الخلاصة في فقه الأقليات
(1)
الباب الأول
عام
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد كان المسلم قبل سقوط الخلافة الإسلامية يتنقل في بلدان المسلمين كلها غاديا ورائحا دون إذن ولا جواز سفر لأنه في دار الإسلام .
وكان إذا أسره العدو لا سمح إما أثناء القتال في سبيل الله أو غدرا وحيلة ، فقد كان وراءه دولة عظمى تدافع عنه وتطالب به .
إما عن طريق تبادل الأسرى
أو عن طريق الفداء ، فيدفع الغالي والنفيس من أجل إنقاذ الأسرى بلا خلاف بين الفقهاء
أو عن طريق القتال كما فعل المعتصم رحمه الله عندما استغاثت به المرأة المسلمة وقالت : وامعتصماه فلبى النداء مسرعاً وأنقذها .
كيف لا والله تعالى يقول لنا : {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (75) سورة النساء
أما اليوم فقد تبدلت الأحوال ، وأصبحنا ضعفاء بعد قوة ، متفرقين بعد وحدة ، لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا في عقر ديارنا ، فكيف ندافع عمن ليس في غير ديار الإسلام ؟!!
وبعد سقوط الخلافة الإسلامية أصبح المسلمون في عديد من البلدان قلة بعد أن كانوا هم الأكثر عددا ، وذلك بسبب ما فرض على المسلمين من تغيير دينهم بالقوة كما في الدول الشيوعية ، والبوذية ، بل زالوا عن الوجود كما في الأندلس سابقا
وهناك أناس من المسلمين أثناء الاحتلال العسكري لبلاد المسلمين قد خرجوا من دار الإسلام إلى ديار الكفر لأسباب عديدة :
منها فرارا بدينهم إلى مكان آمن كما فعل المسلمون الأوائل في مكة المكرمة حيث فروا بدينهم إلى الحبشة
وإما بحثاً عن لقمة العيش ...
وإما للدراسة والبحث...
وإما للدعوة في سبيل الله - وهم قلة قليلة جدا-
وإما انبهارا بحضارة الغرب وانفتاحه على حدِّ زعمهم ....
وإما عن طريق أخذ أسرى بغير حق كما في أسرى كوانتناموا وغيرهم من قبل ومن بعد
وهؤلاء الذين أصبحوا أقلية في بلادهم بعد أن كانوا كثرة أو الذين صاروا في الغرب للأسباب المشار إليها أعلاه قد صادمهم الواقع المر والأليم المناقض مع الإسلام فماذا يفعلون إزاء هذا الواقع المخالف لدينهم وقيمهم المثلى ؟
فكثير منهم انضوى تحت لواء الكفر وترك دينه إما بسبب تأثير وسائل الإعلام الغربية أو حبًّا بلعاعة من لعاعات الدنيا ، ففقدوا هويتهم رويدا رويدا ....
وهناك أناس بقوا متمسكين ببقايا من دينهم ، ولكنهم غير قادرين على الثبات أمام هذا المد الجارف ، ولكن أولادهم قد ضاعوا حيث لا يعرفون عن دينهم شيئاً لأنهم ولدوا في غير بلاد الإسلام وانغمسوا فيما انغمس فيه الغرب من تحرر من القيم والمثل العليا ، وخاصة الذين تزوجوا بغير مسلمات
وهناك أناس بقوا محافظين على كثير من أمور دينهم ولكن بصعوبة شديدة فلا هم لا يستطيعون العودة لبلادهم ، ولا هم قادرون على الصمود
وهناك فئة قليلة جدا كشفت حقيقة الغرب وما فيه من رجس فراحت تدعو للإسلام وتبشر به فدخل على يديهم عدد لا بأس به من سكان البلاد الأصليين ....
ومن هنا نشأ ما يسمى بفقه الأقليات وفقه الاغتراب
فكيف يوفق هؤلاء بين دينهم وبين الواقع المعاش ؟
لقد حدثت تساؤلات كثيرة تتعلق بالعقيدة والعبادة والمعاملات والأحوال الشخصية ....
فكتب العلماء في ذلك أبحاثاً، ولكن هذه الكتابات متباينة ، فبضعهم مال إلى التسهيل في كل شيء حتى أجاز لهؤلاء أن يقاتلوا مع الكفار ضد المسلمين لإثبات مواطنتهم للكفار !!!
وبعضهم قال عن مسألة الحجاب في فرنسا : هي مسألة داخلية لا علاقة للإسلام بها
وبعضهم أجاز لهم التعامل بالربا بحجة أنهم في دار الكفر
وبعضهم كان معتدلا في تعامله مع هذه القضية الجلل فأفتى لهم بما يناسب حالهم
وبعضهم كان أشدَّ تمسكاً بدينه وقيمه فكان رأيهم أكثر وضوحاً وأقرب للنصوص الشرعية
وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم هو يمثل هذا الاتجاه المعتدل المنضبط والاتجاه الأشد انضباطاً.....
======================
ملاحظة هامة جدا
لقد أصبح المسلمون في كثير من بلاد المسلمين غرباء عن دينهم يعانون مثلما يعاني إخوتهم في بلاد الغربة ، ففي بعض البلدان يمنع الحجاب الشرعي ، وفي بعضها الآخر تمنع اللحية ، وفي البعض الآخر تمنع صلاة الجماعة ، وفي كثير منها يلاحق الملتزمون بدينهم وتلصق بهم التهم باطلة ويسامون أشد أنواع العذاب وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح مسلم برقم( 389 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ".
وفي سنن أبى داود برقم(4344 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ ". أَوْ " يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا ". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ ". قال الألباني: صحيح.
وفي مسند أحمد برقم( 13644) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ". قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ " الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِى أَمْرِ الْعَامَّةِ ". وهو صحيح لغيره
وفي صحيح مسلم برقم(188 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ".
وصدق الشاعر الكبير عمر أبو ريشة رحمه الله عندما قال :
1.- أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم
2. - أتلقاك وطرفي مطرق *** خجلاً من أمسك المنصرم
3.- أين دنياك التي أوحت إلى *** وترى كل يتيم النغم ؟
4.- كم تخطيت على أصدائه *** ملعب العز ومغنى الشمم
5.-وتهاديت كأني ساحب *** مئزري فوق جباه الأنجم
6.-أمتي كم غصة دامية *** خنقت نجوى علاك في فمي
7.- ألإسرائيل تعلو راية *** في حمى المهد وظل الحرم ؟
8.- كيف أغضيت على الذل ولم ولم تنفضي عنك غبار التهم ؟
9.- أو ما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو دم ؟
10.- اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دم اليتامى وابسمي
11.- ودعي القادة في أهوائها *** تتفانى في خسيس المغنم
12.- رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتّم
13.- لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
14.- أمتي كم صنم مجدته *** لم يكن يحمل طهر الصنم
15.- لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدو الغنم
16.- فاحبسي الشكوى فلولاك لما *** كان في الحكم عبيد الدرهم
==================
هذا وقد قسمته للأبواب التالية :
الباب الأول- عام
وهو يتحدث عن هذا الموضوع وتأصيله وملابساته، وفيه كذلك أسئلة واستشارات وفتاوى حول فقه الأقليات ومآسي المسلمين في كثير من الدول
الباب الثاني - في فقه الاغتراب
وهو يتحدث عن هذا الموضوع ، وفيه أبحاث وفتاوى واستشارات منوعة وهامة
الباب الثالث -صناعة الفتوى وفقه الأقليات
وهو يتدث عن نشأة فقه الأقليات وآداب الفتوى وخطورتها وبعض القواعد الفقهية المتعلقة بهذا الباب مثل قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة
وفيه مناقشة بعض القضايا مثل حكم إقامة الأقلية المسلمة في ديار الأكثرية غير المسلمة.
و تأثير المكان على أحكام التكليف
و العلاقات الإنسانية وحسن التعامل مع الآخرين
و مسألة استحالة العين وتسمى بانقلاب العين
وقضية حجاب المرأة المسلمة وغير ذلك وغالبه من كتاب سماحة العلامة عبدالله بن بيه ، وبنفس العنوان وهو موجود في ملفات متفرقة على النت ، وليس مجموعا في كتاب
الباب الرابع -فقه العبادات
فيه مباحث عديدة وفتاوى واستشارات حول هذا الموضوع ، مما يلزم المغتربين
الباب الخامس - فقه الدعوة
فيه إجابة على عديد من الأسئلة وكيفية تعامل المسلم مع غير المسلمين ، وكفيفة الدعوة بينهم ، وكيفية الدخول في الإسلام
الباب السادس - أحكام الوظائف
فيه كثير من التساؤلات حول العمل مع الكفار أو في أمكنة مختلطة أو تبيع المحرمات أو في البنوك الربوية ونحوها
الباب السابع الولاء والبراء
وهو أهم هذه الأبواب وهو يتحدث عن هذا الموضوع الخطير وعن الهوية ، وعن السكنى مع الكفار وعن الهجرة والمواطنة والجنسية ، وفيه ردٌّ على بعض الشبهات
الباب الثامن - الأطعمة
وهو يتحدث عن بعض مسائل الحلال والحرام في الذبائح والأطعمة ، وما يجوز أكله مما لا يجوز
الباب التاسع- الأسرة
وهو يتحدث عن كثير من قضايا الزواج والطلاق ومشكلات الأسرة وحدود العلاقة الجنسية بين الزوجين
===================
أما مصادرها فكثيرة جدا أهمها :
موقع الإسلام اليوم
المسلم المعاصر
صيد الفوائد
شبكة نور الإسلام
الشبكة الإسلامية
الإسلام سؤال وجواب
فتاوى اللجنة الدائمة
فتاوى العلامة ابن عثيمين
فتاوى العلامة ابن باز
الموسوعة الفقهية
الفقه الإسلامي وأدلته
موقع أسرة آل محمود
موقع علماء الشريعة
موقع المنبر
شبكة المشكاة الإسلامية
وغير ذلك
=================
وسوف أفرد أحكام الهجرة وما يتعلق بها من ملابسات ببحث مطول وهو جاهز لكنه يحتاج لقليل من الترتيب والفهرسة
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به جامعه وكقارئه وناقله والدال عليه في الدارين آمين
قال تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) } [النساء/97-101] .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في التاسع من شعبان لعام 1428 هـ الموافق 22/8/2008 م
!!!!!!!!!!!!!!!!!!(1/1)
الباب الأول
عام
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم
المجيب …د. خالد بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …6/5/1422
السؤال
ما حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم الذي يأتي للبلاد الأوروبية فارّاً بدينه من الظلم الذي وقع عليه في بلده الأصلي، وفقد فيه هويته، وفقد أمل الرجوع إلى وطنه ، وجزاكم الله خيراً .
الجواب
ج : للجواب على هذا السؤال يلزم بيان أمرين :
الأول : كون الإقامة في بلد الكفار جائزة .
الثاني : قيام الحاجة إلى أخذ الجنسية .
تفصيل الأمر الأول: الإقامة في بلاد الكفار لا تجوز إلا بالشروط الآتية :
1- وجود الحاجة الشرعية المقتضية للإقامة في بلادهم ولا يمكن سدّها في بلاد المسلمين ، مثل التجارة ، والدعوة ، أو التمثيل الرسمي لبلد مسلم ، أو طلب علم غير متوفر مثله في بلد مسلم من حيث الوجود، أو الجودة والإتقان ، أوالخوف على النفس من القتل أو السجن أو التعذيب ، وليس مجرد الإيذاء والمضايقة ، أو الخوف على الأهل والولد من ذلك، أو الخوف على المال .
2- أن تكون الإقامة مؤقتة ، لا مؤبّدة ، بل ولا يجوز له أن يعقد النية على التأبيد ، وإنما يعقدها على التأقيت؛ لأن التأبيد يعني كونها هجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، وهذا مناقضة صريحة لحكم الشرع في إيجاب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام .
ويحصل التأقيت بأن ينوي أنه متى زالت الحاجة إلى الإقامة في بلد الكفار قطع الإقامة وانتقل .
3- أن يكون بلد الكفار الذي يريد الإقامة فيه دار عهد ، لا دار حرب ، وإلا لم يجز الإقامة فيه .
ويكون دار حرب إذا كان أهله يحاربون المسلمين .
4- توفر الحرية الدينية في بلد الكفار، والتي يستطيع المسلم بسببها إقامة شعائر دينه الظاهرة .
5- تمكنه من تعلم شرائع الإسلام في ذلك البلد . فإن عسر عليه لم تجز له الإقامة فيه لاقتضائها الإعراض عن تعلم دين الله .
6- أن يغلب ظنه بقدرته على المحافظة على دينه، ودين أهله وولده . وإلا لم يجز له؛ لأن حفظ الدين أولى من حفظ النفس والمال والأهل .
فمن توفرت فيه هذه الشروط -وما أعسر توفرها- جاز له أن يقيم في بلاد الكفار ، وإلا حرم عليه؛ للنصوص الصريحة الواضحة التي تحرم الإقامة فيها، وتوجب الهجرة منها ، وهي معلومة ، وللخطورة العظيمة الغالبة على الدين والخلق ، والتي لا ينكرها إلا مكابر .
ثانياً : تحقق الحاجة الشرعية لأخذ الجنسية ، وهي أن تتوقف المصالح التي من أجلها أقام المسلم في دار الكفار على استخراج الجنسية ، وإلا لم يجز له ، لما في استخراجها من تولى الكفار ظاهراً ، وما يلزم بسببها من النطق ظاهراً بما لا يجوز اعتقاده ولا التزامه، كالرضا بالكفر أو بالقانون ، ولأن استخراجها ذريعة إلى تأبيد الإقامة في بلاد الكفار وهو أمر غير جائز - كما سبق -
فمتى تحقق هذان الأمران فإني أرجو أن يغفر الله للمسلم المقيم في بلاد الكفار ما أقدم عليه من هذا الخطر العظيم ، وذلك لأنه إما مضطر للإقامة والضرورة تتيح المحظورة ، وإما للمصلحة الراجحة على المفسدة ، والله أعلم .
============
ضوابط العمل في المهجر
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …5/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما الضوابط الشرعية للعمل في المهجر؟ أي إذا أنا هاجرت إلى بلاد الغرب، فهل يحل لي هناك (على سبيل المثال) العمل في البنوك الربوية، بناءً على أن هذه الأماكن مملوكة لغير المسلمين؟ وماذا عن العمل في المطاعم أو السوبر ماركت والتي يتم فيها على الأغلب بيع لحوم الخنزير والخمور والعياذ بالله؟
أرجو من فضيلتكم إفادتي بالتفصيل مع الدليل،حيث إني وجدت العديد من الفتاوى غير المكتملة (من حيث الدليل أو طريقة العرض) أو غير الواضحة التي تبيح وتحرم ما ذكرت، هداني الله وإياكم إلى خير ما يحب ويرضى.
الجواب
إذا تعاقد المسلم مع الكافر، على أن يعمل المسلم للكافر أعمالاً مباحة كالخياطة والحدادة، والحراثة، والصيانة، ونحو ذلك، فهو جائز بإجماع المسلمين، فقد روى الإمام أحمد (687) في مسنده "أن علياً بن أبي طالب - رضي الله عنه- أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة"، أما إذا أجر المسلم نفسه لكافر يقوم بخدمته خدمة فيها مهانة كأن يكون له كناساً، أو زبالاً، ونحوه فلا يجوز، قاله مالك وأحمد، وعند الحنفية والقول الجديد للشافعي ورواية لأحمد يجوز ذلك، ما دام المسلم تدعوه الحاجة المادية لذلك وفقاً للقاعدة الشرعية: (تنزل الحاجة منزلة الضرورة عند الاقتضاء)، ولا يوجد فرق له اعتبار بين جواز تأجير المسلم نفسه للكافر يعمل له عملاً ما، وبين حرمة أن يعمل خادماً عنده إذ الخدمة نوع من العمل، ولولا الحاجة التي هي بمنزلة الضرورة ما رضي مسلم أن يعمل تحت إمرة كافر، ولا يجوز للمسلم إن أجر نفسه للغير أن يباشر الحرام القطعي بنفسه؛ كأن يقدم الخمر، أو لحم الخنزير للزبائن، أو يتولى البيع والشراء، أو التصنيع، أو التعليب لها؛ للحرمة القطعية لهذا في القرآن والسنة، مما لا يكاد يجهله مسلم، أما إذا تولى في المطعم أو المحل التجاري أعمالاً أخرى مباحة كالمشروبات، واللحم الحلال، فهذا جائز ولو كان المحل التجاري والمطعم يقدم لزبائنه الحلال والحرام، هذا كله من حيث الحل والحرمة والإثم وعدمه في الشرع ، أما فعل الأفضل والأحوط فهو الابتعاد عن مواطن الشبهات والريب كما في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" البخاري (52)، ومسلم
(1599)، والله أعلم، - وصلى الله على نبينا محمد-.
============
أخذ الجنسية الأمريكية
المجيب …د. الشريف حمزة بن حسين الفعر
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …11/4/1423
السؤال
لدي ابنة في العشرين من عمرها تزوجت منذ بضعة أشهر، وسافرت إلى أمريكا مع زوجها، وهي الآن حامل، وتريد أن تضع مولودها هناك لكي تحصل على الجنسية الأمريكية، وتعمل لتعيش هناك هي وزوجها، فهل يجوز ذلك؟ علماً أنني غير موافقة على ذلك.
الجواب
النظام الأمريكي يعطي الجنسية لكل من ولد في أمريكا، وإذا كان للمسلم حاجة إلى الإقامة في ديار الغرب، مثل: العلاج، أو الدراسة، أو العمل بقصد كسب الرزق لمدة ثم يعود إلى بلاده، أو الاشتغال بالدعوة إلى الله ونحوه، فلا حرج على المسلم في ذلك مع مراعاة ما يلي:
-أن يأمن على دينه وتربية أهله وأبنائه في تلك الديار.
-ألاّ يقصد الإقامة الدائمة فيما إذا كانت ظروفه ميسّرة للعودة إلى بلاده، أو إلى بلاد إسلامية أخرى.
===============
السفر للتعلم في بلاد الكفار
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …10/5/1423هـ
السؤال
سأبتعث إلى بريطانيا لدراسة الهندسة الإلكترونية، والشهادة التي سأكمل بها الدراسة غير معترف بها في بلدي، والمكان الذي أعمل به لا يبعث إلا للدول الغربية، وأنا شديد الطموح لأحصل على الدرجات العالية، وهمي هو إفادة الإسلام بهذا التخصص، مع العلم أنني كنت في تلك البلاد لمدة سنتين، وبفضل الله كنت محافظاً على ديني، ولكن سمعت أن هناك أحاديث تشدد بعدم الجلوس بين ظهراني المشركين، وأنا محتار وقد قرب موعد السفر، أرجو يا شيخ أن تفيدني بالإجابة بأسرع وقت.
الجواب
عدم الاعتراف بالشهادة العلمية في المجال الوظيفي لا يقلل من أهمية التخصص في مجال الهندسة الإلكترونية، ما دام همتك وقصدك من هذه الدراسة هو نفع الإسلام والمسلمين في هذا التخصص، والسفر إلى بلاد الكفار لغرض الدراسة أو العلاج أو التجارة جائز لا شيء فيه، بل إن سفرك لغرض الدراسة مأجور عليه -إن شاء الله-، وعليك بالملازمة على الطاعات وفعل الخيرات، ودعوة من تستطيع دعوته من أهل تلك البلاد والمقيمين فيها، ومجالات الدعوة والنفع العام ميسرة في تلك البلاد في المساجد والمراكز الإسلامية، أما خوفك من النهي الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كحديث: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" أخرجه أبو داود (2645)، والترمذي (1604) من حديث جرير - رضي الله عنه - فقد فسَّره العلماء على ما إذا كانت رغبة الإقامة بين الكفار دون سبب شرعي، كالسفر لطلب العلم، أو العلاج، أو للتجارة وطلب الرزق، أو الدعوة إلى الله، ونحو ذلك، وإذا قصد المسافر إلى بلاد الكفار محبتها أو محبة أهلها فقط، فهذا هو المنهي عنه في هذا الحديث ونحوه، وفقك الله وأعانك ونفع بك.
=============
حكم الدراسة في بلاد الغرب
المجيب …د. محمد الشايع
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …19/11/1422
السؤال(1/2)
أنا شاب ملتزم - إن شاء الله - في بداية الطريق ، أود متابعة الدراسة في بلاد الغرب ( أوروبا ) نظراً لارتفاع نسبة البطالة في بلادي، وأريد أن تفتوني في هذا . بالإضافة إلى أني أريد معرفة حكم لبس الملابس الغربية ، وحلق اللحى و تهذيبها، ولا أقصد هنا قص البعض عن الآخر ، هذا بالإضافة إلى أن صديقاً لي يوجه لي دعوات كثيرة لتناول العشاء معه، وأنا أشك في مصدر أمواله حلال هي أم حرام ؟ أرجو منك أن تغيثني بالجواب المقنع لهذه الأسئلة بالكتاب والسنة إذا أمكن ذلك .
الجواب
وفقك الله وهداك ، وسدد على طريق الحق خطاك . أحسن النية والقصد في دراستك ولا شيء في ذلك -إن شاء الله- ما لم تخف على نفسك خطراً . ولا بأس من اللباس لستره ولعموم لابسيه وكونه غير خاص بهم في هذا العصر، ولا علامة عليهم . وأما حلق اللحى فلا يجوز فهو مخالفة لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقوله . وأما شكك في مصدر أموال صديقك وكونها حلالاً أو حراماً وتركك إجابة دعوته لذلك ، فلست مطالباً بتقصي حل أمواله أو حرمتها، فأجب دعوته ما دامت على غير حرام من خمر أو خنزير ونحوه وإذا علمت أكله للحرام فانصحه .
=============
الهجرة إلى بلد غير مسلم
المجيب …العلامة/ أ.د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …5/4/1424هـ
السؤال
في كل يوم يشتد الظلم في العالم العربي من قبل الحكومات، فهل يجوز للمسلم أن يهاجر إلى بلد آخر يتوفر فيه العدل بين الناس؟ مع العلم بأن غالبية سكان هذا البلد من غير المسلمين.
الجواب
الأصل ألا يترك الإنسان بلداً إسلامياً، من أجل ظلم لا يتعلق بالدين، أو من أجل ظلم غير كبير جداً، لكن إذا كان الإنسان يخاف على نفسه أو دينه أو ماله؛ فلينتقل إلى بلد، ولو كان هذا البلد غير إسلامي، بشرط أن يكون قادراً على إقامة شعائر دينه، وبذلك ينطبق عليه الحديث الذي ذكره ابن حبان في صحيحه (4861) وهو حديث فديك - رضي الله عنه - وكان قد أسلم، وأراد أن يهاجر فطلب منه قومه وهم كفار أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، ففر فديك بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر، هلَكَ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - حسب الحديث الذي يرويه ابن حبان: "يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت"، وظن الراوي أنه قال: "تكن مهاجراً".
إذاً يجب أن نعي هذه الألفاظ كاملة: (أقم الصلاة)، فمن يريد أن يقيم في دار الكفر فعليه أن يجعل من هذا الحديث دستوراً لحياته.
"أقم الصلاة واهجر السوء"، اترك الأعمال السيئة، لا ترتكب الفواحش، ولا تشرب خمراً، وأقم من دار قومك حيث شئت، وحديث ابن حبان رجاله ثقات، والحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده (1420) وفيه: "البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وحيثما أصبت خيراً فأقم"، فهذا الحديث أصل في الإقامة في بلاد الكفر لمن يستطيع أن يظهر شعائره، وبصفة عامة فإن ثلاثة من المذاهب تميل إلى جواز هذه الإقامة، وهي: الشافعية، والحنابلة والأحناف، مع خلاف داخل هذه المذاهب، أما مالك - رحمه الله تعالى - والظاهرية فهؤلاء لا يجيزون الإقامة في دار الكفر، ويعملون بأحاديث أخرى منها: "لا تراءى ناراهما"، رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604)، والنسائي (4780) من حديث جرير بن عبد الله مع اختلاف في صحة هذه الأحاديث، وفي تأويلها أيضاً.
فحاصل الجواب: أنه إذا كان في بلاد العرب أو بلاد الإسلام يلقى عنتاً وظلماً فإنه يجوز له أن يقيم في ديار غير المسلمين، بشرط أن يكون قادراً على إقامة شعائره، ولعلنا أن نضيف شرطاً آخر، هو: أن يستطيع أن يربي أولاده تربية إسلامية
=============
الإقامة في بلاد الكفر لتحصيل الجنسية
المجيب …د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ العقيدة بجامعة القصيم
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …17/7/1424هـ
السؤال
السلام عليكم, أنا شاب حديث الزواج أعيش في كندا، وزوجتي تعمل في بلدي الأصل، وأدرس في الوقت الراهن، حيث سأنهي دراستي في العام القادم إن شاء الله، لكن أمامي عرض أخذ الجنسية الكندية إذا ما بقيت عاما آخر هنا, هل أعود إلى زوجتي، أم أصبر لأخذ الجنسية من أجل الحصانة في بلادي?.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إذا كان حصولك على الجنسية الكندية لا يتضمن محذوراً شرعياً، ولا التزاماً يخل بأمر دينك حاضراً ومستقبلاً، وفيه مصلحة لك، فلا حرج أن تبقى عاماً إضافياً، ملتزماً بتقوى الله ما استطعت، ويمكنك زيارة أهلك أو دعوتهم للحضور إليك، ولو لمدة محدودة. وفقك الله.
=============
التجنس بجنسية الدولة الكافرة
المجيب …خالد بن عبد الله البشر
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …06/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
ما حكم الاشتراك في منافسة اللوتري(lottery) الأمريكية للحصول على الهجرة والدراسة هناك، وما حكم التجنس الأمريكية؟
الجواب(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
في هذا السؤال ثلاث مسائل:
المسألة الأولى : حكم التجنس بجنسية دولة كافرة.
المسألة الثانية : حكم الهجرة إلى بلاد الكفر.
المسألة الثالثة : حكم الاشتراك بمسابقة اللوتيري [lottery].
أما المسألة الأولى : حكم التجنس بجنسية دولة كافرة.
الجنسية عقد بين الدولة (صاحبة الجنسية) والفرد (طالب الجنسية)، وفي حقيقتها دخول الفرد تحت ولاية الدولة، وقد حرّم الله عز وجل الدخول في ولاية الكفر فقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [المائدة:51].
وينتج عن هذه الجنسية حقوق وواجبات، ومن هذه الواجبات التحاكم إلى قانون الدولة المخالف للإسلام، وهو محرم؛ قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"[النساء:65]، وأن يدافع عن الدولة ولو كانت في حرب ضد دولة إسلامية وهو محرم؛ قال صلى الله عليه وسلم : "من حمل علينا السلاح فليس منا" أخرجه البخاري (7070) ومسلم (98). كما أن هذه الواجبات تمنح الفرد حق الإقامة الدائمة في الدولة الكافرة مع أن أصل إقامة المسلم في بلاد الكفر حرام قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" أخرجه أبو دادو (2645)، والترمذي (1604) بسند صحيح. وكذلك دخول أبنائه مدارسهم التي يُدرَّس فيها دين النصرانية، وما يتبع ذلك من الانحلال الأخلاقي بشتى صوره.
وبناء على ما سبق فإن الأصل العام في المسألة أنه: يحرم على المسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة.
وأما حالات الضرورة في التجنس: فإن المفتي ينظر كل حالة على حده؛ ليتحدد الضرورة من عدمها، فإن من المسلمين من يدّعي الضرورة في التجنس؛ ولا ضرورة؛ بل هو من قبيل الحصول على الامتيازات الدنيوية.
وحيث إن السائل من بلد عربي مسلم، يأمن أهله المسلمون على دينهم ودمائهم وأعراضهم وأموال، فإنه يحرم عليك التجنس بالجنسية الأمريكية.
المسألة الثانية : حكم الهجرة إلى بلاد الكفر.
فمن الخطأ تسمية الانتقال إلى بلد الكفر هجرة؛ لأن الهجرة في الإسلام هي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، بل الانتقال إلى بلد الكفر معصية وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد فصلتُ في هذا المسألة في جواب سابق من خلال هذا الموقع .
(الإقامة في بلد الكفار)
المسألة الثالثة : حكم الاشتراك بمسابقة اللوتيري [lottery].
مسابقة اللوتيري [lottery]: عبارة عن لعبة تُبَاع فيها تذاكر مرقمة؛ مقابل ربح جوائز للذين تُختار أرقامهم، على أساس عشوائي.
وهذا ما يسمى باليانصيب، وهو القمار المحرم الذي سماه الله في كتابه بالميسر فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[المائدة 90-91].
والله أعلم.
============
السياحة في بلاد الكفر
المجيب …سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …30/4/1424هـ
السؤال
أنا فتاة، وأهلي سوف يسافرون لقضاء عطلة الصيف في بلد أوربية (بريطانيا)، ما حكم ذهابي معهم لهذه البلد (لندن)، مع العلم أنني لا أستطيع أن أمنعهم من السفر إلى هذه البلد، ولا أستطيع أن امتنع عن السفر بالرغم من وجود أبي وبعض إخواني في البيت، إلا أنني مرتبطة بوالدتي ولا أستطيع أن أمكث في البيت بدونها؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أختي الفاضلة! قرأت سؤالك، وتأملت معاناتك مليِّاً، فتوارد عليّ شعوران، تجاذباني وهما في غاية التنافر والاختلاف:
يتملَّكني شعورٌ بالإعجاب والإكبار لعقلك، فإني لأرى نضجه وأتلمس رجحانه في موقفك من مسألة السفر هذه، وكأني بك راغبة عنه لولا تعلّقك بأمِّك.
لقد أعجبني منك هذا التعقُّل وأكبرت فيك هذا التردد؛ فقلَّ أن تتردد فتاةٌ في مثل عمرك في هذا السفر، فضلاً عن أن تستفتي فيه أحداً!
وينتابني شعورٌ بالأسى والحسرة لهذه الظاهرة الخطيرة، ألا وهي السفر لبلاد الكفر بالمال والأهل والولد، فالمال يذهب إلى الأعداء، والأهل والولد يرجعون بغير ما ذهبوا به، محمَّلين بالأوزار والشبهات والعادات السيئة، ويكفي منها التسخط على أوضاع المجتمع المحافظ نوعاً ما.
أختي الفاضلة! قد تكون المقاصد والبواعث بريئة لا تخرج في بداياتها عن مجرد النفرة من حر الصيف اللافح، وقصدِ التمتُّع بالطبيعة، وتغيير نمط الحياة الرتيب!
لكن هل الذي يحدث هو فعلاً هذا، وهل تنتهي كما بدأتْ ؟!(1/4)
الغالب ـ وبشاهدة الواقع ـ من أحوال هؤلاء السائحين في بلاد الكفر هو التجوُّزُ في كثير من المنكرات، والتردّد على مواطن ترتادها شياطين الإنس والجن؛ لتستثير كوامن الفتنة والشهوة.
ولذا فنصيحتي إليك أن تجتهدي في صرف أهلك عن السفر إلى بريطانيا (أو غيرها من بلاد الكفر) إلى بلاد إسلامية محافظة، ولا تستيئسي في دعوتهم ونصحهم، ولكن باللين والرفق.
فإن أبوا إلا السفر إلى هنالك فعليك بتذكيرهم بوجوب الاحتشام والبعد عن مواطن الرذيلة، وتذكيرهم بأن تقوى الله والالتزام بشرعه لا يحده حدود دولة، ولا يختص بمكان دون مكان، ولا بزمانٍ دون زمان. بل الأمر على قاعدة: (اتق الله حيثما كنت).
إن كونهم عازمين على السفر لا يعفيك من النصيحة لهم، وتذكيرهم بتقوى الله وتحذيرهم من مغبة معصيته.
كما أن رفضهم لنصحك إياهم بترك السفر لتلك الديار لا يعني أنهم لن ينتصحوا لك فيما سوى ذلك، ولا يعني أنه لا خير فيهم، ولا جدوى من نصحهم، فليكن أمرك معهم كما قال الأول: حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
أما سؤالك: هل تذهبين معهم أم تمكثين في البيت مع أبيك وبعض إخوتك؟
فالذي أنصحك به ـ أختي الفاضلة ـ هو ألا تسافري إلى تلك البلاد ما دمت قادرة على عدم السفر، فالسفر إلى تلك البلاد ـ كما تعلمين ـ لا يكاد يخلو من بعض المفاسد والفتن، خاصة لمن يقصد المدن الكبرى منها، والتي تعج بألوان من الفساد ومظاهر من التفسخ في دعوة إلى الفاحشة بطريقة صارخة فجة، تلاحق حتى الذاهل عنها.
وإن كنت لا تصبرين على فراق أمك وتحتاجينها في ضرورات حياتك اليومية فألحي عليها بعدم السفر...إلحاحاً لا يفتقد اللطف ولا يفارقه الأدب.
فإن هي أبتْ إلا السفر فعسى أن تكوني معذورة في مرافقتها إلى هناك، ولكن بشرط المحافظة على الصلوات في وقتها، والتزام الحجاب الشرعي الكامل، فلا كشف للوجه، ولا لبس للضيق. وعليك بالبعد عن الاختلاط بالشباب وعن مواطن الفتن.
وليكن قضاء وقتك في التمتع بما حباه الله تلك البلاد من جمال الطبيعة الخلابة، والتفكرِ فيما بثه الله فيها من بديع خلقه، واشغلي وقتك بما يفيدك: من القراءة في كتاب الله، وحفظ بعض السور، والقراءة في الكتب النافعة، فسوف تجدين في ذلك لذة تضارع لذة المقيمين على الشهوات والمعاصي، ولسوف تجدين في ذلك أُنساً لا يجده أولئك في معاقرة الخمرة ومنادمة القينة.
وعليكِ أولاً وآخراً بتقوى الله في السر والعلن، والإقامة والظعن، فإن الله لا تخفى عليه خافية.
وفقكِ الله وهداك، وثبتك وحباك حب طاعته، واستعملك في مرضاته.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
==============
الدراسة في بلاد الغرب
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …11/11/1424هـ
السؤال
أنا مستقيم إن شاء الله، وعسكري في هندسة الطيران، وقد ترشحت في بعثة دراسية لمدة أربعة أشهر في بلاد الغرب، وأنا أجيد اللغة الإنجليزية، وقد نهاني أحد الإخوة، حيث إني سأسكن في سكن عسكري.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
من شروط السفر إلى بلاد الكفار عند أهل العلم، أن يكون السفر مباحاً في طلب علم ينتفع به، ويعود نفعه على المسلمين عامة، وأن يلتزم من يريد السفر إلى هذه البلاد أحكام الإسلام الظاهرة من صلاة، وصيام، وأن يأمن على نفسه من الوقوع في الفتن، فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة كما قيل، ويبدو من السؤال توفر هذه الشروط في السائل - إن شاء الله- وإذا كان الأمر كذلك فسافر يا أخي، وتوكَّل على الله واسأل ربك أن يثبتك على الحق، والزم الطاعات وأكثر منها، وإن استطعت أن تأخذ معك زوجتك فهو أحسن وأجود، وعليك الحرص بملازمة أهل الصلاح من المسلمين من الجاليات الإسلامية هناك، فإن الرفيق يهون عليك السفر، ويؤنسك في الغربة، واعلم أن السفر إلى بلاد الكفار لدراسة هندسة الطيران ونحوها مما يحتاجه المسلمون جائز شرعاً ولا حرج فيه، وربما كان واجباً بعد تعينه عليك، واعلم أنه لا يجوز لك أن تسكن مع امرأة، لو دعيت إلى ذلك، وكلما أظهرت لهؤلاء الكفار، الأمريكان بأنك مسلم ملتزم بدينك لا تشاركهم في مقارفة الحرام كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ومصادقة النساء، ونحو ذلك، احترموك وقدروك، وفقنا الله وإياك إلى الخير، وثبتنا وإياك على الحق ونفع بك الإسلام والمسلمين. آمين
=============
الهجرة إلى بلد مسلم
المجيب …العلامة/ أ.د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …05/08/1425هـ
السؤال
نريد أن نهاجر لدولة مسلمة،كيف نستطيع الخروج من بلد كافر إلى بلد مسلم، والبلد المسلم لا يقبل بنا، والأسوأ أنهم يفضلون الكفار في العمل لديهم، مع أن لدينا شهادات أفضل من الكفار، نريد أن نتوقف عن دفع الضرائب لهم، فهم يستخدمون هذه الأموال لضرب المسلمين، وتبقى معهم في بلدهم، في نفس الوقت نريد من يقف معنا في هذه الشدائد ويساعدنا في التوجه لبلد مسلم، ونهاجر في سبيل الله.
الجواب(1/5)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا السؤال ذو شعب مختلفة:
أولاً: السائل يسأل عن كيفية الخروج من بلد غير مسلم إلى بلد مسلم، وهذه الكيفية كما هو معروف تحكمها أنظمة وقوانين وأعراف تخضع لتأشيرة، وتخضع لطلب عمل، وتخضع لأشياء قد لا يكون موقعنا هذا (موقع الإسلام اليوم)، قادرًا على توفيرها لكل مسلم يريد أن يخرج من بلد كفر إلى بلد إسلام؛ لأن الدول الإسلامية لها أنظمتها ولها جهات مختصة بهذا.
الأمر الآخر هو: أن السائل يقول: إنه لا يريد أن يقيم في دار الكفر، وهذا شعور طيب، لكن مع ذلك نقول له: ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)]البقرة:من الآية286[. وإذا كان يستطيع إقامة شعائره، ويستطيع أن يعبد الله سبحانه وتعالى، في هذه الديار - ديار الكفر- فلا يجب عليه أن يخرج منها؛ لحديث فديك، رضي الله عنه، وهو حديث رواه ابن حبان (4861) ورجاله ثقات، وفيه يقول عليه الصلاة والسلام: "يا فُدَيْكُ أَقِمْ الصَّلاةَ،واهْجُرِ السُّوءَ، واسْكُنْ مِن أرضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ". وظن الراوي أنه قال: "تَكُنْ مُهَاجِرًا". وكانت قبيلة فديك كافرةً، وكان يسكن معهم، وكان يسأل ويستفتي عن الهجرة، لهذا بنى ثلاثة من الأئمة، وفي أغلب المذاهب الثلاثة مذهب الشافعي والحنبلي والحنفي بأن الخروج إذا كان الإنسان قادرًا على إقامة شعائره ليس واجبًا، وأن الهجرة ليست واجبة، ورأى مالك - رحمه الله تعالى- وأهل الظاهر وجوبها، فالمسألة فيها سعة، و ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا). فإذا استطاع أن يذهب إلى بلد مسلم يقيم الدين، فهذا شيء حسن، لكن إذا لم يستطع ذلك - أيضًا- فليعلم أنه في سعة من أمره، ويرى بعض العلماء كالماوردي والشافعية أنه إذا كان يستطيع أن يؤدي شعائر دينه فلا يجوز له الخروج أصلاً، بل يجب البقاء في ذلك البلد؛ لأن البلد بخروجه ستخلو من المسلمين، أي لا يبقى فيها مسلم، والمسألة فيها سعة، ونسأل الله أن يوفقنا ويوفقه، ويوفق ديار المسلمين على أن تستقبل أبناء المسلمين بدلاً من أن تستقبل غيرهم، وأن تستعملهم بدلاً من استعمال غيرهم، وبخاصة إذا كانوا يتمتعون بالكفاءات التي أشار إليها السائل.
أما قضية أنه يدفع الضرائب لهم، فهذا عليه أن يدفع ضرائبه لحماية نفسه وحماية ممتلكاته، وهذا أمر لا بأس به- إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
=============
انحرافات بعض المسلمين في بلاد الغرب
المجيب …د. قيس بن محمد آل مبارك
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …12/06/1428هـ
السؤال
أغلب المسلمين في الغرب لا يفرقون بين الحلال والحرام، ولا يتجنبون الربا، ويأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، ويزنون، وقد تكلمت مع شخص ينتمي إلى الإخوان المسلمين، فقلت له: سمعت أن الإخوان المسلمين هنا يحللون أكل اللحم المذبوح على غير الطريقة الإسلامية، فقال لي: نعم إنه حلال، وأصر على ذلك، مع العلم أن اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية متوفر وبكثرة، كما أن من المسلمين هنا من يحلل السرقة؛ بحجة أنه في بلد كافر. أرشدونا لننصح هؤلاء.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
شكر الله لك أيها السائل غيرتك، واهتمامك بمعرفة الحلال والحرام، ورغبتك في نصح إخوانك المسلمين.
أما انصراف بعض المسلمين عن التَّقيُّد بأحكام الشرع في أكلهم لحم الخنزير وشربهم الخمر وغير ذلك، فهو سببُ ما نحن فيه من الابتلاء والضَّعف أمام أُمم الأرض .
غير أني أنصحك ألا تقلق، إذ ليس عليك إلا النصح مصحوباً بالشفقة والرحمة لعباد الله تعالى، أي من غير أن يُفضي بك ذلك إلى أن ينزغ الشيطان بينك وبين إخوتك .
وأما أكلهم من اللحوم المذبوحة في الغرب، فالمسألة من مسائل الخلاف، وهي من المسائل التي جرى فيها كلام طويل، وتفصيل بين الفقهاء قديماً، ولا ينبغي أن تكون سبباً للفرقة بين المسلمين، فمَن أكلَ منها فغاية ما يلزمنا أن ننصحه وندلَّه على الأفضل والأكمل وما يتحقَّق به الورع، لا أن ننكرَ عليه لأنها مسألة خلافية، اختلف فيها الأقدمون والمعاصرون.
وأما استباحة السرقة من الغرب لأنهم غير مسلمين، فهذا رأيٌ فاسد، ولا يجوز القول به، ويجب عليك أن تبيِّن الحكم لِمَن تظنُّ أنه يقبل النصح، مع الحرص على التَّلَطُّف له في نصحك وإرشادك، واحذر من الشدَّة والغلظة، خشية من أن تكون سبباً لتنفيره، فتقع في ذنبٍ آخر، فأنت تقول الحق فإن قُبِلَ منك وإلا فدع، فإنما عليك البلاغ، وقد قَالَ يَحْيَى بن معين: "مَا رَأَيْتُ عَلَى رَجُلٍ خَطَأً، إِلاَّ سَتَرتُهُ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُزَيِّنَ أَمرَهُ، وَمَا اسْتَقبَلتُ رَجُلاً فِي وَجْهِهِ بِأَمرٍ يَكرَهُهُ، وَلَكِنْ أُبَيِّنُ لَهُ خَطَأَهُ فِيْمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ، وَإِلاَ تَرَكتُهُ".(1/6)
وأما ما ذكرته عن الإخوان المسلمين، فاعلم أيها الخائف من ربِّه والمشفق على دينه أن الجماعات الإسلامية ليست أكثر من اجتهادات في الدعوة إلى الله وإرشاد الخلق، وهذا باب مفتوح، فليس لنا أن ننكرَ على فردٍ أو جماعة إذا اجتهدوا واختاروا طريقة في التربية أو التوعية أو التثقيف، نعم ننكر عليهم إذا رأينا أن لهم رأياً لَمْ يُبْنَ على اجتهادٍ صحيح، ويتولَّى الإنكار الفقهاءُ فقط، لأنهم أعلم متى يجوز الإنكار ومتى يجب ومتى يَحْرُم، وهم أدْرى بطريقة الإنكار زماناً ومكاناً وشخصاً.
ثم إن ما أعلمه عن جماعة الإخوان المسلمين أنهم ليسوا مذهباً فقهياً، بل هم لا يُلزمون أتباعهم في مسائل الفقه برأي فقيهٍ بعينه، بل منهم الحنابلة ومنهم المالكية ومنهم الحنفية، فلا ينبغي أن تفهم مِن أَخْذِ أحدهم برأيٍ فقهيٍّ أنه هو رأي الجماعة.
==============
الأقليات الإسلامية في الدول المحاربة للإسلام!
المجيب …د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ العقيدة بجامعة القصيم
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …09/01/1428هـ
السؤال
عندنا في الغرب مجموعة من الناس يقولون إن الدول التي نحن فيها تحارب بلاد المسلمين، ويحاربون هذا الدين العظيم، فقد جعلوا من ديارهم ديار حرب. فيجب على المسلمين محاربتهم في بلادهم. هذه مشكلة كبيرة هنا في استراليا، والتي يقول الناس فيها يجب أن نحاربهم هنا؛ لأنهم يحاربوننا في ديارنا. فما هو دليلهم في ذلك؟ فإذا كانوا على غير حق فهل يمكن ذكر بعض الأدلة حتى أستطيع أن أردَّ عليهم ؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن هذا التكييف الوارد في السؤال ليس صواباً من الناحية الإجرائية. فلا يجوز للأقليات الإسلامية في بلاد الغرب أو استراليا أن تفتعل حرباً على الدول التي تقطنها بدعوى أنها تحارب الإسلام، لأسباب، منها:
أولاً: أن أمر الحرب والصلح، وتعيين دار الحرب، ونحو ذلك، من باب السياسة الشرعية، التي لا يقطع بها أفراد، أو جماعات محدودة، بل هو إلى أولي الأمر الذين اجتمع عليهم الناس في بلاد المسلمين، بصرف النظر عن المؤاخذات عليهم، وإلا لآلت الأمور إلى فوضى، وصار كل أحد يقضي في الأمور العامة.
ثانياً: أن الدول المذكورة لم تستعلن بالحرب على الإسلام، وإن كانت في الواقع تحارب مسلمين، لكن بزعمها أنها تحاربهم لا بصفتهم الإسلامية، لكن بأوصاف يصمونهم بها، ولدوافع تتقاطع فيها مصالح شتى.
ثالثاً: أن هؤلاء المسلمين القاطنين في هذه الدول غالبهم ممن دخلها بعقد وميثاق وأمان، فلا يجوز أن يخفروا العهد، وينقضوا الميثاق، بارتكاب أعمال من قبيل المحاربة، وشواهد ذلك في السنة الصحيحة، والسيرة النبوية كثيرة.
رابعاً: ليس من العقل في شيء أن يعرِّض المرء نفسه وإخوانه من المسلمين لفتنة الذين كفروا، بارتكاب أعمال انفعالية تؤدي إلى مفاسد لا يعلم مداها إلا الله.
وشرط القدرة معتبر، كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" [النساء:77]. وقد كانوا مستضعفين في مكة.
فالذي أنصح به إخواني أن يتريثوا، وأن ينظروا بعين الحكمة والشرع، وألا تستثيرهم العاطفة المجردة، فيرتكبوا ما يندمون عليه. وعليهم أن يصبروا، ويصلحوا أحوالهم، حتى يأتي الله بالفتح والفرج. نسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، وأن يصلح آخرها بما أصلح به أولها، وأن يكتب لها العز والتمكين.
==============
أداء القسم لمنح الجنسية
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …04/07/1427هـ
السؤال
أنا طالب وأعيش في كندا والحمد لله أتمتع بكامل حريتي الدينية.
ما وجدت عليه المسلمين هنا أنهم لا يتأخرون عن أداء القسم الخاص بالجنسية والذي ما معناه:
أقسم (بما تؤمن به) بأن تكون وفيًّا أو وليًّا لجلالة الملكة اليزابيث الثانية أو من ينوب عنها وأن تكون مطيعا للقانون الكندي.
على المتقدمين للجنسية (وعادة ما يكونوا مجموعة) أن يقفوا ويرفعوا أيديهم ويرددوا ما معناه خلف الموظف المسؤول.
وآخر يقول ما هو إلا ترديد شفهي إذا كان القلب مطمئناً بألا يعصي الله فيما يتعارض مع شرع الله. واستدل بفعل بعض الصحابة تقبيل رأس أحد الحكام لتخليص بعض أسرى المسلمين.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإذا كان طلبك الجنسية الكندية ضرورة لا تجد ما تصلح به ديناك إلا بها -فيجوز حينئذ أخذك هذه الجنسية، لا سيما وأنك تستطيع إظهار شعائر دينك معها، بل ربما قد تجد ما يحميك عندما يتعرض لك أحد في دينك، أو عرضك، أو مالك ما دام القانون ينص على حرية الاعتقاد. وكونك غير مجبر أن تقسم بغير الله. أما قسمك أن تكون وفيًّا للملك أو الملكة التي تحكمهم، وأن تكون مطيعاً للقانون الذي يتحاكمون إليه فإن اخترت ذلك بطوعك واختيارك فيتعين عليك حينئذ أمور منها:(1/7)
1- أن تقصد في قلبك الوفاء للحاكم إذا حكم بالحق، وكذلك طاعتك للقانون بما يوافق الشرع؛ لأن معظم أوامر الحاكم ومواد القانون الوضعي ليست كلها مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية ففيها: الصدق والوفاء وإتقان العمل وعدم الاعتداء على الآخرين بغير حق والعدل والمساواة بين الناس في أمور الحياة. فهذه الأمور ونحوها كثير هي في شرعنا وتنص عليها جميع القوانين.
2- الوفاء بالعهد والبر بالقسم -وفق ما ذكر سابقاً يأمر به الدين، بل يحرم نقض العهد، ويوجب البر بالحلف ما دام في الخير وعلى الخير. قال تعالى مثنياً على الموفين بالعهد آمرًا به عامة المؤمنين أن يتعاملوا به مع الناس قاطبة مسلمهم وكافرهم فقال: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ..." [المعارج:32-33]. وقوله "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا" [النحل:91]. وقوله تعالى: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" [الإسراء:34]. وعاب الله على المنافقين أن يظهروا ما لا يبطنون "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" [الصف:2-3] ولما أسر المشركون يوم (بدر) حذيفة بن اليمان ووالده، ثم أطلقوهما بعد أن أخذوا منهما عهداً ألا يقاتلا مع محمد -صلى الله عليه وسلم- جاءا، فأخبرا- الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال مانعاً لهما أن يقاتلا معه؛ وفاءً بما عاهدا عليه. فقال: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" صحيح مسلم (1787) وفي لفظ: "أوفوا لهم بالعهد واستعينوا الله عليهم".
وقصة أبي جندل يوم الحديبية بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسهيل بن عمرو -مندوب المشركين- واضحة وصريحة حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهداً، وإنا لن نغدر بهم". انظر مسند أحمد (18152)، وصحيح البخاري (2734).
3- وبناء على هذا يجوز لك القسم ما دمت معتقداً في قلبك بطلان عقيدة الكفر، وقلبك مطمئن بالإيمان. ويتعين عليك في مثل هذا الحال أن تحلف بالله، لا بالمسيح، ولا بأحد من المخلوقين. وفي وسعك أن تصمت أثناء أداء القسم ما دام جماعياً -إن كان ذلك في مكنتك. والله أعلم.
====================
طلب الحكم من المحاكم غير الإسلامية
المجيب …د. عبد الله بن عمر الدميجي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …21/07/1428هـ
السؤال
إذا كان التحاكم إلى الطاغوت شركا، فما هي حجج العلماء الذين يجيزونه بسبب أقل من الإكراه (الضرورة)؟ وبالنسبة لنا، نحن الذين نعيش في أوروبا، في أي حال يجوز لنا - من أجل تسوية خلاف- أن نطلب الحكم من محكمة غير إسلامية؟ أرجو أن توضحوا لنا هذه المسألة؛ لأن نزاعات كثيرة و اتهامات بالكفر تحدث بسبب هذه المسألة؟ و هل يوجد اختلاف بين الفقهاء في هذا الموضوع؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهندى بهداه، وبعد:
فمما لا شك فيه أن التحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله هو تحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به، كما قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً" [النساء:60]. وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، قال تعالى:" فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء:65]. وعدّ الحكم بغير ما أنزل الله كفراً وظلماً وفسقاً، ووصفه بحكم الجاهلية المقتضي للتحذير والتنفير والإبطال.
ولا شك أن التحاكم إلى تلك المحاكم التي تحكم بغير ما أنزل الله عن رضا وطواعية واستحسان أن ذلك من الكفر الأكبر المخرج من الملة.
أما من ألجئ إلى تلك المحاكم بالإكراه والإجبار، كأن يستدعى للمثول أمامها للترافع في دعوى مقامة عليه فهو هنا في حكم المكره الذي لا إثم عليه إن شاء الله كما قال تعالى:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ"[النحل: 106].(1/8)
لكن هل يلحق بهذا من كان له حق أو مظلمة، ولا يمكن استيفاء حقه، أو دفع تلك المظلمة عنه إلا بالتحاكم إلى تلك المحاكم القانونية، هل يسوغ له شرعاً الترافع إلى تلك المحاكم؟ هذه محل نظر، والضرورات تقدر بقدرها. ولكنه لو تحاكم إلى تلك المحاكم لاستخلاص حقه أو دفع الظلم عنه الذي لا يمكن دفعه إلا عن طريقها فإنه لا يكفر-إذا قلنا بالمنع من ذلك- إذا كان عالماً معتقداً عدم جواز التحاكم إلى غير شرع الله، وغير راض بذلك، وغاية ما فيه إن قلنا بالتحريم أن حكمه حكم الحاكم بغير ما أنزل الله إذا حكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله لهوى أو لخوف أو لغير ذلك وهو مانص عليه العلماء بأنه لا يخرج من الملة وعدّوه من الكفر الأصغر.
وعلى من ابتلي بمثل هذا أن يجتهد قدر المستطاع بألا يتحاكم إلى غير ما أنزل الله ولو ذهب بعض حقه، وأن يلجأ إلى الوسائل الأخرى كالإصلاح مثلاً، أو تحكم من يوثق بدينه وعلمه من علماء الشريعة، أو التنازل عن بعض حقه فيقدم دنياه دون دينه.
وعلى إخواننا المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفر التي لا توجد فيها محاكم شرعية أن ينشئوا لجاناً شرعية من الأكفاء عندهم للتحاكم إليها، وإصلاح ذات البين فيما يقع بينهم؛ حتى لا يلجؤوا إلى التحاكم إلى الطواغيت الذين قد أمروا أن يكفروا بهم. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============
مشاركة المسلمين في الانتخابات الهولندية
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …11/8/1422
السؤال(1/9)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ - يحفظه الله ويرعاه - سوف تعقد - بإذن الله تعالى- مناظرة بين أحد الدعاة عندنا في هولندا وشخصية عنصرية خرجت على الساحة فجأة في هولندا لكنها وجدت تشجيعاً بالغاً في أوساط الشباب الهولندي والناخبين الهولنديين خاصة في الانتخابات البلدية السابقة واسمه (fortune pim) وهو الآن مرشح للانتخابات الأوسع والأكبر على مستوى الوزراء. منطلقات هذا الرجل في الاعتقاد هي العقيدة اللادينية والإلحاد طريقته، ومنهجه المنهج العنصري الهتلري، من أبرز ما يحارب الإسلام، وينظر إليه أنه مثال للتخلف والرجعية، ودين الإرهاب والتطرف، يدق طبوله الإعلام ليلاً ونهاراً لا سيما مع اقتراب الحملة الانتخابية في هولندا، والتي تكون مشاركة المسلمين فيها دائماً مشاركة مخيبة وضعيفة في غياب وعي بأهمية ذلك تخفيفاً من الشر الواقع عليهم، وتكلم البعض بأن هناك فتاوى تمنع المشاركة...... إلخ، والواقع لا يرحم، فإن يتكلم أحد من المسلمين أو يدافع صغر أو كبر فحسن وإلا سوف يتكلم هذا الرجل، فإن واجهه أحد وحاوره وناقشه فإن لم يفلح في إبهاته فلعله يفلح في خلق نظرة متوازنة نوعاً ما عند المواطن الهولندي فلا تزيد العنصرية التي هي زائدة أصلاً منذ أحداث سبتمبر، وما نرجوه من فضيلتكم الدعم العلمي والتوجيهات المركزة لدعم موقف الأخ الداعية قدر الاستطاعة آخذين بالاعتبار. النقاط التالية: (1) وقت المناظرة خمس وأربعون دقيقة. (2) وقت المناظرة باليوم والتاريخ لم يحدد بع،د لكن يجب أن تذاع المقابلة قبل2/7 /2002م (3) بعد إجراء المقابلة وتسجيلها تعرض على الطرفين حتى يقرَّا إذاعتها أم لا. (4) لا يحذف شيء من المقابلة أو يستعمل فيها مونتاج. (5) كل هذا مدون في أوراق وتواقيع، وتحاكم القناة إن أخلت بشيء من هذا. (6) القناة التي سوف يذاع فيها البرنامج القناة الرابعة الهولندية RTL. (7) الأخ المناظر شاب مصري متقن للغة الهولندية لكن خلفيته الشرعية ليست بذاك، ونظراً لقلة الدعاة الذين يملكون الجرأة والإتقان في اللغة الهولندية والتصدر لمثل هذا كان هذا. الحاصل أن الرجل جاء إليّ وطلب المساندة واتصل بمن يعرف من المراكز الإسلامية لدعمه بما يلزم ولتوجيهه والاستشارة، وهذا في حد ذاته تصرف حسن من قبله، وقد أشرت عليه في البداية ألا يعطي هذا الشخص أكبر من حجمه. فكان يرد: إن هذا الرجل سوف يتكلم شئنا أم لم نشأ وفي وسائل الإعلام، فانتهازنا لهذه الفرصة أفضل الخيارات فهي تخفيف للشر وفرصة للدعوة إن وظفت توظيفاً حسناً، فوجدت في نفسي قبولاً لما قال، فإن إلقام الحجر لهذا العلج على يد ضعيف من المسلميين أبلغ من أن يأتي على يد شيخ معروف، وقررت الاتصال بفضيلتكم عسى أن نجد عندكم التوجيه والإمداد بما يلزم. (8) الأخ يريد أن يركِّز على الجانب العلمي في الإسلام ويركِّز على الإقناع العقلي.(9) يتوقع أن الرجل سوف يركز على أن الإسلام دين التخلف والإرهاب، فقد كرر مراراً في حوار إذاعي سابق مع مرشح من الحزب الحاكم في مناظرة إذاعية وهو حزب مناصر للأجانب بقوله: الإسلام دين الإرهاب، يستدل بالآية فى سورة الحديد "ترهبون به عدو الله وعدوكم" [الأنفال:60] وهذا فقط مثال على منطلقاته، طبعاً هذا للهولندي الجاهل المحدود المعرفة بالإسلام والتي هي أصلا معرفة مضللة لا شك أنه يؤثر جداً، فنحن نعرف المجتمع هنا ونعيش وسطه. (10) ما نريد مد الأخ به حقائق علمية وتاريخية تثبت أن حضارة الغرب لم تقم إلا على علوم علماء مسلمين، وكذلك الجانب الإعجازي العلمي في الإسلام، ثم القفل على الخصم في دوائر عقلية تجعله لا يجد جواباً ويبهته الله. (11) هذا المرشح العنصري ملياردير وله هيئة مستشارين، ومؤكد سوف يطرق جانب المرأة والحجاب والجهل عند المسلمين. ختاماً - الله يحفظكم ويرعاكم - وهذا هو هاتفي الشخصي للتوثق والإيضاح إن لزم.
الجواب(1/10)
قرأت خطابكم المتعلق بالانتخابات الهولندية، وأوافقكم الرأي على ضرورة مشاركة المسلمين، أما بالنسبة للمناظرة فلا شك أنها خطوة جريئة ومهمة، بشرط أن يمثل المسلمين فيها من يكون لديه الخبرة والجرأة والمعرفة وسرعة البديهة.فهذه الصفات الأربع ضرورية للتفوق في أي مناظرة، خصوصاً وأن الوقت المخصص للمناظرات غالباً ما يكون محدوداً، وقد يكون الطرف الثاني ذكياً في المناورة وسرعة الإفحام فيقع المناظر في مأزق لا يُحسد عليه، فإذا كان الأخ المرشح الوارد في سؤالكم ممن تتوفر فيه هذه الصفات فليتوكل على الله وليستحضر النية الصالحة، وليكن همه الانتصار لدين الله ولإخوانه المسلمين وليس الانتصار للنفس، وإن كان الأمر بخلاف ذلك فأرى التريث حتى تطمئنوا إلى أن نتائج المناظرة ستكون في صالحكم، وبمعنى آخر أن إيجابياتها ومصالحها أعظم من أضرارها ومفاسدها. أما بالنسبة للمعلومات حول حضارة الإسلام وعدالته وأخلاقياته ومكانة المرأة وموضوع الحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا التي تطرح عادة في مثل هذه المناظرات، فالحصول على المعلومات فيها أمر متيسر من خلال الكتب المتخصصة والمواقع الإلكترونية وغيرها.ومن المهم أن يضع المناظر المبادئ والقواعد العامة ويعطي بعض النتائج التاريخية والشرعية، ولا ينجرّ إلى الجدل حول بعض الفروع والتفصيلات التي يطرحها الخصم بل يرد عليها جملة ويختار هو ميدان الحديث المناسب. وفقكم الله.
==============
الدراسة في أمريكا
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …22/5/1422
السؤال
فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة - سلمه الله - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد أرجو التكرم بالرد على سؤالي هذا ولكم مني كل التقدير.أنا مدرس في إحدى كليات التقنية التابعة للمؤسسة العامة للتعليم الفني، وأود أن أكمل دراساتي العليا في الخارج، وقد حصلت على قبول من إحدى الجامعات الأمريكية منذ سنة ونصف تقريباً، ولكن لم يتيسر ذهابي إلى هناك بسبب الظروف المالية التي كانت تمر بها المؤسسة، وجاءت أحداث 11 سبتمبر ومرت وأنا لم أذهب بعد. الآن يا فضيلة الشيخ المؤسسة بعثت لنا خطابات باستكمال الإجراءات للذهاب إلى أمريكا بعد زوال الظروف المالية السابقة. أريد من فضيلتكم التكرم بالنصيحة لي في هذا الأمر، وهل هناك مخالفة شرعية في الذهاب إلى هناك لغرض الدراسة؟ لأن مجموعة من الإخوة يقولون: كيف تذهب إلى هناك وأمريكا تفعل بالمسلمين ما ترى؟ مَنْ لأفغانستان وفلسطين وغيرها؟ أرجو التوجيه ولكم مني كل المحبة والتقدير.
الجواب
إن ذهبتم فذهابكم هو لخدمة الإسلام والمسلمين، أو لمصلحة أهلكم وبلادكم، وليس لخدمة أمريكا، فلا بأس بذهابكم إذا لم يترتب عليه مفسدة من ضياع دين أو انحراف أو نحوه، حفظكم الله وحماكم.والعلم يطلب في مكانه ومواقعه، وإنما تغلبوا علينا بتقدمهم المادي والتقني وتخلفنا، وهذا من التفريط بديننا ؛ فإن الدين يأمرنا بفعل الأسباب وتداركها.لكن عليكم تقدير المصلحة، وهل سيترتب على ذهابكم مشكلات أو تضييق كما يحصل أحياناً للمسلمين هناك؟ وهل يوجد بديل أفضل من أمريكا يحقق الغرض أو يحقق جزءاً منه ؟ وفقكم الله ويسر أمركم.
================
الراتب الجيد أو القرب من الأهل؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …22/4/1422هـ
السؤال
كنت موظفاً في مستشفى الحرس الوطني، وقد منّ الله عليَّ والتزمت وتزوجت ورزقني الله بوظيفة ولله الحمد؛ ولكنها في دولة بنغلاديش في السفارة السعودية براتب جيد - ولله الحمد - ولكن لا أدري هل هذا عمل صحيح، أن أترك عمل المستشفى القريب من الأهل وأبتعد عنهم طلباً للرزق والدراسة؟ مع أنني أكبر إخوتي، وقد يحتاج لي أبي أو إخوتي مع أنني ذهبت بناءً على موافقتهم، وكلما أخبرتهم برغبتي بالمجيء طلبوا مني البقاء وشجعوني على ذلك، هل القرب من الأهل أفضل لي براً بأهلي وديني مع أنهم -ولله الحمد- بصحة جيدة أم أن جلوسي في هذا البلد وتأمين مستقبلي بجمع المال أفضل؟
الجواب
لا بأس ببقائك في السفارة السعودية ببنغلاديش ما دام في ذلك مصلحة لك، وأهلك موافقون عليه، وتعاهد أهلك بالاتصال والزيارة بين الفينة والفينة، ردك الله سالماً.
==============
الإقامة في بلد الكفار .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …16/6/1422
السؤال
هل يجوز لي بصفتي مسلم البقاء في بلاد الكفار، فالذي أعرفه أنه لا يجوز، ولكن يا شيخ أنا بطبيعة الحال لا أستطيع العودة إلى أرض الجزيرة ولا إلى بلدي الأصلي فعودتي هناك تعني شيئين: إما أن أكون جندياً من جنود النظام الصليبي الحاكم، أو مصير آخر أسود.
الجواب
بقاؤك في بريطانيا أمر لا حرج فيه لمن كان في مثل حالك، والاستطاعة شرط في جميع الواجبات الشرعية " فاتقوا الله ما استطعتم "الآية، [التغابن : 16]، " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " الآية، [البقرة 286]، لكن لو تيسر لك مستقبلاً الانتقال إلى بلد إسلامي تستطيع أن تعيش فيه بسلام، فاجعل هذا من نيتك.
===============(1/11)
معاناة شاب مسلم .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …5/6/1422
السؤال
لا أدري كيف أبدأ، وأنا متردد، هل أرسل هذه الرسالة أو لا؟ جزء مني يقول: إنني ضعيف، وأريد طريقاً سهلاً للخروج، ولكن الأهم هو الجزء الآخر الذي يدفعني لكتابة هذه الرسالة . إن ذلك الجزء الذي يذكرني - دائماً - أن هذه الحياة سوف تنتهي والتي نستعد فيها للحياة الأبدية - جعلنا الله في جنته مع النبيين والصالحين -.أعتقد أنك سوف تعرف عندما تنتهي من قراءة هذه الرسالة بأن كلا الطريقين صعب وقاسٍ ومليء بالتحديات والمجازفات، ولكن كل تحدٍ ومجازفة يمكن التغلب عليه من أجل الله .أتيت إلى أمريكا عام 1996، وأنا هنا منذ ذلك الوقت، وذهبت لزيارة أهلي بعض المرات، الأمور لم تكن خلال الست سنوات الماضية على أحسن ما يرام بالنسبة لي ، وحتى إن كنت مخطئاً أو ربما مصيبا،ً فعلى الأقل جزء كبير مني يعتقد ذلك ، وإن لم أكن مخطئاًً، فيقولون: لا دخان من غير نار، كنت من ( الملتزمين ) عندما كان عمري بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ، وبعد هذا بدأت أضعف، وأعتقد أن السبب الرئيسي أنني لم أجد شخصاً ما يدلني على الطريق الصحيح، وسأحاول -إن شاء الله- أن أذكر لك النقاط الرئيسية في حياتي لتكون لديك فكرة عامة عن الوضع . تزوج والدي زوجتين خلال فترة الـ6 سنوات، وفكرت في البداية أنه لم يهتم بنا وصدقت كل ذلك الشيء الذي يصب في أذهاننا من التلفاز عن الزواج باثنتين، ولقد أثبتت لي الأيام بأنه ربما كان الأمر خطأ، فإنه لا أحد يحب أي شيء آخر أكثر من نفسه إلا أطفاله، والآن لا أعتقد أن هناك خطأ بزواجه من اثنتين، ومضت الحياة، وإن كان هناك شيءٌ خطأ في هذا الزواج فهو عدم قدرته على العدل بينهما، أدعو الله أن يسامحه في هذه الدنيا وفي يوم القيامة ، آمين . أنا لا ألومه فهو لا يعرف كثيراً عن الإسلام، وإنما هو أقرب إلى العادات من الدين مع أنه يعتقد العكس ، عندما وصلت إلى أمريكا كنت في ضلال حتى رمضان الفائت ، وأنا من غزة ( فلسطين ) أصلاً، وعائلتي في الإمارات المكان الذي ولدت فيه، وفي غزة حيث هناك أمي وإحدى أخواتي الصغار من نفس الأم ، ولدي أخَوان وأخت في الإمارات من نفس الأم، ولكن والدي وزوجته وبقية أخواتي وإخواني في أمريكا حالياً، وخطته أن يبني في أمريكا ، وأنا لا أستطيع الذهاب إلى الإمارات؛ لأن تأشيرتي انتهت مع أنني ولدت وتربيت هناك، إنه لمن المحزن كيف يعامل المسلمون بعضهم في هذه الأيام، وإنما أذكر هذا لأن الانتفاضة على أشدها في فلسطين، والناس لديهم أعمال .وسؤالي هو :بقي لي هذا الصيف والفصل الدراسي القادم ( الخريف ) الذي ينتهي في 2001، ثم أتخرج -إن شاء الله- بشهادة جامعية تخصص هندسة كيميائية، والمشكلة أنه ليس لدي الرغبة في مواصلة الدراسة، مع أنني أحاول أن أقنع نفسي بأنني سوف أكون أفضل عند الحصول على الشهادة .ونفسي الضعيفة، وأولئك الذين سألتهم عن رأي سريع حول هذا الموضوع يفيدون بأنني أستطيع أن أؤثر على الآخرين بأن يسمعوا لي، كيف ؟ ربما أستطيع - بعد عون الله - أن أحولهم إلى الإسلام، أو ربما إلى مسلمين عاملين إن لم يكونوا . ولكن في داخلي أعتقد أنني أكذب على نفسي ، فأنا لست ذلك الطالب الجيد في دروسي، والامتحانات النهائية على الأبواب ( بقي شهر)، ويعلم الله أنني أستمتع بسماع الخطب، وأعلم نفسي عن الإسلام بأية طريقة أستطيع أكثر من أي شيء آخر، وأقول هذا شاكراً لله لهذه النعمة، وإنني لست نادماً على ذلك بل أنا سعيد .الموضوع أنني لا أجد الحافز للدراسة أكثر من ذلك وعلى الأقل الهندسة الكيميائية .وإذا عدت إلى غزة فلدي النية أن أدرس شريعة لأصبح مدرساً في أية مدرسة صغيرة هناك؛ لأنني أعتقد أن هذه من أفضل الطرق للدعوة ، وحتى إن لم أقم بذلك قمت بعمل صغير؛ لأنني أريد أن أكون عملياً، فأعتقد بأن الهندسة ليس لها مكان جيد في تفكيري .ويعلم الله أكثر مما أعلم، ولكن أعتقد أنني سوف أصبح أفضل عندما أكون قريباً من عائلتي، فأخي وأختي الصغيران يحتاجان لمن يدلهما لمعرفة الدين الصحيح أكثر من غير المسلمين الموجودين هنا، فهما بحاجة لشخص ما يرعاهما، وخصوصاً أن والدي ليس هناك معهما ، فأخي الأصغر عمره ثماني عشرة سنة وأمي عمرها خمسون سنة، وما زالت تعاني من سرطان الثدي.وأنا على استعداد حقيقة للتنازل عن تلك الحياة الوضيعة في هذه الدولة والعودة إلى (غزة)، ويعلم الله كيف يفكرون ، وأعني إن كنت تعتقد أنني لا أستطيع القيام بمواد الهندسة الكيميائية فأنت مخطئ؛ لأن الذهاب إلى (غزة) معناه: أن أعمل ضد رغبة والدي وأمي وبقية العائلة وغيرهم . كثير من أفراد العائلة أعني الأعمام وغيرهم سيكونون من بين الشامتين، ولكني مستعد لمقاومة كل هذا من أجل الله، فهل ما أقوم به من عمل ضد رغبة والدي عقوق ؟.أسألك؛ لأنني أثق برأيك أكثر من الآخرين الذين يحاولون أن يحطموني ، يريدونني أن أصدق بأن العودة والعمل من أجل الله العظيم، وأن هناك المئات والآلاف من الناس ممن يقومون بالدعوة ،(1/12)
لماذا أنا ؟ والمسلمون بحاجة إلى مهندسين وأطباء ومحامين .. إلخ ، فإن كانت هذه هي الحقيقة، فأنا لا أرى نفسي ذلك المنتج على الأقل في هذا التخصص؛ لأنني أعتقد أنني سأرسب هذا الفصل الدراسي إذا استمرت الأمور على ما هي عليه.لا أدري إن كنت محقاً أم لا، ولكني أشعر بأن الله لن يسامحني إلا إذا جاهدت نفسي، ولا أرى أنني أحاول بقوة كافية، وأشعر بأنني أوجدت نفسي في فخ في هذه الدنيا الفانية ولا أريد أن يجعلني هذا أضعف .ولا يهم أي خيار ترى أن أقوم به واضعاً في ذهنك أن كل واحد منهما صعب علي.1/ إذا بقيت على ما أنا عليه فإن القلق سيضعف إيماني، وسأعود إلى ما كنت عليه، وربما أضل ، -وأيضاً- لا بد أن أتعامل مع دراسة لا أشعر بميل نحوها مهما عملت .2 / إن كان لا بد أن أذهب إلى (غزة) وأحاول دراسة ما أشعر أنه أكثر كفاءة، وأنه لا بد لي من مواجهة كل شخص، ومحاولة الوقوف ضد هجماتهم، وإثبات العكس لهم مع أن هذا ليس هدفي .مع أنني أعتقد أن الخيار الثاني أصعب من الأول وعندما أفكر به بدون عواطف، فإنني أجد الميل للقيام به .أدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا جميعاً ويدلنا على ما هو خير لنا ، ومرة أخرى أذكرك رجاءً بأن تفكر بإعطائي نصيحة كما لو كنت تعطيها لابنك - وإن لم يكن لك ابنٌ في عمري -، فالرجاء وضع نفسك في موضعي، وفكر في الأمر بجدية ، ليس لدي تهجم على أحد، ولكن أجدها صعبة أن أثق بالناس، وربما هذا السبب الذي جعلني أركز على نقطة الجدية في النصيحة بالنسبة لي، فليس لدي إجابة مرضية .
الجواب
أخي الكريم: عشت مع تفاصيل قصتك ومعاناتك والتي هي نموذج لمعاناة الكثير من الشباب المسلم، وخصوصاً من أبناء هذا الشعب المسلم الصابر كان الله له.وحقاً ما ذكرته في رسالتك من الطريقة الغريبة التي تعامل فيها الشعوب الإسلامية فيما بينهم، إنه لأمر محزن أن يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى مغادرة البلد الذي ولد ونشأ فيه، لكن الرجال الأشداء خلقوا مزودين بالوسائل لمواجهة الظروف الصعبة، وأعظم هذه الوسائل الثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به، "إياك نعبد وإياك نستعين" [الفاتحة : 2] ولذلك يكثر المسلم من كلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنها من كنز تحت العرش .الذي يستمد قوته من الله لا تقف في وجهه الصعاب، فكن دائم الصلة بالله في سؤاله، ودعائه، واستغفاره، وتذكر وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس - رضي الله عنهما -: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً " أخرجه الترمذي (2516).وأتمنى عليك أن تكتب هذا الحديث في صحيفة وتجعلها أمامك ليكون دستوراً لحياتك، ومفتاحاً لشخصيتك، أعتقد -والله أعلم- أن عدم اقتناعك بالتخصص الذي تدرسه قوي وقائم، وبالتالي سيؤثر على عطائك وتحصيلك العلمي، بينما اقتناعك الكبير بالتعليم الشرعي والعمل قريباً من أمك و إخوانك في فلسطين سيكون له مردود طيب، ولذا أفضل الخيار الثاني بعد ما تكون أنهيت دراستك الحالية، وأرجو أن يكون هذا سبيلاً إلى قيامك بحقوق أهلك وإلى المساهمة في تربية النشء وإعدادهم لمواجهة المخطط اليهودي الفاجر.أما موقفك من الوالد فمما يستحق الإشادة، الكلام الطيب الذي تقوله عنه، والدعاء الصالح الذي تدعوه له -تقبل الله منك-.وأرى أن تتعامل معه بلطف وصبر وطول نفس، علماً أنه مادام لا يحتاجك فليس له أن يلزمك بغير ما تختار مما تعتقد أن فيه الخير والمصلحة لك في الدنيا والآخرة، لكن استخدم أسلوب الإقناع والتأثير الشخصي المباشر حتى تصل إلى ما تريد دون مصادمة، وللدعاء الصالح دوره في هذا.والوالد لو غضب فهو سريع الرضا، فتعاهد والديك بالبر والإحسان والتواصل والدعاء والإكرام وما استطعت من الهدايا والمساعدات، خصوصاً بعد ما يوسع الله عليك، وتنفتح أمامك أبواب الرزق "والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم" [البقرة : 261].
=============
تعليق الصلبان والتماثيل في المسجد .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …16/6/1422
السؤال(1/13)
أنا طالب في أمريكا، وأحاول أن أقوم بما أستطيع، قامت جامعتنا قبل أيام بتعليق الصليب وبعض صور الحيوانات كشعار للجامعة ، وطبعاً المسجد من ضمن ممتلكات الجامعة ، والذي حدث أن هناك بعض الأشخاص اعترضوا على هذا، والبعض الآخر وافق؛ لأنهم يقولون: إن المسجد للجامعة ولها الحق أن تضع هذا الشيء.والحقيقة أن الجامعة تستخدم المسجد أداة لجلب المسلمين، وتقول : إن لديهم حرية دينية في (أمريكا) .ومع ذلك فهم لا يسمحون لنا أن ننادي بالأذان بمكبرات الصوت ، وهم -أيضاً- لا يهتمون بالمكان، فليس هناك خدمات، حيث إن المكان الذي نصلي فيه الجمعة والصلوات الخمس قديم.وبالنسبة لأولئك الذين يوافقون الجامعة، يقولون: إذا لم يعجبكم هذا فاذهبوا، وابنوا مسجدكم .
الجواب
إذا استطعتم أن تقنعوا إدارة الجامعة برفع الصور ونحوها من المسجد فعليكم أن تتعاونوا جميعاً على ذلك ، وقد يكون من وسائل الإقناع أن تخبروهم أن شعائر دينكم تقتضي خلو المسجد من الصلبان والتماثيل ونحوها .وإذا لم تقدروا على ذلك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يقتضي هذا منكم ترك الجماعة مثلاً، إلا إن وجدتم مكاناً آخر أحسن وأفضل يخلو من مثل هذه الأشياء .
===============
المسارعة إلى الزواج .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …3/6/1422
السؤال
شاب بلغ السادسة والعشرين من العمر يسأل عن الزواج. أرسله أبوه للدراسة في بلد كفار أهله، وهو في سن الرابعة عشرة. قدر الله أن يكون من المهتدين فلم يقع لا في زنى، ولا في خمر، ولا في دخان، ولا في غيرها -والحمد لله-. مرت بضع سنين، وشعر بحاجته إلى الزواج، فاتصل بأبيه وأبلغه بنيته فزجره أبوه رغم أنه مقتدر. لعله ممن يعتقد بإكمال الدراسة أولاً ثم الوظيفة لتكوين النفس ثم الزواج، -والله أعلم-. بالطبع للآباء أمور أخرى يفكرون بها قد يبينونها أو يخفونها. -نسأل الله لنا ولهذا الأب وأمثاله ، الهدى والتقوى، والثبات،- آمين. صبر الشاب مستعيناً بالله ثم بالعلاج النبوي المعروف ألا وهو الصيام، إضافة إلى أمور أخرى مثل قراءة جزء من القرآن يومياً، والاجتهاد في بعض النشاطات الإسلامية في ذلك البلد الكافر، إلخ. حرص الشاب أيضاً على إيجاد بعض الوظائف البسيطة التي عمل بها أثناء دراسته ليبدأ بالادخار، ومرت بضع سنوات أخر، وعرض رغبته في الزواج على أبيه مرة أخرى بعد تخرجه من الجامعة، وبدئه بالعمل مباشرة. فقال له أبوه: اصبر ولا تستعجل، قال الشاب متعجباً: أنا صابر ولكن أنت لماذا تؤخرني؟ ماذا تنتظر؟ فرد الأب قائلاً:اصبر ولا تستعجل. سمع الشاب وقرأ بعض الفتاوى لبعض الشيوخ، وسأل فكانت الفتوى مشابهة، وهي: لماذا تنتظر أباك؟ الفتاة هي التي تحتاج إذن وليها وليس الشاب. أبوك آثم بتأخيرك، وأنت بإمكانك أن تخطب لنفسك وتتزوج ولا يطالبك الإسلام بموافقة أهلك أو مرافقتهم لك لتطلب فتاة للزواج. لا تصعب على نفسك الخوض في الفتن، وعليك أن تبادر بالزواج فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.قال الشاب: لا أريد أن يكون هذا سبباً في إيجاد حساسيات ومشاكل بيني وبين أبي، ثم بينه وبين زوجتي وأهلها، أريد أيضاً أن أثبت لأبي أنني أطيعه، إذ إنه -دائماً- يعتقد أنني لا أطيعه، ولست أدري لماذا؟ ما هي نصيحتكم لهذا الشاب، -بارك الله فيكم-، علماً أنه مقتدر مالياً؟ وحتى وإن لم يكن فالله - تعالى- يقول: "...إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" بعد ذكر صلاحهم. والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ذكر (في معنى الحديث) من الثلاثة الذين هم حق على الله عونهم: متزوج يطلب العفة، أو كما جاء في الحديث أرجو الاستعجال والتفصيل في الجواب قدر الاستطاعة، فقد نعرض السؤال وجوابه على الأب -إن شاء الله-.
الجواب(1/14)
أعتقد أن السادسة والعشرين من العمر ، مع توفر الإمكانيات المادية ، والرغبة الشخصية ، كافية للسعي الجاد في أمر الزواج .والسكن النفسي والطمأنينة والأنس بسبب الزواج، هو من أسرار النجاح في الدراسة والعمل والحياة . ورحمة الوالد وشفقته وحرصه على ولده مما لا يحتاج إلى امتحان أو تجريب . ودون شك ، فإن وراء تمنّع الوالد هذه الفترة الطويلة رأياً وظنّاً ، وربما اعتقد الوالد أن ابنه يحتاج إلى نضج أكثر ليتحمل مسؤوليات الزواج .لكن للأمانة فهذا لا يسوّغ التمنع والإصرار على التأجيل، بل الواجب على الأب أن يلح على أولاده في تتميم شطر دينهم، وإعفاف أنفسهم بالنكاح الشرعي، خاصة في هذا الزمن الذي تتبرج فيه الفتنة ، وتتراقص فيه الشهوة على أفواه الطرق ، وفي البيوت ، وفي المدارس ، وفي كل صعيد .وأي عذر في هذا، فهو بحاجة إلى مراجعة وتصحيح .فالله -تعالى- يقول : "وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" الآية، [النور : 32]، فالزواج سبب للغنى ، والإحساس بالمسؤولية ، ووسيلة إلى استكمال النضج العقلي والنفسي والاجتماعي ، ومَدْرج إلى النجاح في العمل والوظيفة . واحتمالات الفشل واردة ، لكنها لا تحول بين التاجر والدخول في مشاريعه ، ولا بين الطبيب وممارسة مهنته ، ولا بين الطالب ودراسته ، فالحياة كلها مبناها على المخاطرة ، ومع اتخاذ الأسباب والحرص والحذر .والاختلاف على هذه الفتاة أو تلك يُحتكم فيه إلى رغبة الابن في النهاية؛ لأنه هو الذي سيعيش شرها وليس غيره، فيمكن أن تبين له مزايا هذه وتلك وخصائصها ومآخذها، ويترك له الاختيار، ولا يمكن أن تكتمل شخصية الشاب وتقوى إلا بتحمله المسؤولية واشتراكه في القرار ، خاصة في قرار كهذا يخصه أولاً وأخيراً . أوجه كلمة أخوية إلى الأب الكريم الحاني المشفق ألا يتردد ولا يؤجل ، فالأمر لا يحتمل التأجيل ، وفورة الشهوة ونداء الفطرة إلى الجنس الآخر قد تصبح طوفاناً يدمر كل شيء، فلا يجوز شرعاً التأجيل والتأخير ، بل يجب المسارعة وتذليل العقبات .وفقك الله لكل خير.
==============
حكم الالتزام بأنظمة الدول الكافرة للمسلم المقيم فيها
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ …16/6/1422
السؤال
نحن مسلمون مقيمون في بلاد الغرب، ما حكم الالتزام بالأنظمة العامة التي تحكم تلك الدول التي نقيم فيها بقصد العمل، أو الدراسة، أو اللجوء، أو غير ذلك؟ وما حكم أموال هؤلاء القوم ودمائهم ؟
الجواب
يجب على المسلم إذا احتاج إلى الهجرة ، أو البحث عن مأوى، أن يختار أقل البلاد شراً، وأكثرها أماناً على نفسه ودينه وأهله وماله، ولقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة من مكة إلى الحبشة؛ لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد .والحديث رواه أحمد (1740) وغيره عن أم سلمة - رضي الله عنها -، وإسناده جيد .
فاختار لهم الحبشة على غيرها؛ لأن النظام الذي يحكمها كان نظاماً عادلاً، يأمن فيه المسلمون على أنفسهم، وإن لم يكن نظاماً شرعياً بطبيعة الحال، وحتى النجاشي نفسه لم يكن أسلم يومئذ، لكن أسلم بعد ذلك، وقصة إسلامه وموته، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه صلاة الغائب، ثابتة في الصحيحين عند البخاري (1245)، ومسلم (951).وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
فإذا دخل المسلم تلك البلاد لم يخل دخوله من أن يكون بأحد طريقين :
إما بأوراق صحيحة، وأسماء حقيقية بتأشيرة دخول ونحوها .
وإما أن يكون بأوراق مزورة أو أسماء غير حقيقية، وسواء دخل بهذا أو ذاك، فهو قد دخل بعقد والتزام، وعهد وميثاق، وحينئذ يلزمه ما التزم به، ويجب عليه الوفاء بالعهد والعقد.
كما قال الله - تعالى -:" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " الآية، [المائدة : 1]، وقال - سبحانه -: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " [الإسراء :34]، وقال: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " الآية، [النحل : 91] .
وليس له أن يغدر وينقض العهد، فإنه ليس من صفات المسلم قال - تعالى -: " أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم " الآية، [البقرة : 100].
وفي الصحيحين في صفات المنافقين :" وإذا عاهد غدر وإذا أؤتمن خان " أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث ابن عمرو - رضي الله عنهما - وقد نص بعض الفقهاء المتقدمين: على أن الدخول إلى بلاد الكفار ولو كان بأوراق مزورة فإنه لا يعفي صاحبه من الوفاء بما التزم به، وما ظهر لهم من الاستئمان من قبله .(1/15)
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - في (السير 2/66) :" ولو أن رهطاً من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب، فقالوا : نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتاباً يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعة منهم للمشركين، فقالوا لهم: ادخلوا فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب، ولا أخذ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم، فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم، فيجعل ما أظهروه بمنزلة الاستئمان منهم، ولو استأمنوا فآمنوهم وجب عليهم أن يفوا لهم . فكذلك إذا أظهروا الاستئمان " .إذا تقرر هذا فإنه يلزم منه ما يلي :
1-أن يلتزم المسلم بأنظمة البلد الذي دخل إليه، فإن ذلك مقتضى تأشيرة الدخول ، ولكن عليه أن يتجنب من تلك الأنظمة ما يخالف الشريعة الإسلامية ، بل لا يجوز له أن يعمل بشيء من ذلك إلا بقدر ما تبيحه الضرورة .
