)
قلت: ما ذكره الشيوخ الثلاثة المقري والشاطبي وأبو بكر الحافظ هو المفتي المستبصر الذي يجب الحرص على إيجاده في حياة الأمة.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
قال ابن القيم: (الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟) ( إعلام الموقعين 4/166)
قال ابن عابدين: فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك لا ينبغي للمفتي أن يفتي بمجرد المراجعة من كتاب وإن كان ذلك الكتاب مشهوراً.
قلتُ: نعم هو كذلك:
لا تَحْسَبِ الفِقه تَمْراً أنْتَ آكِلُه …لَنْ تَبْلُغِ الفِقْهَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَبْرَا
إذ لو كان الفقه يحصل بمجرد القدرة على مراجعة المسألة من مظانها لكان أسهل شيء ولما احتاج إلى التفقه على أستاذ ماهر وفكر ثاقب باهر.
لَوْ كَانَ هَذَا العِلمُ يُدركُ بالمُنى مَا كُنْتَ تُبصِرُ في البَرِيِّةِ جَاهِلا
فكثيراً ما تذكراً المسألة في كتاب ويكون ما في كتاب آخر هو الصحيح والصواب. وقد تطلق في بعض المواضع عن بعض قيودها وتقيد في موضع آخر.
ولهذا قال العلامة ابن نجيم في ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين: أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة الفهم الطالب.
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المبنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطإ والغلط.
وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية : وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى.( رسائل ابن عابدين 316).
مسؤولية المفتي:
ولهذا ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب و إلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا.(الزرقاني 6/138)
قال ابن القيم : الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية : يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده.
ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب:"آداب المفتى والمستفتي" له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك. (4/173)
وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:
- أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصراً
- أن يكون ذا ديانة.(3/3)
ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.
وأن على الجهات المختصة أن تردع ويمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود :
تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ … …وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ
وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى.
فهل عرض مفتوا الشاشات –وما أبرئ نفسي-أنفسهم على هذه والآداب
قد يكون من المناسب في بداية هذه الحلقات أن نتحدث عن معنى "الصناعة" التي وردت في عنوانها حيث إن مفهوم الصناعة ليس متداولاً في مجال الفتوى وميدان إصدار الأحكام الشرعية ولهذا فقد استشكل بعض زملائنا هذا العنوان موعزاً بتغييره إلى مصطلح يناسب الفتوى ويلائم البحوث الشرعية ولكن الأمر مختلف -حسب رأينا– فالفتوى صناعة لأن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراية وتعمل فهي ليست فعلا ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة هي الفتوى إذاً فالفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته.
قال السبكي في الإبهاج : وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول :علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظنُّ واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يُسمى علماً ويُسمى صناعة.
وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظنِّ لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح، أو أرادوه ولحَظوا معه معنى العلم في الأصل، ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة.(الإبهاج2/79)
وقال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في علم الأصول وهو يتحدث عن صناعة الفقه وأصوله في مقدمته:
وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن الصواب في هاتين المعرفتين كالعلم بالدلائل وأقسامها وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمّها سباراً وقانوناً فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في ما لا يؤمن أن يغلط فيه.
وبين أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعباً والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر.
وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه –صلى الله عليه وسلم- بهاتين الحالتين ولذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.
وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة ويسقط الاعتراض عليها بأن لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها وأنت تتبين ذلك في فتواهم رضي الله عنهم بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاويهم في مسألة مسألة.( الضروري 35)
قال الشاطبي في الاعتصام: وأما تقديم الأحداث على غيرهم، من قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره، لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ العلماء الراسخين الأقدام في تلك الصناعة، ولذا قالوا في المثل:
وابنُ اللبُونِ إذَا مَا لُزّ في قَرَن لَمْ يَسْتَطِعْ صَولَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ.(الاعتصام2/95)
قال أبو الأصبغ عيسى بن سهل : كثيراً ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول : الفُتيا صنعة وقد قاله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله قال: الفتيا دربة وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة.
وقد ابتليتُ بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سلمان بن أسود وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن .. والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه.( المعيار 10/79)
وتكلم ابن خلدون عن الصناعة باعتبارها ملكة راسخة في النفس.