وينبغي للمسلم أن يتحمل - ما دام قد رضي بدخول هذا البلد بهذا العقد معهم - ما يترتب عليه من الالتزام بأنظمتهم وفق الضابط المتقدم، وإن كان في ذلك شيء من التبعة والكلفة ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة وأبيه - رضي الله عنهما - لما عاهدا المشركين ألا يقاتلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: " انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم " أخرجه مسلم (1787) .
وفي قصة أبي بصير - رضي الله عنه - في قضية الحديبية، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا بصير إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت ، وإنا لا نغدر ، فالحق بقومك "، فقال : أتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني ويعذبوني ؟ فقال: " اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً " أخرجه البخاري (2731)، وانظر (الفتح 5/411).
2- ليس للمسلم في هذه الحال أن يتعدى على الناس في دم أو مال أو عرض، وذلك لما يلي :
أ- أن هذا من أساسيات العهد الذي أشرنا إليه، إذ هو لم يدخل إليهم إلا بعد أن أمنوه، واستوثقوا من عدم اعتدائه، فلا يجوز له الخيانة والغدر . وفي البخاري (2731) أن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - كان صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الإسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه" .
قال ابن حجر في (الفتح 5/402) :" ويستفاد منه - أي من الحديث - أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة " .
أ . هوقال الشافعي - رحمه الله - في (الأم 4/284) :" وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان .. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئا قل أو كثر ؛ لأنه إذا كان منهم في أمان، فهم منه في مثله ، ولأنه لا يحل له في أمانهم إلا ما يحل له من أموال المسلمين وأهل الذمة ". وقال السرخسي في (المبسوط 10/96) :" أكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم؛ لأن الغدر حرام، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لكل غادر لواء يركز عند باب استه يوم القيامة يعرف به غدرته " انظر ما رواه البخاري (3187)، ومسلم (1737 - 1738)، فإن غدر بهم، وأخذ أموالهم، وأخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك؛ لأنه حصله بكسب خبيث "، وقال ابن قدامة في (المغني 9/237) : مسألة من دخل إلى أرض العدو بأمان ، لم يخنهم ولم يعاملهم بالربا .
أما تحريم الربا في دار الحرب ، فقد ذكرناه في الربا مع أن قول الله - تعالى -: " وحرم الربا " [البقرة : 275] وسائر الآيات والأخبار الدالة على تحريم الربا عامة ، تتناول في كل زمان ومكان .
وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ، فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم؛ لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون علىشروطهم " أخرجه أبو داود (3594)، والترمذي (2731) فإن خانهم، أو سرق منهم ، أو اقترض شيئاً وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه ، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان ، أو إيمان رده عليهم ، وإلا بعث به إليهم؛ لأنه أخذه على وجه حرم عليه أخذه ، فلزمه رد ما أخذ ، كما لو أخذه من مال مسلم .
ب.هجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن، وكانوا أهل كتاب، وأوصاه بدعوتهم، ثم قال:" واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19)، فلا يجوز الظلم بحال ولو كان للكفار .
جـ . أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقي في مكة ثلاث عشرة سنة، ومعه المسلمون، فلم يأذن لأحد منهم في نهب مال ، أو سفك دم، أوهتك عرض، ثم هاجر - صلى الله عليه وسلم -، وبقي مسلمون مستضعفون، أو مستخفون بمكة، فلم يأذن لأحد منهم بذلك .(1/16)
ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - قط، ولا عن أحد من أصحابه - رضي الله عنهم - أنهم أجازوا لأحد أن يأخذ مال غيره على سبيل السرقة؛ لأن السرقة خسة ونذالة ، ودناءة نفس، ورداءة خلق ، ومن اعتاد عليها صارت جبلة له وطبعاً لا يستطيع الخلاص منه.
د - أن حفظ سمعة الإسلام وسمعة المسلم فضلاً عن الداعية وذي الصلاح، مما تجب العناية به، ولا يجوز بحال أن يدنس المسلم سمعته وسمعة دينه من أجل حفنة من المال، أو شيء مما قد تدعو له النفس، وقد قال الله - تعالى - حاكياً عن المؤمنين : " ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " [يونس : 85-86]، فهذا الذي ينبغي للمسلم هناك أن يكون داعياً الله أن يخلصه من أذى الكفار وفتنتهم، وألا يكون فتنة لهم في الصد عن دين الله بمثل هذه الممارسات .
فكيف بالله عليك ، وأنت داعية ، تدعو رجلاً إلى الإسلام، وتبين له محاسنه وأخلاقه ، ويدك تمتد خفية إلى جيبه، أو بنته؟ من يقول هذا؟ أي عقل هذا؟ أم أي خلق هذا؟ أم أي فقه هذا؟ ولا تسل عن الإعلام الكافر حين يظفر بمثل هذه التهم ليلصقها بالإسلام وأهله.هـ - إن من الفرج الذي يسوقه الله للمضطرين: أن توجد بلاد تمنح الوافدين إليها حرية الإقامة والعمل ، وتعطيهم التسهيلات التي لا يجدونها في غيرها من البلاد .ومثل هذه الفرص الموجودة في بلاد الغرب ، أو في بعضها ، لن تستمر إذا بدأ المسلمون المقيمون فيها يمارسون بعض الأعمال التي تخيف أهل البلاد، وتصور المسلمين على أنهم لا يعبؤون بنظام، ولا يقيمون وزناً لشيء، ولا يفون بعهد، ولا يلتزمون بوعد، ولا يرعون حرمة .
و - أن المسلم بهذا العمل يعرض نفسه وأهله وذويه للخطر من سجن، أو طرد، أو إيذاء، وهو في غنى عن كل ذلك، وليس للمسلم أن يذل نفسه، ولا يجوز أن يعرض من تحت يده للفتن حين يلقي بنفسه بأسباب تؤدي به إلى السجن والانقطاع عنهم .
ز- أن استحلال الأموال يجر إلى ما هو أبعد من ذلك من استحلال الفروج، وهذا من أفحش الزلات، وأقبح الممارسات حين تتحول تلك الشبه إلى سعار شهوة لا تنطفئ، ومثلها استحلال الدماء الذي سيختل به وضع المسلمين في تلك البلاد بعامة، ويمنع كثيراً من وسائل الخير .
ح - أن هذا العمل أقل أحواله أن يكون شبهة، ويجب على المسلم النأي عنها والحذر منها، وفي الصحيحين " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)، وفي الحديث " الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " أخرجه مسلم (2553)، ولا شك أن من يمارس مثل هذا العمل متردد فيه كاره اطلاع الناس عليه .
وأنا لا أراه شبهة، بل أراه من الحرام المحض الصريح الذي لا يجرئ عليه إلا الشهوة والهوى، وطلب الأخف والأسهل، أو ظروف المعيشة، ولم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها، ومن المعلوم أن ما كان أصله مباحاً إذا ترتب عليه بعض ما ذكرنا من المفاسد حرم، فكيف إذا اجتمعت ؟! ثم كيف إذا كان أصله محرماً - كما تقدم - في الأدلة وكلام الفقهاء - رحمهم الله -؟! وبعد .. فهذه بعض براهين المسألة، وتلك طائفة من مفاسد الإقدام على مثل هذا العمل، لو تأملها العاقل فضلاً عن المسلم لعلم أنها لا تجوز.نسأل الله أن يهدينا وجميع المسلمين إلى الصواب والسداد في القول والعمل... والله - تعالى - أعلم
==============
زوجها مدمن خمر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …3/6/1422
السؤال
هذه قضية طالما شغلتني، وهي مشكلة أخت تعيش في بلاد الكفر( إيطاليا) منذ إحدى وأربعين سنة تزوجت من أحد أقاربي في بلادي، ثم سافرت معه إلى تلك البلاد، وزوجي رجل يشتغل بمطعم لأحد الإيطاليين، مع العلم أن زوجي مدمن على الخمر، وفرض علي العمل في ذلك المطعم لمدة طويلة. كم كنت أعاني من هذا العمل ومن معاملة زوجي يسهر في الليل ويأتي في حالة سكر، وكلما حاولت نصحه أعرض، وشتمني وتوصل حتى إلى ضربي مستغلاً بعدي عن أهلي، وأن لي معه ابنين، ولكن زادت حالته، وأصبح يتهمني بأسوأ الأعمال حتى البغاء مع (إيطاليين)، وقد حاولت أن أقنعه بأني بريئة، و لكن دون جدوى، علماً أني ارتديت الحجاب، وأصبحت أحافظ على الفرائض، ومللت العيش معه، خاصة بعد أن دعوته إلى ترك الخمر، وإقامة الصلاة، ولكن دون جدوى، فما الحكم، وما هي نصيحتكم لي ؟
الجواب
أسأل الله أن يجمل صبر هذه الأخت على ما تواجهه وتعانيه، فإنها تعيش غربة في دينها، وغربة في وطنها، وغربة في أهلها، والسند الذي يمكن أن يعضدها ويعينها بعد الله هو زوجها، وهي تعاني منه ما تعاني، وإلى الله المشتكى.ونوصي الأخت: بالصبر، فإنه وصفة لكل داء، وعلاج لكل شكوى، وحل لكل معاناة " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" [يوسف : 90].فعليها ألاّ تفقد ثقتها بربها، وألاّ تيأس من روحه، وانتظار الفرج عبادة.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج(1/17)
فإن كانت الأخت لا تزال تجد بصيص أمل في هداية زوجها وإصلاحه، فلتواصل الطريق ولتدع له في سجودها، وقيامها، وقعودها، حرصاً على التئام شمل الأسرة، وإصلاح حالها، وحفظ أطفالها، وإلا فعليها أن تسعى في الفكاك منه بما تستطيع، ولو أن تفتدي نفسها منه، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
=============
ما المقصود بدار الكفر ودار الإسلام ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …2/6/1422
السؤال
أريد منك يا شيخنا العزيز، أن توجه لي نصيحةً في بلاد الكفر هذه، حيث إن هناك مشكلة كبيرة، وهي أنني شاب لم أتزوج بعد، وهنا كما تعلم كل شي مباح ومتوفر، و لقد حاولت في الماضي عند خروجي من بلدي أن أستقر في أي بلد إسلامي أو عربي، ولكنك تعرف الأسباب التي دفعتني إلى الذهاب إلى هذه البلاد، وسؤالي هو: ما دار الكفر ودار الإسلام؟
الجواب
كان الله في عونكم ، وأخذ بأيديكم إلى ما يحب ويرضى ، أنتم فعلاً في كربة عسى الله أن يكشفها بفضله، دار الكفر هي التي يغلب عليها الكفر ، على مواطنيها وحكومتها ونظمها، ودار الإسلام هي التي يغلب عليها الإسلام، والشيء لما غلب عليه .وقد تكون الدار - أحياناً - مختلطة فيها الكفر والإسلام والنفاق ، كما يكون الشخص الواحد أحياناً حاوياً على بعض خصال الإيمان، وبعض خصال الكفر ، وبعض خصال النفاق، وهذه ألفاظ اصطلاحية يتفاوت فهمها من حين لآخر .
===============
قصر الصلاة للمقيم في بلاد الكفر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …2/6/1422
السؤال
سافرت من الجزائر إلى بريطانيا طلباً للرزق؛ لأن ظروفي المعيشية في بلدي أجبرتني على الهجرة، عندما قدمت إلى بريطانيا كنت أتمّ الصلاة عملاً بقول الفقهاء على أنه من نوى الإقامة فوق أربعة أيام يُتم الصلاة، وأنا على هذه الحال مدة ستة أشهر، وعندما سمعت شريطاً للشيخ محمد صالح العثيمين - رحمه الله تعالى -بعنوان: القصر والجمع في السفر، ذكر أنه لا دليل عند الفقهاء بتحديد مدة القصر بأربعة أيام، أو عشرين يوماً إنما العبرة بالنية، فأنا نيَتي هي السفر والرجوع إلى بلدي متى انقضت حاجتي، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أقصر الصلاة، ولكن بعض الإخوة اعترض عليَّ بأنه ما دُمتُ أدفع أجرة البيت فأنا مقيم، ولكني ذكرت لهم أن نيتي بالسفر والرجوع إلى بلدي أقرب من الإقامة في هذا البلد.سؤالي: هو أيُّنا على الصوا ب؟ أجيبونا أثابكم الله، وجعلكم ثابتين على الحق، ناصرين لدينه ولسنة نَبيه، وجمعنا بكم في دار كرامته ومستقر رحمته، آمين.
الجواب
مسألة السفر والإقامة من الألفاظ التي اضطربت فيها أقوال العلماء ما بين موسع ومضيق.فمن قائل بأن أقصى مدة السفر ثلاثة أيام، أو أربعة، أو سبعة، أو عشرة، أو خمسة عشر،أو سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو عشرين.إلى قائل بأن المدة لا تتحدد بوقت معلوم،بل العبرة بحال الإنسان في كونه مسافراً أو مقيماً.وميزة القائلين بالتحديد- أياً كان مقداره، وهم الجمهور، أن مذهبهم أضبط وأدق وأبعد عن اللبس.بينما الآخرون أقوى حجة، ولكن يعتري القول بعض الاضطراب بسبب الاختلاف في العرف، حتى إن منهم من يعتبر الطلبة المغتربين والسفراء والعمال الذين يقيمون سنين طويلة مسافرين.والذي أختاره في الجملة أن مرجع المسألة إلى العرف؛ لأن الأسماء المطلقة في الشريعة مرجعها إلى العرف.فإذا كانت أحوال الإنسان غالباً على السفر والتوقيت، لا على الإقامة الحاسمة اللازمة الطويلة، فهو مسافر يقصر أبداً ما لم يصلّ مع الجماعة، وله الفطر في رمضان، على خلاف وتفصيل فيما هو الأفضل من ذلك.وعليه فالأولى في حق الذين يمكثون سنين معلومة متصلة أن يكونوا مقيمين لا مسافرين؛ لأن أحدهم يدرس ، ويعمل، وأولاده يدرسون، وهو مستأجر منزلاً لسنة أو سنوات، وشبهه بالمقيم أولى وأكثر من شبهه بالمسافر.لكن من كان متنقلاً غير مستقر، إما لأنه لم يتحدد له وقت معلوم، أو لم يلتزم بعمل طويل، ونيته الرجوع، أو الانتقال إلى بلد آخر، وأموره على التوقيت فهو أحق بوصف المسافر، وينبغي أن يعرف أن هذه من مسائل الاجتهاد التي لا يثرِّب فيها أحد على أحد، ولا توجب بغضاً ولا هجرا ً ولا قطيعة، ولا ينبغي أن تحدث في نفوس الإخوة شيئاً، بل هي من الخلاف الذي اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يكون في الأمة ، ولو شاء الله لحسمه في كتابه، أو على لسان رسوله، أو بإجماع أهل دينه، لكن شاء لحكمة يعلمها أن يختلف الناس فيها، وهم بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر واحد، ولم يعهد عن أهل العلم فيها تهاجر ولا تدابر ولا بغضاء، وإنما جدال بالتي هي أحسن وحوار علمي موضوعي رصين، وسؤال لأهل العلم مع استيضاحهم عن أدلتهم، وإذا ترجح للمرء شيء من ذلك من غير هوى ولا عصبية فإنه يعمل به دون حرج ولو خالف غيره، فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأصلحوا ذات بينكم ، والله يتولاكم.
================
التعامل مع الكفار .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …20/1/1421
السؤال(1/18)
مشكلتي أني أعيش في أمريكا بين غير المسلمين، ومنذ أن تبت إلى الله -تعالى- وأنا لا أعرف الحد الفاصل بين معاملتهم حسب قوله -تعالى-:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " الآية. وبين الأحاديث الدالة على إبداء الغلظة والشدة معهم، وآيات تحريم موالاتهم. مثلاً: هل يجوز أن أبدأهم بالتحية، أو أن أبتسم لهم، أو أن أقول في نهاية الكلام: (سير) يعني: يا سيدي، بقصد اللطف لا التوقير، أو التعظيم، أرجو الإفادة؟
الجواب
التعامل معهم يكون بالحسنى واللين وطيب الخلق، ويحسن أن يستحضر نية دعوتهم إلى الإسلام، وتحبيبهم فيه، وهذا ما تدل عليه آية الممتحنة المذكورة في السؤال " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين .."الآية[8].ولا يضر أن يبتسم لهم الإنسان أو يحييهم, لكن لا يبدؤهم بتحية ( السلام عليكم), وإنما بتحية أخرى, ولو سلموا رد عليهم.وهذا شيء غير موالاتهم, التي تعني محبتهم، ومحبة ما هم عليه، و التعاطف معهم، والرغبة في علوهم ورفعتهم.
===============
هل نشارك هؤلاء في أعمال الدعوة؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …16/6/1422
السؤال
نعيش هنا في بلاد الغرب، ونسمع دائماً من الإخوة هنا دعوتنا للعمل الدعوي بمختلف مجالاته, ويعيبون علينا عدم مشاركتهم في هذه الأعمال, و الدافع لنا في عدم الاشتراك معهم هو وقوعهم في بعض المخالفات الشرعية، منها على سبيل المثال: التساهل في قضية الاختلاط بين الرجال و النساء, والقيام ببعض الأمور التي نحسبها من البدع، كقيام الليل الجماعي في أيام محددة سلفاً من الشهر، وغير ذلك. و سؤالي -حفظك الله-: هل نشاركهم في أعمال الدعوة والحال كذلك؟ و ماذا يكون الرد إذا عيرونا بالقعود؟ مع العلم أننا نتوق للعمل للإسلام و لا ندري إن كانت هذه الأحوال صالحة للعمل، وهل نأثم إذا أجبنا بعض دعواتهم التي تتضمن بعض المخالفات الشرعية, ؟
الجواب
قيام الليل بصفة جماعية إذا كان لتنشيط النفس وحملها على الصلاة ، من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليلة لم يرد في الشرع تفضيلها .. فلا بأس به ، ولا يعد من البدع .ولا نرى ترك العمل بحجة هذا ، أو وجود نوع من الاختلاط ، فلا شيء يكاد يخلو اليوم من نقص .لكن تشاركون ، وتنصحون ، وتغضون أبصاركم ، وتسددون ، وتقاربون .
=============
قضاء الدين من الربا
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
رجل مسلم له مشاكل مع البنك،وديونه تزداد مع الوقت لعدم قدرته على السداد، وقد يؤدي به هذا إلى إخراجه وأهله من بيته، فهل يجوز لأخ له في الله أن يؤدي عنه دينه بأموال الربا؟وهل يجوز أن يؤدي الرجل ما عليه من ضرائب؟ علماً أن نظام فرنسا قاسٍ في هذا المجال، وكذلك الغرامات المالية.
الجواب
يجوز لأي أخ أن يسدد المال الذي على أخيه للبنك من الفوائد التي قبضها بقصد التخلص منها، وبالنسبة للضرائب فأنتم ملزمون بأدائها، وما دمتم مقيمين في هذه البلاد على سبيل الضرورة أو الحاجة الشديدة، فكل ما يترتب على هذه الإقامة من آثار لا خيار لكم فيها، فأنتم معذورون بذلك شرعاً - إن شاء الله -.
===============
أخذ الأجرة مقابل الإعفاء من الضريبة
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/7/1421
السؤال
شخص يعمل سائق سيارة أجرة، ويقوم بإيصال المسافرين من منطقة حدودية إلى الجمارك، وأجرة هذه المسافة "دينار ونصف"، وهناك جهات أمنية تفرض ضريبة على المسافرين قدرها ثمانية دنانير عند مغادرة البلاد أو دخولها، ولمعرفة سائق السيارة بموظف الجمرك، يقوم الموظف بإعفاء المسافر من هذه الضريبة، شريطة أن يأخذ صاحب السيارة خمسة دنانير بما في ذلك أجرة السيارة، ويتم ذلك برضا المسافر، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
بالنسبة للسؤال المتعلق بصاحب سيارة الأجرة، فإن للمسافر دفع مبلغ له؛ لأن فيه تخفيفاً عنهم، ولا إثم عليه في ذلك.أما صاحب السيارة الذي يقوم بنقلهم، فأرى أنه ليس له إلا أجرة سيارته، إلا إن كان يخسر شيئاً بسبب ما يقوم به من أجلهم، فيأخذ عوضه منهم، وعليه أن يحتسب الأجر والثواب في وضع الضريبة عن إخوانه المسلمين.
==============
كيف نتعامل مع الفرق الأخرى؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/7/1421
السؤال
هناك بعض الإخوة يريدون الهجرة إلى بعض الدول الإسلامية، هل اليمن بلد يليق به لحفظ عقيدته وتعلم دينه؟ وما نصيحتك لنا؟ وبماذا توصينا في منهج الدعوة؟ وكيف نتعامل مع الفرق الأخرى؟
الجواب
أما الهجرة إلى بلد إسلامي إذا قدرتم فاحرصوا عليه، ولا تترددوا عنه، وإن كانت ظروف البلاد الإسلامية معروفة لديكم. أنصح الإخوة بالصبر والإخلاص والاجتهاد وحسن التعامل مع إخوانهم ومع مخالفيهم، والمجادلة بالحسنى والبعد عن السب والشتم والتكفير والتبديع والتفسيق والحرص على هداية الآخرين والحرص على معرفة الحق واتباعه وتعاهد القلب بالمراقبة والإصلاح
===============
هل يجوز حلق اللحية في هذه الحال؟(1/19)
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
لقد مَنَّ الله_ تعالى_ عليَّ بنعم كثيرة ومواهب عديدة، لا أستطيع عدها ، ولا حصرها، وأرى من الواجب عليَّ تسخيرها في خدمة الإسلام ، والإسلام بحاجة إلى علماء يخوضون كافة مجالات العلم، الشرعية منها والدنيوية ، وأجد من نفسي أني أميل إلى دراسة العلوم الدنيوية، وبالذات دراسة هندسة الحاسب ، وهذا ما سيفرض عليَّ السفر إلى بلدي لدراسة هذا المجال، واستغلال المواهب والطاقات، ولكن الواقع هناك سيفرض عليَّ تقديم بعض التنازلات، من أولها حلق اللحية مثلاً ، لكنني في الوقت نفسه سأتمكن من الدراسة ، وكذلك الصلاة في المسجد مثلاً ، فما رأي فضيلتكم؟ وماذا تشيرون علي؟
الجواب
وفقك الله لاستغلال مواهبك في خدمة دينه وإقامة شريعته .أما حلق اللحية فهو محرم، ولا أرى وجهاً لتسويغه ؛ لأنه ليس هناك ضرورة، أما صلاة الجماعة فحينما تكون مسافراً ، فإن وجدت جماعة من المسلمين فصلِّ معهم، وإلا فصلِّ وحدك.
================
من مكث مدة طويلة خارج بلده هل يقصر الصلاة؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
هناك بعض الشباب منذ مدة طويلة تفوق أربع سنوات، وهم يقصرون الصلاة، وحجتهم: أنهم في ديار كفر، ولا تجوز الإقامة فيها، ولهم نية الخروج، السؤال المطروح: هل يبقى المرء يقصر الصلاة، وإن طالت به المدة حتى يتسنى له الخروج؟
الجواب
إذا كان نوى الإقامة فعليه الإتمام؛ لأنه لا يعد مسافراً، أما إذا كان مزمعاً على السفر وإقامته مؤقتة بحد، أو وقت، أو ظرف، متى زال سافر فإنه يقصر، وقد مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يوماً يقصر بمكة .أخرجه البخاري (4298) .
=================
حكم الهجرة إلى بلاد الكفار مخافة الضرر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
هل يجوز لرجل مطلوب في الخدمة العسكرية في دولته، ومقيم في دولة أخرى بعد أن أمضى أربع سنوات بعيداً عن بلده، أن يسعى في هجرة إلى كندا، علماً أنه غير مطلوب سياسياً، ولم يفكر بذلك قبل الدعوة إلى الخدمة العسكرية، وهو لا يطيق ما يترتب على التجنيد في ذلك البلد الذي ابتلي بذلك؟
الجواب
نعم أخي يجوز لك الذهاب إلى كندا، والإقامة هناك، في وسط إخوانك المسلمين الذين وجدوا فيها ما فقدوه في بلادهم الإسلامية، وسيجعل الله بعد عسر يسراً، ولم يضيق الله عليك، "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة"الآية،[النساء : 100].
===============
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
نود أن نسأل فضيلة الشيخ عن الحكم الشرعي للهجرة إلى بلاد الكفر للاستقرار بها؟
الجواب
أخي: إذا وجدت بلداً إسلامياً تقيم فيه آمناً على نفسك وأهلك ودينك، وتجد فيه فرص العيش الكريم فهذا هو الأصل.فإن لم تجد، ووجدت بلداً كافراً يؤويك، ويؤمنك على حقوقك الدنيوية، ويسمح لك بممارسة شعائر دينك، جاز لك الانتقال إليه، حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجا. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أصحابه بالهجرة من مكة المكرمة إلى الحبشة، وقد كانت دار كفر، وأهلها كفار، ويحكمون بغير الشريعة.
===============
هل تجوز لنا الإقامة في أستراليا؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال(1/20)
بسم الله، ومنه التوفيق: قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم "؛ أو قال:" أنا بريء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين"رواهما أبو داود.شيخي الفاضل: أنا مسلم من أهل السنة والجماعة من بلاد الشام، وبالتحديد من أولى القبلتين، وثاني الحرمين مسرى رسولنا الكريم (فلسطين)، من مواليد الكويت؛ غادرنا الكويت بعد أحداث الغزو العراقي للكويت؛ ذهبنا إلى الأردن، حيث لا يوجد لنا مأوى ولا بيت، وبالطبع لا عمل، وأملاكنا من أراض زراعية وبيوت هي داخل فلسطين ولازالت موجودة ومسجلة باسم والدي، ونصفها سيطر عليها وأخذها عنوة أعداء الله اليهود، وكنا نحرص على زيارة أهالينا هناك وأراضينا عندما كنا نقيم في الكويت، كنا ندخل فلسطين كزيارة فقط، وليس كمواطنة ولا زلنا، مع أننا من الضفة الغربية، وهي تحت سيطرة المتنصر عرفات - عليه من الله ما يستحق -.وكما هو الواقع يا شيخنا لا حياة لنا في الأردن، حيث المعيشة الصعبة التي لا تلبي طموح أبناءنا من تعليم ومن مسكن إلا بالإيجار، وإن اشتغلنا هناك بالكاد يكفي قوتنا اليومي، مما يؤدي لعدم التفرغ لتعليم أبنائنا تعاليم ديننا الحنيف كما ينبغي من منهج، ولكن كما تبتغي الدولة حصة بالأسبوع مثلاً.هاجرنا لأستراليا، ولكن النية هي تحسين الأوضاع بأسرع وقت ممكن، حتى نتمكن من توفير حياة غير مزعجة آمنة مطمئنة في بلادنا، مثلاً في الأردن، أو في داخل فلسطين إن استطعنا، هذا إن استطعنا!فهل الحديث الذي ذكره رسولنا الكريم أعلاه ينطبق على من مثلنا كفلسطينيين يعيشون في الشتات، لا تقبلهم دولة عربية إلا بإقامة مؤقتة، أو إقامة عمل وما شابه ذلك من التعجيزات التي لا تخفى على أحد؟ علماً أن بلادنا كما هو معروف محتلة من قبل اليهود، وأصبحنا نعاني من احتلال ثانٍ، وهم: النصارى أو العلمانيون - نسأل الله - عز وجل - أن يحررها من العلمانية المتنصرة - حتى يتسنى لنا مجاهدة اليهود .
الجواب
من ناحية الإقامة في أستراليا فلا حرج عليكم بالنظر إلى ظروفكم الخاصة وظروف بلدكم المحتل، فك الله أسره، وبالنظر إلى الظروف الدولية العامة والتي تغيرت كثيراً عن السابق، لكن عليكم التواصل مع إخوانكم المسلمين والتعاون معهم على الخير، والحرص على صلاة الجماعة، وعلى إقامة المشاريع الإسلامية النافعة.
=================
اتباع القوانين في بلاد الكفر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
هل يجوز اتباع القوانين الوضعية في الدول التي تحكم بغير ما أنزل الله بالأمور المباحة، كاستصدار رخصة قيادة، أو جواز سفر مع الدليل؟
الجواب
يجوز للمسلم اتباع الإجراءات النظامية العادية لاستصدار رخصة قيادة، أو جواز سفر، أو إقامة، أو نحوها في البلاد الكافرة؛ لأن هذا من الأمور المباحة التي تمس الحاجة إليه (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الآية، [الحج : 78] والحمد لله رب العالمين.
=============
حكم الإقامة في بلاد الكفر
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يعيش في بلاد الكفر؟ وهل بلاد العرب تعتبر بلاد دار إسلام؟
الجواب
يجوز للمسلم الإقامة في ديار الكفر التي يغلب عليها الكفار إذا أمن على دينه، وأظهر شعائره، وبلاد العرب والمسلمين عامة، هي: بلاد مسلمين يغلب على شعوبها وأهلها اسم الإسلام، وإن كان فيها اليهود والنصارى والمرتدون، وإن كان كثير منها يحكم بغير شريعة الإسلام، أو بحكم مختلط ملفق من هذا وذاك، وفقك الله.
============
حكم صلاة الجمعة في بلد نصراني لا تقام فيه الصلاة
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ …1/8/1421
السؤال
هاجرت من بلدي الإسلامي إلى بلد نصراني كافر، وأعيش في مدينة صغيرة ما صليت صلاة الجمعة إلا مرات قليلة خلال سنة كاملة، ولا أستطيع الذهاب للجمعة بسبب: المادة والمدرسة، والعمل، فهل علي من حرج؟
الجواب(1/21)
ليس عليك من حرج ما دام أن البلد الذي تقيم فيه بحكم العمل لا تقام فيه صلاة الجمعة، لكن احرص على البحث عن المسلمين حولك، وتعاون معهم في بناء مسجد ولو صغير، وأداء الصلوات، والتعاون قدر الإمكان في إقامة الأعمال الخيرية.-أعانك الله-، ومتى استطعت الانتقال إلى بلد إسلامي تقام فيه شعائر الله، وتأمن فيه على نفسك، وأهلك، ومالك فلا تتردد في الانتقال إليه بعداً عن العيش بين ظهراني المشركين، وتربية لنفسك وأهلك ووالدك، وحفظاً لعقيدتكم وأخلاقكم، قال الله -تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً"[النساء:97-99]. فقوله -تعالى- "إلا المستضعفين.." عذر فقط لهؤلاء الذين لا يستطيعون الهجرة من بلاد الشرك؛ لعذر من الأعذار المادية، أو الجسمية، أو الأمنية، ونحوها، دون غيرهم ممن يملك الهجرة ولا خوف عليه مع هذه الهجرة.
==============
هل يجوز للمسلم أن يحصل على جنسية إحدى الدول الكافرة ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
أنا أدرس في مدينة (فنكوفر) في كندا، فهل يجوز تقديم طلب الحصول على الجنسية الكندية من مكتب الهجرة الكندي؟ علماً أن القانون الكندي يسمح لمن أقام في كندا لمدة 3 سنوات، أن يحصل على الجنسية الكندية .
الجواب
نعم، الذي نراه جواز ذلك، لمن كان في مثل وضعكم، حيث ظروفكم صعبة، والحصول على الجنسية يسهِّل لكم عملية السفر، والترحال، والدعوة، وصلة الرحم، والوسائل لها حكم الغايات.
==============
نصيحة للمغترب
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
الرجاء من فضيلتكم إرشادنا بنصائحكم الطيبة في هذه الغربة المظلمة، غربة الدين، والأهل، والأوطان، هذا وبارك الله فيكم .
الجواب
أنصح الإخوة بالاجتهاد في الدعوة إلى الله، والتحاب بينهم والتعاطف والتراحم، وطلب العلم النافع لهم في الدين أو في الدنيا، ونصرة قضايا المسلمين.
============
هل تجب علينا صلاة الجماعة ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
نحن أربع عوائل سعودية أتينا للدراسة في استراليا وأقمنا بها ، ونسكن بجوار بعض ، ولكن يفصل بين كلٍ منا عدد بيتين. هل يجب علينا أن نصلي جماعة؟ علماً أنه لا يوجد مصلى ثابت فيما بيننا، وفي الحقيقة هناك صعوبة في التجمع في بيت أحدٍ منا من حيث الاتفاق على وقت معين للصلاة.هل من الواجب أو السنة أن نؤمر أحداً منا ؟
الجواب
نفع الله بكم وردكم سالمين غانمين، لا أرى أن عليكم الاجتماع للصلاة مادمتم بهذه الحال، وأنتم مسافرون، وليس لديكم مسجد تجتمعون عليه، ولكن احرصوا على الجماعة ولو لم تجتمعوا كلكم.ويحسن أن تقيموا بينكم رابطة من نوع ما ، بحيث تختارون أحدكم ليكون مديراً ،أو أميراً للمركز ، أو رئيساً للرابطة ؛ لتدبير شؤونكم المشتركة، والسلام.
===============
هل نحن مسافرون؟ وهل نعتبر جماعة؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
أنا مبتعث إلى استراليا للدراسات العليا في مجال طب الأسنان، وأقيم هنا بصحبة عائلتي ولي بعض الاستفسارات:هل نحن في سفر ولنا القصر والجمع؟ وما هو الأفضل أو الأولى؟هل صلاتي مع زوجتي تعتبر جماعة؟هل الصلاة مع الصبي عمره 6 سنوات تعتبر جماعة؟في حالة الإيجاب في السؤالين 2 و3. أيهما أفضل؟
الجواب
نعم أنتم مسافرون لكم القصر، أما الجمع فيجوز، ويجوز مطلقاً عند قوم للمسافر للحاجة، وإلا فالأصل أداء كل صلاة في وقتها، والصلاة مع المرأة والصبي جائزة، لكن لا يستحب المداومة عليها.
==============
مقيم في بلد للدراسة فهل يقصر؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
أنا مسافر للدراسة، فهل يجب عليّ، أو يسن لي القصر، مع العلم أني أبقى خارج البلاد ما يزيد على تسعة أشهر كل عام، ولا أبقى مع أهلي إلا شهرين ؟
الجواب
القصر سنة في السَّفر بالكتاب والسنة والإجماع، على خلاف في تحديد السفر الذي يشرع فيه القصر.والذي أراه في مثل شأنك أنك مسافر، فإذا صليت وحدك، أو خلف إمام يقصر الصلاة، فاقصرها، وإذا صليت خلف إمام يتم، فأتم الصلاة، فلك حكم إمامك، والله أعلم.
==============
قصر الصلاة وجمعها لمن يدرس خارج بلده
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/7/1421
السؤال(1/22)
أدرس في خارج المملكة ، وأقصر وأجمع الصلوات أحياناً لعدم استطاعتي أن أصلي الفرض في وقته ؟ وقد نقل لي أن من العلماء من يرى أن هذا لا بأس به ، فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟
الجواب
لا حرج عليك فيما تفعل من القصر ما دمت مسافراً وهذه فتوى جماعة من العلماء قديماً وحديثاً.لأنك لم تخرج عن مسمى السفر فلك الأخذ برخص المسافر، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: "صحبت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك رضي الله عنهم" أخرجه البخاري (1102)، ومسلم (689) مطولاً. أما الجمع فللحاجة إذا لم تستطع أداء كل صلاة في وقتها لظروف العمل أو الدراسة أو المرض -لا قدر الله- أو نحوه فلك الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. لما في الصحيح من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء " أخرجه البخاري (1107)، وأوسع الناس في الجمع هم أصحاب الإمام أحمد، ومن أدلتهم حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: " أراد ألا يحرج أمته " أخرجه مسلم (705) وهذا جمع حقيقي لا صوري على الراجح من أقوال أهل العلم.
===============
متى يتم المسافر ومتى يقصر ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/7/1421
السؤال
هناك بعض الشباب منذ مدة طويلة تفوق أربع سنوات وهم يقصرون الصلاة، وحجتهم أنهم في ديار كفر، ولا تجوز الإقامة فيها، ولهم نية الخروج، السؤال المطروح: هل يبقى المرء يقصر الصلاة وإن طالت به المدة حتى يتسنى له الخروج؟
الجواب
إذا كان نوى الإقامة فعليه الإتمام؛ لأنه لا يعد مسافراً، أما إذا كان مزمعاً على السفر وإقامته مؤقتة بحد، أو وقت، أو ظرف، متى زال سافر فإنه يقصر، وقد " مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يوماً يقصر بمكة " رواه البخاري (4298) .
==============
الحصول على الجنسية البريطانية في هذه الحال
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …1/8/1421
السؤال
ما رأيكم بقضية الحصول على الجنسية البريطانية أو غيرها، مع العلم أنه لا يوجد معي أي جواز سفر أو هوية أو أوراق - أنا وأولادي - مع أنني قدمت اللجوء السياسي. وأنا مطلوب لبلدي؟
الجواب
أخي ما دمت بالوضع الذي ذكرت من أنه لا يوجد لديك أي أوراق، ولا لدى أولادك، وأنت خائف على نفسك، فلا بأس عليك بالحصول على الجنسية، لأنك مضطر إلى ذلك. يسَّر الله أمرك، وكشف عسرك، وأصلح بالك.
============
السفر إلى الخارج لإكمال الدراسة
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …22/11/1422
السؤال
في الحقيقة أود استشارة الشيخ الفاضل - حفظه الله - في أمر، وهو: أن في بالي فكرة السفر إلى ألمانيا لإكمال دراستي في الهندسة المدنية، وما ألجأني إلى هذا إلا ضيق وصعوبة إتمامها في البلد الذي أعيش فيه، ومن ناحية أخرى اعتقادي بالخبرات التي يتمتعون بها في هذا المجال، والتي يمكن أن أمتلكها كمسلم، كما أن الدراسة مجانية، والطريق إلى هناك شبه مفتوح، والوضع المعيشي هنا بالنسبة لي صعب أيضاً، إذ لا عمل إلا بأجر ضئيل ووقت طويل يأخذ أغلب وقت النهار، لكني متردد دائماً بشأن السفر، إذ أشعر بواجبي تجاه العلم الشرعي الذي لم يتسن لي أن أبذل الوقت لأجله هنا وكذلك الدعوة، لا سيما وأني - والحمد لله - قد متعني الله - تعالى - بالقدرة على خدمة دينه الحنيف بوسائل عدة كالخطابة والشعر وغيره، ومما يزيد ترددي أن المدة التي أقضيها للدراسة سبع سنوات، وأنا مبتعد عن البلاد الإسلامية، وخصوصاً في هذه الأوضاع التي تحيط بالأمة؛ أود أن أستشير فضيلة الشيخ بالأمر، وهل يرى من خلال نظرته للأحوال التي تحيط بأمتنا أن الأمر يستحق السفر من أجله، ولهذه المدة - وجزاكم الله خيراً -؟
الجواب
إذا كان هذا التخصص لا يوجد على هذه الصفة إلا هناك، فليس عليك حرج - إن شاء الله -، ومع حصول النية الصالحة في خدمة الأمة من خلال هذه الدراسة يكون العمل محموداً، وهو لا يعارض القيام بنشاط إسلامي مع إخوانك المسلمين هناك، والتواصل من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت وغيرها.
==============
ما حكم الإجهاض في هذه الحالة؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …11/11/1422
السؤال(1/23)
تزوجت بفتاة لم أرها بالرؤية المقنعة، ولم تتح لي فرصة لمحاورتها، طلبت منها الإجهاض في الأسابيع الأولى من الحمل بسبب سوء تفاهم، ثم عانيت معها سنتين بجميع المحاولات باحثاً عن التفاهم والانسجام فلم أنجح. اليوم فوجئت بها أنها حامل من مدة شهر, طلبت منها مرة أخرى إذا أكملت العدة، هنا سيمنح لها القانون الألماني حق البقاء الدائم، وبالخصوص أنها ذات أطفال يتعطش إليهم هذا البلد, هنا يفرضون علي النفقة غير المتوقعة, والآن عندي منها بنت عمرها سنة, وهي حامل ولها ثمانية أسابيع.أسئلتي هي كالتالي:1- هل يجوز في هذه الحالة الإجهاض؟2- هل يجوز لها البقاء في ديار الكفر, وهي تجهل خطورة التيار هنا؟3- هل أتركها هنا تكمل العدة وترحل بعد الولادة؟ انصحونا فوراً - جزاكم الله خير الجزاء -.
الجواب
إن كان هناك من سبيل للوفاق بينكما، أو قل: للصبر على الحياة الزوجية فهو أولى, وعليك أن تحتسب الأجر بالصبر على هذه المرأة ومعاناة الحياة معها.فإن كان ذلك متعذراً فأبقها حتى تلد الطفل الآخر، ثم يمكنك أن تعيدها إلى بلدها بعد ذلك.وأرى أن الأفضل ألا تجهض الجنين ذا الشهرين؛ لعدم وجود ما يدعو إلى ذلك، خصوصاً والمرأة منها طفل أصلاً، والإجهاض يكون في حالة الضرورة أو الحاجة الشديدة، والله أعلم.
==============
دراسة اللغة الإنجليزية بقصد الدعوة إلى الله
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …14/11/1422
السؤال
أستغرق وقتاً طويلاً من يومي في تعلم اللغة الإنجليزية تصل بعض المرات إلى ست ساعات يومياً، وليس ذلك حباً لهذه اللغة، إنما وسيلة لإتقان الحاسب الآلي؛ للاستفادة منه في الدعوة.1) فهل أنا آثم في ذلك أم أنا مأجور إن أخلصت النية؟2) وهل يحل لي السفر في الإجازة إلى بلاد الكفر لتعلم هذه اللغة؟3) قد أمنح بعثة لدراسة الحاسب في بلاد الكفر، فهل يحل لي السعي في نيل هذه البعثة؟ نفعنا الله بعلمكم، ووفقكم في دنياكم وأخراكم.
الجواب
إذا كان قصدك في الوقت الذي تمضيه في تعليم اللغة وإتقانها، ومعرفة الحاسب، والاستفادة من ذلك في الدعوة فيرجى أن يكون من العمل الصالح إذا لم يصرف عما هو أهم منه.ولا يصلح السفر في الإجازة وغيرها إلا لمن تمكن الإيمان من قلبه، وتجاوز مرحلة المراهقة، وكان متزوجاً بحيث يطمئن ويأمن - بإذن الله - من الانحراف والانجراف، ويكون مرتبطاً بالجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية في البلد الذي يحل فيه ، ويقتصر في الإقامة على قدر الحاجة من غير زيادة. وفقكم الله.
=============
حكم المساهمة المالية في أعياد الميلاد
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …14/11/1422
السؤال
شيخنا الفاضل:أنا أعيش في بلاد الغرب، وحيث أدرس في مدرسة من مدارسها، وحدث اليوم حدث أحببت أن تفتونا مأجورين: أن الطلاب في الصف اجتمعوا وقرروا على أن يجمعوا نقوداً لكي يشتروا هدية متواضعة لإعطائها للمدرس بمناسبة عيد الميلاد, فهل يجوز يا شيخنا المشاركة معهم؟ حيث إني في وضع محرج، إن لم أدفع المبلغ القليل قالوا: لماذا؟ وإذا دفعت أخشى أن أدخل في محذور شرعي، وهل هذا يدخل في باب الموالاة أم لا؟ وأدعو الله أن يخرجنا من هذه البلاد التي أجبرنا على الإقامة فيها عاجلاً غير آجل، وأن يعيدنا إلى بلاد الإسلام، حيث تكون راية الإسلام خفاقة. آمين.وجزاك الله خيراً عنا وعن جميع المسلمين.
الجواب
من حيث الأصل لا يجوز مساعدتهم في هذه الهدايا، لكن بحكم أنك تعيش في بلادهم وفي هذه الظروف الحالية الصعبة، ورغبة في تحبيبهم في الإسلام فلا حرج عليك لو دفعت إليهم هذا المبلغ بهذه النية، مع اعتقاد قلبك ببغض ما هم عليه من الكفر، وعدم اعتقاد شرعية هذه الأعياد وغيرها.
==============
هل يجوز الجمع بحجة عدم وجود المسجد ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …14/7/1422
السؤال
يوجد سائق باص في بلد كتابي يجمع الصلوات الخمس بحجة عدم وجود مسجد في منطقة عمله، والجدول مبرمج لنقل الركاب، فما حكم ذلك؟
الجواب
يجب على السائق أن يصلي الصلوات في وقتها، ولا يلزم أداء الصلاة في المسجد في حقه ما دام في بلد كفار، وربما كان مسافراً ، فيصلي ولو في محطة الباص .
==============
متى تكون الهجرة واجبة ؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …14/7/1422
السؤال
ما حكم الهجرة من هذه البلاد، ومتى تكون الهجرة واجبة؟ وللعلم هي دول ظاهرياً تعتنق الإسلام .
الجواب(1/24)
أما عن الهجرة من هذه البلاد، فيحتاج إلى تحديد ما هي البلاد التي تطلب الهجرة عنها ؟ إن كانت دولاً كافرة كدول الغرب ، وللمسلم موطن يؤوب إليه ، وإنما ذهب إلى هناك مؤقتاًُ، ثم طال مكثه فنرى الهجرة لمن خاف على دينه، وذريته، وأهله، ووجد موطناً يؤويه.أما إن كان السؤال عن بلاد إسلامية ، كما هو ظاهر السؤال ، فإلى أين يهاجر الإنسان إذاً ؟ ولمن يترك بلاد الإسلام والمسلمين ؟ هل يتركها للعلمانيين وعباد الشهوات ؟إن تفريغ البلاد الإسلامية من طلبة العلم والدعاة والجادين بحجة الهجرة إلى هذا البلد أو ذاك؛ لأنه أكثر التزاماً ، أو لأن حكومته تعلن تطبيق الشريعة ، أو لأنه أرض جهاد ، لهو من الخطأ المبين . نعم يجب أن ينفر من المؤمنين طوائف تجوب البلاد للدعوة والتبشير والإصلاح، وأن ينبري من المؤمنين فئام تقوم بحق الجهاد والدفاع عن الحرمات ، لكن هذا شيء ، ومبدأ الهجرة شيء آخر ؛ لأنه يقوم على الانتقال الكلي والاستقرار في البلد الجديد، ولا يهدف إلى نشر الدعوة وترويجها بقدر ما يستهدف تعزيز الوطن الجديد .إن بقاء المسلمين ، خصوصاً الفاعلين المؤثرين خير كثير ، ونفع عظيم حتى حين يكونون في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو استراليا ، فهم يأمنون غالباً على دينهم من الإكراه - بحمد الله -، ويقومون بواجباتهم ، ويتواصلون فيما بينهم ، ويناصرون إخوانهم في شتى بلاد الله ، مع فسحة في العيش والرزق قد لا تتوافر لهم في غيرها . وهذا نفع لا يستهان به ، وإن كان لا يجب أن ينسينا المعاناة التي يلاقونها هناك والتي تحتاج إلى البحث عن حلول جادة .وليس هذا مبيحاً للمسلم أن يساكن هؤلاء القوم إلا أن يكون عن ضرورة لا مدفع لها ، أو حاجة ماسّة للأرض، أو للرزق، أو لغيرهما ، أو أن تكون الإقامة لغرض دعوي، أو علمي، أو خيري ، أو تكون إقامة مؤقتة بسبب تنتهي بانتهائه.
=============
الهجرة إلى ديار الإسلام .
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ …14/7/1422
السؤال
اعتنقت أنا وزوجي الإسلام منذ سنوات قليلة -والحمد لله -، ولقد وقعنا في حيرة مؤخراً: هل نظل كما نحن الآن في كندا بنية نشر الإسلام عن طريق الدعوة، أم نهاجر إلى ديار الإسلام؟ وعرفنا من بعض المتنورين في الدين أننا ما دمنا أسلمنا، فإن علينا أن ننتقل إلى حيث تقام تعاليم الدين الحنيف من قبل غالبية أهل البلد (يعني ديار الإسلام)، ولقد وقفنا على أحاديث للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - تؤيد ذلك، فقد روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بريء ممن يعيش بين أظهر المشركين، وأمرهم بالهجرة إلى دار الإسلام، وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن الله - تعالى - لن يقبل عملاً من مشرك أسلم وظل يقيم بين أظهر المشركين إلا أن يفارقهم إلى دار الإسلام.ولكم أن تتخيلوا حالنا حين علمنا بهذين الحديثين لأول مرة في حياتنا، فهل هذان الحديثان صحيحان؟ أرجو التوضيح، وادعو لنا بالهداية والتوفيق.وجزاكم الله خيراً!
الجواب(1/25)
الهجرة كانت واجبة في أول الإسلام إلى المدينة ، ثم نسخ الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية " أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (1864) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفي الحديث الصحيح عند البخاري (1452)، وأبو داود (2477)، والنسائي (4164) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة، فقال: " ويحك إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدي صدقتها ؟ قال: نعم ، قال: فاعمل من وراء البحار ، فإن الله لن يَتِرَكَ من عملك شيئاً "، وهكذا نقول لك ولزوجك : اعملوا من وراء البحار ، فإن الله لن يتركم من أعمالكم شيئاً ، فابذلوا جهدكم في دعوة من حولكم إلى الله ، ونشر العقيدة الصحيحة ، وكونوا قدوة حسنة في أخلاقكم ومعاملتكم، وتعاونوا مع إخوانكم المسلمين في هذا وفي غيره، وأدوا ما افترض الله عليكم من الواجبات . اللهم إلا إذا أتيحت لكم فرصة مناسبة للانتقال إلى بلد إسلامي ، يحقق لكم المزيد من المحافظة والالتزام الإسلامي ، مع عدم الإخلال البين بمصالحكم الدنيوية ، فهذا طيب وحسن ، ولا أراه واجباً عليكم.أما حديث " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " فقد رواه أبو داود (2645)، والترمذي ( 1/ 303 )، وغيرهم ، والراجح أنه مرسل غير متصل ،كما رجحه البخاري، والترمذي، وأبو داود، وأبو حاتم، وحديث "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين إلى المسلمين "(رواه النسائي (1/ 358)، وأحمد (5/ 5)، وهو من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهذا إسناد مشهور، وفيه اختلاف.فمنهم من قبله مطلقاً كيحى بن معين، وعلي بن المديني، ومنهم من رده كأبي عبد الله الحاكم، حيث يقول :" روايته عن أبيه عن جده شاذة لا متابع له فيها ".وقال أبو زرعة :" صالح ، ولكنه ليس بالمشهور ".وقال أبو حاتم :" يكتب حديثه، ولا يحتج به "انظروا للمزي (تهذيب الكمال 4/ 259)، ولعل الأقرب أن يقبل منها ما وافق الثقات لا ما انفرد به.وفي الحديث معنى غريب ،وهو عدم قبول عمله حتى يفارق المشركين ،ومثل هذا المعنى الكبير ينبغي التثبت فيه .وقد ذكرت لكم أمر الهجرة ، علماً أن قوانين الهجرة المعمول بها الآن في العالم كله لم تعد ميسورة ، وأصبح الكثير من المسلمين يهاجرون إلى بلاد كافرة؛ لأن قوانين الإقامة فيها أسهل وأيسر ، ولأن فرص العيش فيها أحسن ، والله المستعان.
==============
موقف المسلم المغترب عن بلاد المسلمين.
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …2/6/1422
السؤال
لا يخفى عليكم صعوبة حياة المسلم في بلاد الغرب، ولا بد لنا من الدعوة بسبب الوضع الذي يحاول إيجاده أعداء الأمة من اختلاف بين المسلمين في الغرب والمسلمين في بلادهم، وإيجاد فتاوى تحلل الربا، وتشكك الدين.
الجواب
قرأت رسالتكم الميمونة لجماعة من طلبة العلم، ولا شك أن تشخيص الداء مهم ، وأهم منه وصف الدواء ، فالخلاف والفرقة مستشرية في الأمة منذ زمن طويل ، وحياة المسلم في بلاد الغربة بلاء مضاعف، فهو بين نارين ، نار المجتمع الكافر المحيط به ، ونار الخلافات الضاربة بجذورها في صفوف المسلمين.وعلى المسلم إذا اضطر للعيشة في تلك البلاد لظروف لا يملك لها دفعاً أن يستعين بالله، ويصبر، ويجتهد في الدعوة إلى الله ، والإصلاح بين المسلمين ، وإقامة المحاضن والمؤسسات التعليمية والدعوية التي تحفظ نشء المسلمين ، ويجب على المسلمين جميعاً أن يتعاونوا في ذلك ما استطاعوا ،والله المستعان .
============
توجيهات للمغتربين
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …6/8/1422
السؤال
نحن إخوانك المقيمون هذه الأيام في أمريكا وكندا، نعيش مع عوائلنا في حال من عدم الاطمئنان والتوتُّر وعدم الاستقرار النفسي, خاصة الذي معه أسرته وأطفاله, وخاصة بعد تأكد أنباء بحدوث بعض المضايقات للعرب والمسلمين, ويعلم الله أنني مع الكثير من الزملاء كنا ننتظر من صفحتكم ,وأنتم من وجهتم الكثير من الجهد الذي تشكرون عليه للمغتربين,ننتظر رسالة توجيه وإرشاد لنا منذ اليوم الأول ولم نرها حتى هذا اليوم، فأرجو ألاّ تبخلوا علينا -وفي أسرع وقت- بشئ من التوجيه ويكون للأخوات المغتربات منه نصيب.
الجواب(1/26)
ربما رأيتم في الموقع مادة لا بأس بها حول الأحداث, في نافذة البشير وفي الملف الخاص، وكذلك المقال الذي كتبته حولها. يبقى التوجيه للإخوة فهذا فاتني، خصوصاً أن الحدث ألقى بظلاله علينا، وولّد لدينا نوعاً من القلق، وعدم الاستقرار كما عندكم.وصيتي للإخوة أن يمتصوا الغضبة بالأساليب المناسبة، ولا بأس أن يعبِّروا عن عدم شرعية هذا العمل، مهما كانت مبرراته، وأن الإسلام دين العدل، والرحمة، والخلق الكريم، وأن يكون لديهم جمعيات تقوم؛ بهذا الدور عبر وسائل الإعلام المقروءة، والمرئية.ويمكن للإخوة أن يتجنبوا الأشياء التي تضرهم في هذه المرحلة، ولو استدعى الأمر التخلي عن بعض المظاهر التي تجلب إليهم المتاعب، أو تتسبب في القتل، أو الضرب، أو الأذى الجسدي، أو النفسي للرجال، أو النساء مع أنني أنصح بعدم الخروج إلا للحاجة، كالدراسة - مثلاً - أو ما لا بد منه.وعلى الخصوص أولئك الإخوة الذين يعيشون في مناطق يقل فيها المسلمون، ويكونون عرضة للأذى أكثر من غيرهم. يسعهم أن يرتبوا أوضاعهم بصفة استثنائية.إن الإكراه المتمثل بالخوف الحقيقي من القتل، أو الضرب، أو الإيذاء، يسوّغ للإنسان ترك الأمر الذي يؤدي إلى ذلك، ولا أحد يجهل الظروف التي تعيشونها الآن.مع أن هذا قد يكون في المقابل فرصة لكثيرين، في محاولة اكتشاف الإسلام، والسؤال عنه، وعن أحكامه، وقيمه، وتعاليمه، والتعرف على قضايا المسلمين.شكر الله لكم، وكم تمنيت أن تكون الرسالة مبكِّرة؛ لتحملني على كتابة أوسع ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
===============
هل يجوز لنا البقاء في بلاد الغربة؟
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …29/7/1422
السؤال
الحمد لله أنا طبيبة وزوجي أستاذ مساعد بالجامعة، ولنا ثلاثة أولاد ذكور، سافرنا إلى الخارج منذ حوالي ثلاث عشرة سنة كان زوجي يدرس فيها الدكتوراه في الهندسة، وحاولنا بعدها الرجوع إلى بلدنا الأصلية (مصر) لنفيد المسلمين بهذا العلم، ولكن - كما تعلمون - لم يتسن لأي عالم مسلم الآن أن يفيد بلاده بعلمه لأسباب تعلمونها جيداً، فقررنا العودة إلى كندا بعد أن وجدنا أننا قد يمكننا المحافظة على ديننا وأولادنا في كندا أكثر. الحمد لله أنا أحاول جاهدة العمل في مجال الدعوة، حيث إنني لم أعمل كطبيبة، وفضلت عمل دراسات عليا في الفقه وأصوله بالجامعة المفتوحة بأمريكا.السؤال هو: بعد تلك الأحداث الأخيرة، هل تعدّ تلك البلدان الغربية بلاداً حربية؟ وهل يعني ذلك أنه يحرم علينا المعيشة في تلك البلدان؟ مع العلم أنني ألتزم تماماً بالزي الإسلامي (منتقبة)، وزوجي ملتزم - والحمد لله -، ومعنا جالية إسلامية نحسبهم على خير، وأبناؤنا يذهبون إلى مدارس إسلامية وليس لهم أصدقاء سوى المسلمين، كما أن زوجي يحاول جاهداً أن يساعد المسلمين الدارسين بقبولهم للدراسة تحت إشرافه راجياً رفع شأن الأمة الإسلامية بذلك، فهل يجب علينا الرجوع إلى بلادنا حتى ولو كان الوضع فيها غير مناسب أخلاقياً ولا دينياً ولا علمياً ولا اقتصادياً؟ أم أنه يجوز لنا البقاء في الخارج؟ وإن حصل زوجي على عمل في السعودية أو أي بلد عربي بمرتب معقول، هل يجب عليه قبول ذلك العمل رغم أنهم يخوفونه من أن تلك الأعمال غير مستقرة في تلك البلدان، وسرعان ما سيتخلصون منه فيجد نفسه قد فقد وظيفته هنا وهناك، ولا سبيل للعودة إلى عمله بالخارج بعد ذلك، كما أنه سيتدهور علمياً لبعده عن متابعة التقدم العلمي أولاً بأول؟أرجو المعذرة على الإطالة في السؤال. جزاكم الله خيراً، وتقبل الله منا ومنكم جميع أعمالنا في هذا الشهر المبارك. والسلام عليكم.
الجواب
سعدت بما ذكرت عن حالك وحال زوجك، - أثابكم الله ونفع بكم -، وأرى لكم البقاء فيما أنتم فيه ما دمتم مطمئنين على أنفسكم وعلى أولادكم، وقائمين بالدعوة ونفْع من حولكم من المسلمين، والحكم باعتبار دولة من الدول دار حرب حكم خطير لا يمكن أن يستبد به شخص أو أشخاص، ولا حتى فقيه أو عالم، بل الأصل بقاء هذه الدول على حالها وطبيعتها، وهي قد أبرمت عهوداً وعقوداً مع المسلمين، فلا بد من قبولها والإقرار بها، ولو من باب الضرورة؛ لأنه لا بديل عنها إلا الفوضى، ولا أحد يقبل بالفوضى، اللهم لو اجتمعت كلمة علماء الإسلام في مثل هذا الشأن وصدروا عن رأي واحد كان على الأمة أن تسايرهم فيه، لكن مثل هذا الاحتمال بعيد الحدوث، ولا يمكن التعويل عليه.فكونوا حيث أنتم، واجتهدوا في الدعوة والإصلاح، ومما نؤمله منكم أن تتواصلوا مع موقعنا (الإسلام اليوم) بالعربي أو بالإنجليزي، كتابة، أو مشاركة، أو اقتراحاً، أو غير ذلك.وفقكم الله.
===============
الدراسة في بلاد الغرب
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …12/8/1422
السؤال
أنا شاب ملتزم - إن شاء الله -, أود متابعة الدراسة في بلاد الغرب (أوروبا) نظراً لارتفاع نسبة البطالة في بلادي، وأريد أن تفتوني في هذا، بالإضافة إلى أني أريد معرفة حكم لبس اللباس الغربي، وحلق اللحى وتهذيبها، وجزاك الله ألف خير.
الجواب(1/27)
إذا كان ثمة حاجة إلى الدراسة في أوروبا، فلا حرج عليك - إن شاء الله - كأن يكون ثمة تخصص لا يوجد إلا هناك، أو لا يتيسر لك الدراسة في غيرها، وعليك بالتقوى، ومصاحبة الأخيار، والمشاركة في الأعمال الخيرية والمراكز الإسلامية.ويجوز لك لبس البنطال ونحوه من الملابس الساترة، أما اللحية وتهذيبها فيصلك فتوى سابقة.
============
سفر المرأة إلى بلاد الغرب والبقاء بدون محرم
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …26/10/1422
السؤال
أنا فتاة أعمل في مجال طبي تندر فيه السعوديات من النساء، وأنا - ولله الحمد - متميزة في عملي، ولدي القدرة - بتوفيق من الله - بأن أخفف وأعالج آلام كثير ممن يردني من النساء المرضى، ولكن أعاني كثيراً من وضعي في المستشفى، حيث الدوام الطويل من الساعة 7:30 صباحاً حتى الخامسة مساءً. لست متزوجة، ولكن لن أستطيع الزواج على هذه الحال، إضافة إلى أني لا أرغب بالوضع الذي يحتم علينا كنساء وهو الحديث والتعامل المباشر مع الرجال، وإن كان المستشفى الذي أعمل به - أعني في القسم - النساء معزولون تماماً عن الرجال، ولكن لابد من الاختلاط بالرجال، حيث إنني بالإضافة لمنصبي الطبي أعمل بمنصب إداري في نفس المجال، يحتم علي التواصل الإداري مع رؤسائنا من الرجال. فضيلة الشيخ: أرغب رغبة كبيرة بتغيير منصبي إلى أستاذة في الجامعة في نفس المجال، حيث ستقل ساعات الدوام، ويقل احتكاكي بالرجال، ولعلمي وعلم كل من حولي بكفاءتي وقدرتي على فن إيصال المعلومة، وللأسف الشديد لا يوجد أي امرأة سعودية حصلت على الشهادات العليا التي تؤهلها للتدريس في هذا المجال، مما يعني أن كل من يقوم بمهمة تدريس مجال دراستي في المملكة هم من النساء الأجانب أو من الرجال. ونظراً لأن مجال دراستي لا تتوافر فيه الدراسات العليا إلا في خارج المملكة، فسؤالي هو:(1) هل يجوز لي الذهاب إلى كندا، حيث إنها بلد متميز في تعليم مجال تخصصي؟ علماً أني سأحرص تمام الحرص على أن من يقوم بالإشراف على دراساتي العليا من النساء، حيث إن دراستي العليا هي الوسيلة الوحيدة لدخولي لمجال التدريس في الجامعة.بالمراسلة مع من أثق بهم في كندا، علمت بوجود مراكز إسلامية، وحيث إنه لا يتوافر لدي محرم قادر على الإقامة معي في كندا خلال سنوات دراستي الثلاث، فهل يجوز لي السفر مع محرم والإقامة في كندا دون محرم؟ ولكن تحت حماية ورعاية المراكز الإسلامية هناك حيث لدي الاستعداد الكامل للتعاون معهم في مجال الدعوة؛ لحصولي على شهادات في تجويد القرآن، علماً أني كنت - وما زلت - من معلمات التجويد في حلق الجامعة سابقاً، وفي المستشفى حالياً.
الجواب(1/28)
نشكر لكم عنايتكم بمراعاة آداب الإسلام، والتماس طرق تحصيل العلم والاستفادة، وبخصوص السؤالات المذكورة:من حيث الذهاب إلى كندا والبقاء هناك بدون محرم، وإنما يرافق في رحلة السفر فقط فهذا مما لا يجوز شرعاً؛ لأنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي المؤكد عن سفر المرأة بدون محرم كما في الصحيحين البخاري (1088)، ومسلم (1339) وغيرهما، وربما كان موضوع الرحلة (السفر بالطائرة) أيسر عندنا من موضوع البقاء سنتين أو ثلاثاً بدون محرم، حتى لو حصل اتصال وتعاون مع المركز الإسلامي، ولهذا لا بد من البحث عن محرم، وهنا اقتراحان: (أ) لو بحث عن محرم بالتناوب أي كل واحد يبقى سنة مثلاً.(ب) وهو الأفضل والأصل أن يكون ثمة زوج مناسب، بحيث تسافرين معه، وهنا أرى لزوم حرصكم على الزواج؛ نظراً لكونه ضرورة للمرأة قبل كل شيء وسنة شرعية، ومن الخطأ النظر للزواج كعائق أمام التخصص لديكم، فالزواج بتقديري ربما كان أهم من كل هذا، وهنا يمكن أن يبحث الموضوع مع بعض من ترين من طلاب العلم أو زملاء العمل من الدكاترة الطيبين، فيكون هناك اختيار بواسطتهم، وهذا خير لك في الدنيا والآخرة.أختي الكريمة: العمل ستذهب قوته وجماله يوماً ما، ويبقى لك بعدُ حالة ربما تكون صعبة بدون زوج ولا أولاد ، وتعلمين أن المرأة لإنجابها مدة طبية ليست طويلة، لهذا أرى لزوم المسارعة لحل هذه المشكلة التي هي عندي أهم من قضية السفر إلى مواصلة الدراسة، وهي - بإذن الله - ستكون الحل لموضوع المحرم في السفر، لهذا يقدر أن تختاري شاباً ملتزماً لديه إمكانية للتعايش مع ظروف عملك، حتى لا يكون شيء على حساب شيء آخر، وإني أقدر أهمية تحويل المسار عن المستشفى إلى المحاضرة في الجامعة، فهذا أفضل بلا شك، لكن يحتاج لطريق مناسب، ومن الصعب والمتعذر شرعاً أن تبقي في كندا سنوات بدون محرم. أنا أنظر للموضوع بصورة شمولية، بمعنى: ليست القضية التحويل إلى الجامعة، هذه قضية مهمة، لكن يبقى موضوع المستقبل الاجتماعي أكثر أهمية. الزوج والأولاد قوام الحياة، وتعلمين أن العمل قد تطرأ عليه ظروف تمنع مواصلته، وحتماً سيقف يوماً عند بوابة الروتين أو الملل ربما، وبوجود بناء أسري (زوج وأولاد) يخصك ستجدين قدرتك على المواصلة في العمل أفضل.وطريقة اختيار الزوج يمكن أن تكون عن طريق أهلك، ويمكن أن تكون عن طريقك مباشرة ولا حياء في ذلك، وهذا حق من الحقوق.
============
القصر والجمع للمغترب
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …17/9/1422
السؤال
أنا أخ لكم في الله من السعودية، وقد ذهبت إلى أمريكا لكي أدرس المرحلة الجامعية فقط، وسوف أقيم هنا زمناً محدوداً إلى أن أنهي دراستي بإذن الله ... أحببت أن أسألكم عن جواز صلاة القصر والجمع بالنسبة لي، وقد سمعت فتوى من أحد المشايخ الموثوق فيهم عن جوازها للطالب؛ لأننا أحياناً نضطر لتأخير الصلاة بسبب ظروفنا الدراسية كأن يكون لدينا محاضرة وقت الصلاة، وبعدها أرجع إلى البيت، فهل يجوز لي إن رأيت أنه ليس لدي متسع لأن أصلي الظهر والعصر أن أجمعهما وأقصرهما، أو فقط أجمعهما، ومن ثم إذا عدت إلى المنزل أصلي المغرب والعشاء غير مقصورتين ولا مجموعتين؟ أحببت أن أسألكم، وأنا أعلم أنه من الأفضل أن أحاول أن أصلي كل صلاة بوقتها.
الجواب
الأظهر فيمن ذهب لبلد للدراسة فيها سنوات لا يرجع إلى أهله إلا يسيراً، فهذا مقيم وليس مسافراً، ومن هنا يجب عليه أخذ أحكام الإقامة ولا يترخص برخص السفر، بخلاف من سافر لمدة لا تطول كشهر ونحوه، أو لعلاج لا يدري متى يؤذن له بالرجوع؛ فهذا مسافر، بخلاف من انضبط أنه يقيم أربع سنين مثلاً فهذا مقيم ولا يترخص برخص السفر، وأما التوفيق بين دراستك ومواقيت الصلاة فهذا إليك تحقيقه، وعليك الالتزام بالمواقيت
===========
خاص بالمغتربين والمغتربات
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …8/2/1423
السؤال
نحن إخوانك المقيمون هذه الأيام في أمريكا وكندا نعيش مع عوائلنا في حال من عدم الاطمئنان و التوتر وعدم الاستقرار النفسي , خاصة الذي معه أسرته وأطفاله, وخاصة بعد تأكد أنباء بحدوث بعض المضايقات للعرب والمسلمين, ويعلم الله أنني مع الكثيرين من الزملاء كنا ننتظر من صفحتكم, وأنتم من وجهتم الكثير من الجهد , الذي تشكرون عليه للمغتربين, ننتظر رسالة توجيه وإرشاد لنا منذ اليوم الأول، فأرجو أن لا تبخلوا علينا وبأسرع وقت بشيء من التوجيه ويكون للأخوات المغتربات منه نصيب.
حفظكم الله ووفقكم لما يحبه ويرضاه.
الجواب
ربما رأيتم في الموقع مادة لا بأس بها حول الأحداث, في نافذة البشير وفي الملف الخاص، وكذلك المقال الذي كتبته حولها.
يبقى التوجيه؛ للأخوة فهذا فاتني، خصوصاً أن الحدث ألقى بظلاله علينا، وولد لدينا نوعاً من القلق، وعدم الاستقرار كما عندكم.(1/29)
وصيتي للإخوة؛ أن يمتصوا الغضبة بالأساليب المناسبة، ولا بأس أن يعبروا عن عدم شرعية هذا العمل، مهما كانت مبرراته، وأن الإسلام دين العدل، والرحمة، والخلق الكريم، وأن يكون لديهم جمعيات تقوم بهذا الدور عبر وسائل الإعلام المقروءة والمرئية.
ويمكن للإخوة؛ أن يتجنبوا الأشياء التي تضرهم في هذه المرحلة، ولو استدعى الأمر التخلي عن بعض المظاهر، التي تجلب إليهم المتاعب، أو تتسبب في القتل أو الضرب أو الأذى الجسدي أو النفسي للرجال أو النساء مع أنني أنصح بعدم الخروج؛ إلا للحاجة كالدراسة ـ مثلاً ـ أو ما لا بد منه.
وعلى الخصوص، أولئك الإخوة الذين يعيشون في مناطق يقل فيها المسلمون، ويكونون عرضة للأذى أكثر من غيرهم.
يسعهم أن يرتبوا أوضاعهم بصفة استثنائية.
إن الإكراه المتمثل بالخوف الحقيقي من القتل، أو الضرب، أو الإيذاء، يسوغ للإنسان، ترك الأمر الذي يؤدي إلى ذلك، ولا أحد يجهل الظروف التي تعيشونها الآن.
مع أن هذا قد يكون في المقابل فرصة لكثيرين في محاولة اكتشاف الإسلام، والسؤال عنه، وعن أحكامه، وقيمه، وتعاليمه، والتعرف على قضايا المسلمين.
شكر الله لكم، وكم تمنيت أن تكون الرسالة مبكرة؛ لتحملني على كتابة أوسع؛ ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
=============
الرجوع إلى بلد الإسلام أولى
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …10/2/1423
السؤال
هل العمل في الولايات المتحدة حرام أم حلال؟ مع العلم أنه تتوافر فرص عمل طيبة في بلاد مسلمة أخرى، مع العلم أيضاً أن جزءاً كبيراً من الدخل يذهب كضرائب للبلد، وهذا الجزء من الممكن أن يساهم في أذية المسلمين بطريقة أو بأخرى، أيضاً أرى أننا نساهم في بناء اقتصاد دولة غير مسلمة.
فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
إذا كان العمل في دولة إسلامية ممكناً فإنه يتعين عليك الانتقال إلى هذا البلد المسلم حفاظاً على هويتك الإسلامية وهوية أولادك، فإنهم أمانة في عنقك ومسؤول عنهم، لا سيما وأن هذه البلاد وغيرها من بلاد الكفار لا يمكّن المسلم فيها أن يظهر شعائر دينه ويعتز بإسلامه ويحافظ على تربية أولاده إلا من رحم ربك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين" وقال تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الآية وإنما أُستُثني من ذلك من في بقائه مصلحة دينية أو دنيوية أو حاجة ظاهرة، أو لا يستطيع الرجوع إلى بلد مسلمة لسبب من الأسباب، لا سيما وأن بقاءك عندهم فيه مصلحة لهم مع حاجة البلاد الإسلامية إلى مثل هذه التخصصات المهمة، وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
فالرجوع أولى بك، أما إن بقيت في الولايات المتحدة فعليك بإظهار شعائر دينك والحرص على الجماعة، والعناية بزوجتك وأطفالك وحسن تعاهدهم، والله يتولاك.
=============
الدراسة في أمريكا
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …2/1/1423هـ
السؤال
فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة -سلمه الله-.السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:السؤال:أنا مدرس في إحدى كليات التقنية التابعة للمؤسسة العامة للتعليم الفني، وأود أن أكمل دراساتي العليا في الخارج، وقد حصلت على قبول من إحدى الجامعات الأمريكية منذ سنة ونصف تقريباً، ولكن لم يتيسر ذهابي إلى هناك بسبب الظروف المالية التي كانت تمر بها المؤسسة، وجاءت أحداث 11سبتمبر، ومرت وأنا لم أذهب بعد.الآن يا فضيلة الشيخ، المؤسسة بعثت لنا بخطابات لاستكمال الإجراءات للذهاب إلى أمريكا بعد زوال الظروف المالية السابقة.أريد من فضيلتكم التكرم بالنصيحة لي في هذا الأمر، وهل هناك مخالفة شرعية في الذهاب إلى هناك لغرض الدراسة؛ لأن مجموعة من الإخوة يقولون كيف تذهب إلى هناك وأمريكا تفعل بالمسلمين ما ترى من خلال أفغانستان وفلسطين وغيرها؟ أرجو التوجيه، ولكم مني كل المحبة والتقدير.
الجواب
إذا كانت الدراسة التي ستذهب إليها مما لا يتوافر إلا هناك فليس عليك حرج في الذهاب، أنت تذهب لمصلحة عامة للمسلمين ومصلحة أخرى خاصة بك ، وليس لمصلحتهم هم، لكن دون شك فإن الكثيرين من الإخوة هناك بدؤوا يحسون بضغوط ومضايقات شعبية وأمنية، وإن كانت تتفاوت من ولاية لأخرى ومن مدينة لأخرى ، وهذا يوضع في الاعتبار.أدعو الله أن يختار لك من ذلك ما فيه خيرك ومصلحتك في العاجل والآجل .
==============
سكنوا بريطانيا فراراً بدينهم
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …11/4/1422
السؤال(1/30)
مجموعة من الشباب المسلم الملتزم جاء إلى بريطانيا فراراً بدينه، وخوفاً من حبال المشانق، وطال بهم المقام، وكبر العيال وظهرت التحديات الجسام، ثم بعد كل هذه الأعوام بدأت بعض الأنظمة تلوح لهم بفتح الأبواب، ولكن بشروطها التي تعني التخلي عن كثير من المبادئ، التي هاجروا من أجلها، وإعلان البراءة والتوبة منها، وكلما اجتمع هؤلاء الغرباء، تذاكروا هذه الفتن، فتنة مستقبل أولادهم في بلاد الكفر، وفتنة العودة التي لا يعلم إلا الله ما ستجره عليهم وعلى إخوانهم من البلاء، فنرجو من فضيلتكم توجيه القلوب إلى الحق في هذه النازلة، ولو بذكر بعض القواعد العامة والكليات الجامعة، ولكم من الله الثواب.
الجواب
نسأل الله لكم وللإخوة العون والسداد والتوفيق، وإنكم -بإذن الله- مأجورون، وهذا رفعة في الدرجات، أما بخصوص النظر في الخيارين: البقاء في الغرب، أو الرجوع مع التنازل، فثمة أخي الكريم قاعدة شرعية، وهي: اختيار أهون الشرين وأخف الضررين، فلا شك أن البقاء في الغرب فيه مفسدة، والرجوع سيكون كذلك، وثمة مصالح في البقاء ومصالح في الرجوع، فهنا من الصعب عليَّ أن أقدر أحد الخيارين لعدم تصوري للحالين، وأنتم والإخوة أدرى بالواقع في الغرب وفي بلدكم الأصل، فالمقترح عندنا أن تجتمعوا مع الإخوة هناك وتنظروا لكم بعض الدعاة المعتدلين ذوي الكفاءة العلمية والفهم للواقع وحسن التدبير والعقل وتدرسوا المسألة وتقارنوا بين الأمرين، وربما تحصل حلّ ثالث ربما يكون أفضل، كأن يبقى الأولاد بعد البلوغ عند الأهل (والدكم مثلاً) في البلد الأصل فيكونون في رعاية الجد، هذا إن كان الأفضل، لكن أقدر قضية مهمة: أنه لا يلزمكم شرعاً الرجوع لبلدكم الأصل وأنتم تعلمون أنكم ستطاردون فيه وتؤذون أنتم وأهليكم؛ لكن هنا إشارة إن كانت القضية في البلد الأصل التنازل عن تعامل ليس ضرورياً في الشريعة، بل هو نوع من العمل الحركي الاجتهادي، ويمكن أن تسلكوا البديل عنه فهنا من الأفضل أن تنتقلوا من اجتهاد إلى اجتهاد آخر، ومن عمل دعوي إلى شكل آخر لا يسبب لكم إشكالاً، أما إن كان الموضوع موضوعاً صارماً وليس أمامكم خيارات في بلدكم الأصل، بل هو نوع من التسلط والعدوان بدون منهج يمكن التعامل معه أو التعايش معه فهنا أقدر ألاّ تستعجلوا في قرار التحول إلى البلد الأصل إلا في ظروف معقولة -نسأل الله لكم السداد- لكن بتقدير بقائكم في الغرب فأهم من تصرفون له هَمَّ الدعوة هُم أولادكم، فإنا نرى بعض إخواننا هناك ربما اشتغل بدعوة الناس من المسلمين هناك وأهمل أولاده، هذا نوع من الظلم والجهل -سددكم الله ويسر أمركم- وخير من هذا أن تصلوا صلاة الاستخارة، وتدعو الله أن يهديكم وييسر أمركم، وسلامي وتقديري للإخوة هناك، ولكم منا خالص الشكر .
=============
الدراسة في بلاد الغرب
المجيب …سلمان العودة
المشرف العام
التصنيف …فقه الأقليات
التاريخ …21/11/1423
السؤال
أنا شاب ملتزم - إن شاء الله - في بداية الطريق, أود متابعة الدراسة في بلاد الغرب (أوروبا) نظراً لارتفاع نسبة البطالة في بلادي، وأريد أن تفتوني في هذا.
الجواب
أفضل أن تحاول أن تبحث عن فرصة عمل في بلدك وألا تخرج إلى أوروبا. السفر والإقامة هناك لها ثمن ربما يكون من الصعب عليك دفعه، "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" [الطلاق:2]، لكن إذا تعذر أمرك وقصدت الذهاب فمن الواجب أن تأخذ في اعتبارك المحافظة على دينك، وأفضل الطرق الاتصال بمركز إسلامي والاشتراك معه والارتباط به، والاتصال بإخوة لك في الله، وتجنب العمل في المواقع المحرمة، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال.
==============
الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إعداد. د. صلاح الدين سلطان
مقدمة
الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله،وبعد
فأحسب أننا نحتاج إلى جهود عديدة في وضع الضوابط والمعايير التي تحكم عملية الاجتهاد في فقه الأقليات، ولقد حرصت من خلال معايشتي لكتب أصول الفقه والقواعد والمقاصد مع معايشة يومية وزيارات ميدانية للمسلمين في أمريكا وأوروبا والهند والصين وغيرها على أن أساهم في رؤية متواضعة بين يدي أساتذتي وإخواني العلماء في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لعلي أحظى بتقويمهم وأنعم بدعائهم.
وقد اخترت لفظ الضوابط قاصدا به الإطار الذي يحكم عملية الاجتهاد للأقليات المسلمة، وحرصت ألا أكتبها القواعد حتى تناقش وتنقح، أما كونها منهجية لأنها ترسم الطريق في عقل ووجدان المجتهد أن يستصحب هذه الأطر والضوابط عند الاجتهاد، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أما الأقليات المسلمة فهم في نظري حقيقة نوعان:-
- أولاً: أقلية عددية في أوروبا وأمريكا والهند والصين على سبيل المثال لا الحصر.(1/31)
ثانيا: أقلية في الحقوق القانونية بما يمارس عليهم من اضطهاد مثل مسلمي كشمير والشيشان وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا ..إلخ وقد يدخل فيها بعض الدول الإسلامية التي لا تحظى فيها الأكثرية المسلمة بحقوق الأقلية غير المسلمة، ويطارد فيها الدعاة والمصلحون، ويعيشون ظروفا أسوأ بكثير والمسلم الذي يعيش في الغرب.
أدعو الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا رشدنا وأن يوفقنا لحمل الأمانة وأداء الرسالة كما أنزلها الله تعالى حنيفية سمحة كالمحجة البيضاء.
الضابط الأول: تعميق الشعور بالموطنة:
من فطرة الإنسان السوي أن يحب الوطن الذي تنسم هواه و تضلع بمائه و تشبع بطعامه و تنعم بخيراته و اعتز بتراثه و الفقه لا يصادم الفطرة السوية بل يحرص على أن يمدها بالتزكية و الاعتدال.
و إذا كان المسلمون الأقلية لا يشعرون بالانتماء إلى بلد استوطنوه فإن هذا يعد خدشا في المروءة و طعنا في الكرامة و يفتح باب الذرائع أن تتوجس الأكثرية من هذه الأقلية فينفونهم أو يضطهدونهم.
و إذا كان الفقه يعالج و اقعا قائما فنحن أما ما يلي:-
1-…المسلمون في أمريكا أكثر من 8 ملايين منهم 22.4 % أميريكيون أصليون و 77.6% مهاجرون استوطنوا أمريكا حسب ما نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عن "الإسلام في أمريكا" و نسبة المهاجرين منهم أكثر من 40% هم أبناء إما أتوا صغارا أو ولدوا في البلد نفسه و صلة هؤلاء ببلاد آبائهم صلة حنين و متعة يثيرها الآباء في الأبناء بالحديث عن الوطن و الجد و الجدة و العم و الخال لكن هؤلاء يشعرون أن أمريكا هي بلدهم و هي جزء من حياتهم و قلوبهم
2-…المسلمون في أوروبا (شرقية و غربية) يعيشون المشاعر ذاتها و أغلبهم لا يملك إمكانية العودة إلى دياره الأولى تحت ضغط الفقر و القهر.
3-…المسلمون في الصين أكثر من 150 مليون هم جميعا أصليون
4-…المسلمون في الهند أكثرمن 200 مليون مسلم هم من نخاع الهند
5-…المسلمون في دول شرق آسيا هم أصليون أغلبية أو أقلية في أوزباكستان و طاجكستان و كازاخستان و قيرقيزيا و أذربيجان و تايلاند و سنغافورة و سيريلانكا.
6-…المسلمون الأقلية في أفريقيا هم مواطنون ليس لهم دار غير دارهم في تنزانيا و أوغندا و كينيا و غانا و النيجر و جنوب افريقيا.
لمثل هؤلاء و غيرهم في اليابان و استراليا و ..... يجب أن يصدر المجتهدون و الفقهاء و الأئمة و المصلحون من فقه المواطن لا المهاجر، القيم لا الراحل، ابن البلد و ليس الدخيل ؛ لأن هذا هو الواقع أولا، ولأن الوفاء للمكان الذي فيه درجت أو احتميت أو ارتويت بعد ظمأ أو شبعت بعد جوع و تعلمت بعد جهل أو تحركت بعد كبت يوجب خلق الوفاء أن يشعر بحق هذا البلد عليه في الإصلاح و المشاركة الجادة في نموها و استقرارها، و هذا لا يمنع من الحنين إلى الموطن الأصلي إن وجد لدى "المهاجرين" كما كان -صلى الله عليه وسلم- تدمع عيناه أصيلا يمدح مكة و كذا بلال و غيره لكنهم استوطنوا المدينة وأقاموا بها و حولت إلى مهد للخير و النور في الأرض كلها ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدينة أن يبارك في صاعها ومدها و أن ينقل حماها إلى الجحفة فصارت يثرب طيبة في هوائها و مائها وغرسها و أهلها.
ولست أعني هنا أن يشعر المسلم المقيم في دول غير إسلامية بما كان يشعر به الصحابة نحو المدينة حيث اجتمع فيها النص الشرعي مع التطبيق العملي في سلطة شرعية و دولة إسلامية صارت نورا للبشرية ولكن أعني أن الحنين إلى بلد الولادة و المنشأ لا حرج فيه و لا يمنع من المقام في بلد آخر، و إصلاحه و الحنين إليه أيضا و الوفاء لحقه هذا مع الأخذ بالاعتبار أن النسبة الأكثر في الأقلية المسلمة هم مولودون أو ترعرعوا في بلاد عير إسلامية إذا أضفنا الأبنا ء إلى الأصليين.
و إذا كانت قضية المواطنة في البلاد غير الإسلامية موضع خلاف حتى الآن فإن الذين يصلحون للفتوى و الاجتهاد هم أولئك الذين يرون صحة أو استحباب أو وجوب الإقامة و التوطن في البلاد غير الإسلامية حملا للأمانة و تبليغا للرسالة و ابتعاثا في الخير كما نص القرآن (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، و قال النبي -صلى الله عليه و سلم- (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و قد هيمنت فكرة الابتعاث إلى الخير حتى على الأعراب مقولة ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد غلى عبادة رب العباد و من جور الأديان غلى عدل الإسلام و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا و الآخرة".
و في جميع الأحوال لو أجمع فقهاء الأرض الآن على عدم صحة الإقامة و المواطنة فلن يغير هذا من الواقع البلاد التي بها أصليون، و لن يرحل أكثر المهاجرين إلى بلادهم التي عانوا منها، فهل من وظيفة الفقه أن يؤثم الناس ، أم يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم؟!(1/32)
ولذا يبدو لي أنه يظهر المسلم في أي بلد أنه مواطن يحب بلده و يكره من يفسدها و يعاديها و هو حام لحماها حريص على حاضرها و مستقبلها و هذا لا يعني الولاء للأديان التي علت بفسادها أو الأفراد الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون أو الحكومات التي تسن القوانين المخالفة للإسلام بل هو ولاء للبلد الذي يحمل صاحبه على التفكير الجاد في أن يقدم الخير لشعبها و أرضها حتى يحقق فيها رحمة الإسلام للعالمين، ويبذر الخير للناس أجمعين.
وعليه فلا حرج حتى على المهاجرين أن يقول أنا مسلم فرنسي أو مريكي أوياباني من أصل شامي أو مغربي أو مصري أو هندي ....إلخ كما أنه لا حرج أن يعتز ابن البلد الأصلي ببلده لا بحكومتها و لا بقوانينها المخالفة لدينه و أن يقول كل لأخيه :
خليلي إنا مقيمان ها هنا…وكل مقيم للمقيم ينسب
وليس كما قال الشاعر
خليلي إنا غريببان ها هنا…وكل غريب للغريب ينسب
الضابط الثاني: تأكيد المسؤولية عن إصلاح الوطن:
يجب أن يكون الاجتهاد لفقه الأقليات دافعا إلى تأكيد دور المسلم في إصلاح وطنه و مجتمعه و عالمه لا أن ينحصر في فقه الحماية من الفتن و الوقاية من المحن، مثل من يدعون إلى وجوب إنشاء المدارس الإسلامية حماية لأبنائنا من الفتن لكن لا يوجد فكر قيادي إصلاحي لبناء قيادات حية من أبنائنا تنفع المجتمع و تقوده إلى رشده و مثل من يدعو إلى المشاركة في الانتخابات حتى لا تضيع حقوق الأقلية و تمنع الحكومات و لو جزئيا من التمييز العنصري أو مساندة الظلم العالمي على فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو كشمير أو الشيشان، هذا الفقه ضيق عن استيعاب الرسالة كلها، أو الدور الكامل للمسلم أن ينفع نفسه و أهله وفي الوقت ذاته يصل خيره إلى مجتمعه صالحا أو طالحا، و بلده حتى لو كانت تحكم بالشر لأن هذا هو الميدان الحقيقي للدعوة و إلا فأين مجال الإصلاح الذي أوجبه الله علينا؟
و من الدلالة على وجوب تبني اجتهادات فقهية للأقليات تدفعهم إلى إصلاح بلدهم و مجتمعهم ما يلي:
أولا: قوله تعالى "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم و اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين، و ما كان ربك مهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون" هود:116 ، 117
هاتان الآيتان هما خلاصة سورة هود في رسالة الأنبياء حتى لا يدركهم الهلاك، و الآية الأولى تتحدث عن قوم أولي بقية من عقل أو دين كما يذكر القرطبي يقومون بواجب الإصلاح و البيان و النهي الفساد عن الأرض و ليس في ديار الإسلام فقط، و أن قيام هؤلاء بواجب الإصلاح هو العاصم من القواصم و الحافظ من الإهلاك في الآية الثانية
ثانيا: لقد شغل سيدنا إبراهيم عن البشرى الكبيرة أن يرزق بولد "إسحاق" من زوجته الأولى "سارة" شغل عن هذا كله بالجدال مع الملائكة عن قوم لوط ألا يعجلوا عليهم في العقوبة لإعطاء فرصة أخرى لإصلاحهم و لقد صور القرآن هذا المشهد المؤثر في حرص الداعية و المصلح على قومه حتى لو كانوا لوطيين في هذه الآيات: "فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إن قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود." هذا الموقف المهيب الذي يقف فيه سيدنا إبراهيم يجادل عن قوم لوط ووصفه الله تعالى بالحلم و هي صفة ضرورية للمصلحين و امتدحت حرصه، لكن جاء الأمر الرباني بأن هؤلاء قد استنفذوا كل الوسائل و انتكست فطرهم و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.
ثالتا: ما رواه البخاري بسنده عن عروة عن عائشة فالت سألت النبي -صلى الله عليه و سلم-: هل مر عليك يوم أشد من هذا اليوم "يوم أحد" فذكر لها يوم أن اشتد إيذاء قومه له فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال بعرض عليه -صلى الله عليه و سلم- أن يهلك أهل مكة جميعا فقل -صلى الله عليه و سلم-: لا بل أدعو الله لهم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز و جل". هذا الموقف النبيل من النبي - صلى الله عليه و سلم- في الوقت الذي أمعنت فيه قريش في الإيذاء، و كانت تملأ المسجد الحرام أصناما حول الكعبة، و تطوف النساء و الرجال عرايا و تقول المرأة:
اليوم يبدو كله أو بعضه ** فما يبدو منه فلا أحله
وإذا خرجت من المسجد الحرام فستجد في مكة نفسها بيوتا للدعارة عليها رايات حمراء كما جاء في حديث البخاري عن عائشة أيضا، بالإضافة إلى ظلم الأغنياء للفقراء و السادة للعبيد، والقوي للضعيف و الرجل للمرأة ، لكن هذا كله لم يدفع النبي إلى طلب هلاكهم، بل سعى لإصلاحهم و دخل كثير منهم في دين الله أفواجا، و صاروا مادة للإسلام و عونا للمسلمين.
رابعا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية "حلف الفضول" لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت، يبين بجلاء أنه إذا وجد المسلم سبيلا إلى إنشاء أو المشاركة في مؤسسات ذات هدف أخلاقي أو مبدأ إنساني، أو قصد إصلاحي يجب أن يبادر المسلم إليه.(1/33)
خامسا: قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110) توضح أننا أمة لا تتقوقع حول نفسها، ولا تنحصر في ذاتها بل هي أمة ابتعاث وإخراج إلى الناس بنور القرآن والسنة، أمة تمشي بالنور في الناس وليس في المسلمين فقط، أمة أمرها الله تعالى بالسير في الأرض كلها اثنتى عشرة مرة، وبالضرب في الأرض أربع مرات، وبالمشي فيها أربعا أخرى، أي عشرين مرة سيرا وضربا ومشيا.
وإذا جئنا من هذه النصوص الجلية إلى أوضاعنا الحالية فسنجد أن مجتمعاته الغربية صارت فيها الحرية جزءا من الهواء الذي يتنفسونه وهي فرصته كما قال الشاعر:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فاته أمر عاتب القدرا
وإذا كان نكسون قد كتب كتابه "الفرصة السانحة" فهي أيضا فرصته لنا أن نتقدم ببرامج إصلاحية لنا وللمجتمع الذي نعيش فيه وأضرب على ذلك مثالاً: شكل وزير التعليم الأمريكي "تيربل بل" عام 1981م لجنة من ثمانية عشر عضوا من الخبراء في التعليم والتربية والاقتصاد والاجتماع و... لدراسة كيفية النهوض بالتعليم في أمريكا، وأجرت اللجنة حوارا مفتوحا مع الآباء والأمهات وأساتذة المدارس والجامعات والطلاب والطالبات و... انتهت إلى تقرير أن أمريكا أقل دولة في مستوى التعليم بين 19 دولة متطورة تم إجراء استبيان فيها مرارا وأن هناك 23 مليون أمريكي أميون ونصف الموهوبين لا يحققون مستوى علميا يتناسب مع مواهبهم، و40% من طلاب المدارس في سن سبعة عشر لا يستطيعون نسخ مادة مكتوبة، وذكر التقرير أنه لو أرادت قوة معادية أن تفرض أداء تعليميا قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة لإعلان الحرب لكن ذلك يحدث من خلالنا، لقد بددنا هذه المكاسب التي حصلنا عليها في رفع حصلنا عليها في رفع المستوى العلمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي "سبوتينك" ودعت الجميع إلى المشاركة في إصلاح التعليم.
وأقول: ماذا لو شارك المسلمون في هذا الحوار وقدموا رؤية تعليمية تربوية فيها التوازن بين الروح والجسد، الأخلاق والواقع، الفرد والمجتمع، دور الرجل والمرأة، طرق محاربة الجريمة، بل كم من الخير لو تبنى المسلمون محو أمية 23 مليون أمريكي كم يمكن أن يسلم لله تعالى أو يحمل الخير للإسلام والمسلمين أو يكون حياديا.
لذا يجب أن تسير الفتاوى والاجتهادات الفقهية إلى دفع المسلم أن يكون مواطنا مصلحا وإنسانا نافعا، لا يتردد في إنشاء مؤسسات أو المشاركة إن وجدت والتعاون مع أبناء بلده مسلمين وغير مسلمين لوقف الظلم ووقف الحروب والحفاظ على البيئة، ووقف العنف الاجتماعي، وإحياء الأمومة والأبوة والاهتمام بالمرضى والأيتام والفقراء و المساكين، والتأكيد على النظافة وتعميم الخدمات الصحية والرفق بالحيوان ومحاربة المخدرات والتدخين، ورعاية فقراء العالم والمتضررين من الحروب واللاجئين.
إنني أرجو ألا يغالي علينا أعداء الإسلام بأن المسلمين بيننا قوم نفعيون قد أفادوا من المال والعلم والحرية لأنفسهم لكنهم لم يقدموا لبلادهم أوموطنهم شيئا! بل يكون واقعنا العملي "خير الناس أنفعهم للناس".
الضابط الثالث: ضرورة فقه النص والواقع معا:
لا أعلم مخالفا من علماء المسلمين أن الفتوى أو الاجتهاد يجب أن يصدر ممن جمع فقه النص والواقع وأن يجيد إنزال النص على الواقع، والحق أن مجتمع الأقليات المسلمة مبتلى في هذا الجانب بلاء شديدا وعلى سبيل المثال:-
في أمريكا حسب إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 2000 مركز إسلامي، وروادها حسب دراسة أجرتها جامعة هارتفورد مستعينة بعدد من المؤسسات الإسلامية أكثر من 2 مليون مسلم، والواقع أكثر من هذا ولكن:
أ .…لا يوجد أئمة عندهم مؤهل شرعي (فقهي، دعوي، دراسات إسلامية عامة) إلا 240 إماما والباقون غير متخصصين، وبعضهم فيه نبوغ علمي وشرعي ولكن كثيرا منهم يحمل فكرا عشوائيا، فهو يحضر موضوعا لخطبة أو درس أو يقرأ في باب لأنه استفتى فيه، أما الدراسة المنظمة لعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه حتى يصل من الجزئيات إلى مقاصد الشريعة ويتكون لديه الحس الفقهي أو فقيه النفس فهذا أمر نادر جدا.
ب .…كثير من هؤلاء الأئمة رغم فضلهم وشرفهم وسمو رسالتهم ودورهم إما لم تؤهلهم مدارسهم الشرعية التأهيل الكافي، أو تمت عمليات تسطيح فكري تحت ضغط ظروف المصلين المتعجلين فصار الاجترار أكثر من الابتكار، وآفة العلم الترك فنسي بعضهم ما تعلمه ودار في فلك المواعظ والخطب التي تشبه الأكلات السريعة.
ت .…أن الجميع في حاجة إلى فقه المجتمع الأمريكي تاريخا وتحديات وآمالا ومشكلات وجرائم وحلولا وهو أمر لا غنى عنه حتى يستطيع أن يشارك في بناء الشخصية الإسلامية الحية في مجتمعها التي تحمل الاعتدال لا الاعتداء أو الاعتزال، هؤلاء جميعا بحاجة إلى دراسات منظمة وليست قراءات عشوائية، ودورات متدرجة ليرتفع إلى المستوى الذي ابتلى بالإصلاح فيه.
والحق أن علوم الإدارة قد تطورت وصارت تعتمد التخطيط للحاضر والمستقبل ولا بد أن يبنى التخطيط على فهم وعلم بأدوار أربعة جمعوها في (SWOT) هى:(1/34)
(1)…معرفة عناصر القوة في المجتمع (Strength)
(2)…معرفة عناصر الضعف (Weakness)
(3)…معرفة الفرص المتاحة (Opportunities)
(4)…معرفة التهديدات (Threat)
هذه فقط مجرد قاعدة بيانات قبل وضع الهدف الكلي والأهداف التفصيلية ثم وضع الوسائل العملية ثم تنزيلها في فترات زمنية وخطوات مرحلية (قصيرة وبعيدة المدى) ثم المتابعة الميدانية والتغذية الارتجاعية، وفي إطار هذا توضع الميزانية ويتم اجتلاب الأكفاء ذوي التخصصات العلمية. فهل يجوز لنا أن نتقدم لإصلاح دنيا الناس وآخرتهم مع الغفلة عن هذه الجوانب الحيوية في واقع الناس حولنا.
أحسب أن عملية التأهيل لفقه النص والواقع والتدريب على الفتوى التي تعالج آلام الواقع ولا تنقل هموما تاريخية أو بعيدة مكانا إلى موقع يمتلئ بالأزمات ويحتاج إلى مفتي أو فقيه شجاع يخوض بعلم وخشية من الله كي يصلح واقعه.
يبدو لي أن نجاح فقهائنا ارتبط بهذا المستوى الرفيع من فقه النص والواقع الذي جعل سيدنا عمربن الخطاب لا يتردد في فتاوى وقرارات إدارية شرعية كان قد أشاربغيرها على سيدنا أبي بكر، وواجه قضايا جديدة بفقه فريد، وتبعه علي بن أبي طالب حيث رد حد الشارب إلى أربعين ،وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب بثمانين قياسا على حد القذف ، وكان عمر بن عبد العزيز يفتي في المدينة بشاهد واحد ويمين لصاحب الحق ، وجاء تلاميذ أبي حنيفة أبو يوسف والشيباني وابن أبي ليلى ليخالفوا إمامهم اختلاف عصر وزمان ، وليس اختلاف حجة وبرهان ،وكان للشافعي فقهه في العراق ،وآخر في مصر . وناقش ابن تيمية وابن القيم قضايا فقهية قيل فيها إجماع الفقهاء على حكم اجتهادي لا نص قطعي ولم يترددوا في طرح قضايا جديدة تناسب واقعهم وكتب ابن القيم في هذا بما لم يسبق إليه في اختلاف الفتوى لتغير الزمان والمكان والأحوال. وبحق يجب أن تأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد اعادة الاجتهاد فيها إذا مر عليها خمسون عاما أو تغير المكان ألف ميل وهي اشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع لا الثوابت والأصول. والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية.
الضابط الرابع: الإحاطة إلى الاجتهاد الجماعي في القضايا العامة:
هناك قضايا جزئية أو فردية يمكن لعالم أو إمام أن يفتي فيها وحده سواء ناقلا للفتوى أو مجتهدا أصالة ، لكن القضايا العامة أو بعبارة الفقهاء مما عمت بها البلوى الأصل أن تحال إلى العقل الفقهي الجماعي ، كما ينبغي أن يتحرج أي عالم أو إمام أن يفتي فيها وحده ، وذلك اقتداء بسلفنا الصالح الذي كان يبني الفتوى على هذا التشاور للعقل الجماعي لا الفردي ومنه:
1 - ما قاله الإمام أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري في كتاب القضاء: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به ، فإن أعياه ذلك ، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا ، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به.
2- ذكر الإمام الدارمي في سننه بسنده عن المسيب بن رافع أن الصحابة كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها ، وأجمعوا ، فالحق فيما رأوا…
3 - وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب كان يجمع علماء الصحابة يستشيرهم فيما ليس فيه نص ، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به ، ولما سير أبا موسى الأشعري إلى البصرة أوصاه بذلك.
4-…وروى الطبراني في الأوسط بسنده عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في كتاب ولا سنة ، فكيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ، ولا تقضي فيه برأيك خاصة.
ولهذا نجد الإمام الماوردي في صفحاته الأولى من كتابه الأحكام السلطانية يؤكد على هذا المعنى بإيراده قول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا(1/35)
وأحسب أن من اللزوم الضرورية في الاجتهاد الجماعي ما تأسس في المجامع الفقهية من استصحاب ذوي العلم في التخصصات العلمية مثل الطب والفلك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون و... وذلك للتطور والتعقد الذي اصطبغت به الحياة المعاصرة وصار تطور كل جانب يقاس بمدى اتساع آفاقه وفروعه وجوانبه خلافا لبساطة الحياة وسهولتها من قبل حيث كان العالم الشرعي يلم بأصول الحياة التي تمكنه من الفتوى دون حرج ، لكن الآن يستحيل أن يحيط علماء الشريعة وحدهم بجوانب الحياة المختلفة مما يوجب الاستعانة بالخبراء في المجال الذي يتصل بالفتوى أو موضوع الاجتهاد ، ليس من باب الاستئناس بل من باب التأسيس.
ولا مانع هنا شرعا ولا عقلا أن يكون هؤلاء الخبراء غير مسلمين ، مع ضرروة الإشارة إلى تكوين علماء وفقهاء ومتخصصين من أبناء البلاد الأصليين من الأمريكيين والأوروبيين و... ليكونوا جزءا من المجامع الفقهية بعد اعدادهم دون تعجل ، لكنه أمر يجب أن يوضع في الحسبان ، وأن توضع له البرامج التي تخرجه إلى حيز الوافع العملي.
الضابط الخامس:اجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية في الاجتهاد:
لعل أكثر الناس حاجة إلى تقوى القلب هم العلماء والأئمة لأن زلة العالم يضل بها عالم ، واجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية أمر لا مناص منه في الاجتهاد الصحيح ، لأن غياب الحجة الشرعية يؤدي إلى ضعف الاجتهاد وارتباك الفتوى ، ويؤدي إلى أن يضع الانسان نفسه على حافة جهنم والعياذ بالله من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. ابن القيم يذكر أن كثرة الفتوى من كثرة العلم أو قلته. أما الخشية القلبية فهي واضحة جلية في النصوص الشرعية حيث يقول الله تعالى: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله" ( الأحزاب: ) ويقول سبحانه: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء. ) والأحاديث كثيرة عن الذين يكبهم الله على وجوههم لأنهم خافوا الناس مع علمهم فسكتوا أو أفتوا بغير ما يعلمون ويقول الله تعالى لهم : كنت إياي أحق أن تخشى ويكب على وجهه في النار.
هذه في الواقع صارت ضرورة بعد أن كانت غالبة في علمائنا حيث ابتلى الأئمة الأربعة وصبروا على البلاء وأبى كل أن يداهن أو يقول بخلاف ما يعلم ، وكذا ابن تيمية والعز بن عبد السلام كان يصدع بالحق حتى جعل الله تعالى على يديه صناعة الأمراء ومنهم سيف الدين قطز وكان هذا سببا في مواجهة جيوش المغول التى أحرقت الأخضر واليابس وقتلت وهتكت الأعراض وأهدرت تراثا علميا رائدا لم يكن هدا الفتح من تحصيل العلوم والمعارف في لبنات العقل فقط بل صاحبه انكسار في القلب من خشية الله دفعتهم إلى قول الحق ولو كان مرا وهذا الذي يجعل العامة توقر العلماء أو تقتدي بالأئمة وتحول القضايا الأساسية من النخبوية إلى الشعبية حتى يشيع الخير ويتم التغيير والإصلاح.
على أن هناك جانبا آخر لهده القضية وهى التى تجعل من هؤلاء العلماء والأئمة أصحاب رسالة مؤثرة تخرج من جدران المجامع والجوامع إلى جميع المواقع هى أن يكون هؤلاء صمام أمان من انفلات المتهورين أو انعزال المتوجسين ليدفعوا بالناس إلى التوسط والاعتدال وحسن الحوار والجدال ولذا قال أستاذنا العلامة الشيخ القرضاوي عبارته الدقيقة في المجلس الأوروبي للإفتاء في دروته المنعقدة في فرنسا : إن اتباع أهواء العامة لا يقل عن اتباع أهواء السلاطين حيث يقترب بعض الدعاة أو الأئمة مما يسمى بـ ما يطلبه المستمعون" فإن وجد من حوله يميلون إلى مذهب معين زكاه على غيره ، أو جماعة معينة رفع من قدرها على حساب غيرها، أو يميلون إلى التشديد والعنف يخشى أن يفتى باليسر. أو وجد بين قوم متساهلين يفتى لهم بالرخص في كل مذهب. وهذا كائن في الغرب خاصة لأن مشايخنا غالبا ما تخضع رواتبهم لمجالس إدارات مختلفة في أمزجتها واتجاهاتها وتضيع معالم الاجتهاد الإصلاحي ليظهر الاجتهاد التسويفي وبهذا يضعف دور العلماء في الشرق باتباع أهواء السلاطين وفي الغرب باتباع أهواء العامة من المسلمين إلا من رحم الله ورزقه قوة في عمله ويقينا في قلبه وشجاعة في نفسه لينهض بواجبه في تقدير المصالح والمفاسد وتحرى الأسباب والمقاصد ويفتى الناس بما يرضي رب الناس. ويحسن التوكل عليه ملتمسا منه الحفظ والأمان فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. فإن ابتلى صبر موقنا أنه بصبره وتوكله على الله سوف تصل رسالته إلي نياط القلوب الحية والعقول الدكية فتؤتى ثمارها بإذن ربها كما ننهل الآن من علم أئمتنا الأعلام مع تباعد الزمان . وهده من سنن الرحمن التى لا تتخلف في أي زمان أو مكان.
الضابط السادس: اعتماد فقه المقاصد في العبادات والمعاملات:(1/36)
مما لا شك فيه أن أفعال الله تعالى وأوامره تخلو من العبث بل لكل أمر هدف أو أهداف ومقاصد تدركها العقول أو لا تدركها و نحن في فقه الأقليات يلزم أن نرجع الى تراثنا الفقهي وسنجد أن فقهاءنا لا يكاد يخلو أحدهم من فقه المقاصد والتعليل إلا ما ورد عن ابن حزم ومدرسته الظاهرية لكن الجمهور يقولون بالتعليل والمقاصد وإن كان بعضهم كتب مشيرا أو مؤصلا أو منظرا لكن أغلبهم في التطبيق العملي عند الإفتاء والاجتهاد يأخد بالمصالح والمقاصد وإلا ما ظهر القياس وهو جوهر التعليل المحدد والمصالح وهو التعليل الموسع والاستحسان وسد الذرائع والحيل الشرعية وهى في مجملها تدور حول فقه المقاصد.
ولذا يبدو لي أن من الأهمية إعادة دراسة من كتب مشيرا أو منظرا مثل ما كتبه أبو منصور الماتريدي في مأخد الشرائع أو ما كتبه القفال الكبير أبو بكر في محاسن الشريعة وما كتبه أبو بكر الأبهري المالكي في مسألة الجواب والدلائل والعلل وما كتبه الباقلاني في الأحكام والعلل والمقنع في أصول الفقه وما كتبه الجويني في البرهان والغياثي وما كتبه الغزالي في المستضعف وشفاء العليل والإحياء والنحول وما كتبه فخر الدين الرازي في التفسير الكبير وما كتبه الآمدي في الأحكام في أصول الأحكام وما كتبه ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل في علمى الأصول والجدل وما كتبه البيضاوي في منهاج الوصول إلى علم الأصول وما كتبه الإسنوى في نهاية السول في شرح منهاج الأصول وما كتبه العز بن عبد السلام في شجرة المعارف وقواعد الأحكام في مصالح الأنام وما كتبه شهاب الدين القرافي في الفروق وما كتبه نجم الدين الطوفي في المصلحة رغم جنوحه أحيانا. وما كتبه ابن تيمية في الفتاوى وما كتبه تلميذه ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين والطرق الحكمية في اصلاح الراعي والرعية وبدائع الفوائد وما كتبه ابن السبكي في جمع الجوامع بحاشية البناني وما كتبه وأصله وفرعه الإمام أبو إسحاق الشاطبيفي الموافقات والاعتصام وما كتبه الشوكاني في إرشاد الفحول ونيل الأوطار وما كتبه شاه الله الدهلوي.
وما كتبه الشيخ محمد عبده وتلميده الشيخ محمد رشيد رضا في المنار وما كتبه ابن عاشور في المقاصد الشرعية والتحرير والتنوير وما كتبه علاء الفاسي عن المقاصد الشرعية وما كتب على يد أعلام الفقه المعاصر مثل شيخنا أبي زهرة والخضري وعلى حسب الله والشيخ القرضاوي ود. عبد المجيد النجار ود. إسماعيل الحسني وأحمد الريسوني ود. يوسف العالم ود. طه العلواني ود. محمد البلتاجي وآخرون.
هده الثروة الهائلة تحتاج إلى دراسة ووعي وهضم يجعل للمقاصد مكانها في العبادات والمعاملات.
وإني هنا لا أفرق بين العبادات والمعاملات في فقه المقاصد وإمكانية إدراكه فقد تخفى على فقيه دون غيره لكن لكل مقصد قد تدرك كثيرا منه في المعاملات ويكون أقل في العبادات لكن عدم العلم لا ينفي الوجود ولذا لم يكن هناك بأس من صلاة التراويح في المسجد أيام عمر وجعلها عشرين وزادها سيدنا عثمان غلى ست وثلاثين وأحدث أذانا في الزوراء وجاز إخراج زكاة الفطر نقدا أو من غالب قوت أهل البلد وجاز في الرجم اختيار أيسر الأوقات للنساء والضعفاء وأصحاب العلات. لكن فقه المقاصد لا يعنى تجاوز نص قطعي في حكم جزئي لمخالفته في ذهن المجتهد مقصدا عاما بل الأولى إعمال النص لا إهماله والجمع وليس النسخ أو الترجيح من أول بادرة لأن المقصد الكلي أخد من نصوص جزئية ويستحيل تعارض الجزئي مع الكلي في النصوص الشرعية ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ولعل أكثر الفقهاء الأول الذين جمعوا العمل بالنص في الأمر الجزئي والمقصد الكلي سيدنا عمر بن الخطاب حيث توقف في تقبيل الحجر الأسود والاصطباع والرمل مع النص ، وتوسع في الاجتهاد المقاصدي في سهم المؤلفة قلوبهم في مصادر الزكاة وقطع يد السارق في باب العقوبات والإلزام بالطلقات الثلاث ، ومنع أبي حديفة من الزواج بالكتابية ومنع توزيع أرض السواد وورث الأم الثلث الباقي بعد الزوج ليعطي للأب ضعف الأم والعول والمسألة المشتركة و... مما أجاب عنه أستاذي الدكتور محمد بلتاجي في منهج عمر بن الخطاب في التشريع في أن سيدنا عمر كان ممن ينحو نحو فقه المقاصد والمصالح في جميع الأحكام والأقضية.
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن حادثة صلاة العصر في بني قريظة كانت اجتهادا مقاصديا في أمر تعبدي فيه نص قطعي دلالة وثبوتا لكن الذين صلوا في الطريق هم سلف أهل المعاني والقياس والذين صلوا في بني قريظة هم سلف أهل الظاهر كما ذكر ابن القيم وهما نمطان فكريان وتبقى أن تجتمع القلوب مهما اختلفت العقول فإن اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.
الضابط السابع: مراعاة الأولويات وفقا للإمكانات الداخلية والظروف الخارجية:(1/37)
من الواجب حقا أن تراعى الأولويات وفقا لهذين المعيارين "الإمكانات الداخلية والظروف الخارجية" اقتداء بالهدى النبوي والنص القرآني مما لا يخطئه البصير بكل مرحلة من مراحل الدعوة . ففي المرحلة الأولى كان إخفاء الدعوة ولم يعلن عن أسماء المسلمين حتى أسلم حمزة وعمر وكانت علانية الدعوة واستمر إخفاء أسماء الضعفاء وهاجر قوم إلى الحبشة منعا للصدام وفتحا للحوار وللدعوة في أرض لا يظلم فيها أحد وكان المنهج "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة".
ولم يستجب النبي صلى الله عليه وسلم للظروف الخارجية من الإيذاء والتعذيب والاستهزاء حتى قتلت سمية بنت خياط بضربة في قبلها وقتل زوجها ياسر والنبي يقول: صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. ونهى سعدا أن يستعجل أمرا قبل أوانه لقوله تعالى : ولا يستخفنك الدين لا يوقنون" لكن النبي لما صارت عنده دولة لم يسكت على مجرد كشف عورة امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع وهو أمر أيسر كثيرا مما حدث مع سمية ، لكن الآن معه دولة بعد أن كانت جماعة مطاردة ، ومع هذا واجه بني قينقاع وعلمنا العدل بعدم تعرضه لكل اليهود وكان بجوارهم بنو النضير وبنو قريظة لم يتعرض لهم حيث لم تبد منهم خيانة آنئد. لكن النبي مع وجود الدولة كان مستعدا للتفاوض مع بعض قبائل بني غطفان وغيرهم على أن يعطوا ثلث ثمار المدينة عندما جاء عشرة آلاف مقاتل إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين ، ومع حفر الخندق لم يعد هناك حماية بعد خيانة يهود بنى قريظة من ناحية الجنوب فصارت المدينة بلا حماية ، ولولا رفض قيادات المدينة لكان الأمر قد تم.
وتساهل أيضا في بعض الكلمات والبنود في صلح الحديبية مثل كتابة باسمك اللهم ، ورسول الله ، أو شرط رد المسلم إلى الكفار إن وصل إلى المدينة وذلك لأولوية أكبر وهي الانتشار الدعوي داخل الجزيرة وخارجها ولم يدفعه جلد المؤمنين وبيعتهم على الموت والجهاد وصلف الكافرين في ردهم لهم عن المسجد الحرام أو الشروط لأن هناك أولوية أكبر وهى الانتشار الدعوى داخل وخارج الجزيرة ولم يصغ الى حمية عمر بن الخطاب وغيره ولم يتراجع عندما توقف الأصحاب عن التحلل بالحلق والذبح بل مضى غير مجامل ولا تابع لهده الرغبات العارمة ويزداد الأمر وضوحا في سيرته عندما دخل مكة فاتحا ودخل الناس في دين الله أفواجا لكنه لم يهدم الكعبة ليبهينها على قواعد إبراهيم خشية أن يرتد حديثو العهد بالاسلام ولم يقتل المنافقين مراعاة لأولوية جمع الصف ولم الشمل وألا يصد هذا أحدا عن الدخول في الإسلام وهو نفس المبدأ المستفاد من موقف سيدنا هارون مع بني اسرائيل لما عبدوا العجل وعاتبه سيدنا موسى .
هذه بعض الأدلة على مراعاة الأولويات وهو ما أصله استادنا العلامة الشيخ القرضاوي في فقه الأقليات والأولويات والمآلات والموازنات وشاركه عدد من العلماء مما يحتاج إلى مزيد تأصيل وتعميق وتوسيع حتى يكون جذرا من جذور الاجتهاد في كل اجتهاد خاصة فقه الأقليات.
ويبدو لي وهدا يحتاج الى اجتهاد جماعي أن أولويات المسلمين في الغرب تترتب كما يلي:
أولا: التوازن بين بناء الرجال والنساء وبناء المؤسسات.
ثانيا: اعداد قيادات حية من أبناء البلد الأصليين.
ثالثا: استيعاب الشباب والفتيات في برامج تربوية ودعوية متدرجة.
رابعا: الوحدة الإسلامية بين الجماعات والجنسيات.
خامسا: السعى لبناء الوقف الخيري لاستقرار المؤسسات الإسلامية.
سادسا: انشاء قنوات فضائية ومؤسسات اعلامية باللغات الحية في العالم.
سابعا: فتح الحوار والجدال بالحسنى مع غير المسلمين وتقديم النفع لهم.
ثامنا: انشاء مشاريع اقتصادية على أسس اسلامية توقف استمرار أموال المسلمين تروسا في عملية الاقتصاد الربوي.
هذه مجرد رؤية عامة تحتاج الى نظر فقهي جماعي كما أنها لا تلغي خصوصات كل بلد واقليم ومدينة فأهل مكة أعلم بشعابها ولا شك أن أولويات مسلمي أمريكا وأوربا الذين يتمتعون بحريات كبيرة غير أولويات مسلمي الهند وكشمير والشيشان بل ودولنا الأسلامية تختلف حيث تأتي الأولوية هنا المطالبة بالحريات وحق العيش الكريم ووقف العنصرية والاعتداء على الحرمات والمقدسات.
ولا شك أيضا أن أولويات الأمة عامة نحو القضية الفلسطينية تختلف عن مسلمي الداخل في فلسطين الدين فرضت عليهم ألوان من الظلم والقهر والقتل التخريب مما فرض عليهم المواجهة على حين يجب على بقية الأمة المساندة.
الضابط الثامن: التقريب بين المذاهب والانتقاء أو الابداع في الاجتهاد:(1/38)
هناك مغالاة في قضية المداهب بين من يدعو الى الغاءها "اسلام بلا مداهب" أو العصبية المدهبية في التقيد بآراء المذهب وإن كانت أضعف استدلالا، أو أبعد مناسبة للمتغيرات الزمانية والمكانية والوسط في كل شئ أعدله وهو التقريب بين المذاهب كما طرق الشيخ أبو زهرة في الوصية عند الجعفرية وذكر أن المذاهب مثل الجداول الصغيرة التى يجب أن تصب في نهر الأسلام الكبير، ومن الخطأ الكبير اعتبار المذهب هو الدين أو نهر الأسلام الوحيد والمسلمون مع تقارب الكرة الأرضية من بعضها حتى صارت مثل القرية الصغيرة أو الفندق الكبير لم يعد ممكنا ولا مقبولا بقاء مثل هذه العصبية المذهبية ونحتاج هنا أن نستحضر هذه الصور الحية في قبول الرأي الآخر منها ما يلي:
أولا: ما روى عن عمربن الخطاب أنه سئل عن أمر فرد السائل علي سيدنا علي بن أبي طالب فلما رجع بعد الاستفتاء سأله عن الجواب فأخبره فقال له: لو أفتيتك لقلت بغير هذا. فقال الرجل: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين؟ فقال سيدنا عمر: لو كنت أردك الى كتاب أو سنة لفعلت ولكن أردك إلى الرأى والرأي مشترك.
ثانيا: ما روى أن ابا حنيفة استفتى في مسألة لا نص فيها فأفتى برأيه فقال له السائل: أو ما تفتى به هو الحق الذي غيره الحق، أن نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين" ولذا خالفه تلاميذه النجباء أبو يوسف واين أبي ليلى ومحمد بن الحسن الشيباني وخالف بعضهم بعضا وبقى اختلاف ثراء في العقول وليس وباء في القلوب.
رابعأ: ما استقر عليه العرف الفقهي من تعريف الاجتهاد بأنه بذل الفقيه أقصى جهده في استنباط حكم شرعي ظني. والظن لا يلغي حق الغير في اعادة الاجتهاد واستنباط حكم آخر.
5)صار من المعلوم من الواقع بالضرورة في بلادنا الإسلامية الأخذ من جميع المذاهب دون عصبية أو حساسية ومنه ما يلي :
أ-أخذت مصر والأردن وسوريا والمغرب بالوصية الواجبة من الفقه الشيعي الجعفري .
ب- أخذت أغلب الدول الإسلامية بترجيح ابن القيم وغيره في اعتبارالطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة ، خلافا لرأي الأئمة الأربعة مجتمعين.
ج- أخذت كثير من الدول بالحرمان من الميراث للقتل الخطأ خلافا لأغلبية الناس في بلادها الذين يتبعون المذاهب التي ترى أن القتل العدواني فقط هو المانع من الإرث، وذلك لشيوع الفساد والاحتيال في إخفاء قتل العمد.
د- صارت جميع المجامع الفقهية تعتمد الاختيار والانتقاء من المذاهب الثمانية ( الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والإباضي ) ، فهل يبقى المسلمون في الغرب أو الشرق وهم أقلية بعيدا عن هذا التسامح واتساع الأفق . إن أية أقلية ستجد فيها جميع المذاهب ،ولذا يجب أن تسود روح التسامح في الأخذ بالأقوى دليلا والأنسب حالا من أي مذهب ، وقد يضطر المسلمون إلى الاخذ بالمذهب المرجوح لمصلحة أكبر ، ولذا ، لا يصح الإنكار على المجلس الأوربي للإفتاء في فتواه بجواز ميراث المسلم من غير المسلم ، مع موافقة ذلك لرأي معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق ويحيى بن يعمر وإسحاق بن راهوية وابن تيمية وابن القيم مع خلاف هذا لما اتفق عليه الأئمة الأربعة ، كما لا يصح الإنكار في الفتوى بجواز بقاء المرأة المسلمة لدى زوجها الذي لم يسلم لورود الخلا ف فيها وتحقق مصالح شرعية ودعوية عديدة ، وإن كان هذا خلاف الرأي السائد لدى جمهور الفقهاء.
الضابط التاسع : تبني فقه التيسير ومراعاة التدرج :
من خصائص الإسلام اليسر ، ومن قواعده رفع الحرج ومنع الضرر ، ومن سماته الرحمة ، وهذه يجب أن تبقى معالم وقواعد تحكم الاجتهاد مهما قيل إنه تساهل وترخص وتحلل من عروة الدين، لأن هذا هو جوهر الشريعة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما ، ولم تكن هناك دلالة على مراعاةم اليسر قبل حادثة المحترق الذي جامع أهله في نهار رمضان ، والأعرابي الذي بال في المسجد ، وفي كل كانت كل خصائص الرحمة واليسر ورفع الحرج تتعامل مع الموقف ليس كحالة بل ظاهرة ، ومنهج في التيسير ورفع الحرج، بل جامع الرجل أهله ولم يقدر على الصوم شهرين أو الإنفاق والإطعام واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :"أطعم أهلك ولا تعد"، بعد أن أخذ قدرا كبيرا من التمر بعد كل ما فعله.
لعل هذا هو ماحدا بأستاذنا الشيخ العلامة الشيخ القرضاوي إلى استقراء التاريخ الفقهي ولاحظ أن أعلى درجات التيسير ورفع الحرج والتدرج كانت في فقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده ، وبدأ الأخذ بالاحتياط شيئا فشيئا حتى كادت أن تغلق بالاحتياط كل أبواب التسير، والأولى العودة إلى سلف الأمة وصدر عهدها.(1/39)
ولقد كان الشاطبي بارعا في بحث علاقة التخفيف بالمشقةم تحت عنوان مقصد اشارع من وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ، فذكر أن الشارع يعمد إلى المشقة والتشديد عند الانحلال والتفسخ ( العقوبات ) والتيسير عند الغلو في الدين مثل صيام وقيام عبدالله بن عمرو بن العاص ، ورغبة سعد في التصدق بكل ماله ، لكن بين هذين هناك التوسط والاعتدال في فرض الصلاة والزكاةم والصيام والجهاد ، وارتبطت المشقة بالمصالح ، فهناك مشقة محدودة بالتكليف بصلاة الفجر ومشقة بالغة في التكليف بالجهاد ،وبينهما مشقة الحج والرع يراعي هناك حجم المصالح المترتبة، فيقدم التكليف مع ما فيه من مشقة ، ولكن إذا انعدم هذا القدر من المصالح ، فالأصل هوالتيسير.
أما مراعاة التدرج خاصة مع المسلم الجديد ، والمسلم التائب بعد حياة بعيدة ، ولا يعني هذا إن سأل عن حكم شيء أن نخالف المقطوع به شرعا ، بل هناك فرق بين أن يعرف الطبيب المؤمن أن المخدرات محرمة ومدمرة ، وبين أن يتدرج معه في العلاج حتى يدع تعاطيها .
الضابط العاشر: الاجتهاد في ايجاد بدائل مشروعة للمنهى عنه في واقع الأقليات:
من الضروري الا يغيب عن الفقيه أو الأمام أن يوجد للمسلمين بدائل شرعية للأوضاع النهى عنها شرعا ، والا يكتفى ببيان الحرمة أو الكراهة ، ومن الأمثلة على ذلك في واقع الأقليات ما يلي:
أولا: ادا بالغ الزوج في ايداء زوجته والاضرار بها وطلبت اليه زوجته الوحيدة في الغرب ان نلجأ معا إلى التحكيم الشرعي فأبى فليس على الفقيه أو الإمام أن يفتيها بالذهاب الى المحكمة في الدولة غير الأسلامية.
ثانبا: أذا كان الأب معيلا ولا يجد من يقرضه قرضا حسنا أو يشاركه في ثمن منزل بالطريق الشرعي فليس من حرج على الامام أن يفتيه بشراء بيت بالقرض الربوي إذا لم يجد سبيلا غيره وكانت الأسرة معرضة للشتات.
ثالثا: إذا كانت الاعتداءات على مؤسسات وبيوت المسلمين في الهند لا تتوقف فلا حرج فيما انتهى اليه المجمع الفقهي بالهند الى جواز التأمين على هذه المؤسسات أو البيوت مع اقرارهم بما فيه من ربا وقمار وغرر... حتى يستطيع المسلمون مواصلة الحياة والا شردوا.
هذه أمثلة لا تفيد الحصر ولا تعنى أن يكون البديل هو الأخذ بالرخصة أو ارتكاب المحرم للضرورة التى تقدر بقدرها فبعض من أرادوا شراء بيوت وهم موضع ثقة طلبت منهم أن يذهبوا الى بعض الموسرين ويشتركوا في شراء منزل ويستأجر حصتهم ثم يكون في العقد حق شراء حصة واحد وراء الآخر بسعر يوم الشراء وتم ذلك والحمد لله والأقليات اذا كثرت في تجمع واحد يمكن أن يباشروا الذبح الحلال لكنه لا يكون بديلا في أماكن أخرى.
هذه اجمالا رؤية متواضعة فيها جهد المقل وأدعوا الله أن يكتب لي أجر الاجتهاد المضاعف فيما أصبت والآجر الكامل فيما أخطأت والله تعالى من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير.
===============
أدرِكوا هذه الفتاوى قبل أن تصل للغرب!
حوار : عبد الله بن محمد الرشيد / الرياض 6/5/1426
13/06/2005
- فقه الأقلّيات جزء من الفقه الإسلامي.
- التجنّس بجنسيّة غربيّة لا يمنع الولاء للأمة الإسلاميّة.
- الهجرة للبلاد غير الإسلاميّة مقيّدة بشروط وليست مطلقة.
- الحفاظ على الهُوِيّة في الغرب والذوبان يفصل بينهما خيط رفيع(1/40)
تُعدّ قضية الجاليات الإسلامية في الغرب واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل؛ إذ يمثل الوجود الإسلامي فيه ثِقلاً بشرياً يقدَّر بحوالي (22) مليون مسلم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية فقط، وقد بدأت هجرة المسلمين إلى الغرب في العصر الحديث -وبشكل ملحوظ- بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب متعددة منها: ابتغاء الرزق، وتحصيل العلم، وطلب الأمن فراراً من الاضطهاد، وغيرها من الأسباب..، بيد أن هذه الهجرة قد اتسعت وتضاعفت أعدادها، وتحوّلت من كونها هجرة عابرة إلى جالية مستقرة تبحث عن مقتضيات وجودها خاصة مع ظهور الجيل الثاني والثالث الذين حملوا الجنسيات الأوروبية والأمريكية ولغاتهم، فتعززت الحاجة إلى قيام المؤسسات التي تحتاج إليها الجماعات المسلمة حفاظاً على هُويّتها وشخصيّتها دون عزلة أو انكفاء؛ فأُنشئت المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، والأندية للتوجيه والترفيه، وعُقِدت المؤتمرات، وأُقيمت المخيمات، وأُلقيت الدروس والمحاضرات، وفُرِّغ الدعاة والمعلِّمون، وإزاء هذا الوجود المتعاظم للجالية الإسلامية إضافة إلى الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين الذي نشأ في بلاد الغرب، واعتناق العديد من الأوروبيين والأمريكان للدين الإسلامي، والنظر إلى العيش في الغرب على أنه بلد المواطنة؛ فقد برزت تحدّيات وإشكالات حول مرتكزات العلاقة وفقه الأقليات المسلمة في مجتمع يعيش خارج دار الإسلام، ولئن قرر فقهاؤنا أن الفتوى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن أعظم مظهر لتغيّر المكان هو اختلاف دار الإسلام عن غيرها.. فما طبيعة وجود الجاليات الإسلامية في الغرب؟ وما مدى شرعية هذا الوجود؟ وما الحقوق والواجبات المترتبة عليه؟ وما التحدّيات التي تواجه هذا الوجود؟ وما الإشكالات الفقهية الناجمة عنه؟ وكيف عالجها الفقه الإسلامي؟
في هذا الحوار مع الدكتور أحمد بن محمد الخضيري -عضو هيئة التدريس بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو الجمعية الفقهية السعودية- نلقي الضّوء على كثير من الإشكاليات التي تعاني منها تلك الأقليات وطرائق حلها، كما نرصد الفتاوى التي تصل للغرب من الديار الإسلامية بجانب مسائل أخرى استحدثها التطوّر في الغرب، وبقي لازماً على الفقهاء أن يفتوا فيها..
ومن نحاوره في هذا الموضوع عالم له باع طويل في فقه الأقلّيات، جمع بين العلم الشرعي والمعايشة لتلك المجتمعات؛ إذ ابتعث ضيفنا للتدريس في الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل على مدى أربع سنوات مدرساً بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن في الفترة من (1416 - 1420) هـ، ألقى فيها الكثير من الدورات داخل الولايات الأمريكية.
فإلى الحوار...
ما المقصود بمصطلح فقه الأقلّيات الإسلامية؟
يُراد بمصطلح فقه الأقليات الإسلامية معرفة الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها المسلمون الذين يقيمون في بلاد تحكمها سلطة غير إسلامية، ووُصفوا بالأقليات؛ لأنهم أقلية بالنسبة للمجتمع الذي يعيشون فيه من غير المسلمين.
وقد نشأ هذا المصطلح في هذا العصر لانتشار الأقليات الإسلامية، وحاجتهم إلى معرفة الأحكام الشرعية في الوقائع التي تنزل بهم، والمتأمّل في حال الأقليات الإسلامية يجد أنه لا يمكن أن يُقاس بحال المسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية من كل وجه، لأن مسلمي الأقليات يفتقدون كثيراً من المقومات الأساسية كوجود الحاكم المسلم، والمحاكم الإسلامية، والأنظمة الإسلامية؛ سواء كانت في مجال الأحوال الشخصية أو المعاملات المالية، أو الجنايات والقضاء، كما أنهم يتعاملون مع غير المسلمين بشكل دائم بسبب إقامتهم في بلادهم، ولهذا احتاجوا إلى من يقوم بدراسة المسائل المختصة بهم على ضوء هذه الحال، فوُجد الاهتمام بهذا الفقه من قبل المتخصصين، وأُنشئت المجامع الفقهية في البلاد الغربية لدراسة مسائل هذا الفقه كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الشمالية.
ما دقّة تسمية هذا الفقه بـ"فقه الأقلّيات"؟ وهل يمكن تطبيق هذا الفقه على بلاد تتسمى بالإسلامية، لكنها أبعد في واقعها عن الإسلام؟
تسمية هذا الفقه بفقه الأقليات تسمية اصطلاحية يُراد منها تمييز هذا الفقه بحسب موضوعه، وموضوعه: المسائل التي يحتاج إلى معرفة حكمها المسلمون الذين يعيشون في بلاد كافرة، فإذا أُطلق هذا الاسم تبادر إلى الذهن المسائل التي يتناولها هذا الفقه، وانتشرت هذه التسمية في العصر المتأخر لوجود الأقليات الإسلامية في كثير من البلاد غير الإسلامية، مما لم يكن معهوداً في العصور السابقة.(1/41)
ولا أرى مناسبة إطلاق هذا الاصطلاح على بعض البلاد الإسلامية، وإن كانت في واقعها بعيدة عن الإسلام، ويجد المسلم المحافظ على دينه فيها الغربة؛ لأننا بهذا كأننا نساويها ببلاد الكفر، ونحكم على هذه البلاد بأنها غير إسلامية، ونحكم على معظم أفرادها بأنهم غير مسلمين وهذا غير صحيح، نعم قد تكون هذه البلاد مقصرة في تطبيق الشريعة، وقد يكون كثير من أفرادها غير ملتزمين بأحكام الدين، ولكن يبقى لهذه البلاد وأهلها وصف الإسلام، فهم ينتسبون إلى الإسلام ويرفعون شعاره ولو ظاهراً، وتظهر فيها الشعائر التعبّدية، وتجد أكثر أهلها ملتزمين في الجملة بأحكام الإسلام، بخلاف البلاد الكافرة التي لا تنتسب إلى الإسلام في شيء، وتظهر فيها معالم الكفر، فهناك فرق كبير بين الحياة في هذه البلاد والحياة في بلاد الكفر، ولو افترضنا وجود بعض المسائل التي يحصل فيها اشتراك فهي قليلة لا تقتضي التسوية بينهما في الحكم.
نريد أن تُجملوا لنا معالم وأصول وقواعد هذا الفقه، حتى يمكن ضبط الفروع المندرجة تحتها؟
ينبغي في البداية أن نعلم أن فقه الأقليات الإسلامية هو جزء من الفقه الإسلامي، وليس أجنبياً عنه، ولهذا فهو يحمل معالم وأصول الفقه الإسلامي المعروفة لدى الفقهاء، ولكنه يتميّز في موضوعه بجملة أمور أُجْمِلُها فيما يلي:
- يعتمد هذا الفقه في كثير من مسائله على قواعد الضرورة والحاجة.
- كما يعتمد في كثير من مسائله على تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما.
- دراسة هذا الفقه تقتضي إدراك واقع الأقلّيات الإسلامية من ناحية أحوال حياتهم الاجتماعية والسياسية، ومعرفة طبيعة أعمالهم، وعلاقاتهم مع غيرهم، وما يمرّون به من أحوال وعوائد تؤثر في إعطاء الحكم.
- دراسة هذا الفقه تحتاج إلى الإلمام في الجملة بالأنظمة والقوانين التي تُفرض على المسلمين في تلك البلاد.
- ضبط فقه الأقليات الإسلامية يقتضي من صاحبه الاطّلاع على المسائل والوقائع التي يكثر السؤال عنها في بلاد الأقليات سواء كان هذا في جانب العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وغيرها، ويوجد هذا في فتاوى العلماء المشهورين، وفي قرارات المجامع الفقهية التي تناولت فقه الأقليات الإسلامية، وفي الدراسات والأبحاث العلمية التي تناولت هذا الفقه من قبل المهتمين من أهل العلم.
هناك الكثيرون في الأقطار الإسلامية يهاجرون إلى دول غربية، إما لضغوط سياسية أو اقتصادية لتحسين المستوى المادي والحياة الجيدة، مع أن الفتوى السائدة لا تسمح للمسلمين أن يهاجروا إلى بلاد غير إسلامية مهما كانت الظروف أو الضغوط. فما رأي فضيلتكم؟
الانتقال إلى الأقطار غير الإسلامية والإقامة فيها تختلف دوافعه وأسبابه من شخص إلى آخر، ولذا فإن الحكم الشرعي يختلف باختلاف الدافع والسبب الحامل على ذلك، فإذا اضطر المسلم إلى الانتقال إلى تلك البلاد والإقامة فيها بسبب أنه يحصل له في بلده اضطهاد في دينه بحيث لا يستطيع أداء الشعائر التعبّدية، وخشي أن يُفتن في دينه أو يلحقه أذى في نفسه أو ماله أو أهله أو عرضه، فحينئذ له أن ينتقل إلى البلد التي يأمن فيها من هذه المفاسد، قال ابن حزم -رحمه الله- : " وأما من فرّ إلى أرض الحرب بظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره".
واشترط بعض الفقهاء لجواز اللجوء إلى بلد الكفر في هذه الحالة ما يلي:
أن يقع الظلم حقيقة على المسلم في بلاد الإسلام، وأن توفر له البلد التي لجأ إليها الأمن والحماية، وألاّ يوالي الكفار أو يعينهم على المسلمين، وأن ينوي الرجوع متى زال العذر، وأن يلتزم بأحكام الإسلام في البلد التي لجأ إليها، وأن يدعو غيره للإسلام، وهذا يدخل في قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
ويجوز أيضاً السفر إلى البلاد غير الإسلامية لأي غرض صحيح كغرض الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام، وتعليم الناس أحكام دينهم، وكغرض الدراسة وطلب العلم الذي لا يوجد في بلاد المسلمين، ومثل السفر للتداوي والعلاج، وكذلك السفر للتجارة.
وتجوز الإقامة هناك لمن كلّفه ولي الأمر بالعمل في السفارات والقنصليات والمراكز الإسلامية لرعاية شؤون الجالية الإسلامية هناك، وهذا العمل له أثر كبير في الاهتمام بشؤون الجالية، وتنظيم أمورها وأحوالها، والتعريف بالإسلام وبث الدعاة، والتحذير من المفاسد المنتشرة في بلاد الكفر.
ويتضح من خلال الإجابة عن هذا السؤال أن ما ذُكر من أن الفتوى السائدة لا تسمح للمسلمين أن يهاجروا إلى بلاد غير إسلامية مهما كانت الظروف أو الضغوط غير صحيح، ولكن الفتوى مقيّدة بشروط محددة يلزم توافرها للقول بالجواز، وبعض هذه الشروط محل اجتهاد عند الفقهاء.
في ظل هجرة هؤلاء، يأخذ الكثير منهم جنسية البلاد التي يعيشون فيها، والبعض يحرم هذا. فما رأي فضيلتكم في حصول المسلم على جنسية بلد غير مسلم؟(1/42)
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم التجنّس بجنسية الدولة غير المسلمة فمنهم من منع من ذلك، وهم الأكثر واحتجوا بأن التجنّس فيه موالاة لأهل الكفر، وهي محرمة فالتجنّس يوجب التبعيّة لغير الدولة الإسلامية والخضوع لنظامها، كما أن التجنّس يفرض على صاحبه الخضوع المطلق لقوانين الدولة المانحة للجنسية في كل ما يتعلق بشؤون حياته، وأغلب هذه القوانين كفريّة تصادم قواطع الشريعة الإسلامية، مثل: إباحة الزنا والربا والردّة باسم الحرية وحقوق الإنسان.
ولأن التجنس يقتضي من صاحبه أن يدافع عن تلك الدولة، ويشارك في جيشها عند قيام حرب بينها وبين دولة أخرى ولو كانت مسلمة، ومن المعلوم أنه لا يجوز الركون إلى أهل الكفر والظلم، ولا التعاون على الإثم والعدوان ومعاونة غير المسلمين على مقاتلة المسلمين.
وقالوا: إن من يريد التجنّس لابد أن يقيم إقامة دائمة في البلد لكي يحصل على جنسيتها، والإقامة الدائمة بلا ضرورة محرّمة.
وهناك من الفقهاء من أباح التجنّس بجنسية الدولة غير الإسلامية، وعلّلوا بأن الإقامة في بلد الكفر مع الأمن على الدين والنفس والعرض والمال جائزة، والتجنّس لا يزيد عن الإقامة إلا بمجرد الانتساب إلى الدولة.
وقالوا: إن التجنّس يكسب الإنسان قوة وصلابة في المجتمع، ويعطيه القدرة على المطالبة بحقوقه، ويسهّل له قضاء أموره ومصالحه، ويضمن للإنسان التمتّع بالحقوق والحريات الأساسية التي غالباً ما تنعدم في البلاد الإسلامية.
وذكروا أن التجنّس بجنسية الدولة الكافرة في هذا العصر يكسب الإنسان مكانة و حماية قد لا يجدها في كثير من الدول الإسلامية، ويجعله يتمتع بحقوق كثيرة تمكنه من العطاء أكثر، ولاسيما في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وخدمة الإسلام.
وذكروا أن التجنّس،وإن كان فيه بعض المفاسد، ولكن المصالح المتحقّقة بوساطته أكثر، و من القواعد الشرعية أنه يتحمل الضرر الأخص لجلب مصلحة تفويتها أشدّ.
كما علّلوا بأن الإنسان قد يضطر في كثير من الأحيان للتجنّس كي يحافظ على حياته كمن اضطهد في بلاده ولم يجد لنفسه فيها مأمناً، ولم يُسمح له بالمقام في بلاد الكفر إلا إذا تجنّس، فحينئذ لا مانع من التجنّس مادام يحافظ على الفرائض الدينية ويبتعد عن المحرمات.
وعليه مع ذلك أن يحرص على استقلال شخصيته الإسلامية وأن يستشعر دوماً انتماءه للأمة الإسلامية، فينوي العودة إلى بلده متى زالت الضرورة.
واستثنى بعض الفقهاء المعاصرين من المنع أيضاً:
أن يتجنس المسلم لتحقيق مصالح كبرى للمسلمين كالدعوة إلى دين الله -عز وجل- والتعريف بالإسلام أو تحصيل علوم ضرورية يحتاجها المسلمون، ونحو ذلك، ولا يستطيع تحقيق هذه المصالح إلا بالتجنس، ومرجع هذا إلى قاعدة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما.
ولكن ينبغي -إذا قيل بجواز هذا- أن يكون على أضيق نطاق، ولا يقدم عليه إلا من كان لديه من العلم والدين ما يحصّنه من الذوبان في تلك المجتمعات الكافرة.
الفتاوى المصدّرة من بلاد إسلامية إلى بلاد الأقلّيات، كيف تقدرون أثرها على الواقع الفقهي في بلاد الأقليات؟ وما هو توجيهكم في هذا الصدد؟
الفتاوى التي تصدر من البلاد الإسلامية إلى بلاد الأقليات لها أهميتها ومنزلتها وبخاصة إذا كانت صادرة من العلماء المشهورين بالرسوخ في العلم والفتوى، أو كانت صادرة من المجامع الفقهية والمؤسسات الشرعية التي تُعنى بفقه الأقليات، وكثيراً ما يتطلع مسلمو الأقليات إلى معرفة فتاوى العلماء في البلاد الإسلامية ويثقون بها ثقة كبيرة، وسبب هذا في نظري هو قلة العلماء المتخصصين في علوم الشريعة في بلاد الأقليات الإسلامية، وشهرة بعض العلماء في العالم الإسلامي.
ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن بعض الفتاوى التي تصدر من بلاد إسلامية ينقصها تصور واقع حال الأقليات، وعدم إدراك اختلاف بعض الأحوال والعوائد والأعراف التي تؤثر في إعطاء الحكم في بعض المسائل، كما أن بعض المفتين قد لا يدرك حجم الضرورة أو الحاجة التي قد يقع فيها مسلمو الأقليات، فيغفل هذا الجانب كلية عند إعطاء الفتوى، وفي المقابل تجد بعض المفتين يستصحب حكم الضرورة في كل المسائل التي تُعرض عليه، فيقع في التساهل وتمييع الأحكام، وتجد أيضاً أن بعض المفتين لا يراعون اختلاف مذاهب المستفتين، وبخاصة بعد وقوع الفعل من المستفتي الذي يكون مقلداً فيه للمذهب الفقهي الذي ينتسب إليه.
ترد للعلماء في البلاد الإسلامية أسئلة من مسلمين في بلاد الغرب، فكيف يتعامل معها المفتي في هذه الحالة خصوصاً إذا كان أمام الناس؟(1/43)
يتعامل مع هذه الأسئلة كما يتعامل مع أي أسئلة فقهية أخرى تُعرض عليه لكن مع ملاحظة ما تقتضيه طبيعة هذه الأسئلة من معرفة للواقع الذي نشأت فيه، وإذا كان بعض هذه الأسئلة يحتاج إلى استفسار واستفهام فعليه قبل أن يجيب أن يسأل أهل الخبرة والمعرفة حتى يفتي على بصيرة، كما أن هناك بعض الأسئلة قد لا يحسن أن يجيب عنها المفتي أمام الناس لما لها من خصوصية؛ لكونها قضية عين، فيُخشى أن يفهم الناس أن فتواه عامة في كل حال، وهو إنما أجاب عن هذه المسألة لاعتبارات يدركها في هذه الواقعة قد لا يلاحظها غيره من عامة الناس.
نريد أن نسألكم في أولويّات القضايا، فهل على المسلم في الغرب (والمسلم الغربي) أن يهتم بقضايا بلده أولاً أم يهتم بقضايا المسلمين خارج بلده؟
المسلم عليه أن يهتم بقضايا المسلمين ويتفاعل معها، ولو كان يعيش في بلد غير إسلامي؛ لأن هذا هو منطلق الرابطة العقديّة التي تجمعه مع إخوانه المسلمين؛ فهو يألم لألمهم ويفرح لفرحهم وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه.
واهتمامه بقضايا المسلمين لا يتعارض أيضاً مع اهتمامه بقضايا البلد الذي يعيش فيه؛ فيتفاعل مع هذه القضايا أيضاً بما يخدم مصلحته ومصلحة إخوانه المسلمين ويشارك في البرامج والأعمال التي تخدم مصلحته ومصالح المسلمين إذا كانت هذه الأعمال لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
ولو قُدّر وجود تعارض بين الاهتمام بقضايا بلده وقضايا المسلمين، فعليه أن يقدم الاهتمام بقضايا المسلمين، ولكن عليه أن يكون فطناً بحيث يتخذ الأسلوب الحكيم الذي يحقق المقصود، ولا يثير المشاكل أو يجلب الضرر، أو يستعدي عليه الناس.
ما حكم تقديم بعض التنازلات من قبل المسافرين إلى الدول الغربية مثل خلع النقاب، وإلحاق الأبناء بمدارس مختلطة لعدم وجود البديل؟
كثير ممن يسافر إلى البلاد غير الإسلامية يسارع إلى تقديم تنازلات كثيرة مدفوعاً بوهم أنه لا يستطيع المحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية في هذه الأمور بسبب غلبة الكفار وقلة المسلمين وضعفهم، وقد يوقع الشيطان في رُوعه أنه إذا حافظ على هذه الأحكام قد يتعرض للأذى والمساءلة، وما إلى ذلك، ولهذا تجد المرأة على سبيل المثال تخلع حجابها، وتلبس لباس الكافرات من أول وصولها إلى تلك البلاد، وتجد الرجل يفرّط في أداء الصلاة، ويحلق لحيته.. إلى غير ذلك من التساهل الغريب.
والواقع أنه لا يوجد ما يُلجئ المرء إلى هذا التساهل والتفريط، والشاهد على هذا أنك تجد من المسلمين والمسلمات الذين أقاموا في هذه البلاد مدّة طويلة، وربما يحملون جنسية هذا البلد، ومع هذا فهم متمسكون بدينهم كأحسن ما يكون التمسك؛ فتجدهم يحافظون على الصلاة والجمعة، وتجد المرأة ملتزمة بالحجاب حتى في مكان عملها، ولم يتعرضوا لسوء، وأنا مكثت في الولايات المتحدة الأمريكية مدّة أربع سنوات، ووجدت كثيراً من المسلمين والمسلمات يلتزمون بهدي الإسلام، ولم ينلهم بسبب ذلك أي أذى، بل فرضوا على الناس احترامهم وتقديرهم، وكانوا بسلوكهم هذا دعوة متحركة إلى الإسلام في حق من ينظر إليهم، ويتأمل ما هم عليه من احتشام ومظهر حسن، واستطاعوا أن يربّوا أبناءهم تربية حسنة من خلال المدارس الإسلامية التي أنشؤوها بأموالهم وخلّصوها من مفاسد المدارس المختلطة.
ولكن الذين يتّبعون الشهوات ويغويهم الشيطان يتعلّلون بأوهى الشّبه لكي يبرروا لأنفسهم ما هم عليه من معصية ومخالفة.
وعلى هذا فلا يجوز التساهل في الالتزام بأحكام الإسلام، وفيما يتعلق بالمدارس المختلطة لا يجوز الالتحاق بها إلا إذا لم يوجد البديل السالم من مفسدة الاختلاط، واحتاج الإنسان إلى هذه الدراسة، وعليه في هذه الحال أن يتجنب الاختلاط داخل مكان الدراسة بقدر الإمكان. وعلى المسلمين في تلك البلاد أن يسعوا إلى إنشاء المدارس الإسلامية التي يستغنون بها عن المدارس المختلطة.
كيف نحقق التوازن بين الحفاظ على الهويّة والشخصية في المجتمع الغربي وبين الانخراط والتفاعل مع أهل البلاد الأصليين دون الذوبان؟
يحقق المسلم الذي يعيش في بلاد الغرب التوازن بين الحفاظ على الهُويّة والشخصية الإسلامية وبين الانخراط والتفاعل مع أهل البلد دون ذوبان بأن يبقى في قلبه التبرّؤ من دينهم، وبُغض ما هم عليه من كفر وانحراف وفساد، وإنكار ما هم عليه من باطل، ويبتعد عن موالاتهم ومحبتهم، ويبقى ولاؤه ومحبّته للمسلمين، ويمتنع عن مخالفة أحكام الإسلام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يستشعر دوماً انتماءه للأمة الإسلامية. وعليه أن يتجنب التحاكم إلى محاكم القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية فيما لا تدعو الضرورة إليه، وأن يتعاون مع إخوانه المسلمين في كل ما من شأنه خدمة الدين مثل إقامة المراكز الإسلامية والمدارس والأندية الثقافية التي تنشر الثقافة والوعي، وتربط أبناء المسلمين باللغة العربية.(1/44)
ومع كل هذا عليه أن يلتزم بأنظمة البلد التي لا تتعارض مع الشريعة، ويتعامل معهم بالصدق والأمانة سواء كان هذا في عمله الوظيفي أو في معاملاته المالية معهم من بيع وشراء ونحو ذلك، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع المشركين وأهل الكتاب، ومن ثمرة هذا أنه يظهر المسلمين في صورة من يحترم الأنظمة ولا يحتال عليها.
وعليه لكي يحافظ على أسرته من الذوبان في المجتمع الغربي أن يحرص على الزواج من امرأة مسلمة، ويتجنب الزواج من الكتابيّة؛ لأن الزواج منها يعود عليه بالضرر في تربية أبنائه؛ لأنهم في الغالب سينشؤون على غير هدي الدين الإسلامي، ولن يعرفوا اللغة العربية، وهذا قد يجرهم في المستقبل إلى التحلّل من دينهم وأخلاقهم، وأذكر في هذه المناسبة قصة عاصرتها بنفسي، وهي أن أحد الإخوة العرب المسلمين المقيمين في أمريكا ذكر لي أنه تزوج من امرأة نصرانية وأنجبت له عدداً من الأولاد، وبعد مضيّ مدة طويلة على زواجهما فوجئ في أحد الأيام أنها غادرت المنزل، وأخذت معها الأولاد إلى جهة غير معروفة، وتركت له رسالة تشعره أنه يجب عليه أن ينسى أمرها وأمر الأولاد، فصُدم الزوج المسكين، وأظلمت الدنيا في عينيه، واستمر مدة طويلة يبحث عن أبنائه دون جدوى، والقانون الأمريكي لم ينصفه في هذا الأمر لكونه يقف إلى جانب المرأة على زوجها، وقد دفعتني هذه القصة المؤلمة إلى إعداد خطبة جمعة عن أضرار الزواج من الكتابيات ألقيتها آنذاك في معهد العلوم الإسلامية والعربية في فرجينيا.
وسافرت مرة إلى إحدى المدن الأمريكية الكبرى، واستضافني أحد الإخوة العرب المقيمين في أمريكا، ولما دخلت منزله أقبلت عليّ ابنتاه الصغيرتان في سن الثامنة أو التاسعة، فأخذت أكلمهما باللغة العربية فلم يفهما عني، فكلّمهما والدهما باللغة الإنجليزية، وقال لي: إنهما لا تحسنان اللغة العربية؛ لأن والدتهما ليست عربية، ولا تتكلم سوى الإنجليزية، ولم أستطع تعليمهما العربية بسبب كثرة مشاغلي، وقلة الوقت الذي أمكثه معهن فأصبحت اللغة الإنجليزية هي القاسم المشترك بيننا، فعاتبته على هذا التفريط، ودفعتني هذه القصة في هذه المرة إلى إعداد خطبة عن أهمية المحافظة على اللغة العربية في بلاد الأقليات الإسلامية.
وعلى المسلم في تلك البلاد أن يتعاهد أبناءه؛ فيرسلهم إلى المدارس الإسلامية ولو في أوقات الإجازة، ويربطهم بالمركز الإسلامي وأنشطته، ويخصص لهم وقتاً يعلمهم فيه، ويوجّههم، ويبعدهم عن رفقة السوء، ويجنّبهم وسائل الإعلام التي تؤثر على سلوكياتهم.
وإذا أحسّ المسلم أنه عاجز عن تحقيق ما ذكرته سابقاً من التوجيهات فليحرص على ترك هذه البلاد والعودة إلى البلاد الإسلامية كي ينجو بدينه ولا يفتتن.
ومن الأمور الملحوظة التي تؤثّر في استقرار المسلمين في تلك البلاد أنك تجد أن الأقليات المسلمة التي انتقلت لتعيش في البلاد غير الإسلامية قد حملت معها معظم خلافاتها التي كانت تعاني منها في بلادها الأصلية، سواء كانت خلافات عقدية أو اجتماعية أو سياسية.. الخ ونتج عن هذا وجود كثير من التفرق والتحزب بين المسلمين هناك، وهذا يستدعي ضرورة القيام بدعوة مسلمي الأقليات إلى توحيد صفوفهم على العقيدة الصحيحة، والعمل فيما يخدم مصالحهم ومصالح المسلمين عامة، وأفضل من يقوم بهذا العمل المؤسسات الإسلامية الموثوقة هنا
=============
حملت منه سفاحاً ثم أراد نكاحها
المجيب …نزار بن صالح الشعيبي
قاضي في محكمة مكة المكرمة
التصنيف …الفهرسة/ فقه الأسرة/ النكاح/نكاح الزانية
التاريخ …05/07/1425هـ
السؤال
لقد تعرفت على امرأة نصرانية وجامعتها بالحرام عدة مرات، وفوجئت بأنها حامل، واتفقنا على الزواج في بلدها، فهل يجوز عقد النكاح المتعارف عليه في بلدها؟ (أي طريقتهم في النكاح)، وما حكم الولد بعد الزواج أثناء الحمل؟ أو ما حكم الزواج بعد وضع الحمل؟.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
أخي السائل: تاب الله -تعالى- عليك، لقد تضمن سؤالك ثلاثة أسئلة، وإليك الجواب عنها:
أولاً: سؤالك هل يجوز عقد النكاح المتعارف عليه في بلدها (أي طريق في النكاح؟).(1/45)
الجواب: في الحقيقة أن في هذا السؤال إجمالاً، فما هو المقصود بطريقتهم في النكاح؟ فإن كان المقصود طرق توثيقه رسمياً فالأصل جواز ذلك؛ لأن توثيق عقد النكاح أمر خارج عنه، أما إذا كان مراد السائل الطقوس الدينية التي يمارسونها عند إبرام عقد النكاح، فهذا لا يجوز للمسلم أن يرضى به؛ لأن فيه موافقة لما هم عليه من كفر، وهذا وإن لم يكن فيه أثر على عقد النكاح إذا تحققت أركانه وشروطه، إلا أن فيه خطراً على عقيدة الزوج ودينه، قال الشيخ خالد عبد القادر في كتابه فقه الأقليات المسلمة صحيفة(452): من المعلوم أن العقد يتم فيما يسمى (بمكتب الزواج المدني)، المتخصص في شئون توثيق الزواج قبل أن يتم في المعابد، فإن تم قبله وكان مستكملاً للأركان، مستجمعاً للشروط، فالعقد صحيح، وما يتم بعد ذلك من حضور احتفال في المعبد فلا تأثير له في صحة العقد أو فساده، وإنما تأثيره على عقيدة الزوج؛ فقد يسبب له ذلك الكفر إن رضي به؛ لأن الرضا بالكفر كفر بإجماع الأمة، أو قد يطلب منه ترديد عبارات، أو القيام بممارسة أعمال تعتبر ردة في ذاتها، والمسلم ينأى بنفسه عن ذلك، ولو خسر متاع الدنيا بأكمله، قال تعالى: "وما عند الله خير وأبقى" [القصص:60]، وليكن معلوماً أن من ضحى بمصلحة دنيوية في سبيل حماية دينه وعقيدته فإن الله -سبحانه- سيجعل له فرجاً ومخرجاً من حيث لا يحتسب، وأما من تم عقده في معبد لأهل الكفر...، إلى أن قال: (وليبين على من فرط في حق الله وليبين لإخوانه ضرر هذا المسلك ومفاسده حتى لا يسلكه غيره ممن حوله، وإن كان حضوره في المعبد لمجرد إشهاره أمام القسيس الحبر، فقد ارتكب إثماً عظيماً؛ لما في ذلك من مشابهة الكفار في شعائر الزواج وتعظيم مشاعرهم ومعابدهم، ونبينا - عليه الصلاة والسلام- يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أبو داود (4031) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ا.هـ، والمقصود أن عقد الزواج سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية لا بد أن يكون وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ذلك تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، ومن الشروط الواجب توفرها:
1- أن يلي إنكاحها ولي كتابي على الصحيح من كلام أهل العلم؛ لأن غير المسلم له ولاية على مثله ولا يسلبها عنه كفره (راجع فقه الأقليات المسلمة للشيخ خالد عبد القادر صحيفة (441)، وذكر أنه اختيار ابن قدامة، وقال بجوازه جماهير علماء الأمة).
2- أن يُشْهِدَ على العقد شاهدين مسلمين عدلين، أو يعلن العقد للناس، فلا يجوز نكاح السر، وقال بعض أهل العلم إنه لا ينعقد - أي نكاح السر-.
3- من الشروط المهر وتسميته في العقد سنة إسلامية، ويصح كونه مؤجلاً، ويصح أيضاً تنازل المرأة عنه، والمهر حق خالص للمرأة؛ قال تعالى: "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً" [النساء:4].
ثانياً: حكم الزواج بها بعد وضع الحمل: فالجواب: الأصل جواز نكاح المرأة الكتابية إذا كانت محصنة؛ قال تعالى: "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان"، الآية [المائدة:5] ولقد اختلف الفقهاء والمفسرون في معنى كلمة (الإحصان) في الآية، فمعظمهم قال إن معنى الإحصان هو الحرية، وممن اختار هذا ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآية، ومنهم من فسر معنى الإحصان بالعفة، وقال إن المحصنات في الآية من العفة، وعليه فإنه يحرم على المسلم نكاح البغايا من الكتابيات، وهو قول جمع من أهل العلم، والواقع أن المسألة مختلف فيها، والأدلة فيها بالنسبة لي أمر محير؛ وذلك لأن الفقهاء اختلفوا أيضاً في حكم الزواج بالمسلمة الزانية التي لم تتب، قال ابن قدامة في الشرح الكبير (ج20) صحيفة(237)، الشرط الثاني أي شروط الزواج بالزانية أن تتوب من الزنا، وبه قال قتادة وإسحاق وأبو عبيد، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك: لا يشترط ذلك) ا.هـ، ثم ذكر أدلة موجزة، ولكنهم اتفقوا في الجملة على جواز نكاحها إذا تابت، ونصيحتي لكما أن تتوبا من هذه المعصية فإذا حققتما ذلك فيجوز لك أن تتزوجها بشرط أن يثبت أن الحمل منك، فإن كان من غيرك فلا يجوز لك أن تتزوجها وهي حامل.
ثالثا: سؤالك عن حكم الولد.
فالجواب: الراجح من كلام أهل العلم أنه إذا استلحق الرجل ولده من الزنا ولا فراش لغيره، أنه يلحق به والمراد بهذا أنه إذا كان المزني بها غير متزوجة فلم تكن فراشاً لأحد، فإن حملت من شخص من الزنا فإنه يجوز له استلحاقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة فراشاً قولان لأهل العلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، فجعل الولد للفراش دون العاهر، فإذا لم تكن المرأة فراشاً لم يتناول الحجر، مجموع الفتاوى(32/112/113-139). والله أعلم.
=============
بين دعاة الوسطية والتطرف
القاهرة / عاصم السيد 9/5/1427
05/06/2006(1/46)
شهدت العاصمة البريطانية لندن مؤخرا المؤتمر الدولي الأول للوسطية الإسلامية، في بريطانيا تحت شعار "ارتباط بالأصل واتصال بالعصر"، بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمركز العالمي للوسطية الإسلامية بالكويت.
وكانت وزارة الأوقاف الكويتية قد نظمت في 21 مايو 2005 مؤتمراً دولياً في الكويت حول خطر التطرف في المجتمعات الإسلامية شارك فيه مفكرون وشخصيات من مختلف البلدان الإسلامية، وحمل المؤتمر عنوان (الوسطية منهج الحياة).
وقد حضر المؤتمر العديد من الشخصيات الدينية والفكرية والإعلامية البارزة، مثل د. محمد سليم العوا، والشيخ عبد الله بن بيه، والشيخ عبد الستار أبو غدة، ود. صلاح الصاوي، والشيخ محمد الحسن الددو، والشيخ عبد الله الجديع، والشيخ على القرة داغي، والشيخ أحمد الراوي، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية، وعشرات الشخصيات البارزة.
وتناولت جلسات الحوار، التي امتدت على مدى ثلاثة أيام مجموعة محاور، تلخصت أساساً في مبادئ العقيدة في ضوء الوسطية، وأصول فقه الأقليات في بلاد الغرب، والعلاقات الإنسانية في ضوء الوسطية، والوسطية بين واجب المواطنة في أوروبا وحفظ الهوية الإسلامية، ودور المرأة في الأسرة والمجتمع، والوسطية عبر بوابة الإعلام.
حاجتنا لترسيخ مفهوم الوسطيّة
يتفق العلماء والمثقفون المنصفون أن الدين الإسلامي يعارض التطرف الديني والغلو والتعصب والأفكار التكفيرية، ويحترم التعددية الثقافية والدينية والحضارية، وينبذ العنصرية.
والإسلام تميز منذ فجر دعوته في العهد النبوي بالتوسط والاعتدال والسماحة واليسر، ودفع الحرج والمشقة سواء في العقيدة أو العبادة أو الأخلاق والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ فهو دين الحنيفية السمحة.
الوسطية في التصور الإسلامي، هي المنهج الوحيد الذي يصلح لأن يكون البديل عن منزلق الإفراط وهاوية التفريط، واعتماد الوسطية في الرؤية والفكر والمعالجة ينبغي أن يتداعى له أهل العلم والفكر والرأي ، والرد على محاولات تفريغ الإسلام من محتواه، وتعطيل رسالته، أو تشويهها، في مقابل التصدي لنزعات التشدد، والتطرف والغلو التي كان لها دور ملموس في التعمية على صورة الإسلام النقية.
ويؤكد العلماء المسلمون أن من أسباب التعصب تضخيم الذات والجهل والتخلف المعرفي، إضافة إلى غياب أخلاقيات التعامل مع المخالف.
والعوامل التي تؤدي إلى التطرف والتعصب متداخلة منها ضعف البصيرة بحقيقة الدين، مما ينتج عنه التفريط والتسيّب، وينتج عنه في نفس الوقت التشدّد والغلوّ.
وحتى يكون تناولنا لقضية الوسطية تناولاً سليماً، فإننا نرجع أسباب الإرهاب إلى غياب الحريات والدساتير ووجود الحاكم المستبد وشيوع الظلم في المجتمعات، وليس هذا فقط، بل هناك أسباب عديدة أدت إلى استفحال الإرهاب في العالم.
إن ما يفعله الغرب المسيحي من أفعال، وما يتخذه من مواقف ضد العرب والمسلمين ممتدة عبر عشرات بل مئات السنين، وكان أقربها تلك الرسوم المسيئة، يدعم ما يقوله كثير من المسلمين أن التطرف وُلِد مع الغرب الصليبي، وأن نشوء حركات إسلامية مغالية ما هو إلا رد فعل لإصرار الغرب على معاداة ديننا الإسلامي الحنيف وفرض رؤيته علينا.
الوسطية ومواجهة الاحتلال والهيمنة
إن الفكر الوسطي يرى أن الإسلام يعترف بالتعددية الدينية والدولية، ويلتزم بالعهود مهما اختلفت العقائد، كما يلتزم بالتسامح والتعايش مع الملل الأخرى على أساس المعاملة بالمثل، كما يتعاون مع الدول الملتزمة بالعدالة والسلام. ولكن بالنسبة للمعتدين والمحتلين فإن الواجب الديني والقانوني هو التصدي لهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
فالممارسات الاستعمارية الصهيونية في فلسطين المحتلة، وكذلك ممارسات الاستعمار الأمريكي في العراق وأفغانستان، ومشاريعه في الهيمنة والسيطرة على العالم الإسلامي، تؤثر بشكل مباشر في ملايين من العرب والمسلمين.
كما أن سياسات الهيمنة الأجنبية في المنطقة العربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترسخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتسكت عن ممارساته المتحدية للشرعية الدولية، بل وتدعمه ماديًا وعسكريًا، وتحول دون قيام الأمم المتحدة بدورها في مواجهة العدوان، وتعتمد معيارين في مواقفها؛ تثير الغضب والنقمة وتدفع الشباب العربي والإسلامي إلى اللجوء للفكر المتطرف، ومن ثم ممارسة العنف في مواجهتها.
وإذا كنا لا نجوّز قتل المدنيين، إلا أننا ندرك أن غياب العدالة، والاعتداء على سيادة الناس واستقلالهم، وتدمير منازلهم وتجريف مزارعهم، والعدوان على مساجدهم، هو الدافع الرئيس لهذا النوع من العمل.
ولا نستطيع أن نتحدث في مثل هذه الأجواء عن الوسطية المعتدلة، فلا وسطية مع الاحتلال والهيمنة والاستيلاء على مقدرات الأمة وقتل أبنائها.
فالمقاومة حق مشروع لتحرير الأرض والعرض، والوقوف في وجه مخططات الأعداء الرامية إلى إذلال الأمة.(1/47)
نحن نقبل الآخر، فهل يقبلنا الآخر؟ هل يقبل الآخر وجود وسطية، ودعاة لها، أم أنهم سعداء بانتشار الغلو؛ لأنه يحشد القوات للقضاء على خصومهم الفكريين نيابة عنهم؟
توصيات هامة
وقد أكد البيان الختامي لمؤتمر الوسطية أن الوسطية مفهوم أصيل في الإسلام، وسمة بارزة من سمات الأمة الإسلامية، وهي ليست قيمة عرضية أو نتاجاً لظرف طارئ. وما يشهده الإسلام اليوم من تشويه حضاري لصورته إنما هو بسبب غلو يقع فيه بعض المنتسبين إليه، أو تقصير يؤدي إلى التحلل من ثوابت الدين، لذلك يجب إحياء مفهوم الوسطية وضبط معاييرها وتجلية مستلزماتها فهماً وسلوكاً.
وأوضح البيان أن الوسطية تقدم منهجاً متوازناً، مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل، ثابتاً في الكليات، مرناً في الجزئيات، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان.
وشدد البيان على أن الوسطية هي منهج في فهم الإسلام يقوم على الإقرار بحق الاختلاف المشروع في ظنيات الأحكام وموارد الاجتهاد وفروع المسائل وتحقيق المناط، وهو من باب الرحمة والتوسعة والتيسير على الأمة ورفع الحرج عنها.
واتفق المشاركون على أن الوسطية ليست مذهباً جديداًَ يلزم الناس برأي واحد، بل هي إعمال لفقه الائتلاف ورعاية لحق الاختلاف المنضبطة بأحكامه وآدابه.
وأكد البيان على اعتماد منهج القرآن والسنة القائمين على اليسر والوضوح في بيان العقيدة وتحريرها من المباحث الكلامية والفلسفية والخلافات التاريخية، إلى جانب ترسيخ حقائق الإيمان بآيات الكتاب المسطور والكون المنظور، والتركيز على إبراز أثرها على السلوك.
وأوصى البيان بضرورة مراعاة خصوصيات الوجود الإسلامي في أوروبا، وما يقتضيه من نظر فقهي يأخذ بعين الاعتبار الاستقرار الذي آل إليه حال المسلمين في الغرب. فمن مقتضيات الوسطية تفعيل فقه الأقليات المسلمة في بلاد الغرب الذي لا يُعدّ فقهاً مبتدعاً، إنما هو إبراز الأصول والقواعد الفقهية الموجودة في تراثنا الفقهي والأصولي، وأكد البيان على ضرورة الوحدة بين المسلمين في الأخذ بثوابت دينهم ونبذ الاختلاف المذموم، مع التسامح فيما هو خلاف تحتمله أدلة الشريعة وأنه لا إنكار فيما اختلف فيه أهل العلم.
واتفق المشاركون على تحرير بعض المفاهيم الإسلامية في ضوء مبدأ الوسطية، ومنها مفهوم الجهاد الذي يعني في النصوص الإسلامية الثابتة جهاد النفس، وجهاد السلوك، وجهاد الدعوة، وجهاد عمل الخير، كما يعني القتال لرد العدوان وفق الشروط والضوابط الشرعية. وأوصى المشاركون في المؤتمر بالاعتراف بأن التعددية والاختلاف بين البشر من سنن الله في خلقه، وأن الإسلام يدعو إلى التعارف والتعاون والتعايش، مع احترام الخصوصيات الدينية والثقافية لجميع الشعوب والحضارات.
وأوضح البيان أن الوفاء بمقتضيات المواطنة في أي دولة يقيم فيها المسلم لا يتعارض مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأن المسلمين مدعوون للقيام بواجبات المواطنة، والمساهمة في حياة المجتمع، وخدمة الصالح العام، والمساهمة في أمن البلاد واستقرارها، مع العمل على تفعيل ما تكفله لهم القوانين ومواثيق حقوق الإنسان.
وأكد البيان على مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع، وأن الإسلام بوسطيته الربانية كفل لها حقوقها، وقرر مساواتها بالرجل، والتكامل في الوظائف بما يحقق التوازن الأسري والسعادة الإنسانية.
وأشار البيان إلى أن الإعلام بتعدد وسائطه، وسعة تأثيره في عصرنا الحاضر يحتاج من المسلمين اهتماماً كبيراً من حيث الانفتاح على وسائل الإعلام بخطاب إسلامي معاصر، قوي المضمون، ذي أسلوب جذاب.
ومن هنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة إنتاج برامج ثقافية وإعلامية ودعوية بالتعاون مع المؤسسات الإسلامية القائمة في أوروبا، من أجل ترسيخ مبدأ الوسطية بين المسلمين: فهماً وفقهاً وممارسة للتعريف بالإسلام، وتفعيل جسور التواصل والحوار الحضاري في إطار المجتمعات الأوروبية
==============
مؤتمر عمان.. وإشكالية الخطاب السياسي الإسلامي
عمان/ محمد أبو رمان 4/5/1427
31/05/2006
بعد جلسات من الحوار والنقاش الفكري والسياسي انتهتت أعمال مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني"، في عمان (27-29 أيار)، والذي شارك فيه قرابة خمسين وباحثا وناشطا في الحقل الإسلامي من أكثر من عشرين دولة عربية ومسلمة. واشتمل الحوار على عدة محاور رئيسة في الخطاب الإسلامي، أبرزها: الدين والدولة، المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق الأقليات وحقوق المرأة، التعددية السياسية والفكرية والمذهبية، فقه الأقليات المسلمة في الخارج.(1/48)
أكدت الورقة الختامية، التي جاءت بعنوان "نحو رؤية مشتركة"، على أن إقصاء الإسلاميين عن العمل السياسي والمدني العام هو أقصر الطرق إلى التطرف والعنف الفكري والسياسي ، وأن تجاوز أزمة الإصلاح السياسي يكمن بوجود تفاهمات مع الحركات الإسلامية ، التي تؤمن بالعمل السلمي وبالتعددية السياسية والفكرية والمذهبية. ويمكن القول إنّ الرسالة الرئيسة للمؤتمر تتمثل بضرورة إدماج الإسلاميين في اللعبة السياسية في العالم العربي، مع دعوة الحركات الإسلامية إلى حسم موقفها في المسألة الديمقراطية، ودعوة الغرب إلى إنهاء "الفيتو" ضد وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في كثير من الدول العربية - ونموذج التعاطي الغربي مع فوز حماس خير دليل على ذلك - ، فكما تطالب الحركات الإسلامية بالقبول باللعبة الديمقراطية لا بد أن تقبل اللعبة الديمقراطية بهم.