وابن العربي في المحصول والغزالي في المستصفى وغيرهم من كبار العلماء.
ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه.(3/4)
عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فاجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وصنعة بالمعنى الآنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة المجتهدين والفقهاء المقلدين لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.
ذاك ما سميناه صناعة الفتوى.
ما به الفتوى من الأدلة في عهد الصحابة : وأسباب الاختلاف
إن الفتوى لابد أن تعتمد على دليل منصوص في الأصلين الكتاب والسنّة أو مستنبط منهما بالاجتهاد على حد الترتيب الذي ورد في حديث معاذ – رضي الله عنه -.
1. فبالنسبة للكتاب لا خلاف يعترى العمل به إلا فيما يتعلق بدلالة اللفظ وسنتحدث عنها في حلقة لاحقه.
2- السنة :
أما بالنسبة للسنة فإننا سنشير إلى خلاف ظهرت بوادره في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهو: الموقف من خبر الواحد، والغالب على الصحابة العمل بخبر الواحد: وسنكتفي بكلام للإمام المازري في شرحه للبرهان حيث يقول عن رجوع الصحابة إلى خبر الواحد:
فمن ذلك رجوع الصحابة في أن النبي – صلى الله عليه وسلم- لا يورث إلى خبر الصديق رضي الله عنه بذلك.
ورجوعهم لمّا اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين إلى أزواج النبي عليه السلام .
ورجوعه أيام الطاعون إلى خبر عبد الرحمن بن عوف.
وهكذا أيضا رجع إلى خبره في أخذ الجزية من المجوس لمّا أخبر بقوله عليه الصلاة والسلام: سُنُّوا بِهُم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ".( الموطأ)
وهكذا رجع رضي الله عنه في دية الأصابع إلى خبر عمرو بن حزم في الديات.
- ورجع أيضا عثمان بن عفان رضي الله عنه في خبر السكنى إلى الفريعة بنت مالك.
- ورجع عليُّ إلى خبر المقداد في خبر المذي.
وقد رجع ابن عمر رضي الله عنه في المخابرة إلى رواية رافع بن خديج.
ورجع زيد بن ثابت في جواز أن تنفر الحائض قبل طواف الوداع إلى الحديث الذي روي له في هذا.
وهذا لو تتبع خرج عن الحد والحصر وأنت إذا طالعت ما صنف في هذا من كتب المحدثين والفقهاء التقطت من هذا الجنس ما لا يكاد يحصى ومثل هذا يدل على أنهم رضي الله عنهم مجمعون على العمل بخبر الواحد لأن مثل هذه الكثرة من القصص لا تكاد تنكتم وتخفى فكانوا ما بين راو لخبر وعامل به ومسلم للرواية والعمل فصار ذلك منهم إطباقا على العمل إذ لو كان العمل به حراما لكانوا أجمعوا على خطأ ومعصية لأنهم ما بين عامل وراض بالعمل ومسلم له.
وهذه عمدة يعول عليها في إثبات العمل بخبر الواحد وهي معتمد الحذاق من الأصوليين.
وقد رويت أخبار تتضمن ردهم لخبر الواحد وهي سبب الاختلاف في إجراء الخبر مجرى الشهادة فلا يقبل فيه إلا اثنان.
وقد يتعلق بها أيضا من يُنكر العمل بخبر الواحد جملة وإن كان راوي الخبر رجلين ويرون ذلك دلالة سمعية ونحن نورد عليك الآثار التي تعلق بها هؤلاء ثم نجيب عنها:
فمن ذلك قولهم: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لمّا سأل عن ميراث الجدة فروى له المغيرة بن شعبة أن النبي عليه السلام أعطاها السدس لم يقبل ذلك منه حتى روى له محمد بن مسلمة أن النبي عليه السلام ورّثها.
وهكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة.
ورد خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان عليه ثلاثا حتى أتى أبو سعيد الخُدري فأخبره بمثل خبره.
وهكذا رد عليّ رضي الله عنه الخبر الذي روي له في نكاح التفويض في قصة بروع بنت واشق.
وهكذا ردت عائشة خبر ابن عمر لمّا روى أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه.