في هذا السياق من الملاحظ أنّ هنالك اتجاها إسلاميّا متزايدا نحو المشاركة السياسية والقبول بالتعددية، في السنوات الأخيرة، تؤكد ذلك مبادرات متعددة صدرت عن حركات إسلامية في كثير من الدول العربية، تتوازى مع بعض التجارب المتميزة في العمل الإسلامي التي قطعت شوطا كبيرا باتجاه تجديدٍ في الخطاب وبراغماتيةٍ في الممارسة السياسية ، ومرونةٍ في الاجتهاد والتعامل مع المشكلات المعاصرة. في المقابل، من الواضح أنّ فجوةً لا تزال قائمة بين رؤية نخب إسلامية مثقفة تقدم خطابا تجديديا وبين بعض الحركات الإسلامية، بخاصة في المشرق العربي، التي لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى في عملية التجديد والاجتهاد، ويعود ذلك إلى غلبة الشواغل السياسية على نشاط الحركات الإسلامية من ناحية ، ووجود اتجاه داخلها يعرقل ويقزم من مستوى التجديد والاجتهاد المأمول، على الرغم أنّ وجود رؤية فكرية اجتهادية- عملية يحل كثيرا من المشكلات المطروحة على الإسلاميين اليوم.
لكن، ثمة تساؤل مشروع يطرح في هذا السياق وهو: ما الحاجة إلى خطاب إسلامي ديمقراطي طالما أنّ أغلب النظم العربية ليست ديمقراطية أصلا ، ولا تقبل بالتعددية السياسية وبتداول السلطة، وفوق هذا وذاك تحرم كثير منها الإسلاميين - تحديدا- من فرصة المشاركة المشروعة في العملية السياسية؟..
الجواب على هذا التساؤل يكمن في عدة قضايا:
أولاً؛ الحاجة إلى خطاب إسلامي ديمقراطي ليست مرتبطة باللعبة السياسية فقط، وإنما حاجة حضارية، فهي مطلب اجتماعي- ثقافي يقوم على تكريس قيم التعددية والحرية والحق في الاختلاف والتسامح مع الآخر بين أفراد المجتمع وقواه المختلفة، وتعليم ذلك في المدارس والجامعات والمنتديات والمؤسسات الاجتماعية المختلفة. فالقيم الديمقراطية والمدنية لا تأتي من فراغ، إذ تتطلب بيئة اجتماعية- ثقافية حاضنة. والقاعدة، هنا واضحة، المجتمع الدكتاتوري لا ينتج ديمقراطية سياسية، حتى وإن شهد انتخابات ومجالس نيابية وصحفا وأحزاب معارضة. ما يعني ابتداء أنّ على الحركة الإسلامية أن تقدم دورا تنويريا في المجتمع باتجاه تكريس القيم المدنية والديمقراطية ، انطلاقا من الثوابت والمرجعية الإسلامية الأصيلة ، لتحكم الحياة الاجتماعية بما ينعكس على السلوك السياسي.
ثانيا؛ أمام الحركة الإسلامية طريقان في تحقيق الأهداف السياسية: إمّا العمل المسلّح وإمّا العمل السلمي الديمقراطي، وما دامت الحركات الإسلامية المعتدلة تؤكد رفضها للعنف، فعليها أن تصر على خيارها الديمقراطي وتؤكد عليه تماما، وهو الكفيل مع مرور الوقت بإحداث اختراق في الحياة السياسية العربية، بخاصة أننا أمام مرحلة انتقالية؛ إذ تعاني النظم العربية من تآكل في شرعيتها ومن أمراض الشيخوخة، ومن عدم القدرة على تجديد هياكلها السياسية، وهو ما يوفر فرصة تاريخية للإسلاميين إذا أحسنوا التعامل مع اللحظة التاريخية.
ثالثا؛ الخيار الديمقراطي للحركات الإسلامية لا يقف عند درجة القيم والخطاب، إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية وتعددية في سياق خطابات ومواقف سياسية متحجرة أو جامدة، فلا بد من تطوير المواقف السياسية ، والاقتراب بها أكثر من مشكلات الواقع والتحلي بقدر كبير من البراغماتية والمرونة التي تساعد على الانتقال من لغة الشعارات والأيدلوجيا إلى البرامج السياسية الممكنة، وهو ما يعني أن على الإسلاميين مراحل يجب أن يقطعوها على طريق الديمقراطية.
أخيرا؛ الحاجة الأهم للتيار الإسلامي- الديمقراطي ليست للإدماج في اللعبة السياسية الحالية فقط، لكن لبناء جبهة إصلاحية من القوى العربية المختلفة تدفع باتجاه الديمقراطية، وهو ما يساعد، في المحصلة، في التأكيد على مسار الإصلاح السياسي كخيار للجميع .
===========
أمتي في العالم .. ترصد حال الأمة الإسلامية خلال قرن كامل
الإسلام اليوم - القاهرة 3/11/1423
06/01/2003
أمتي في العالم .. ترصد حال الأمة الإسلامية خلال قرن كامل
(50 ) باحثا ينتمون لـ( 15 ) دولة يضعون أضخم مشروع علمي يتناول أسلمة المعرفة وصياغة رؤية إسلامية تستجيب لعصر العولمة(1/49)
أمتي في العالم ..عنوان أول وأضخم مشروع علمي من نوعه عكف على إعداده ما يقرب من (50) متخصصا من شتي أنحاء العالم ؛ لرصد حال الأمة الإسلامية خلال القرن العشرين .. وضعوا أيديهم على العلل وكشفوا أسباب الخلل ..طرحوا الاستفسارات وصاغوا النتائج والإجابات .. كشفوا حالنا بكل صدق وأمانة ، وطرحوا رؤية إسلامية تستجيب لتحدي حضارة عصر المعلومات .. حاول المشروع أن يضع النقاط علي الحروف في الإجابة علي عدة تساؤلات أهمها :
هل ما زال هناك ما يمكن أن يطلق عليه الأمة الإسلامية رغم تفرق المسلمين في كل أنحاء العالم وعدم وجود دولة واحدة تجمعهم ؟
وإذا كان موجودا بالفعل فكيف يمكن تحديده ورسم معالمه فضلا عن رصد حركته وتطوره ؟ إذا أمكن ذلك فماذا سنصف حال هذه الأمة في القرن العشرين الذي شهد سقوط أخر دولة جامعة كان ينظر إليها باعتبارها دولة الإسلام وذلك بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924.؟
هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها أحدث وأضخم مشروع علمي في العالم الإسلامي تم الانتهاء منه مؤخرا ، وصدر في ستة مجلدات ضخمة تضمها حولية ( أمتي في العالم ) ويصدرها مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة الذي ترأسه الدكتورة نادية مصطفي أستاذ العلاقات الدولية ومدير مركز البحوث السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
وحولية (أمتي في العالم ) هي الدورية السياسية الأولي وربما الوحيدة في العالم التي تقوم علي التوظيف ( الأمة ) كوحدة تحليل سياسي في دراسة العلاقات الدولية التي تعتمد أساسا علي مفهوم ( الدولة ) وقد صدر منها قبل ذلك عددان الأول خصص لدراسة تأثيرات العولمة علي الأمة الإسلامية والثاني عن العلاقات البينية الإسلامية.. في حين جاء العدد ( الثالث والرابع ) ليقدم رؤية كلية شاملة لتطور حال الأمة الإسلامية في كل المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية عبر القرن العشرين بأكمله.
والمشروع الضخم الذي يعد الأول وربما الوحيد في موضوعه استغرق العمل فيه نحو ثلاث أعوام كاملة حيث تم التخطيط في يناير 2000 من فريق عمل برئاسة المفكر والمؤرخ الإسلامي المستشار طارق البشري.. وشارك في إعداده نحو خمسين أستاذا وباحثا من شتي أنحاء العالم ( مصر وفلسطين الأمارات الجزائر الأردن السعودية لبنان العراق الكويت تونس إيران البلقان ألمانيا والولايات المتحدة )..وقد جاء امتدادا لمشروع سابق قام به مركز الحضارة بالتعاون مع جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بفرجينيا.. والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن عن "العلاقات الدولية في الإسلام" استغرق نحو عشرة سنوات وصدر عام 1997 في ثلاثة عشر جزءا كان بعضها قد خصص لدراسة وضع الدولة ثم الدول الإسلامية في النظام الدولي عبر تطوره التاريخي.. وهي الدراسة التي أثمرت فكرة توظيف مفهوم الأمة كوحدة في التحليل السياسي للعلاقات الدولية .
أسلمة المعرفة
المشروع في مجمله تجسيد لمنهجية جديدة في حقل العلوم السياسية أساسها وصل ما انقطع بين مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب والعلوم الإسلامية وردم الهوة السحيقة التي تفصل بينهما وهو ما أطلق عليه "أسلمة المعرفة" ورغم أن الفكرة تجاوز عمرها ربع القرن إلا إنها مازالت تلقي معارضة شديدة ونقدا عنيفا ليس فقط من أنصار التيار العلماني الذي لا يرى فيها إلا عملية تلفيق تهدف للسطو علي منجزات الحضارة الغربية دون المرور من أبوابها الرئيسية وتبني منطقاتها وأفكارها ولكن أيضا من تيارات إسلامية تري في أسلمة مناهج العلوم الغربية أقوى اختراق لنقاء الفكرة والعقيدة الإسلامية
التحديات والاستجابات
والخيط الناظم لهذا المشروع الضخم الذي يتسع نطاقه زمنيا ليمتد عبر قرن كامل ومكانيا ليغطي كل أرجاء المعمورة التي يسكنها مسلمون هو التحديات والاستجابات حيث واجه هذا القرن كما ترصد - د. نادية مصطفي في تقديمها للمشروع - الأمة بجملة تحديات متحركة عبر سنوات طويلة اختلفت استجابات لها من مكان لأخر ومن فترة لغيرها فتنقلت الأمة الإسلامية من تحدي استحكام الاستعمار التقليدي إلى تحدي العولمة، ومن تحدي حركات المقاومة ضد الاستعمار إلى تحدي بناء الدولة الوطنية الحديثة إلى تحدي الصحوة الإسلامية إلى تحدي الدول المخترقة، ومن تحدي فقدان الخلافة إلى تحدي التنظيم الدولي الإسلامي ومن تحدي الاستشراف إلي تحدي التهميش ومن تحدي فكر الجهاد إلى تحدي فكر التجديد للإصلاح إلى تحدي المشروع الحضاري الإسلامي الجديد .
وقد رصدت دراسات المشروع التي بلغت اثنتين وخمسين، هذه التحديات ويشكل استجابات الأمة الإسلامية لها علي أربعة مستويات هي :
عوالم الأفكار ، والإحداث ، والأشخاص ، والمؤسسات التي تشكل مجتمعه عوالم الأمة الإسلامية ، التي لا تتحرج الحولية من الاعتراف بأن مفهومها صار محل شك ومراجعة بسبب الضغوط والقيود التي يعانيها في الواقع المعاش والذي يبعد بها كثيرا عن متطلبات المفهوم القرآني والخبرة والخبرة التاريخية في دولة المدينة والخلافة الراشدة .
النظرية والواقع(1/50)
والكتاب الأول من كتب الحولية الستة يمثل التمهيد النظري والبناء الفكري للمشروع حيث يبدأ بتأسيس مفهوم الأمة ، راصدا المفارقات الصارخة بين النظرية والواقع فيقدم دراسة لمفهوم الأمة في القرآن وفي الأدبيات الإسلامية في القرن العشرين.. ثم ينتقل لعرض رؤية كلية لمكانة الأمة وإمكانياتها عالميا فيرصد ثقلها الديمقراطي ومقدراتها الاقتصادية ويختتم بملحق لخرائط وببليوجرافيا للتعريف بأقطار الأمة التي يراها متمثلة في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي .
ويقدم الكتاب الثاني دراسة للحالة الفكرية للأمة من اتجاهات وتطورات وحوارات العقل المسلم.. فيضم دراسات تفصيلية في شؤون الفكر الإسلامي وتطور اتجاهاته .. والتعليم وتطور الخبرات الثقافية ، وإشكاليات ومناهج ومعوقات الفلسفة العربية ، والعلاقة بين الفقه الإسلامي والتغيير القانوني الذي شهدته الدول المسلمة ، وقضية المرأة المسلمة ، وحقوق الإنسان في الإسلام ومستقبل الأمة بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية ، ثم يختتم بدراسة تحليلية لأهم حوارات القرن العشرين من خلال النموذج المصري .
المسلمون في عالم الإسلام
وخصص الكتاب الثالث للكشف عن حالة الإسلام والمسلمين في عالم الإسلام والدولة سواء في الشرق العربي أو قارة الإسلام"أفريقيا" والوضع الديني بها ، وتطورها التاريخي من الإرث الاستعماري إلى عصر العولمة ، وكذلك في موطن الإسلام "آسيا" حيث صراع الهوية في تركيا ، ومخاوف التفكك بعد الاستقلال في اندونيسيا ، وتطور وضع القدس تاريخيا ودراسة آلية توظيف الإسلام في السياسة الخارجية في مصر إحدى دول الأركان في الأمة الإسلامية
وينتقل الكتاب الرابع بالحولية إلى دراسة التفاعلات الداخلة في الأمة الإسلامية والقوي الفاعلة فيها "حركات وجمعيات ومؤسسات " فيستعرض آليات تعاطي الحركات الإسلامية مع الاستعمار الغابر ، ثم الأنظمة القائمة وتفاعلات الحركات الإسلامية مع الاستعمار الغربي، ويرصد الملامح العامة للعمل الأهلي الإسلامي في القرن العشرين .
ثم يعرج علي المؤسسات الدينية ذات التأثير الحضاري كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس والحجوزات الدينية في " قم" الإيرانية ومؤسسات الأوقاف .. ويختتم بدراسة شاملة لدور المؤسسة العسكرية في العالم الإسلامي.
أقوام داخل الأمة
ويعرض الكتاب الخامس لحالات مختلفة في وضع الأقوام والأعراق والملل داخل الأمة الواحدة التي توجد بها حالات تعيش فيها ملل غير مسلمة في بلدان غالبيتها مسلمون مثل نيجيريا والسودان ، وحالات لأقوام مسلمة ذات تمايزت وخصوصيات ثقافية أو لغوية أو عرقية مثل الأكراد والبربر وحالات بارزة للخلاف مثل السنة والشيعة, كما توجد بها نماذج لتجمعات إسلامية ذات ثقل ديمجرافي في بلاد انحسر عنها سلطان الإسلام مثل البلقان والهند والقوقاز ، ونماذج لتجمعات إسلامية أخرى ظهرت في بلاد غير مسلمة مثل الجالية المسلمة في أوربا
فيقدم الكتاب محاولة للتجديد في فقه الأقليات ودراسة لنماذج من جنوب السودان ونيجيريا والبربر والأكراد ، ويعرج علي الخلاف السني والشيعي ، ويدرس أحوال المسلمين على حواف عالم الإسلام في شمال القوقاز والبلقان والهند ، وكذلك يذهب إلي الجاليات المسلمة في الغرب من خلال الحالة الألمانية ...
أما الكتاب السادس والأخير فيعود مرة أخري إلى الرؤية الكلية للمشروع من خلال دراسة التحديات التي تواجهها الأمة مستقبلا ، وأبرزها تحدي الصهيونية ، مقدما ظاهرة الانتفاضة في فلسطين كاستجابة رائعة للتحدي، كما يقدم محاولة لصياغة رؤية إسلامية تستجيب لتحدي حضارة عصر المعلومات .. ثم يختتم بدراسة رائعة تؤصل لمنهج شامل في الدراسات المستقبلية الخاصة بأوضاع العالم الإسلامي
============
مهام إسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية
الاسلام اليوم- ميشيغن - محمّد سليمان 1/2/1423
14/04/2002(1/51)
تواصل المؤسسات الإعلامية الأمريكية -هذه الأيام- حملتها الكبيرة ضد الحركات الإسلامية بشكل خاص والعالم الإسلامي بشكل عام ، حيث تستمر العديد من القنوات الفضائية في محاولاتها تشويه صورة الحركات الإسلامية وتقديمها وكأنها - كلها- تجمعات للإرهابيين الذين ليس لهم هدف إلاّ القتل والذبح ، وإذا تابعت محطة تلفزيونية(فوكس نيوز ) على سبيل المثال ، وجدت عرضاً دائماً لبرامج حول العالم الإسلامي ، لكن في إطار يتخصص في مناقشة حقوق النساء تحت حكم حركة "طالبان"، أو برامج خاصة عن الزعيم العراقي "صدّام حسين" ، والأصولية في العالم العربي، حتى يخيّل إليك أنّ العالم العربي عبارة عن عالم أشباح وإجرام ، بل وتقوم بعض المحطات بإعادة بث أفلام عن الإرهاب الإسلامي ، كالفيلم الذي قام ببطولته الممثل الأمريكي المعروف في مسلسل ( والكر جوّال تكساس ) وتقوم قصته : على أنّ "حزب الله" في جنوب لبنان قام باحتجاز رهائن أمريكيين ، ويعرض الفيلم نجاح البطل الأمريكي مع مجموعة من المارينز في تخليص الرهائن ، بصورة تمتلئ بالاستهزاء "بحزب الله" وتقديم أعضاء الحزب وكأنهم مجموعة من الهمج والبربر والأغبياء، مع وصول الإساءة لعدد من المراجع الشيعية الإيرانية . وتكمن المشكلة في الدور المعروف الذي تلعبه وسائل الإعلام الأمريكية في صياغة ليس الرأي العام فحسب ، بل والثقافة العامّة الأمريكية.
ولا تقف حدود الحملة على العرب والحركات الإسلامية عند الإعلام ، إذ تشمل بشكل خطير ومسف التجسس الأمني ، والمتابعات الاستخبارية للمنظمات الإسلامية هنا ، حيث قامت أجهزة ألـ ( أف بي أي ) بتفتيش العديد من المنازل ومداهمة عدة مؤسسات إسلامية أبرزها المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، بطريقة همجية دون مراعاة لأي حرمات ، مما حدا بالمفكر الإسلامي(وأحد المسؤولين الرئيسين في المعهد ) د. "لؤي صافي" بالتصريح ( في مؤتمر صحفي عقدته عدة منظمات إسلامية ونشرت "نييورك تايمز" بعض فقراته ) : " بأنّ هذه حملة على الإسلام " وليس فقط على الحركات الإسلامية ، هذا و يعتبر المعهد العالمي من المؤسسات البحثية ، وليس له أي نشاط سياسي ، بل ويعتبر المعهد من المراكز العلمية المعتدلة جدا! في طرحها الإسلامي ، خاصة أثناء الأزمة الأخيرة . كما أفرزت الحملة الإعلامية والأمنية حالة من الترقب والقلق لدى المنظمات والجمعيات الإسلامية ، وبدأ عدد من أفراد هذه الجمعيات بالتندر بالقول " في السابق كان الإسلاميون والمعارضون في العالم العربي (بشكل عام) يغبطون الموجودين في الدول الغربية على ما هم فيه من حرية في التعبير والعمل ، أمّا الآن فنحن نغبطهم على نعمة الأمن الذي يعيشونه على ما فيه من علاّت" .
وإذا كان ما سبق بعض الأمثلة على الحملة ضد المنظمات الإسلامية ، فإن هناك محاولات جزئية للقيام بحملة مضادة تهدف إلى تجلية الصورة الحقيقية للحركات الإسلامية والإسلام بشكل عام ، ومن ذلك ( على سبيل المثال ) نشاطات اتحاد الطلبة المسلمين في جامعة UNIVERSITY OF MICHIGAN ) ) في مدينة "آن أربر" في ولاية ميشيغن ، حيث يقوم الاتحاد بالعديد من الأنشطة الجبارة قي مواجهة الحملة السابقة ، ومن ذلك مجموعة من المحاضرات التي يؤمّها عدد كبير من الحضور ، إذ أقام قبل عدّة أيّام محاضرة للداعية الأمريكي المعروف " سراج وهّاج " عن الوجود الإسلامي في الولايات المتّحدة ، كما نظّم الاتحاد برنامجاً رائعاً للتعريف بالإسلام تحت عنوان " يوم في الحياة " ؛ اشتمل على العديد من النشاطات الثقافية والاجتماعية ، في حين نظّم عدة مسيرات طلابية في دعم الشعب الفلسطيني ، والتي جابت مرافق في الجامعة ، بالإضافة إلى النشاطات شبه اليومية بالتعريف بالمجازر اليهودية في فلسطين . ومن النشاطات الحالية للاتحاد ( الذي يضم طلاّباً من مختلف الدول الإسلامية ) مؤتمر حافل بالمحاضرات المتخصصة في دفع حملات التشويه يشارك فيه عدد من السياسيين الأمريكان والعرب ومجموعة من الأكادميين والإعلاميين . و في جانب آخر نظّمت مسيرة للجالية الإسلامية في مدينة ديترويت ( عاصمة ولاية ميشيغن ) للمطالبة بإطلاق سراح المواطن العربي " ربيع حدّاد " والذي ما تزال السلطات الأمنية تحتجزه منذ شهور دون وجود أية أدلة واضحة ضدّه .
و في حين لا يمكن تجاوز أو إنكار المجهودات المتواصلة التي تقوم بها التنظيمات والجمعيّات الإسلامية والعربية ؛ غير أنّ المعمول به إلى الآن لا يرقى إلى مستوى التحدّي الخطير ، ولا يتناسق مع حجم الوجود العربي والإسلامي هنا ، حيث تدعو الحاجة الحقيقية اليوم إلى تنظيم الجهود بشكل أكبر , وتخصيص موارد مالية أكثر لدعم هذه الجهود ، ومن المهام الأساسية التي تنتظر المؤسسات العربية والإسلامية :
- الدخول الى المجال الإعلامي من خلال التخطيط في التأثير على بعض القتوات الفضائية ، والصحف والمجلاّت.
- استثمار و إيجاد الوسائل المناسبة لعرض حقائق الإسلام ، وعدالة القضية العربية ، و تجلية العديد من الموضوعات الخلافية .(1/52)
- بناء المؤسسات التي تساهم في بلورة هوية وأهداف المجتمع المسلم هنا ، وتساهم في توثيق العلائق وتوحيد الجهود لخدمة قضايا المسلمين .
- المساهمة في بلورة جهود نظرية واجتهادية - من خلال مجموعة من المتخصصين - تهدي الفرد المسلم إلى كيفية التعامل مع هذه المجتمعات ، وضوابط الممارسة الحضارية والثقافية مع الحياة العامة الخاصة في المجتمعات الغربية ، ولاشك أنّ هذا يدخل ضمن فقه الأقليات الإسلامية الذي يحتاج لتكامل الجهود و الرؤى التأصيلية لإنضاجه.
أخيراً فإنّ من الواضح أنّ أحداث الحادي عشر من أيلول ، والتأزم المتزايد في الأرض المحتلة ، والتحيز الفاضح للموقف الأمريكي ، مع تهافت الموقف الرسمي العربي ، كل هذه وتلك : ساهمت بإيجاد وعي إسلامي جديد في الولايات المتحدة ؛ إذْ وضعت الجالية الإسلامية هنا على المحك ، فبدأت بتلمس طريقها في الدفاع عن مصالحها والتعبير عن هويتها في هذه البلاد
============
لا يزال بعض العلماء يعيشون زمانهم
حوار : عبد الله الرشيد / الرياض 28/8/1426
02/10/2005
- هناك من يفتش في ملفات أغلقها المسلمون منذ قرون
- ضبط العلماء لانفعالاتهم وتحكيمهم للعقل صوّرهم بمظهر المغيبين
نفى المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور صلاح الصاوي - الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا - أن تكون الأمة الإسلامية تعيش في حالة "أزمة" جراء التقلص في إعداد العلماء الموسوعيين من أصحاب "الكاريزما" العالية في أوساط المجتمعات, وقال: إن بالعالم الإسلامي الآن مجموعة كبيرة من العلماء الأكفاء, غير أن الشيخ الصاوي أقرّ بخسارة الأمة لجيل من العلماء يصعب تعويضهم في إشارة إلى الشيخ "ابن باز" و"ابن عثيمين"، والألباني، والسيد سابق ...وغيرهم.
وعدّ الشيخ صلاح الصاوي في حوار له مع (الإسلام اليوم) أن الاعتقاد بخلو عصر من العلماء أمر لا يستقيم ؛ إذ إن الله تعالى "يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر عدولاً تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة".
ولدى سؤاله عن الغياب الملاحظ لبعض العلماء المعاصرين الكبار قال الصاوي: "إن الغياب المشاهد للعلماء عن الساحة سببه أنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيّبين وما هم بمغيّبين".
وشدّد الشيخ صلاح الصاوي على ضرورة المزج بين "خبرة الخبراء وفقه الفقهاء" للخروج برأي سديد حول المستجدات والنوازل الحديثة، معتبراً أن قيام مرجعية علمية تضم نخبة من العلماء المعاصرين هو من "الواجبات"...
هل ترى أن هناك أزمة حقيقية في أوساط العلماء، بسبب تقلص الرموز الكاريزمية، ومحدودية تأثيرهم وغلبة الخوف على صياغة مواقفهم؟
ابتداء: لا يخلو وجه الأرض من قائم لله بحجة، ولا تزال طائفة من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمين على الحق لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله، ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل المبطلين وانتحال الجاهلين، وهؤلاء هم الفرقة الناجية التي لا يخلو منها زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينطفئ سراج الحياة.
ومن ناحية أخرى لا يخفى أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، كما أخبر بذلك المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وقد شهدت العقود الأخيرة رحيل كثير من قيادات العمل الإسلامي المعاصر، لقد رحل الشيخ "ابن باز" والشيخ "ابن عثيمين"، والشيخ الألباني، والشيخ سيد سابق، والشيخ مناع القطان وكثيرون آخرون، ولا شك أن رحيل هؤلاء قد أوجد فراغاً لا يُستهان به، وجيل الكبار يعسر تعويضه، الأمر الذي يشكل ملامح أزمة حقيقية نسأل الله أن يجبر كسر الأمة في رحيل علمائها، وأن يعوّضها عنهم خيراً، ويبقى في النهاية أن هذه الأمة ولود، وأنها كالغيث لا يُدرى أوله خير أم آخره، وأن الله يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر علماء تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة!.
وما موقفكم من التجديد الناشئ في مفردات الخطاب العلمي في بعض المسائل والمواقف، كالانتخابات والتحالفات السياسية والتعددية السياسية، وما إلى ذلك مما يتعلق بالحراك السياسي السلمي؟
ابتداء أرجو أن نفرّق بين نوعين من أنواع التغير في الخطاب الدعوي:(1/53)
أولهما: تغير أصاب بعض الثوابت، وزلزل أصولاً مستقرة قالت الأمة فيها كلمتها، وأغلقت ملفها منذ قرون، وهذا يعكس أزمة حقيقية، بل يمثل كارثة فكرية ودعوية ومنهجية أسأل الله أن يقي الأمة شرها، وأن يرد من ابتلوا بها إلى دينه رداً جميلاً! لقد رأينا في بعض المواقع خاصة في الأوساط الغربية من يجادلون في فرضية الحجاب على سبيل المثال، وأنا هنا لا أقصد الإشارة إلى الخلاف المعروف حول الوجه والكفين، وإنما أقصد تغطية ما سوى الوجه والكفين، وأصبحت هذه القضية الجوهرية تُقدّم على أنها مسألة خلافية في قضية فرعية ، وقد رأينا من يجادل في إطلاق كلمة الكفر على من لم يدن بدين الإسلام من غير المسلمين، وقد رأينا من يجادل في حرمة الربا في المجتمعات الغربية، وقد رأينا من يجادل في معالم أساسية في قضية الولاء، ويتحدثون عن الاندماج الكامل في حضارة هذه المجتمعات تحت دعاوى الاستنارة والعقلانية والواقعية ... الخ، ومثل هذا الخلل لا سيبل إلى تسويغه، ولا وجه لتخريجه مهما حاول المبطلون واجتهد المستنيرون!.
أما الثاني: فهو تغيّر طرأ على بعض القضايا الاجتهادية التي تُبنى على أساس النظر العرفي أو على أساس النظر المصلحي، ولا يخفى أن الفتوى في مثل هذا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فما بُني من الفتوى على العُرف تغيّر بتغيره، وما بُني منها على الاستصلاح تغيّر بتغيّر وجوه المصلحة وهكذا، وجل ما أشرت إليه من القضايا كان النظر فيها مصلحياً، فليس بغريب تغيّره بتغيّر وجوه هذه المصالح.
هذا.. ويغلب على التجديد الناشئ في الخطاب العلمي المتعلق بهذه المسائل أنه يرجع في الجملة إلى اختلاف العصر والزمان، وليس اختلاف الحجة والبرهان، فقد جدت متغيرات كثيرة في الساحة الدعوية، وتجدّد معها الموقف الفقهي والدعوي تجاه كثير من هذه القضايا، ويبقى بعد ذلك أن النظر في هذه المسائل دقيق وشائك، ففي أزمنة الفتن وغربة الدين يكثر اختلاط المصالح بالمفاسد، فلا تكاد تتمحض مصلحة في كثير من المواقف، بل الاختلاط الذي ينشأ عنه الالتباس والإيهام، فهو بحق مزلة أقدام ومدحضة أفهام، والمعصوم من عصمه الله -عز وجل- ولا يخفى أن مرد الخطأ والصواب في هذه الاجتهادات إلى توفيق الله -عز وجل- للمباشرين لها بحيث ينضبط الأمر في أيديهم على موازين الشريعة ومعاييرها ومقاصدها.
هناك من يرى أن الجماهير متقدمة في مبادراتها ووعيها -أحياناً- على قياداتها السياسية والفكرية وحتى "العلمانية"، فبرأيك لماذا أصبح الوعي خارج العلماء والدعاة أكثر حيوية وفعالية؟
أول ما نقف عنده هو هذا التعميم، فلا يصلح إطلاق القول بأن الوعي خارج العلماء والدعاة أصبح أكثر حيوية وفاعلية، بل لا يزال من العلماء والدعاة من يعيشون زمانهم، ويعرفون أحواله ولكنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيبين وما هم بمغيبين، ولكنهم أهل علم وحلم وبصيرة وتأمّل في العواقب واعتبار بالمآلات! وأرجو ألاّ تكون من ذلك ذريعة -وإن كانت غير مقصودة- إلى مظاهرة العلمانيين في الحض على علماء الشريعة وشن الغارة عليهم، ورميهم بالتهم والمناكر لتسقط حرمتهم ومهابتهم من النفوس؛ فيسقط بسقوط ذلك ما يحملونه من مواريث النبوة!
حق العامي هو تقليد العلماء، وأن يسأل من يثق في أمانته وعلمه، لكن كيف يمكن للعامي أن يضع ثقته في عالم يدين الله بفتواه، وهو لا يملك المعايير والآليات التي على أساسها يقيم هذا العالم؟
الموقف الشرعي في نوازل هذا العصر بل وفي باب الفتيا بصفة عامة إنما يتكون من خلال المزج بين خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، فالفتوى -كما يذكر أهل العلم- "معرفة الواجب في الواقع"، فلا بد فيها من المعرفة بكلا الأمرين: الواجب والواقع، أي خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، وأي خلل في أحد هذين الجانبين ينعكس على الفتوى بالخلل والقصور لا محالة، فإذا قصّر المستفتي في عرض نازلته أو طاف به في عرضها على المفتي طائف من الهوى فلا يلومنّ إلا نفسه! لأن المفتي أسير المستفتي، والمفتي إنما يفتي على نحو ما يسمع، كما أن القاضي إنما يقضي على نحو ما يسمع، وقد رأيت بنفسي في كثير من المواقع كيف يكون التأثير على المفتين واستنطاقهم على نحو معين تنسجه أهواء المستفتين، فيكون الغش في عرض النوازل والمبالغة في تصوير الحاجات؛ لتصبح من قبيل الضرورات، فكيف يُلام في ذلك علماء الشريعة إذا كان المستفتي عيياً أو صاحب هوى؟!(1/54)
لقد صُوّر لفضيلة المفتي السابق لمصر أن المحجبات في الغرب يتعرّضن لخطر القتل، وانتهاك الأعراض بسبب الحجاب فهل يجوز لهن الترخص بخلعه؟ فأجاب فضيلته بالإثبات، وطيرت الصحف ذلك كل مطير، وفتوى فضيلته صحيحة لو صحّ تصوير النازلة على النحو الذي صُوّرت به وهو غير صحيح، ثم تبقى لها في هذه الحالة بقية، تتمثل في أن على المرأة المسلمة التي استضعفت عن إقامة فريضة الحجاب أن تهاجر إلى بلد آخر لا تتعرض فيه لمثل هذه الفتنة عند القدرة على ذلك، وآية سورة النساء في الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والذين يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض دليل ظاهر على ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن على حملة الشريعة أن يتفطنوا لمثل هذه الأحوال، وأن يكونوا على صلة متجددة بما يطرأ في زمانهم من نوازل ومتغيرات، وألاّ تعجّلهم إلحاحات بعض المستفتين فتخرجهم عن منهج الرويّة والتثبّت، واستجلاء الأمور بدقة تتناسب مع جلال الفتوى وخطورة منزلتها، وأن يذكّروا طالب الفتوى بالله -عز وجل- وأن يعلّموه أن فتوى المفتي لا تُحل حلالاً ولا تحرّم حراماً، بل الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.
إنه لا يجمل بفقيه من الفقهاء في واقعنا المعاصر -مثلاً- أن يُسأل عن رأيه في شركات التأمين فيفيض في القول في أهمية الأمن وضرورته للمجتمعات، ويفوته النظر إلى ما تتضمنه عقود التأمين من غرر وميسر وربا ونحوه من أسباب فساد العقود.
ومن ناحية أخرى فإن على المستفتي أن يبين الواقع للفقيه حتى تكون فتواه مطابقة لهذا الواقع، وأحسب أن المجامع الفقهية المعاصرة تنحو هذا المنحى ؛ فهي تضم في صفوفها كوكبة من الفقهاء والخبراء، ومن ثم كانت قراراتها أقرب إلى القبول العام من الفتاوى الفردية التي تُنسب إلى هذا العالم أو ذاك.
ما مفهوم المرجعية الدينية عند أهل السنة مقارنة بالمراجع الدينية لدى غيرهم ؟
العلماء عند أهل السنة ذرائع لمعرفة الحكم الشرعي، وطاعتهم إنما تجب لهم على هذا الاعتبار، فليست لهم طاعة ذاتية ولا طاعة مطلقة، ولا حق لهم في التشريع المطلق بحال، بل يقتصر دورهم على فهم النصوص والاستنباط منها والتخريج عليها والرد إليها، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وهم في النهاية بشر من البشر يخطئون ويصيبون، ولكن عصمة الأئمة عند الشيعة تعطى لأئمتهم مقاماً آخر لا يقرّ به أهل السنة إلا للأنبياء دون غيرهم من الناس، وهذه النقطة من نقاط الخلاف الجوهرية بين السنة والشيعة.
أما الأحبار والرهبان عند النصارى فإنهم يملكون حق التشريع المطلق؛ فالحلال ما يحلونه والحرام ما يحرمونه، ولو جاءت التوراة والإنجيل بخلاف ذلك، وهذه هي الربوبية التي كانت في بني إسرائيل، والتي نعاها عليهم القرآن الكريم في قول الله عز وجل: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً).
هل تؤيد قيام مرجعية علمية عامة تضم نخبة علماء الأمة يكون لحكمها صفة الإجماع مجازاً؟
قيام مرجعية علمية تضم نخبة من علماء الأمة أمل كبير وحلم جميل، والسعي إلى إقامته من جملة الواجبات، ويبقى النظر فيما يعترض سبيله عملياً من المعوقات والصعوبات، كالمعوقات السياسية والحزبية والمذهبية والأمنية ونحوه، لا تكفي الأماني وحدها لتحقيق المقاصد النبيلة والجميلة في هذه الدنيا، بل لا بد من النظرة الواقعية التي تتعامل مع المعوقات، وتتلمس السبل إلى تذليلها والتغلب عليها، وعلى كل حال ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه، فإذا لم يمكن تحقيق ذلك على مستوى عموم الأمة، وأمكن تحقيقه على مستوى قطر من أقطارها فلنبدأ بذلك، وأول الغيث قطر ثم ينهمر كما يقولون!
المجامع الفقهية والهيئات العلمية هل يكون لقراراتها طابع الإلزام لنطاق الإقليم الذي نشأت فيه؟
أما الإلزام بالمعنى الشرعي الدقيق فلا، لأن ما تصل إليه هذه المجامع -على عراقة بعضها وامتداد رقعة تمثيلها- لا يمثل الإجماع إلا على سبيل المجاز كما تفضلت، ولكنها على كل حال تمثل موقفاً فقهياً ناضجاً ومدروساً ومحققاً ومدققاً يعسر تجاوزه إلا باجتهاد يرقى إلى مستواه، وتتحقق فيه مثل مقوماته وخصائصه. ويبقى أن حق الاجتهاد والمخالفة مكفول لحملة الشريعة ما دام في إطار النظر المعتبر في الأدلة
=============
نحن بحاجة لمن يجمع بين العلم الشرعي والدراية بالواقع 2 / 2
حوار: عبد الله الرشيد / الرياض 9/9/1426
12/10/2005
- هناك من يفتش في ملفات أغلقها المسلمون منذ قرون
- ضبط العلماء لانفعالاتهم وتحكيمهم للعقل صوّرهم بمظهر المغيبين
نفى المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور صلاح الصاوي - الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا - أن تكون الأمة الإسلامية تعيش في حالة "أزمة" جراء التقلص في أعداد العلماء الموسوعيين من أصحاب "الكاريزما" العالية في أوساط المجتمعات, وقال: إن في العالم الإسلامي الآن مجموعة كبيرة من العلماء الأكفاء, غير أن الشيخ الصاوي أقرّ بخسارة الأمة لجيل من العلماء يصعب تعويضهم.(1/55)
وشدّد الشيخ صلاح الصاوي على ضرورة المزج بين "خبرة الخبراء وفقه الفقهاء" للخروج برأي سديد حول المستجدات والنوازل الحديثة، معتبراً أن قيام مرجعية علمية تضم نخبة من العلماء المعاصرين هو من "الواجبات"...
وهذا هو الجزء الثاني والأخير من هذا الحوار
ما موقفكم من تزايد المجامع الفقهية وتعددها، وهل أنتم تؤيدون التوسع في إنشاء المجامع الفقهيّة؟
نؤيد ذلك على أن تنشأ هيئة عليا للتنسيق بين قراراتها على النحو الذي يجري في هيئات الرقابة الشرعية داخل المصارف الإسلامية المعاصرة؛ منعاً للتضارب والالتباس.
بصفتكم أميناً عاما لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، لماذا أُنشئ المجمع؟
أنشئ المجمع لتحقيق جملة من المقاصد والغايات نذكر منها:
- إصدار الفتاوى فيما يعرض عليه من قضايا ونوازل لبيان حكم الشريعة فيها.
- وضع خطة لإعداد البحوث والدراسات الشرعية التي تتعلق بأوضاع المسلمين في المجتمع الأمريكي، وما يجد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تواجههم في هذا المجتمع، وبيان الحلول الفقهية المناسبة لها، والإشراف على تنفيذها.
- دراسة وتحليل ما يُنشر عن الإسلام والتراث الإسلامي في وسائل الإعلام، وتقويمه للانتفاع بما فيه من رأي صحيح، أو تعقّب ما فيه من أخطاء بالتصحيح والرد.
- معاونة المؤسسات المالية الإسلامية بإعداد البحوث والدراسات، وابتكار صيغ التمويل وعقود الاستثمار، وتقديم ما تطلبه من الفتاوى والاستشارات، وتدريب كوادرها على ذلك.
- إقامة دورات تدريبية لأئمة ومديري المراكز الإسلامية في مختلف المجالات الفقهية كقضايا الأسرة والقضايا المالية وقضايا التحكيم الشرعي وغيرها.
- دعم التعاون بين المجمع والهيئات والمجامع الفقهية الأخرى للوصول إلى ما يشبه الإجماع الكوني على الملزم من قضايا الأمة وثوابتها.
- معالجة قضية المواطنة، وما تفرضه من حقوق وواجبات على المسلمين الذين يتمتعون بحق المواطنة في الغرب.
- دعم أنشطة لجان التحكيم الشرعية التي تقيمها الجاليات الإسلامية في البلاد الغربية، ومراجعة ما ترفعه إليه من قرارات وتوصيات، وإعداد تقنين ميسر للأحكام الفقهية في أبواب الأسرة والمعاملات المالية يكون مرجعاً لجهات التحكيم الناشئة في الغرب.
- إنشاء صندوق المجمع للزكاة والتكافل الاجتماعي في حدود ما تسمح به القوانين والنظم، والحصول على موافقة الجهات المختصة على ذلك.
متى تأسس المجمع؟ وهل لأحداث الحادي عشر من سبتمبر دور في قيامه أو تغيير آلية عمله؟
تأسس المجمع في أكتوبر عام 2002، وكان مؤتمره التأسيسي في واشنطن الكبرى، ولا شك أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما أوجدته من تراجعات منهجية واختلالات عقدية وفقهية في بعض المواقع ضاعف من الدور المنوط بالمجمع، وأكد على ضرورة مرابطته على مواقع الحراسة للدين والمحافظة على الثوابت والمحكمات.
سؤال غالباً ما يتكرر وهو كيف يفتي لأمريكا من ليس له اتصال بالواقع الأمريكي؟
توجد بالمجمع لجنة دائمة للإفتاء وهي مقيمة داخل الولايات المتحدة، وتتولى الرد على القضايا اليومية التي ترد إلى المجمع، وتصدر قرارها في ذلك بالأغلبية؛ فإن أشكل عليها أمر رفعته إلى مستشاري الإفتاء، وهم وإن كانوا متفرقين في بلدان عديدة ولكن ذلك يتم من خلال (الإيميل)، وموقع المجمع على الإنترنت؛ الذي يتيح التواصل بسلاسة رغم التفرّق في الأقطار والقارات على النحو الذي ترونه في موقعكم المبارك (الإسلام اليوم).
ما أهم خصوصيات المجمع، وما أبرز ثوابته الإدارية؟
o التخصص، فكل أعضائه من حملة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية.
o الحيادية، فهذا المجمع ملك للأمة، ومشترك علمي عام يلتقي عليه العاملون لدين الله في مشرق أو مغرب، بعيداً عن التكتلات الحزبية أو التجمعات التنظيمية المعاصرة.
o ترسيم آلية مستقرة تحقق الجمع بين العلم بالشرع والدراية بالواقع، فبالإضافة إلى الفقهاء يوجد بالمجمع عدد من الخبراء لا يقل عددهم عن الفقهاء، وهؤلاء يمكنون الفقهاء من الرؤية المستبصرة والفاحصة للواقع الذي تطبق عليه الفتوى؛ لأن الفتوى كما يقول أهل العلم: معرفة الواجب في الواقع. إن المجامع الفقهية في العالم تدرس قضايا طبية -مثلاً- كزرع الأعضاء، والتلقيح الصناعي، والاستنساخ البشري ونحوه، ولم يقل أحد إنه لابد أن يكون الفقيه طبيباً حتى يتسنى له الإفتاء في هذه القضايا. وإنما يكفي التعرف على تفاصيل هذه القضايا من خلال من ينتسبون إلى هذه المجامع من الخبراء، وإن كانوا لا يشاركون في التصويت عند اتخاذ القرار الفقهي.
o وهؤلاء الخبراء منهم من يحملون الخبرة الفنية كالاقتصاديين والقانونيين والسياسيين والإعلاميين والجيولوجيين والأطباء وغيرهم، ومنهم يحملون من الخبرة العملية الميدانية كأئمة ومديري المراكز الإسلامية، أو من يعملون في المؤسسات الإسلامية المالية أو الإعلامية ونحوها.
ما أهم إنجازات المجمع في هذه الفترة القصيرة التي مضت على تأسيسه؟
الإنجازات كثيرة -ولله- الحمد نذكر منها:
أولاً: على صعيد تأسيس المجمع وتوطينه القانوني(1/56)
- استكمال التوطين القانوني للمجمع على الساحة الأمريكية وفقه الأنظمة السائدة.
- الحصول على عضوية المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة ومقره جمهورية مصر العربية.
- افتتاح مكتب للمجمع بالقاهرة في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وتجهيزه فنياً بما يتيح التواصل مع خبراء المجمع وأعضائه حيثما كانوا
- تجهيز موقع للمجمع على الإنترنت (amjaonline.org)
ثانياً: على الصعيد الفقهي والأكاديمي
وقد عمل المجمع على تحقيق أهدافه على محاور: فقهية وبحثية وأكاديمية.
أولاً: على الصعيد الفقهي
أ- الإفتاء
•الاتصال بالخبراء لاستقراء النوازل الشائعة في أوساطهم، والكتابة حولها إلى المجمع لتنظرها لجنته الدائمة للإفتاء، ليكون هذا نواة الموسوعة الفقهية للمغتربين
•الاتصال بلفيف من العاملين في السجون الأمريكية للكتابة إلى المجمع حول أهم النوازل الشائعة في السجون؛ ليكون هذا نواة الموسوعة الفقهية للمسجونين.
• ترتيب خطين للفتوى: أحدهما تُستقبل من خلاله أسئلة المستفتين: من الأئمة والخطباء، والآخر لاستقبال أسئلة المستفتين من العامة.
ب: الدورات والمحاضرات
•عقد المجمع دورته التدريبية الأولى لأئمة ومديري المراكز الإسلامية، بسكرمنتو بولاية كاليفورنيا تحت عنوان "نوازل الأسرة المسلمة في المجتمع الأمريكي"، وقد حضرها ما يزيد على ثلاثين إماماً، وانتهت الدورة إلى سلسلة من التوصيات المهمة، رُفعت فيما بعد إلى المؤتمر الثاني السنوي للمجمع، وضمنها المجمع ضمن قراراته الصادرة عنه.
•عقد المجمع دورته التدريبية الثانية في سكرمنتو بولاية كاليفورنيا كذلك تحت عنوان "استثمار الأموال في الإسلام"، وقد حضرها ما يزيد على أربعين إماماً، وحاضر فيها من الإمارات رئيس المجمع فضيلة الأستاذ الدكتور حسين حامد حسان على مدى يومين متتاليين ولمدة تزيد على اثنتي عشرة ساعة بوساطة تقنية (الفيديو كونفرنس)، كما حاضر فيها من الرياض كل من فضيلة الدكتور يوسف الشبيلي عضو المجمع، وفضيلة الدكتور سعد الشثري عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية من خلال نفس التقنية، وحاضر فيها مباشرة كل من فضيلة الدكتور صلاح الصاوي، وفضيلة الدكتور معن القضاة، وفضيلة الشيخ وليد منيسي، وقد تبني المؤتمر الثالث للمجمع جل هذه التوصيات.
• ويرتب المجمع الآن لعقد دروة في فلوريدا وأخري في هيوستن في ديسمبر القادم -بإذن الله- وسوف يوجه الدعوة كما -هي العادة- إلى خمسين إماماً من مختلف المناطق.
•عقد المجمع أربع دورات فقهية معتمدة بالتعاون مع الجامعة الأمريكية المفتوحة: اثنتان منها في كاليفورنيا.
الأولى: حول فقه العلاقات الدولية في الإسلام.
والثانية: حول فقه الأسرة في الشريعة الإسلامية.
والثالثة: في هيوستن حول فقه الزكاة.
والرابعة: في ميرلاند حول فقه المواريث في الشريعة الإسلامية.
•عقد المجمع عشرات الندوات الدعوية والفقهية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وكان لها أطيب الأثر في ضبط مسار الفتوى، والرد على طرفي الغلو والتفريط.
ثانياً: على صعيد البحوث والدراسات
أ- البحوث والدراسات باللغة العربية
• طباعة عشرين إصداراً ضمن "سلسة إصدارات المجمع" باللغة العربية، وهي:
•الشروع في سلسلة "قرارات المجامع الفقهية"، وتجهيز إصدارين من هذه السلسلة باللغتين العربية والإنجليزية، وهما:
•القرارات المالية للمجامع الفقهية.
•القرارات الطبية للمجامع الفقهية.
إذ تم جمع معظم قرارات المجامع الفقهية المعتبرة عند مجموع الأمة، المتعلقة بهذين الأمرين وتصنيفها وترجمتها ووضعها في تصميم رفيع المستوى وتجهيزها للطباعة.
ب- البحوث والدراسات باللغة الإنجليزية
• طباعة إصدار واحد ضمن (AMJA Series) باللغة الإنجليزية وهو: Banking and Interest)).
• ترجمة كتاب الاستثمار الإسلامي صيغه وطرق تمويله، وهو حالياً تحت الطبع.
•ترجمة كل من القرارات المالية للمجامع الفقهية والقرارات الطبية للمجامع الفقهية.
• ترجمة الأسئلة المتعلقة بالمساجين وأجوبة المجمع عنها.
ثالثاً: على الصعيد الأكاديمي
أسهم المجمع في تأسيس ( أكاديمية الشريعة في أمريكا) وذلك بولاية فلوريدا وتابع استكمال بنائها الإداري والأكاديمي، وقد باشرت نشاطها الأكاديمي منذ مطلع فبراير 2005، وهي الآن في فصلها لدراسي الثاني والحمد لله.
وأكاديمية الشريعة مشروع تعليم واعد يشرف عليها نخبة من الأساتذة المتخصصين في علوم الشريعة، و تسعى إلى تقديم مقررات دراسية حرة ومعتمدة في قضايا الفقه والأصول، بالإضافة إلى برامج أكاديمية متكاملة تنتهي بتحصيل الطالب لدرجة جامعية في الشريعة بالتعاون مع المؤسسات التعليمية المحلية والعالمية.
وتتميز الدراسة في الأكاديمية بقيامها على المشافهة والتلقي المباشر، بصفته الوسيلة المثلى لتلقي العلم الشرعي بإجماع الأمة، وذلك من خلال:
•التعليم المباشر داخل قاعات المحاضرات من خلال أساتذة الأكاديمية الموجودين محلياً على الساحة الأمريكية.(1/57)
•التعليم المباشر داخل قاعات المحاضرات من خلال تقنيات (الفيديو كونفرنسينج ) حيث تنقل المحاضرات صوتاً وصورة إلى الدارسين، ويستطيعون الحوار المباشر مع المحاضرين صوتاً وصورة كذلك بمستوى متميز من وضوح الصوت والصورة على النحو الذي يحدث في القنوات الفضائية، وذلك للاستفادة من الخبرات الأكاديمية المتميزة للأساتذة في مختلف بلدان العالم.
رابعاً: على الصعيد التقني: مشروع (علماء بلا حدود)
وهو برنامج واعد طموح يوظف التقنية المتقدمة في عالم الاتصالات ( الفيديو كونفرنس) لخدمة العلم الشرعي على أوسع مدى ممكن، ويتجاوز به الحدود الجغرافية والسياسية والإقليمية مع المحافظة على التواصل الحي والمتجدد بين المحاضر والمستمعين أينما كانوا! فهو تواصل حي مباشر يختزل الزمان والمكان ويوفر الجهود والنفقات مع المحافظة على كل أو جل مميزات التعليم المباشر الذي يجمع فيه الدارس والمدرس قاعة محاضرات واحدة، والدعوة المباشرة التي يجتمع فيها الدعاة والمدعوون في مكان واحد.
ومن مزايا هذا المشروع:
تدويل العلم الشرعي، ونقله إلى كل مكان تتوفر فيه هذه التجهيزات، وما أيسرها بالنسبة للمراكز الإسلامية في الغرب.
تيسير المحاضرات واللقاءات الدعوية العامة الأسبوعية والشهرية، إذ يقوم هذا الأسلوب بديلاً عن سفر المحاضرين، وما يتضمنه من تحمل نفقات وأعباء السفر مادية كانت أو غير مادية، بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من تيسير التواصل مع المحاضرين عبر العالم.
توثيق العلاقة بين المراكز الإسلامية المختلفة التي تتعاون فيما بينها على إقامة هذا المشروع.
توفير النفقات والجهود، فالمحاضرة الواحدة يمكن أن تُبث في نفس الوقت إلى عدد من المراكز الإسلامية.
ولقد تم الاتصال بعدد كبير من الشركات التي تُعنى بتوفير هذه الخدمة في الغرب وأُجريت تجارب عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها وأصبح لدى القائمين على المجمع تصور دقيق ومفصّل لأنسب هذه العروض وأكثرها ملاءمة لظروف المجمع وطموحاتها المستقبلية، كما تم تزويد مكتب المجمع بالقاهرة بمحطة متكاملة للبث من خلال هذه التقنية، وقد استخدمت هذه المحطة بالفعل في بث عشرات المحاضرات في مختلف أنحاء الولايات الأمريكية، كما استخدمت في مناقشة رسالة دكتوراه لأحد طلاب الجامعة الأمريكية المفتوحة، حيث كان ثلاثة من أعضاء هذه اللجنة في مصر وتم مناقشة الطالب خلال مؤتمر الدعوة السنوي المنعقد في هيوستن.
ما هي المسائل والقضايا التي يتميز بها الواقع الأمريكي عن غيره في قضايا فقه الأقليات؟
الواقع الأمريكي كغيره من بقية دول الغرب له خصوصية من حيث الزمان والمكان والمخاطبين والإلزام القانوني ونحوه، فهم يعيشون في غربة الزمان فهذه هي الغربة الثانية للإسلام وهي أشد وطأة من الغربة الأولى، وربما أكثر إيلاماً، وهم يعيشون غربة المكان بإقامتهم خارج ديار الإسلام في لجج من الفتن تئن فيها الرياح، وهم يعيشون داخل ترسانة من القوانين والتشريعات تنظم كل شيء، وتقنن كل شيء، ولا سبيل إلى الفكاك من هذه النظم ولا إلى التفلت من قبضتها، وقد أفرز هذا الواقع جملة من القضايا الجديدة التي لا عهد للأمة بها من قبل أو كان لها في تاريخها طابع الندرة ولم تنتشر بمثل هذا الانتشار، وهذا يقتضي تفعيل الأصول الاجتهادية المتعلقة بفقه الأحوال الاستثنائية كقواعد الضرورات، والحاجات التي تنزل منزلة الضرورات، وعموم البلوى، ورفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، وتغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان والأحوال.. الخ، وهي تملك مخزوناً اجتهادياً هائلاً يستوعب كل متغيرات هذه المجتمعات وتنبثق منه حلول فقهية ناضجة لمشكلات أبنائها.
هل للمجمع تعاون مع منظمات فقهية تعمل في الإطار نفسه سواء في أمريكا أو أوروبا؟
المجمع يسعده ذلك بل جعله من جملة أهدافه ومبادئه في وثيقة تأسيسه، وهو يتخذ ما يتسنى له من الخطوات في هذا الصدد، ونرجو أن يحمل المستقبل الكثير من الإنجازات على هذا المحور بإذن الله.
=============
مسلمو جنوب إفريقيا .. نجاح دعوي وإخفاق في الاختراق الحركي!
جوهانسبرغ/ خالد المشوح 20/1/1428
08/02/2007(1/58)
قد لا يعرف بعض المسلمين الكثير عن الأقلية المسلمة في جنوب إفريقية، ولا عن أوضاعها وأحوالها ودورها المؤثر في الحياة هناك، بل أجزم القول إن حدود المعرفة العامة الإسلامية عن جنوب إفريقية قبل انتهاء النظام العنصري كانت تنصب على الزعيم الأسود السجين نيلسون مانديلا وحركة التحرر، ومناظرات الشيخ أحمد دايدات الجنوب إفريقي الموطن، الهندي الأصل، وكيف حاور القساوسة، وأشرطة الفيديو التي لم تكن تخلو منها مكتبة إسلامية أو بيت مسلم، والإعجاب بأسلوب " ديدات " ـ رحمه الله ـ في مناظراته خاصة مع القس سيجورت، أما أحوال المسلمين في ظل النظام العنصري، وما يعانون منه، فلم يكن موضع أي اهتمام، وحتى بعد سقوط العنصرية وسيادة حكم الأغلبية السوداء ظل الاهتمام هامشياً، حتى إننا لو قمنا بالبحث عبر محركات البحث "جوجل" وغيره عن الأقلية المسلمة في جنوب إفريقية، فسنجد القدر اليسير بل واليسير جداً عن هذه الجالية، وكلها أخبار عن بعض الجمعيات، ولكن وجود دراسة علمية منهجية عن الإسلام في جنوب إفريقية وجذوره وتاريخه وسماته، والمشكلات التي تواجه المسلمين هناك فغير موجود بالعربية، وإن كانت هناك بعض المقالات بالإنجليزية. وقد أتيحت لي الفرصة قبل سنوات، عندما عملت مستشاراً دينياً في السفارة السعودية بجنوب إفريقية أن أقترب من الجالية المسلمة هناك، وأتحاور مع رموزها، وأتعرف على الجمعيات الإسلامية ومناشطها، واهتماماتها، وأصول المسلمين ومشكلاتهم، والطموحات التي يريدون تحقيقها لدينهم.
والحقيقة أنني وجدت تجربة فريدة في العمل الإسلامي بين الأقليات في العالم، بل تجربة قلما نجدها بين أي جالية مسلمة، ومن بين هذه السمات الفريدة
أولاً: عدم تأثر الجالية المسلمة في جنوب إفريقية بالفكر الحركي العربي على الإطلاق في نشأتها وتطورها، الأمر الذي جعل العمل الإسلامي هناك ينصب كلياً على الإطار الدعوي، من تشييد مساجد وجوامع ومدارس إسلامية ونشاط دعوي وكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم وعمل تطوعي وإغاثي، وساهم في ذلك عدم وجود سياحة عربية أو إسلامية إلى جنوب إفريقية في ظل النظام العنصري، بل وبعد سقوطه، والسياحة العربية إلى هذه الدولة لم تبدأ إلا متأخرة جداً، ومازالت محدودة، وباستثناء تأثر بعض الشخصيات التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة بالفكر الحركي في مصر من جماعة الإخوان المسلمين بسبب دراستهم في الأزهر، أو قراءاتهم فإن هذا الفكر كان محدود جداً، وإن زاد عدد الحركيين في بداية ثمانينيات القرن الماضي الميلادي إلى ثمانية أشخاص، وشكلوا بعد ذلك "اتحاد الشباب المسلم".
وكانت المرجعية الغالبة على المسلمين في جنوب إفريقية من الديوبندية أو البريلوية، نظراً لأن معظم المسلمين هناك ينحدرون من أصول هندية أو مالوية، وهذا أدى إلى عدم التأثر بالخصومات المذهبية أو الحركية أو القومية أو غيرها التي تعاني منها الجاليات المسلمة في أوروبا و الغرب بصفة عامة.
ثانياً: إن الامتداد العربي الشرعي نحو الجالية وصل متأخراً، وعندما وصل للمسلمين في جنوب إفريقية وجد لديهم مؤسساتهم الدعوية وجوامعهم، ومراكزهم الإسلامية، ومدارسهم ومناهجهم وصحفهم ومجلاتهم، بل ومطابع المصحف هناك، حيث توجد مطبعتان للمصحف في جنوب إفريقية، ومن ثم كان تأثيره محدوداً بحدود العلم الشرعي دون وصاية أو تبعية أو محاولة التأثير على هذه الجالية.(1/59)
ثالثاً: العمل المؤسسي للجالية الإسلامية في جنوب إفريقية والذي بدأ مبكراً جداً، حتى في ظل النظام العنصري، فقد شيد المسلمون في جنوب إفريقية المساجد على أحدث طراز، بل قلما تجد مسجداً أو جامعاً هناك إلا وكان على أحدث طراز معماري إسلامي، ومجهزاً بأحدث الأثاث، فالعناية بالمساجد والمدارس الإسلامية والمؤسسات الدعوية من أبرز المميزات الفريدة للأقلية المسلمة هناك، حتى في الأحياء الفقيرة تجد المساجد الكبرى، وقد أسست هناك العديد من الجمعيات المؤثرة بين الجالية (المنظمة التعليمية في جنوب إفريقية) والتي أُنشئت عام 1985 لتقدم خدماتها للمسلمين في العالم لا في جنوب إفريقية فقط، بل امتد نشاطها إلى استراليا والولايات المتحدة وإنجلترا وكثير من دول القارة الأوروبية، ولا يقتصر نشاطها على التعليم فقط، بل لها دورها الاجتماعي من خلال برامج رعاية الفقراء واحتضان المسلمين الجدد الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً، وقد بدأت (المنظمة الإسلامية التعليمية) نشاطها بإنشاء أربع مدارس تعليمية وصل عددها في عام 2005 م إلى (65) مدرسة ومركزاً تعليمياً، ومن أعمالها: إعداد المناهج الدراسية الإسلامية، وتدريب المعلمين والمعلمات على طرق التدريس المتطورة، والتوجيه والإشراف على المدارس الإسلامية الخاصة بالمنظمة، وطبع الكتب الإسلامية باللغات الأفريقية مثل لغة "الزولو"، والتعاون مع وزارة التعليم وبعض المدارس الحكومية في تنفيذ منهج المنظمة، وإنشاء المدارس الإسلامية المسائية للطلاب والطالبات المسلمين المسجلين بالمدارس الحكومية؛ نظراً لأن المدارس الحكومية ليست بها دراسات إسلامية، وقد نجحت هذه المنظمة في الحصول على البرامج التعليمية المختلفة، ودعم من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة والعلوم (ايسيسكو) بالمغرب ومن الأزهر بمصر، واعتمدت المنظمة في عملها على إنشاء أوقاف خاصة بها للإنفاق على المدارس والمعاهد التعليمية، فقامت بإنشاء محلات تجارية صغيره بجوار المساجد يعمل فيها المسلمون الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام لمساعدتهم في حياتهم اليومية، كما بدأت المنظمة في إقامة مشاريع زراعية وتنموية للإنفاق على شؤون الدعوة.
و أُنشئ اتحاد الشباب المسلم في منتصف الثمانينيات ليقدم البرامج الخاصة بالشباب في المدارس والمعاهد المتوسطة والعليا، وفي بداية التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم أُنشئت (جمعية اتحاد علماء المسلمين في جنوب إفريقية) تنضوي تحتها معظم المؤسسات والجمعيات من الرموز الدعوية بشتى تياراتهم ومذاهبهم العقدية والفكرية مما شكل قوة إسلامية لدى الحكومة من خلال اتحاد أهداف المسلمين العامة ومطالبهم، وكان ذلك على يد الشيخ نظيم رحمه الله، وهو أحد مؤسسي رابطة العالم الإسلامي. وفي بداية القرن الحادي والعشرين بدأ الاتصال القوي بين المسلين في جنوب إفريقية والعالم الإسلامي، بعد أن كانت اتصالاتهم مركزة في اتجاه الهند وماليزيا، وأخذت بعض الحركات الإسلامية تتجه إلى هناك، فظهرت النقشبندية التي كان لها أتباع قليلون، بدعم من الجمعيات الإسلامية التركية، وظهر الإخوان المسلمون، كما ظهر الاتجاه السلفي الذي يهتم بالعلم الشرعي.
المشاركة في القرار(1/60)
رابعاً: انخراط المسلمون في جنوب إفريقية في الحياة هناك، واندماجهم مع المجتمع سواء كانوا من السود ـ الأغلبية ـ أو من (البيض) الأمر الذي جعلهم جزءاً من نسيج المجتمع الجنوب إفريقي، عكس الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، التي ذاب بعضها تماماً في المجتمع، كما حدث للمهاجرين الأوائل، أو العزلة عن المجتمعات الأوروبية خوفاً من الذوبان، ولكن الجالية المسلمة في جنوب إفريقية والتي يصل تعدادها إلى المليون نسمة من أصل (44) مليون جميع سكان البلاد، منخرطة تماماً في الحياة، وتمارس دورها الاجتماعي و السياسي بفعالية، وتلعب مؤسساتهم دورها في التأثير على صناعة القرار، ويساعدهم على ذلك أن معظم المسلمين من الأثرياء الذين يملكون رؤوس الأموال الكبيرة، ومن الطبقة المتعلمة، فمنهم الأطباء والمهندسون والمعلمون، وهذا التعليم العالي أوجد نوعاً من الوعي بأهمية دور الجالية في المجتمع وتأثيرها عليه، فهناك أكثر من ألفي طبيب مسلم و "اتحاد الأطباء المسلمين" يجمعهم، كما أن هناك طبقات فقيرة من المسلمين ذوي البشرة السوداء، ولكن يجدون الدعم والمساندة من إخوانهم، ويستثمر أثرياء المسلمين أموالهم في العقارات وتجارة السجاد وتشييد المصانع مثل صناعة الملابس، ولديهم الكثير من توكيلات السيارات، ونشاطهم ظاهر وملموس في تجارة الذهب والألماس. ويُعدّ المسلمون من ذوي الأصول الهندية الأكثر ثراءً وتعليماً، وهؤلاء يتمركزون في العاصمة جوهانسبرج، أما المسلمون ذوي الأصول المالوية فهم الأقل ثراءً بل معظمهم من الفقراء ويتمركزون في (الكاب)، وعموماً لا توجد تقسيمات إحصائية تحدد نسبة المسلمين الهنود من المالويين، وإن كانت الفئة الأولى الأكثرية، وهم الذين يشيدون المساجد التي يبلغ عددها أكثر من خمسمائة مسجد، كما أن لديهم مدارس إسلامية راقية جداً ذات إمكانيات كبيرة، وتوصف بأنها من أفضل المدارس التعليمية على مستوى البلاد ولها سمعة جيدة.
ولذلك لا تجد المسلمين في جنوب إفريقية يطلبون مساعدات أو معونات مادية من العالم الإسلامي بل هم يقدمون هذه المعونات، وهو الأمر الذي انعكس على وضعية الجالية وقراراتها، وتميز نشاطها، وعدم تابعيتها لتيار من التيارات أو عدم اختراقها من الخارج.
إشكالات ... وقضايا
ولذلك نجد مطالب المسلمين هناك تنحصر في طلب مصاحف من أرض الحرمين الشريفين، خاصة من طباعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف في المدينة المنورة، وترجمات معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية والأوردية والمالوية والكتب الدعوية وأشرطة القرآن الكريم بصوت أئمة الحرمين الشريفين.
ومن أكبر المشكلات التي تواجه الجالية المسلمة هناك قضايا فقه الواقع، والنوازل وما يستجد من مستحدثات العصر، فمعظم مرجعيات الجالية من الأحناف الذين يفتقرون إلى الاجتهاد في قضايا النوازل، وهم من كبار السن ومن المتأثرين بالمدرسة الديبوندية، وقد ظهر جيل من الشباب المسلم المتعلم والمتفتح على علماء الأمة، وأخذ في طرح القضايا المعاصرة والتفقه فيها، والأخذ بفقه الأقليات الذي أصّل له المجمع الأوروبي للإفتاء، نظراً لأن الجالية أقلية وتعيش في وسط مجتمع أغلبية غير مسلمة، وهذا أوجد نوعاً من التماس بين فكر الشيوخ الدبونديين والبريالوية، وبين الشباب المسلم المنفتح على مذاهب ومدارس فقهية أخرى لها اجتهاداتها، ويحظى المسلمون بحس سياسي كبير، ومشاركة فاعلة ومدروسة ومن ذلك دور الجالية المسلمة المؤثر في "قمة الأرض"، والتصدي لمشاركة إسرائيل فيها، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للانسحاب تضامناً مع إسرائيل، فقد استطاع المسلمون بالتعاون مع الجمعيات المناوئة للتمييز العنصري تنظيم التظاهرات المناهضة لإسرائيل وأمريكا والمؤيدة للقضية الفلسطينية أثناء القمة.
ومن الإشكاليات التي تواجه المسلمين في جنوب إفريقية قضايا "الربا"، و "التأمين على الحياة"، والقضايا الطبية، ومشكلات اجتماعية مثل الزواج وغيرها، الأمر الذي جعل مرجعياتهم من الشباب يلجؤون إلى الفتاوى الصادرة من هيئة كبار العلماء في السعودية أو من مجلس الإفتاء الأوروبي أو مجمع البحوث الإسلامية بمصر، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة للأخذ بها، مع وجود بعض الاجتهادات الشاذة جداً نتيجة الانغلاق والبعد عن دائرة الاجتهاد الشرعي؛ مما جعل آراء شاذة ومنكرة كالشذوذ الجنسي وإمامة المرأة للرجال في الصلاة وعدم مشروعية الحجاب متداولة في بعض الأوساط.
الانخراط في السياسة(1/61)
ويمارس المسلمون في جنوب إفريقية نشاطهم السياسي بفعالية، بل يمكن القول إنهم منخرطون في العملية السياسية، وفي الوزارة أكثر من أربعة وزراء من المسلين، ويوجد عشرة سفراء يمثلون بلادهم في الخارج، وهناك عضوية ملموسة من المسلمين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ولكن هناك من انضم إلى أحزاب أخرى واستطاع المسلمون تجاوز عملية الفصل العنصري بعد سقوط هذا النظام. فبعد أن كانوا يعيشون في كانتونات وممنوع عليهم الانخراط في المجتمع صاروا أكثر اندماجاً في المجتمع. والمعروف أن الإسلام انتشر في جنوب إفريقية قبل ثلاثمائة سنة عندما كانت مستعمرة هولندية، وكانت هولندا في ذلك الوقت تحتل ماليزيا وإندونيسيا، فانتقل العديد من المسلمين للعمل بالتجارة في جنوب إفريقية، وتمركزوا في "كيب تاون" التي تقع بين المحيطين الهادي والهندي، ثم تحولت جنوب إفريقية إلى مستعمرة إنجليزية، فسافر الكثير من المسلمين الهنود، وتمركزوا في مدينة "ديربن" الواقعة على المحيط الهندي، وكان لهؤلاء الدور الكبير والمؤثر في نشر الإسلام.
وشكل النظام العنصري حاجزاً ضد نشر الإسلام؛ إذ ضيق على حركة المسلمين والمؤسسات الإسلامية، وكان الانتقال إلى مجتمعات الأفارقة لنشر الإسلام في منتهى الصعوبة، وبعد سقوط هذا النظام بدأت الحركة الدعوية في نشر الإسلام فدخل الآلاف في دين الله أفواجاً، ويُلاحظ أن هناك مساعي للفصل بين المسلمين على أساس عرقي كالأفارقة والهنود والمالوية، وهو ما يجعل من يزور البلاد زيارة سريعة، فيصدر أحكاماً ضد عرق أو فئة على أخرى بسبب انطباع عاطفي بعيد عن الحقيقة المادية لواقع المسلمين هناك.
يبقى أن أقول إن المسلمين في جنوب إفريقية محل استهداف طوائف ودول كثيرة بدأ ينعكس بشكل سلبي خلال الفترة القليلة الماضية من خلال إضعافهم وتفكيك وحدتهم
============
أدرِكوا هذه الفتاوى قبل أن تصل للغرب!
حوار : عبد الله بن محمد الرشيد / الرياض 6/5/1426
13/06/2005
- فقه الأقلّيات جزء من الفقه الإسلامي.
- التجنّس بجنسيّة غربيّة لا يمنع الولاء للأمة الإسلاميّة.
- الهجرة للبلاد غير الإسلاميّة مقيّدة بشروط وليست مطلقة.
- الحفاظ على الهُوِيّة في الغرب والذوبان يفصل بينهما خيط رفيع
تُعدّ قضية الجاليات الإسلامية في الغرب واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل؛ إذ يمثل الوجود الإسلامي فيه ثِقلاً بشرياً يقدَّر بحوالي (22) مليون مسلم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية فقط، وقد بدأت هجرة المسلمين إلى الغرب في العصر الحديث -وبشكل ملحوظ- بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب متعددة منها: ابتغاء الرزق، وتحصيل العلم، وطلب الأمن فراراً من الاضطهاد، وغيرها من الأسباب..، بيد أن هذه الهجرة قد اتسعت وتضاعفت أعدادها، وتحوّلت من كونها هجرة عابرة إلى جالية مستقرة تبحث عن مقتضيات وجودها خاصة مع ظهور الجيل الثاني والثالث الذين حملوا الجنسيات الأوروبية والأمريكية ولغاتهم، فتعززت الحاجة إلى قيام المؤسسات التي تحتاج إليها الجماعات المسلمة حفاظاً على هُويّتها وشخصيّتها دون عزلة أو انكفاء؛ فأُنشئت المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، والأندية للتوجيه والترفيه، وعُقِدت المؤتمرات، وأُقيمت المخيمات، وأُلقيت الدروس والمحاضرات، وفُرِّغ الدعاة والمعلِّمون، وإزاء هذا الوجود المتعاظم للجالية الإسلامية إضافة إلى الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين الذي نشأ في بلاد الغرب، واعتناق العديد من الأوروبيين والأمريكان للدين الإسلامي، والنظر إلى العيش في الغرب على أنه بلد المواطنة؛ فقد برزت تحدّيات وإشكالات حول مرتكزات العلاقة وفقه الأقليات المسلمة في مجتمع يعيش خارج دار الإسلام، ولئن قرر فقهاؤنا أن الفتوى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن أعظم مظهر لتغيّر المكان هو اختلاف دار الإسلام عن غيرها.. فما طبيعة وجود الجاليات الإسلامية في الغرب؟ وما مدى شرعية هذا الوجود؟ وما الحقوق والواجبات المترتبة عليه؟ وما التحدّيات التي تواجه هذا الوجود؟ وما الإشكالات الفقهية الناجمة عنه؟ وكيف عالجها الفقه الإسلامي؟
في هذا الحوار مع الدكتور أحمد بن محمد الخضيري -عضو هيئة التدريس بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو الجمعية الفقهية السعودية- نلقي الضّوء على كثير من الإشكاليات التي تعاني منها تلك الأقليات وطرائق حلها، كما نرصد الفتاوى التي تصل للغرب من الديار الإسلامية بجانب مسائل أخرى استحدثها التطوّر في الغرب، وبقي لازماً على الفقهاء أن يفتوا فيها..
ومن نحاوره في هذا الموضوع عالم له باع طويل في فقه الأقلّيات، جمع بين العلم الشرعي والمعايشة لتلك المجتمعات؛ إذ ابتعث ضيفنا للتدريس في الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل على مدى أربع سنوات مدرساً بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن في الفترة من (1416 - 1420) هـ، ألقى فيها الكثير من الدورات داخل الولايات الأمريكية.
فإلى الحوار...
ما المقصود بمصطلح فقه الأقلّيات الإسلامية؟(1/62)
يُراد بمصطلح فقه الأقليات الإسلامية معرفة الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها المسلمون الذين يقيمون في بلاد تحكمها سلطة غير إسلامية، ووُصفوا بالأقليات؛ لأنهم أقلية بالنسبة للمجتمع الذي يعيشون فيه من غير المسلمين.
وقد نشأ هذا المصطلح في هذا العصر لانتشار الأقليات الإسلامية، وحاجتهم إلى معرفة الأحكام الشرعية في الوقائع التي تنزل بهم، والمتأمّل في حال الأقليات الإسلامية يجد أنه لا يمكن أن يُقاس بحال المسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية من كل وجه، لأن مسلمي الأقليات يفتقدون كثيراً من المقومات الأساسية كوجود الحاكم المسلم، والمحاكم الإسلامية، والأنظمة الإسلامية؛ سواء كانت في مجال الأحوال الشخصية أو المعاملات المالية، أو الجنايات والقضاء، كما أنهم يتعاملون مع غير المسلمين بشكل دائم بسبب إقامتهم في بلادهم، ولهذا احتاجوا إلى من يقوم بدراسة المسائل المختصة بهم على ضوء هذه الحال، فوُجد الاهتمام بهذا الفقه من قبل المتخصصين، وأُنشئت المجامع الفقهية في البلاد الغربية لدراسة مسائل هذا الفقه كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الشمالية.
ما دقّة تسمية هذا الفقه بـ"فقه الأقلّيات"؟ وهل يمكن تطبيق هذا الفقه على بلاد تتسمى بالإسلامية، لكنها أبعد في واقعها عن الإسلام؟
تسمية هذا الفقه بفقه الأقليات تسمية اصطلاحية يُراد منها تمييز هذا الفقه بحسب موضوعه، وموضوعه: المسائل التي يحتاج إلى معرفة حكمها المسلمون الذين يعيشون في بلاد كافرة، فإذا أُطلق هذا الاسم تبادر إلى الذهن المسائل التي يتناولها هذا الفقه، وانتشرت هذه التسمية في العصر المتأخر لوجود الأقليات الإسلامية في كثير من البلاد غير الإسلامية، مما لم يكن معهوداً في العصور السابقة.
ولا أرى مناسبة إطلاق هذا الاصطلاح على بعض البلاد الإسلامية، وإن كانت في واقعها بعيدة عن الإسلام، ويجد المسلم المحافظ على دينه فيها الغربة؛ لأننا بهذا كأننا نساويها ببلاد الكفر، ونحكم على هذه البلاد بأنها غير إسلامية، ونحكم على معظم أفرادها بأنهم غير مسلمين وهذا غير صحيح، نعم قد تكون هذه البلاد مقصرة في تطبيق الشريعة، وقد يكون كثير من أفرادها غير ملتزمين بأحكام الدين، ولكن يبقى لهذه البلاد وأهلها وصف الإسلام، فهم ينتسبون إلى الإسلام ويرفعون شعاره ولو ظاهراً، وتظهر فيها الشعائر التعبّدية، وتجد أكثر أهلها ملتزمين في الجملة بأحكام الإسلام، بخلاف البلاد الكافرة التي لا تنتسب إلى الإسلام في شيء، وتظهر فيها معالم الكفر، فهناك فرق كبير بين الحياة في هذه البلاد والحياة في بلاد الكفر، ولو افترضنا وجود بعض المسائل التي يحصل فيها اشتراك فهي قليلة لا تقتضي التسوية بينهما في الحكم.
نريد أن تُجملوا لنا معالم وأصول وقواعد هذا الفقه، حتى يمكن ضبط الفروع المندرجة تحتها؟
ينبغي في البداية أن نعلم أن فقه الأقليات الإسلامية هو جزء من الفقه الإسلامي، وليس أجنبياً عنه، ولهذا فهو يحمل معالم وأصول الفقه الإسلامي المعروفة لدى الفقهاء، ولكنه يتميّز في موضوعه بجملة أمور أُجْمِلُها فيما يلي:
- يعتمد هذا الفقه في كثير من مسائله على قواعد الضرورة والحاجة.
- كما يعتمد في كثير من مسائله على تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما.
- دراسة هذا الفقه تقتضي إدراك واقع الأقلّيات الإسلامية من ناحية أحوال حياتهم الاجتماعية والسياسية، ومعرفة طبيعة أعمالهم، وعلاقاتهم مع غيرهم، وما يمرّون به من أحوال وعوائد تؤثر في إعطاء الحكم.
- دراسة هذا الفقه تحتاج إلى الإلمام في الجملة بالأنظمة والقوانين التي تُفرض على المسلمين في تلك البلاد.
- ضبط فقه الأقليات الإسلامية يقتضي من صاحبه الاطّلاع على المسائل والوقائع التي يكثر السؤال عنها في بلاد الأقليات سواء كان هذا في جانب العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وغيرها، ويوجد هذا في فتاوى العلماء المشهورين، وفي قرارات المجامع الفقهية التي تناولت فقه الأقليات الإسلامية، وفي الدراسات والأبحاث العلمية التي تناولت هذا الفقه من قبل المهتمين من أهل العلم.
هناك الكثيرون في الأقطار الإسلامية يهاجرون إلى دول غربية، إما لضغوط سياسية أو اقتصادية لتحسين المستوى المادي والحياة الجيدة، مع أن الفتوى السائدة لا تسمح للمسلمين أن يهاجروا إلى بلاد غير إسلامية مهما كانت الظروف أو الضغوط. فما رأي فضيلتكم؟(1/63)
الانتقال إلى الأقطار غير الإسلامية والإقامة فيها تختلف دوافعه وأسبابه من شخص إلى آخر، ولذا فإن الحكم الشرعي يختلف باختلاف الدافع والسبب الحامل على ذلك، فإذا اضطر المسلم إلى الانتقال إلى تلك البلاد والإقامة فيها بسبب أنه يحصل له في بلده اضطهاد في دينه بحيث لا يستطيع أداء الشعائر التعبّدية، وخشي أن يُفتن في دينه أو يلحقه أذى في نفسه أو ماله أو أهله أو عرضه، فحينئذ له أن ينتقل إلى البلد التي يأمن فيها من هذه المفاسد، قال ابن حزم -رحمه الله- : " وأما من فرّ إلى أرض الحرب بظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره".
واشترط بعض الفقهاء لجواز اللجوء إلى بلد الكفر في هذه الحالة ما يلي:
أن يقع الظلم حقيقة على المسلم في بلاد الإسلام، وأن توفر له البلد التي لجأ إليها الأمن والحماية، وألاّ يوالي الكفار أو يعينهم على المسلمين، وأن ينوي الرجوع متى زال العذر، وأن يلتزم بأحكام الإسلام في البلد التي لجأ إليها، وأن يدعو غيره للإسلام، وهذا يدخل في قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
ويجوز أيضاً السفر إلى البلاد غير الإسلامية لأي غرض صحيح كغرض الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام، وتعليم الناس أحكام دينهم، وكغرض الدراسة وطلب العلم الذي لا يوجد في بلاد المسلمين، ومثل السفر للتداوي والعلاج، وكذلك السفر للتجارة.
وتجوز الإقامة هناك لمن كلّفه ولي الأمر بالعمل في السفارات والقنصليات والمراكز الإسلامية لرعاية شؤون الجالية الإسلامية هناك، وهذا العمل له أثر كبير في الاهتمام بشؤون الجالية، وتنظيم أمورها وأحوالها، والتعريف بالإسلام وبث الدعاة، والتحذير من المفاسد المنتشرة في بلاد الكفر.
ويتضح من خلال الإجابة عن هذا السؤال أن ما ذُكر من أن الفتوى السائدة لا تسمح للمسلمين أن يهاجروا إلى بلاد غير إسلامية مهما كانت الظروف أو الضغوط غير صحيح، ولكن الفتوى مقيّدة بشروط محددة يلزم توافرها للقول بالجواز، وبعض هذه الشروط محل اجتهاد عند الفقهاء.
في ظل هجرة هؤلاء، يأخذ الكثير منهم جنسية البلاد التي يعيشون فيها، والبعض يحرم هذا. فما رأي فضيلتكم في حصول المسلم على جنسية بلد غير مسلم؟
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم التجنّس بجنسية الدولة غير المسلمة فمنهم من منع من ذلك، وهم الأكثر واحتجوا بأن التجنّس فيه موالاة لأهل الكفر، وهي محرمة فالتجنّس يوجب التبعيّة لغير الدولة الإسلامية والخضوع لنظامها، كما أن التجنّس يفرض على صاحبه الخضوع المطلق لقوانين الدولة المانحة للجنسية في كل ما يتعلق بشؤون حياته، وأغلب هذه القوانين كفريّة تصادم قواطع الشريعة الإسلامية، مثل: إباحة الزنا والربا والردّة باسم الحرية وحقوق الإنسان.
ولأن التجنس يقتضي من صاحبه أن يدافع عن تلك الدولة، ويشارك في جيشها عند قيام حرب بينها وبين دولة أخرى ولو كانت مسلمة، ومن المعلوم أنه لا يجوز الركون إلى أهل الكفر والظلم، ولا التعاون على الإثم والعدوان ومعاونة غير المسلمين على مقاتلة المسلمين.
وقالوا: إن من يريد التجنّس لابد أن يقيم إقامة دائمة في البلد لكي يحصل على جنسيتها، والإقامة الدائمة بلا ضرورة محرّمة.
وهناك من الفقهاء من أباح التجنّس بجنسية الدولة غير الإسلامية، وعلّلوا بأن الإقامة في بلد الكفر مع الأمن على الدين والنفس والعرض والمال جائزة، والتجنّس لا يزيد عن الإقامة إلا بمجرد الانتساب إلى الدولة.
وقالوا: إن التجنّس يكسب الإنسان قوة وصلابة في المجتمع، ويعطيه القدرة على المطالبة بحقوقه، ويسهّل له قضاء أموره ومصالحه، ويضمن للإنسان التمتّع بالحقوق والحريات الأساسية التي غالباً ما تنعدم في البلاد الإسلامية.
وذكروا أن التجنّس بجنسية الدولة الكافرة في هذا العصر يكسب الإنسان مكانة و حماية قد لا يجدها في كثير من الدول الإسلامية، ويجعله يتمتع بحقوق كثيرة تمكنه من العطاء أكثر، ولاسيما في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وخدمة الإسلام.
وذكروا أن التجنّس،وإن كان فيه بعض المفاسد، ولكن المصالح المتحقّقة بوساطته أكثر، و من القواعد الشرعية أنه يتحمل الضرر الأخص لجلب مصلحة تفويتها أشدّ.
كما علّلوا بأن الإنسان قد يضطر في كثير من الأحيان للتجنّس كي يحافظ على حياته كمن اضطهد في بلاده ولم يجد لنفسه فيها مأمناً، ولم يُسمح له بالمقام في بلاد الكفر إلا إذا تجنّس، فحينئذ لا مانع من التجنّس مادام يحافظ على الفرائض الدينية ويبتعد عن المحرمات.
وعليه مع ذلك أن يحرص على استقلال شخصيته الإسلامية وأن يستشعر دوماً انتماءه للأمة الإسلامية، فينوي العودة إلى بلده متى زالت الضرورة.
واستثنى بعض الفقهاء المعاصرين من المنع أيضاً:
أن يتجنس المسلم لتحقيق مصالح كبرى للمسلمين كالدعوة إلى دين الله -عز وجل- والتعريف بالإسلام أو تحصيل علوم ضرورية يحتاجها المسلمون، ونحو ذلك، ولا يستطيع تحقيق هذه المصالح إلا بالتجنس، ومرجع هذا إلى قاعدة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما.(1/64)
ولكن ينبغي -إذا قيل بجواز هذا- أن يكون على أضيق نطاق، ولا يقدم عليه إلا من كان لديه من العلم والدين ما يحصّنه من الذوبان في تلك المجتمعات الكافرة.
الفتاوى المصدّرة من بلاد إسلامية إلى بلاد الأقلّيات، كيف تقدرون أثرها على الواقع الفقهي في بلاد الأقليات؟ وما هو توجيهكم في هذا الصدد؟
الفتاوى التي تصدر من البلاد الإسلامية إلى بلاد الأقليات لها أهميتها ومنزلتها وبخاصة إذا كانت صادرة من العلماء المشهورين بالرسوخ في العلم والفتوى، أو كانت صادرة من المجامع الفقهية والمؤسسات الشرعية التي تُعنى بفقه الأقليات، وكثيراً ما يتطلع مسلمو الأقليات إلى معرفة فتاوى العلماء في البلاد الإسلامية ويثقون بها ثقة كبيرة، وسبب هذا في نظري هو قلة العلماء المتخصصين في علوم الشريعة في بلاد الأقليات الإسلامية، وشهرة بعض العلماء في العالم الإسلامي.
ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن بعض الفتاوى التي تصدر من بلاد إسلامية ينقصها تصور واقع حال الأقليات، وعدم إدراك اختلاف بعض الأحوال والعوائد والأعراف التي تؤثر في إعطاء الحكم في بعض المسائل، كما أن بعض المفتين قد لا يدرك حجم الضرورة أو الحاجة التي قد يقع فيها مسلمو الأقليات، فيغفل هذا الجانب كلية عند إعطاء الفتوى، وفي المقابل تجد بعض المفتين يستصحب حكم الضرورة في كل المسائل التي تُعرض عليه، فيقع في التساهل وتمييع الأحكام، وتجد أيضاً أن بعض المفتين لا يراعون اختلاف مذاهب المستفتين، وبخاصة بعد وقوع الفعل من المستفتي الذي يكون مقلداً فيه للمذهب الفقهي الذي ينتسب إليه.
ترد للعلماء في البلاد الإسلامية أسئلة من مسلمين في بلاد الغرب، فكيف يتعامل معها المفتي في هذه الحالة خصوصاً إذا كان أمام الناس؟
يتعامل مع هذه الأسئلة كما يتعامل مع أي أسئلة فقهية أخرى تُعرض عليه لكن مع ملاحظة ما تقتضيه طبيعة هذه الأسئلة من معرفة للواقع الذي نشأت فيه، وإذا كان بعض هذه الأسئلة يحتاج إلى استفسار واستفهام فعليه قبل أن يجيب أن يسأل أهل الخبرة والمعرفة حتى يفتي على بصيرة، كما أن هناك بعض الأسئلة قد لا يحسن أن يجيب عنها المفتي أمام الناس لما لها من خصوصية؛ لكونها قضية عين، فيُخشى أن يفهم الناس أن فتواه عامة في كل حال، وهو إنما أجاب عن هذه المسألة لاعتبارات يدركها في هذه الواقعة قد لا يلاحظها غيره من عامة الناس.
نريد أن نسألكم في أولويّات القضايا، فهل على المسلم في الغرب (والمسلم الغربي) أن يهتم بقضايا بلده أولاً أم يهتم بقضايا المسلمين خارج بلده؟
المسلم عليه أن يهتم بقضايا المسلمين ويتفاعل معها، ولو كان يعيش في بلد غير إسلامي؛ لأن هذا هو منطلق الرابطة العقديّة التي تجمعه مع إخوانه المسلمين؛ فهو يألم لألمهم ويفرح لفرحهم وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه.
واهتمامه بقضايا المسلمين لا يتعارض أيضاً مع اهتمامه بقضايا البلد الذي يعيش فيه؛ فيتفاعل مع هذه القضايا أيضاً بما يخدم مصلحته ومصلحة إخوانه المسلمين ويشارك في البرامج والأعمال التي تخدم مصلحته ومصالح المسلمين إذا كانت هذه الأعمال لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
ولو قُدّر وجود تعارض بين الاهتمام بقضايا بلده وقضايا المسلمين، فعليه أن يقدم الاهتمام بقضايا المسلمين، ولكن عليه أن يكون فطناً بحيث يتخذ الأسلوب الحكيم الذي يحقق المقصود، ولا يثير المشاكل أو يجلب الضرر، أو يستعدي عليه الناس.
ما حكم تقديم بعض التنازلات من قبل المسافرين إلى الدول الغربية مثل خلع النقاب، وإلحاق الأبناء بمدارس مختلطة لعدم وجود البديل؟
كثير ممن يسافر إلى البلاد غير الإسلامية يسارع إلى تقديم تنازلات كثيرة مدفوعاً بوهم أنه لا يستطيع المحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية في هذه الأمور بسبب غلبة الكفار وقلة المسلمين وضعفهم، وقد يوقع الشيطان في رُوعه أنه إذا حافظ على هذه الأحكام قد يتعرض للأذى والمساءلة، وما إلى ذلك، ولهذا تجد المرأة على سبيل المثال تخلع حجابها، وتلبس لباس الكافرات من أول وصولها إلى تلك البلاد، وتجد الرجل يفرّط في أداء الصلاة، ويحلق لحيته.. إلى غير ذلك من التساهل الغريب.(1/65)
والواقع أنه لا يوجد ما يُلجئ المرء إلى هذا التساهل والتفريط، والشاهد على هذا أنك تجد من المسلمين والمسلمات الذين أقاموا في هذه البلاد مدّة طويلة، وربما يحملون جنسية هذا البلد، ومع هذا فهم متمسكون بدينهم كأحسن ما يكون التمسك؛ فتجدهم يحافظون على الصلاة والجمعة، وتجد المرأة ملتزمة بالحجاب حتى في مكان عملها، ولم يتعرضوا لسوء، وأنا مكثت في الولايات المتحدة الأمريكية مدّة أربع سنوات، ووجدت كثيراً من المسلمين والمسلمات يلتزمون بهدي الإسلام، ولم ينلهم بسبب ذلك أي أذى، بل فرضوا على الناس احترامهم وتقديرهم، وكانوا بسلوكهم هذا دعوة متحركة إلى الإسلام في حق من ينظر إليهم، ويتأمل ما هم عليه من احتشام ومظهر حسن، واستطاعوا أن يربّوا أبناءهم تربية حسنة من خلال المدارس الإسلامية التي أنشؤوها بأموالهم وخلّصوها من مفاسد المدارس المختلطة.
ولكن الذين يتّبعون الشهوات ويغويهم الشيطان يتعلّلون بأوهى الشّبه لكي يبرروا لأنفسهم ما هم عليه من معصية ومخالفة.
وعلى هذا فلا يجوز التساهل في الالتزام بأحكام الإسلام، وفيما يتعلق بالمدارس المختلطة لا يجوز الالتحاق بها إلا إذا لم يوجد البديل السالم من مفسدة الاختلاط، واحتاج الإنسان إلى هذه الدراسة، وعليه في هذه الحال أن يتجنب الاختلاط داخل مكان الدراسة بقدر الإمكان. وعلى المسلمين في تلك البلاد أن يسعوا إلى إنشاء المدارس الإسلامية التي يستغنون بها عن المدارس المختلطة.
كيف نحقق التوازن بين الحفاظ على الهويّة والشخصية في المجتمع الغربي وبين الانخراط والتفاعل مع أهل البلاد الأصليين دون الذوبان؟
يحقق المسلم الذي يعيش في بلاد الغرب التوازن بين الحفاظ على الهُويّة والشخصية الإسلامية وبين الانخراط والتفاعل مع أهل البلد دون ذوبان بأن يبقى في قلبه التبرّؤ من دينهم، وبُغض ما هم عليه من كفر وانحراف وفساد، وإنكار ما هم عليه من باطل، ويبتعد عن موالاتهم ومحبتهم، ويبقى ولاؤه ومحبّته للمسلمين، ويمتنع عن مخالفة أحكام الإسلام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يستشعر دوماً انتماءه للأمة الإسلامية. وعليه أن يتجنب التحاكم إلى محاكم القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية فيما لا تدعو الضرورة إليه، وأن يتعاون مع إخوانه المسلمين في كل ما من شأنه خدمة الدين مثل إقامة المراكز الإسلامية والمدارس والأندية الثقافية التي تنشر الثقافة والوعي، وتربط أبناء المسلمين باللغة العربية.
ومع كل هذا عليه أن يلتزم بأنظمة البلد التي لا تتعارض مع الشريعة، ويتعامل معهم بالصدق والأمانة سواء كان هذا في عمله الوظيفي أو في معاملاته المالية معهم من بيع وشراء ونحو ذلك، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع المشركين وأهل الكتاب، ومن ثمرة هذا أنه يظهر المسلمين في صورة من يحترم الأنظمة ولا يحتال عليها.
وعليه لكي يحافظ على أسرته من الذوبان في المجتمع الغربي أن يحرص على الزواج من امرأة مسلمة، ويتجنب الزواج من الكتابيّة؛ لأن الزواج منها يعود عليه بالضرر في تربية أبنائه؛ لأنهم في الغالب سينشؤون على غير هدي الدين الإسلامي، ولن يعرفوا اللغة العربية، وهذا قد يجرهم في المستقبل إلى التحلّل من دينهم وأخلاقهم، وأذكر في هذه المناسبة قصة عاصرتها بنفسي، وهي أن أحد الإخوة العرب المسلمين المقيمين في أمريكا ذكر لي أنه تزوج من امرأة نصرانية وأنجبت له عدداً من الأولاد، وبعد مضيّ مدة طويلة على زواجهما فوجئ في أحد الأيام أنها غادرت المنزل، وأخذت معها الأولاد إلى جهة غير معروفة، وتركت له رسالة تشعره أنه يجب عليه أن ينسى أمرها وأمر الأولاد، فصُدم الزوج المسكين، وأظلمت الدنيا في عينيه، واستمر مدة طويلة يبحث عن أبنائه دون جدوى، والقانون الأمريكي لم ينصفه في هذا الأمر لكونه يقف إلى جانب المرأة على زوجها، وقد دفعتني هذه القصة المؤلمة إلى إعداد خطبة جمعة عن أضرار الزواج من الكتابيات ألقيتها آنذاك في معهد العلوم الإسلامية والعربية في فرجينيا.
وسافرت مرة إلى إحدى المدن الأمريكية الكبرى، واستضافني أحد الإخوة العرب المقيمين في أمريكا، ولما دخلت منزله أقبلت عليّ ابنتاه الصغيرتان في سن الثامنة أو التاسعة، فأخذت أكلمهما باللغة العربية فلم يفهما عني، فكلّمهما والدهما باللغة الإنجليزية، وقال لي: إنهما لا تحسنان اللغة العربية؛ لأن والدتهما ليست عربية، ولا تتكلم سوى الإنجليزية، ولم أستطع تعليمهما العربية بسبب كثرة مشاغلي، وقلة الوقت الذي أمكثه معهن فأصبحت اللغة الإنجليزية هي القاسم المشترك بيننا، فعاتبته على هذا التفريط، ودفعتني هذه القصة في هذه المرة إلى إعداد خطبة عن أهمية المحافظة على اللغة العربية في بلاد الأقليات الإسلامية.
وعلى المسلم في تلك البلاد أن يتعاهد أبناءه؛ فيرسلهم إلى المدارس الإسلامية ولو في أوقات الإجازة، ويربطهم بالمركز الإسلامي وأنشطته، ويخصص لهم وقتاً يعلمهم فيه، ويوجّههم، ويبعدهم عن رفقة السوء، ويجنّبهم وسائل الإعلام التي تؤثر على سلوكياتهم.(1/66)
وإذا أحسّ المسلم أنه عاجز عن تحقيق ما ذكرته سابقاً من التوجيهات فليحرص على ترك هذه البلاد والعودة إلى البلاد الإسلامية كي ينجو بدينه ولا يفتتن.
ومن الأمور الملحوظة التي تؤثّر في استقرار المسلمين في تلك البلاد أنك تجد أن الأقليات المسلمة التي انتقلت لتعيش في البلاد غير الإسلامية قد حملت معها معظم خلافاتها التي كانت تعاني منها في بلادها الأصلية، سواء كانت خلافات عقدية أو اجتماعية أو سياسية.. الخ ونتج عن هذا وجود كثير من التفرق والتحزب بين المسلمين هناك، وهذا يستدعي ضرورة القيام بدعوة مسلمي الأقليات إلى توحيد صفوفهم على العقيدة الصحيحة، والعمل فيما يخدم مصالحهم ومصالح المسلمين عامة، وأفضل من يقوم بهذا العمل المؤسسات الإسلامية الموثوقة هنا
===========
البيان الختامي لمؤتمر الإفتاء في عالم مفتوح
13/5/1428
30/05/2007
البيان الختامي والتوصيات
للمؤتمر العالمي الذي أقامه المركز العالمي للوسطية
دولة الكويت
بعنوان: منهجية الإفتاء في عالم مفتوح.. الواقع الماثل والأمل المرتجى
في الفترة من 9-11 جمادى الأولى 1428هـ
26-28 مايو 2007م
أولا: الافتتاح
ثانيا: الجلسات العلمية والأبحاث
ثالثا: التوصيات
رابعا: الخاتمة
بسم الله.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على المعلم الأول محمد النبي الأمي وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،،
قال الله تعالى في كتابه العزيز: "...فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ"، [النحل:43].
وقال أيضا: "...وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..." [النساء:83].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (1).
فإنه لما كانت الفتوى في الدين، مهمة شرعية شريفة، وذات أثر في حياة الفرد والمجتمع والأمة بأسرها، ونظرا لما آل إليه الإفتاء في واقعنا المعاصر، وما شابه من المكدرات، والممارسات الخاطئة؛ مما انعكس أثره سلبا، على أمتنا وديننا الإسلامي، وحرصا على ضبط منهجية الفتوى، وتحقيقا للتواصل بين السادة الفقهاء والعلماء، فقد عقد المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت، برعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت - حفظه الله تعالى - في الفترة من 9-11 جمادى الأولى 1428هـ الموافق 26-28 مايو 2007م، بالقاعة الماسية بفندق شيراتون الكويت، مؤتمرا عالميا تحت عنوان:
"منهجية الإفتاء في عالم مفتوح.. الواقع الماثل والأمل المرتجى"
وقد شارك في فعاليات المؤتمر، عدد كبير من الفقهاء والشخصيات العلمية البارزة في العالم الإسلامي وغيره، وجمع كريم من الخبراء والباحثين في مجال الفقه والتشريع الإسلامي تجاوز 120؛ يمثلون 43 دولة، مما كان له الأثر البالغ في إثراء البحوث المقدمة إلى المؤتمر، والمساهمة في بلورة محاوره العلمية.
وقد تمت فعاليات المؤتمر على النحو التالي:
أولا: الافتتاح
o افتتحت أعمال المؤتمر بتلاوة آيات من الذكر الحكيم.
o ثم ألقى ممثل راعي الحفل معالي الشيخ صباح الخالد الصباح وزير الشئون الاجتماعية والعمل، ووزير العدل والأوقاف والشئون الإسلامية بالإنابة كلمة، نيابة عن سمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح -حفظه الله تعالى-، رحب فيها بالحضور، وأكد على أهمية وفوائد انعقاد مثل هذا المؤتمر، وأفاد بأن احتضان دولة الكويت للمؤتمر يأتي لخدمة القضايا الإسلامية والعربية.
o عقب ذلك تلا الدكتور/ عادل الفلاح وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر، كلمة شدد فيها على خطورة الفتوى وعظم مسئوليتها، وأفاد بأن الواقع الحالي للفتوى حتم التقدم لعقد مثل هذا المؤتمر، ودعا إلى ميثاق جامع لأصول الإفتاء وشروط المفتي ينظم عملية الإفتاء، وختم كلمته بالشكر لسمو أمير البلاد لحرصه على الاهتمام بقضايا الأمة، وثنّى بالشكر على ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء لإعانتهما على نجاح المؤتمر.
o تبع ذلك كلمة لسعادة الأستاذ الدكتور/ عصام البشير الأمين العام للمركز العالمي للوسطية، رحب فيها بالحضور، وأعرب عن شكره لأمير دولة الكويت لرعايته للمؤتمر، وذكر في كلمته جملة من التحديات التي تواجه علماء الأمة والمتصدرين للفتوى، ثم دعا إلى ضرورة إحياء أدب الاختلاف ومنهج الائتلاف، وأكد أخيرا على أهمية الاجتهاد الجماعي والمؤسسي الذي يجمع بين خبراء العصر وفقهاء الشرع.(1/67)
o ثم ألقى فضيلة الشيخ العلامة/ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كلمة باسم الأعضاء الضيوف المشاركين، رحب فيها بالحضور، وأعرب عن شكره لأمير دولة الكويت لرعايته لهذا المؤتمر، ولوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية والمركز العالمي للوسطية لتنظيمهما له، وأشاد في كلمته بالأمة الإسلامية واهتمامها بأمور الفتوى، ثم دعا المؤتمر إلى وضع معالم ومواصفات من يفتي، وكيف يفتي، والمستفتي كيف يسأل، وأكد على ضرورة تبيان المفتي للحق وعدم كتمانه، وختم كلامه بتوجيه الشكر ثانية إلى دولة الكويت لتبنيها عدة مشاريع نافعة للأمة من مثل الموسوعة الفقهية، وإنشاء اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق الشريعة، والهيئة الخيرية العالمية.
بعد ذلك قام معالي الوزير بتدشين الموقع الإلكتروني لمركز الوسطية، وتم افتتاح المعرض الذي احتوى على أبرز وأهم الإصدارات العلمية للمجامع الفقهية، وهيئات الفتوى في العالم.
ثانيا: الجلسات العلمية والأبحاث
اشتمل المؤتمر على (عشر جلسات) علمية، فضلا عن جلسة الافتتاح، والختام، استعرض فيها المشاركون (ما يقارب 30 بحثاً) اشتملت على المحاور العلمية التالية:
- المحور الأول: مقدمات الفتوى
ناقش المؤتمرون من خلاله الموضوعات التالية: صناعة الفتوى - الأصول التي يجب اعتمادها في الإفتاء - التفريق بين الإفتاء والحكم القضائي - ضوابط الإفتاء - المؤهلات الواجب توافرها لمن يتصدى للإفتاء - مدخل لفهم فتاوى الأمة.
- المحور الثاني: موجبات تغير الفتوى
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية: موجبات تغير الفتوى في عصرنا -تغير الفتوى لتغير جهاتها الأربع.
- المحور الثالث: المرجعية ومؤسسات الإفتاء
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية: الفتوى الفردية والفتوى الجماعية - آليات الإفتاء في العالم الإسلامي نماذج عملية لمجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي - دور المجامع الفقهية والاجتهاد الجماعي في معالجة المستجدات من الناحية الشرعية وسبل تطويرها - الفتوى في المؤسسات المتخصصة - مدى حصر الإفتاء في جهات معينة في كل دولة - المرجعية ومؤسسات الإفتاء.
- المحور الرابع: الفتوى والأقليات
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية : فقه الأقليات - آليات الإفتاء في العالم الإسلامي نماذج عملية (مجمع الفقه الإسلامي الهند)-آليات الإفتاء في العالم الإسلامي نماذج عملية (المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث).
- المحور الخامس: اتجاهات ومناهج الفتوى
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية: الأصول المنهجية لفقه النوازل - الفتاوى الشاذة وخطرها على الأمة - الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان - فتوى الضرورة معالمها وضوابطها.
- المحور السادس: عولمة الفتوى
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية : ظاهرة الإفتاء على الهواء أحكامها وآثارها - التطوير في وسائل الاتصال وأثره على واقع الإفتاء - فتاوى الفضائيات سلبيات وإيجابيات ضوابط ومقترحات - الفتوى في عالم مفتوح - ظاهرة الإفتاء على الهواء أحكامها وآثارها-الفتوى عبر الإنترنت: آفاق وعوائق.
- المحور السابع: نحو ميثاق جامع لأصول الإفتاء وشروط المفتي
ناقش المشاركون من خلاله الموضوعات التالية : نحو ميثاق لأصول الإفتاء ومرتكزاته - نحو ميثاق جامع لأصول الإفتاء وشروط المفتي - نحو ميثاق للمفتي والفتوى.
ثالثا: التوصيات
وبعد عرض الأبحاث ومناقشتها توصل المشاركون الأفاضل إلى اعتماد التوصيات التالية:
أولا: مقدمات الفتوى:
1- نصوص القرآن والسنة هي المرجع الأول للفتوى، فإن كان النصُّ قطعي الثبوت والدلالة لم يجز مخالفته ، وإن كان ظني الثبوت أو الدلالة، كان محلاًّ لاجتهاد المجتهدين بلا إنكار بينهم.
2- وجوب الالتزام بما أجمع عليه علماء الأمة قَطعيًّا .
3- الإفادة من اجتهادات علماء الأمة السابقين ، والبناء عليها ، ووجوب الالتزام بالمعايير المعتبرة عند أهل العلم في الاستدلال .
4- ضرورة تحقق المؤهلات العلمية الواجب توافرها في القائم بأمور الإفتاء، كالعلم بالقرآن والسنة، ومواطن الإجماع، والمعرفة التامة بقواعد الاستنباط، مع ملازمة التقوى.
5- مراعاة المفتي للجانب التربوي والتعليمي عند إجابته عن أسئلة المستفتين.
6- مجالات الاجتهاد مقصورة على الأحكام الشرعية الظنية ، والقياسية، والمصلحية، والمبنية على العرف، والأدلة المختلف عليها ، مع مراعاة أسباب تغير الفتوى.
7- لا تعتبر الفتوى الصادرة عن أي جهة كانت صحيحة، إلا إذا اعتمدت على دليل شرعي معتبر، وكانت متسقة مع المقاصد الشرعية.
8- أهمية الاستفادة من ذوي الخبرات في مجالات الحياة المختلفة في عملية صناعة الفتوى، في حدود تخصصاتهم.
ثانيا: موجبات تغير الفتوى:
1- الفتاوى القابلة للتغير هي الفتاوى المبنية على الأعراف، أو الأدلة الاجتهادية الفرعية، أو المصالح المتغيرة، أو الضرورات، أو الحاجات القائمة مقام الضرورات ونحوها.(1/68)
2- الغاية من تغير الفتوى هي العمل على إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة، تأكيدا لأهم خصيصة من خصائصها، وهي مرونتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
3- الفتاوى القائمة على الضرورات يجب أن تنضبط بالتالي:
أ - أن تكون الفتوى القائمة على الضرورة فيما يخص الأمة صادرة عن اجتهاد جماعي، دون أن ينفرد بها آحاد الفقهاء والمفتين، إلا أن تكون الضرورة مما لا يُختلف فيها.
ب- أن يستعان في تقدير الضرورات والحاجات الملحة في الأمور العلمية المتخصصة، كالاقتصاد والطب وغيرهما، بأهل الاختصاص، وذلك تمهيدا لإفادة الفقهاء منها في استنباط الحكم الشرعي لها.
ج- أن يقوم بتقدير الضرورة في الأمور العادية والمسائل الشخصية أصحابها، بعد الرجوع للمفتين، وذلك اعتبارا لاختلاف الأشخاص والظروف والأحوال والبيئات.
د- ألا تعمم الفتوى الخاصة المبنية على أساس الضرورة على جميع الأحوال والأزمان والأشخاص، إذ إن الضرورة تقدر بقدرها.
هـ- التأكيد على أن فتوى الضرورة حالة استثنائية تنتهي بمجرد انتهاء موجبها، ووجوب السعي لإيجاد بديل عنها، قدر المستطاع.
4- على المفتي أن يراجع اجتهاداته، وأن يواكب تطورات المعلومات السريعة، سواء أكانت المعلومات شرعية أم حياتية، ليحقق المقاصد الشرعية والمصالح المَرعيَّة .
ثالثا: المرجعية ومؤسسات الإفتاء:
1- تعزيز دور المجامع الفقهية في قضايا الأمة، والتأكيد على جهود مؤسسات الإفتاء في القضايا المحلية التي تتعلق بكل بلد، وتقوية أوعية الاجتهاد الجماعي من مجامع ومؤسسات ودور إفتاء للنهوض بواجبها ودعم استقلالها؛ لتستعيد ثقة الأمة في مرجعيتها.
2- أهمية تطوير آلية الاجتهاد الجماعي، وتفعيل دوره، والعمل على وضع ضوابطه وتيسير إجراءات تحقيقه.
3- الدعوة إلى توحيد المعايير وتجميع القواعد الفقهية ذات الأثر في عملية الاستنباط، خاصة في المجالات المالية والاقتصادية والسياسية والإعلامية وغيرها، لتحقيق التقارب في الفتاوى والأحكام.
4- مراحل آلية الإفتاء في المستجدات، تكون وفق ما يلي:
أ - التوضيح الدقيق للمسألة من قبل خبراء متخصصين.
ب- عقد ندوات متخصصة تشبع المسألة بحثا.
ج- رفع تقرير لجهات الإفتاء المتخصصة يبين الاتجاهات والجوانب للنازلة المستجدة، لتقوم هي بتقرير الحكم.
5- يحسن بالمجامع الفقهية وهيئات الفتوى توجيه السائل في القضايا المهمة إلى بدائل مشروعة عند تحريم بعض الصور الممنوعة.
6- دعوة الدول الإسلامية للعمل بالفتوى المجمعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة بكل دولة.
7- تفعيل الاجتهاد المجمعي في التشريعات الخاصة بالعلاقات الدولية، والاتفاقات الخاصة وحث الدول الإسلامية على العمل بها.
8- تعزيز روح التعاون والتكامل بين المرجعيات العلمية والدولة في كل قطر، و الاحترام المتبادل بينهما، بما يحقق مقاصد الشرع ويرعى مصالح الخلق.
9- على الجهات الشرعية المعنية في كل بلد الإشراف على المفتين فيها، والعمل على تحسين أدائهم، واتخاذ الأساليب المناسبة لمعالجة أوضاع من يتصدى للفتوى من غير أهلها.
10- المبادرة إلى إصدار الفتاوى في القضايا المستجدة، قبل استغلالها من قبل جهات غير مؤهلة.
11- تفعيل التنسيق بين المجامع الفقهية تحقيقاً للتكامل ، وتفادياً للتناقض والتضارب في القرارات.
12- العناية بالمؤسسات الرسمية للإفتاء، وتدعيمها بالعلماء الثقات المؤهلين للفتوى، وتعزيز واجبها المنوط بها شرعا في نصح الراعي والرعية، دون استجابة للمؤثرات التي تحرف الفتوى عن مسارها السليم .
13- إنشاء مراكز ومعاهد للتعليم والتدريب على الفتوى واستكمال أدواتها.
14- إنشاء قاعدة بيانات ومركز معلومات يجمع فتاوى جهات الإفتاء في العالم لخدمة الباحثين والعلماء.
رابعا: الفتوى والأقليات:
1- تفعيل فقه المقاصد والمصالح المعتبرة في الإفتاء للأقليات، محافظة على سلامة حياتهم الدينية سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، وتطلعا إلى تيسير نشر دعوة الإسلام.
2- التأصيل لفقه العلاقة مع غير المسلمين (أمة الدعوة)، في الواقع الحضاري والعالمي.
3- اعتبار المؤسسات والمراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين قائمة مقام التحكيم في الرجوع والاحتكام إليها في منازعاتهم وسائر أمورهم بما ينسجم ويتوافق مع قوانين تلك الدول .
4- الاهتمام بالقواعد الفقهية الميسرة في الإفتاء للأقليات، من مثل مراعاة التيسير، ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الزمان، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة بشروطها ، والنظر في المآلات.
خامسا: اتجاهات ومناهج الفتوى في القديم والحديث:
1- العمل على إحياء عملية التجديد في الأحكام الفقهية المرتبطة بعلل متغيرة، كالعرف، والمصالح، والضرورات، مع الالتزام بالضوابط الشرعية؛ وذلك لتحقيق مصالح الأمة الإسلامية.
2- لا يُنكر على المخالف في القضايا الاجتهادية، مع الإفادة من ذلك الاختلاف في تحقيق التقارب.
3- مخالفة القضايا القطعية، ومنها ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة، شذوذ مردود يجب التصدي له، بكشف مواطن ضعفه وشذوذه، بعد التناصح مع قائله، ومحاورته بالحسنى، للعدول عنه.(1/69)
4- إذكاء ملكة الاستنباط الفقهي، بالعودة إلى شمولية التدريس، بحيث يشمل علوم الشريعة وعلوم الآلة، وبخاصة علوم اللغة العربية دون إغفال التخصص في المراحل النهائية.
سادسا: عولمة الفتوى:
1- حث المجامع الفقهية ومؤسسات الفتوى بأنواعها على الاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة في نشر الفتوى.
2- التحذير من فوضى الإفتاء في وسائل الإعلام المختلفة، بإبراز آثارها السلبية، وتحديد صفات من يتصدى لها، ممن تتوافر فيه أهلية الإفتاء، والمعرفة بالواقع.
3- اختيار المفتين من ذوي الخبرة والكفاية، للإفتاء من خلال الفضائيات.
4- تأسيس جهاز إشرافي ورقابي خاص بالإفتاء مكون من ممثلي وسائل الاتصال الحديثة وممثلين عن المجامع الفقهية يهتم بما يلي:
آ - تحديد معايير وضوابط الإفتاء على مواقع الإنترنت عامة، والمتخصصة في الإفتاء خاصة.
ب- الدعوة إلى عقد مؤتمرات وندوات للإفتاء يشارك فيها المفتون وأصحاب الفضائيات، للوقوف على منهجية الإفتاء عبر الفضائيات، والالتزام بها.
ج- إبراز الآثار الإيجابية للفتوى المباشرة على الفضائيات، وبخاصة لسكان البلاد التي يقل أو ينعدم فيها الفقهاء.
د - تابعة الفتاوى الصادرة عن القنوات الفضائية ومراجعتها.
5- حث المفتين والمشرفين على فتاوى الفضائيات على تدعيم فتاواهم بقرارات المرجعيات الشرعية المعتمدة.
6- دعوة معدِّي ومقدِّمي البرامج الدينية، ومحرِّري الشئون الإسلامية، في الصحف والمجلات وسائر طرق الإعلام الأخرى، إلى ضرورة الاستعانة بعلماء الشرع الموثوقين، للإشراف على برامجهم، وعدم فتح الباب أمام غير المؤهلين للعبث بها تحقيقا للتعاون المثمر بين الجهات العلمية والجهات الإعلامية.
سابعا: ميثاق الفتوى:
أ- الدعوة إلى وضع ميثاق للإفتاء.
ب - دعوة جهات الإفتاء للالتزام ببنود هذا الميثاق.
ج - إصدار دليل للمفتي وآخر للمستفتي يتضمن التوعية بثقافة الفتوى.
وتفعيلا للتوصيات الصادرة يقترح المشاركون في المؤتمر المشاريع التالية :
1- إصدار ميثاق للفتوى يمثل قالبا قانونيا، معتمدا من المجامع الفقهية ودور الفتوى.
2- إنشاء موسوعة شاملة للفتاوى المعاصرة تجمع الفتاوى والقرارات الصادرة عن المجامع الفقهية ولجان الفتوى.
3- وضع منهج لتدريس أصول الإفتاء في الجامعات الإسلامية والكليات الشرعية.
4- إنتاج برامج متخصصة للإفتاء الجماعي حول قضايا الأمة الكبرى.
5- إنشاء معهد متخصص في التدريب والتأهيل للفقه والإفتاء.
6- يتولى المركز العالمي للوسطية التنسيق مع جهات الاختصاص لإنفاذ هذه التوصيات.
رابعا: الخاتمة
- وفي الختام: فإن المركز العالمي للوسطية يرفع إلى مقام صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت - حفظه الله تعالى - عظيم الشكر والامتنان، لاستضافته ورعايته لهذا المؤتمر، ويتقدم لسمو ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، ورئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الصباح بالشكر والعرفان لمباركتهما وتشجيعهما لمثل هذه المؤتمرات الهادفة، كما يتقدم المركز بالشكر والامتنان إلى ممثل راعي المؤتمر على حسن الضيافة وحفاوة الاستقبال.
ثم قرر المشاركون رفع برقيات شكر وتقدير لكل من:
• صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد - أمير البلاد - حفظه الله تعالى.
• صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد - ولي العهد - حفظه الله تعالى.
• معالي الشيخ ناصر المحمد - رئيس مجلس الوزراء - حفظه الله تعالى.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،
والله تعالى نسأل أن يوفق الجميع لخدمة الإسلام والمسلمين،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، حديث رقم 98.
============
لا تقام الجمعة في بلدي
المجيب …
المشرف العام
التصنيف …الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ …8/7/1423هـ
السؤال
هاجرت من بلدي الإسلامي إلى بلد نصراني كافر، وأعيش في مدينة صغيرة ما صليت صلاة الجمعة فيها إلا مرات قليلة خلال سنة كاملة ، ولا أستطيع الذهاب للجمعة بسبب المادة والمدرسة، والعمل، فهل علي من حرج؟
الجواب
ليس عليك من حرج ما دام أن البلد الذي تقيم فيه بحكم العمل لا تقام فيه صلاة الجمعة، لكن احرص على البحث عن المسلمين حولك ، وتعاون معهم في بناء مسجد ولو صغير وأداء الصلوات والتعاون قدر الإمكان في إقامة الأعمال الخيرية.
أعانك الله ، ومتى استطعت الانتقال إلى بلد إسلامي تقام فيه شعائر الله وتأمن فيه على نفسك وأهلك ومالك فلا تتردد في الانتقال إليه بعداً عن العيش بين ظهراني المشركين وتربية لنفسك وأهلك وولدك وحفظاً لعقيدتكم وأخلاقكم ، قال الله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً" [النساء:97-99].(1/70)
فقوله تعالى: "إلا المستضعفين.." عذر فقط لهؤلاء الذين لا يستطيعون الهجرة من بلاد الشرك لعذر من الأعذار المادية أو الجسمية أو الأمنية ونحوها، دون غيرهم ممن يملك الهجرة ولا خوف عليه مع هذه الهجرة.
============
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟!
سارة الراجحي 6/9/1427
28/09/2006
يتهيّب الكثيرون من "التجديد"، ويجعلون منه مصطلحاً مرادفاً للتغريب أحياناً، و حينما ينادي بعض المصلحين المخلصين بضرورة التجديد في الفقه الإسلامي مثلاً أو في الخطاب الدعوي، أو في قضايا المرأة .. نجد أن هناك من يعترض، ويقابل ذلك بالتشكيك؛ ظاناً أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان .. عبر نزعة استصحابية تشكل عقدة الحفاظ على العادة والمألوف وبناء حاجز أمام كل جديد، حتى وإن كان هو الأصيل الذي ينبغي الاتكاء عليه!
و إذا كان التجديد هو إعادة الشيء الذي بلي وقدم وتشوهت سماته الأصلية إلى حالته الأولى .. فهذا يعني أنه يرادف الأصالة لا أن يعارضها؛ لأن الأصالة تعني تأكيد الهوية و العودة إلى الأصول والثوابت والمرتكزات التي تنبثق منها الأمور، وهذا يفسر لنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" رواه أبو داود .. أي أن هذا المجدد لا يبتكر ديناً أو يبدله، إنما يحيي ويصلح أمور المسلمين وعلاقتهم بدينهم، مقوّماً ما انحرف، ومظهراً ما اندرس.. بالإضافة إلى أن عملية التجديد مستمرة، وليست متوقفة عند أشخاص معينين نظن أن الزمان لن يجود بمثلهم.. كما أنه يتضمن الدعوة إلى التجديد عبر اجتهاد المسلمين؛ لأن السماء لا تمطر مجددين..!
لذلك نحن بحاجة إلى التمييز وعدم الخلط بين التجديد الذي يُعدّ جزءاً حيوياً من ديننا، و بين التجديد بمفهومه الغربي الذي يغلب عليه مجاوزته للماضي وانسلاخه منه، والذي ينظر بمنظور الفلسفة "البراغماتية" التي ترفض القيم المطلقة وثباتها، وتتخذ الواقع ونجاح التطبيق مقياساً للحق وصدق الفكرة.. فالتجديد الذي نحن بصدده يعود للأصول ولا يهدرها، ولا يعتمد الواقع مقياساً للحق والصواب، بل يتحرى فيه الوسائل التي ينزل عليها القيم ليرتقي ويرتبط بها.. أي أنه يقرر القيم والمبادئ الثابتة، ويربط بينها وبين واقع العصر عبر منهجية مقاصدية في فهم النصوص، كما كان في عصر الرسول والصحابة، وكما فعل أئمة المجتهدين.. فكل مشروع نريده أن ينهض ويتحضر لا بد أن يتوغل في الأصالة بنفس درجة توغله في الحداثة.. وإلاّ كان مجرد قديم مقلد، أو غريب مستجلب.
و تجدر الإشارة إلى أن الدين به الثابت والمتغير، فلابد من التفرقة بين القطعيات والظنيات، والأصول والفروع، والأهداف والوسائل.. لأن القطعيات والأصول والأهداف ثابتة، لا مجال للتجديد فيها، أما الظنيات والفروع والوسائل فهذه تحظى بمساحة كبيرة من المرونة و قابلية الاجتهاد البشري، وهذا الذي أكسب ديننا صلاحيته لكل زمان ومكان، فالنصوص متناهية، والأحداث والوقائع والقضايا غير متناهية، لا سيما في عصرنا.. فلا بد من الاجتهاد والتجديد الذي يستدعي الأحكام والحلول الشرعية المناسبة لخضم أحداث عصرنا..
إن محاكاة الماضي المطلقة وتقديس التراث بكل أشكاله وإشكالياته يكون حجر عثرة أمام مهمة الاجتهاد، ويشكل برزخاً بين التجديد والأصالة الحقيقية، يفصل روابط الامتداد والتفاعل والحيوية، و يوثق روابط الجمود والإمعية والغياب عن مستجدات الحياة.. ولا يعني هذا إهمال التراث بالكلية وطرحه جانباً - لا يُقصد به القرآن والسنة فهما فوق التراث - بل يعني فهم هذا التراث وإعمال النص والعقل فيه لا مجرد حمله وحفظه والتسليم به، حتى لا يقع الانفصال والجمود وتعطيل البحث والتمحيص.. بل يقع الإحياء والانتفاع والاستئناس به .. فهو إحدى لبنات التجديد ..
و يجدر التنويه هنا إلى ضرورة التفرقة بين كلام الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - و بين كلام بقية البشر؛ لأن البعض يجعل اجتهادات بعض العلماء السابقين كالوحي المنزل من السماء أو كالمسّلمات، فيتوّهم بعضهم الآخر أن تجاوزها هو تجاوز للدين نفسه.. فتقع العداوات والخصومات فيها.. وصارت كالعملاق الذي تتضاءل أمامه أي اجتهادات جديدة، يرمي بعضهم أصحابها بما لا يليق بهم، موهمين الآخرين بأن ثمة معركة بينهم وبين الدين أو الأئمة الأعلام .. بينما اجتهادات الأئمة الأعلام هي في حقيقتها استنباطات تحتمل الصواب والخطأ، و ليست حكم الله، بل الأقرب إليه ظناً، لهم أجران إن أصابوا، وأجر إن أخطؤوا، كما هو الحال تماماً مع الجُدد، وكما أكدّ على ذلك الأئمة أنفسهم حيث ذموا التقليد وندّدوا بمن يدع النظر .. فقد كان الإمام أحمد مثلاً يوصي أصحابه:"لا تقلّدوني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا".(1/71)
نحن بحاجة إلى فهم أهمية التحرر من قيد التقليد والتقديس، واستبداله بالتقدير و الاجتهاد و التجديد .. كي تستهدي عقولنا بهدي الله، وكي تتناغم الشريعة الغراء مع حركة الزمن عبر تطبيق عملي شامل، لا مجرد صندوق من الشعارات نستعين به عند التنظير، وحتى نكون في المنتصف بين اجترار الماضي وتوهم العيش فيه وتقديس التراث بلا مراعاة للواقع وفقهه، وبين الانبهار بالغرب ومحاكاتهم وتقديس حضارتهم بلا مراعاة لأصول الدين.. ونكون بعيداً عن النظرة الأحادية هنا وهناك التي عادة ما تكون قاصرة ومنحازة ..
و بحاجة إلى اجتهادات فردية وجماعية عبر مؤسسات وجمعيات فقهية يقوم عليها علماء أجلاء من مختلف البلدان الإسلامية مشهود لهم بالعلم والفقه وسلامة الرأي والمنهج، يمتلكون أدوات التجديد وضبطه، ليحركوا بها فكرنا وعلومنا الراكدة، ويشرفوا على البحوث العلمية التي تستند إلى الكتاب والسنة، وتراعي الطريقة والعقلية المناسبة لطبيعة عصرنا، يُستفاد فيها من معطيات العصر ووسائل البحث الجديدة، ليبلوروا ويشيعوا "الأصالة المعاصرة" و "المعاصرة الأصيلة"، بعيداً عن وطأة التناقضات التي تفرزها بعض التيارات والتوجهات الفكرية.
===========
الإسلام والآخرالحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير[
صدق الله العظيم
(الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..(1/72)
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Forcing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .(1/73)
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.(1/74)
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .(1/75)
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .(1/76)
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة stereotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .(1/77)
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .(1/78)
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية – الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .(1/79)
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا – وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .(1/80)
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .(1/81)
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .(1/82)
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .(1/83)
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :(1/84)
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .(1/85)
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟(1/86)
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .(1/87)
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :(1/88)
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .(1/89)
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .(1/90)
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبى صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .(1/91)
2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبى صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .(1/92)
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .(1/93)
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟(1/94)
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع
(1) راجع سيرة ابن هشام – السيرة النبوية لابن كثير – فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thetruereligion.org/converts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..(1/95)
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .(1/96)
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).(1/97)
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .(1/98)
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبى صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .(1/99)
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
كما أن العهود التى أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسوم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .(1/100)
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا – بوجه الإجمال – فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى – طبعة القاهرة 1956م
8. المصدر السابق ص 20 .
9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
11. البلاذرى – فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد – طبعة القاهرة 1956م .
12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .
17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد(1/101)
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبى صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبى صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه محمد صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .(1/102)
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .(1/103)
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .(1/104)
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .(1/105)
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Mansori) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل – الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية(1/106)
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان Regalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .(1/107)
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Avicebron، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .(1/108)
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .(1/109)
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .(1/110)
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivir) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (Arsenal) ، والغزوة (Razzia) ، وقالب (Calibre) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammiraglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Durra grain) ، الطرحون (Tarragon)، الباذنجان (Aubergine) ، البرقوق (Apricot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Camphor)، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginger)، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (Orange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saffron) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Cipher)، العرق (Arrack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algebra)، الحبل (Cable)، الزهر (Hazard) ، الإكسير (Elixir)، الدمقس (Damask) .(1/111)
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Leclerc, Histore de la medecien arabe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..(1/112)
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-for-allah-org وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomorrow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.
www.thetruereligion.org/converts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..(1/113)
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .. فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!(1/114)
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..(1/115)
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
===========
الأقليات من المصطلح إلى الاجتهاد
د. صلاح سلطان(1/116)
في رأيي أن مصطلح «فقه الأقليات» تجاوز مرحلة التساؤل: هل هو مهم أو غير مهم، فقد بات اكيدا وجود فقه أقليات كما يوجد فقه نوعي مثل فقه المرأة وفقه الحروب، غير أن ذلك لا يعني أن يكون فقه الأقليات فقه الترخص والمروق من الدين، وإنما فقه الأقليات معناه أن الفتوى يجب أن تصدر من فقه النص مع فقه الواقع ثم إنزال النص على الواقع فى ضوء وجود ضرورات وتحديات -خاصة للمسلمين في الغرب- لا توجد في الشرق توجب على كل فقيه وعالم أن يكون لكل أرض فقهها كما كان للشافعي فقهه في العراق وآخر في مصر علما بأن البعد الحضاري لم يكن بعيدا وقتها مثل الآن في الشرق والغرب.
والعلماء يذكرون كما ذكر الشيخ القرضاوي في كتابه في فقه الأقليات المسلمة أن الاختلاف بين الإمام أبي حنيفة وتلاميذه النجباء أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيره كان اختلاف زمان ومكان وليس اختلاف حجة وبرهان، وهذا ما نسير عليه فأصولنا الفقهية واحدة لكن الواقع الغربي له تحدياته الخاصة.
وثمة علماء أجلاء قد كتبوا فى هذا المجال على رأسهم الشيخ القرضاوي والشيخ طه العلواني والشيخ فيصل مولوي والدكتور عبد المجيد النجار والشيخ عبدالله بن بيه؛ اضافة الى وجود أقسام علمية ورسائل ماجستير في جامعات هولندا وبريطانيا وفرنسا، وكذلك طلاب محضرو دكتوراه في فقه الأقليات.
ويمكن القول أن من أسس وعمق فقه الأقليات هو المجلس الفقهي الأوربي للبحوث ، وكان من أحد ثماره الدورة السادسة عشرة في تركيا يوليو 2006 حيث قدم المجلس ثمانية وعشرين بحثا في الفقه السياسي للاقليات المسلمة وعلى مدى ثلاث دورات سابقة قدمنا قرابة الخمسين بحثا عن الأسرة.. فقه الأسرة المسلمة في الغرب.
هذا كله يجعلني أؤكد بأنا قد تجاوزنا المصطلح إلى أن نخوض معركة الاجتهاد في فقه الأقليات المسلمة.
باحث شرعي
==========
عوائل يعمل رجالها في بيع الخمور
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 ) السؤال السابع والعشرون
السؤال :
كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمر والخنزير وما شابه ذلك وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علما بأنهم يعيشون بمال الرجل فهل عليهم من حرج في ذلك ؟
الجواب :
للزوجة والأولاد غير القادرين على كسب الحلال أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعا كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من المكاسب الحرام بعد بذل الجهد في إقناعه بالكسب الحلال والبحث عن عمل
==========
حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 ) السؤال الخامس والعشرون
السؤال :
ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علما بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل ؟
الجواب :
لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك ماليا أو فعليا
============
حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة في البلاد غير الإسلامية
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 ) السؤال الرابع والعشرون
السؤال :
ما حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة في البلاد غير الإسلامية خاصة في مجالات هامة كالصناعة الذرية أو الدراسات الإستراتيجية ونحوها ؟
الجواب :
يجوز للمسلم العمل المباح شرعا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين
=============
حكم استئجار الكنائس كأماكن لإقامة الصلوات
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 )
السؤال :
ما حكم استئجار الكنائس كأماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة علما بأن الكنائس - في الغالب - أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في هبة المناسبات دون مقابل ؟
الجواب :
استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعا عند الحاجة وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة
============
حكم العمل في مطاعم تبيع الخمور
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 )
السؤال
يضطر الكثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في بلاد أجنبية لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونها وكثيرا ما لا يجد عملا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيره من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات ؟ وما حكم بيع المسلم الخمور والخنازير أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين ؟ علما بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم
-----------------------
الجواب
للمسلم إذا لم يجد عملا مباحا شرعا العمل في مطاعم الكفار بشرط أن لا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنازير ونحوها من المحرمات
============
ما الحكم في بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه ?
مجمع الفقه الإسلامي
قرار رقم ( 11 )(1/117)
السؤال :
ما الحكم في بيع المسجد ( إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه ) فكثيرا ما يشترى المسلمون منزلا ويحولونه مسجدا فإذا انتقل أغلب المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل وقد يستولى عليه آخرون ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون فما حكم هذا البيع أو الاستبدال ؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها ؟
---------------------
الجواب :
يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه أو خيف استيلاء الكفار عليه على أن يشترى بثمنه مكانا يتخذ مسجدا
===============
إتمام شهر رمضان
نحن في ألبانيا قد بدأنا الصوم مع مصر يوم الأحد ولكن أفطرنا مع السعودية يوم الاثنين أي صمنا 29 يوما وصلينا العيد يوم الاثنين .. حيث أن ألبانيا تعتمد على الحسابات الفلكية مثل تركيا في تحديد أول رمضان وأول العيد .. ومع بعض الأصحاب ليلة العيد اختلفنا هل نصوم اليوم الثلاثين مع مصر حيث أننا نعتبرها أدق حسابات وبها الرؤية الشرعية أيضا أم نفطر مع البلد الذي نحن فيه ... فمنا من صام ومنا من أفطر .. ومن ناحية أخرى أخرج المجلس الأوربي للإفتاء فتوى أنه إذا ثبتت الرؤية الشرعية لهلال العيد في أي بلد يوم الأحد يكون الاثنين هو العيد وإلا يكون الصوم أولى .. ولكن بشرط أن لا يكون الصوم 31 يوما وألا يثير ذلك بلبلة وسط العامة.. وللأسف ما حدث أنه من أفطر يوم الاثنين لصومهم ثلاثون يوماً وليس لرؤية شرعية للهلال فماذا عن وضعنا نحن في ألبانيا .. هل على من أفطر يوم الاثنين أي صام 29 يوما قضاء هذا اليوم الثلاثين أم لا ؟
…السؤال
فتوى المجلس الأوروبي فتوى صحيحة وسليمة ويُعمل بها، وهي الأصل للحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة الشهر ثلاثين يوما" رواه البخاري ومسلم والترمذي، والخطاب موجه لجميع المسلمين في كل زمان ومكان، وهذا هو المطلوب لوحدة الأمة، فأنتم بإفطاركم يوم الاثنين وصيامكم 29 يوماً قد أديتم، وتقبل الله منا ومنكم، أما الذين كملوا فكان المطلوب منهم أن يكونوا في العيد مع إخوانهم إفطاراً وعيداً، ومع البلد التي يعيشون فيها ما داموا قد صاموا 29 يوماً، لأنه كما قلنا المطلوب في هذه الفرائض إظهار أن المسلمين جميعاً في المشارق والمغارب أمة واحدة، فإذا لم يتفقوا كدول فلا أقل من أن الذين يعيشون في بلد واحد يكن مظهرهم كذلك ينبأ عن الوحدة وعن الأمة الواحدة في غير مخالفة شرعية، حيث تكون مظهر الوحدة في صلاة العيد وفي فرحة العيد وفي لقاء المؤمنين في تبادل التهاني، هذه أشياء أرجوا أن توضع في الميزان لأنها هامة في حياة المسلم والله أعلم
===========
حكم ممارسة العادة السرية
ما حكم ممارسة العادة السرية عندما يكون الإنسان غير متزوج؟
…السؤال
هذا الأمر اعتبره بداية للانحراف، وحكمه التحريم عند أكثر الفقهاء، أما من لم يحرمه منهم فاعتبره ضرورة إذا أحاطت بالإنسان ظروف وكان سيقع في الفاحشة، هنا يخفف هذا الذنب بذنب أقل، ولابد لكل شاب من البعد التام عن جميع الأسباب التي تدعوا لمثل هذه الأعمال الصور الخليعة، العرى الفاحش، والروايات والتمثليات ومشاهدة التليفزيون من غير ضوابط، ولابد من خطوط فاصلة بين الممنوع والمقبول والجائز وغير الجائز، ولابد من الإكثار من الصيام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن له وجاء" وعليك بالمحافظة التامة على الصلوات في ميعادها فالصلاة كما قال الله تعالى ?إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ? (سورة العنكبوت: 45).
وعليك بقراءة القرآن القراءة التي يصحبها تدبر وخشوع وخضوع وتقف عند آيات الجنة وتسأل الله الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وعند آيات النار تستعيد بالله منها وما قرب إليها من قول وعمل.
وعليك بمصاحبة الأخيار الذين تذكرك بالله رؤيتهم فإن الحياة في مثل هذه الأجواء الطيبة هي ضمان السلامة والاستقامة، وعليك بالخوف من الله عز وجل، ولتتذكر دائماً أنه يراك ويطلع عليك ويعلم السر وأخفى، وهو أقرب إليك من حبل الوريد، قال تعالى: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? (سورة ق: 16).(1/118)
وأخيراً عليك بتقوى الله التي تبعدك عن كل مخالفة لله عز وجل وعليك بالرياضة البدنية فهي تستوعب جانباً كبيراً من نشاطك وتحول مثل هذه الرغبات إلى طاقات أخرى تستهلكها الرياضة والانشغال بها، وعليك بالقراءة في كتب السلف الصالح ففيها زاد يحفظ ويعين ويسدد مثل كتاب ٍحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ابن القيم رضي الله عنه، ولا تنسي الورد القرآني المنتظم صباحاً ومساءًا مهما كانت مشاغلك أو ظروفك وأحفظ في كل يوم آية من كتاب الله وزد عليها في اليوم التالي والثالث، وهكذا بعد فترة ستجد أن عندك الرصيد المناصب من القرآن الذي يملأ نفسك وقلبك ومشاعرك ويشفي صدرك ويطرد الشياطين عنك، وفقك الله وهداك
============
الصلاة في بلد لا تغيب عنه الشمس
نحن في بلد لا تغيب عنه الشمس، فكيف نؤدي صلاة المغرب والعشاء، والفجر؟ وما هو الحل بالنسبة لمكبرات الصوت التي تحدث إزعاجاً لبعض الناس حين الآذان؟
…السؤال
فريضة الصلاة ذات شأن عظيم، اهتم الإسلام بها، وبين تفاصيلها أدق بيان، فمواقيتها محددة، جعل لها الإسلام وقتاً ابتداء وانتهاء.
قال الله تعالى:? إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا? سورة النساء آية 103 ، وقد تكفلت الأحاديث الكثيرة ببيان هذه الأوقات هذا بالنسبة للبلاد التي يعتدل فيها سير الليل والنهار، أما في البلاد التي يطول فيها الليل أو النهار عن حد الاعتدال ومنها ما أشرت إليه في سؤالك، فقد أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما ينبغي فعله، حتى لا تضيع هذه الفريضة أو تسقط مهما كانت الظروف.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثهم عن المسيح الدجال، يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟
قال: أربعون يوماً - يوم كسنة، ويوم كشهر ويوم كجمعة،وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا، "أقدروا الله قدره".
وبناء على هذا التوجيه النبوي الدقيق "أقدروا له قدره" نقول للإخوة الذين يعيشون في بلاد يطول نهارها أو ليلها عليهم أن يقدروا مدة الوقت الذي يكون بين الصلاتين، مسترشدين بتوقيت البلاد التي يعتدل فيها الليل والنهار، أو مواقيت مكة المكرمة، كما يرى ذلك بعض الفقهاء.
أما سؤالك عن الآذان في مكبرات الصوت، وإنها تسبب إزعاجاً أو أضراراً لبعض الناس، فهذا الأمر يمكن علاجه بالتفاهم مع أهل هذه المساجد، بمحاولة خفض الصوت قليلاً حتى لا يؤثر على النائمين، وفى نفس الوقت لا نعطل هذه الشعيرة، وهى تذكير المسلمين - خاصة في هذه البلاد - بدخول وقت الصلاة، ودعوتهم لأداء ما فرضه الله عليهم، فنكون قد جمعنا بين الحسنيين، وتجنبنا المشاكل بقدر ما نستطيع. والله تعالى أعلم.
=============
… صلاة الجمعة في أماكن اللهو والعبث
نحن الشباب المسلم والمغترب في مدن أوروبا ـ نحاول أن نحافظ على إقامة شعائر الإسلام وخاصة ـ صلاة الجمعة ـ ولا نجد سوى حجرة صغيرة لا تتسع لعددنا ـ ولا نجد غيرها سوى ـ حجرة كبيرة ـ هي مقر نادي الصداقة وتقام في هذه الحجرة طوال الأسبوع حفلات الرقص ويشرب فيها الخمر. وكل ما يغضب الله . فهل يصح لنا أن ننظفها كل أسبوع ونؤدي فيها صلاة الجمعة ؟
…السؤال
حفظكم الله وأكثر من أمثالكم ، وهذه الحجرة محل العبث والمجون طوال الأسبوع لا داعي أبداً لأداء صلاة الجمعة فيها ، لأنها ليست محلاً للطاعة ولا موضعاً للصلاة أو حتى لا يلتبس على الناس أن الإسلام لا يعادي هذه المنكرات ـ يقول الإمام ابن حزم " لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله ورسوله أو بشيء من الدين. أو في مكان يكفر بشيء من ذلك فيه ، فهذا المكان بعد صلاة الجمعة فيه أن قمتم بتنظيفه يتحول إلى مرقص كما تقولون . فكيف يلتقي الحق مع الباطل في مكان واحد ؟
وعلى الأخوة أن يحاولوا إيجاد مكان طاهر طيب يتناسب مع شعائر هذا الدين الحنيف ، ويسعهم ـ خاصة أن الجمعة يصح أداؤها في المسجد وفي الفضاء التابع للمدينة وغيره .
=============
… الصوم في القطب الشمالي أو الجنوبي
ما هو حكم الشرع في الصوم في بلاد قريبة من القطب الشمالي أو الجنوبي التي يطول فيها النهار حتى يكون عشرين ساعة؟.
…السؤال
الصوم الشرعي يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس، وطول المدة لا يعد عذراً شرعياً يبيح الفطر لكن إذا ثبت أن صيام هذه المدة ضار بالإنسان، فقد قرر الفقهاء أن تقدير اليوم يكون على البلاد المعتدلة التي نزل فيها التشريع وهي مكة والمدينة، كما يرى بعض الفقهاء أن التقدير يكون على أقرب البلاد المعتدلة إليهم.
============
… قراءة الفاتحة بغير العربية
ما هو الحكم في قراءة الفاتحة بغير العربية في الصلاة؟
…السؤال
من شروط صحة الصلاة قراءة الفاتحة في كل ركعة منها، كما يسن أن يقرأ بعد الفاتحة شيئًا من القرآن في كل ركعة من ركعتي الصبح وفي الركعتين الأوليين من الصلوات الأخرى.. وكذلك صلاة الوتر.(1/119)
والأصل في قراءة الفاتحة والقرآن في الصلاة أن تكون باللغة العربية التي نزل بها القرآن، فلو قرأ المصلى ما تجب قراءته بغير العربية كالفارسية أو الأردية مثلاً، وكان المصلي قادرًا على القراءة باللغة العربية فسدت صلاته وكانت غير صحيحة، وهذا الحكم وهو البطلان لا خلاف فيه بين الفقهاء.
ويرى الأحناف جواز الصلاة إن كان المصلي عاجزًا عن القراءة بالعربية، وقرأ باللغة التي يحسنها، أما غيرهم من الفقهاء فإن الصلاة عندهم لا تجوز بغير اللغة العربية مطلقًا؛ لأن ما يقرأ بغير اللغة العربية لا يسمى قرآنًا، والمطلوب قراءة الفاتحة وهي بعض القرآن، وعلى المسلم أن يتعلم الضروري من العربية ليستطيع أن يقرأ الفاتحة في الصلاة، فإن لم يستطع وخشي أن يضيع وقت الصلاة يقول بدل الفاتحة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والرأي الذي لا يجيز الصلاة بغير العربية في قراءة القرآن له وجاهته؛ لأنه يحمل جميع المسلمين على تعليم اللغة العربية- لغة القرآن- فيكون ذلك رباطًا بين المسلمين، وجمعًا لكلمتهم، وتوحيدًا لصفهم.
============
… ذبائح غير المسلمين
…التاريخ
أنا طالب مسلم بالصين توقفت عن أكل اللحم لأني أشك في طريقة ذبحه، وقد اخبروني بأنه على الطريقة الإسلامية.. فماذا أفعل؟
…السؤال
بارك الله فيك وحفظك وأكثر من أمثالك ممن يتحرون الحلال ويراقبون الله عز وجل ، وأقول لك إن كل الذين يقومون بالذبح من الشيوعيين الملحدين فلا يجوز تناولها بأي حال من الأحوال، لأنهم ليسوا أهل كتاب ويجحدون الله ورسالاته ورسله، وإن كانوا من أهل الكتاب فأرجح ذلك جواز الأكل.. لأن القرآن يقول: ?وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ? سورة المائدة آية 5، وسئل الإمام مالك فيما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم فقال: أكرهه ولا أحرمه.
وهناك قاعدة تقول: ما غاب عنا لا نسأل عنه أي لا نسأل عن شروطه وكيف ذبح؟ وهل ذكر اسم الله عليه أم لم يذكر.
=============
ماذا نفعل في مواجهة الانحلال؟
نحن ندرس في بعض البلاد الأوروبية، والمنكرات وجميع ألوان الانحلال من حولنا بدون تحفظ ، فماذا نفعل وما هو العلاج؟
…السؤال
لقد انحرفت الحضارة الغربية بالمرأة انحرافاً خطيراً طائشاً، حتى وصفت هذه الحضارة بأنها تقوم بعملية انتحار حقيقية، والحق سبحانه وتعالى يقول ? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا? سورة النساء آية 140.
والإسلام يُحرم الهجرة إلى بلاد الكفر والإقامة فيها لغير ضرورة كالدراسة للعلم المفيد، أو تحصيل الرزق الضروري، ومبعث الخطر في الذهاب إلى هذه البلاد أن المسلم ربما يتضايق أول الأمر مما يراه ويسمعه من ألوان الآثام ، ثم بمرور الزمن يغفل عن هذا الأمر ، وبعد فترة يتعود عليه ولا يشعر بضيق نحوه، وقد ينقلب الحال إلى استحسان هذه المنكرات، ومن أجل هذا فإن الآية التي ذكرت تعتبر نصاً صريحاً على أن المسلم يجعل بينه وبين هذه المنكرات سياجاً من الأيمان واليقظة.
ويستطيع من اقتضت ظروفه أن يكون في هذه البلاد أن يعيش مع التجمعات الإسلامية فإنها بلا شك خير وقاية وعلاج والمسلم مكلف بإزالة المنكر فإذا لم يستطع فعليه أن يزول هو من هذه الأماكن وأن يعتصم بأيمانه وطاعته لله.
===============
جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا تدعو إلى حلول تساعد الجاليات على التعامل مع مشاكلها اليومية
لندن: «الشرق الأوسط»
عقدت جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا مؤتمرها السنوي الخامس تحت عنوان «الفقه المعاصر والاقليات المسلمة» وذلك في قاعة بورتلاند في جامعة وستمنستر في لندن للفترة من 21 ـ 22 فبراير(شباط) الحالي. هذا وقد نظمت الجمعية المؤتمر بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الاسلامي مكتب لندن والكلية الاسلامية ومجلة «كيو نيوز». حضر المؤتمر جمهور غفير، كما شارك فيه وفد من الجالية المسلمة من سنغافورة، اضافة الى مشاركين من جنوب افريقيا والولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية ودول الخليج. وبعد تلاوة مباركة من الذكر الحكيم رتلها قارئ تركي، افتتح المؤتمر الدكتور أنس الشيخ علي رئيس الجمعية، مشيرا الى الاهمية القصوى للموضوع والى ضرورة التفاعل والتعاون بين علماء الشريعة وعلماء الاجتماعيات من اجل التوصل الى حلول تساعد الجاليات المسلمة المغتربة على التعامل مع مشاكلها المتتالية ومواجهة التحديات اليومية التي تتعرض لها.(1/120)
واشار الى انه من الضروري جدا ان يتمتع من يتصدى لهذا الموضوع، سواء من علماء الشريعة والفقهاء او من علماء الاجتماعيات، بفهم كامل وتجربة مباشرة للواقع الذي تواجهه هذه الجاليات، حيث ان فهم الواقع واستيعاب مشاكله وتعقيداته شرط رئيسي واساسي لايجاد الحلول، لأنه من الصعوبة جدا ان ينظر اي انسان مهما كانت مقدرته لواقع لم يعشه او يتفاعل معه.
واعقب ذلك الكلمة الرئيسية للمؤتمر والتي قدمها الدكتور مصطفى سيرج رئيس العلماء في البوسنة، حيث أكد انه يرفض ان ينظر الى المسلمين كأقلية طارئة على اوروبا، وان مفهوم الاقلية للمسلمين في اوروبا هو مفهوم سياسي، وقال ان الكثير من المسلمين في اوروبا يعيشون في ظروف صحية ومالية تمكنهم من تأدية فريضة الزكاة والحج. وأكد ان الجالية المسلمة في الغرب لديها واجب مهم يفرضه عليها الاسلام للعمل على تعزيز علاقات سلمية مع الجاليات الاخرى وهذا ما تحتمه المصالح المدنية للجالية، التي سوف تتمكن في يوم ما من تقديم الدعم والمساعدة للأمة الاسلامية. كما شدد على ان الوقت قد حان كي يقوم المسلمون في اوروبا بتطوير فقه وفهم بديل يساعد الجالية على ان تلعب دورا اجتماعيا بناء.
بعد ذلك قام رئيس الجمعية الدكتور الشيخ علي بتقديم الجوائز التكريمية السنوية للجمعية، حيث منحت جائزة انجاز الحياة لعام 2003 للكاتب والمفكر الفلسطيني البروفيسور ادوارد سعيد لما حققه من انجازات فكرية مهمة جدا. وعرض الدكتور زكي بدوي رئيس الكلية الاسلامية وعضو اللجنة التنفيذية للجمعية، نبذة عن حياة وانجازات البروفيسور سعيد واشار بشكل خاص الى كتابيه «تغطية الاسلام» و«الاستشراق»، مشيرا الى التأثير الكبير والتغير الذي حصل بعد صدور الكتاب الثاني في النظر الى الاستشراق وفهم ابعاده واهدافه ومنهجيته، وقد تسلم الجائزة نيابة عن الجالية الفلسطينية وعائلة البروفيسور سعيد، المحامي ميشيل عبد المسيح مستشار الملكة للشؤون القانونية. كما منحت جائزة بناء الجسور لعام 2003 الى الكاتبة الشهيرة كارن آرمسترونك لدورها في تعزيز الحوار بين الاديان وتقديم فهم صحيح للاسلام من خلال كتاباتها والبرامج الاذاعية والتلفزيونية التي تشارك فيها، وقدمت فارينا علم محررة مجلة «كيو نيوز» التي تصدر في لندن نبذة عن حياة وانجازات المؤلفة آرمسترنك، مشيرة بشكل خاص الى كتابها الاخير عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن دورها الكبير في عرض الاسلام بشكل ايجابي، خاصة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر( ايلول).
ثم بدأت اعمال المؤتمر، حيث توزعت على سبع جلسات قدمت خلالها 13 ورقة. في الجلسة الاولى تحدث الدكتور لؤي الصافي رئيس جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في اميركا عن «دور علماء الاجتماعيات في التفريق بين العام والخاص»، تلاه الدكتور محمد المستيري رئيس جمعية علماء الاجتماعيات في فرنسا بالحديث عن «فقه الاقليات ما بعد فقه المواطنة». وفي الجلسة الثانية تحدث الدكتور زكي بدوي رئيس الكلية الاسلامية في لندن عن «بديهيات فقه الاقليات»، مؤكدا ضرورة تطوير مثل هذا الفقه وعدم احتكاره من قبل بعض المجموعات او المجالس، مشيرا الى ان مصطلح الاقلية يعتمد على وضع الجالية، سواء كانت اقلية أم اغلبية» ومدى تأثيرها في مجتمعها او دولتها، حيث ان هنالك اقليات لديها تأثير فعال ضمن الاغلبية التي تعيش معها بينما تفقد الاغلبية وضعها وتصبح اقلية متى عجزت عن ان تلعب دورا فعالا وحين لا يكون لديها اي قوة او سلطة او تأثير. ولهذا فإن التفاعل مع المجتمع والتأثير الايجابي فيه هو الذي سيعطي اية اقلية موقعها ومكانتها ودورها. كما تحدث الدكتور طه جابر العلواني رئيس جامعة العلوم الاجتماعية والاسلامية من خلال تسجيل في موضوع «فقه الاقليات بين الفقه الاصغر والفقه الاكبر». اما في الجلسة الثالثة فتحدث الدكتور طاهر مهدي، دكتوراه في اصول الفقه وعضو المجلس الاوروبي للافتاء، حول «فقه الاقليات ومقاصد الشريعة»، حيث تطرق الى مشكلة الحجاب في فرنسا، مشددا على الدور الرئيسي الذي يمكن ان تلعبه المرأة المسلمة متى ما استعادت حقوقها ودورها الذي كفله لها الاسلام وغيَّبته بعض الممارسات. اعقبه الدكتور بسطامي خير استاذ الدراسات الاسلامية في جامعة برمنغهام حول «الرأي الشرعي في الوضع السياسي والقانوني للمسلمين في البلدان غير الاسلامية».
وفي اليوم الثاني عقدت الجلسة الرابعة التي تحدثت فيها الدكتورة سمية برنيلا اويس في موضوع «استراتيجيات الزواج بين الشباب المسلم في اوروبا»، تلاها المؤلف احمد الكاتب بالحديث عن «مشاكل العلاقات الجنسية لدى الشباب المسلم في الغرب والحلول المختلفة لها».(1/121)
وقد اثارت هاتان الورقتان نقاشا مثيرا، حيث أكد كثير من الحضور ان هذه الحلول المطروحة، سواء كانت الزواج المؤقت او ما يعرف بزواج المتعة او الزواج بنية الطلاق تخلق اشكالية اجتماعية واخلاقية تؤثر بشكل كبير على الجالية ومصداقية ابنائها، اضافة الى ما تخلفه من آثار نفسية سلبية لا تتماشى مع روح الاسلام والمودة والرحمة والمصداقية التي يجب ان تحكم العلاقة بين اي زوجين. اما في الجلسة الخامسة فقد تحدث الدبلوماسي الانجليزي والمؤلف المسلم الشهير تشارلس ايتن، عن «الخطوات المطلوبة لتطوير فقه الاقليات». وفي الجلسة السادسة تحدثت السيدة عصمت علي والتي تعد لشهادة الدكتوراه في الدراسات الاسلامية في جامعة لندن حول «فقه الاقليات والتعددية: اشكالية التعريف»، اعقبها ديلوار حسين الذي يعد للدكتوراه حول «الاسلام في اوروبا»، متحدثا عن ضرورة تطوير فقه الاقليات المسلمة في اوروبا. وفي الجلسة السابعة الختامية قدم المحامي الانجليزي المسلم احمد تومسن ورقة حول «ادخال قوانين الاحوال الشخصية الاسلامية في القانون البريطاني»، اعقبه الدكتور احسان يلماز المدرس في جامعة لندن والحائز شهادة الدكتوراه في القانون حول «الشباب المجتهد وتطبيق فقه الاقليات»، حيث حذر بقوة من خطورة قيام عدد كبير من الشباب المسلم في الغرب بالتخير والتنقل بين المذاهب والمدارس الفقهية للتوصل الى حلول للمشاكل اليومية التي يواجهونها بحيث اصبح كل منهم مفتيا ومجتهدا يشرع لكل صغيرة وكبيرة تواجهه. وأكد مسؤولية المؤسسات الاسلامية والقيادات المدنية والشرعية بضرورة التنبه الى الامر ومعالجته بسرعة.
وقدم الدكتور انس الشيخ علي في كلمته الختامية شكره الجزيل للمتحدثين والمشاركين في المؤتمر، مؤكدا ان الجمعية لا تشجع فقط الافكار والنظريات، بل تعمل من أجل ايجاد حلول وتطبيقات عملية للمشاكل التي تطرحها في مؤتمراتها السنوية، ولهذا انهت الجمعية بعد مؤتمرها السنوي الرابع حول التعليم الاسلامي في اوروبا دراسة تعتبر الاولى من نوعها حول واقع التعليم الاسلامي في بريطانيا وحول سياسات التعليم المتبعة وانعكاسها على ابناء الجالية وذلك لاستخدامها في اي مناقشات مستقبلية مع ادارة التعليم والمهارات.
============
الخطاب الإسلامي في الغرب بين الإشكاليات والبناء 2
Par Khaled Traouli
mis en ligne le الخميس 29 كانون الأول (ديسمبر) 2005
بقلم د. خالد الطراولي
ktraouli@yahoo.fr
الجزء الثاني : مدخل لبناء الخطاب
1/ هذا الخطاب هو خطاب الوسطية والجمالية، وقد تناول محمد عمارة في الخطاب العام الإسلامي [1] ذكر بعض محدداتها عبر ثنائيات نزيد عليها : الله والإنسان، الفكر والمادة، الجبر والاختيار، الوحي والعلم، النص والاجتهاد، الدين والدولة، الرجل والمرأة، الفرد والجماعة، الطائفة والأمة، الوطنية والإسلامية،، دار الإسلام ودار العهد. وتتشكل فسيفساء هذا الخطاب الوسطي والجمالي عبر الإجابة الميسرة والموضوعية والبراغماتية لهذه الثنائيات.
ولعل فقه الموازنة يعتبر خير الطرق والوسائل لملامسة هذه الثنائيات وغيرها حتى ينجلي البعد الوسطي والجمالي لهذا الخطاب. وهي موازنة "بين المصالح بعضها وبعض من حيث حجمها وسعتها ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث بقاؤها ودوامها، وأيها ينبغي أن يقدم ويعتبر وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى...(وكذلك للمفاسد)..والموازنة بين المصالح والمفسد إذا تعارضتا بحيث نعرف متى تقدم ردء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة." [2]
2/ وهو خطاب سلمي تعارفي، وهذه السلمية ليست ظرفية ترتبط بحالة الضعف والقلة التي نعيشها، ولكنها حالة مبدئية وهيكلية وحاسمة للخطاب، لا رجعة فيها ولا تردد، تستمد أصولها من المقدس الذي نحمله والذي تجعل من بني الإنسان أخوة متعاونين ومتعاضدين قبل اختلاف العقيدة والرؤى والتصورات والمقاربات "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة"[حديث]. وهي ليست رمزا خافتا لمرحلة فانية وظرفا متعديا، ولكنها ميزة ثابتة لمشروع هداية، شعاره "يأيها الناس ادخلوا في السلم كافة" [البقرة 208 ] لتنفض الكثير من الغبار عن ترهلات في تاريخنا، وتأويلات منحرفة في حاضرنا أضرت بنا قبل أن تضر بغيرنا.
3/ وهو خطاب نحو الإنسان، حتى أن الصفة الملحقة به يجب أن تتمثل البعد الإنساني فيكون الخطاب إنسانيا ذو توجه إسلامي. لقد كان القرآن كتابا إنسانيا في طرحه وفي جمهوره [يأيها الناس، يابني آدم، يأيها الإنسان]، كان كتابا للإنسان وليس كتابا للمسلمين، وهذا يجعل الخطاب يحمل توظيفا دقيقا لهذا الإنسان وتوظيفا مناسبا له فيه التكريم والتشريف والاعمار والاستخلاف.
4/ وهو خطاب المرافق والدليل لفهم الإسلام وليس خطاب الأستاذية، حتى في جانبه الأخلاقي التي علا فيه صخبنا، وقدناه تنظيرا وأفلسنا فيه ممارسة وتنزيلا. فخطاب المعية يؤدي إلى إثراء ونقاش حول أشياء تبدو مسلمات بالنسبة لنا وهي غير ذلك عند الآخر، على عكس الأستاذية التي غالبا ما تنحو منحى الجمود أو التحرك في نفس النقطة.(1/122)
5/ هذا الخطاب توفيقي أساسا، فإذا كانت هناك فجوة قائمة دائما بين الخطاب والفكرة من ناحية، والواقع من ناحية أخرى، فلأن الخطاب يكون غالبا أقرب إلى المثالية، إذ أنه نتمتع بمنهجيتين لطرق هذا الواقع، إما تغييره بالمجاهدة [ولكن هل هذه مهمتنا؟ وهل هي من مصلحة الخطاب ومصلحة ضيوفه؟]، أم نتوافق معه عبر استنباط الدلالات من النصوص، وطرق باب الاجتهاد بكل قوة وإخلاص، وهذا يستلزم جرأة وعلما ووعيا، يقول الدكتور جمال الدين عطية في شأن الفقه العام، والحديث جائز في غيره : " ولكن الذي لا ينتبه إليه الكثيرون هو ضرورة إعادة النظر في المسائل القديمة، أي الاجتهاد مجددًا في المسائل القديمة. فإن من المقرر أن لتغير ظروف الزمان والمكان والأشخاص أثره في تغير الاجتهاد والفتوى. ولا نوافق على حصر دور المجتهد في هذه الحالة على الانتقاء من بين الآراء القديمة رأيًا يكون أصلح أو أوفق ولو كان مرجوحًا في نظر أهل الترجيح من القدماء. فللمجتهد المعاصر أن يصل إلى رأي لم يقل به الأقدمون طالما أن له مستنده الشرعي في هذا الاجتهاد. ونحن لا نوافق على مقولة إنه إذا كان للقدماء ثلاثة آراء في المسألة (أو أربعة) فللمجتهد المعاصر أن يختار أحدها وليس له أن يقول برأي رابع (أو خامس) لم يقل به أحد من قبله، على أساس أن الآراء القديمة استنفدت بالقسمة العقلية جميع الاحتمالات؛ فهذا حَجْر على المجتهد لا أساس له من الشريعة" [3].
وهنا يطرح بقوة ماصطلح على تسميته بفقه الأقليات والذي لنا عليه بعض التحفظات، لأننا لا نريده أن يبقى في مستوى فقه الفتوى والنصيحة وردّ الفعل ودعها حتى تقع! ولكنه يجب أن يكون له تصور كامل ومستقل عن الفقه العام، في مستوى أصوله على الأقل. ليس فقه الأقليات فقه الضرورات والحاجات والنوازل والمصالح المرسلة، وليس فقه العابد ولا العالم فقط، وليس فقه الواعظ والعارف فقط، بل هو كل ذلك، هو فقه رجل الشرع ورجل الاختصاص. وهو ليس فقها اقتصاديا فقط يفتي بجواز التملك والتصرف فقط، ولا يجب أن ينحبس مدراره في قضايا الفقه العام المتنوعة والتي غلب عليها في تاريخنا الجانب العبادي والشعائري وضمر البعد السياسي والحقوقي، بل يجب إدراك ما للسياسة من دور أساسي في استقرار الجالية وتمرسها بوسائل المدنية الجديدة وتعاملها في إطار ديمقراطي رحب وتعددية فكرية وسياسية متمكنة، والتركيز على بروز فقه سياسي متطور يحترم الموروث الاجتهادي نقدا أو تجاوزا ويثبت المقدس ولا يتخاصم مع الواقع.
لقد عدّد الدكتور القرضاوي تسعة ركائز لبناء وبلورة فقه الأقليات، نعتبرها تلم بالنواقص و تضفي شروطا موضوعية وواقعية لنجاح الخطاب الإسلامي في الغرب ونجاح هذه الأقلية في التفاعل السليم مع محيطها، وهي على التوالي: لا فقه بغير اجتهاد معاصر قويم، مراعاة القواعد الفقهية الكلية، العناية بفقه الواقع المعيشي، التركيز على فقه الجماعة لا مجرد الأفراد، تبني منهج التيسير، مراعاة قاعدة تغير الفتوى بتغير موجباتها، مراعاة سنة التدرج، الاعتراف بالضرورات والحاجات البشرية، وأخيرا التحرر من الالتزام المذهبي [4].
علينا أن نبحث إذا عن الثوابت في خطابنا التي لا تقبل التغيير وحصرها، والبحث عن ثوابت الواقع الغربي التي لا تقبل التبديل، والتحرك إثر ذلك في متغيرات الواقع واجتهادات "المبدأ"، بوعي وفهم داخل مؤسسة ومن خلال خطة عمل.
6/ وهذا يجرنا إلى صفة أخرى لهذا الخطاب، وهو أنه خطاب مؤسساتي، تحمله مؤسسة وتنزّله مؤسسة، بما يحمله هذا المصطلح من آليات وقوانين تبعدنا عن الفردية والمذهبية والطائفية واللاواقعية. خاصة ونحن في مجتمع المؤسسات ولا يمكن أن توجد لنفسك ولخطابك قدما وصوتا إذا كنت تغردّ خارج السرب، بعيد عن المؤسسة من جمعيات ونوادي ومراكز وأحزاب.
7/ لهذا الخطاب أولويات في التنظير والتنزيل، ونعود في هذا إلى مصطلح لم يخلو منه خطاب إسلامي، وهو فقه الأولويات، أو فقه المرحلة كما يقول فهمي هويدي، أو فقه المسار وفقه محطاته. وهو الفقه الذي يعني وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الكبير ويكبر الصغير، كما يقول الشيخ القرضاوي.
وهذه الأولويات يحددها فقه بالأحكام وبالضوابط من ناحية، وفقه بالواقع من ناحية أخرى، فالحالة الفرنسية مثلا وما تمثلها اللائكية من وجود قانوني وثقافي وتاريخي متميز في البلد ولدى المواطن، تدفع إلى رؤية وأولوية لمعالجة قضية العلاقة بين الإسلام والعلمانية وحسم هذه الثنائية قبل غيرها، على عكس المجتمع البريطاني مثلا الذي تنعدم فيه هذه الثنائية أو لا تطرح فيه بمثل هذه الحدّة.(1/123)
8/ إن حسن عرض هذا الخطاب يمثل جزء من نجاحه، وهو محدد أساسي لتمكنه، فحسن عرض البضاعة جزء من تسويقها وشغف الناس بها. فالكلمة الطيبة وسعة الصدر والحوار الرصين وقبول الآخر، واللين والرفق، والمعاملة على أساس البرّ حينا والقسط أحيانا أخرى، تمثل مناهج عمل وتعامل، تقارب ولا تباعد، وتبني ولا تهدم وتضفي على تواجد الخطاب وحامليه شرعية وتقبلا وتيسيرا ينعدم في أطر أخرى ومن خلال مناهج الرفض والانعزال والعداوة."ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"[النحل 125] "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني"[يوسف 108] فلا ننسى أبدا أننا مازلنا ضيوفا على أهل الديار حتى وإن تم الاستقرار، فذهنية الضيف عند الآخر وتخوفه على ثقافته واجتماعيته، لا يزالان قائمين ويجب تفهمهما، وأن تاريخ تواجدنا لا يزال لم تجف أحرفه، ويجب التعامل معه بلطف ورفق وصبر ومجاهدة للنفس وكثيرا من الأناة.
1 | 2 | 3
[1] محمد عمارة " معالم المنهج الإسلامي" دار الشرق، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية 1991.
[2] د. يوسف القرضاوي "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة"
[3] أ.د. جمال الدين عطية "تجديد الفكر الاجتهادي" موقع "إسلام أو لاين" 25 فيفري 2003. و كتاب "تجديد الفقه الإسلامي" د. جمال الدين عطية ود. وهبة الزحيلي، حوارات لقرن جديد، دار الفكر سوريا، الطبعة الأولى 2000.
[4] د. يوسف القرضاوي "في فقه الأقليات المسلمة، حياة المسلمين وسط المجتمعات الأخرى" دار الشروق، الطبعة الأولى، سوريا 2001، ص: 40-57.
=============
مشاركة المسلمين في العمل السياسي بالغرب ليست ولاء للكفر بل هي ضرورة مجتمعية
لطفي عبداللطيف- الرياض
أكد الشيخ الفقيه عبدالله المحفوظ بن بيه ان مشاركة المسلمين الذين يعيشون في الغرب في العمل السياسي هناك سواء بالترشيح او الانتخاب لا تعني بأي حال من الاحوال ولاء للكفر, ولا خروجا عن الاسلام, بل هي مشاركة تقتضيها ظروف وجودهم في هذه البلاد, وحق من حقوق المواطنة المشروعة لهم, وهذا لا شيء فيه, وهناك احداث في السيرة النبوية تؤكد ذلك, وجائزية هذه المشاركة السياسية تنعكس حتما على مصالح المسلمين, وحتى لا يعزل المسلمون انفسهم في هذه المجتمعات, واجاز الشيخ بن بيه على المسلمين في الغرب العمل ضمن الاحزاب السياسية القائمة وفق مصالحهم, ولا يعني ان قادة هذه الاحزاب وغير المسلمين, لان اغلبية هذه المجتمعات غير مسلمة, والاقلية مسلمة, ولكن لها مصالح وقضايا. وقال الشيخ عبدالله بن بيه إن الشباب المسلم في الغرب يواجه تحديات كبيرة, وان مستقبل هذا التحدي هو الذي سيشكل مصير الاسلام والمسلمين في ديار الغرب, لان الشباب اذا خرجوا عن انتمائهم الاسلامي وتركوا الاسلام بالكلية فهذا يعني ان الاسلام لن يكون له وجود, وان المسلمين سيذوبون في المجتمع الغربي وعلى العكس من ذلك لو تمسك الشباب بالاسلام ستكون البشرى والبشارة. وقال الشيخ بن بية ان الحديث عن قضية حق الاقليات قضية زائفة والخلاف في المصطلح هو خلاف ما ينبغي ان يكون, وان فقه الاقليات ليس فقها خارجا عن الفقه الاسلامي, فهو جزء من هذا الفقه ويرتكز على الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاصول الاربعة, والتي هي اصول الشريعة, وان المسلمين في الغرب لهم مشكلاتهم واوضاعاهم المشقة وهذه المشقة تدور بين الضرورة الفقهية الشديدة وبين الحاجة, ومن ثم فلا بد من معالجة قضاياهم وفق فقه (مقاصد التيسير) وهذا لا يعني وجود فقه جديد بل يعني النظر لظروف الواقع. وقال الشيخ بن بيه: ان الواقع والأقضية التي تحدث للمسلمين في الغرب هي التي تجعلنا نتحدث عن (فقه الاقليات) والمجلس الاوروبي للافتاء هو مجلس رابطة علماء ودعاة وفقهاء ويلتزم بأصول الشرع وهو يفتي في قضايا الاقلية المسلمة في الغرب .
============
فقه الأقليات وتغير الفتوى
أجاب عليه … فضيلة الشيخ د. سعد العتيبي
التصنيف …الفهرسة/ الركن العلمي/ الفقه/مسائل متفرقة في الفقه
التاريخ … السبت 6 / شوال / 1427 هـ
رقم السؤال … 17751
السؤال
هل هناك شيء في الشرع يسمى فقه الأقليات بحيث تتغير الفتوى بالنسبة للمسلمين المقيمين في بلد الكفار؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله .. أما بعد:
فيظهر من سؤالك أن الإشكال لديك يكمن في مدى العلاقة بين تغير الأحكام وبين ما يعرف اصطلاحا - لا شرعا - بفقه الأقليات .
وهنا ينبغي أن نعلم أن مصطلح ( فقه الأقليات ) يراد به مجموع الأحكام الفقهية المتعلقة بمن يعيش من المسلمين في بلاد الكفر ويحملون جنسية تلك البلاد في الغالب ، وهم فيها قلّة بالنسبة لغيرهم ؛ لتشابه الإشكالات واتفاق الكثير من الأحكام في العلل والمؤثرات ؛ فهو جزء وفرع من فروع الفقه الإسلامي العام .(1/124)
وتخصيص مجموعة من الأحكام الفقهية بلقب معين ، إفراد وتخصيص له ، يقصد منه جمع شتات مسائله ، وحصر ما يتعلق به لمزيد من التعمق في دراسته وتيسير الوصول إلى مسائله ، وهذا الإفراد والتخصيص لنوع من المسائل ، مما درج عليه الفقهاء على مرّ العصور ؛ ومن ذلك تخصيصهم لبعض المسائل بلقب يفردها ، مثل قولهم : علم (الفرائض) جمعا لفقه المواريث ، و(الأموال) جمعا لفقه مسائل النظام المالي في الإسلام ، و(الأحكام السلطانية) ، جمعا لمسائل الولاية العظمى وما يتفرع عنها من الولايات ووظائف السياسة ونحوها .