وأجاب المازري بأجوبة عن هذه الأخبار وغيرها منها أنها تتعلق بشهادة يدفع بها المرء عن نفسه فلهذا احتيج إلى مزيد من الاستيثاق ويكفي – حسب رأينا- أن نقول : إنها وقائع أعيان لا عموم لها واستفاضة عملهم بخبر الآحاد يكفي في ترجيح العمل به.
3-الإجماع : كان الاهتمام به اهتماماً بدليل لم يكن له رواج في الفترة النبوية لأنه لا يمكن أن يكون مرجعاً في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- وقد برزت بوادر العمل به في وقت مبكر.(3/5)
فقد أخرج الدارمي عن ميمون بن مهران قال :كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به وإن لم يكن في كتاب الله وعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع النفر كلهم يذكر من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبيّنا.
فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.(1 /58) .
4- الاجتهاد
أما الاجتهاد بالرأي من قبل الصحابة فهو أمر شائع وذائع.
فقد فهموا : أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: بم تحكم ؟ وتقريره على قوله: أجتهد رأيي. ولقوله لعمر: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ" ؟ ولقوله للخثعمية : "أرأيت لو كان على أبيك دين" ؟ ولقوله : "إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ".
لهذا فإنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يقول برأيه كما فعل في توريثه للجد وحجبه للإخوة فأنه قال فيه برأيه.
وقال أبو بكر رضي الله عنه :أقول في الكلالة برأيي.
وهكذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشريح: "إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر بسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت ، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر.
وكان عمر مع ذلك يقول بالرأي ويحث عليه فيما ليس فيه كتاب ولا سنّة، فقد ذهب إلى زيد يطلب رأيه في الجد وكما في رسالته لأبي موسى الأشعري:"الفهم الفهم في ما أدلي إليك فما ليس في قرآن ولا سنّة ثم قس الأمور على ذلك واعرف الأمثال والأشباه ثم اعمل فيها بأحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق".
وقد ورث أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه تماضر الأسدية زوج عبد الرحمن بن عوف لأنه طلقها في مرض الموت وهو اجتهاد.
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ألاّ تباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن .
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب "الأصول الخمسة عشر": أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه وهم : عليّ وزيد وابن عباس وابن مسعود .
وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا على مسألة على قول فالأمة فيها مجمعة على قولهم غير مبتدع لا يعتد بخلافه .
وكل مسألة انفرد فيها عليّ بقول عن سائر الصحابة تبعه ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني.
وكل مسألة انفرد فيها زيد بقول تبعه الشافعي ومالك في أكثره وتبعه خارجة بن زيد لا محالة.
وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة والأسود وأبو أيوب. (الزركشي البحر المحيط 4/372)
وانتهى العلم بالأحكام الشرعية لستة من الصحابة عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبيّ وعبد الله بن مسعود وعليّ قاله مسروق .
وأكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق ابن عباس قاله أحمد.
ويليه ستة عمر وعليّ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة. قال ابن جزي يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم.
قال وتلا هؤلاء السبعة عشرون بحيث يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير وهم أبو بكر وعثمان وأبو موسى ومعاذ وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاصي وسلمان وجابر وأبو سعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حُصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية وابن الزبير وأم سلمة.
المكثرون من الفتيا: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر قال أبو محمد بن حزم ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
قال وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.(3/6)
المتوسطون في الفتيا: قال أبو محمد والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخُدريّ وأبو هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري وسعد ابن أبي وقاص وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ويضاف إليهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان.
المقلون من الفتيا: والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم أبو الدرداء وأبو اليسر وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد والحسن والحسين ابنا علي والنعمان.
قد تبين مما مضى وقوف الصحابة عند الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الرأي بالقياس أو ما ينحو منحاه.
فلماذا اختلفوا في الفتوى وأختلف علماء الأمة من بعدهم تبعاً لهم في كثير من الحالات ؟
أولاً: يجب أن نقرر أن الاختلاف ليس كله ممقوتاً بل إن العلماء قرروا أن الاختلاف قد يكون رحمة.
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدّر المختار: "وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر".
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول: وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.
أسباب الاختلاف بين الصحابة فيما بينهم وكذلك أسباب بين العلماء المجتهدين بعد عصرهم.
الخلاف ينشأ من أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لأسباب الخلاف الكثيرة والمتنوعة.
1- اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضاً واعتباراً ورداً.
2- اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً
3- اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.
4- اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض قوة وضعفاً.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء وقد ذكر ابن السيّد ثمانية أسباب لاختلاف العلماء .
أحدها:الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وجعله ثلاثة أقسام : "اشتراك" في موضوع اللفظ المفرد كالقرء و أو في آية الحرابة و"اشتراك" في أحواله العارضة في التصريف نحو"ولا يُضارَ كاتب ولا شهيد".
و"اشتراك" من قبل التركيب نحو "والعمل الصالح يرفعه" "وما قتلوه يقينا".
الثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعله ثلاثة أقسام : ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول"الله نور السَّماوات والأرض".
وما يرجع إلى أحواله نحو:"بل مكر الليل والنهار" ولم يبين وجه الخلاف.
وما يرجع إلى جهة التراكيب كإيراد الممتنع بصورة الممكن ومنه"لئن قدر الله عليّ" الحديث.
وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذّم والتكثير بصورة التقليل وعكسها.
الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب .
الرابع :دورانه بين العموم والخصوص نحو "لا إكراه في الدِّين" "وعلَّم آدم الأسماء كلها".
الخامس : اختلاف الرواية وله ثمان علل.
السادس : جهات الاجتهاد والقياس.
السابع : دعوى النسخ وعدمه.
الثامن : ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات.
هذه تراجم ما أورد ابن السيّد.( الموافقات 4/211)
وبالنسبة للرواية فقد ذكر أن لها ثماني علل: فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحَّف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقية فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف .
وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول .(الموافقات 4/173)
وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلاف: منها أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما: بالتحليل والآخر: بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم: أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف أفهام العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.( جامع العلوم والحكم 1/131)
ورد ابن رشد أسباب الاختلاف إلى ستة أنواع لا تخرج عما ذكرنا تراجع المقدمة الأصولية لبداية المجتهد.
ومن أمثلة الاختلاف في دلالات الألفاظ:(3/7)
بين الحقيقة الشرعية والحقيقة الوضعية فيقدم أبو حنيفة الحقيقة الشرعية للصوم في حديث عائشة في الصحيح عندما سأل عليه الصلاة والسلام هل عندكم من طعام فقالت عائشة لا فقال إني صائم ،وذلك في وسط النهار فيقول أبو حنيفة انه أحدث الصوم الآن لأن صوم التطوع لا يحتاج إلى تبيت النية التي وردت في حديث ابن ماجه"لا صيام لمن لم يبتنه من الليل".
وقال مالك إن الصوم لغوي فمعنى إني صائم أي إني إذا صائم أي ممسك عن الأكل فقد قال الحقيقة الوضعية.
بين الظاهر وبين التأويل:
في الحديث الصحيح " الجَارُ أَحَقُّ بِسَِقْبِهِ " أي بعموده وهو كناية فقال الثلاثة إن الجار هنا يراد به الشريك للحديث الصحيح أيضا "فَإِذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ ".( البخاري باب الشفعة)
أما أبو حنيفة فحمله على ظاهر العموم من وجوب الشفعة للجار مطلقا سواء كان شريكا أو غير شريك وبالتالي فأبو حنيفة لا يعتبر معارضة المخصص.
ويأخذ الأحناف بحديث "الأَيِّمُ أَحَقُ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيَّهَا" ويتأولون حديث "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلُ".
على أن المراد المرأة الصغيرة بينما يحمله الجمهور على ظاهره في العموم في كل امرأة فأوجبوا الولي للنكاح.
وتأول الأحناف حديث غيلان بن سلمة الذي فيه"أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً وفَارِقْ سَائِرَهُنْ"بأن معنى أمسك منهن أربعا أي اعقد عليهن بينما يرى الجمهور إبقاء الحديث على ظاهره الذي يعني استمرار النكاح،بين اعتبار مفهوم المخالفة(دليل الخطاب)وعدم اعتباره ،إن الأحناف لا يقولون بدليل الخطاب أصلا
نظرة إلى منهجية المذاهب الأربعة اتفاقاً واختلافاً:
بالنظر فيما نقل عن مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدر التشريع وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين مبنيين على الأصلين وهذا في الجملة.
أما في التفصيل فإن ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث فيعمل بالمراسيل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد.
وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه أو للاستصحاب مساحة أوسع وربما قدم عمل الراوي على العمل بمرويه.
كما أن تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم ليشمل الإجماع السكوتيّ وسائر القرون والعصور.ومعتبر إجماع أهل المدينة.
وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.
إلى غير ذلك من التفاصيل.
وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء غير أن الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس كقياس الشبه وقياس العكس وكذلك بعض مسالك العلة.
أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا.
وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها.
وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها بضوابطها التي ستراها في مبحث مستقل.
وبعد ما رأينا من منهجية المذاهب الأربعة في الفتوى وقبل ذلك منهجية أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن فتاوى العلماء المتأخرين بعد عصر المجتهدين يمكن أن تساعد في استقصاء مرجعية الفتوى في العصور المتأخرة مما يسعف في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية الإفتاء في هذه الزمان وبخاصة في فقه الأقليات الذي هو مجال تطبيق هذا الكتاب.
فإنه بدراسة هذه الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط يمكن إبراز ثلاثة نماذج بعد عصر الاجتهاد.
الأنموذج الأول: فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنّة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين ، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنّة وأقوال السلف ، يصحح ويرجّح أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة.
الأنموذج الثاني من الفتاوى : هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا ، وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنّة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلاّ أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرّج ، وتمثّل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلح فيها النزاع بين جمهرة العلماء ، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة .(3/8)
أما الأنموذج الثالث : فهو طبقة المقلدين التي لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضيخانة من الأحناف ، وعليش من المالكية وغيرهما ، وهو الأنموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.
إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء .
أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً.
ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى ، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنّة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.
والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن على أصحابها أن يصنّفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة ، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس ، وعندما يقلّد قولاً عليه أن يقلّد القول الصحيح ، وعندما يقلّد الضعيف عليه أن يبيّن سبب ذلك.
إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد ، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة عندما أجازوا قضاء المقلّد وفتواه ، بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية.
كما تسوغ الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي ،التي هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك ، فهذه تبيح المحرّم ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكنها الضرورة التي تعنى الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء سنشرحه لاحقاً.
وأخيراً : الفتوى الجماعية
إنه من حسنات هذه الأمة المحمدية المحروسة المرحومة المعصومة إنها كما وصفها نبينا – صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث:"مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره".
رواه أحمد والترمذي عن أنس وأحمد عن عمار وأبو يعلي عن عليّ والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا بدأ العصر الأول بالفتوى الجماعية وأشرنا إليها في حديثنا عن دليل الإجماع في عهد أبي بكر عليه رضوان الله حيث كان يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به كما في حديث الدارمي.
وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يستشير عشرة من فقهاء المدينة وبعض الناس يسمى ذلك بالاجتهاد الجماعي وليس الأمر كذلك.
فالاجتهاد في تعريفه إنما يرجع إلى قناعة شخصية لأنه بذل المجتهد وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي ولكنه إفتاء جماعي.
وقد أحيا العالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري الفتوى الجماعية بإنشاء المجامع الفقهية العالمية سواء كانت رسمية أو شعبية مستقلة.
إن هذه المجامع يجب أن تعني بالقضايا العامة التي من شأنها أن يكون لها أثر على الأمة سواء كانت قضايا سياسية كقضايا النظم : الشورى والديمقراطية ومشاركة المرأة.
أو قضايا اقتصادية كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة القارات مع ما يشوب معاملاتها من أوجه الفساد الشرعية. والانخراط في المنظمات كمنظمة الغات للتجارة العالمية.
وقد ركزت هذه المجامع على بعض القضايا الاجتماعية كالعلاقة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
ويحتاج الأمر في بحث هذه القضايا إلى محددين أساسين:
أولاً: إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه. وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطى مكانة كبيرة للخبراء السياسيين والاقتصاديين وأيضا للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي.
أما المحدد الثاني: فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلي النظر المتوازن بين الكلي والجزئي لتضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية التي تؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله إن ذلك بعينه هو الوسطية.