وليس الغرض من إفراد فقه الأقليات كونها مما يتغير حكمه لتغير علته فقط ، فإن هذا الوصف ينطبق على مسائل فقهية كثيرة تقع في دار الإسلام وغيرها ، ويجمعها ما يعرف بالأحكام المعلَّلة والمقدّرة .
ولذا فإنَّ جواب سؤالك يتضح - إن شاء الله تعالى - ببيان ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أنَّ الحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغيّر متى اتفقت صور مسائل واتحد مناطها ؛ وإنَّما قد يتغير مناط الحكم تبعاً لتغير الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع ، ومن ثمَّ تتغيّر الفتاوى عند تنزيلها على المسائل والوقائع ، تبعاً لذلك .
الأمر الثاني : أنَّ الأحكام الشرعية والتكاليف والمبادئ الإسلامية ، هي هي ، في أي مكان وفي أي زمان ، سواء كانت دار حرب أو دار إسلام ، فالحرام هو الحرام والحلال هو الحلال ، فالكذب والغش والخيانة والربا وغيرها محرمات ، لا يختلف حكمها من بلد إلى بلد ، وهكذا القيام بالعبادات والالتزامات ، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة والصدق والمعاملة المشروعة ، كلها تكاليف شرعية لا يختلف حكمها ، لاختلاف مكان أو زمان .
وأما ما جاء في بعض المذاهب الفقهية من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب مع الحربيين ، فقول ضعيف مردود بنصوص الكتاب والسنة ؛ وإذا لم نجد في الشرع دليلا على الفرق بين الحكم الشرعي في بلد الإسلام وغيره ، فمن أين لنا التفريق بينهما !
نعم قد يختلف حكم مسألة في بلد عن حكمها في بلد آخر ، ولكن سبب ذلك لا يعود لكونها دار كفر أو دار إسلام فقط ، وإنما يختلف - كما سبق - باختلاف المناط ( علة الحكم التي يدور الحكم معها وجودا وعدما ) ، وهذا المناط ربما يختلف في بلاد الإسلام نفسها فنجد الحكم الشرعي المبني على العرف مثلا ، يختلف الحكم في تطبيقه بين بلدين من بلاد الإسلام ، ومنه بعض ما ورد عن الشافعي _رحمه الله_ من اختلاف آرائه الفقهية بين العراق ومصر .
وإذا أردتَ تقريبا للمسألة ، فيمكنك استذكار حكم الصلاة ، وعددها، فصلاة الفريضة واجبة في الحضر والسفر ، وفي بلد الإسلام وغيره . ولكن العدد يختلف في بعض الصلوات في حال السفر ، سواء كان ذلك داخل دار الإسلام أو خارجها ، فعندما يقصر مسافر من الجالية الإسلام في بلد كفر بسبب سفره بين مدينتين في تلك البلاد ، فإن هذا لا يعني أن السبب هو كونه في بلد الكفر ، وإنما علة القصر كونه مسافرا ، سواء كان ذلك في بلد الكفر أو غيره ، فهو كما لو سافر بين مكة والمدينة مثلا .
ولكن قد توجد بعض العلل التي تؤثِّر في أحكام بعض المسائل في بلد الكفر أكثر من تأثيرها في غيره لمزيد تكررها فيه ، أو توجد فيه فقط مما يقتضي إعمال قواعد شرعية من مثل قاعدة إزالة الضرر والاضطرار ، أو قاعدة المشقة تجلب التيسير ، والعادة محكّمة ، ونحو ذلك وفق ضوابطها الشرعية ، وحينئذ فإنَّ الحكم الشرعي للمسألة واحد ، لكن سببه وجد في ذلك المكان بوصفه نازلة لم تصل بعد إلى دار الإسلام ، ولو فرضنا أن السبب ذاته وجد - كما هو - في دار الإسلام فإن ذات الحكم حينئذ لن يتغير عنه هناك .
الأمر الثالث : مما ينبغي العناية به والتنبّه له في هذا الشأن ، وجود أكثر من خمسين مليون مسلم يحملون جنسيات بلاد ليست إسلامية ، بل هي في المصطلح الفقهي المتفق عليه بين فقائنا - رحمهم الله - ( دار كفر ) ويعيشون فيها ولادة أو انتقالا إليها من بلاد المسلمين تحت مسمى الهجرة الدارج . ومثل هذا الواقع هو في حد ذاته نازلة تتطلب مراعاة النظر فيها عند تنزيل الأحكام على الوقائع ، من جهة تحقيق المناط علة ومقصدا . ومن هنا جمع بعض الفقهاء جملة من خصائص فقه الجاليات ، التفاتاً إلى هذا المعنى ، وهو أمر مقبول ما لم يكن فيه تجاوز للأمرين السابقين ، والله تعالى أعلم .
ومن هنا نجد الفقهاء الحاذقين لا يفتون من يعيشون في تلك الديار أو يريدون العيش فيها عيشا دائما ، بأحكامٍ عامة ، بل يستفصلون من السائل ويطلبون منه إيضاح بعض الأمور ، فمن يسألهم عن حكم التجنس بجنسية بلد كفر فإنهم لا يفتونه بالجواز أو عدمه مباشرة ، ولكنهم يسألونه عن جوانب مهمة مؤثِّرة في الحكم ، فإذا تبين لهم حاله ، أفتوه بما ينطبق عليها من الأحكام الفقهية من وجهة نظرهم الشرعية .(1/125)
وخلاصة القول أن الحكم الشرعي ثابت متى اتحدت صورة المسألة وعلة الحكم ، سواء كان ذلك في دار إسلام أو دار كفر ، ومتغير عند تغير المناط سواء كان ذلك في دار إسلام أو دار كفر ، بمعنى أنّ المسألة محلّ التطبيق يختلف حكمها باختلاف مناط الحكم فيها لا لكون المخاطب بها أقلية مسلمة تعيش في ظل دولة كفر ، أو أكثرية مسلمة تعيش في ظل دولة إسلام .
وثمة تفصيلات أخرى تتعلق بوجود أحكام نظر فيها إلى مؤثِّرات في الحكم ، من مثل النهي الوارد في منع قطع السارق في الغزو ، دفعا لما قد يترتب على ذلك من مفاسد .
والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله .
=============
أسئلة و أجوبة في فقه الأقليات المسلمة
فقه الأقليات المسلمة
الشيخ فيصل مولوي
اسم الضيف
قاضٍ شرعي وأمين عام الجماعة الإسلامية - لبنان
الوظيفة
فتاوى الأقليات المسلمة
موضوع الحوار
2001/2/16 الجمعة
…
اليوم والتاريخ
مكة من... 18:30...إلى... 21:00
غرينتش من... 15:30...إلى...18:00
…
الوقت
منتصر -
…
الاسم
…
الوظيفة
أنا طالب أدرس في مرحلة الدراسات العليا، وأستخدم كثيرا الإنترنت للحصول على المقالات من الدوريات الأجنبية، ولكن نظرا لأن الاشتراك في قواعد البيانات هذه يعد مرتفع الثمن جدا أقوم أنا ومجموعة من الزملاء بالاشتراك باسم واحد منا حتى تعم الفائدة علينا جميعا، ولعدم قدرة أي منا على أن يشترك منفردا. ولكن هذا الأمر فيه مخالفة لما تشترطه قواعد البيانات هذه من عدم إتاحة استخدام القاعدة إلا للمشترك فقط، فهل في هذا مخالفة شرعية؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
إن القول بأن قواعد البيانات تشترط عدم إتاحة استخدام القاعدة إلا للمشترك فقط، إن هذا القول بحاجة إلى توضيح؛ لأن المشترك قد يكون شخصاً طبيعياً كسامي وزيد، وقد يكون شخصاً اعتبارياً كمؤسسة أو جمعية. ولا يمكن لقواعد البيانات أن تمنع اشتراك الأشخاص الاعتباريين، وإذا كانت الجمعية مثلاً مشتركة فإن من حق أي عضو من أعضاء الجمعية وفق نظامها أن يحصل على المعلومات اللازمة له ضمن اشتراك جمعيته، وإذا اتفق عدد من الأشخاص الطبيعيين على اشتراك واحد فجميعهم يعتبر مشتركاً ويحق له الاطلاع على البيانات المطلوبة. وإذا ثبت أن الشركة تشترط في بيان معلوماتها أن المشترك لا يكون إلا شخصاً واحداً فهي بهذا تتعسّف في استعمال حقها فضلاً عن أنها لا تستطيع عملياً تنفيذ هذا الشرط. وماذا تفعل لو أن المشترك الواحد حصل على المعلومات التي يحتاج إليها ثم صوّرها ووزّعها على من يشاء؟ وما هو الفرق بين هذه الحالة وبين أن يكون معه عدد من الأشخاص يشاركونه في الاشتراك الواحد ويكون بإمكانهم أن يدخلوا مباشرة إلى الإنترنت ليأخذوا المعلومات التي يريدونها؟
إن الأصل الشرعي الذي يحكم هذه المسألة أن المشترك يتملّك المعلومات التي يحصل عليها بموجب الاشتراك، وأن حق تملكه هذا يجعله حراً في التصرف بهذه المعلومات باعتبارها أصبحت ملكاً له، ولذلك فإني لا أجد حرجاً من الناحية الشرعية في أن يشترك عدة أشخاص في اشتراك واحد. أما إذا كانت القوانين تمنع ذلك فليس أمام المشترك إلا أن يخالف هذه القوانين، وتكون مخالفته للقانون لا للشرع أو أن يلتزم بها فيكون ملتزماً بالقانون والشرع معاً.
…
الإجابة
ناهد - الأردن
…
الاسم
…
الوظيفة
أنا أعمل في إحدى شركات الإنترنت، وعلمت بعد فترة من عملي أن صاحب الشركة يقوم بمراقبة أجهزة الموظفين لضمان عدم استخدامهم هذه الأجهزة لغير أغراض الشركة مثل المراسلات الشخصية، أو الحوارات، أو غيرها، بل حتى في معرفة عدد الساعات التي يمكثها كل موظف أمام جهازه. فهل يمثل هذا نوعا من التجسس حتى لو كان في صالح العمل؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس هذا الأمر من قبيل التجسس المنهي عنه شرعاً؛ لأن صاحب العمل هنا لا يتجسس على الإنسان في بيته أو في مكان خاص له، وإنما يطلع على ما يقوم به أثناء عمله، وهو يدفع له أجرا مقابل هذا العمل؛ فمن حقه في أي وقت أن يطلع على ما يقوم به الموظف أثناء دوام عمله.
…
الإجابة
ام تقوى - الأردن
…
الاسم
…
الوظيفة
ما حكم هجرة المسلم إلى البلاد الأوروبية للعمل والاستقرار فيها؟ وما هو ضابط الضرورة والحاجة لارتكاب المحرم في البلاد الكافرة؟ وما هو حكم التأمين التجاري في البلاد الغربية؟ وهل هناك فرق بين الأقليات والجاليات في الأحكام الفقهية؟ وفقكم الله تعالى وجزاكم عنا خير الجزاء.
…
السؤال
الهجرة إلى البلاد غير الإسلامية للعمل أو للاستقرار مباحة من حيث الحكم الأصلي. لكن هذه الإباحة قد تتحول إلى كراهة أو تحريم فيما لو ترتّب على هذا الانتقال الوقوع في محظورات شرعية، وقد تتحول إلى استحباب أو وجوب فيما لو ترتب عليها إقامة واجبات شرعية، وهذا الأمر يختلف باختلاف الشخص ووضعه في بلده، وما إذا كان مضطراً للخروج، كما يختلف باختلاف البلد الذي يهاجر إليه، وما إذا كانت فيه تجمعات إسلامية يستطيع من خلالها أن يحافظ على شخصيته الإسلامية وعلى تربية أولاده، وبالتالي فلا يمكن إعطاء فتوى عامة في هذا الموضوع.(1/126)
أما ارتكاب المحرم سواء في البلاد غير الإسلامية أو في البلاد الإسلامية فهو لا يجوز إلا في حالة الضرورة، والضرورة لا تتوفر إلا إذا كان المسلم معرضاً للهلاك أو للعنت الشديد. إلا أن كثيرا من الفقهاء جعلوا الحاجة كالضرورة وأطلقوا قاعدة شرعية معروفة (أن الحاجة تنزّل منزلة الضرورة) وأرى أن إنزال الحاجة منزلة الضرورة في البلاد غير الإسلامية يمكن أن يكون مقبولاً بلا إشكال وأن التشدد في الوقوف عند الضرورات فقط لإباحة المحرمات إذا كان مقبولاً في بلادنا الإسلامية فهو غير مقبول في البلاد غير الإسلامية التي يفترض فيها أن تأخذ بالتيسير في الأحكام حتى تتيح للمسلم البقاء ملتزماً بأحكامه الشرعية.
الأصل في التأمين التجاري أنه حرام كما اتفق على ذلك أكثر العلماء المعاصرين، ومن المعروف أن أكثر البلاد غير الإسلامية توجد فيها شركات تأمين تعاونية أو تبادلية وهذه لا حرج فيها من الناحية الشرعية، فإذا وجد المسلم في البلد الذي يقيم فيه شركة تأمين تعاونية فلا يجوز له أن يشترك في شركة تأمين تجارية. أما إذا لم يجد ذلك فيكون اشتراكه مع شركة التأمين التجارية من قبيل الضرورة إذا كان مجبراً على التأمين أو من قبيل الحاجة إذا لم يكن مجبراً وكانت له حاجة إلى التأمين. وفي هذه الحالة يجب عليه أن يكتفي بالحد الأدنى من التأمين الذي يغطي حاجته أو يكون مجبراً عليه.
ولا أجد أي فارق بين الأقليات أو الجاليات في الأحكام الفقهية خاصة وأن اسم الأقليات يطلق من الناحية الواقعية على الجاليات والعكس بالعكس. فالمسلمون مثلاً في فرنسا هم أقلية وهم في نفس الوقت جالية فأكثرهم كانت له جنسية أخرى وحصل على الجنسية الفرنسية بسبب الإقامة، وهم يعتقدون عقيدة مخالفة لعقيدة الشعب الفرنسي فهم كالجالية الأجنبية وهم أيضاً أقلية. إلا أن هذا الأمر لا يعني الموافقة على اعتبار المسلمين في البلاد غير الإسلامية وكأنهم جاليات أجنبية. فهم مواطنون يحق لهم أن يستفيدوا من كلّ حقوق المواطنة، كما يتحملون واجباتها مع المحافظة على حرياتهم الشخصية فيما يعتقدون.
…
الإجابة
نوره - الكويت
…
الاسم
مدرسه
…
الوظيفة
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤالي هو1- ما حكم تجارة العملة أو البورصة؟
2-ما معنى عقوبة التعزيز؟
جزاكم الله خيرا
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
تجارة العملة مباحة عندما تكون بين نوعين من النقد، كما لو كانت بين الدولار الأمريكي والفرنك الفرنسي، أو بين الجنيه الإسترليني والريال السعودي أو بين الدينار الكويتي والليرة اللبنانية، ففي مثل هذه الحالات تسمى تجارة العملة صرفاً، والصرف جائز عند جميع الفقهاء؛ نظراً للحاجة إليه في التعامل بين الناس. أما لو كانت العملة نقداً واحداً فلا تجوز التجارة فيها؛ إذ لا يمكن إعطاء كمية من المارك الألماني مقابل كمية من المارك الألماني إلا أن تكون مثلها تماماً، ولا تجوز الزيادة فيها فهي عند ذلك تعتبر من الربا الحرام، ولا يجوز في هذه الحالة إلا القرض وهو إعطاء مبلغ من المال على أن يستعاد بمثله دون زيادة ولا نقصان بعد مدة من الزمن.
أما البورصة فلها أحكام شرعية كثيرة مختلفة من الصعب تلخيصها في هذا الجواب، وهي على كل حال تهم القليل من المسلمين الذين يتعاطون شراء الأسهم عن طريق البورصة. ولا بد أن يرجع كل منهم إلى أحد الكتب الشرعية المعاصرة التي تتناول هذا الموضوع كما أن هناك فتوى مفصلة صادرة عن مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي يمكن الرجوع إليها في هذا الموضوع.
أما التعزير فهو العقوبة التي تتناول كل أنواع الجرائم باستثناء الحدود السبعة التي ورد النص عليها في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك جرائم أخرى كثيرة غير جرائم الحدود، وقد تركت الشريعة تحديد العقوبة المناسبة لها للقاضي الذي ينظر فيها أو لقوانين تفصيلية تصدر عن السلطة التشريعية في أية دولة إسلامية.
…
الإجابة
xxx - هولندا
…
الاسم
…
الوظيفة
أنا شاب مسلم وفي المنطقة التي نقيم فيها تزوجت فتاة ووثقت العقد أمام إحدى محاكم الدولة فما حكم زواجنا؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم(1/127)
إذا لم يكن بينك وبين هذه الفتاة التي تزوجتها سبب من أسباب تحريم الزواج كأن تكون أختاً لك في الرضاعة أو من القريبات المحرم عليك زواجهن أو ليست مسلمة ولا كتابية. إذا لم يوجد سبب من أسباب التحريم فالزواج صحيح ولا يضرّ توثيقه أمام الدولة التي تعيش فيها، وإن كان الأفضل لك أن توثقه لدى دولة إسلامية إذا كان هذا الأمر ممكناً، كما لو كنت أنت أو زوجتك من جنسية دولة إسلامية. ذلك أن توثيق الزواج أمام سلطات دولة غير إسلامية يجعله خاضعا لقانون هذه الدولة سواء بالنسبة للعلاقات الزوجية ولاحتمال الطلاق، وما ينشأ عن ذلك من خلاف حول رعاية الأبناء فضلاً عن الإرث في حال وفاة أحد الزوجين، فإن كل هذه المسائل التي تسمى مفاعيل الزواج تكون خاضعة للقانون الذي تمّ وقوع الزواج في ظله. وبما أن المسلم يجب عليه أن يحرص على تطبيق الأحكام الشرعية ما أمكنه ذلك؛ فيجب عليه إجراء عقد زواجه أمام سلطة أية دولة إسلامية تطبق هذه الأحكام. وإذا كان هذا الأمر متعذراً كأن تكون جنسية الزوجين تابعة لدولة غير إسلامية فلا بأس في هذه الحالة أن يعقدا زواجهما أمام سلطات هذه الدولة.
…
الإجابة
محمد - ألمانيا
…
الاسم
…
الوظيفة
سمعنا أن الخمر والخنزير ليسا بمحرمين على أهل الكتاب فهل يجوز لي كمسلم بيعهما؟
…
السؤال
الخمر والخنزير محرمان بالنسبة إلينا كمسلمين، أما غير المسلم فيمكنه أن يشرب الخمر أو يأكل لحم الخنزير، ولا يجوز لنا أن نتعرض له في ذلك. إلا أن قيامنا كمسلمين ببيع الخمر أو الخنزير إليهم لا يجوز لنا في ديننا؛لأن الله عز وجل الذي حرّم علينا شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير، وحرّم علينا أيضاً بيعه وشراءه وكل أنواع التعامل فيه. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمرة عشرة أشخاص وهم: بائعها وشاريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه إلى آخره.. أي أنه لعن كل من يساعد على شرب الخمر، ومثل ذلك أكل لحم الخنزير، ومثل ذلك كل أنواع المحرمات الأخرى، فلا يجوز التعامل معها ولا المعاونة عليها.
…
الإجابة
أواب -
…
الاسم
طالب
…
الوظيفة
شيخنا الفاضل
صدر لكم كتاب حول مشروعية السلام على أهل الكتاب ومدى أهميته في الانفتاح على غير المسلمين، فهل السلام على اليهود (وهم أهل كتاب) ينطبق عليهم الأمر نفسه رغم كل ما بيننا وبينهم من عداء؟
سؤال آخر: هل يجوز أن أتخذ كتابيًّا صديقاً حميماً لي؟
…
السؤال
في كتابي (السلام على أهل الكتاب) رجحت أن الابتداء بالسلام هو الأصل، ولكني ذكرت أيضاً أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام كان نتيجة لوجود حالة حرب بينهم وبين المسلمين، أو كان نتيجة لأنهم يستغلون بدء المسلمين بالسلام فيردون عليهم بعبارات سيئة أو يبدءونهم بمثل هذه العبارات كأن يقولوا: (السام عليكم) بدل السلام أو يقولوا: (وعليكم السام) بدل وعليكم السلام. والسام هو الموت. فكان المسلم إذا بدأ اليهودي بالسلام يرد عليه بالدعاء عليه بالموت، ولذلك نُهي المسلم أن يبدأ بالسلام، وأُمر إذا بدأه اليهودي بذلك أن يقول له: (وعليكم) لأنه قد يكون قال (السام عليكم) بدل السلام عليكم. وبناء على ذلك فإن حالة الحرب الموجودة بيننا وبين اليهود في فلسطين المحتلة تمنع من إلقاء السلام عليهم. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ليلة الخروج إلى بني قريظة: (إنا غادون غداً إلى بني قريظة فلا تبدءوهم بالسلام).
أما اتخاذ الكتابيين أصدقاء بمعنى التعامل معهم بصدق وإخلاص وبمكارم الأخلاق فهو أمر جائز، لكن الصداقة الحميمة تعني مودة كبيرة، والأصل أن مثل هذه المودة لا تكون إلا لمسلم، وقد يكون بينك وبين صديقك الكتابي مودة جزئية وليست مودة شاملة أو حميمة كما لو كنت تحب فيه بعض الصفات الطيبة كالصدق والوفاء بالعهود وما إلى ذلك، فإن مثل هذا يؤدي إلى نوع من المودة لا حرج فيه ولكنها ليست مودة كاملة.
…
الإجابة
ttt -
…
الاسم
…
الوظيفة
هل المسلمون ملزمون بتطبيق القوانين في الغرب والتي تخالف الإسلام؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
يجب أولاً تصحيح السؤال، هل يجوز للمسلمين في بلاد الغرب تطبيق القوانين التي تخالف الإسلام؟ لأنهم لا يمكن أن يكونوا ملزمين بذلك، وهم أصلاً ملزمون شرعا بتطبيق القوانين الشرعية، لكن وجودهم في بلاد الغرب وخضوعهم لقوانين تلك البلاد هل يبيح لهم مخالفة الأحكام الشرعية؟
هناك نوعان من القوانين الوضعية:(1/128)
النوع الأول هو القوانين الشخصية التي يمكن للإنسان أن يفعلها أو لا يفعلها، فمثل هذه القوانين لا يجوز للمسلم أن يلتزم بما يخالف الأحكام الشرعية على الإطلاق كشرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو الوقوع في الزنا أو أكل الربا، فهذه مسائل ولو سمحت بها القوانين الغربية لا يجوز للمسلم أن يقع فيها بحال. أما القوانين المتعلقة بالمعاملات بين المسلم وسائر الناس أو القوانين المتعلقة بتنظيم العلاقة بين الشعب والحكام أو غير ذلك من القوانين التي تنظم حياة المجتمع فالمسلم مضطر للالتزام بها فيما إذا عرّض نفسه لها، فلو أراد مثلا أن يبيع لا بد له أن يخضع لقانون البيع، ولو أراد أن يستأجر لا بد له أن يخضع لقانون الإيجار، ولو أراد أن ينشئ شركة أو مؤسسة اقتصادية فلا بد له أن يخضع للقانون الذي يحكم هذه الأعمال. ولا يمكن هنا إعطاء فتوى عامة؛ إذ قد تكون هذه القوانين مخالفة بشكل مطلق للأحكام الشرعية، وقد تكون مخالفة عند مذهب وجائزة عند مذهب آخر، وقد تكون من الأمور المسكوت عنها، فالأصل أن يحاول المسلم الالتزام بالأحكام الشرعية ما أمكنه ذلك، وأن لا يعرّض نفسه للوقوع تحت حكم القوانين الغربية في المسائل التي تخالف أحكامنا الشرعية القطعية عند المذاهب جميعاً. أما حين يكون القانون الغربي يخالف مذهباً ويوافق مذهباً آخر فلا حرج على المسلم أن يطبقه.
المحرر:
في إطار متابعة فقه الأقليات المسلمة يمكن للسادة القراء الولوج إلى المواقع التالية:
http://64.29.210.216/Arabic/contemporary/politic/2001/article1.shtml
http://64.29.210.216/Arabic/contemporary/politic/2000/article6.shtml
…
الإجابة
ashraf - روسيا
…
الاسم
student
…
الوظيفة
ma hokm alzawaj be kasd altalaq tafadiyan le haram?
…
السؤال
الزواج بنية الطلاق لا يجوز. لكنه إذا حصل يكون الزواج صحيحا ونية الطلاق باطلة، ويجب الرجوع عنها، كما أنني لا أجد أي مبرر لنية الطلاق طالما أن المسلم يمكنه أن يطلق عند حصول أي سبب سواء كان ناوياً ذلك من قبل أو لم يكن ناويًا. فإذا تزوج المسلم في روسيا امرأة روسية حتى لا يقع في الحرام فما هي حاجته إلى نية الطلاق؟ إنه لو أنهى دراسته ورغب أن يعود إلى بلده وكانت زوجته منسجمة معه فيمكنه أن لا ينفذ نية الطلاق، وأن يعيدها معه إلى بلده ولا حرج في ذلك. كما أنه لو تزوجها بنية الطلاق بعد سنة أو عندما ينهي دراسته، ثم تبيّن له بعد أيام أنه لا يستطيع الحياة معها لأسباب معينة فإنه يمكنه أن يطلقها، ولو لم تمض المدة التي كان ينوي الطلاق عندها. فما هي إذًا فائدة نية الطلاق إذا كان بإمكانه أن يطلق قبل انقضاء المدة التي في نيته، وبإمكانه أن يبطل هذه النية، وأن يبقي الحياة الزوجية إلى الوفاة؟
إنني لا أجد أي فائدة أو حاجة أو ضرورة لنية الطلاق عند الزواج، ولذلك فإني أنصح كل مسلم يقدم على الزواج في بلاد الغرب أن يلتزم بالحكم الشرعي، وأن لا يعقد النية على الطلاق أصلا طالما أن بإمكانه أن يطلق إذا وجد أي سبب يدعو إلى ذلك وفي أي وقت من الأوقات.
…
الإجابة
nasr - أمريكا
…
الاسم
…
الوظيفة
هل يمكن اعتبار الغرب دار كفر؟ وماذا يقصد بدار الكفر؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
دار الكفر هي كل بلد يسكنها شعب غير مسلم، وتحكمها قوانين غير إسلامية، وبناء على ذلك فإن كل البلاد غير الإسلامية تعتبر بلادا كافرة، لكن ذلك لا يعني أنها دار حرب، ويخطئ كثير من المسلمين عندما يظنون أن دار الكفر هي دار حرب بشكل مطلق، فقد يكون بين هذه الدار وبين المسلمين عهود؛ فتكون دار عهد كما نصّ على ذلك الفقهاء. وفي هذه الأيام فإن العهود تجمع دولنا الإسلامية مع جميع دول العالم، وبالتالي تكون هذه الدول دار عهد، وليست دار حرب، وهي بطبيعة الحال دار كفر؛ لأن شعبها لا يؤمن بالإسلام ولا يخضع لأحكامه، ولا نستثني من ذلك إلا دولة العدو الصهيوني لوجود حالة الحرب بيننا وبينها، وهي حرب مستمرة طالما أن الاحتلال اليهودي لأرض فلسطين قائم. أما الدول الأخرى التي قد تقع بينها وبين المسلمين حروب فهي تنتهي عادة في وقت محدد كما كانت الحرب بين المسلمين البوسنويين والصرب أو بين كوسوفو والصرب أو بين الشيشان وروسيا، فهذه تعتبر دار حرب أثناء قيام الحرب، فإذا انتهت الحرب باتفاقات أصبحت دار عهد.
…
الإجابة
hssan - فرنسا
…
الاسم
…
الوظيفة
هل يجوز للمسلم أن يتزوج مسلمة جديدة الإسلام ولكن أهلها على ملتهم وذلك بدون ولايتهم عليها؛ لأنهم يرفضون الزواج من المسلم بمعنى: هل لا بد من اشتراط الولاية؟
…
السؤال
إن المسلمة الجديدة الإسلام تنقطع الولاية بينها وبين أهلها غير المسلمين بمجرد إسلامها، فهي تملك أن تزوج نفسها من أي مسلم أو يزوجها القاضي المسلم أو أي مسؤول عن المسلمين في منطقتها. وزواج المسلم بها صحيح؛ لأن اشتراط موافقة أهل الفتاة على الزواج محصور فيما إذا كان أهلها مسلمين.(1/129)
وإذا كان أهل الزوجة يرفضون الزواج من مسلم فإن القوانين الوضعية في كل بلاد الغرب لا تعطيهم هذا الحق، وبالتالي فإن زواج المسلم منها يعتبر صحيحاً من الناحية الشرعية، ويُعتبر أيضاً متوافقاً مع القوانين الغربية.
…
الإجابة
om salim -
…
الاسم
…
الوظيفة
هل يجوز أن يتبرع المسلم بالمال لجهة خيرية غير إسلامية؟ وهل يجوز أن يتبرع للحملات الانتخابية الرئاسية كما هو الحال في أمريكا مثلا؟
…
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
نعم يجوز للمسلم أن يتبرع لجهة غير إسلامية، وقد صحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب غير المسلمين وقبل هباتهم. وأكثر المذاهب ترى ذلك. أما عن جواز التبرع للحملات الانتخابية أي للمرشحين غير المسلمين أو للأحزاب غير الإسلامية فذلك موقوف على مدى الفائدة التي ينتظر المسلمون تحقيقها من هؤلاء المرشحين، أو مدى الضرر الذي يمكن أن يتفادوه من نجاح هؤلاء المرشحين. ففي هذه الحالة يجوز التبرع الذي يساهم في إنجاح هؤلاء طالما أن نجاحهم يحقق مصلحة للمسلمين أو يدفع ضرراً عنهم. وبالنسبة لأمريكا فإن الموضوع لا يتوقف على تحقيق مصالح المسلمين في أمريكا ورفع الضرر عنهم فقط، وإنما يمتد ليشمل مصالح المسلمين في العالم ورفع الضرر عنهم، باعتبار أن الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية له أثر مباشر على أوضاع المسلمين في كل مكان؛ ولذلك لم يستغرب أحد دعم المسلمين في أمريكا لترشيح الرئيس بوش ضد آل جور باعتبار الموقف المنحاز الذي اتخذه آل جور ضد مصالح المسلمين في فلسطين خاصة، وباعتبار الوعود التي أعطاها بوش للمسلمين في أمريكا، مما أثبت للعالم قدرة المسلمين في أمريكا على المشاركة في اختيار رئيس البلاد. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الدعم من المسلمين لبوش يمكن أن يكون دعماً مالياً أيضاً طالما أن القصد من ذلك هو اختيار الرئيس الأقل ضرراً بالنسبة للمسلمين.
============
الأقليات المسلمة بين فقه الضرورة وواقع المعاناة
ذياب عبدالكريم
الحلقة الأولى
لم يكن مصطلح الأقلية معروفاً في الماضي ولكنه نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن 15 الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعني مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وتذكر الإحصاءات العالمية لا سيما الأمم المتحدة أن تعداد الأقليات المسلمة في العالم تبلغ نحوا من 500 مليون مسلم ويشكلون بذلك أكثر من ثلث عدد المسلمين في العالم .
وقد بدأ هؤلاء المسلمون يواجهون واقعًا جديداً يثير أسئلة كثيرة جدًّا تتجاوز القضايا التقليدية المتعلقة بالطعام المباح، وثبوت الهلال، والزواج إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثراً ذات صلة بالهُويَّة الإسلامية، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلامية، ومستقبل الإسلام في تلك الديار البعيدة ، ومن هنا برزت الحاجة إلى النظر مجددا فيما يسمى بـ -فقه الأقليات- .
- صعوبات إحصائية
وتحول الصعوبات الفنية والسياسية دون معرفة حجم الأقليات الإسلامية بدقة، فالعديد من الدول التي توجد فيها أقليات إسلامية لا تتوافر فيها إحصاءات رسمية دقيقة عن التوزيع الديني للسكان، أو أنها تعيش في دول فقيرة لا تتوافر فيها الإمكانات المادية لمعرفة نسبة المواليد والوفيات والزواج وعدد أفراد الأقليات الدينية.. إلخ، فضلا عن أن كثيرا من الدول التي تقيم فيها الأقليات الإسلامية تفرض عليها طوقاً من السرية والكتمان خوفاً من إثارة المشكلات الطائفية والعرقية.
- في المصطلح
الأقلية -لغة- : بفتح القاف وتشديد اللام المكسورة والياء المفتوحة من القلة - بكسر القاف - .
اصطلاحاً : يطلق لفظ الأقلية على كل جماعة تعيش خارج حدود الدولة التي تنتمي إليها ، بحيث يتمتع جميع أفراد الجماعة بما يسمى اليوم بالجنسية .
وقد بدأ ظهور هذا المصطلح في القرن الحالي, حيث لم يرد له ذكر في مصادر التاريخ , أو في كتب الفقه الإسلامي نظرا لحداثته.
--الأقلية- مصطلح سياسي ، يُقصَد به في العرف الدولي مجموعة أو فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث العِرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية.
وتشمل مطالب الأقليات عادة المساواة مع الأغلبية في الحقوق المدنية والسياسية، مع الاعتراف لها بحق الاختلاف والتميز في مجال الاعتقاد والقيم.
وقد وردت تعريفات عدة لهذا المصطلح منها :(1/130)
- هي مجموعة من المسلمين تعيش تحت سلطات دولة غير ملسمة وفي وسط أغلبية غير مسلمة، أي أنها تعيش في مجتمع لا يكون فيه الإسلام الدين السائد، أو الثقافة الغالبة ، ومن ثم لا يحظى فيه الإسلام بمؤثرات إيجابية تساعد على ازدهار مثلة ومبادئه، بل على العكس قد يجد فيه من العراقيل الكثير مما قد يقعد به وبأهلة ، ولا يساعد على تحقيق هويتهم الإسلامية ، وقد يعاني المسلمون في حالات كثيرة من جهود ترمي إلى - علمنتهم - وإبعادهم عن مثلهم الدينية وإدماجهم في ثقافة المجتمع الغالبة ...
- تحديات مشتركة
تشترك الأقليات المسلمة في جوهر واحد، وهو تعرُّض العقيدة والقيم والسلوك والشخصية والنسق المعرفي الخاص بها لتحديات أو تهديدات مبعثها الإطار المحيط غير المسلم. ومن ثم فهي تواجه مشكلات في المجالات المختلفة. ولكن تختلف بالطبع من إقليم إلى آخر درجة هذه التهديدات، وتأثيراتها على الشخصية المسلمة ؛ فقد تصيبها بالضرر أو التشويه، وقد تحول بينها وبين التأصيل السليم ، أو قد تودي بها تمامًا، بحيث لا يصبح للمسلم من الإسلام إلا الاسم أو الشكل فقط، بل وربما يصل الأمر إلى فقدان هذا الحد الأدنى أيضًا.
- بؤر توتر
وبنظرة عامة على خريطة الصراعات السياسية والعسكرية في العالم، نجد أن أغلب مناطق التوتر تتركز في المناطق التي توجد فيها أقليات إسلامية كما هو الحال في جامو وكشمير، وتركستان الشرقية، والفلبين، وبورما، والبلقان.. إلخ.
ومما يزيد أوضاع الأقليات الإسلامية سوءًا انخفاض متوسط الدخل السنوي لأفرادها، وازدياد نسبة الأمية، وارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض والأوبئة، وما ينجم عن ذلك كله من ارتفاع معدلات الوفيات، ويظهر ذلك جلياً في أفريقيا، خصوصا في جمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية، ووسط الأقليات الإسلامية كبيرة العدد في الهند والفلبين على سبيل المثال.
- تهميش سياسي
وقد أدى هذا الوضع إلى معاناة هذه الأقليات مما يمكن تسميته بالتهميش السياسي الذي يظهر في قلة مشاركتهم في أنظمة الحكم والإدارة بما يتوافق مع نسبتهم العددية، وهذا بدوره أثر في مدى اهتمام حكومات الدول التي يعيشون فيها بمطالبهم وحقوقهم. وتأتي بعد ذلك مشكلة الذوبان الثقافي والهوية الإسلامية التي يشعرون بأنها تواجه تحديات كبيرة وسط المجتمعات غير الإسلامية التي يعيشون فيها.
- فقه الأقليات
ومن هنا يمكن وصف أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص، ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب .. وإنما النظر إلى قضايا الأقليات بوصفها مسائل فقهية قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
- أما المقصود بفقه الأقليات فهو فقه نوعي يُراعي ارتباط الحُكم الشرعي بظروف جماعة ما في زمان محدد وبالمكان الذي تعيش فيه، نظرا لظروفها الخاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها.. ولا شك أن للاستضعاف فقها لا بد أن يختلف عن فقه التمكين، وقد اتضحت أحكام كل من النوعين على حدة في العهدين المكي والمدني..
وبالرغم من الخصوصية في دراسة الأبعاد الشرعية للأقليات المسلمة إلا أنها لا تنفصل عن الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تكون الظروف الموضوعية التي يعايشها مسلمو الأقليات والتي تؤثر على أسس وقواعد الشخصية المسلمة .
- ويترتب على ذلك أن تختلف أولويات الدعوة الإسلامية والمحاور الفقهية في الغرب عنها في الدول الإسلامية نظرا لاختلاف المعطيات وطبيعة الحكم في تلك البلاد وعدم تمكنهم في كثير من الأحيان من إقامة شعائر الإسلام على أكمل وجه نظرا للقوانين والأعراف السائدة في تلك الدول .
- أقلية استضعاف
عندما تُذكَر كلمة أقلية فسرعان ما ينصرف الذهن إلى الأقلية العددية، أو تلك الفئة المستضعفة، أو مجموعة قد هُضم حقها لسبب أو آخر، غير أن للأقلية مفهومًا آخر يرتبط معياره بالحقوق التي يكفلها الشرع والقانون، وبمدى تطبيقها وممارسة الأفراد لها، ومن ثم فمن الممكن أن نجد الغالبية العظمى من البشر في شعب من الشعوب أو دولة من الدول تعيش محرومة من حقوقها، وهنا ينطبق عليها لفظ أقلية؛ رغم كثرتها العددية، وبهذا المفهوم يغدو كثير من المسلمين أقلية مستضعفة في بلادهم رغم كونهم كثرة عددية؛ فالمسلمون ليسوا قلة في أوربا كلها، بل إن بعضهم يشكَّل دولاً بأكملها، كألبانيا والبوسنة والهرسك وعلى الرغم من ذلك يمكن اعتبارهم أقليات.
- ضوابط منهجية
ولا بد لمن يتعرض للإفتاء في بلاد الغرب من ضوابط منهجية يجب أن يتبعها لمن يتعرض لفقه الأقليات ويفتي لهم، وكذلك لمن يطلبون الفتوى، وأهمها الصدق مع الله ، وتجنب الاضطرار الكاذب، ومراعاة القضايا التي تعم بها البلوى، واعتماد الاجتهاد الإصلاحي لا التسويغي الذي يقدم المبررات والرخص غير المعتبرة.(1/131)
ذلك أن فقه الأقليات ليس مرادفًا لفقه الترخص، وإنما هو يراعي كلاًّ من فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات وفقه الأولويات، بالإضافة إلى فقه المآلات ولا يعني بحال من الأحوال التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام، وتعارفت عليها الأمة.
- تساهل وضياع
ومن المؤسف حقا أننا قد ابتلينا -سواء في بلادنا أم في بلاد الغرب- بنوعين من العلماء والمفتين: نوع يفتي بغير علم لافتقاده الحُجَّة الشرعية، ونوع يفتي بالهوى لافتقاده الخشية القلبية ، كما شاعت لدينا فتاوى الإنترنت والتساهل في الأحكام بحجة التيسيير!
ويبقى الالتجاء إلى المجامع الفقهية المعتمدة والمشايخ المشهود لهم بالصلاح والتقوى السبيل الأمثل للبراءة من تلك الفتاوى غير المنضبطة..
- تهديدات
وإن الناظر في واقع الأقليات المسلمة في الغرب يجد أن التهديدات الداخلية التي تمثلها الآفات المستشرية في المسلمين في الغرب لا تقل ضراوة عما يتهددهم من الحكومات الغربية ، ولعل أخطر ما يحدث للمسلمين في الغرب عدم وجود مؤسسات تأهيلية للدعاة الموفَدين تبصرهم بقضايا المجتمع الذي يفدون إليه وتحدياته والواقع الذي يعيشه.
وعلى الرغم من أن المسلمين في الغرب قطعوا شوطًا في بناء المؤسسات الإسلامية والاقتصادية والدعوية إلا أنهم ما زالوا في حاجة ماسة إلى بناء الدعاة، وأن هذا يجب أن يوضع ضمن أولويات المرحلة القادمة.
- مسلمو الهند وكشمير
تبلغ نسبة المسلمين في الهند أكثر من 15% أي ما يعادل 100 مليون مسلم ، وقد وصل الإسلام إلى الهند على يد محمد بن القاسم أثناء الفتوحات المعروفة في التاريخ الإسلامي بفتوحات السند أيام عهد الدولة الأموية، وعلى مدى قرون طويلة ظل المسلمون في شبه القارة الهندية أمة واحدة، ومع نهاية الاحتلال البريطاني الذي استمر حوالي مائتي عام انقسمت الهند عام 1947م إلى دولتين هما الهند وباكستان التي كانت تضم آنذاك بنغلاديش، ونتيجة لذلك التقسيم ظهرت على مسرح الأحداث السياسية مشكلة إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، ولعل أبرز التحديات التي تواجه المسلمين هناك تجدد النزاعات الدينية بين الهندوس والمسلمين والتي كان أعنفها أحداث آسام عام 84 وهدم المسجد البابري.
- مشكلة المسلمين في إقليم جامو وكشمير:
ويعيش فيه حوالي 12 مليون نسمة، 70% منهم مسلمون والبقية سيخ وهندوس.
يعيش هذا الإقليم أجواء صراع طويل بين المسلمين وغيرهم، بدأت مرحلته الحالية منذ انقسام شبه القارة الهندية عام 1947، حيث تتقاسم السيطرة عليه كل من الهند وباكستان.
- مسلمو الصين
تعد الأقلية المسلمة في الصين ثاني أكبر أقلية إسلامية في آسيا بعد الهند، حيث تبلغ نسبتهم 11% من إجمالي سكان الصين البالغ عددهم 1,246,871,951 نسمة. وقد دخل الإسلام إلى الصين في وقت مبكر من القرن الثامن الهجري على يد التجار المسلمين من العرب والفرس، وصار المسلمون الصينيون بعد ذلك أهم عنصر في الحكم المغولي.
بدأت معاناة المسلمين الصينيين خلال سنوات حكم المنشوريين الأولى والتي امتدت من القرن السابع عشر حتى أوائل القرن العشرين، وقام المسلمون بثورات عدة أسفرت في النهاية عن تكوين دول إسلامية في بعض الولايات لفترات قصيرة، مثل تلك التي قامت في كل من هونان، كانسو، وتركستان الشرقية أكبر الأقاليم الصينية مساحة.
- مسلمو البلقان
تعد الأقليات الإسلامية الموجودة في منطقة البلقان وبالأخص في مقدونيا واليونان والجبل الأسود؛ بؤرا للتوتر الدائم في القارة الأوروبية، حيث كانت سياسة الضم القسري وتغيير الحدود في دول البلقان السبب الرئيس في نشوء تلك الأقليات التي تتركز في شماريا اليونانية، مقدونيا، الجبل الأسود. ورغم وجود هذه الأقليات في قارة متحضرة وغنية فإن أوضاعها السياسية والاقتصادية متردية
- مسلمو الفلبين
تعدّ الفلبين من أقدم الدول الآسيوية التي دخلها الإسلام على أيدي المسلمين العرب من التجار والدعاة -1310م-، وقام حكم إسلامي في العديد من الجزر الجنوبية وبخاصة جزيرة مِندناو منذ أوائل القرن الرابع عشر الميلادي وحتى القرن السادس عشر، ويشكل المسلمون فيها ما نسبته 11%من السكان بواقع 6 ملايين مسلم تقريبا.
وقد انفجر الوضع العسكري فيها بين الحكومة والمسلمين عام 1970، وتأسست بعد ذلك الجبهة الإسلامية لتحرير مورو وتواصلت هجماتها.
- مسلمو ميانمار -بورما-
لا تختلف أوضاع الأقلية المسلمة في بورما عن نظيرتها في الفلبين، وكانت البداية الأولى لنشوء مشكلتهم على يد الحكومة البورمية التي هجَّرت قرابة 200 ألف منهم من إقليم أراكان إلى دولة بنغلاديش المجاورة.
ويطلق على الأقلية المسلمة في بورما شعب الروهنجيا، وهم ينحدرون من أصول عربية، وفارسية، وملاوية، وبحسب المصادر الغربية تبلغ نسبة المسلمين الذين يتمركزون في إقليم أراكان 7% من إجمالي السكان ويبلغ عددهم 3 ملايين مسلم تقريبا.(1/132)
وقد وصل الإسلام إلى إقليم أراكان في القرن السابع الميلادي، وكوَّن شعب الروهنجيا مملكة دام حكمها 350 عاماً، ثم انفرط عقدها على أيدي الغزاة البورميين عام 1784، وبدأت معاناة الأقلية المسلمة في ميانمار منذ ذلك التاريخ.
- مسلمو أوروبا والأمريكتين
لا يوجد إحصاء رسمي يبين حجم الأقلية المسلمة في قارات أوروبا والأمريكتين، لكن بعض المصادر الإسلامية تقدر عدد مسلمي أوروبا بـ 25 مليوناً من أصل 507 ملايين هم عدد سكان القارة الأوروبية، كما تقدر عدد مسلمي الولايات المتحدة الأميركية بـ 10 ملايين، في حين يقترب الرقم غير الرسمي أيضا في كندا من المليون.
فعلى سبيل المثال يبلغ تعداد مسلمي فرنسا ستة ملايين -من أصل 59,329,691 نسمة هم تعداد السكان- منهم 4,2 ملايين من عرب شمال أفريقيا والبقية من مختلف الدول الإسلامية إلى جانب المسلمين الفرنسيين الأصليين، كما أن 2,2 مليون مسلم يحملون الجنسية الفرنسية ويعدّون قوة مؤثرة في الحياة السياسية الفرنسية.
ومن البلدان الأوروبية الأخرى ذات الكثافة الإسلامية العالية مقدونيا وكوسوفا وبلغاريا ورومانيا.
وتختلف أوضاع الأقليات الإسلامية في أوروبا من دولة إلى أخرى، حسب الوضع القانوني السائد في تلك الدولة، وتبعاً للشعور العام السائد داخل المؤسسات الحكومية الأوروبية تجاه الإسلام..
===============
وماذا عن فقه الأقليات المسلمة؟!
حضرت في هذا الأسبوع في العاصمة البريطانية لندن مؤتمر الوسطية الذي دعت إليه وزارة الأوقاف الكويتية والمركز العالمي للوسطية بالكويت، وهو مؤتمر تميز بتنوع المشاركين فيه جغرافياً وفكرياً حيث وفدوا من مختلف مناطق أوروبا الشرقية والغربية من مختلف المراكز
والجمعيات، وكان الهدف تدارس أوضاع المسلمين الثقافية على ضوء مبدأ الوسطية الذي يجب أن يحكم حياة المسلم بعيدا عن الغلو والانحلال والإفراط والتفريط.
ومن بين المحاور التي عرضت للبحث تأصيل فقه الأقليات، وهو فقه ينكره البعض ويتجاوز به البعض حدوده، فهو إذن مجال للوسطية ولهذا احتاج إلى تأصيل، فتأصيل فقه الأقليات ينقسم إلى مقاصد وقواعد.
أما المقاصد فهي:
أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.
ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.
ثالثاً: التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي، وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.
رابعاً: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.
أما القواعد فإنها لا تعني إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعني التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.
فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا: إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضررين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.
«فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد». كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين.
وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.
ثانياً: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.
ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية.
وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في أرض غير المسلمين أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي: «لا تقطع الأيدي في السفر».(1/133)
فانطلاقا من هذه الأسس ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً، وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين؛ الكتاب والسنة. واجتهاد في تحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.
أما النوع الثالث، فهو اجتهاد ترجيحي، وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات، إما لضعف المستند ـ وليس لانعدامه ـ فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.
ولهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى، وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.
من كل ذلك، تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما بل يعطى كلا منهما قدر ما يستحق من الحكم، ولذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.
وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس والتعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح والانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.
فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى المستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.
أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطال العقيدة التي نعني بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.
ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا تختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.
كما تطال ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.
كما تطال العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي. وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع، أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله ? اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم?.
كل ذلك، يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل والواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.
* عضو مجمع الفقه الإسلامي
ووزير العدل الموريتاني الأسبق
ارسل هذا المقال بالبريد الالكترونى … …اطبع هذا المقال … …علق على هذا الموضوع
التعليقات
ماجد عمرو - الخليل، «الاراضى الفلسطينية»، 01/06/2006
الضرورات تبيح المحظورات.
هاتي بياني، «المملكة العربية السعودية»، 01/06/2006
المعروف والواضح في تاريخ فقه الأقليات أنه فقه جاء لحماية المغلوب الذي فضل دفع الجزية، لبيان حقوقه العامة والخاصة. ذلك كان في مرحلة الإمبراطوريات السابقة على الدولة القومية. وقبل هذا الفقه كان قانون الشعوب في الإمبراطورية الرومانية. نحن اليوم نعيش مرحلة جديدة هي مرحلة الدولة القومية والناس فيها باختلاف أعراقهم وطوائفهم ودياناتهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. لا يعني أن المفهوم الجديد للدولة قضى على كل أشكال التمييز ضد الأقليات العرقية أو الطائفية أو الدينية، ولكن يعني أن سلامة إقليم الدولة وسيادتها تستدعي من علماء القانون الدستوري في العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص بحث طرق ومخارج قانونية عملية تحفظ للدولة سلامتها وتحفظ للمواطن توازنا معقولا ومقبولا وعمليا بين انتماءاته العرقية والدينية والطائفية والوطنية. العالم العربي بصورة خاصة يحتاج لفقه يساير ويواكب مفهوم الدولة القومية الحديثة وليس لمجرد اجترار مصطلحات كانت نتاج ظروف تاريخية سابقة وسادت في وقتها.
=============(1/134)
فقه الأقليات الإسلامية في الغرب
مقدم الحلقة:
…د. حامد الأنصاري
ضيف الحلقة:
…الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: مفكر وداعية إسلامي
تاريخ الحلقة:
…02/05/1999
- حجم الجالية الإسلامية في أوروبا وعلاقاتها بالمجتمع الغربي
- أبرز المشاكل التي تعترض الجاليات الإسلامية في الغرب
- الاستيطان في الغرب من المنظور الإسلامي
- واجبات المسلم المهاجر في بلاد الغرب
- رأي الشرع في حمل الجنسية الغربية
- كيفية الموازنة بين حقوق المواطنة الغربية والهوية الإسلامية
يوسف القرضاوي
د. حامد الأنصاري
حامد الأنصاري: بسم الله الرحمن الرحيم، أعزائي المشاهدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في لقاء جديد مع (الشريعة والحياة).
في حلقة اليوم نتناول واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل، ألا وهي قضية الجاليات الإسلامية في الغرب، حيث يمثل الوجود الإسلامي فيه ثقلاً بشرياً يُقدر بحواليِ 22 مليون مسلم في أوروبا الغربية وحدها والولايات المتحدة الأميركية.
وقد بدأت هجرة المسلمين إلى الغرب في العصر الحديث وبشكل ملحوظ بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب متعددة منها ابتغاء الرزق، وتحصيل العلم، وطلب الأمن فراراً من الاضطهاد وغيرها من الأسباب.
بيد أن هذه الهجرة قد اتسعت وتضاعفت أعدادها وتحولت من كونها هجرة عابرة إلى جالية مستقرة تبحث عن مقتضيات وجودها خاصة مع ظهور الجيل الثاني والثالث الذين حملوا الجنسيات الأوروبية والأميركية ولغاتها، فتعززت الحاجة إلى قيام المؤسسات التي تحتاج إليها الجماعات المسلمة حفاظاً على هويتها وشخصيتها دون عزلة أو انكفاء، فأنشأت،أو فأنشئت المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، والأندية للتوجيه والترفيه وعقدت المؤتمرات،وأقيمت المخيمات وألقيت الدروس والمحاضرات، وفرغ الدعاة والمعلمون إزاء هذا الوجود المتعاظم للجالية الإسلامية إضافة إلى الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين الذي نشأ في بلاد الغرب واعتناق العديد من الأوروبيين والأميركان للدين الإسلامي ،والنظر إلى العيش في الغرب على أنه بلد المواطنة، فقد برزت تحديات وإشكالات حول مرتكزات العلاقة وفقه الأقليات المسلمة في مجتمع يعيش خارج دار الإسلام.
ولإن قرر فقهاؤنا أن الفتوى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فإن أعظم مظهر لتغير المكان هو اختلاف دار الإسلام عن غيرها، فما طبيعة وجود الجاليات الإسلامية في الغرب؟ وما مدى شرعية هذا الوجود ؟ وما الحقوق والواجبات المترتبة عليه؟ وما التحديات التي تواجه هذا الوجود ؟ وما الإشكالات الفقهية الناجمة عنه ؟وكيف عالجها الفقه الإسلامي؟ هذه الأسئلة وغيرها نتناولها مع فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي على حلقتين،نتناول في الحلقة .. في حلقة الليلة طبيعة الوجود واشكالاته، ونؤجل القضايا الفقهية في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية والطعام وغيرها إلى الحلقة القادمة بإذن الله.مرحباً فضيلة الشيخ.
د. يوسف القرضاوي: مرحباً بك يا أخ حامد.
حامد الأنصاري: فضيلة الشيخ في موضوع الجاليات الإسلامية في الغرب استأذنكم في استضافة الشيخ عبد الله الجديع ( الأمين العام للمجلس الإسلامي.. المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) ليعطينا نبذة عن المسلمين في أوروبا وعن دور المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، شيخ عبد الله السلام عليكم.
عبد الله الجديع: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله.
حامد الأنصاري: الله يحييك يا شيخ.
د.يوسف القرضاوي: حياك الله يا شيخ عبد الله.
عبد الله الجديع: مرحباً شيخنا الفاضل، عساك أن تكون بخير إن شاء الله.
د. يوسف القرضاوي: بخير والحمد لله، وفقك الله.
عبد الله الجديع: بارك الله فيك.
حجم الجالية الإسلامية في أوروبا وعلاقاتها بالمجتمع الغربي
حامد الأنصاري: شيخ عبد الله ما حجم الجالية الإسلامية في أوروبا الغربية تحديداً؟
عبد الله الجديع: حجم الجالية الإسلامية في غرب أوروبا اليوم تقدر بنحو 15مليون مسلم، وهؤلاء نحن نتحدث عن الرقم الذي يعيش هنا.
حامد الأنصاري: نعم، وكم تبلغ نسبة الأجيال المولودة هناك تقريباً؟ هل لديك إحصائية في.. في هذا الأمر؟
عبد الله الجديع: يعني ليس عندي شيء اللي يمكن أقوله وأجزم به كرقم، وإنما أتخيل يعني 15مليون مسلم يعيش كعوائل، فجزماً هذه كم ستنتج من الذراري والأبناء هاهنا.
حامد الأنصاري: نعم ، طيب ما طبيعة علاقة الجاليات الإسلامية بالمجتمع الغربي، هل ترى أن الجاليات الإسلامية تندمج في المجتمع الغربي، أم أنها منعزلة نوعاً ما عن المجتمع الغربي؟(1/135)
عبد الله الجديع: أقول يجب أن لا نغفل اعتبار كون المسلمين هنا ليسوا جميعاً علي انتماء حقيقي للإسلام ، فكثيرون هم الذين غرتهم شهوات هذه المجتمعات فذابوا فيها، وانمحت بذلك حتى الهوية الإسلامية منهم، هذا صنف، الصنف الآخر هم الذين لم يزل لديهم اعتزاز بالانتساب لدينهم، لكن أغلب هؤلاء في الحقيقة يعيشون في انفصال عن مجتمع هذه البلاد ، ولذلك أسباب يعني لو نمثل بشيء منها ألخصها.. ألخص بعضها فيما يلي، الجيل الأول من هؤلاء المسلمين وهم المهاجرون لا ينفكون عن الشعور بالغربة الدائمة في انتظار العودة للوطن، فهذا لا يتصور منه العمل للبقاء هنا، سبب آخر هو الخوف من محو الهوية الإسلامية عند المسلم.
ثالثاً: وهذا يوجد عند كثيرين هو الخوف من محو انتمائه إلى البلد والبيئة التي قدم منها والعادات والأعراف التي تربى عليها، سبب آخر: الخوف من رفض المجتمع، المجتمع الأوروبي نفسه من الدخول فيه.
حامد الأنصاري: نعم هل ترى شيخ عبد الله أن الجاليات الإسلامية في الغرب لها دور في تبليغ رسالة الإسلام أو في الدعوة إلى الله؟
عبد الله الجديع: لاريب أن المسلم أينما يكون يحمل رسالة، والمسلمون ها هنا مسؤوليتهم أعظم في تبليغ هذه الرسالة وفي إيصالها للناس في هذا المجتمع، وفي الوقت الذي يبرز فيه الصراع بين الإسلام والكفر يكون العمل على ذلك جهاداً في سبيل الله عز وجل.
أبرز المشاكل التي تعترض الجاليات الإسلامية في الغرب
حامد الأنصاري: نعم شيخ، عفواً، ما أبرز المشاكل التي تعترض الجاليات الإسلامية في ..في الغرب تقريباً؟
عبد الله الجديع: المشاكل كثيرة التي تعترض المسلمين..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: باختصار لو سمحت، بإيجاز.
عبد الله الجديع[مستأنفاً]: باختصار شديد يعني المسلمون ينقصهم التواصل فيما بينهم، تواصلاً كافياً، ينقصهم المؤسسة الناضجة، مع وجود المؤسسات التي تسعى إلى أن ترقى إلى المستوى الطيب الكامل، النقص إلى الوعي الديني الكافي أيضاً، الثقافة الشرعية الإسلامية، المرجعية التي تهيئ للمسلمين الحاجة في أمورها الحياتية اليومية، الحاجة إلى البيئة النظيفة كالمدرسة التي يتربى فيها المسلم تربية حسنة، يعني الأطفال المسلمون يربون فيها تربية إسلامية طيبة،كذلك أيضاً نقص الموارد التي تساعد وتعين القائمين على مصالح المسلمين في هذه البلاد على أن يؤدوا رسالتهم، هذا..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: نعم بصفتكم، بصفتكم الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هل..هل يمكن أن تعطونا نبذة عن هذا المجلس؟ وما دوره في حل مشاكل الجاليات المسلمة في الغرب؟
عبد الله الجديع: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث مجلس فتَّي يرأسه فضيلة الشيخ شيخنا الشيخ يوسف، أنشئ ليحقق الغرض للمسلمين في أن تكون لهم مرجعية يعودون إليها في أمورهم الحياتية العامة، ويكون بمثابة الجهة الإسلامية التي تقوم يعني على رعاية الأمور المتجددة للمسلمين ها هنا في جانب الفتوى، في جانب الفصل في مسائل تحتاج إلى فصل جماعي، كذلك أيضاً لتنطق باسم المسلمين أمام المجتمع الغربي، أمام المؤسسات الرسمية ها هنا، ليكون للمسلمين ثقل يعتبر ها هنا في مثل هذه المجتمعات حيث تكون هذه الجهة يعني لها اعتبارها الذاتي يعني وتمثل بالعلماء وبأصحاب القرار في المجتمع المسلم.
حامد الأنصاري: طيب الآن الجاليات الإسلامية في الغرب متعددة المشارب والمذاهب، فهل هذا المجلس يشمل جميع هذه الاتجاهات أو أغلب هذه الاتجاهات على الأقل، أم أنه يقتصر على توجه معين، أو مذهب معين؟
عبدالله الجديع: المجلس الأوروبي للإفتاء في هذه المؤسسة أعضاء ينتمون إلى المدارس الفقهيه المختلفة، إلى المشارب والمذاهب والاتجاهات المختلفة، ويجمعهم بلا ريب جميعاً العمل لهذا الدين والعمل للإسلام،فليس هو.. فليس هو مجلساً يخص مذهباً أو جماعة أو طائفة خاصة ولذلك…
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: ولا حتى جالية من الجاليات يعني مثلاً؟ هل كل أعضاء المجلس من العرب فقط،أم هناك من الجنسيات الأخرى أو من..من العرقيات الأخرى؟
عبد الله الجديع: أعضاء المجلس فيهم العرب وفيهم غير العرب ممن يمثلون المرجعية لمجتمعاتهم الخاصة كإخواننا الهنود أو الباكستانيين أو البنجال أو غير هؤلاء، كل هؤلاء يعني في المجلس من يمثلهم ويتكلم بلسانهم، ثم أيضاً من هو في الوقت نفسه المفتي لهم والمرجعية لهم.
حامد الأنصاري: طيب شيخ عبد الله الجديع (الأمين العام للمجلس الإسلامي.. للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) شكراً جزيلاً لك.
عبد الله الجديع: جزاكم الله خير.
الاستيطان في الغرب من المنظور الإسلامي
حامد الأنصاري: فضيلة الشيخ، الاستيطان في الغرب كيف تنظرون إليه؟ هل هو ظاهرة صحية في حق الأمة أم أنه عرض مرضي، الهجرة هذه إلى الغرب؟(1/136)
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد فالإجابة عن هذا السؤال المهم والكبير ليست سهلة، يعني لايُجاب عليها بنعم أو لا، أو صحيح أو..لأنه ليست كل هجرة مقبولة أو كل هجرة مرفوضة، هناك ألوان من الهجرات لا نحبذها، مثل ما نذكره دائماً هجرة العقول الكبيرة التي تذهب إلى الغرب، ويحاول الغرب أن يصطادها ويستقطبها ويحرم بلادها منها،نزيف العقول العربية والإسلامية، عشرات الآلاف من النابهين والنابغين من أبنائنا في التخصصات التي تحتاج إليها ديارهم وأوطانهم يذهبون إلى هؤلاء.
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: إذن فهذه الظاهرة تعتبر مرضية ولاشك..
د.يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: هذه ظاهرة مرضية يعني وينبغي لأوطاننا ولأمتنا على مختلف مستوياتها ومستويات القيادات فيها،القيادة الفكرية، والقيادة السياسية أن تعمل على استرجاع هذه الطيور المهاجرة، بلادها أولى بها، وللأسف يعني فشل الكثيرون في هذا، في وقت من الأوقات حاولت بعض البلاد العربية أن تضم هؤلاء، وقالت لهم: لماذا تبقون في هذه البلاد؟ إحنا سنقيم لكم مدينة علمية، تعالوا، وقدم إليهم من العرب ومن العجم ومن الهنود ومن الماليزيين ومن الباكستانيين ومن لديهم أعداد، مجرد ما نزلوا إلى هذا البلد خذوا جوازاتهم واعتبروا أنفسهم كأنهم أسرى حرب.
حامد الأنصاري: معتقلين.
د. يوسف القرضاوي: كأنهم معتقلون، لايستطيعون أن يتحركوا إلا بإذن ضابط أو بأذن كذا، فطبعاً في أول يعني ما أتيحت لهم الفرصة خرجوا من هذا البلد وهم يقولون ما قال الشاعر قديماً
(...) مالعباد عليك مهرة
أمنت وهذا تحملين طليق
فنحن هذا النوع من الهجرة لا نحبذه، هناك هجرات نحن تحدثنا عنها حينما كنا نتحدث .
حامد الأنصاري: نعم إحنا بغير شك يعني لا نريد أن نتعرض لأنواع الهجرات بالتفصيل الآن، إنما بصفة عامة يعني خروج هؤلاء الناس من العالم العربي والإسلامي إلى الغرب هل يعني تراه ظاهرة صحية؟
د.يوسف القرضاوي: هناك خروج ضروري يعني يحتاج إليه بعض الأفراد للضرورة، لطلب الرزق حينما ضاق عيشه في بلده، وهناك الذي يذهب لطلب الأمن فراراً من الاضطهاد في.. في بلده، فهذا..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: إذن كلها ..كلها..كلها هجرات مرضية، يعني كلها كلها أمور مرضية.
د.يوسف القرضاوي [مقاطعاً]: هذه ..لا هي..دي مش مرضية، هي بالنسبة له صحية..
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: لا هي أمراض في مجتمعاتنا أدت إلى هذه الهجرات، فهي ظواهر مرضية في المجتمعات الإسلامية.
د. يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: آه طبعاً أدت إلى هذا، إنما المفروض نحن باعتبارنا مسلمين وباعتبار الإسلام رسالة عالمية ودعوة للناس جميعاً يجب أن يكون للمسلمين في الغرب وفي الشرق وفي كل بلد وجود إسلامي، كيف نستطيع أن ننشر الإسلام في العالم ونصحح مفاهيم الناس عن الإسلام؟ هناك أُناس لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، وهناك يعرفون عن الإسلام مفاهيم مغلوطة على عكس حقائق الإسلام، هناك أُناس يعيشون ويموتون ما عرفوا عن القرآن أو عن محمد، أو عن أمة الإسلام شيئاً، مَنْ المسؤول عن هذا؟ نحن المسلمين عامة والعرب خاصة، فلابد أن نعمل، يعني أن يكون من تخطيطنا أن يكون لنا وجود إسلامي في هذه البلاد لتبليغ رسالة الإسلام، لنشر الدعوة الإسلامية، لتبني الجالية الإسلامية، الجالية المهاجرة والجالية التي تنشأ من أبناء البلاد نفسها.
حامد الأنصاري: لكن من ..مَنْ يخطط؟ مَنْ الذي يخطط لهذه الأشياء؟ هل كل شخص يجتهد بنفسه ويقول: أنا أذهب أم يحتاج إلى يعني وجود إما حكومات أو مؤسسات هي التي تخطط لمثل هذه الأمور؟
د.يوسف القرضاوي [مقاطعاً]: لو كان..
حامد الأنصاري [مستأنفاً]: أم أن أي إنسان يستطيع أن يهاجر ويقول أنا أهاجر للدعوة؟
د.يوسف القرضاوي:لا، يعني لو كان هناك لنا خلافة إسلامية وقيادة مركزية للأمة الإسلامية نقول هي التي عليها أن تخطط هذا، إذا لم توجد هذه يبقى على القيادات الدعوية الإسلامية، على المؤسسات العلمية والدعوية والفكرية الإسلامية الكبيرة، كل يعني على الأزهر يعني في مصر، رابطة العالم.
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: الإسلامي.
د. يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: الإسلامي، ندوة العلماء في.. في الهند، جامعة الإمام محمد بن زهير، يعني المؤسسات الإسلامية المختلفة.
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: وزارات الأوقاف في الدول العربية والإسلامية.
د. يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: وزارات الأوقاف ومؤسسات الدعوة في البلاد الإسلامية تعمل على هذا، ما عندناش يعني جهاز مركزي، يعني بيحاول المسلمين إن يتجمعوا مثل ما تجمعوا في المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة برئاسة شيخ الأزهر، هذه المؤسسات عليها أن تعمل لوجود .. إيجاد يعني وجود إسلامي منظم بحيث يتبنى الجالية المسلمة ويوعيها ويفقهها في..في دينها، وهذا لأن الآن نحن أمام شيء حدث سواء كان يعني بتخطيطنا بغير تخطيطنا، الواقع إن الآن كما ذكرت وكما ذكر..
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: طيب هذا.. هذا يقودنا شيخ..(1/137)
د.يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: الشيخ عبد الله بن الجديع إنه فيه يعني جالية كبيرة في أوروبا وأميركا، وبعض هؤلاء من أبناء البلاد، يعني..يعني في أميركا فيه حوالي 6مليون أو ..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: 7مليون.
د.يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: 7مليون من المسلمين الأفارقة، وهُمَّ أصلاً كانوا من أهل أفريقيا وسيقوا بالطريقة المعروفة إلى هذه البلاد وبُنيت على أكتافهم وبسواعدهم الحضارة الأميركية، وبعض هؤلاء بقوا على الإسلام، بعضهم للأسف يعني عُزل عن الإسلام وأُبعد عن الإسلام وجُهّل بالإسلام، وبعضهم بقوا، هؤلاء يكونون جالية كبيرة، فالوجود الإسلامي هناك عليه إنه يحاول يُرَشِّد هؤلاء، يوعيهم بالإسلام، يفقههم في الإسلام، يجيب عن أسئلتهم، ينشىء المؤسسات التي تعمل على توعية المسلمين وعلى إبقاء الهوية الإسلامية لهؤلاء المسلمين.
حامد الأنصاري: طيب فضيلتك ركزت على قضية الهجرة للدعوة، نريد أن نعود إلى أصل الاستيطان، ما حكم الشرع في أصل الاستيطان في بلاد غير المسلمين، أو الهجرة إلى بلاد غير المسلمين،أصل..أصل الحكم هل هو ممنوع إطلاقاً، أم أنه مُباح إطلاقاً، أم أنه مُباح للضرورة فقط؟
د.يوسف القرضاوي: لا، أنا أعتقد إنه أكثر من مباح وأكثر من مستحب، أعتقد ..أعتقد إنه فرض كفاية، يعني فرض كفاية أن يكون للمسلمين وجود دعوي ..
حامد الأنصاري: لا عفواً فضيلة، إحنا لا نتكلم عن الوجود الدعوي فقط، نتكلم عن موضوع الهجرة إلى بلاد الغرب؟ يعني بأي نية قد تكون الدعوة أحد إحدى ..إحدى الأسباب
د.يوسف القرضاوي: لا إحنا أتكلمنا عن هذا لما كنا بنتكلم عن الهجرة، الهجرة الأفراد معهم.
حامد الأنصاري: لكن تتكلم بشكل الإيجاز في الموضوع.
د. يوسف القرضاوي: إنما أنا بأتكلم عندما نتحدث عن أنفسنا كأمة ذات رسالة عالمية (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) لكي نؤدي عالمية الرسالة ونحققها لابد أن يكون لنا وجود مهما كان هذا، المبشرون بالمسيحية والمنصرون ماذا يفعلون؟ يرسلون إرساليات إلى كل بلد حتى يستطيعوا مع إنه المسيحية في مصادرها ليست ديانة عالمية.
حامد الأنصاري: طيب هو هذا شيخ يعني معروف إن الهجرة بغرض الدعوة، أو وجود استيطان بعض المسلمين في الغرب بهدف الدعوة، أو وجود استيطان بعض المسلمين في الغرب بهدف الدعوة أمر واجب، إنما لأسباب الأخرى، هل يجوز لسبب آخر غير سبب الهجرة؟ يعني هل.. هل يعتبر واجب، أم أن هناك بعض الأنواع قد تكون مباحة لضرورات وتَحرُم في أحيان أخرى؟
د. يوسف القرضاوي: آه هذا ذكرناه في حلقة الهجرة، إنه الهجرة أحياناً مش تكون مباحة أحياناً تكون فريضة، إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه في بلده، فهنا جاءت الآية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) فهذه الهجرة ليست مجرد مباحة، بل هي أمر واجب على المسلم، إذا وجد أرضاً تسعه وتسع دينه ويستطيع أن يحتفظ فيها بدينه على الأقل بالشعائر وبالأشياء الأساسية يجب عليه أن يهاجر،ولكن على المسلمين الذين يهاجرون في هذه البلاد عدة واجبات، يعني ليست مجرد إن أنا أهاجر وخلاص، هناك للأسف مسلمون هاجروا في.. إلى استراليا، وهاجروا إلى الأرجنتين، وهاجروا إلى أميركا الشمالية، والجيل الأول ذهب تماماً،ذاب في المجتمع ومُحيت هويته، لأنه لم يكن عنده يعني معرفة بالإسلام أو التزام جيد بالإسلام ورايح للرزق وللعيش فقط، وبعضهم تزوج من المجتمع وعاشوا وانتهوا تماماً، هذا.. هذا لايجوز، ولذلك نحن نقول: من يذهب إلى هذه البلاد عليه واجبات، أنا يعني ذكرتها في بعض كتبي خمس واجبات، واجبة نحو نفسه، واجبة نحو أسرته وأولاده، واجبه نحو إخوانه المسلمين، واجبه نحو المجتمع الذي يعيش فيه، نحو غير المسلمين، واجبه نحو قضايا أمته الكبرى، فلابد هو عليه واجب نحو هذه، وأهم هذه الواجبات هم.. هو الواجب الأول، أن يحافظ على شخصيته الإسلامية أن تذوب في هذا المجتمع، وليس معنى هذا أيضاً إن أن تذوب يعني إنه ينغلق عن المجتمع وينعزل عنه، فهذه آفة أخرى، لا نريد للمسلم أن ينعزل وينغلق وينكفئ على ذاته ويترك المجتمع، ولا نريده أيضاً أن ينفتح انفتاحاً يُذيب شخصيته ويزيل الحواجز تماماً، لا، نحن نريد-كما قلت في بعض المحاضرات- نريد تماسكاً دون انغلاق وانفتاحاً دون ذوبان، هذا..هذه هي الوسطية التي نريدها لمن يعيش هناك.
[موجز الأخبار]
واجبات المسلم المهاجر في بلاد الغرب
حامد الأنصاري: فضيلة الشيخ كنا نتحدث عن واجبات المسلم في بلاد الغرب، وقلنا أن الواجبات خمسة، فلو تكملها لنا لو تكرمت.(1/138)
د. يوسف القرضاوي: أنا أقول هذه واجبات يعني مهمة، المسلم في الغرب عليه واجب نحو نفسه، بمعنى أن يحافظ على ذاتيته الإسلامية بالتفقه في دينه، بالالتزام الإسلام، بالذهاب إلى المسجد، بالتعاون مع إخوته المسلمين، بالرجوع إلى العلماء يستفيتهم، يعني عليه حتى يحافظ على ذاته الإسلامية.
وعليه واجب نحو أسرته، ودا طبعاً كل مسلم عليه واجب، ولكن هناك أكثر، لأنه الإنسان في داخل المجتمع المسلم لو أهمل سلطان المجتمع المسلم له تأثيره، إنما هنا لو أهمل أولاده، وأهمل أسرته ضاعوا تماماً، ولذلك أنا قلت إلى الإخوة من.. من قديم: إذا لم تستطيعوا أن تحافظوا على أبنائكم وبناتكم وذراريكم في هذا المجتمع فابدأوا رحلة العودة من الغرب، لأنه لا معنى إنك تجمع الدنيا وتضيع الدين، تجمع الأموال وتضيع الأولاد، فهذا واجب ثاني.
والواجب الثالث: واجب المسلم نحو إخوانه في هذا المجتمع، المسلمين باعتبارهم أقلية في هذه المجتمعات يجب أن يتلاحموا وأن يضع كل منهم يده في يد أخيه، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" فلا يجوز أن يتفرقوا شيعاً وأحزاباً وأن يكيد بعضهم لبعض، للأسف هذا لو جاز في .. وهو غير جائز لا يمكن إلا..في حالة الأقلية لابد من التلاحم والاندماج والامتزاج.
الأمر الآخر: واجبهم نحو المجتمع الذي يعيشون فيه، هم أصحاب دعوة، كل مسلم داعية لدينه، يعني ليس هذا فقط بالنسبة للعلماء والمشايخ، بعض الناس يقول إن الدعوة الإسلامية، لأ كل مسلم يجب إن يدعو، الشيخ يدعو بإلقاء خطبة أو محاضرة أو تأليف كتاب، ولكن المسلم يدعو بالقدوة الحسنة، بالكلمة الطيبة، بالصحبة الصالحة، لازم عليه واجب للدعوة، وبعدين واجبه نحو قضايا الأمة الكبرى، قضية فلسطين، قضية كوسوفا، قضية البوسنة والهرسك، لا يعني كما نجد اليهود في أنحاء العالم كلهم يتبنون قضية إسرائيل، فعلى كل مسلم أينما كان أن يتبنى قضية أمته الإسلامية.
رأي الشرع في حمل الجنسية الغربية
حامد الأنصاري: هناك ازدواجية يعاني منها المسلم الذي يعيش في الغرب، وبالذات الذين حصلوا على جنسيات تلك البلاد، وهي قضية التوفيق بين الولاء والبراء لله ورسوله والمؤمنين، وبين الالتزام بقوانين الدول الغربية التي فيها أشياء تعارض الشريعة الإسلامية، فهل يمكن التوفيق بينها..بين هذين الأمرين؟ وإذا ما تعارضت القوانين الغربية مع الشريعة.. مع.. مع الشريعة الإسلامية هو مطالب
بالالتزام بها بحكم العيش هناك وبحكم حمله لهذه الجنسية.
د. يوسف القرضاوي: هو يعني في بعض الأوقات كان حمل الجنسية الأوروبية ونحوها هذه يعتبر جريمة ويعتبر خيانة لله ولرسوله وللدين وللوطن وللأمة، ولذلك علماء تونس في بعض أوقات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، أفتى هؤلاء العلماء بردَّة من يحمل الجنسية الفرنسية، اعتبروا هذا ردَّةَ عن الإسلام، واعتبروه مرتداً، هذا في وقت، وهذا سبيل من سُبل المقاومة وسلاح من أسلحة الجهاد، ولكن في الأوقات العادية المسلم الذي يحتاج إلى أن يذهب لهذه البلاد وأصبح موجوداً فيها، لاشك أن حمله لجنسية هذه البلاد يقويه ولا يضعفه، يعني يعطيه قوة، هو موجود في هذه البلاد، وممكن أن يكون مقيماً ولا يحمل الجنسية، ولكن ليس له صوت انتخابي، يمكن أن يُطرد في أي وقت من الأوقات، إذا حمل الجنسية أصبح مواطناً يستطيع أن يكون له صوت، المسلمين في بعض البلاد كانت لهم قوة انتخابية استطاعوا أن يؤثروا في الانتخابات، لأنهم مرجحون، صحيح لا يملكون أغلبية، ولكن يملكون قوة ترجيحية بين المرشحين فيخطب ودهم، فلذلك أنا أقول حمل الجنسية في ذاته ليس يعني شراً أو خطراً، وإذا كان..
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: ولكن حمل الجنسية كما أن له مكتسبات أو يعني يكتسب حاملها حقوقاً أيضاً عليه واجبات ينبغي أن يؤديها تجاه هذه الدولة وهذه الواجبات قد تتعارض مع الشريعة.
د. يوسف القرضاوي: الواجبات هو إنه يحترم النظام العام، النظام العام لهذا البلد، والنظام العام يعني لا يخرج على القانون أوكذا، ولكن هناك أشياء مثلاً يُبيح القانون المحرمات، ولكن هل يلزمك القانون أن تشرب الخمر؟ هو يُبيح الخمر، هل يلزمك أيها المسلم أن تشرب الخمر، ويُبيح الزنا، هل يلزم المسلم أن يعني يرتكب الزنا، يبيح الشذوذ وبتاع، المسلم يعني..
حامد الأنصاري: لكنه في الوقت نفسه يُبيح للمرأة المسلمة أن تتزوج من غير المسلم ولا يملك والدها أن يمنعها من الزواج بحكم القانون، إذا منعها والدها فقد خالف القانون.
د. يوسف القرضاوي: هنا .. هنا في هذه الحالة إذا لم يستطع الرجل أن يُربي ابنته بحيث إن هي ترفض هذا بحكم دينها، هنا اللي قلنا إن عليه إنه يرجع، لايبقى في هذه البلاد، وموجود للأسف إن بعض البلاد الإسلامية يعني تفعل هذا، البعض الذي يحرم على المرأة أن تلبس الحجاب، والبعض الذي يُحرَّم على المسلم إنه يتعلم الدين ويعني يغلقون المدارس القرآنية، ويُبيح للمسلمة أن تتزوج بغير المسلم في تركيا وفي غيرها، فهذا موجود حتى في داخل البلاد الإسلامية.(1/139)
أنا أقول بصفة عامة القوانين يعني تُبيح المحرمات، ولكنها لا تُلزم بها، فأنا إذا استطعت إن أنا أعيش دون أن يلزمني القانون بشيء يخالف ديني فأبقى، والإ لامعنى للبقاء هناك، إذا يعني القانون مثلاً فيه أشياء تخالف في مسائل الزواج والطلاق وهذه الأشياء، ولكني لست ملزماً بها، إذا كان يجيز هذا للمرأة أن تتزوج غير مسلم، المسلمة المفروض ترفض هذا، إذا كان يُبيح للمرأة إذا طُلقت أن تأخذ نصف ثروة زوجها، إذا كانت مسلمة لا تقبل هذا، لا.. لا يلزمها القانون ويجعل لها هذا الحق، إنما تقول: لا أنا ديني يُحرَّم عليَّ آخذ ما ليس لي بحق، إذا استطاع الإنسان يستطيع إنه يعني يلتزم بالقانون ويعمل، في الميراث مثلاً والقوانين هناك لاتلتزم بالميراث الشرعي، ولكن يستطيع المسلم أن يلتزم بالميراث الشرعي عن طريق الوصية، يعني.. يعني يجعل ما.. ما هو مفروض شرعاً وصية منه، ووصيته ملزمة، يعني إنه يوزع تركته مثلاً على أولاده (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) الأنثيين، أو حتى يقول بصفة إجمالية كده إني أوصي أن توزع تركتي حسب أحكام الشريعة الإسلامية وهم ملزمون بهذا حسب قوانينهم.
حامد الأنصاري: سنعود، عندي بعض الأسئلة في هذا الموضوع أيضاً، لكن نستقبل بعض المكالمات ثم نعود لاستكمال هذا المحور إن شاء الله، الأخ إبراهيم محمد من النرويج.
إبراهيم محمد: آلو.
حامد الأنصاري: أهلاً يا أخي.
إبراهيم محمد: آلو، السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د. يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
إبراهيم محمد: عفواً أنا أتكلم من النرويج في الآية الكريمة اللي تبين..الآية الكريمة (أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ) ونحن.. ونحن في.. في بلاد الغربة وفي أوروبا نستقبل المحطات الفضائية العربية بدروس دينية وما إلى ذلك من.. من خلال هذه المحطات، وهذه المحطات العربية الفضائية محطات تكفر بآيات الله وتستهزئ بها، وكيف تدنى المشايخ والمقرئين الذين يجلسون في هذه المحطات، وبرروا جلوسهم في المحطات..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: أخ.. أخ إبراهيم أخ إبراهيم عندك.. عندك سؤال في هذا الموضوع، في موضوع فقه الجاليات الإسلامية في الغرب، يعني هذا الموضوع، هذا..
إبراهيم محمد: نحن جالية هنا بالنرويج وأريد أسأل سؤال للشيخ.
حامد الأنصاري: هذا.. هذه المسألة لا تخص الجاليات الإسلامية في..في النرويج أو في الغرب إنما تخص العالم.. المسلمين في أينما كانوا حتى في.. يعني المسلمون في العالم الغربي والإسلامي يعانون مما تعانون منه، وهذه القنوات تنطلق في معظمها من العالم العربي والإسلامي.
د. يوسف القرضاوي: لكن إذا استطعنا يا أخي أن نجد في هذه المحطات أن نقول كلمة الإسلام فلا ينبغي أن نرفضها.
إبراهيم محمد [مقاطعاً]: إن هذه القنوات..
د. يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: فنحن نبلغ رسالة الإسلام عن هذه.. عن طريق هذه القنوات، فإذا كان فيها خير يجب أن نأخذ ما فيها من خير.
حامد الأنصاري: أخ إبراهيم محمد شكراً.. شكراً جزيلاً لك،الأخ محمد أنور من هولندا.
محمد أنور: آلو.
حامد الأنصاري: أيوه.
محمد أنور: السلام عليكم ورحمة الله.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د. يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
محمد أنور: تحياتي للأخ يوسف الشيخ القرضاوي.
د. يوسف القرضاوي: حياك الله يا أخي.
محمد أنور: والله ذكرنا في.. ذكرتم في الأول أن نشر الدعوة الإسلامية في.. في أوروبا يمكن أن تنطلق انطلاق من طرف الحكومات أو المؤسسات، ولكن هناك غياب تام لهذه المؤسسات وهذه الحكومات في نشر هذه الدعوة، وفي.. مثلاً في هولندا هناك فقط المهاجرون الذين يقومون فقط بنشر هذه الدعوة بجمع النقود وبناء..وشراء بعض المدارس الصغيرة التي لا تكفي لا فقط للأولاد، أو للبنات، فقط مكان واحد للصلاة، فهذه دعوة مثلاً إلى الحكومات العربية والإسلامية للنظر إلى هذه الجاليات، فالمهاجر العربي في.. في أوروبا رغم أنه يعمل فإن ذلك المال الذي يجنيه فإنه لا يكفيه لإعالة أسرته، سؤال.. سؤال واحد وهو: مثلاً تعيش، أنا أعمل في.. في معمل، ولكن يجب مصافحة امرأة مثلاً هولندية، هل هذا.. هل هذا، ماذا يمكن لي أن أفعل إذا.. إذا أرسلت لي يدها؟
حامد الأنصاري: هذا السؤال الأخ.. الأخ محمد سنجيب عنه -إن شاء الله – في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، شكراً يا أخ محمد أنور، الأخ..
د. يوسف القرضاوي[مقاطعاً]: ولكن أنا أقول للأخ يعني، إذا لم نجد الحكومات التي تقوم بهذا الدور، فيستطيع الأفراد أن يقوموا بما يستطيعون، كل بما يستطيع والقليل على القليل كثير،وقد وجدنا كثيراً من المهاجرين يكونون هم يعني جماعات لنشر الدعوة الإسلامية وتبليغ الرسالة الإسلامية والطلاب المسلمين الذين ذهبوا في أول الأمر للدراسة هم الذين أنشأوا يعني مؤسسات إسلامية أصبحت مؤسسات كبيرة الآن والحمد لله.(1/140)
حامد الأنصاري: الأخ البخاري رضوان من الدوحة.
البخاري رضوان: آلو السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د. يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
البخاري رضوان: ولأستاذنا الشيخ يوسف القرضاوي.
د. يوسف القرضاوي: حياك الله يا أخي.