وهو أيضا إحياء سنة الصحابة في عرض الأمور العامة على الجماعة كما فعل عمر في مسألة الأراضي الخراجية وانتشار ظاهرة الخمور فلم يرد عمر أن تعالج قضايا الأمة من طرف أفراد مهما كانت درجتهم العلمية وإنما يصدر فيها حكم جماعي يكون مستنداً للأمة ومراعياً للمصلحة العامة.
كيف نستفيد من هذه الفتاوى؟
يمكن الاستفادة منها من وجهين:(3/9)
أولا دراسة نماذج من فتاويهم للتعرف على القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحكامهم وفتاويهم في مختلف العصور ، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة ، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل . وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج : المشقة تجلب التيسير ، والأمر إذا ضاق اتسع ، وجلب المصالح ودرء المفاسد ، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين ، والنظر في المئالات ، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ، وسد الذرائع وتحكيم العرف ، وتحقيق المناط والإذن في العقود وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ولا يبطل إلاّ ما دلَّ للشرع على تحريمه نصاً أو قياساً.
وقد قال الشاطبي : إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه.
وسُئل الشاطبي رحمه الله عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي ، فقال إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله تعالى: "وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ" وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج و اغتفاراً للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً أو رد القيراط على الدرهم في البيع".
إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقق التفاضل .
ثانياً : الاستفادة من الفتاوى القديمة في القضايا المعاصرة
وذلك بالبحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة . ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله وبخاصة في زماننا الذي أمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز ، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة . بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها ، إلى الهندسة الوراثية.
ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا ، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة .
وينبغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة ، بل إنها تدل عليها دلالة تضمن أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما وراء الأكمة بدون غوص في مضامينها أو تعمق في محتواها غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف ، إذ أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أم تحرّمه أو تحكي الخلاف فيه وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أياً من هذه النوازل سنداً يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلك الإتباع .
السلم المتوازي :
من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل . فأجاب الفقيه ابن الحاج : (إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام ) . " المعيار6/162) .
المؤجر يأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلاّ لما مضى من الزمان.
مسألة التسالف بين الأحباس وقول ابن حبيب في الواضحة إن الأموال المرصودة في وجه من أوجه البر يمكن أن تُصرف في أوجه أخرى من أوجهها ، وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض .
مسألة التضخم :
سُئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى فشوور فيها فقهاء قرطبة فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة .
وذكر كلام المتيطي لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء ، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة ؟ فقال ابن سهل : له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء ، كما لاحجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا ولا يجوز على الأصول سواه. (المعيار6/228 وما بعدها)(3/10)
وفي قياس التضخم على الجائحة سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة ؟ فأجاب : أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء ، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر . وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة . نصَّ على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره ، فيُقال : كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد ؟ فيُقال: ألف درهم ويُقال : كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص ؟ فيُقال : خمسمائة درهم ، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.
وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. (الفتاوى لابن تيمية3/257).
مسألة تغيّر السكة أو انقطاعها :
وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب ، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول : إنما أعطاها على العوض ( المعيار6 /163) .
كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي .
وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (6/164) .
وقال أبو حفص العطار من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم.
وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها.(المعيار6/106)
مسألة الإيجار يجتمع مع البيع فيشتري المستأجر الدار المستأجرة:
في المعيار: وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط . سُئل عنها فقهاء قرطبة : أجاب عبدالله بن موسى الشارقي بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض ، وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك وإن علم به فلا رد له ولاحق له في الكراء مع البائع المكري إلاّ أن يشترطه . وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً :
ابن الحاج إن باع مع الكراء عرضاً والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه ولو باعها من المكتري ، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمران الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي إن ذلك جائز وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران . وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء .
وفي فتاوى المعيار بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز . وأما في القاعة فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر لأنها مأمونة وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها . وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك كما يجوز بيعها على أن لا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد وقد سبق بيان ذلك (هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 6/464).
مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة).
أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب . فأجاب : إنها تباع لأنها كالعروض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم . وهي كونه ثمناً للمبيعات ونظير هذا فى أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه في طعام أو دواء واستهلك فيه ثم لو شربه الصبي أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر. ( المعيار 6/311)
هذا ما يتعلق بالجزء الأول من هذه الدراسة وهو تأصيل للفتوى بصفة عامة لكنه محاولة لتوسيع دائرة الفهم عند القارئ وترسيخ جملة من المعاني تنافي ضيق الأفق إذا طالع بتؤدة وقرأ على مكث معتمد الفتاوى عند سلف هذه الأمة وتدبر في تعلقهم بالمعاني والمصالح وفكر في تشعب طرق الاستنباط ووسائل الاستنتاج فيتهيأ بذلك ذهنياً لقبول ما سنعرضه من فقه الأقليات تأصيلا وتفريعاً حيث سنزيد الأمر بياناً.
ذلك أن مفتى الأقليات يجب أن يكون واضح الرؤية دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه
معالم فقه الأقليات : تعريف وتكييف وتأصيل وتفصيل.(3/11)
إن هذا المصطلح مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول هذه التسمية "فقه الأقليات" وبالإضافة إلى ما ذكرنا من الجواب فيجب أن نذكر أن الإضافة تقع لأدنى سبب كإضافة الضحى إلى العشية في قوله تعالى(إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة الفقه الإسلامي، فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
أما إضافة الفقه إلى الأقليات فهي من نوع الإضافات التي يراد بها تمييز المضاف وتخصيصه وهي من نوع الإضافة شبه المحضة فقد ذكر ابن مالك في الألفية نوعين من الإضافة هما الإضافة اللفظية والإضافة المعنوية وهي الإضافة المحضة.
وهذه منها لأن المضاف إليه يخصص الأول أو يعرفه قال ابن مالك:
.............. واخْصُصَ أَوَّلا *** أو أَعْطِهِ التَّعْرِيفَ بالَّذي تَلاَ
وأشار إلى هذه الإضافة بقوله بعد أبيات :
..................... *** وتِلْكَ محْضَةُ ومَعْنَوِيَّهْ
والمطلوب هنا أن نبين أن إضافة الفقه للأقليات لا تعنى إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة وإنما تعنى أن هذه الفئة لها أحكام خاصة بها نظراً لظروف الضرورات والحاجيات كما تقول فقه السفر أو فقه النساء وسيتضح ذلك أثناء نشرنا لطي هذا الموضوع وبسطنا لبساطه ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء.
وقد نظمت أبياتاً في إحدى دورات المجلس الأوربي عندما كنا نناقش تأصيل فقه الأقليات لا بأس من إثباتها هنا وهي:
عُقُودُ المُسلِمينَ بدَارِ غَربٍ *** تَجَاذَبَها المَقَاصِدُ والفُرُوعُ
ومِيزَانُ الفَقِيه يَجُورُ طَوراً *** إلى طَرَفِ فَيُفْرِطُ أو يُضِيعُ
فَفِي الجُزْئِيِّ ضِيقُ وانْحِصَارُ *** وفي الكُلِيِّ مُنْفَسَحُ وَسِيعُ
ونُورُ الحَقِّ مَصْلَحَةُ تُوازَى *** بِجُزئيِّ النُصُوصِ لَه سُطُوعُ
مَآلاتُ الأُمُورِ لَهَا اعتِبَارُ *** وحَاجِيُّ الضَرُورةِ قَدْ يُطِيعُ(3/12)
فَزِنْ هذَا بذَاكَ وذَا بِهذَا *** يَكُنْ في القَيسِ مَنْهَجُك البَدِيعُ
"فِإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمراً فَدَعْهُ *** وجَاوزهُ إلى مَا تَسْتَطِيعُ".
التأصيل لفقه الأقليات:
فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة : الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا : إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.
"فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين.
وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.
ثانياً: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.
ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية.
وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي :"لا تقطع الأيدي في السفر".
ومرسل مكحول :"لا ربا بين مسلم وحربي".
فانطلاقا من هذه الأسس التي سنتوسع فيها ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب : اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة.
واجتهاد في تحقيق المناط وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.
أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات إما لضعف المستند - وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.
فلهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.
من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم ولهذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.
وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس وفي التعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.
فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى المستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.
أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطاول العقيدة التي نعنى بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.
ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.
كما تطاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.(3/13)
كما تطاول العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي. وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع ممكناً أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.