رضوان البخاري: كيف حالك؟
د. يوسف القرضاوي: بارك الله فيك.
البخاري رضوان: والله لو سمحت بس كان عندي سؤال من شقين، وسؤال يعني خارج عن موضوع صغير كده، بس هو.
حامد الأنصاري: إذا كان خارج الموضوع نعتذر أخي الكريم، لأن يعني إلى موضوع الآخر،أما الآن يعني وقت البرنامج لا يسمح بذلك.
البخاري رضوان: جزاك الله خيراً.
حامد الأنصاري: شكراً جزيلاً، فضيلة الشيخ نعود لموضوع قضية حمل الجنسية الغربية وما يترتب عليها، قد يعني يتطلب حمل الجنسية الانخراط في.. في التجنيد الإجباري مثلاً في بعض الدول الأوروبية، أو الانخراط في..في الجيش كما هو يعني في أميركا هناك أكثر من 15 ألف مسلم في الجيش الأميركي، هؤلاء الجنود قد يُطلب منهم الدخول في معارك ضد دول إسلامية، فهل يجوز لهم في هذه الحالة وهم بما أنهم يحملون جنسية هذه الدولة الغربية فهم ملزمون بالانصياع لهذه الأوامر؟
د. يوسف القرضاوي: هو طبعاً في بعض الدول الغربية تعطي الجندي الحق في الاعتذار عن عدم الدخول في أي حرب يرى إنها ضد يعني عقيدته أو.. أو فكره، يعني تعطيه هذا، يعني لا تفرض عليه إنه يحارب من يعتقد إنه لايجوز حربه، والبعض الآخر من لا يجوز هذا هو المضطر مثل ما يحدث للأسف، الآن بعض البلاد الإسلامية يحارب بعضها بعضاً، يعني في الجيش الوطني ومطالب روح حارب على الحدود أو كذا، وبتحارب بلد إسلامي أو.. أو عربي، هو مضطر، يعني هذه أحكام الضرورات، لا تنافي الأمور العامة، وبعدين هو في هذه الحالة عليه إنه يعني يعمل أقصى ما يمكن للابتعاد عن إنه يعني.. يعني مايكونش هو اللي ماسك البتاع وبيضرب يعني..يعني و..يعني..
حامد الأنصاري: طيب في هذه الحالة ألا يعتبر هذا يعني نوع من الإخلال بواجب المواطنة، يعني عدم.. عدم الإخلاص في العمل، أو عدم الإتقان في العمل ألا يعتبر إخلال بواجب المواطنة الذي..
د.يوسف القرضاوي: لا هو يتعارض.. عند تعارض الواجبات بعضها مع بعض، يعني فيه واجب مواطنة وفيه واجب ديني، ويتعارض هو بيعتقد شيء والدولة بتعتقد شيء، هو يعني فقه الموازنات وفقه الأولويات يدخل في هذه القضية.
حامد الأنصاري: نعم، إذن نخلص من هذا إن إذا تعارضت واجبات المواطنة بناء على الحصول على الجنسية مع واجبات الدين يقدم الدين على المواطنة.
د.يوسف القرضاوي: طبعاً إنما أريد أن أقول شيء أنت سألت عنه بالنسبة لعملية الولاء، يعني ليس من الضروري إن الإنسان لما يحمل الجنسية يوالي الجماعة غير الإسلامية دون المؤمنين، لأن هو المحَّرم أن يوالي غير المسلمين من دون المؤمنين، (لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً) (بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ) فهو يوالي الجماعة المخالفة للإسلام ويترك جماعته هذا هو، إنما هذا.. هذا ليس من الضروري إن أنا أحمل جنسية وأكون موالي لهؤلاء ومعادي لأمتي الإسلامية، هذا ليس شرطاً.
كيفية الموازنة بين حقوق المواطنة الغربية والهوية الإسلامية
حامد الأنصاري: كيف نحقق فضيلة الشيخ التوازن بين الحفاظ على الهوية والشخصية في المجتمع الغربي وبين الانخراط والتفاعل مع أهل البلد الأصليين دون أن نذوب، دون الذوبان؟(1/141)
د.يوسف القرضاوي: هذا ممكن، ممكن بالتعاون فيما بيننا نحن المسلمين، إنه المسلمون تكون لهم مؤسساتهم الخاصة، يعني لا يستطيع المسلمون أن يحتفظوا بشخصيتهم ويؤثروا في المجتمع فرادى، المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فيستطيع المسلمون أن يكون لهم مساجدهم الخاصة بهم، وتكون لهم مدارسهم التي يعلمون فيها أولادهم، يعني بعض الإخوة الآن متبنيين إنشاء مدارس إسلامية، قالوا إحنا كنا في العصر الأول بننشيء مساجد إسلامية، إذا لم ننشئ مدارس إسلامية هينشأ جيل من أولادنا يبيعوا هذه المساجد كما اشترينا نحن الكنائس من المسيحيين، فلابد من إيجاد مدارس تعلم المسلمون وتحتفظ بهويتهم، لابد أن يكون لهم أنديتهم يعني مش بس حتى الناحية التعليمية أو الناحية الدينية، حتى الناحية الاجتماعية يلتقي فيها الشباب ويلعبوا ويعملوا، ويتعرف بعضهم على.. على بعض، لأن هذا مهم جداً لكل أقلية تريد أن تحتفظ بهويتها الذاتية، فلابد للمسلمين، وبعدين يشتغلوا في المجتمع.. يندمجوا في المجتمع، إحنا أمامنا يعني ممكن الإنسان يتعلم ولو من عدوه، اليهود، كيف استطاع اليهود أن يؤثروا في المجتمعات الغربية تأثيراً كبيراً جداً مع احتفاظهم بهويتهم وشخصيتهم التاريخية؟ استطاعوا إنهم يعني عملوا مجتمع لهم داخل المجتمع الكبير، هم مندمجين في.. ولكن عندهم مجتمع صغير، ما نسميه حارة اليهود، حارة اليهود هذا يعني هم بيعيشوا فيها بأحلامهم، بتوراتهم، بتلمودهم، بأناشيدهم، بطقوسهم، بطواقيهم، بيعني لحومهم المذبوحة، بالشعائر، بالتقاليد، يعني في داخل هذا علينا إن إحنا نستفيد من هؤلاء، يكون لنا مجتمعنا نحافظ فيه على هويتنا، ومع هذا لا ننفصل عن المجتمع، لأن إذا انفصلنا عن المجتمع هلكنا، لابد إننا نندمج، وبعدين إحنا أصحاب دعوة، كيف تؤدي دعوتك وأنت يعني بعيد عن.. عن المجتمع وعايش في صومعة منعزلة أو في برج عاجي، هذا إلى ..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: لكن كيف فضيلة الشيخ نحقق هذا الأمر في وجود الفتاوى التي تدعو إلى أن نضطرهم إلى أضيق السُّبل وإلى عدم جواز بدئهم بالسلام، وإلى عدم جواز تهنئتهم في.. في المناسبات والأعياد؟ يعني الأمور التي تؤلف القلوب، يعني.. يعني هناك من.. من الناس، من.. من العلماء الذين يعيشون في الغرب يحرمون مثل هذه الأمور .
د.يوسف القرضاوي: أنا، والله أنا أخالف هذا في الحقيقة، وأرى إنه الدستور الذي يعني حدده القرآن في التعامل مع المسلمين يعني نجده في آيتين من كتاب الله في سورة الممتحنة، يقول الله تعالى (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ) فالذين لم يقاتلوننا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يُظاهروا على إخراجنا مطلوب منا أن نقسط إليهم وأن نبَّرهم، القسط هو العدل، والبر هو الإحسان، يعني القسط إنك تعطيهم الحق، البر إنك تعطيهم فوق الحق، العدل أو القسط إنك تأخذ ما لك تماماً، البر أن تتنازل عن بعض ما لك، يعني أعلى من القسط والعدل، فهذا هو المطلوب، يعني ربنا اختار للتعامل معه هؤلاء الكلمة التي اختارها للتعامل مع الوالدين، بر الوالدين، وهنا قال (أَن تَبَرُّوَهُمْ) فهذا البر ليس معناه إن أنت تضمر لهم العداوة وتبتعد عنهم، الأحاديث اللي جاءت ديَّة جاءت في مناسبات معينة، إنما الآن لكي يعني تنشر الإسلام وتؤلف القلوب عليه وتحببه إلى الناس لا يمكن، لازم.. وخصوصاً إذا كان هم معاهم، يعني إذا كنت أنت تعيش، أنت عشت عدة سنوات في بريطانيا وكان لك جيران من.. من.. من هؤلاء وزملاء يدرسون معك، طب هُمَّ بييجوا في عيد الفطر ويقول لك: عيدك مبارك أو كذا، أو في عيد الأضحى، المفروض إن أنت تقول لهم في عيدهم هذا، الله تعالى يقول: (إِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) سيدنا عبد الله بن عباس يعني جاء واحد مجوسي وقال له: السلام عليكم، فقال وعليكم السلام ورحمة الله، فقال أصحابه: تقول له ورحمة الله؟! قال: أليس في رحمة الله يعيش؟ طيب ماهو عايش في رحمة الله فاستكثروا مجوسي يقول له رحمة الله (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) إذا كنا نريد أن نحقق عالمية الإسلام ونحبب هؤلاء الناس في الإسلام فلابد أن نقترب منهم، وأن نريهم حُسن أخلاق المسلمين، وهذا ما صنعه المسلمون قديماً، الإسلام لم ينتشر في العالم بالسيف كما يقول المبشرون والمستشرقون وأمثالهم، الإسلام انتشر بأخلاق المسلمين.(1/142)
حامد الأنصاري: نعم، فضيلة الشيخ هذا الكلام من الناحية ..... يعني من الناحية النظرية جيد، لكن لو جئنا نطبقه على المجتمع الغربي، هل ينطبق عليه أم لا؟ سنعود إليه بعد أن نتلقى بعض المكالمات، الأخت مريم من هولندا، أخت مريم، يبدو أن الخط انقطع، الأخ أبو لؤي من هولندا أيضاً.
أبو لؤي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام عليكم ورحمة الله.
د.يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
أبو لؤي: تحياتنا إلى الشيخ يوسف القرضاوي بارك الله له في عمره وعلمه.
د.يوسف القرضاوي: حياك الله يا أخي.
حامد الأنصاري: حياكم الله.
أبو لؤي: وتحياتنا إليكم الأخ حامد.
حامد الأنصاري: حياك الله يا أخي
أبو لؤي: إن موضوع اليوم هو فقه الجاليات الإسلامية في المهاجر في الغرب، أو الجالية الإسلامية الموجودة في الغرب، وليس الموضوع يناقش أو حلقة تناقش قضية الهجرة كاستعدادات أو كنحن في مرحلة استعداد للهجرة، أظن إن مثل..
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: لا نحن نناقش الآن الوجود الإسلامي بالغرب ومرتكزاته الشرعية.
أبو لؤي [مستأنفاً]: نعم نناقش، نعم إذن لا.. إحنا.. نحن ليس في مرحلة استعداد للهجرة،
حامد الأنصاري: نعم، لسنا في مرحلة..
أبو لؤي: نحن تواجدنا في الغرب.
حامد الأنصاري: نعم، نحن.. نحن نعالج ظاهرة موجودة الآن.
أبو لؤي: الآن هو موجود نعم، هذه النقطة أنا اتفقنا فيها وسننطلق منها، طيب إذن أقول: أن علينا أن نناقش ونبقى في ضمن الموضوع كيف نعمل على توطين هذه الهجرة التي تواجدت إلى حد أن تواجدت في.. في الغرب، ولا أحد يعقد عازماً الرجوع إلى بلده إلا القليل القلة، وكثير من يعود إلى بلده يعقد مرة ثانية راجعاً إلى بلاد الهجرة الذي تواجد فيه هارباً مرة ثانية من بلده الذي ظن أن هذا البلد قد..، نقطة.. نقطة.. نقطة.
إذن أقول علينا أن نعمل على توطين هذه الهجرة التوطين الجيد، وكذلك أن نوجه الوجهة الصحيحة، وكذلك أن نحاول أن نناقش كيف يمكن أن نحافظ على هوية هذه الجاليات الكبيرة المتواجدة في الغرب.
أخي إن المشكل الذي نراه الآن مطروحاً هو لأي شيء نعطي الأولوية في حياة المسلمين الموجودين في الغرب ألبناء المسجد؟ أم لبناء المدرسة، أم لبناء الحضانات ودور الشباب والمحاضن والأشياء مثل هذه، أو لمجلس الشورى، أو لمجلس إفتاء، أو مجلس كذا أو كذا، وحتى إذا تواجدت نأخذ مثلاً المدرسة الإسلامية فإلى أي شيء سنولي الاهتمام؟ هل نولي الاهتمام إلى البرنامج إلى المعلم الذي.. وهذه الأشياء كلها قد تنعدم أو تقل بشكل يعني كبير جداً، فأقول المرحلة التي يعيشها الآن المسلمون في الغرب هي مرحلة الأولوية، أن نحدد أولوياتنا في الغرب لأي شيء نعطي هذه الأولوية؟ وكذلك نحاول أن.. أن.. أن نوجه أو نوجد دُعاة وسطيون غير متطرفون أو يحملون فكر يعني لا يتناسب مع الجاليات المسلمة في الغرب لأنها حقيقة، ونحن كجالية إسلامية نعيش في هولندا نعيش حالة متأزمة جداً مع دُعاة أتوا من.. من يعني من بلداننا الإسلامية ولازالوا يعني لم يتأقلموا مع البلد الذين يعيشون.. الذي يعيشون فيه وخاصة أو على سبيل المثال كهولندا..
حامد الأنصاري: شكراً يا أخ أبو لؤي.
أبو لؤي: لكن أخي فقط أود، يعني فقط امنحني بعض الثواني.
حامد الأنصاري: يعني الوقت ضيق جداُ أبو لؤي أرجو أن تختصر لو سمحت.
أبو لؤي: ثانية لو سمحت لي.
حامد الأنصاري: تفضل.
أبو لؤي: لأقول فقط إن هذه القضية الحمد لله في السنوات الأخيرة بدأت تناقش كثيراً، فنجد بعض المؤتمرات أو الملتقيات التي عُقدت في السنوات الأخيرة ناقشت مثلاً قضية الخطاب الإسلامي في الغرب ناقشت قضية الهوية الإسلامية في الغرب والحفاظ عليها، وهذه السنة سيعقد –إن شاء الله- مؤتمر أو ملتقى سنوي يعقده كل سنة المركز الإسلامي في .. اتحاد.. واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا واتحاد العمال المسلمين في أوروبا تحت عنوان "أولويات العمل الإسلامي في الغرب"، وهذا الموضوع جد مهم وأرجو من الله –سبحانه وتعالى- أن ييسر للإخوة العاملين على تنظيم هذا الملتقى أن ييسر لهم وأن يعينهم، ونرجو من الله –سبحانه وتعالى- أن يبارك كذلك في شيخنا الكريم يوسف القرضاوي أن يحضر في هذا الملتقى لأنه من أحد المدعوين.
حامد الأنصاري: شكراً يا أخ.
أبو لؤي: ونعتذر على الإطالة وبارك الله فيكم السلام عليكم.
حامد الأنصاري: شكراً يا أخ أبو لؤي من هولندا. الأخ مهند بن هاني من أبو ظبي.
مهند بن هاني: السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د.يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
مهند بن هاني: أنا بألاحظ إنه إلتزام المجتمعات الغربية بتعاليم الإسلام إلتزام حرفي حتى سواء كان في الشارع أو في المترو، في الصدق، في الشورى، في المعاملات، في العدالة، المساواة بين الناس، في القوانين، فللأسف يعني كأنه هي مدرسة بتعلمنا الإسلام، فبدي رأي الشيخ وشكراً جزيلاً.(1/143)
حامد الأنصاري: شكراً يا أخ مهند. الأخ أبو لؤي يعني جرنا إلى سؤال يعني كان عندنا في الأجندة وهو قضية الآن أصبحت الجاليات الإسلامية في الغرب واقع معروف، وهناك أجيال نشأت في الغرب ولدت هناك من.. من أبناء هؤلاء المهاجرين، وهناك من أسلم من أبناء البلاد الأصليين وهؤلاء ينظرون إلى هذه الدولة على أنها دولتهم، لا.. يعني يشعرون بالحب والولاء لهذه الدولة بشكل كبير، فكيف نعمل على توطين الدعوة في .. في الغرب وبالذات إن حتى الذين هاجروا الآن يعني معظمهم لا يفكر في العودة كما يقول؟
د.يوسف القرضاوي: هو بإنشاء المؤسسات، أنا ذكرت إنه مثلاً إنشاء المساجد وده كان موجود في فترة يعني يكاد هو الآن إنشاء المدارس، إنشاء الأندية، إنشاء يعني المؤسسات التعليمية الكبيرة مثل الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في فرنسا، وأنا من.. عضو مؤسس فيها وفي مجلس إدارتها، وفي المجلس العلمي، وكذلك كلية أخرى في بريطانيا الآن، اتحاد المنظمات الأوروبية، المجلس الأوروبي للإفتاء اللي سألنا عنه الأخ عبد الله الجديع.
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: الجديع.
د.يوسف القرضاوي [مستأنفاً]: الأمين العام والذي شرفني الإخوة برئاسته، وسنجتمع يعني في هذا الشهر في ألمانيا للنظر في أيضاً يعني الإجابة عن تساؤلات المسلمين، وايجاد مرجعية ومحاولة توحيد الفتاوي، وخصوصاً في الأمور الهامة مثل الصيام والفطر وهذه الأشياء، يعني من المهم جداً إننا نوجد هذه المؤسسات، فهذه خطوة أراها أساسية في توطين الدعوة الإسلامية في هذه الديار.
حامد الأنصاري: طيب ما هي الأولويات فضيلة الشيخ؟ هل الأولى المسجد، أم المدرسة، أم النادي الاجتماعي الثقافي؟
د.يوسف القرضاوي: كلها مهمة، ولكن يعني إذا بلد ليس فيها مسجد إطلاقاً يبقى أول شيء أعمل مسجد، والمسجد أجعل معه مدرسة، المسجد في.. في صدر الإسلام كان مسجداً ومدرسة ونادياً، هنا المفروض يعني مسجد متعدد الخدمات، فلابد..
حامد الأنصاري: بمعنى آخر، يعني مركز إسلامي.
د.يوسف القرضاوي: آه هو.. هو مركز إسلامي في المسجد فيه المكتبة الإسلامية، فيه مكان لتحفيظ القرآن، فيه مكان للأولاد، فيه..، لابد أن أحاول هذا، وبعدين بعد هذا لابد أن أحاول أعمل مدرسة لتعليم أبناء المسلمين وتخضع للدولة وتعلم الدين الإسلامي، وفي بعض البلاد اعترف بالدين الإسلامي وحتى الدولة نفسها ممكن تعطي للمسلمين مدرسين على حسابها، يعني.. يعني هاتوا مدرسين أنتوا من عندكم المسلمين وأنا.. وأنا بأعطيكم في بلجيكا أصبح هذا، يعني نستطيع إننا نشوف وبعدين هذا أيضاً بيحكمنا فيه القدرة، يعني أنا أقول لابد أن يكون هناك يعني معلمون ودعاة، إذ لم يكن عندي إلا مُعلِّم باستفيد من المُعلِّم إلى أن يوجد الداعية، إذا وجدت الداعية المفروض أنا احتاج إلى الداعية الفقيه، مش الداعية الواعظ فقط، الداعية الذي يستطيع أن يُفتي المسلمين، والداعية.. الأخ بيقول لك عايزين الدعاة الوسطيين مش اللي ييجي يحرم كل شيء على الناس ويعني يُضيق على عباد الله، ونحن في الجاليات الإسلامية أحوج ما نكون إلى فقه تيسير، لابد أن نيسر على هؤلاء لأنهم يعيشون خارج المجتمع، ممكن أشدد على المسلمين في داخل البلد، إنما هؤلاء الناس يعيشون في غير المجتمع الإسلامي فلابد أن نتبنى فقه التيسير بالنسبة لهم، أنا بحسب قدرتي، إذا استطعت إن أنا أوجد من هؤلاء الدعاة ما يكفيني أحياناً أبقى محتاج إلى 5 دعاة ومافيش عندي إلا واحد أو اثنين، حسب القدرة، آه نعم.
حامد الأنصاري: نعم، لكن فضيلة الشيخ يعني الأولويات يعني نرى.. نرى اهتمام كبير بافتتاح أو ببناء مساجد وشراء كنائس وتحويلها إلى مساجد، بمعنى آخر الاهتمام بالصلاة وعدم.. وقد تُفتح بعض المدارس التي يعني في هذه المساجد تكون في عطلة نهاية الأسبوع يذهب إليها الطلاب ويجبرون إجباراً، يذهب الطفل وهو كاره لأنه يريد أن يرتاح قليلاً بعد عناء طول الأسبوع في المدارس الأجنبية فالنتيجة تكون في النهاية عندما يكبر هذا الطفل أو يريد أن يستقل يعني يكفر بكل .. بكل هذه الأشياء.
وعندي فاكس في هذا الموضوع من الأخ جمال إبراهيم من ألمانيا، يقول : أنا طالب مقيم منذ ما يقرب من سبع سنوات في ألمانيا، وخلال إقامتي هناك عرفت.. عرفت كل شيء عن.. عن الجالية الإسلامية في الغرب، وكان يُدرِّس –كما يقول لأني سأختصر الموضوع- لمدة خمس سنوات يُدرِّس للأولاد القرآن الكريم في أيام.. في عطلة الأسبوع، وهؤلاء الأطفال يقول مع الأسف الشديد أن النتيجة بعد أن بلغ هؤلاء الأطفال السن التي تؤهلهم للاستقلال أصبحوا أسوأ من الشياطين، لدرجة أن أولاد الشيخ الذي يقوم على هذه المدرسة للأسف الشديد(1/144)
ضاعوا كذلك، والذي أود أن.. أن انقله وأكشفه للشيخ القرضاوي أن الأطفال هنا ضائعون لا محالة (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي)، المجتمع أقوى بكثير من البيت وأشد تأثيراً على الأولاد، ومهما قام البيت بدروه على أكمل وجه وهذا نادر جداً، حيث الأب ليس عنده وقت كافي للأولاد، ويترك أولاده للمدرسة والمجتمع والنتيجة كما نراها الآن هو ضياع غالبية هؤلاء الأولاد عندما يكبرون، وأيضاً منذ سنتين ذهبت إلى البرازيل في ساوباولو أحد الإخوة أطلعني على مسجد، قال: هذا المسجد أول مسجد بُني في أميركا الجنوبية، ويقوم هذا المسجد الذي بناه بعض المسلمين الذين قدموا من لبنان كانوا فقراء يبحثون عن عمل استغرق بناء المسجد حوالي ثلاثين سنة، كانوا يبيعون في تقاطع الطرق يبيعون بعض الأشياء الخفيفة، ومن هذه الأموال أول ما حرصوا على بنائه قبل أن يمتلكوا منازل بناء المسجد، والمسجد بُني كتحفة معمارية، بمعنى آخر، كان لديهم اهتمام كبير بالدين وحرص عليه، لكن النتيجة التي ظهرت قال أن هؤلاء الذين بنوا هذا المسجد الذي استغرق ثلاثين سنة لعدم توفر الإمكانيات المادية لديهم النتيجة أن جميع أولاد هؤلاء الذين بنوا هذا المسجد أصبحوا الآن (..) لأنهم بنوا هذا المسجد، يأتون بأولادهم لصلاة الجُمعة فيه، وربما لدروس السبت والأحد،ثم بقية الوقت يقضي الابن أو البنت مع المجتمع فلا يمكن أن تؤثر هذه على تلك، أصبحت النتيجة أن تنصر كل أولاد هؤلاء.
د.يوسف القرضاوي: بس هذه.. هذه يعني فترة انتهت يعني أنا أعرف أنا قلت لك من أول الأمر إن في أميركا الجنوبية في الأرجنتين وفي البرازيل وغيرها الجيل الأول ضاع خالص لأنه ما كان عنده من الإسلام شيء إلا بعض هذه المظاهر، إنه عايز يعمل مسجد تحفة معمارية وماحدِّش يعمر المساجد، الآن الوضع يعني تغير، لأنه لا ينبغي أن ننظر إلى الأمور بالصورة القاتمة هذه.. هنا، لو أن المسلمين استطاعوا إن هُمَّ يعني ينظروا إلى الأمر نظرة نفسية تربوية سيكولوجية، لابد يعرف الطفل ماذا يحتاج؟ مش.. الطفل بس مش محتاج إلى إنك تقعد تحفظه بالقوة ولازم مش عارف.. لازم يلعب، يعني اجعل المسجد ده فيه شيء يفرحه، إنه بيروح مع الأولاد يحفظ كام.. كام سورة من القرآن أو آية من القرآن ويلعب، أعمل له طريقة ويوم السبت لما بيروح المسلمون؟ يعني أنا بأشوف بعض البلاد بيبقى مهرجان إسلامي، يعني لابد.. وبعدين لا يجوز أبداً إننا نتبنى التضييق، يعني أنا أول ما رحت أميركا ورحت لوس أنجلوس وجدت هناك قضية مثارة، الإخوة في لوس أنجلوس يعني ناس عندهم وعي يعني كبير وكذا بيعملوا آلات عرض، يعني بيجيبوا آلة عرض يعرضوا فيها بعض الأفلام الإسلامية، والأفلام التعليمية، والأشياء اللي زي كده لجذب الأطفال وجذب الناس وبتاع، فوجدت الجماعة المتشددين شنوا الغارة على هؤلاء، لا يعني، ويقولوا: وبيسمحوا للنساء اللي جايَّة كاشفة رأسها، واللي كاشفة ذراعها واللي كاشفة، فأنا قلت لهم: يا جماعة إحنا لابد الإسلام، دا النبي –عليه الصلاة والسلام- سمح للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده- عليه الصلاة والسلام- وكان يشجعهم ويقول لهم: "دونكم يا بني ارفده" يعني وهم في مسجد النبي –عليه الصلاة والسلام- بيلعبوا بالحراب و.. فالمسجد ده موضوع لمصالح المسلمين، إذا كان يعني وضع هذه الأشياء يرغب الناس، وبعدين إذا كنت لا تُدخل المسجد إلا واحدة محجبة وملتزمة طيب، التانية ديَّة متى تتعلم الإسلام؟ تتعلمه فين؟ ولازم تسمح لها تيجي مرة في مرة في مرة ربنا يهديها، فإحنا في حاجة إلى فقه جديد بحيث نستطيع إن إحنا كيف نحافظ على أولادنا، مش كل شيء بس أريد الولد يحفظ القرآن وليس حفظ القرآن هو المهم، أنا المهم حب الإسلام، كيف أحبب إليه الإسلام؟ كيف أجعله.. دا الإنسان هو بالفطرة، يعني، وثم إنه ليس الإسلام في المسجد فقط، هل الولد يروح يعني ساعتين كل أسبوع في المسجد وبعدين طول الأسبوع ما يسمعش شيء عن الإسلام، هذا لا.. لا، وأين الأب؟ وأين الأم؟ وأين الأسرة؟ لابد.
حامد الأنصاري: أعتقد إننا يعني في الغرب نحتاج بالإضافة إلى المساجد والمدارس نحتاج إلى الأندية والمراكز الترفيهية والتربوية كذلك..
د.يوسف القرضاوي: آه، ولذلك قلنا النواحي الاجتماعية هذه لابد منها ليلتقي الناس ويتحابوا ويرفهوا بعضهم عن بعض، بدال ما يروح يعني نادي آخر فيه قمار أو فيه نساء أو فيه خمور، يعني يعمل للمسلمين هذا هو.. هي مشكلة كثير من المسلمين للأسف وده موجود يعني حتى في.. في داخل العالم الإسلامي في أن كثير من أهل الخير من أثرياء المسلمين يعتقدون أن الشيء الوحيد الذي يتقرب به إلى الله هو بناء المسجد، مع إن الناس يمكن لو بنيت لهم مدرسة يكون أحسن من المسجد 100 مرة.
حامد الأنصاري: يستطيعوا أن يصلوا في أي قاعة من قاعات المدرسة.(1/145)
د.يوسف القرضاوي: آه يعني فالمفروض المسلم يشوف ماهي حاجة الناس؟ وده اللي بيعملوه للأسف المنصرون يشوف المجتمع عايز مستشفى يعمل له مستشفى أو مستوصف، عايز نادي يعمل له نادي.. أندية الشباب وهذه الأشياء، عايز مدرسة يعمل له مدرسة هذا هو الذي ينبغي أن..
حامد الأنصاري: نستقبل بعض المكالمات فضيلة الشيخ، الأخ سعود التميمي من جده.
سعود التميمي: السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د.يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
سعود التميمي: جزاكم الله خير في.. في الدين والدنيا على ما تقدمون به خدمة للإسلام والمسلمين.
حامد الأنصاري: حياك الله يا أخي.
د.يوسف القرضاوي: حياك الله.
سعود التميمي: مداخلتي تتعلق في الدعاة، وسؤالي لماذا لا يتم تنسيق وتخطيط بين الدول العربية والإسلامية لاختيار دعاة صالحين يحظون بالثقة وتتوفر فيهم شروط الدعوة، ويتم تقديم الدعم لهم من الدول الإسلامية حتى لا تترك الدعوة فردية اجتهادية وقد ينطبق عليها المثل كمن يغرد خارج السِّرب؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حامد الأنصاري: جزاك الله خيراً يا أخ سعود، الدكتور مجدي يونس من السعودية.
د. مجدي يونس: السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د.يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
د. مجدي يونس:تحياتي إلى فضيلة الشيخ العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي
د.يوسف القرضاوي: حياك الله يا أخي.
د. مجدي يونس: والحقيقة بنشكركم على هذه البرامج الدينية التي تهدف إلى نشر الثقافة الإسلامية ووصل الأمر إلى الجاليات الإسلامية في الغرب.
حامد الأنصاري: حياك الله.
د. مجدي يونس: فالحقيقة إنني أرى أن أهم مشكلات الجاليات الإسلامية في الغرب تتمثل في عاملين، العالم الأول هو العامل الاقتصادي، والعامل الثاني هو العامل التعليمي أو العامل التربوي، فضيلة الشيخ أشار إلى ضرورة إنشاء مسجد في كل دولة فيها جالية إسلامية، والأهم من ذلك هو إنشاء المدارس، وليس المدارس إلى حد مستوى التعليم ما قبل الجامعي، دا ياريت يكون هناك كليات لدراسة الشريعة وأصول الدين في هذه البلدان، لأن السبب في ضياع أبناء المسلمين هو عدم وجود المناهج الإسلامية التي يتربى عليها أبناء المسلمين.
وهنا أطرح سؤالي: ما هو الدور الذي يمكن أن تقوم به البلدان الإسلامية، والبلدان العربية في تدعيم مؤسسات تعليمية ومؤسسات دينية لرعاية أبناء هذه الجاليات؟
خاصة وإننا إذا إستطعنا أن نُنَشِّيء أبناء هذه الجاليات تنشئة دينية ضمنَّا أن يكون هؤلاء الأبناء هم دعاة لنشر الدين الإسلامي، ولسنا متخوفين عليهم كما يحدث وكما حدث في بعض البلدان التي قيل عنها أن أبناء المسلمين تنصروا فيها، هذه واحدة.
الثانية تتمثل في ضرورة إرسال بعثات معلمين دعاة ليأخذوا بأيدي أبناء هذه الجاليات، لأنهم يتنشؤون في هذه البلدان، يتشربون ثقافتهم، يتربون في مدارسهم فيضيع دينهم ويضيع أبناء المسلمين في هذه البلدان. وشكراً، وجزاكم الله خيراً عن جميع أبناء المسلمين.
حامد الأنصاري: شكراً دكتور مجدي، الأخ أبو أمير موسى من السويد.
أبو أمير موسى: السلام عليكم.
حامد الأنصاري: وعليكم السلام ورحمة الله.
د.يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
أبو أمير موسى: بسم الله الرحمن الرحيم، (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) يارب، إحنا من السويد بنسمع هذا الحديث وكل كلمة قد تكون بتصيبنا إن كان حسنة وإن كانت سيئة، وأنا بأرجو من فضيلة الشيخ الطنطاوي.. القرضاوي -آسف- أن ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، نحن نعالج الداء مش.. قبل الدواء، وإن كانت العربية قد لا تكون صحيحة، لأن أنا من بلد إفريقي عشت في بلد عربي في أطهر بقعة في العالم اللي هي قبلة المسلمين وليَّ أطفال أربعة وقد أكون تأثرت بالأخ اللي اتصل من ألمانيا والأخ قرأ الفاكس، وقد نخاف من النتيجة، قد نخاف من النتيجة، لماذا نحن هاجرنا؟ لماذا نحن هُجرنا؟ وأرجع بأقول لفضيلة الشيخ القرضاوي بحديث "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" نحن منعنا من المدارس، أطفالنا منعوا من المدارس الإسلامية، حتى في العمل كانت هناك تخصيص (..) الوطنية
د.يوسف القرضاوي: مين اللي منعك يا أخي؟ مَنْ منعك من المدارس؟
أبو أمير موسى: اسأل في البلد اللي أنا أقول أطهر البقاع وحتى يكون الأجنبي ما يدرس، الأجنبي ولده ما مسموح يدرس المدارس الإسلامية اللي هي الحكومية بتعتبر إسلامية، أسأل شيخنا القرضاوي.
حامد الأنصاري: يعني هو يقول إنه كان يعيش في السعودية ولم يكن يسمح.. تُسمح له بإدخال أبنائه المدارس وهذا الذي اضطره إلى الهجرة للغرب.
أبو أمير موسى: ولازالت، خليني أخلِّص.. خليني أخلِّص ولازالت مسلمين كثيرين يعيشوا أحتفظوا بهم خليهم يدرسوا هناك حتى لا يضيعوا، اتقوا الله كل المشاهدين يسمعون..
حامد الأنصاري: طيب أخ أبو أمير هل لديك.. هل لديك سؤال في الموضوع؟
أبو أمير موسى: سؤالي.
حامد الأنصاري: نعم.(1/146)
أبو أمير موسى: هل ذنبي هو أولادي، إذا ضاعوا ولاد الشيخ في ألمانيا ضاعوا، الشيخ اللي كان يقرِّي، هل إذا ضاعوا أولادي أنا هأحافظ -إن شاء الله- وزي ما قال أخي الشيخ الفاضل هنتزود الإسلام، الإسلام هو من سلم الناس من لسانه ويده، نحن –إن شاء الله- هنكون قدوة بأنفسنا، هنكون قدوة بعملنا، وأولادنا هل نحن هنقاوم البحر الهايج؟ هذا هو السؤال المطروح، يا شيخ القرضاوي، الإفتاء والبحوث، إفتاء والبحوث قل لهم يا جماعة درسوا الإسلام، درسوا الإسلام للأولاد ما يخلوا الإسلام، فيه هناك مدارس تجارية الناس يدرسوا فيها أسأل، والسلام عليكم وإن كانت عصبية فسماح، وإن كان صبت فجزائي في الله وإن كان أذنبت فأطلب..
حامد الأنصاري [مقاطعاً]: شكراً، شكراً يا أخ أبو أمير شكراً جزيلاً، فضيلة الشيخ الأخ.. الأخ سعود التميمي سأل سؤال لا نملك له يعني أمراً، وقد تكلمت فضيلتك في بداية الحلقة عن أنه لماذا لا يتم التخطيط والتنسيق بين الدول الإسلامية لإرسال الدعاة لهذا.. يعني هذا التنسيق أو دور الحكومات.
د.يوسف القرضاوي: هو فيه.. فيه كثير من البلاد بتبعث دعاة، يعني، ولكن لا يوجد يعني تنسيق فيما بين هؤلاء، المفروض إن هؤلاء الدعاة بوجودهم في .. في الغرب عليهم أن ينسقوا فيما بينهم، وعلى بعض المؤسسات التي تعمل في .. في الغرب، يعني مثلاً في أميركا فيه مثلاً اتحاد الإسلامي بأميركا الشمالية (..) مثلاً يعني عليه إن هو يعني .. يعني يستفيد من هذا وينسق بين الدعاة بعضهم وبعض ويعرفهم بالواقع المعيشي الذي يعيشه الناس والمشكلات التي يعانونها الناس ويوصيهم ببعض الوصايا لأن يمكن الإنسان اللي جاي من المجتمع مشبع بأشياء لا تنفع في هذا المجتمع، لازم الإنسان ينظر إلى الإسلام بعين وإلى العصر وإلى المجتمع الذي يعيش فيه بعين أخرى.
حامد الأنصاري: نعم، الدكتور مجدي يونس كانت لديه مداخلة ويتساءل ما الدور الذي يمكن أن تقوم به الدول العربية والإسلامية في دعم المؤسسات التربوية لأبناء الجاليات في الغرب؟
د.يوسف القرضاوي: والله هو نفس الدور اللي تقوم به..
حامد الأنصاري[مقاطعاً]: إرسال الدعاة ومربين ومعلمين..
د.يوسف القرضاوي[مستأنفاً]: يعني المفروض، وتدعم من الناحية المالية أيضاً هؤلاء الناس لإقامة هذه المؤسسات تحتاج إلى أشياء، لابد للمسلمين أن يقوموا بدورهم، المسيحيون في العالم يبذلون آلاف الملايين سنوياً للتنصير والتبشير، آلاف الملايين، فالمسلمون عليهم أن يبذلوا لدينهم ما استطاعوا.
حامد الأنصاري: شيخ لو نعود إلى موضوع قضية اندماج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية، هناك من ينظر إلى المجتمعات الغربية على أنها دار حرب وليست دار عهد ودعوة، فبالتالي.. ويعني قد يستدل بالأدلة التي يعني ذكرتها فضيلتك قبل قليل، نفس آيات سورة الممتحنة (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
د.يوسف القرضاوي: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
حامد الأنصاري: يقول أن الغرب أميركا الآن تدعم دولة العدو الصهيوني، ويعني اليهود أخرجونا من ديارنا وأميركا تدعم ظاهرت على إخراجنا، وحتى الأفراد يدفعون الضرائب، هذه الضرائب تذهب لتمويل اليهود مثلاً في فلسطين، بريطانيا هي من أوجدت هذه الدولة ورعتها في .. في بدايتها، فَيَرَوْن أو يعني يقولون: أن هذه الدول دول معادية، لدينا أقل من دقيقتين.
د.يوسف القرضاوي: لا، هذا موضوع لا لا يجاب عنه.
حامد الأنصاري: نكمله في الحلقة القادمة.
د.يوسف القرضاوي: لا يُجاب عنه في دقيقتين، طبعاً إذا نظرنا إلى يعني ماضي البريطانيين وإلى موقع.. موقف الأميركان، وموقف الروس أنفسهم يعني أميركا وروسيا كلتا الدولتين قالت: إنما إذ خلقت إسرائيل لتبقى، وأيدها الشيوعيون وأيدها الرأسماليون، وإذا.. فنحن لا نستطيع إننا لابد إننا ننظر إلى الأمر نظرة كلية، والأخ اللي بيتكلم من هولندا واللي بيتكلم من السويد واللي بيتكلم من بلجيكا، واللي من ألمانيا هؤلاء طيب الغربيون ليس لهم علاقة بهذه القضية، خلينا نستطيع أن.. أن نعمم، إنما أنا أقول إن كثير من هذه البلاد أصبح بينها وبين بلاد المسلمين عهود واتفاقيات وعلاقات دبلوماسية.. سفراء هنا وسفراء هناك، فما تستطيع أن تقول بسرعة كده إن دي كل هذه دار حرب، ولابد من تفصيل في هذه القضية.
حامد الأنصاري: طيب نناقش هذا الموضوع في الحلقة القادمة إن شاء الله.(1/147)
أعزائي المشاهدين في الحلقة القادمة بإذن الله كيف نوفق في الأحوال الشخصية مثل قضايا الزواج والطلاق والميراث والوصايا، الخلع والتفريق، الحضانة الإجهاض بين أحكام الشريعة وقوانين الغرب؟ ما هي حدود المشاركة في العمل السياسي؟ أيجوز للمسلمين أن يكونوا حزباً سياسياً ناطقاً باسمهم وساعياً لتقوية مكتسباتهم في ظل دساتير الغرب؟ ما مدى شرعية العمل بالعقود المالية الفاسدة كالقروض البنكية وشراء المساكن وبطاقات الأئتمان والتأمين وغيرها؟ ما حكم ذبائح أهل الكتاب وطعامهم وبالذات المحتوية على مشتقات الخنزير؟ وغير ذلك من المسائل الفقهية، فإلى أن نلتقي في الأسبوع القادم بإذن الله، لكم أطيب المنى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
==============
الوقف في ديار الغرب..
فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
قد طلب مني أن أكتب حول هذا الموضوع وهو موضوع له أهمية قصوى لأنه من أهم الوسائل للحفاظ على شخصية المسلمين في ديار الغرب والغربة وتوفير الظروف الملائمة لممارسة شعائرهم الدينية.
مقدمة:
إن هذا البحث المختصر عن الأوقاف في الغرب يرمى إلى إبراز أهمية الوقف في ديار الغرب.
ولهذا سنتحدث عن الأقلية المسلمة وهي المستهدفة من هذا البحث وعن معوقات الوقف الإسلامي في الغرب وحلول تشتمل على ضرورة مساعدة المسلمين وأهمية التضامن فيما بينهم.
تعريف للوقف في الإسلام مع مقارنة سريعة بنظام المؤسسة الوقفية fondation في الغرب "فرنسا أنموذجاً" لتكييف الوقف في ديار الغرب.
ضرورة تأقلم الوقف مع المحيط الغربي.
أولاً: الأقلية المسلمة:
إن مصطلح الأقلية مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول تسمية "فقه الأقليات" وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن ايرلندا.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك أحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.(1/148)
وهكذا فإن تنامي الوجود الإسلامي يطرح تحديات ومهمات جديدة قد تشكل الأوقاف أداة للقيام بها والتعامل مع تعقيداتها إذا أنشأت أوقاف إسلامية في مجالات متنوعة ومتعددة بالإضافة إلى المساجد والتي يسمونها في الغرب بدور العبادة ومؤسسات التعليم التي لها أهمية كبرى وبخاصة على مستويات التعليم الابتدائي والثانوي حيث تتشكل شخصية الفرد العقدية والخلقية خاصة بالإضافة إلى مشكلة منع الحجاب بالنسبة للفتيات في هذه المرحلة في بعض الدول الأوربية.
بالإضافة إلى التعليم الجامعي والعالي كمعهد العلوم الإنسانية في باريس الذي يرتاده طلاب من أوربا وكذلك المراكز الثقافية التي من خلالها يتاح القيام بأنشطة ثقافية من شأنها أن تحافظ على المقومات الثقافية والفكرية للمسلمين وتتكامل وظيفتها مع المعاهد والمساجد وهناك بعض المجالات المهمة الأخرى التي لم تصلها عناية المسلمين وهي مراكز الدراسة والبحث فقد تكوّن المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وله شعبة للبحث تصدر مجلة المجمع ونحن بحاجة إلى أوقاف في مجال البحث والفكر ودراسة المجتمعات والحوار... إلى آخره.
وكذلك تحتاج الأقليات إلى مؤسسات اقتصادية وثقافية فاعلة تجبر ضعفها وتقيم أودها وتحرس عقيدتها وتحافظ على أبنائها بتعليمهم أمر دينهم ولمساعدة المحتاجين والفقراء والمرضى منهم وبخاصة بعد أن تزايد أعداد المسلمين في الغرب ولم يعد وجودهم عابراً ولا عارضاً وإنما أصبح وجودهم يتصف بالديمومة والنمو حيث بلغ عددهم كما يراه بعض الباحثين يتجاوز ستين مليوناً في أمريكا وأوربا بين مسلمين أصليين في شرق أوربا ومسلمين جدد ووافدين وهناك مدن مرشحة لأن يكون عدد المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كمدينة ابريكسل البلجيكية عاصمة أوربا. وفي مدينة واحدة كمدينة باريس بلغ عدد المسلمين مليونين.
ثانيا:معوقات الوقف الإسلامي في الغرب
ويواجه الوقف في ديار الغرب جملة من المعوقات منها معوقات مادية :
المعوق الاول:
شح الموارد الذي كان من أسبابه الحملة الشرسة الموجهة ضد مؤسسات العمل الخيري مما جعل كثيراً من الخيرين يعزفون عن تقديم الأموال التي من شأنها أن تساعد في إنشاء أوقاف في الغرب وينصرفون إلى إنفاق ما ينفقون - إن أنفقوا- إلى بناء مساجد ودور أيتام في نطاق محيط جغرافي محدود جداً في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التنصيرية بإنفاق الأموال بسخاء لترسيخ دعوتها في البلاد الإسلامية وفي إفريقيا وآسيا بلا حدود ولا نكير.
ولهذا فإن هذا الموضوع ينبغي أن يدرج على جدول الحوار مع الجهات الغربية وكذلك أن يلفت انتباه الجهات الرسمية إلى أهمية المعاملة بالمثل في مثل هذه القضايا.
فالمسلمون كالجسد الواحد فلا يجوز أن نخذل الأقليات المسلمة التي هي جزء من الأمة الإسلامية وجسر للتواصل الحضاري مع الغرب وحلقة حيوية في حلقات العلاقة مع الغرب.
المعوق الثاني:
يتمثل في وجود بعض الخلل في التضامن والتعاون بين الأفراد والجمعيات الإسلامية في بلاد الغرب الأمر الذي يشكل عقبة تحول دون القيام بمجهود جماعي لإنشاء مؤسسات وقفية متعددة الخدمات على مستوى التحدي.
ومع ذلك فلا ينكر وجود حد من التضامن - ولله الحمد- في أكثر من منطقة.
المعوق الثالث:
النقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للوصول إلى أكبر قدر من استغلال الموارد الإنسانية والمالية المتاحة أو التي يمكن أن تتاح.
المعوق الرابع: هو التلاؤم مع النظم والقوانين الغربية إذ أن الأقلية المسلمة تعيش ضمن مجتمع غير مسلم خاضع لسلطان قوانين وضعية غالباً تختلف في أحكامها عن أحكام الشريعة التي تحكم الوقف الإسلامي بناء على طبيعته الخاصة التي أملت أحكاماً قد لا تتفق بشيء من الاجتهاد والانتقاء من الأقوال مع الأنظمة الغربية.
حلول:
لمواجهة هذه المعوقات يمكن أن نتصور بالنسبة للمعوق الأول: قيام جهات وقفية مهمة في العالم الإسلامي بتقديم دعم مادي كبير لمنظمات إسلامية معترف بها في بلاد المهجر لتنفيذ برنامج وقفي مسجل لدى الجهات الرسمية.
وأعترف أن هذا الحل يقتضي اتصالات مكثفة بين المنظمات الإسلامية المستفيدة والسلطات المختصة وبخاصة بعدما شرعت بعض الجهات في دول أوربية بتكوين مؤسسات تمويلية محلية لبناء دور العبادة والاعتناء بها في نطاق الحماية مما يسمى "بالأصولية الوافدة".
وبالنسبة للمعوق الثاني: فإن مزيداً من التوعية في صفوف المسلمين لإقناعهم بإدماج هيئاتهم في بعضها البعض حيث تقوم في الوقت الحاضر مؤسسات ومساجد على أساس عرقي وجهوي وأحياناً مذهبي وبالتالي لتكوين أوقاف ضخمة لمواجهة الحاجات وهناك بشائر منها الوقف الإسلامي الأوربي وهو حديث وهناك وقفية في أمريكا وقد قامت على أكثر من مائة وثلاثين مسجداً ويمكن للمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وللإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يقوما بدور طليعي في هذا المجال.
المعوق الثالث:(1/149)
وهو المتعلق بالنقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للاستغلال الأمثل فيبدو لي أنه من الممكن التغلب عليه عن طريق تبادل الخبرات وتنظيم دورات للراغبين والتركيز على النماذج الناجحة لتكون قدوة ويمكن للأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت على دورات.
أما المعوق الرابع:
وهو فقهي قانوني فيجب لإيضاحه أن نبين طبيعة الوقف في الإسلام باختصار
تعريف الوقف :
الوقف وهو الحبس وهما لفظان مترادفان يعبِّر بهما الفقهاء عن مدلول واحد وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. [ شرح الرصاع 2/539] .
ويُطلق على ما وقف فيقال هذا وقف فلان أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج ويطلق على المصدر وهو الإعطاء .
وحده ابن عرفة بأنه : إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً.
ورد ابن عرفة ما حدّه به ابن عبد السلام : بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد مبطلا طرده بصورة المخدم.(مرجع سابق)
وحده في أقرب المسالك بأنه :جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس )[ الشرح الصغير للدردير4 /97] .
وعند أبي حنيفة: حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. [حاشية ابن عابدين 3 /357] .
وقال ابن قدامة: ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. [المغني 8 /184] .
وهو أقرب تعريف لنص الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه من حديث ابن عمر بلفظه وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعمر في المائة سهم التي أصابها في خيبر : "حبس أصلها وسبل ثمرتها".وأخرجه الدار قطني والبيهقي وصححه الألباني في إرواء الغليل .
الوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن يوجدوا فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة وللواقفين صدقة جارية يجرى عليهم أجرها ويدخر لهم ذخرها فيتلقون روحها في القبور ويوم الحشر والنشور .
ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقة جارية" في الأعمال الثلاثة التي يبقى أجرها ولا ينقطع درها بالموت حيث جاء في الحديث الصحيح :" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".أخرجه مسلم.
وفسرت الصدقة الجارية بالوقف وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى وغيره إن الوقف من خصائص هذه الأمة وأنه لم يكن معروفاً قبل الإسلام.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها منظومة كاملة تمثل سياجاً حول الوقف لسد ذرائع التدخل فيه ضد أيدي الحكام والنظار عن التغيير فيه والتبديل بله التفويت والتبذير.
ولهذا كان الإبدال والاستبدال والمناقلة والمعاوضة وترميم الوقف من وفره وغلته وقسمته مهايأة أو بتة كل ذلك كان محل عناية من الفقهاء أدت أحياناً إلى خلاف قسم الفقهاء إلى ثلاث مدارس هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد ، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين ، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة – صلبة إذا جاز الجمع بين الضدّين .
الفريق الأول:
يمكن أن نصنّف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلاّ في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد .
الفريق الثاني:
المتوسط يمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث:
الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الأحناف كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين بن تيمية وبعض متأخري المالكية .
ونحن هنا نتبنى هنا رأي مدرسة إعمال المصلحة في الوقف وتجيز المناقلة والمعاوضة وتتبنى التعريف المالكي للوقف الذي ذكرناه عن أقرب المسالك لأن الموقوف لا يشترط أن يكون عيناً باقية بل شيئاً مملوكاً حتى ولو كان منفعة مدة بقاء الإجارة وهو لا يمنع التوقيت في الوقف.
ومن أهم قضايا الوقف النظارة وبمراجعة أقوال علماء وبمراجعة أقوال علماء المذاهب الإسلامية فإن النظارة تدور على الواقف والناظر والقاضي والإمام "الحاكم المسلم" والموقوف عليهم وجماعة المسلمين.( يراجع كتابنا "إعمال المصلحة في الوقف" وبحثنا المقدم لهذا المنتدى حول النظارة)
والناظر يمكن أن يكون واحداً أو متعدداً كما نص عليه صاحب التوضيح الجامع بين المقنع والتنقيح في الفقه الحنبلي.
ولهذا فإن إدارة الجمعية تتمتع بالنظارة وكذلك مؤسسة الوقف التي ينضم إليها في النظام الفرنسي الجديد مفوض الحكومة.
ويستند في جواز الوقف على غير المسلمين كما ثبت عن أمنا صفية رضي الله عنها أوقفت على أخيها اليهودي.
كما يجوز الوقف على الكنائس قصداً للإنفاق على المار بها.( يراجع المغني لابن قدامة وغيره )(1/150)
هذا في حال كان الوقف مؤسسة اجتماعية يستفيد منها المسلمون وغيرهم, وكذلك ما لو كان الوقف مؤسسة تعليمية تستقبل أطفال المسلمين وغيرهم لأن المصلحة هي المعيار الأهم.
أما في الحالة الغربية فهناك صور متعددة منها: أن تسجل جمعيةassociation للنفع العام لها الشخصية المعنوية القانونية وهذه الجمعية تدير أملاكها طبقاً لنظامها المؤسسي الذي قدمته في تصريحها ويمكن أن تجمع أموالاً من الجمهور كما يمكن أن تتلقى مساعدة من السلطات العمومية وتقبل الهدايا والوصايا.
وهناك المؤسسة الوقفية fondation وهي لا تختلف كثيراً عن نظام الجمعيات ذات النفع العام في مصادر تمويلها إلا أن هناك فرقاً مهما بالنسبة للقانون الفرنسي وهو أن العطايا المقدمة إلى المؤسسة الوقفية تخضع لترخيص إداري للسماح لها بتلقي التبرعات.
كما أن الاعتراف بالمؤسسة يكون بمرسوم من مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية في فرنسا.
وفي الختام:
لا بد من نظرة تأصيلية شمولية لواقع الأوقاف في الغرب وآفاق المستقبل لإيجاد الصيغ الملائمة التي تسمح برواج الأوقاف في المحيط الغربي مع المحافظة على أساسيات الوقف في الشريعة الإسلامية.
وأخيراً فإن مجالات الوقف الإسلامي في ديار الغرب عديدة وأهمها: المجال الدعوي والمجال التربوي والمجال الاجتماعي ومجال البحث العلمي كما شرحه بإسهاب الدكتور عبد المجيد النجار في بحثه:" مقاصد الوقف في الغرب".
وقد يكون من المناسب إجراء كشف لحاجات المسلمين في هذه المجالات.
والله ولي التوفيق.
=============
نظرات تأسيسية في فقه الأقليات..
د. طه جابر العلواني
يطرح البحث جملة من القضايا في هذا الفقه الذي مست الحاجة إليه من خلال اجتهاد يسعى للإجابة على عدد من الأسئلة الكبرى من قبيل: ما مصادره؟ وأين يمكن تلمسه في كتب الفقه؟ وأي القواعد الفقهية أكثر ارتباطًا به؟ وما أهم أبوابه التي يعالجها؟ وكيف تطور هذا الفقه؟ وما الآليات الفقهية التي تطور بها؟ وما مقدار العام ووجه خصوصية البيئة مكاناً وزمانًا فيه؟ وكيف يمكن تثميره الآن؟ فيطرح:
أولاً: تحديد المفاهيم
مفهوم الفقه:
لم تكن كلمة "فقه" - بالمعنى الاصطلاحي المعروف الآن- شائعة لدى الصدر الأول من هذه الأمة؛ بل كانوا يستعملون كلمة "الفَهم"، لكنهم إذا وجدوا الأمر دقيق المسلك ربما عُنُوا بـ "الفقه" بدلاً من "الفهم". وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى ذلك بقوله: "الفقه معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي مستقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها (فقه)".[ ابن خلدون: المقدمة ص445].
ولم تكن تسمية "الفقهاء" شائعة أيضاً، بل كان أهل الاستنباط من الصحابة يُعرفون باسم "القرَّاء" تمييزاً لهم عن الأميين الذين لم يكونوا يقرءون. وفي هذا يقول ابن خلدون: "… ثم عظمت أمصار الإسلام، وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط، ونما الفقه وأصبح صناعة وعلماً، فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء"[ المصدرالسابق نفسه ص446].
مفهوم الأقليات:
أما كلمة "الأقليات" فهي مصطلح سياسي جرى في العرف الدولي، يُقصَد به مجموعة أو فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث العِرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية.
وتشمل مطالب الأقليات عادة المساواة مع الأغلبية في الحقوق المدنية والسياسية، مع الاعتراف لها بحق الاختلاف والتميز في مجال الاعتقاد والقيم.
وتتأسس قيادات للأقليات - في كثير من الأحيان- تحاول التعبير عن أعضاء الأقلية من خلال الأمور التالية:
1- إعطاء تفسير للأقلية التي تنتمي إليها عن جذورها التاريخية، ومزاياها ومبررات وجودها، لتساعد الأقلية على الإجابة على سؤال "مَن نحن"؟ وضمناً عن سؤال "ماذا نريد"؟
2- تجميع عناصر الأقلية وإقامة روابط بينها.
3- تبني الرموز الثقافية المعبرة عن خصوصية الأقلية.
4- تحقيق أمن معاشي وتكافل اجتماعي كما في الحالة اليهودية.
مفهوم: فقه الأقليات:
إن الحديث عن فقه الأقليات يثير عدداً من الأسئلة المنهجية، منها:
1- إلى أي العلوم الشرعية أو النقلية ينتمي هذا الفقه؟
2- بأي العلوم الاجتماعية يمكن لهذا العلم أن يتصل، وما مقدار تفاعله مع كل منها؟
3- لماذا سُمِّي بـ "فقه الأقليات"؟ وإلى أي مدى تُعتبَر هذه التسمية دقيقة؟
4- كيف نتعامل مع القضايا التي يثيرها وجود المسلمين بكثافة خارج المحيط الجغرافي والتاريخي الإسلامي؟(1/151)
وللإجابة على هذه التساؤلات نقول: لا يمكن إدراج "فقه الأقليات" في مدلول "الفقه" كما هو شائع الآن - أي فقه الفروع - بل الأولى إدراجه ضمن "الفقه" بالمعنى العام الذي يشمل كل جوانب الشرع اعتقاداً وعملاً، بالمعنى الذي قصده النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله: "من يُرِدِ الله به خيراً يفقهه في الدين" [صحيح البخاري، كتاب العلم، الحديث69. وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، الحديث1719]، ومن هنا كانت ضرورة ربط هذا الفقه بالفقه الأكبر وضعاً للفرع في إطار الكل، وتجاوزاً للفراغ التشريعي أو الفقهي. ومعنى هذا أن فقه الأقليات هو فقه نوعي يُراعي ارتباط الحُكم الشرعي بظروف الجماعة وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها، ويحتاج متناوله إلى ثقافة في بعض العلوم الاجتماعية، خصوصاً علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعَلاقات الدولية.
تفكيك السؤال:
وإذا ثار سؤال ذو صلة بفقه الأقليات على لسان فرد، أو دار على ألسنة جماعة، فإن المفتي المعاصر يحتاج إلى تجاوز الموقف الساذج البسيط الذي يحصر الأمر بين سائل ومجيب: سائل يعوزه الاطلاع الشرعي، ومجيب يعتبر الأمر منتهياً عند حدود الاستفتاء والإفتاء. فهذا موقف غير علمي ورثناه عن عصور التقليد، وكرسته عقلية العوام التي استسهلت التقليد واستنامت له.
والمطلوب تبني موقف علمي يبحث في خلفية السؤال والسائل، والعوامل الاجتماعية التي ولدت السؤال وأبرزت الإشكال، وهل هو سؤال مقبول بصيغته المطروحة، أم يتعين رفضه بهذه الصيغة، وإعادة صياغته في صورة إشكال فقهي، ثم معالجته في ضوء رؤية شاملة تستصحب القواعد الشرعية الكلية، والمبادئ القرآنية الضابطة، وتراعي غايات الإسلام في الانتشار والتمكين على المدى البعيد؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم نهي القرآن المجيد عن أسئلة معينة من شأن إثارتها والإجابة عنها أن تؤدي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة؛ لأن تلك الأسئلة صاغتها ظواهر سلبية، فإذا أُجِيب عنها في ذلك السياق استحكمت تلك الظواهر وتمكنت. كما نستطيع في ضوء ذلك فهم نهي الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن "قيل وقال، وكثرة السؤال…".
فإذا سأل سائل- مثلاً- هل "يجوز" للأقليات المسلمة أن تشارك في الحياة السياسية في البلد المقيمة فيه، بما يحفظ لها حقوقها، ويمكنها من مناصرة المسلمين في بلدان أخرى، ويبرز قيم الإسلام وثقافته في البلد المضيف؟ فإن الفقيه الواعي بعالمية الإسلام وشهادة أمته على الناس، وبالتداخل في الحياة الدولية المعاصرة لن يقبل السؤال بهذه الصيغة؛ بل سينقله من منطق الترخص السلبي إلى منطق الوجوب والإيجابية، انسجاماً مع ما يعرفه من كليات الشرع وخصائص الأمة والرسالة.
ثانيًا: ضرورة الاجتهاد وتجاوز الفقه الموروث
لقد استوطن الإسلام في العقود الأخيرة بلداناً كثيرة؛ مما استدعى أن يكون لهذه البلدان إطار فقهي خاص بها، يراعي خصوصيتها؛ حيث بدأ المسلمون يواجهون واقعًا جديداً يثير أسئلة كثيرة جدًّا تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي المتعلقة بالطعام المباح، واللحم الحلال، وثبوت الهلال، والزواج بغير المسلمة… إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثراً ذات صلة بالهُويَّة الإسلامية، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلامية، ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية.
مشكلات في منهجية تناول الفقه:
وربما حاول البعض الإجابة على هذا النمط من الأسئلة بمنطق "الضرورات" و "النوازل" ناسين أنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال. وربما واجه المسلم فوضى في الإفتاء: فهذا الفقيه يُحِلُّ، وذاك يُحَرِّم، وثالث يستند إلى أنه يجوز في "دار الحرب" ما لا يجوز في "دار الإسلام"، ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياساً لا يأبه بالفوارق النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر، وبين حقبة تاريخية وأخرى؛ بل لا يأبه بالقواعد الأصولية القاضية بمنع قياس فرع على فرع… فتكون النتيجة المنطقية لهذا المنطلق المنهجي الخاطئ إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطراب، وتحجيم دورهم المرتقَب، والحُكم عليهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحياة الإسلامية، وفرض التخلف عليها، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في زماننا هذا.
والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجَه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليَّات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم، ويستنير بما صح من سنة وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تطبيقاته للقرآن وقِيمه وكليَّاته.
تجاوز الفقه الموروث:
أما الفقه الموروث في مجال التنظير لعَلاقة المسلمين بغيرهم فهو - على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه- قد أصبح أغلبه جزءًا من التاريخ؛ لأسباب تتعلق بالمنهج، وأخرى بتحقيق المناط، مما سنعرضه تاليًا:
أ- أهم الأسباب المنهجية:(1/152)
1- لم يرتب بعض فقهائنا الأقدمين مصادر التشريع الترتيب الصحيح الذي يعين على حسن الاستنباط، الذي يقضي باعتبار القرآن الكريم أصل الأصول، ومنبع التشريع، والمصدر التأسيسي المهيمن على ما سواه، والمقدم عليه عند التعارض. واعتبار السنة النبوية مصدراً بيانيًّا ملزماً يكمل القرآن ويفصله ويتبعه.
2- لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار في تنظيمهم الفقهي لعَلاقة المسلمين بغيرهم؛ بل عبَّروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة.
3- تأثر الفقهاء بالعرف التاريخي السائد في عصرهم، فضاقت نظرتهم للموضوع، وابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا.
ب- الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط فأهمها:
1- لم يعتد المسلمون في تاريخهم – بعد عصر الرسالة- على اللجوء إلى بلاد غير إسلامية طلباً لحق مهدر أو هرباً من ظلم مفروض؛ بل كانت البلاد الإسلامية في الغالب أرض عزة ومنعة، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسية مانعة؛ فكلما ضاقت بمسلم أرض، أو انسدت عليه سبيل، تحول إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلامية الفسيحة، دون أن يحس بغربة، أو تعتريه مذلة.
2- لم تكن فكرة المواطنة كما نفهمها اليوم موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون، وإنما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معينة، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي، ويتعامل مع المخالفين في المعتقَد بشيء من التحفظ، مع اختلاف في درجة التسامح: من محاكم التفتيش الأسبانية إلى الذمة الإسلامية.
3- لم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تكسب حق المواطنة بناء على معايير ثابتة، مثل الميلاد في البلد المضيف، أو أمد الإقامة، أو الزواج… وإنما كان الوافد يتحول تلقائيًّا إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم، أو يظل غريباً – مهما استقر به المقام- إذا كان مخالفاً لهم في ذلك.
4- لم يكن العالَم القديم يعرف شيئاً اسمه القانون الدولي أو العَلاقات الدبلوماسية، اللذان يحتِّمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أرضها، ومعاملتهم بنفس معاملة الرعايا الأصليين، إلاَّ في بعض الأمور الخاصة التي تقتضي حقوق المواطنة التميز فيها.
5- كان منطق القوة هو الغالب على العَلاقة بين الإمبراطوريات القديمة- بما فيها الإمبراطورية الإسلامية- فكانت كل منها تعتبر أرض الأخرى "دار حرب" يجوز غزوها وضمها كليًّا أو جزئيًّا إلى الدولة الغالبة؛ إذ من طبيعة الإمبراطوريات أنها لا تعرف حدوداً إلا حيث تتعسر على جيوشها مواصلة الزحف.
6- لم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية الاتصالية التي نعيشها اليوم؛ حيث تتداخل الثقافات، وتعيش الأمم في مكان واحد. وإنما عاشوا في عالَم من جزر منفصلة، لا تعايش بينها ولا تفاهم. فكان "فقه الحرب" طاغياً بحكم مقتضيات الواقع يومذاك. وما نحتاجه اليوم هو "فقه التعايش" في واقع مختلف كمًّا ونوعاً.
7- كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتاواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا، وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب ابن تيمية "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، وفتاوى علماء الجزائر في صدر هذا القرن بتحريم حمل الجنسية المصرية؛ فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصراع التي لا تحتاجها الأقليات الإسلامية.
ثالثًا: نحو أصول لفقه الأقليات
فقه الأقليات فقه ذو طبيعة خاصة. وهذه الخصوصية في الموضوع تفرض علينا أن نقترح على أهل العلم جملة من المحددات المنهجية أو "الأصول" التي نرى ضرورة اعتمادها من قِبَل المفتي في فقه الأقليات، باعتبار خصوصية هذا الفقه، وباعتبار أن كل "فقه" يحتاج إلى أصول. ومن هذه الأصول ما يلي:
1- اكتشاف الوحدة البنائية في القرآن، وقراءته باعتباره معادلاً للكون وحركته، واعتبار السنة النبوية الصادرة عن المعصوم- صلى الله عليه وسلم- تطبيقاً لقيم القرآن، وتنزيلاً لها في واقع معين، والنظر إليها كوحدة في ذاتها، متحدة مع القرآن، بياناً له وتطبيقاً عمليًّا لقِيمه في واقع محدد.
2- الاعتراف بحاكمية الكتاب الكريم وأسبقيته، وأنه قاضٍ على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار؛ فإذا وضع الكتاب الكريم قاعدة عامة – مثل مبدأ "البر والقسط" في عَلاقة المسلمين بغيرهم – ووردت أحاديث أو آثار يتناقض ظاهرها مع هذا المبدأ: كالمزاحمة في الطريق، أو عدم رد التحية بمثلها أو أحسن منها، تعين الأخذ بما في الكتاب، وتأويل الأحاديث والآثار إن أمكن تأويلها، أو ردها إن لم يمكن ذلك.
3- الانتباه إلى أن القرآن المجيد قد استرجع تراث النبوات، وقام بنقده وتنقيته من كل ما أصابه من تحريف، وأعاد تقديمه منقحاً خالياً من الشوائب، وذلك لتوحيد المرجعية للبشرية. ذلك هو تصديق القرآن لميراث النبوة كله وهيمنته عليه.(1/153)
4- تأمل الغائية في القرآن الكريم: وهي التي تربط الواقع الإنساني المرئي باللامرئي (عالم الغيب) وتزيل فكرة العبث والمصادفة. وذلك ما يمكن من إدراك وتفسير العَلاقات بين الغيب والشهادة، وبين النص المطلق – وهو القرآن- والواقع الإنساني، ويوجد نوعاً من الكشف عن الفارق الدقيق بين إنسانية الإنسان وفرديته، فالإنسان باعتبار فرديته مخلوق نسبي، وهو باعتبار إنسانيته مخلوق كوني مطلق.
5- الانتباه لأهمية البُعْدَين الزماني والمكاني في كونية الخَلْق الإنساني، ففي الجانب الزماني أكد القرآن ذلك البعد بتعقيبه على تحديد الأشهر باثني عشر شهراً ومنع النسيء، فعدَّهما جزءاً من الدين القيم. وفي الجانب المكاني جعل لنا أرضًا محرمة وأرضًا مقدسة، وأرضًا ليست كذلك. وفي هذا الإطار يمكن أن تفهم فكرة امتداد الإنسان منذ خَلْق آدم وحواء حتى دخول الجنة أو النار والعياذ بالله. إن ذلك الامتداد هو الذي يربط بين كونية القرآن وكونية الإنسانية.
6- الانتباه إلى وجود منطق قرآني كامن مبثوثة قواعده في ثنايا الكتاب، وأن الإنسان قادر – بتوفيق الله عز وجل- على الكشف عن قواعد ذلك المنطق؛ لتساعده في تسديد عقله الذاتي وترشيد حركته. كما أن هذه القواعد ذاتها يمكن أن تشكل قوانين تعصم العقل الموضوعي من الشذوذ والشرود والخطأ والانحراف، وهذا المنطق القرآني يستطيع أن يوجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر تساعدهم على الخروج من دوائر هيمنة العقل الذاتي القائم على مسلمات تقليد الآباء وتراثهم، وما يتبع ذلك من مسلمات قبلية يستطيع المنطق القرآني أن يخرجهم منها إلى المنطق الاستدلالي أو البرهاني.
7- الالتزام بالمفهوم القرآني للجغرافيا: فالأرض لله، والإسلام دينه، وكل بلد هو "دار إسلام" بالفعل في الواقع الحاضر، أو "دار إسلام" بالقوة في المستقبل الآتي. والبشرية كلها "أمة إسلام": فهي إما "أمة ملة" قد اعتنقت هذا الدين، أو "أمة دعوة" نحن مُلزَمون بالتوجه إليها لدخوله.
8- اعتبار عالميَّة الخطاب القرآني: فالخطاب القرآني يخالف خطابات الأنبياء السابقين التي كانت خطابات اصطفائية موجهة إلى أمم مُصطفَاة أو قرى مُختارَة. أما الخطاب القرآني؛ فقد تدرج من الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى عشيرته الأقربين، إلى أم القرى ومن حولها، ثم إلى الشعوب الأمية كلها، ثم إلى العالم كله. وبذلك صار هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يواجه الحالة العالميَّة الراهنة.
إن أي خطاب يُوجَّه إلى عالَم اليوم لا بد أن يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة، وأن يكون منهجيًّا: أي خطاباً قائماً على قواعد ضابطة للتفكير الموضوعي. وليس هناك كتاب على وجه الأرض يستطيع أن يوفر هذه الشروط إلاَّ القرآن المجيد ذاته.
9- التدقيق في الواقع الحياتي بمركباته المختلفة باعتباره مصدراً لصياغة السؤال والإشكال الفقهي، أو "تنقيح المناط" كما يقول الأقدمون. وما لم يفهم هذا الواقع بمركباته كلها فإنه من المتعَذَّر صياغة الإشكال الفقهي بشكل ملائم بحيث يمكن الذهاب به إلى رحاب القرآن الكريم لتثويره واستنطاقه الجواب، ففي العصر النبوي كان الواقع يصوغ السؤال فيتنزل الوحي بالجواب؛ أما في عصرنا هذا فإن الوحي بأيدينا، ونحتاج إلى أن نتقن صياغة إشكالياتنا وأسئلتنا؛ لنذهب بها إلى القرآن الكريم ونستنطقه الجواب عنها ونستنطق من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقه التنزيل ومنهجية الربط بين النص المطلق والواقع النسبي المتغير نوعاً وكمًّا.
10- دراسة القواعد الأصولية بكل تفاصيلها بما فيها مقاصد الشريعة، وذلك في محاولة للاستفادة بها في صياغة وبلورة مبادئ فقه الأقليات المعاصر. ولا بد من تكييف الدراسة للمقاصد، وربطها بالقيم العليا الحاكمة، وملاحظة الفروق الدقيقة بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.
11- الإقرار بأن فقهنا الموروث ليس مرجعاً للفتوى أو صياغة الحُكْم في مثل هذه الأمور؛ بل هو سوابق في الفتوى وفي القضاء يمكن الاستئناس بها واستخلاص منهجيتها والبناء على ما يصلح البناء عليه منها؛ فإن وُجِدَ في كلام الأقدمين ما يناسب الواقع، ويقارب رُوح الشرع استؤنس به – تأكيداً للتواصل والاستمرارية بين أجيال الأمة- دون أن يُرفَع إلى مستوى النص الشرعي، أو يُعتبَر فتوى في القضية المتناولة. ولا غضاضة إذا كان سلفنا لا يملكون جواباً لإشكاليات لم يعيشوها، ووقائع لم تخطر لهم على بال.
12- اختبار الفقه في الواقع العملي: فلكل حُكم فقهي أثر في الواقع قد يكون إيجابيًّا إذا كان استخلاص الفتوى تم وفقاً لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحُكْم في الواقع أثراً سلبيًّا؛ فتجب مراجعته للتأكد والتحرير. وبذلك تكون عملية استنباط الأحكام وتقديم الفتاوى عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع؛ فالواقع مُختبَر يستطيع أن يبين لنا ملاءمة الفتوى أو حرجها.
رابعًا: الأسئلة الكبرى في هذا الفقه(1/154)
إن الفقيه الذي سيتناول فقه الأقليات يحتاج إلى التأمُّل في الأسئلة الكبرى التي يثيرها هذا الموضوع؛ ليحسن تنقيح المَنَاط، ويصيب حكم الله- تعالى- في الموضوع ما استطاع، ومن هذه الأسئلة:
1- كيف يجيب المفتي أبناء الأقلية بدقة- تعكس نطاق الشأن الخاص بهم ونطاق الشأن الذي يشتركون فيه مع الآخرين- عن السؤالين: مَن نحن؟ وماذا نريد؟
2- ما هي النظم السياسية التي تعيش "الأقلية" في ظلها؟ هل هي ديمقراطية أم وراثية أم عسكرية؟
3- ما هي طبيعة الأكثرية التي تعيش الأقلية بينها، أهي أكثرية متسلطة تستبد بها مشاعر الهيمنة والتفرد؟ أم هي أكثرية تعمل على تحقيق توازن متحرك تحكمه قواعد مدروسة تقدم ضمانات للأقليات؟ وما حجم تلك الضمانات؟ وما هي آليات تشغيلها؟
4- ما حجم هذه الأقلية التي يُرَاد التنظير الفقهي لها على المستويات المختلفة: البشرية والثقافية والاقتصادية والسياسية؟
5- ما هي طبيعة التداخل المُعَاش بين أطراف المجتمع؟ هل تتداخل الأقلية مع الأكثرية في الموارد والصناعات والمهن والأعمال (الحقوق والواجبات) أو أن هناك تمايزاً من خلال سياسات تسعى إلى إيجاد وتكريس الفواصل في هذه الجوانب؟
6- ما طبيعة الجغرافيا السكانية؟ هل هناك تداخل؟ أم أن هناك فواصل وعوازل طبيعية أو مصطنعة؟ وهل هناك موارد طبيعية خاصة بالأقلية أو بالأكثرية؟ أم أن هناك مشاركة في ذلك؟؟
7- هل الأقلية تتمتع بعمق حضاري وهُوِيَّة ثقافية تؤهل – ولو في المدى البعيد- للهيمنة الثقافية؟ وما أثر ذلك لدى الأكثرية؟
8- هل للأقلية امتداد خارج حدود الموطن المشترك، أو هي أقلية مطلقة لا امتداد لها؟ وما تأثير ذلك في الحالتين؟
9- هل للأقلية فاعليات وأنشطة تحرص على التميز بها؟ وما هي تلك الفَعَاليَّات؟
10- هل تستطيع ممارستها بشكل عفوي وتلقائي، أو لا بد من قادة ومؤسسات تساعدها على تنظيم ممارستها لتلك الفَعَاليَّات؟
11– ما هو الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات أو التنظيمات أو القيادات في حياة الأقلية؟ هل هو تسليط مزيد من الضوء والتركيز على هُوِيَّتها الثقافية؟
12- هل تصبح هذه المؤسسات وسيلة لتكوين شبكة من المصالح، قد تساعد على استمرار التركيز على خصوصيات الأقلية، وإقناعها بأن الخصوصية الثقافية هي المبرر والمسوغ لاعتبارها أقلية؟
13– هل ستوصل هذه المؤسسات – دون أن تشعر- أبناء الأقلية إلى طرح سؤال خطير حول مدى قيمة وأهمية هذه الخصوصيات، ولِمَ لا نتجاوزها فنريح ونستريح، أو نعمل على إقناع الأكثرية بها؟!
14– إذا كانت الأقلية تمثل مزيجاً من جذور تاريخية وعرقية مختلفة، فكيف يمكن تحديد معالم هُوِيَّتَها الثقافية دون الوقوع في خطر دفع جمهورها إلى حالة الذوبان في الآخَر أو الانكفاء على الذات؟
15- كيف يمكن إيجاد الوعي الضروري لتجاوز الأقلية ما قد يحدث من ردود أفعال لدى الأكثرية، وامتصاص سلبيات هذه الأمور دون التفريط بإيجابياتها؟
16- كيف يمكن إنماء الفَعَاليَّات المشتركة بين الأقلية والأكثرية؟ وما هي المستويات التي يجب ملاحظتها في هذه المجالات؟
17- كيف يمكن الوصل والفصل بين مقتضيات المحافظة على الهُوِيَّة الثقافية "الخاصة" والهُوِيَّة الثقافية "المشتركة"؟
18- ماذا على الأقلية أن تفعل لتمييز ما يمكن أن يتحول إلى مشترك من أجزاء ثقافتها؟ وما الذي تستطيع أن تتبناه من المشترك المأخوذ من ثقافة الأكثرية؟ وما هو دور الأكثرية في هذا؟
وبناء على هذه التوضيحات المتعلِّقة بالمنهج، وبتحقيق المَنَاط، وبحجم الأسئلة المثارَة نستطيع التأكيد على أن الكثير من الاجتهادات الفقهية القديمة التي نشأت في عصر الإمبراطوريات لن تسعفنا كثيراً في تأسيس فقه أقليات معاصر، مع احترامنا لتلك الاجتهادات وإقرارنا بفائدة البعض منها في حدوده الزمانية والمكانية؛ بل يلزمنا الرجوع إلى الوحي والتجربة الإسلامية الأولى، مع الاستئناس بأقوال بعض المجتهدين الذين عبَّروا عن الرُّوح الإسلامية، وتحرروا من قيود التاريخ أكثر من غيرهم، دون اعتبار أقوالهم مصدراً مؤسساً لقاعدة شرعية.
خامسًا: القواعد العامة لفقه الأقليات
قاعدة في عَلاقة المسلمين بغيرهم:
لقد تضمنت آيتان من القرآن الكريم قاعدة ذهبية في عَلاقة المسلمين بغيرهم، هما قول الله- تعالى-: "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون". [سورة الممتحنة: الآيتان 8، 9].
قال ابن الجوزي: "هذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم" [ابن الجوزي: زاد المسير 8/39].(1/155)
وقال القرطبي: "هذه الآية رخصة من الله- تعالى- في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.. قوله- تعالى- : "أَنْ تَبَرُّوهُم" أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم…". [القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 18/43].
وأكد ابن جرير على عموم الآية في غير المسلمين من كل الأديان والمِلَل والنِّحَل، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك الصواب قول مَن قال: عني بذلك "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ" من جميع أصناف المِلَل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتُقسطوا إليهم. إن الله- عز وجل- عمَّ بقوله: "الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ " جميع مَن كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون ذلك" [نفس المصدر 28/43].
وفسَّر جل المفسرين "القسط" الوارد في الآية بأنه العدل، لكنَّ القاضي أبا بكر بن العربي أعطاه معنى آخر، باعتبار أن العدل واجب على المسلم تجاه الجميع أعداء وأصدقاء، لقوله تعالى: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [سورة المائدة، الآية 8]. أما القسط في هذه الآية فهو – عند ابن العربي- الإحسان بالمال: ("وتقسطوا إليهم": أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي) [القرطبي 18/43].
لقد حددت هاتان الآيتان الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البر والقسط لكل مَن لم يناصبهم العداء. وكل النوازل والمستجدات ينبغي محاكمتهما إلى ذلك الأساس. وما كان للعَلاقة بين المسلمين وغيرهم أن تخرج عن الإطار العام والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط، يقول تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيْزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [سورة الحديد، الآية 25]، فقاعدة "القيام بالقسط" قاعدة مطردة، سواء تعلق الأمر بإعطاء غير المسلمين حقوقهم، أو سعي المسلمين إلى أخذ حقوقهم.
الأمة المخرَجَة:
وبينت آية من الكتاب الكريم اثنتين من خصائص أمة التوحيد هما: الخيرية والإخراج. قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [سورة آل عمران، الآية 110]. فهذه الآية تدل على أن خيرية هذه الأمة تتمثل في أن الله- تعالى- أخرجها للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، فهي أمة مخرَجَة (بفتح الراء) لا تنفك خيريتها عن دورها الرسالي على هذه الأرض المتمثل في "إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله- تعالى-" كما لخَّصه ربعي بن عامر- رضي الله عنه- أمام كسرى.
وقد بيَّن المفسرون من السلف ومن المتأخرين على حد سواء الارتباط بين معنى الخيرية والإخراج: عن عكرمة في تفسير الآية قال: "خير الناس للناس، كان مَن قبلكم لا يأمن هذا في بلاد هذا، ولا هذا في بلاد هذا، فكلما [=أينما] كنتم أَمِنَ فيكم الأحمر والأسود؛ فأنتم خير الناس للناس" [تفسير ابن أبي حاتم 1/472، وقال المحقق: إسناده حسن]، وقال ابن الجوزي: "كنتم خير الناس للناس" [ابن الجوزي: زاد المسير 1/355]، وقال ابن كثير: "المعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس" [الصابوني: مختصر تفسير ابن كثير 1/308]، و "قال النحاس: والتقدير على هذا: كنتم للناس خير أمة" [القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/171]، وقال البغوي: "أي أنتم خير أمة للناس" [البغوي: معالم التنزيل 1/266]؛ وزاد أبو السعود الأمر توضيحاً فقال: "أي كنتم خير الناس للناس، فهو صريح في أن الخيرية بمعنى النفع للناس، وإن فهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً، أي أخرجت لأجلهم ومصلحتهم" [أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن العظيم 2/70]. وهو المعنى الذي استوحاه الخطيب فقال: "من رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع لديها؛ بل تجعل منه نصيباً تبر به الإنسانية كلها" [عبد الكريم الخطيب: التفسير القرآني 4/548].
إن أمة- هاتان أخص خصائصها- لا يمكن أن تحدها أرض، أو يختص بها مكان؛ بل لا بد أن تخرج إلى الناس، وتبلغهم رسالة الله إلى العالمين. فأي كلام بعد ذلك عن "دار إسلام" و"دار كفر"، أو "دار إسلام" و "دار حرب" – بالمعنى الجغرافي لهذين المصطلحين- إنما هو ضرب من التكلف وتضييق لآفاق الرسالة.
بل إن مفهوم "الأمة" في شرعنا لا يرتبط بالكم البشري أو الحيِّز الجغرافي أصلاً، وإنما يرتبط بالمبدأ الإسلامي، حتى وإن تجسد ذلك المبدأ في شخص واحد؛ ولذلك استحق إبراهيم- عليه السلام- وصف "الأمة" في القرآن الكريم؛ لقنوته لله وشكره لأنعمه: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [سورة النحل، الآية 120].(1/156)
وقد أدرك بعض علمائنا الأقدمين المغزى الذي نقصد إليه هنا؛ فربطوا تلك التحديدات بإمكان إظهار الإسلام وأمن المسلمين فقط، فليست للإسلام حدود جغرافية، ودار الإسلام هي كل أرض يأمن فيها المسلم على دين، حتى ولو عاش ضمن أكثرية غير مسلمة؛ ودار الكفر هي كل أرض لا يأمن فيها المؤمن على دينه، حتى ولو انتمى جميع أهلها إلى عقيدة الإسلام وحضارته.
قال الكاساني: "لا خلاف بين أصحابنا [الأحناف] في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها" [الكاساني: بدائع الصنائع 7/131]. أما دار الإسلام فقال القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن: "تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها" [نفس المصدر والصفحة]. وروى ابن حجر عن المواردي رأياً ذهب فيه إلى أبعد من ذلك؛ فاعتبر أن الإقامة في دار كفر يستطيع المسلم إظهار دينه فيها أولى من الإقامة في دار الإسلام، لما في ذلك من القيام بوظيفة جذب الناس إلى هذا الدين وتحسينه إليهم، ولو بمجرد الاحتكاك والمعايشة: "قال الماوردي: إذا قدر [المسلم] على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر؛ فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام" [ابن حجر: فتح الباري 7/230].
الانتصار والإيجابية:
ومما امتدح الله- تعالى- به عباده المؤمنين الإيجابية والانتصار لحقوقهم، ورفض البغي والظلم، وعدم الرضا بالمذلة والهوان. قال تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا" [سورة الشعراء، الآية 227]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون" [سورة الشورى، الآية 39]. قال ابن الجوزي معلقاً على هذه الآية الأخيرة : "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" [ابن الجوزي: زاد المسير 7/122]، وقال ابن تيمية: "... وضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجزع، فلا خير في العجز ولا في الجزع، كما نجده في حال كثير من الناس، حتى بعض المتدينين إذا ظلموا أو رأوا منكراً، فلا هم ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون" [ابن تيمية: التفسير الكبير 6/59].
فأي رضا من المسلمين بالدون، أو بالمواقع الخلفية، وأي سلبية وانسحاب من التفاعل الإيجابي مع الوسط الذي يعيشون فيه يناقض مدلول هاتين الآيتين الداعيتين إلى الإيجابية والانتصار.
تحمل الغبش:
ولو اقتضت المشاركة الإيجابية تحمل نوع من الغبش الذي لا يمس جوهر العقيدة وأساسيات الدين؛ فهو أمر مغتفر إن شاء الله؛ لأن تحقيق الخير الكثير المرجو متعذر بدونه. وليس هذا الأمر بجديد على الفقه الإسلامي؛ بل هو أمر قبله علماء الإسلام منذ نهاية الخلافة الراشدة وبداية المُلْك؛ فقد وضع الواقع الجديد أهل الخير أمام أحد خيارين: إما المشاركة الإيجابية مع قَبول تنازلات يمليها واقع الظلم المتغلب، وإما السلبية والانسحاب وترك الأمة في أيدي الظلمة؛ فاختاروا الخيار الأول إدراكاً منهم لإيجابية الإسلام ومرونة تشريعاته. قال ابن تيمية مؤصلاً هذا الأمر: "الواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه: فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير من تولية الفجار" [ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 167]. وقال: "وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله" [ابن تيمية: منهاج السنة 4/113]. ولو كان – رحمه الله- حيًّا الآن لأضاف: "بعض الكافرين وولاة أمورهم وعامتهم" تمشياً مع منطق الموازنة الشرعية الذي تبناه، ومراعاة لتغير الوقائع.