وينقسم التأصيل لفقه الأقليات إلى مقاصد وقواعد:
القسم الأول: المقاصد:
أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.
ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.
ثالثاً : التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.
رابعاً : التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.
أما القواعد فإنها لا تعنى إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعنى التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.
القسم الثاني: قواعد كبرى تعتمد في فقه الأقليات:
ومن أبرز هذه القواعد: قاعدة التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الزمان، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة، والعرف، والنظر في المآلات، وقيام جماعة المسلمين مقام القاضي.
ونقتصر في هذه الحلقة على القاعدتين الأوليين:
أولاً: قاعدة التيسير ورفع الحرج وتجلياتها
قال الشاطبي : إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور :
أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ " [الأعراف:157[ وقوله: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" ]البقرة: 286/2 [وفي الحديث : " قال الله تعالى قد فعلت " وفي الحديث:" بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة"، وحديث : " ما خُيِّرَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".
ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني : ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.(الموافقات:2/121-122) .
فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط ، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل.
وقد عبر العلماء بعبارات مختلفة عن أسباب رفع الحرج منها:
عموم البلوى:
وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها.
أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك.
الغلبة:
الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة .
عسر الاحتراز :
ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها.
وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال:" المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف".
وأما خليل فقد قال: " لا إن عسر الاحتراز منه".
وعفى عما يعسر كحدث مستنكح.
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفا قائلا: لان مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب .
و أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر.( الفتاوى 22-407)
- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً . ( إعلام الموقعين 3- 365)
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً ( قواعد الأحكام 1- 109) .(3/14)
وقد قدمنا تأصيل الاختلاف وأسبابه المشروعة في حديثنا عن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم ونضيف هنا: أن معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.
فقد قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمان باختلاف الناس.
وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب أليّ.
إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات وقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سبباً للتيسير والتسهيل والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة كما مر عن الشاطبي وغيره.
القول بالأخف :هذا قد يكون بين المذاهب وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أماراتها وقد صار إليه بعضهم لقوله تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "، وقوله: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" وقوله – صلى الله عليه وسلم-" بُعثْتُ بالحَنِيفِيةِ السَّمْحَةِ ".
وهذا يخالف الأخذ بالأقلِّ فإن هناك يشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع إذ الأخف منهما هو ذلك .
وقيل : يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر.( الزركشي في البحر المحيط 4/340)
قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:
الثاني : يأخذ بأشد القولين لأن " الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي". كما يروى في الأثر وفي الحكمة : إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك .
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: مَا خُيِّرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنَ إلا اخْتَارَ أَشَدَّهُما. وفي لفظ :" أَرْشَدَهُما".
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . ورواه أيضا النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد .
الثالث : يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة كقوله عز وجل "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة 185].
وقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج 78]
وقوله – صلى الله عليه وسلم-:" لا ضرر ولا ضرار ". وقوله – صلى الله عليه وسلم -:" بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ".
قال شيخنا المزني : من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه أو كما قال .
قلت : وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه ما خُيِّر بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً".
قلتُ: والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عماراً كان مكلفا محتاطاً لنفسه ودينه والنبي – صلى الله عليه وسلم- كان مُشرعا موسعاً على الناس لئلا يحرج أمته . وقال :" يَسُروا ولا تُعَسروا".
وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه إن فيكم منكرين منفرين".( شرح مختصر الروضة 3/669)
وبناء على هذه القاعدة فقد رجحنا في قضايا الخلاف التيسير وسنذكر أمثلته في بحث الحاجة.
ثانياً: قاعدة تغيير الفتوى بتغير الزمان:
كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.
وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.
وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه – صلى الله عليه وسلم - عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا : لا يصلح الناس إلا ذاك.
ويقول الأستاذ صبحي المحمصاني مسجلا موقف الصحابة في كتابه " تراث الخلفاء" : وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال . وتعرض في ذلك ل مسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم والطلاق الثلاثي المتسرع وبيع أمهات الأولاد وعدم التغريب في الحدود وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح وتفصيل أمور ضريبة الخراج.(تراث الخلفاء الراشدين": 589)
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقد قال ابن رشد إن لله أحكاماً لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها.(3/15)