وانسجاماً مع نفس المنطق تقبل ابن حجر سؤال الإمارة والحرص عليه – رغم نهي السنة عن ذلك- إذا كانت حقوق المسلمين ومصالحهم معرضة للإهدار والضياع، فقال: "مَن قام للأمر [الإمارة] عند خشية الضياع يكون كمَن أعطي بغير سؤال، لفقد الحصر غالباً عمَّن هذا شأنه، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجباً عليه" [ابن حجر: فتح الباري 13/126].
سادسًا: دروس من الهجرة إلى الحبشة
تضمنت التجربة الإسلامية الأولى مثالاً على لجوء المسلمين إلى بلاد الكفر لحماية دينهم، هو الهجرة إلى الحبشة. ولهذا المثال أهمية خاصة؛ لأنه وقع في عصر الاستضعاف الشبيه بحال المسلمين الآن، كما أنه وقع في عهد التشريع، مما يضفي مغزى تأصيليًّا على الدروس والعِبَر المستخلَصَة منه.
وقد وقعت حادثة أثناء تلك الهجرة تحمل دلالة كبرى على ما يستطيع المسلمون المهاجرون فعله لحماية دينهم ورعاية مصالحهم، وكسب ود غيرهم، بل اكتسابه للإسلام.(1/157)
أورد الإمام أحمد بصيغ مختلفة وفي مواضع متعددة من مسنده تفاصيل هذه القصة الطويلة [انظر: المسند، الأحاديث رقم: 1649 و14039 و17109 و21460] ، وخلاصتها أن قريشاً أرادوا مضايقة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة؛ فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة محملين بهدايا للنجاشي، ورشاوى لبطارقته، في محاولة لشراء الذمم من أجل تسليم المسلمين المستضعفين إليهم.
وتكلم عمرو وعبد الله بين يدي النجاشي فقالا: "أيها الملك: إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشارف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه... فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك.. فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. لكن النجاشي كان رجلاً عادلاً، ولم يكن ليقبل الحكم غيابيًّا على مَن لم يسمع حجته؛ فأمر بإحضار المسلمين "فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللهِ ما علمْنَا وما أمرَنَا به نبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- كائن في ذلك ما هو كائن؛ فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم، فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم. قالت [أم سلمة راوية الحديث] فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه؛ فدعانا إلى الله- تعالى- لنوحده ونعبده ونترك ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قالت: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به… فعدا علينا قومنا يعذبونا ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا، وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نُظلَم عندك أيها الملك". وتوضح رواية أخرى أن جعفر لما دخل على النجاشي خالف العرف السائد الذي يقضي بالسجود للملك "فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله – عز وجل".
وانتهت المناظرة بانتصار المسلمين، واقتناع النجاشي بعدالة قضيتهم، ورجع رسولا قريش من عند النجاشي شر مرجع "فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءوا به" حسب تعبير أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها.
ثم توطدت العَلاقة بين المسلمين وذلك الملك المسيحي إلى درجة أنهم دعوا له بالنصر حين ظهر مَن ينازعه ملكه، قالت أم سلمة: "… ودعونا الله- تعالى- للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده".
وكانت النتيجة المنطقية لتلك العَلاقة الوثيقة أن اعتنق النجاشي الإسلام في نهاية المطاف.
خلاصة منهجية
بناء على ما اتضح من موازين الوحي، وخصائص أمة التوحيد، ومن المحددات المنهجية اللازمة، ثم من تجربة المسلمين الأوائل في الحبشة، نستطيع التوصل إلى الخلاصات التالية:
1- إن وجود المسلمين في أي بلد يجب التخطيط له باعتباره وجوداً مستمرًّا ومتنامياً، لا باعتباره وجوداً طارئاً أو إقامة مؤقتة أملتها الظروف السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي. ولا حجة في رجوع المهاجرين من الحبشة؛ لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الدعوة وبناء المجتمع الجديد، ثم سقط ذلك الوجوب بالفتح، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" [صحيح البخاري، كتاب الجهاد، الحديث 2575. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، الحديث 3468]. كما أن رجوعهم كان مواصلة لهجرة جديدة؛ لأن مكة هي موطنهم.
2- ينبغي لأبناء الأقليات المسلمة أن لا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل "دار الإسلام" و "دار الكفر". وعليهم أن ينطلقوا من المنظور القرآني: "إَنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين" [سورة الأعراف، الآية 128]، "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُوْن" [سورة الأنبياء، الآية 105].
3- من واجب المسلمين أن يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصاراً لحقوقهم، ودعماً لإخوتهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغاً لحقائق الإسلام، وتحقيقاً لعَالَميته. ولقد قلنا: إن ذلك "من واجبهم"؛ لأننا لا نعتبره مجرد "حق" يمكنهم التنازل عنه، أو "رخصة" يسعهم عدم الأخذ بها.(1/158)
4- كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم، أو أمكنهم التأثير على مَن فيها مِن غيرهم، تُعتبَر مكسباً لهم من حيث تحسين أحوالهم، وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم، بل التي لا تنسجم مع فلسفة الإسلام الأخلاقية. ومن حيث التأثير على القرارات السياسية ذات الصلة بالشعوب الإسلامية الأخرى.
5- كل ما يعين على تحقيق هذه الغايات النبيلة من الوسائل الشرعية فهو يأخذ حكمها. ويشمل ذلك تقدم المسلم لبعض المناصب السياسية، وتبني أحد المترشحين غير المسلمين - إذا كان أكثر نفعاً للمسلمين، أو أقل ضرراً عليهم- ودعمه بالمال؛ فقد أباح الله تعالى برهم وصلتهم دون مقابل، فكيف إذا ترتب على ذلك مردود واضح ومصلحة متحققة. وفي تفسير ابن العربي للفظ "القسط" ما يمكن الاستئناس به.
6- إن انتزاع المسلمين لحقوقهم في بلد يمثلون أقلية فيه، وتفاعلهم الإيجابي مع أهل البلد الأصليين، يقتضي منهم تشاوراً وتكاتفاً واتفاقاً في الكليَّات، وتعاذرًا في الجزئيات والخلافيات. ولنا في سلفنا من المهاجرين إلى الحبشة أسوة حين اجتمعوا وتشاوروا حول أمثل الصيغ للرد على الموقف الحرج.
7- يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتدعيم الثقة في الإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تَمَسُّ أساس الدين مجاراة لعرف سائد أو تيار جارف. وفي رفض جعفر السجود للنجاشي ـ كما فعل خصماه وكما يقضي العرف- أسوة في هذا السبيل.
8- تحتاج الأقليات المسلمة إلى حسن التعبير عن حقائق الإسلام الخالدة، ونظام قِيمه الإنساني الرفيع، كما فعل جعفر في خطبته البليغة التي أوجز فيها أمهات الفضائل الإسلامية، وأوضح الفرق بينها وبين الحياة الجاهلية. وبذلك لا يكسب المسلمون تعاطف الناس فقط؛ بل يكسبون الناس أنفسهم للالتحاق بركب التوحيد.
9- إن فن الإقناع وعلم العَلاقات العامة لهما دور يحسن الانتباه له؛ فالكلام الذي ختم به جعفر خطبته يدخل في هذا السياق: "خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نُظلَم عندك أيها المَلك". وبه نختم هذه الملاحظات التي نرجو أن يجد فيها طالب الحق ما يعينه على حسن تصور الحُكْم الشرعي في هذا الأمر، وتجد فيها الأقليات الإسلامية ما يرفع عنها الحرج، ويدفعها إلى مزيد من الإيجابية والتضحية في خدمة الإسلام وحمله إلى العَالَمين.
وبالله تعالى التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق
مواقع داعمة لنظرات تأسيسية في فقه الأقليات:
موقع صوت إيجورستان
المركز الإعلامي لكشمير المسلمة
لجنة شباب شرق أوربا
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
المرصد الإعلامي الإسلامي
شبكة كوسوفا المسلمة
وكالة الأنباء الإسلامية الدولية - إ
================
حكم أخذ القرض الربوي للحاجة والضرورة
س: يقيم في البلاد الأوربية أكثر من (25) مليون من الجالية الإسلامية، وإذا كان أغلبهم ممن انسلخوا عن دينهم، فإن عددًا كبيرًا منهم حريص على التمسك بدينه، ومعرفة أحكامه، ويلحق بهم أعداد متزايدة من مسلمة أهل البلاد الذين أقبلوا على الإسلام برغبة صادقة وحرص شديد، ويعاني أبناء الجالية من الشباب وعامة الراغبين في الدراسة الجامعية من مشكلة أن الدراسة الجامعية تحتاج إلى تمويل وكفالة مالية من قبل الحكومة، إذ أن غلاء المعيشة، وعدم قدرة الأبوين على تحمل تلك التكاليف، وطبيعة التركيبة الاجتماعية، تحتم على الشباب الاعتماد الكامل والمبكر على نفسه في نفقات دراسته، لهذا فإن الحكومة (في السويد ) قد قامت بإنشاء مؤسسة حكومية (وليست بنكًا أو مصرفًا تجاريًا) تقوم بدفع الأموال للطلبة الراغبين الدراسة في الجامعات والمعاهد والمدارس السويدية، وتتكون إعانة الطالب من قبل المؤسسة الحكومية من قسمين:
1- قسم هبة من الحكومة بلا شروط: وهو جزء يسير جدًا لا يكفي لتغطية مصاريف الدراسة والضروريات الحياتية من المسكن والمأكل وما إلى ذلك.
2- قسم قرض، وهو القسم الأكبر بحيث يتمكن الطالب من الانصراف الكامل إلى دراسته حتى وإن كان متزوجًا وعنده أطفال.
شروط قبول القرض:
1- القرض على أساس ربوي، فتكون الديون على الطالب بزيادة 10% سنويًا.
2- يلزم الطالب بدفع الدين بعد إكمال دراسته وحصوله على العمل.
3- يستقطع من راتب الموظف نسبة 5 % كقسط إلزامي لاسترداد الدين.
4- لا يطالب المدين بشيء إذا كان عاطلا عن العمل، أو كان دخله تحت خط الفقر.
5- عند موت المدين تسقط المطالبة بالدين فورًا.
كيف ينظر المسلمون في هذه البلاد إلى هذه المسألة:
1- بعضهم يأخذ الأصل، ويقول بحرمة أخذ القرض مطلقًا، وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه المسألة نفسها فقال بالتحريم بناء على الأصل.
2- بعضهم يجيزه للحاجة الشديدة لعموم أبناء المسلمين.
3- بعضهم ينزل إلى التفصيل التالي:
- يجب على المسلم البحث أولا عن إمكانية الحصول على منحة دراسية في بلد مسلم، أو كفالة دراسية من جهة ما، أو الحصول على مساعدة الأسرة والأقرباء، بالإضافة إلى الهبة الحكومية.(1/159)
- إن لم يتيسر ذلك يحاول الجمع بين الدراسة والعمل، بالإضافة إلى الهبة الحكومية بحيث يعيش بالكفاف.
- إن لم يتيسر له ذلك، ووجد نفسه في حاجة شديدة لأخذ القرض فيمكنه أخذ القرض حسب التفاصيل التالية:
1- يعزم عزمًا أكيدًا على رد رأس المال للجهة الدائنة، ولا يدفع ما زاد على ذلك من زيادات ربوية، ويعتبر شرط الربا في العقد باطلا وغير ملزم لكونه مسلمًا.
2- بما أن الدراسة تأخذ سنوات، ويكون القرض كبيرًا جدًا، بينما يكون التسديد بنسبة 5% من الراتب، فإن تسديد المبلغ الأساسي (دون الزيادات الربوية) يأخذ سنوات طويلة.
3- إذا مات الشخص سقطت التبعات القانونية للدين حسب شرط الدائن، وهذا يعني أنه لا تكون على المدين تبعات أخروية.
وهذه المسألة كلها مبنية على مسألة: هل الحصول على التعليم في مهنة ما يعتبر حاجة ضرورية، أو فرض كفاية لمجموع المسلمين في هذه البلاد وعددهم بالملايين؟ أم أن ذلك غير مهم بالنسبة لهم؟
وبتعبير آخر: إن الدراسة في المعاهد والجامعات هي السبيل الوحيدة (خاصة في أوربا ) للمهن الكريمة والحياة المستقرة والكسب الشريف، أما المهن الوضيعة، كالنزاح، والفراش، والكناس، والزبال، والبواب. .. إلخ، فتعرف بـ (مهن لا يشترط لها تحصيل دراسي).
فهل يقال للمسلمين في هذه البلاد: على أبنائكم العمل في المهن الوضيعة، أما المهن النافعة والمهمة فاتركوها لغيركم، فلا يكون لكم شأن في هذه البلاد إن بقيتم فيها، ولا فائدة لأمتكم إن رجعتم إليها؟
هذه صورة المسألة، راجين منكم التفصيل في جوابكم، مع ذكر مدارك الحكم، لتعم الفائدة والنفع بذلك؟
الاجابة…نرى والحالة هذه أن من استطاع الاستغناء عن هذا القرض الربوي وجب عليه الابتعاد عنه، ومن يستغني يغنه الله، ومن يستعف يعفه الله، وأما من اضطر إليه ولم يجد حيلة ولا وسيلة لإسقاطه فإن له أن يدخل فيه، ويكون ذلك ضرورة كالضرورة لأكل الميتة ونحوها، وإذا كان تركه يؤدي إلى إضاعة الأهل والبنين أو إلى العمل في المهن الدنيئة التي تسقط من قدر الإنسان ومنزلته، فإن ذلك من الضرورة في أخذ هذا القرض، وإن استطاع أن يأخذه في سلعة، كأن تشتري الدولة له سلعة وتبيعها عليه بزيادة في الثمن، وتحسمها من مكافأته أو من دخله فهذا أفضل. والله أعلم.
……
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
=============
حكم دراسة المسلم في المعاهد الكاثوليكية
السؤال…س: هل يجوز الالتحاق بالمدارس الكاثوليكية أنا أدرس في جامعة كاثوليكية، والعديد من أصدقائي من المسلمين أخبروني أنه لا يصح لي أن أدرس بها، علمًا بأني لا أُرْغَمُ على أخذ أيٍّ من المواد المتعلقة بالكاثوليكية، وأيضًا أُصَلِّي بالجامعة، فهل هناك مأخذ عليَّ لصلاتي هناك؟
الاجابة…
لا شك أن تلك المدارس فيها خطر كبير على المُسلم الذي يكون جاهلًا بالإسلام وتعاليمه؛ ذلك لأنه يتلقى تلك الدروس والمعلومات التي فيها إطراء ومدح للكُفَّار ولأديانهم وعقائدهم، وفيها غالبًا تعرُّض للإسلام وقدح في المُسلمين، أما إذا كان الطالب في هذه المدارس مُتمكِّنًا من معرفة عقيدة المسلمين، وعارفًا بأركان الإسلام، وبالحلال والحرام في الدين الإسلامي، واحتاج إلى تلك المدارس لتعلم صناعة، أو حرفة، أو معلومات خاصَّة، وواثقًا من نفسه بأنه لا يتأثر بدروسهم، ولا بمدرِّسيهم ، وأنه لا يُرغم على أخذ أي من المواد المتعلقة بالكاثوليكية؛ ففي هذه الحال نرى أنه لا بأس بالدراسة فيها، وإنما يُخاف على الجاهل الذي لا يعرف حِيَلَ الكُفَّار ومكرهم وخدعهم وبغضهم وحقدهم على المسلمين، فمن كان واثقًا من نفسه، ومُتَمَسِّكًا بالإسلام عقيدة وعملًا، فالغالب أنه لا يتأثر بعلومهم وأعمالهم، والله أعلم.
……
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
============
حكم تعليم أطفال المسلمين في مدارس الكفار
السؤال…س: سمعنا أنه يحرم تعليم أطفال المسلمين في مدارس الكُفار أتكلم عن الأطفال الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا (دار الكفر)، فيوجد مدارس للمسلمين، ولكن جميعها خاصة، وأقساطها غالية جدًّا، فما هو الحل بالنسبة للشخص الذي لا يستطيع أن يدفع أقساطا لولده في مدارس المسلمين ؟
الاجابة…(1/160)
إذا ترتب على دراستهم في مدارس الكُفَّار مفسدة كالخوف عليهم من الانحلال ، واعتناق دين النصارى، والزهد في دين المُسلمين، وتعظيم الكُفَّار واحترامهم، واحتقار أهل الإسلام وعلومهم، ونحو ذلك من الأخطاء، فنقول: يحرم تدريسهم في تلك المدارس الكُفرية، وبقاؤهم على طبيعة آبائهم أَوْلَى من تدريسهم ما يصير سببًا في خروجهم من دين الإسلام. أما إذا لاحظهم أولياء الأمور، وربَّوْهم على الإسلام، ودَرَّسُوهم بمدارس الكُفار قدر ما يتعلمون به اللغة العربية والأجنبية، وما يتعلمون به الكتابة والقراءة والحساب ونحوه؛ فإن هذا جائز، ولكن على أوليائهم أن يُلاحظوهم كل يوم، أو كل أسبوع، ويتفقَّدوا معلوماتهم، ويُحذِّروهم من العقائد السيئة، ويُنبِّهوهم على الكلمات الخاطئة، وعليهم أن يُحذِّروهم من الانخداع بدعاية الكُفَّار حتى يكونوا سالمين من العقائد السيئة، والملل الكُفرية، وكل هذا خاصٌّ بمن يعجز عن دفع الأقساط في مدارس المسلمين، والله أعلم.
……
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
=============
هل ينطبق حكم الديار على الأفراد؟
السؤال…س: هل ينطبق حكم الديار على الأفراد ؟
الاجابة…
حكم الديار إذا كان يظهر فيها الإسلام، ويتمكن من فيها من إعلان العبادة، والأذان، والصلاة، والصيام، والأعياد، وما أشبهها فتُعتبر بلادًا إسلامية، ولو كان فيها شرك، أو كفر. وأما إذا لم يقدر من فيها على إظهار دينه، وغلب على أهلها مُحاربة المسلمين، واضطهادهم، ومنعهم من تعلم القرآن، وتربية أولاد المسلمين على العقائد الكُفرية، فهي بلاد كُفر لا تجوز الإقامة فيها. والله أعلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
===========
روح الإسلام حب الله ورسوله
من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .
أما بعد، فيا عباد الله
إن الإسلام الذي شرَّفنا الله به، شأنه كشأن الإنسان، بل شأنه كشأن كل حيٍّ من الكائنات، لابدَّ فيه من جسم وروح، فما هو جسم الإسلام؟ وما هي روحه؟
جسم الإسلام الإيمان العقلي بوجود الله وبوحدانيته، وبالرسل والأنبياء جميعاً . وأما روح الإسلام فهي الحب: حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام، لايتحقق الإسلام إلا بجسم وروح، جسم الإسلام: اليقين العلمي والاعتقاد الفكري بالله عز وجل ورسله وكتبه، أما روح الإسلام فهي الحب .
والإنسان - أيها الإخوة - هل تتصورون أن يكون له وجود مفيد إذا انفصلت عنه روحه، وبقي جسداً بدون روح؟ كذلكم الإسلام لاقيمة له ولا أثر إذا كان مجرد اعتقاد يهيمن على العقل، يجب أن تعلموا هذه الحقيقة، ومن أجل هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لايؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحب شيء والإيمان العقلي شيء آخر، الإيمان بالعقل لايغني عن الحب الذي يهيمن على القلب، تماماً كما أن الجسد لايغني عن الروح، وعندما تحدَّث الله عز وجل عن صفات المؤمنين جعل الحب أول صفة من صفاتهم، قال: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 2/165] لم يصف الله المؤمنين باليقين العقلي، لم يصف الله المؤمنين بالإدراك الفكري وحده، على أن الإدراك لابد، واليقين الاعتقادي لابد منه، ولكن هذا كله جسد، ولابد أن تتسرب الروح بعد ذلك إلى الجسد حتى يتصف بالحياة، ولذلك ميّز الله عز وحل المؤمنين عن غيرهم بهذا الحب، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} .
عندما يتحقق هذا الحب إلى جانب اليقين الاعتقادي في كيان المسلمين تحلُّ مشكلاتهم كلها، وعندما يغيب الحب ويبقى الاعتقاد وحده موجوداً في طوايا الدماغ والفكر؛ فإن المشكلات تتكاثر ولن تجد لها حلاً أبداً .
ونحن اليوم - أيها الإخوة - نعاني من مشكلات كثيرة كما تعلمون . ولا أريد أفيض في ذكر هذه المشكلات، فكلكم يعرفها، ولكن أمرُّ بكم على عناوينها، من هذه المشكلات حقوقنا المهدرة المغتصبة، البرآء الآمنون في سربهم والذين يُقَتَّلون صباح مساء في كل يوم، يقطَّعون إرباً إرباً، تسلَّط عليهم الكلاب، مشكلة من أخطر المشكلات .
من مشكلاتنا التي نعاني منها: هذه التفرق، هذا التدابر الذي هيمن على العالم العربي والإسلامي، وصبغه بصبغة الذل والمهانة، حكام المسلمين هم ثولة التدابر، هم ثولة التخالف والتشرذم، مشكلة ثانية من المشكلات .(1/161)
من مشكلاتنا: أننا في كثير من الأحيان جعلنا من مبادئ الإسلام، وأنشطة الإسلام، وأحكام الإسلام مطايا ذليلة لمصالحنا، جعلنا من قيم الإسلام ومبادئه أدوات ووسائل نستخدمها من أجل مصالحنا الدنيوية المختلفة، مشكلة ثالثة، أصبح الدين خادماً للدنيا .
هذه طائفة من مشكلاتنا الكبيرة التي يعاني العالم العربي والإسلامي منها، من أين نبعت هذه المشكلات - ونحن مسلمون -؟ نبعت هذه المشكلات من أن إسلامنا غدا جسداً بدون روح، إسلامنا اليوم غدا فكراً يتألق في العقل، غدا فلسفة يتحرك بها اللسان، غدا كلمات تكتب وخطباً تلقى، أما الحب فغائب، وقد قلت لكم: إن الحب هو روح الإسلام .
سبب تفاقم هذه المشكلات - أيها الإخوة - أن إسلامنا غدا جسداً بدون روح، وروح الإسلام كما قلت لكم: محبة الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أريد أن أضعكم أمام الأدلة على البدهيات، البدهيات لاتحتاج إلى أدلة، كم وكم يتحدث بيان الله عن الحب، ويتحدث البيان الإلهي عن اعتزاز المولى بعباده الذين يحبهم ويحبونه، انظروا إلى قوله: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 5/54] ما قال: فسوف يأتي الله بقوم حشيت عقولهم بالحقائق الإيمانية، الحقائق الإيمانية جسد لابد منه، لكن ما هي قيمة الجسد إذا انفصلت الروح عنه .
والرعيل الأول من المسلمين-من أصحاب رسول الله ومن تبعهم- ما تحققت على أيديهم معجزات النصر والوحدة والتوفيق الإلهي لمجرد اليقين العقلي بمبادئ الإسلام، لكنَّ تلك المعجزات تحققت على أيديهم بسبب الحبّ الذي هيمن على قلوبهم، ذلك الحب الذي صغّر الكبير العظيم من أمور الدنيا، وكبّر الصغير الصغير من أمور الغيب والآخرة التي نحن مقبلون عليها، الحب هو الذي قرَّب لهم البعيد، وليَّن لهم الحديد، وجعل الصعب سهلاً، وجعل المستحيل ممكناً، ذلك هو روح الإسلام الذي به انتصر ذلك الرعيل الأول .
ذلك الحب غاب، غاب اليوم عن أفئدة المسلمين، ولما غاب الحب عن أفئدة المسلمين فاضت في تلك الأفئدة محبة أخرى: محبة الدنيا، محبة المال، محبة الشهوات، محبة الرئاسة، محبة الكبرياء والعصبية، والإسلام بقي محصوراً ومتراجعاً متراجعاً إلى الدماغ فقط، ومن هنا نبعت هذه المشكلات أيها الإخوة .
نحن في كثير من الأحيان نتحدث عن وحشية هؤلاء الصهاينة الذين غابت مشاعر الإنسانية من بين جوانحهم، ونتحدث عن الجرائم التي يمارسونها، وعن العالم الغربي الذي يصفق لجرائمهم، ونقف عند هذا الحد . وأنا أقول: ليست هذه هي المشكلة، العدو عدو، ولاتفاجأ بما ترى من إفرازات عداوته، هذا العدو الحاقد لاتفاجأ بنتائج حقده، شيء طبيعي، ولكن تجاوز هذه الظاهرة إلى الأسباب، ما هي الأسباب التي جعلت هؤلاء الصهاينة الأقزام بالأمس مردة عاتين اليوم؟ نحن، الجريمة، بدأت من عندنا نحن، وظهرت آثارها عندهم . الجريمة جريمتنا، ما هي جريمتهم، التفرق، التشرذم، نظر هؤلاء الذين يقطعون الأوصال، ويقتّلون الصغار والبرآء، نظروا إلى حكام العالم العربي فوجدوا أن كلاً منهم مشغول بحظ نفسه، معرض عن الجسور التي ينبغي أن تصل بينه وبين إخوانه، يتصافحون نفاقاً، ويتظاهرون بالتضامن كذباً وزوراً، فإذا تفرقوا عكف كل واحد منهم على خصائصه ومصالحه وقضاياه، فرغت أفئدتهم من حب الواحد، وهيمنت محبة الفاني على قلوبهم، ففرقتهم الدنيا ومحبتها، وجعلتهم يتنافسون، بل يتهارجون ويتخاصمون، ونظر أولئك الذين كانوا أقزاماً أذلة بالأمس إلى واقع المسلمين وحكامهم اليوم فسلكوا هذه المسالك، إذ لم يجدوا ما يخيفهم، ولم يجدوا ما يوقفهم عند حدودهم، من أين جاءت هذه المشكلة، جاءت هذه المشكلة من غياب روح الإسلام، روح الإسلام ما هي أيها الإخوة؟ حب الله عز وجل .
أجل إن أصغيت إلى ما يقوله هؤلاء الحكام؛ تجدهم يتكلمون بالإسلام، وتجدهم يتباهون به، ويرفعون الرأس عالياً بمبادئه، هذا حديث الفكر، أما القلب ففارغ عن محبة، وعاء فرغ نهائياً من محبة الله ثم فاض بمحبة الأغيار، بمحبة الدنيا وما إلى ذلك، غيبوبة محبة الله التي هي روح الإسلام هي التي فرقتهم، ومن ثَمَّ فهي التي بعثت هذه المشكلة فيما بيننا، سلبتنا حقوقنا، جعلت الاغتصاب أمراً سهلاً بالنسبة لهؤلاء الناس، جعلت التقتيل والتنكيل أشبه ما يكون بشرب الماء البارد عل الظمأ، أجل .(1/162)
مشكلة اتخاذ الدين مطية للدنيا، مشكلة اللعب بالدين ورقة من أجل الوصول إلى المغانم الدنيوية مردّها إلى غياب هذا الحب، أَنظر - أيها الإخوة - إلى كثير من الأنشطة الإسلامية، وأتأمل فأجد هذه الأنشطة تستخدم وتسخّر للمصالح، تستخدم وتسخّر للمغانم الدنيوية، ماذا أقول أيها الإخوة؟ كنا في صدر الإسلام، ونحن نتأمل في ذلك التاريخ الأغر، نجد أن الفتاوى أثقل ما تكون على لسان الإنسان المؤمن الخائف من الله عز وجل . يقول أبو بكر: ((أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)) . وهو من؟ أبو بكر . يأتي رجل من أقصى المغرب إلى دار الهجرة، إلى المدينة المنورة، فيلقى إمام دار الهجرة مالكاً رحمه الله تعالى، يقطع مسافة ستة أشهر إلى الإمام مالك وقد حمل إليه طائفة من الأسئلة والاستفتاءات، سأله عنها، أجابه عن طائفة يسيرة منها وقال له عن باقي تلك الأسئلة: لا أعلم، لا أعلم، لا أعلم . قال له الرجل: جئتك من مسافة ستة أشهر لأسمع جواب هذه الأسئلة التي كلفت أن أسألك عنها فماذا أقول إن عدت إلى هؤلاء الذين أرسلوني إليك؟ قال: قل لهم يقول مالك: لا أعلم . نعم . هكذا كان الدين ثقيلاً، وهكذا كانت مهابة الباري عز وجل على القلوب المحبة لله عظيمة جداً، ومن ثَمَّ فكان لسان المسلم يتلجلج عندما يستفتى قبل أن يفتي .
واليوم ماذا نجد؟ نجد الفتاوى التي تسوّق حسب الطلب، نجد الفتاوى العجيبة التي تغيّر وتبدّل من دين الله عز وجل بكل بساطة وبكل يسر، وأنظر إلى ذلك الرعيل الذي كان يهاب ويرهب من اقتحام الفتوى ببيان أحكام الله عز وجل، وأقارن بأناس لايبلغ علمهم معشار أولئك العلماء يغمض أحدهم عينيه ليقتحم الجواب بكل بساطة، وليت أنه جواب يحافظ على دين الله، بل هي أجوبة تمزق شرع الله سبحانه وتعالى .
ما سمعنا في صدر الإسلام، وخلال الأجيال المتصرمة إلى يومنا هذا بما يسمى: (فقه الأقليات) ما سمعنا في دين الله أن في شريعة الله فقهين: فقهاً للمسلمين في بلادهم الإسلامية، وفقهاً آخر للمسلمين عندما يوجدون في بلاد أخرى غير البلاد الإسلامية، واليوم نفتح أعيننا لنرى ميلاد فقه آخر وجديد اسمه: (فقه الأقليات)، ونتأمل في فقه الأقليات هذا، وإذا بأحكام الشريعة الإسلامية كلها تتبخر رويداً رويداً رويداً . أصبح نكاح الكافر من المرأة المسلمة نكاحاً صحيحاً وهو النكاح الباطل في نص كتاب الله سبحانه وتعالى وما اتفق عليه الأئمة . أصبح الربا المحرم حلالاً، أصبحت المختنقة ذبيحة مذكاة تؤكل، أصبح التعامل مع الخمور في أماكن بيع الأمتعة ونحوها شيئاً سائغاً، ذلكم مثال تفقه الأقليات . وإن المسلم ليتساءل أيها الإخوة: إذا كان هناك فعلاً فقه اسمه (فقه الأقليات) ففيم هاجر المسلمون في صدر الإسلام من بلاد الكفر ما دام فقه الأقليات يقول لهم: ابقوا حيث أنتم وهاهو ذا فقه الأقليات يعطيكم حق البقاء في دور الكفر . أجل، كان ينبغي أن يبقوا حيث هم في دار الكفر، ولايهاجروا، وأن يلتجئوا إلى فقه الأقليات الذي يبيح لهم كل محرم، ويفتح لهم السبيل إلى كل ماتتشهاه قلوبهم ونفوسهم . لكنهم هاجروا إلى حيث لايبدلون أحكام الله شروى نقير، وكان رسول الله في مقدمتهم .
واليوم ننظر وإذا بأحكام الشريعة الإسلامية - بسرعة غريبة جداً - تتبدل ثم تتبدل ثم تتبدل . لماذا يحصل هذا؟ لأن روح الإسلام غابت، وأعود فأقول لكم: ماهي روح الإسلام أيها الإخوة؟ هي حب الله، حب الجليل، وتحقير القليل . حب الجليل هو الله، وتحقير القليل ألا وهي الدنيا، أنا عندما تغيب عن مشاعري محبة الله، ما الذي يحل محلها؟ محبة الشهوات، الأهواء، وعندئذ أستعمل الإسلام مركبة لتوصلني إلى الغنى بعد الفقر، لتوصلني إلى الرئاسة، لتوصلني إلى إرواء مشاعر العصبية، لتوصلني إلى أغراضي الدنيوية، أركب مطية الإسلام لتوصلني إلى هذه الأهداف، هذه المشكلة الأخرى، أيضاً سببها غياب الحب .
أيها الإخوة
لعلكم تعرفون الحديث الذي يرويه مالك في موطئه وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مرة إلى البقيع يسلم على أهل البقيع ومعه ثلة من أصحابه، فلما سلَّم على أهل البقيع قال: ((وددت لو أني رأيت إخواني)) قال له أحدهم: ألسنا إخوانك يا رسول الله! قال: ((بل أنتم أصحابي، وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد)) .(1/163)
اللهم إنا نسألك بمعاقد العز من عرشك أن تجعلنا من إخوان رسول الله الذين تشوّق إليهم ولم يرهم، ((بل أنتم إخواني وأصحابي أولئك الذين لم يلحقوا بعد، وسأكون لهم فرطاً على الحوض)) سأستقبلهم على الحوض . قال له قائل: أَوَ تَعرفُهم يارسول الله؟ قال: ((أرأيتم لو أن رجلاً له خيول غرٌّ محجلة - ذات أسورة بيضاء على قوائمها وذات لطعة بيضاء على جبينها - في خيول دُهم بُهم - أي سود - أفكان يعرفهم؟)) قالوا: نعم . قال: ((فأنا أعرفهم غراً محجلين من آثار الوضوء)) لم يأت محل الشاهد بعد من هذا الحديث، قال بعد ذلك: ((ألا ليزادَنَّ رجال عن حوضي - أي ليطردن رجال عن حوضي - كما يزاد البعير الضال . فأقول: ألا هلم، ألا هلم - فيقال: إنك لاتدري كم بدّلوا من بعدك، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً)) .
متى يتزلزل فؤاد الإنسان خوفاً من أن يكون من المبدِّلين؟ عندما يكون فؤاد هذا الإنسان مهتاجاً بمحبة الله عز وجل، عندما يكون هذا الفؤاد فياضاً بتعظيم الله سبحانه وتعالى، في هذه الحالة وأنا أسمع كلام رسول الله هذا، كيف يمكن أن يتحرك لساني بفتاوى كيفية تسوّق حسب الطلب أيها الإخوة؟ كيف؟ دواء واحد إن غاب لا والله لن تحل مشكلاتنا أجمع . مهما طرقنا الأبواب، ومهما تحايلنا لحلها، ومهما سلكنا السبل . ما هو هذا الدواء؟ هذا الدواء هو أن نوجّه أفئدتنا بالحب إلى قيوم السماوات والأرض، الدواء هو أن تسري الروح في جسد الإسلام، جسد الإسلام اليقين العقلي هذا هو الجسد، وحب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو روح هذا الجسد، فإذا لم يتحقق هذا الحب مشكلات فلسطين لن تُحَل، لأن الوحدة لن تتحقق، والتضحية في سبيل الإسلام عقيدة وأحكاماً وشرعة ومنهاجاً لن تتحقق، لأن الحب هو السبيل إلى ذلك كله، ولعلكم تقولون: ومن أين نأتي بهذا الحب؟ سؤال من أغرب الأسئلة! عجبت لمن عرف الله ثم يقول: كيف أحب الله؟! عجبت لمن عرف أن حياته من الله، ورغد عيشه من الله، عافيته من الله، رقاده من الله، يقظته من الله، طعامه من الله، شرابه من الله، الذي يجعله يزدرد اللقمة هو الله، والذي يجعل هذا الطعام يتمثل عافية في جسده وكيانه هو الله، يعلم هذا كله ثم يقول: كيف السبيل إلى أن أحب الله؟! ويحك أوحش أنت؟! ((جبلت النفوس على حب من أحسن إليها)) . من هو المحسن؟ كل الدنيا تذوب أمام هذا السؤال، ويتجلى محسن واحد: هو الله عز وجل، الذي يعلم هذه الحقيقة يعشق الله، الذي يعلم هذه الحقيقة لايرى في الكون إلا مكوِّنه ألا وهو الله سبحانه وتعالى، ياعجباً! كيف نغيب عن لذة هذا الحب؟! ياعجباً! كيف ابتعدنا عن شُهْد هذا الحب؟! ويسأل السائل بعد هذا قائلاً: كيف السبيل إلى أن أحب الله؟!
اللهم إنا نلتجأ إليك، التجاء العبد الضارع الذليل، اللائذ ببابك الجليل، أن تملأ أفئدة عبادك المسلمين بالحب لك، وأن تدخل ترياق حلِّ مشكلاتهم بإصلاح أفئدتهم، وأن توجه قلوبهم هذه إليك يا أكرم الأكرمين، وأن تنظفها وتُخلِيَها من محبة الأغيار .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم .
============
فقه الأقليات المسلمة
محمد بشارى- فرنسا
رئيس الفيدرالية الإسلامية- باريس
تعريف المصطلحات
1- مصطلح " الأقلية "
عندما نتطرق إلى كلمة أو مصطلح "الأقلية" يتبادر إلينا مباشرة الكلمة أو المصطلح المتضاد أو النقيض، فتأتى كلمة"الأغلبية" أو مصطلح "الكثرة "، مباشرة لفهم مدلول الكلام عن "الأقلية" مطلقا، لكن الكلمة أو المصطلح قد يأخذ عدة تفاسير ومعانى بل ووظائف- كما يقول علماء اللغة- مختلفة تارة، ومتباينة تارة أخرى، لذا فكلمة أو مصطلح الأقلية تختلف معانيه حسب تداوله ووظائفه.
(1) مفهوم الأقلية فى القرآن:(1/164)
إذا كانت "الأقلية، تشعر ب "الضيق " و "التضيق " وعدم وضوح المستقبل فإن القرآن الكريم عندما يتناول مصطلح "الأقلية" يعطيه بعدا رساليا مرتبطا بمدى إقدامه على خط التدين ممارسة وفهما وسلوكا وحالا ليتجسد فى الفئة الناجية من النار والمبشرة بالنصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) (البقرة 249) بل زكى "القرآن الكريم على رجل واحد- هو سيدنا إبراهيم عليه السلام- عندما أنزل الله عليه الوحى وأمره بتخليص أمته من عبادة الطواغيت إلى عبادة إله واحد، وهو وحده مستعينا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى:( إن إبراهيم كان أمة)( النحل 120) فقرن تعالى عمل إبراهيم- عليه السلام- بعمل وجهد أمة كاملة والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول:" تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة" (1). وفى المقابل تجد تعامل القرآن الكريم مع المفهوم المضاد للأقلية- وهو الأكثرية عددا- بدعوة المسلمين إلى الحذر من الانخداع بمظاهر القوة وعلى رأسها العدد والكثرة القائمة على غير نهج الله القائم على الحق والعدل، بل قد جعل سنة الله فى خلقه القلة، فخلق الكون ودأب فى الأرض دون الكواكب الأخرى فى الحياة، وهيأ للإنسان اليابسة دون البحار والمحيطات (وهى تمثل ثلث الأرباع من الكرة الأرضية) ليعيش فيها ويتوالد فهدى البعض من الناس وضلت أنفس طريقها فاختارت- طوعا- مسالك ما أتى الله بها من سلطان، وجعل درجة الإيمان بعد درجة الإسلام ليجتهد المؤمنون. داخل دائرة مجتمع المسلمين أكثر، بل ليصطفى الحق تعالى رجالا من المؤمنين لأنهم صدقوا القول، صدقوا الله فكان وعده تعالى بالجنة.
ويأتى التحذير واضحا( وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام 116) فيذم القرآن الأكثرية القائمة على الضياع، ويحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من الذل، فيقول: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟. فقال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن" فقال قائل: "يا رسول الله ! وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت "(2).
فانفرد الإسلام بمعيار يخالف فيه جميع النظم القديمة والحديثة والتى تقوم فى نظرياتها- فقط على مقاييس العدد والأكثرية- فالنوعية أساس كل بناء حضارى.
)ب) الأقلية فى الأعراف الدولية الحديثة:
أخذت كلمة الأقلية حظها- ولا تزال- فى جميع المعاهدات الدولية والمحلية بل والقطرية لتحميها من الانقراض وتحقيق مظاهر وجودها، فلا تكاد تخلو كل الاتفاقيات الثنائية بين البلدان- خصوصا بين الشمال والجنوب- من قضية الأقليات لتحمى كل بلد مصدر للهجرة من رعاياه (الأقلية) فى هذا البلد المضيف، فظهرت عدة مؤسسات وقتية للأقليات انطلاقا من القواعد المشتركة لهذه الطائفة- الأقلية- من حيث خصوصياتها: العرقية- القومية- اللغوية- الدينية أو المذهبية- السياسية أو الاجتماعية أو اللوبية أو الفكرية..
فجاءت حماية الأقليات فى المواثيق الدولية وعلى رأيها الخاص بحقوق الإنسان، فالمادة الثانية من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان تنص على أنه: "لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة فى هذا الإعلان دونما تميز من أى نوع ولاسيما التمييز فى العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأى سياسيا أو غير سياسى أو الأصل الوطنى أو الاجتماعى أو الثروة أو المولد أو أى وضع آخر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسى أو القانونى أو الدولى للبلد أو الإقليم الذى ينتمى إليه الشخص سواء كان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية أم غير متمتع بالحكم الذاتى أم خاضعا لأى قيد آخر على سيادته، فالمواد هى كثيرة التى تؤمن للأقليات حياة مثلها مثل الأغلبية، فمن الحقوق الموكولة لكل إنسان:
* الحق فى الحصول على الجنسية ولا يجوز حرمان أى شخص من جنسيته، ومن حقه فى تغيير جنسيته (المادة15).
* الحق فى الزواج وتكوين أسرة ودون أى قيد يرجع إلى العرق أو الدين أو الجنسية (المادة 16).
* حق التملك (المادة 17).
* حق العقيدة (المادة 18).
* حق الرأى والتعبير (المادة 19).
* حق الاشتراك فى الاجتماعات والجمعيات السلمية.
* الحق فى الضمان الاجتماعى (المادة 22).
* الحق فى العمل وحرية اختيار العمل الذى يناسبه (المادة 23).
* حق الملكية الفكرية (المادة 27).
* الحق فى التعليم.
إلى غير ذلك من النصوص التى تكرس مبدأ المساواة والحق فى عيش مناسب وحرية ممارسة الشعائر التعبدية والوقوف ضد جميع ألوان التمييز العنصرى فكانت إصدارات منها:
1- إعلان الأمم المتحد للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى القرار رقم 1904 ( 0 8 1) سنة 1963م ثم 965 1م.
2- الاتفاقية الدولية لقمع جريمة التمييز العنصرى والمعاقبة عليها قرار رقم 3068 (280) سنة 1973 م.
3- اتفاقية منع التمييز فى مجال التعليم- المؤتمر العام لليونسكو فى ديسمبر 1960م .(1/165)
4- اتفاقية منع التمييز فى مجال الاستخدام والمهنة، المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية يونيو 1985م.
5- الاتفاقية الخاصة بالقضاء غلى أشكال التمييز ضد المرأة، الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ديسمبر
1979م.
6- الاتفاقية الخاصة بالمساواة فى الأجور؛ المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية فى يونيو 1951م.
7- إعلان بشأن العنصر والتمييز العنصرى. المؤتمر العلم لليونسكو نوفمبر
8- إعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائم على أساس الدين أو المعتقد.
9- إعلان بشأن المبادئ الأساسية الخاصة باستخدام وسائل الإعلام.
فى دعم السلام والتفاهم، وتقرير حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية؛ المؤتمر العام لليونسكو فى نوفمبر 1978م(3).
2- مصطلح الهجرة:
الهجرة هى حركة تتقل من مكان معين إلى مكان آخر أو من حال إلى حال آخر وهى يذلك مرتبطة بدوافع مشروعة ومقيدة بضوابط شرعية. فالهجرة شرعت فى الإسلام حفاظا على الدين والنسل والنفس والعرض والمال وهروبا من الظلم، قال الله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء: 97-99).
وكانت أول هجرة قام بها المسلمون هى من مكة المكرمة- ويحكمها كفار قريش- إلى أرض الحبشة- ويحكمها الملك النجاشى المسيحى- فارين طالبين اللجوء- السياسى من أرض غير إسلامية ولا عربية، وينتشر الإسلام وتأخذ الهجرة بعدا روحيا آخر. فعوض الانتقال من أرض إلى أرض.
أخذت الهجرة تأخذ مسار التحول النفسى من حال إلى آخر. وفى حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " (4) وهذا مصداق لقوله تعالى (والرجز فاهجر) (المدثر: 5 ).
وبهذا تكون الهجرة دعوة وحركة وجهادا بالانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام أو الأمان، وبهذا فالهجرة ليست حركة سلبية هروبية انسحابية من الموقع، وإنما يتحدد حكمها بحسب الظروف، فقد تكون واجبة عند المحاصرة الكاملة وانسداد قنوات الحركة واستحالة الاستجابة والدعوة، عندها لابد من
التفكير بمواقع أخرى، وإجمالا فإن لكل حالة حكمها، ولكل هجرة دوافعها وأساليبها وإن اختلفت الأسباب تبقى الأحكام الشرعية قائمة على كل نازلة.
لهذا ذهب العلماء إلى تقسيم الأرض إلى دار حرب ودار سلم وجعلوا لكل دار أحكام وفتاوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال وبعد:
فهذه رسالة موجهة من أحد فقهاء مراكش إلى الموربسكين الذين يسميهم الغرباء، وفيها نصائح لهم تتعلق بتمكينهم من ممارسة شعائر الإسلام خفية رغم الاضطهاد، وتاريخها أول رجب سنة 910هـ الموافق 28 تشرين الثانى سنة 1504م.
"الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، إخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم فيما لقوا فى ذاته. وصبروا النفوس والأولاد فى مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه فى الفردوس الأعلى من جناته، وارثوا سبيل السلف الصالح فى تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراق ، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.(1/166)
بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد بن بوجمة المغرواى ثم الوهرانى كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلا من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء بحسن الخلقة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار، ومؤكدا عليكم فى ملازمة دين الإسلام آمرين به من بلغ من أولادكم إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذكر الله بين الغافلين كالحى بين الموتى، فاعلموا أن الأصنام خشب منجور وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع وإن الملك ملك الله ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه واصطبروا لعبادته فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم والغسل من الجنابة ولو عوما فى البحر وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط فى الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحا بالأيدى للحيطان، فان لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد إلا أن يمكنكم الإشارة بالأيدى والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجى فى شرح الرسالة لقوله عليه الصلاة والسلام " فأتوا منه مما استطعتم ". وإن أكرهوكم فى وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله، وان كان لغير القبلة تسقط فى حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب خمر فاشربوه لا بنية استعماله، وان كلفوا عليكم خنزيرا فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه. وكذا إن أكرهوكم على محرم، وإن زوجوكم بناتهم فجائز لكونهم من أهل الكتاب، إن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وإنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم وتتصدقون بالباقى تبتم إلى الله تعالى، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئنى القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك.
وإن قالوا اشتموا محمدا فإنهم يقولون له فاشتموا محمدا، تأويل أنه الشيطان، أو محمد اليهود فكثير بهم اسمه، وإن قالوا عيسى ابن الله فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أى عبد اللاه مريم معبود بحق، وان قالوا المسيح ابن الله فقولوها إكراها، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزمه أن يسكنه أو يحل له، وان قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذى تزوجها فى بنى إسرائيل ثم فارقها قبل البناء، "قاله السهيلى فى تفسير المبهم من الرجال فى القرآن" أو زوجها الله منه بقضائه وقدره، وإن قالوا عيسى توفى بالصلب فانووا من التوفية، والكمال والتشريف من هذه وإماتته وصلبه، وإنشاد ذكره وإظهار الثناء عليه بين الناس وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو، وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به وأنا أسأل الله أن يدير الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرا بحول من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام، ونحن نشهد لكم بين يدى الله أنكم صدقتم ورضيتم به. ولابد من جوابكم والسلام عليكم جميعا بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة عرف الله".
فتوى فى صورة سؤال وجهها أحد الفقهاء إلى فقيه المغرب محمد بن يحيى التلمسانى حول البقاء فى الأندلس للمسلمين أو المهاجرة إليها.
لما سقطت حواضر الأندلس بيد الأسبان هاجر قسم كبير من أهلها إلى المغرب ولكنهم لم يجدوا فيها ما كانوا يأملون من حياة سهلة ورغدة واحترام، وحنوا للعودة إلى أوطانهم، وقد سمعوا إن ملوك قشتالة يتسامحون مع من بقى من المسلمين من رعاياهم فتمنوا العودة إلى ديارهم القديمة. وقد وجه أحد الفقهاء سؤالا فى صورة فتوى يطلب جوابها إلى أحد رجال الدين البارزين هو الشيخ التلمسانى يطلب رأيه فى الموضوع .
السؤال:
ما حكم من تمادى من المسلمين فى ذلك؟ وما حكم من عاد منهم إلى دار الكفر بعد حصوله فى دار الإسلام؟ وهل يجب وعظ هؤلاء أو يعرض عنهم ويترك كل واحد منهم لما اختاره؟ وهل من شرط الهجرة ألا يهاجر أحد إلا إلى دنيا مضمونة يصيبها عاجلا عند وصوله جارية على وفق غرضه حيث حل من نواحى الإسلام إلى حلو أو مر أو وسع أو ضيق أو عسر أو يسر بالنسبة لأحوال الدنيا. وإنما القصد بها سلامة الدين والأهل والولد، والخروج من حكم الملة سعة، ونحو ذلك من أحوال الدنيا؟
جواب السؤال السابق بصورة فتوى من الشيخ أحمد بن يحيى التلمسانى الونشريشى عن هذه المسائل.
1- إن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة. وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل. وهو يؤيد قوله بطائفة من الأحاديث النبوية.(1/167)
2- ولا يُسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية على معاقلهم وبلادهم، ولا يتصور العجز عنها بكل وجه وحال لا الوطن ولا المال فإن ذلك كله ملغى فى نظر الشرع. وأما المستطيع بأى وجه وحال، وبأى حيلة تمكنت فهو غير معذور وظالم نفسه إن أقام، والظالمون أنفسهم إنما هم التاركون الهجرة مع القدرة عليها، حسبما تضمنه قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) والمعاقب عليه إنما هو من مات مصرا على هذه الإقامة.
3- وتحريم هذه الإقامة تحريم مقطوع به من الدين. كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وقتل النفس بغير حق.. ومن جوًّز هذه الإقامة واستخف أمرها واستسهل حكمهما فهو مارق من الدين ومفارق لجماعة المسلمين وممجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومنبوذ بالإجماع الذى لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله قال زعيم الفقهاء القاضى أبو الوليد بن رشد رحمه الله فى أول كتاب التجارة إلى أرض الحرب من مقدماته: " فرض الهجرة غير ساقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، وأجاب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب. أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهجره ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم ".
فإذا كانت الأحكام الفقهية :
(أ) فقه الأولويات
الذى هو وضع لكل شىء فى مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم. أو لا يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير.
تتباين من فقيه إلى آخر، ومن عصر إلى عصر ومن زمان إلى زمان آخر ومن حالة إلى حالة أخرى، كيف إذن لا نختلف حول موضوع وجود المسلمين خارج الدولة، أو الدار الإسلامية، وهذا الموضوع ليس مقصورا على فقهاء أمتنا، ولقد ظهرت النوازل الأندلسية بعد سقوط غرناطة 1492، فطلب المسلمون الباقون تحت حكم النصارى بالأندلس من فقهاء مراكش الاستفهام فى مسألة تتعلق مع الواقع الجديد للإسلام كأقلية بشرية وبحكم أكثرية غير إسلامية فظهر فقه "النوازل " وأشهر رسالة هى :
" رسالة القيروانى" و "النوازل الفاسية". (الوثيقة)، كما عانى المسلمون- ولا زال بعضهم إلى الآن- فى أوروبا الشرقية الويلات بعد سقوط الخلافة العثمانية تارة مع الحقد الصليبى، وتارة مع الإلحاد الشيوعى، وتارة أخرى مع المؤامرة الدولية لاستئصال الهوية الدينية والحضارية للمسلمين بأرض أوروبا "المسيحية واليهودية" فكان لزاما للمشيخات الإسلامية أن تفتح باب الاجتهاد للغوص فى القضايا المستحدثة التى تعوق الأقليات المسلمة بأوروبا الشرقية.
(ب) فقه الأقليات:
إن وجود فقه خاص بالأقليات المسلمة ليس طرحا جديدا وإن اختلفت المسميات، فلقد ظهر- كما ذكرنا آنفا- فقه "النوازل " وكيف تعامل فقهاء الأمة مع الواقع الجديد للمسلمين فى القرن الخامس عشر، كما ظهرت اجتهادات العلماء المختلفة حول الاستعمار الذى آلت إليه جموع العالم الإسلامى والقضايا المتعلقة بذلك.
فظهرت " جمعية العلماء" سنة 1930م بالجزائر تحت لواء الشيخ عبد الحميد بن باديس فتطرقت الجمعية إلى موضوعات تتعلق بوجود المستعمر الفرنسى: كالزواج بالفرنسية، وقضية التجنس بالجنسية الفرنسية والمشاركة مع المستعمر فى أعياده وحفلاته إلى غير ذلك.
وتأتى الحرب العالمية الثانية فتجبر أوروبا، على فتح أبوابها أمام اليد العاملة خاصة المسلمة. وكانت هجرة المسلمين إلى أوروبا ليسوا فاتحين، وإنما طالبين خبزا وقوتا، وتارة أخرى طالبين لجوءا سياسيا، وتارة طالبين علما وخبرة.
وظهرت المصاعب والتحديات أمام اندماج المسلمين فى الحياة اليومية بأوروبا خاصة مع ظهور الجيل الثانى والثالث فظهرت الحاجة إلى "فقه المغتربين" أو " فقه المهاجر" أو "فقه الأقليات " الذي هو فقه نوعى يراعى ارتباط الحكم الشرعى بظروف الجماعة، وبالمكان الذى تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة يصلح لها ما لا يصلح لغيرها. ويحتاج متناوله إلى ثقافة فى بعض العلوم الاجتماعية عامة. إلى علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعلاقات الدولية خاصة.
فعقدت بعض الندوات واللقاءات، وكتبت بعض المقالات حول هذه المسألة وطرح إشكالية تأسيس هذا النوع من الفقه، وهل هو فقه بالمعنى التقليدى متبعا لمذهب معين؟ وهل يمكن عملية إسقاط الفتوى من الأكثرية إلى الأقلية ومن الأقلية إلى الأكثرية ؟ وما هى شرعيته؟ أسئلة يضعها قادة العمل الإسلامى فى لهذه الأقليات للصعوبات اليومية التى تعترض طريق توطين الإسلام عبر عمل مؤسسى ، ومنها يمكن استعراض بعض الإشارات المهمة: إن ما يقرب من ثلث المسلمين اليوم يعيشون خارج دائرة العالم الإسلامى الجغرافية (450 مليون مسلم من مجموع ما يقرب من مليار و 350 مليون نسمة).(1/168)
ولعل المشكلة الأساسية التى تواجه الأقليات المسلمة هى عملية "الاجتهاد" بمفهومه العام الذى هو محاولة تنزيل النص الشرعى، مصدر الحكم فى الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.. ومحله دائما المكلف وفعله. وهذا يتطلب أول ما يتطلب بعد فقه النص، النظر إلى الواقع البشرى وتقويمه، من خلال النظر للنص وكيفيات تنزيله فى ضوء هذا الواقع البشرى (6).
الأقليات المسلمة نحو دار الدعوة:
عندما يقسم علماء الأمة إقامة المسلم إما بدار الإسلام أو دار الكفر وجعلوا وصفهم إلى هذه الدار أو الأخرى مبينا للانتماء العقدى لأهل كل دار. فقالوا عن دار الإسلام: هى المجتمع الذى يؤمن بالإسلام عقيدة وينتهجه شريعة "عقيدة نتجت عنها شريعة، انبثق عنهما سلوك ونظام يقومان الحياة". وقالوا عن "دار الكفر" هى الدار التى تكون فيها الغلبة لغير المسلمين، أو التى تظهر فيها أحكام الكفر، ولا يمكن إظهار أحكام الإسلام فيها (7).
وقسموا دار الكفر إلى دارين:
(أ) دار الحرب: وعرفها علماء الإسلام بأنها، "هى الدار التى يكون بينها وبين ديار المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، ولا يربطنا معها عهد ولا صلح . فهذه الدار ليست فى حالة سلم مع المسلمين بسبب موقفها العدائى الصارخ، كاعتداء عسكرى فعلى، أو عدوان على الدعاة، أو إعانة من يحاربنا ويسلب أرضنا، وما شابه ذلك.
ومن هنا أوجب الله علي المؤمنين اتخاذ الحيطة والحذر للذود عن حياض الإسلام وأهله فى أى بقعة من بقاعه التى تتحدد بوجوده فيها، كنظرة الشعوب غير المسلمة إلى هذا الدين وأتباعه، نطره عدائية ماكرة حاقدة (8)، ودار الحرب دار إباحة بإجماع الفقهاء (9).
(ب) دار العهد: المعاهدة هى موادعة المسلمين وأهل الحرب مدة معلومة على ترك القتال- بعوض وبغير عوض- وعلى شروط يلتزمونها، وأجمع الفقهاء على أن أهل الهدنة هم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا فى دارهم- سواء أكان الصلح على مال أو بدونه- لا تجرى عليهم أحكام الإسلام كما تجرى على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة (10) ، وإذا ما تحققت شروط الصلح وتوفرت أحواله العامة، فحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وعلى هذا أجمع العلماء (11) والمعروف عليه اليوم دوليا سواء فى إطار المعاهدات والاتفاقيات الدولية أو فى إصدار التأشيرات باحترام قوانين ودساتير البلد المضيف والذى يحرم الغش والسرقة والنهب والقتل والاعتداء وما شابه ذلك، وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء ولو لمشرك، ما لم يتضمن شرطا فاسدا فيه معصية لله (12). وعليه يحرم كذلك قتل نفوسهم أو إزهاق أرواحهم أو خطفهم والتنكيل بهم، عملا بقانون الوفاء الذى هو قاعدة العبادة لله وتقواه (13) ومن هنا يمكن القول بأن أوروبا دار الصلح ودار العقد الاجتماعى، فأوروبا ليست دار الإسلام ؛ لأن المسلمين لا يشكلون الغالبية الحاكمة فى الأراضى الأوروبية، الأمر الذى لا يمكن معه تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا يشمل كل نواحى الحياة، وهى أيضا ليست دار الحرب لأن بعض جوانب الشريعة الإسلامية يمكن تطبيقها، ولذا فإن الأراضى الأوروبية "دار الصلح " لأن المسلم يمكن أن يعيش فيها ملتزما بالإسلام فى إطار العقد الاجتماعى لا سيما أن الأشخاص ذوى التوجه الحر المنطقى والمهتمين بمصالحهم الخاصة سيقبلون كموقف مبدئى لتحقيق المساواة، مبادئ ذلك العقد الذى يحدد الشروط الأساسية لارتباطهم بالآخرين (14)
إن هذا التقسيم الفقهى - دينا - القديم إلى دارين ثم الى ثلاث قد بنى على أساس التوسع والفتوحات الإسلامية، فى مرحلة كانت فيها الأمة الإسلامية ترفع راية الجهاد ورسالة نشر الدعوة عملا بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ) (آل عمران: 104) فاجتمعت أمم ضد المد الإسلامى، وأخرى دخلت فى حلف ومعاهدة ، وأخرى لم يصلها نور الإسلام، فدخلت أقوام وأجناس فكان لا بد للفقه الإسلامى أن يجتهد لوضع أسس الحياة الإسلامية فى مجتمع الحق والعدل وأن يؤصلوا لمبادئ التعايش مع الأمم الأخرى فى إطار معاهدات الصلح وأن يكتبوا عن شرعية القتال لمن يقاتلون المسلمين، فحددوا الجهاد بضوابط لا يخرج عليها المسلم لا فى حالة السلم أو فى حالة الحرب ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ( (15) ، بل جعل الإسلام الحفاظ على أهل الكتاب- من يخالفوننا عقيدة- من مهام الإمام وواجباته الشرعية.
(ج) نحو دار الدعوة: لكن اليوم والحال قد تغير والأمة الإسلامية تفككت دول بل دويلات إسلامية، وأسباب القوى راحت إلى أمم أخرى، نتج عن ذلك أن مفهوم "دار الإسلام" قد تبدد، وضعف قوام شرعيته.(1/169)
ونعت دار الحرب ودار العهد جاء مقابل دار الإسلام والقاعدة الأصولية التى تقول: "إن الأصل فى الأمر الوجوب إذا لم يكن مشروطا فإذا أسقط الشرط نزل إلى الندب " وأن دار الحرب ودار السلام هو مصطلح اجتهادى نتج إلى تجاوز هذا التصنيف إلى تأصيل للوجود الإسلامى كأقلية، وذلك لأن الأرض كلها لله ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) (16) وبأن الأرض كلها بحاجة إلى دليل يوصل بها إلى دار النجاة وأن الأعراف الدولية اليوم تنص فى موادها على احترام حقوق الإنسان "إن الناس يولدون جميعا أحرارا متساوين فى الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء" ونظرا لعالمية الدين الإسلامى فى خطابه ومشروعه والبعد الإنسانى للدعوة الإسلامية نصل إلى تقسيم الدنيا إلى أمم: منها أمة الإجابة، وهى التى استجابت لخطاب ربها فأقامت حدوده واتبعت أوامره وانتهت عن نواهيه، وقامت بأمر تبليغ الرسالة إلى العالم، ونستنتج من هذا أن الأقليات المسلمة تنتمى إلى الأمة الإسلامية روحيا وعقائديا وتنتمى إلى دار إقامتها وطنا وأرضا وجنسية فلها حقوق وعليها واجبات يحددها دستور ومعاهدات تعارف عليها الناس اليوم.
=============
الأقليات المسلمة تريد حلا !
ألما وليلا إرتدتا الحجاب فغضبت عليهما فرنسا
تحقيق ـ محمود الشهاوي
كان الفقه الإسلامي في أصوله ومرجعياته الأولي موجها قبل أكثر من ألف عام إلي مجتمعات , المسلمون فيها هم الأغلبية , والآن بلغ عدد المسلمين الذين يعيشون كأقليات متناثرة في قارات الدنيا الست 350 مليونا , ولذلك كنا نظن أن قضية الاجتهاد من أجل فقه جديد يناسب الأوضاع المستحدثة لدي هذه الأقليات هي قضية لا يختلف علي أهميتها اثنان , ولكن علماءنا وفقهاءنا ـ كالعادة ـ اختلفوا , دون أن يكون خلافهم هذه المرة رحمة ! وجدنا من يعتبر أن مجرد الكلام عن فقه جديد لهذه الأقليات هو فتنة وهناك من اعتبره ردة جاهلية ولكننا في المقابل وجدنا من يبرهن علي خطورة هذه القضية ويحذر الأمة من تجاهلها .
في هذا التحقيق نعرض وجهتي النظر , البداية لابد أن تكون مع إمام الوسطية فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي , فهو رئيس مجلس الإفتاء الأوروبي ومن أشد علماء الأمة حماسة لفقه الأقليات .
يري القرضاوي أن فقه الأقليات المسلمة لن يحقق الأهداف والغايات المنوطة به إلا عبر الاجتهاد , أما إذا روجنا لمقولة إغلاق باب الاجتهاد وفكرنا بعقول الأموات من السابقين ولم نفكر بعقولنا نحن فلن تحل مشكلة واحدة فالاجتهاد ضرورة وفريضة يوجبها الدين ويحكمها الواقع كما أنه دليل علي صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان .
ويوضح د . القرضاوي أن الاجتهاد الذي نريده هو الاجتهاد الإبداعي والذي يتعلق بألوف المستجدات والأمور والمسائل في حياتنا المعاصرة , والتي لا يمكن أن نجد لها جوابا مباشرة في تراثنا الفقهي القديم , وهذا أمر طبيعي لأن التطور الذي حدث في عالمنا المعاصر تطور هائل في كمه وفي نوعه وهو تطور لم يكن يخطر ببال أحد من الأئمة القدامي حتي يتخيل له حلا .
وفقه الأقليات بشكل خاص , أشد حاجة لذلك النوع من الاجتهاد حيث تعيش الأقلية بين ظهراني أغلبية تخالفها في الدين , وبالتالي في الكثير من المفاهيم والسلوكيات والتقاليد , وهذا الاجتهاد جزء من التجديد الذي حدثنا عنه النبي صلي الله عليه وسلم , حين قال : إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها .
ويؤكد القرضاوي أن غياب فقه جديد للأقليات المسلمة فتح الباب علي مصراعيه لفئة ضالة مضللة تصدت لمقعد الإفتاء مثل أولئك المتاجرين بالدين الذين أباحوا للمسلمين في الغرب أن يسرقوا أموال البلاد التي آوتهم وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف وأن يستولوا علي تلك الأموال بالاختلاس والتزوير والغش !! فلا يدفعون ثمن ما يستهلكون ولا أجر ما يستخدمون ويكذبون ليأخذوا من المعونات ما لا يستحقون ويخونون من يتعاملون معه , ويغدرون به متي قدروا علي ذلك , فهؤلاء جميعا وصمة في جبين الإسلام , وأضروا بالجاليات الإسلامية أبلغ الضرر , حيث صوروا المسلمين كعصابات لا تؤمن بقيم أو أخلاق ولا تعترف بعهد ولا ميثاق !
وجاء إنشاء المجلس الأوروبي للإفتاء كمحاولة لقطع الطريق علي هؤلاء المضللين وأيضا لتوحيد الفتوي في ديار الغرب قدر الإمكان ومنع البلبلة أو الصراع الفكري وذلك عن طريق التشاور والبحث المشترك , حتي يصبح هذا المجلس مرجعية دينية معتمدة لدي السلطات المحلية في كل بلد وهو ما يقوي شأن الأقليات الإسلامية ويشد أذرها علما بأن هذا المجلس ليس بديلا أو منافسا للمجامع الإسلامية الأصيلة المنتشرة في عالمنا الإسلامي مثل مجمع البحوث أو مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي , بل هو مكمل لعمل هذه المؤسسات .
ويؤكد المفكر الكبير فهمي هويدي أن فقه الأقليات ليس وليد الوقت الراهن بل منذ أكثر من 500 عام وتحديدا عقب خروج المسلمين من الأندلس حيث بقيت في جنوب إيطاليا وصقلية أقليات إسلامية .(1/170)
وظلت هذه الأقليات تبحث عن حلول دينية لأمورها الحياتية ومنذ تلك الفترة أخذ ينمو هذا الفقه وإن كان بشكل بطيء والاجتهاد كان ولايزال أحد ركائز نهضة الأمة وعن طريقه نستطيع أن نظهر للعالم الغربي أن ديننا وتقاليده لا يمثل أي عائق أو حائل أمام اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية , حيث تردد أصوات عالية هناك بأن الإسلام يمثل حائلا أمام اندماج الأقليات داخل مجتمعاتها وبعد أحداث سبتمبر نجحت الآلة الإعلامية الجبارة في تحويل المسلمين إلي مشكلة للمجتمعات الغربية تتراوح بين العبء والخطر .
عبد الصبور شاهين
وهو ما يبرز أهمية بلورة فقه الأقليات كضرورة حياتية ملحة حتي تظهر للغرب صورة الإسلام السمحة ويرفض هويدي تمسك بعض من الفقهاء بمقولة صلاحية الفقه الإسلامي القديم لكل زمان ومكان دونما أي محاولة للبحث في معاناة الأقليات ومشاكلهم ويتأسف لأن حلول الأقليات جاءت من الداخل ولم يقدم لها العالم الإسلامي الدعم الكافي وظل فقهاؤنا واضعين أيديهم في المياه الباردة دونما تكليف أنفسهم عبء التفكير في أمر هذه الأقليات .
أما الدكتور رأفت عثمان ـ أستاذ الفقه جامعة الأزهر ـ فيوضح أن الأقليات الإسلامية منذ أمد طويل تحتاج إلي بيان الأحكام الشرعية لقضاياها والتي تختلف عن قضايانا في العالم الإسلامي .
ويذكر أنه حضر أحد المؤتمرات في ولاية ميتشجان في أمريكا في العام 2000 بحضور كثير من علماء الفقه الذين فوجئوا بقضايا خطيرة وجديدة , مثل حكم الشرع في العلاقة الزوجية إذا أسلمت الزوجة الأوروبية والعمل في نوادي القمار والتعامل المالي مع البنوك فكلها قضايا تحتاج إلي نقاش أقرب إلي الحوار العالمي للوصول إلي حلول فقهية صحيحة , وإذا علمنا أن العالم يموج بقضايا جديدة كل يوم في كل النواحي لازداد الأمر تعقيدا , وتقع هنا مسئولية كبيرة علي عاتق علماء الفقه ليقوموا بدورهم .
ويوضح د . رأفت عثمان , بأن فقه الأقليات تواجهه تحديات كبيرة , فالدول الإسلامية الكبري مثل السعودية وإيران في مساعدتها للأقليات في الغرب تفرض علي هذه الأقليات اتباع نفس منهجها الفقهي .
ويوضح الدكتور عبدالصبور شاهين ـ الأمين السابق للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية ـ أن أولي قواعد الفقه التطور والتجدد التلقائي مع تجدد الأحداث , وقد أباحت الثوابت في الفقه الإسلامي ذلك وطالبت به , فلكل حادثة حديث , عبر كل زمان ومكان فديننا هو صاحب الرسالة الخاتمة العالمية ويحمل بداخله المرونة التي تجعله قادرا علي التكيف مع المتغيرات التي تحدث في العالم , وفي ظل الظروف الحالية التي اجتاحت العالم الإسلامي سواء في الاقتصاد أو الاجتماع تصبح الحاجة ماسة إلي فقه الأقليات والذي ينبغي أن يكون من أولي القضايا التي تستحوذ علي اهتمام علماء الأمة حيث يبحث هذا الفقه في شئون 350 مليون مسلم , يمكن أن يصبحوا المرآة التي تعكس صورة الإسلام في الغرب , كما أنهم دعاة دائمون لدين الله عز وجل , ويتساءل د . شاهين كيف يشغل علماء الأمة أنفسهم بقضايا النوافل أو المندوبات كاللحية أو الجلباب القصير ويتركون قضايا كبري مثل التخلف العلمي والعجز الاجتماعي أمام أقلياتنا حتي المسلمة وحيدة في العراء !
ويؤكد المفكر الإسلامي الكبير , د . محمد عمارة , أن الاهتمام بموضوع الأقليات الإسلامية ينبغي أن يشغل العقل العربي والإسلامي فكما اهتم الإسلام بشئون الأقليات غير الإسلامية في بلاد المسلمين , اهتم أيضا بشئون الأقليات الإسلامية في البلاد التي يقطنها أغلبية غير إسلامية , ولكن قبل أن يستغرقنا الحديث عن ضرورة فقه جديد للأقليات ينبغي كنقطة نظام أن نتحدث أولا عن شكل العلاقة المبتغاة بين هذه الأقليات والدول التي تتبعها .
القرضاوى
فالأقليات غير المسلمة مطالبة باحترام القانون الوضعي لكل دولة بشرط أن يراعي هذا القانون حريتها في الاعتقاد الإسلامي وإقامة الفرائض الإسلامية , ومراعاة الحلال والحرام الديني في أحوالها الشخصية وحياتها الأسرية , وعدم التجريح لمقدساتها , وكذلك فإنه من غير المتصور أن تفرض الأقلية الدينية علي الأغلبية منهاجها ومذهبها في الدولة , كأن يسعي المسلمون في فرنسا مثلا بملايينهم الخمسة إلي فرض شريعة الدولة الإسلامية علي الأغلبية التي تتكون من 150 مليون نسمة من الفرنسيين لأن هوية الدولة بالمنطق الديمقراطي هي خيار الأغلبية .
ويؤكد د . عمارة أن تلك المعايير المنصفة والعادلة في علاقات الأقليات بالأغلبيات داخل المجتمعات كافة في حاجة إلي أن يدور حولها ما يمكن تسميته بـ حوار الحكماء لتكون شريعة عامة تخرج هذه القضية الحساسة من نطاق الأهواء الشخصية إلي الأطر المتفق عليها سلفا , لأنه إذا كان الله عز وجل هو الذي أراد للخلق أن يظلوا مختلفين في الشرائع والملل والديانات والمناهج فإن هذا يفرض علي الأغلبية الدينية ألا تنتقص من حرية الاعتقاد الديني لدي أقلية وهذا ما نسميه الحق الإلهي المقدس للأقليات في حرية الاعتقاد الديني .(1/171)
ويشير الدكتور عبدالعظيم المطعني , إلي أن المستجدات في الدين والتي ليس لها حكم في القرآن ولم يرد فيها حديث للرسول صلي الله عليه وسلم , يكون طريقها في الفقه الإسلامي هو القياس وهو مبدأ إسلامي أصيل ومنهج قديم حيث نقيس الحادثة الجديدة علي ما يشابهها من حوادث قديمة فإذا كان هناك علة مشتركة , فإننا نعطيها حكم الحادثة القديمة , أما الحديث عن فقه جديد فيراه المطعني لا يتعدي كونه فتنة كبري لا يقول بها إلا غافل ! إذ أن علماءنا الأقدمين لم يغفلوا وضع المسلمين حين يكونون أقلية في بلد ما تحكمهم قوانين مختلفة .
ولذلك لا تقام الحدود مثلا في البلد غير المسلم وإذا ما ارتكب مسلم جريمة ما , فالجريمة هنا تكون بينه وبين الله , إما أن يتوب الله عليه أو يحاسبه عليها يوم القيامة ولكن لا تقطع يده , فالمسلم السارق في أمريكا ليس هناك سلطة تقيم الحد عليه , ويصبح الحل الوحيد في التعامل معه هو التوبة فقط .
ويبدي المطعني دهشته من انعقاد العديد من المؤتمرات الإسلامية لبحث أمور ليست ذات بال في حين أن الكثير من القضايا الملحة لا تجد من يهتم بها ويقول : أوكل القانون المصري إلي مجمع البحوث الإسلامية مهام خطيرة حيث كان من المفروض أن يتابع كل جديد في عالم المسلمين ويتصدي له بالفتوي , ولهذا وحتي عهد ليس بالبعيد كان المجمع يعقد مؤتمرات يدعو إليها كل علماء المسلمين لتدارس أحوال الأمة وبهذا كان المجمع يجنبنا الفتوي الفردية , حيث إن أي فتوي تصدر عن المجمع كانت تدرس من خلال لجان متخصصة , ولاشك أن شئون الأقليات في حاجة إلي تواصل مع المراكز الإسلامية الرئيسية مثل منظمة المؤتمرالإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الأعلي للشئون الإسلامية كما أن الولايات المتحدة بها 250 مركزا إسلاميا ولا أعرف لماذا لا يكون هناك تعامل بيننا وبين تلك المراكز .
أما الدكتور منيع عبدالحليم محمود ـ عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهرـ فما إن سمع عبارة فقه الأقليات حتي صاح قائلا : حاشي لله عز وجل ! إن مسألة التغيير والتبديل لمقومات الدين الإسلامي بحجة التنوير ما هي إلا محاولة لإرضاء الغرب !! وأضاف أن هذه نظرة عقلية متخلفة تصل إلي نوع من الردة الجاهلية , فالفقه القديم يكفي والتاريخ يؤكد أن الإسلام لم يكن بدعا في تطبيقه بالنسبة للأمم القديمة كالفرس والرومان منذ 1400 عام , وبالتالي فالإسلام صالح للتطبيق في البلاد الغربية , حيث لم يكن الفقه الإسلامي سوي تعبير عن الوحي الصادق وترجمة للقرآن الكريم والسنة وهو ما جعل الإسلام دينا عالميا لم يأت للإنسان العربي في الجزيرة العربية فقط , وإنما للعالم أجمع في كل زمان وعلي مدي العصور المختلفة .
ويؤكد د . منيع أن مسألة أن يكون هناك فقه جديد مغاير للفقه الإسلامي القديم يختلف من بلد إلي بلد , أو من قارة إلي قارة أخري , فهذه مسألة تنطوي علي مغالطة كبيرة بالنسبة للإسلام الذي يجب أن يعرض في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب بالكيفية التي طبقها الرسول صلي الله عليه وسلم , من حياته وهو الإسلام السمح المستنير الواضح السليم .
واستطرد عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر , قائلا : ومع ذلك فهناك في الفقه الإسلامي ما يعرف باسم فقه الاضطرار المستوحي من الآية الكريمة فمن اضطر غير باغ ولا عاد مثل ذلك الشخص الذي سوف يهلك جوعا فهو مضطر للسرقة , وهذا الفقه هو الذي منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إقامة الحدود عام الرمادة ويمكن أن يكون هذا الفقه مدخلا لمعالجة أمور الأقليات المسلمة !*
=============
فرنسا: بعض تناقضات الحالة الإسلامية
كان للمنطقة العاشرة، التي تعد من أكثر المناطق الفقيرة في باريس، ذات يوم، مذاق إسلامي خلال السنوات القليلة الأخيرة، فهناك يمكن أن ترى محلات ومقاه تعود لعرب وأمازيغيين وبوسنيين وهنود وباكستانيين وسريلانكيين وأفارقة سود، وهناك تجد أعدادا كبيرة من الزبائن، بينما يذكّر السوق الممتد على طول الشارع الزائرين بالدار البيضاء والجزائر. وهناك عدد كبير من المساجد وفي الغالب تضم محلات صغيرة أو شققا محولة في الطابق الأرضي.
ما هو متميز حقا في تلك المنطقة هو التنوع الهائل لتيارات الإسلام الموجودة جنبا إلى جنب بحرية وأمن، وتضم مذاهب ممنوعة في الكثير من البلدان المسلمة، حيث يتعرض أفرادها إلى الاضطهاد هناك، وأحيانا إلى الإعدام باعتبارها مذاهب «ضالة». ففي شارع صغير هناك طوائف متعددة مثل السلفية والجعفرية والأحمدية تعيش جنبا إلى جنب، وتعلم أصحابها أن يتحدثوا مع بعضهم البعض وأحيانا يقومون بـ«البزنس» فيما بينهم وهو شيء لا يمكن تصوره في باكستان نفسها، حيث الناشطون من الطوائف المتنافسة يقتلون بعضهم البعض بالمئات كل عام.
وسبب وجود ظاهرة من التعايش كهذه يعود الى أن فرنسا مجتمع يتميز فيها الفضاء الخاص (الشخصي) عن الفضاء العمومي، ففضاؤك الخاص الذي يمكن القول إنه بيتك وعملك ومكان عبادتك محمي تماما من قبل القانون، ويسمح لك بتنظيم حياتك باعتبارك فردا بالتوافق مع معتقداتك وقناعاتك وذوقك.(1/172)
أما الفضاء العام فهو ينتمي لكل شخص، لذلك فإنه لا يعود لشخص محدد. ويجب التوثق من أن الجميع يستطيعون أن يعلنوا عن وجود حصة من هذا الفضاء العام لهم، ويستطيعون استعمال مرافقه من أجل طرح أفكارهم واهتماماتهم التجارية ومشاريعهم السياسية، لكن لا أحد مسموح له كي يفرض قرارا بالقوة أو يقصي شخصا آخر.
كل ذلك يبدو غريبا ومثيرا للنفور لأغلبية المسلمين الذين استقروا في فرنسا خلال العقود الأخيرة، والسبب هو أنهم لم يتعلموا التمييز ما بين الفضاء الخاص الذي يستطيع الفرد أو الجالية أن تستثمره بأقصى ما تريد، طالما أنها لا تتجاوز حقوق الآخرين، والفضاء العام. ففكرة أن الدين هو قضية شخصية أمر منفر للكثير من المسلمين، فهدف الإسلام هو أن يسيّر كل جانب في حياة الفرد والجماعة ابتداء من الأمور الصغيرة إلى أكثرها قداسة.
وعلى ذلك الأساس حاولت منظمات اسلامية عدة أن تنثر بذور الغضب في الجالية الاسلامية الفرنسية لسنوات، وتعتبر العناصر المتطرفة فرنسا جزءا من «دار الحرب» لأن السلطة السياسية بيد «الكفار». وتفضل العناصر المعتدلة تعبير «دار الصلح»، مشيرة ضمنا الى أرض متنازع عليها. وما يزال آخرون يستخدمون تعبير «دار الدعوة»، وهو ما يعني أن السبب الرئيسي لوجود المسلمين هناك هو تحويل الأمة الفرنسية الى الاسلام.
وتعتمد كل المفاهيم الثلاثة على فرضية أنه من المستحيل على مسلم أن يعيش في مجتمع يطبق فيه قانون علماني بدل الشريعة، ولا يمكن للمسلم ان يعتبر نفسه فرنسيا ما لم تصبح فرنسا دولة اسلامية، وهذا هو سبب عدم استخدام المنظمات التي تدعي تمثيل المسلمين صفة «فرنسي». وبدلا من ذلك يصفون أنفسهم باعتبارهم جمعية المسلمين في فرنسا أو مجلس مسلمي فرنسا، فأنت مسلم قدر لك تعيش في فرنسا ولكنك لست فرنسيا قدر له أن يكون مسلما.
ومن الطبيعي ان مثل هذه المقاربة يمكن أن تؤدي، في أحسن الأحوال، الى شكل من أشكال التمييز العنصري القائم على الدين، أو الى صراع ديني في أسوأ الأحوال.
وعندما قرر نيكولاس ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي المتغطرس، أن «يحل المشكلة الاسلامية» قبل سنوات قليلة لم يكن يعرف شيئا عن الاسلام. وقد دفع بخطة بائسة أسس بموجبها ما سمي بمجلس عبادة مسلمي فرنسا تحت رعاية وزارة الداخلية وبتمويل حكومي. وقد جرت ممارسة انتخابية شارك فيها اقل من واحد في المائة من المسلمين المؤهلين للاقتراع، غير أنه خلال السنوات القليلة الماضية بات واضحا ان دور المجلس الرئيسي دور بروتوكولي.
وخلال الاضطرابات الحالية في الضواحي حيث أن المسلمين يشكلون أغلبية، لم يكن المجلس قادرا على اقامة حوار مع مرتكبي أعمال الشغب، ناهيك عن أن يصبح منسقا بينهم وبين السلطات.
والأسوأ من ذلك ان المجلس غذى الوهم باحتمال دمج المدارس الاسلامية المتعددة في مؤسسة واحدة في إطار بنية على غرار النظام الكنسي تدعمها الدولة، إلا ان هذا المشروع ربما تسبب في إلحاق إضرار ليس فقط بالمسلمين، وإنما بالدولة الفرنسية القائمة اصلا على الفصل الواضح بين الفضائين العام والخاص.
من الممكن تطوير نموذج للاسلام يكون مقبولا بالنسبة للمدارس الاسلامية الموجودة داخل فرنسا، ولكن حتى اذا جرى تطوير هذا النموذج فإن مسلمين كثيرين سيرفضونه، ما يجبر الدولة على استخدام اجراءات قسرية لفرض إجماع على هذه القضية.
فرنسا والديمقراطيات الغربية الاخرى، التي اصبحت مستقرا لملايين المسلمين، ولدوا في هذه الدول، وقد قدمت للاسلام فرصة لم يحظ بها منذ اول حرب اهلية في الاسلام خلال خلافة الإمام علي، وتتضمن هذه الفرصة إمكانية تطوير المسلمين منهجا خاصا بدينهم وممارسة شعائرهم بحرية، ووفقا لمعتقداتهم من دون خوف او نفاق.
فرنسا والديمقراطيات الغربية الاخرى تعتبر المكان الوحيد الذي تنشر فيه كل المذاهب الاسلامية افكارها ولديها أماكن العبادة ومعاهد ومدارس دينية خاصة من دون قيود، اما في غالبية الدول المسلمة، فإن المذهب الأكثر هيمنة يحظر بقية المذاهب، فايران، على سبيل المثال، تستخدم اسم الجمهورية الاسلامية لكنها لا تسمح بتشييد مسجد سني واحد في طهران التي يعيش فيها نحو 1.5 مليون مسلم سني. فرنسا والديمقراطيات الغربية تعتبر المكان الوحيد الذي لا يحظر فيه نشاط كاتب مسلم بسبب وصفه بالهرطقة او «الخروج» على الدين.
سر نجاح الغرب في إعادة صياغة العالم يكمن في حرية الفكر والتعبير التي طورها الغرب ورعاها منذ نهاية محاكم التفتيش، اي عندما ادرك الغرب ان استغلال الدين لأغراض سياسية لا يفضي سوى الى الاستبداد والارهاب.(1/173)
لأول مرة في التاريخ يعيش عدد هائل من المسلمين يقدر بحوالي 40 مليون شخص في مجتمعات توفر لهم الحرية التي توفرها لموطنيها، توفر الديمقراطيات الغربية للاسلام بكل ثرائه المتنوع مساحة للنمو والازدهار. اما الذين يريدون القضاء على هذه الفرصة التاريخية باختلاق ما يسمى بالإسلام الاوروبي، او من خلال حث المسلمين على عدم الشعور بالارتياح في ظل العيش في الديمقراطية الغربية، فإنهم مذنبون بارتكاب خيانة مزدوجة ضد الاسلام وضد الغرب على حد سواء.
ارسل هذا المقال بالبريد الالكترونى … …اطبع هذا المقال … …علق على هذا الموضوع
التعليقات
د عيدروس عبدالرزاق جبوبة، «المملكة المتحدة»، 17/11/2005
إنه منظور واقعي مستند للحقائق يروي بهدوء حالة مسلمي فرنسا الذين خدمتهم الظروف إلى حدما في ظل حرية احترام الآخر المختلف، وعدم دق إسفين البغضاء بين فئات المجتمع المسلم خاصة والفرنسي عامة. وبالطبع يتمنى كثير من معتدلي المسلمين لو نقلوا ذلك التسامح الفطري للإسلام إلى الديار المسلمة. ولهذا يحاول مجلس إفتاء مسلمي أوروبا الغربية في إيرلندا برئاسة القرضاوي تفعيل فقه الأقليات التي تناسب أوضاع الجالية المسلمة في الغرب حيث تكون أقلية. وربما قارب ذلك من الفجوة بين مسلمي أوروبا وغيرهم من بقية المجتمع الذي يعيشون فيه وينتمون إليه . ومن يدري ربما حينها لو نجح سيناريو فقه الأقليات في الغرب قد تمطر سلاما وذهبا في بلاد المسلمين، ويتعلمون من أشقائهم نموذجا آخر للإسلام الناصع البياض والذي يكفل للكل حقه بدون ضيم .
ahamed ali، «المملكة العربية السعودية»، 17/11/2005
أفضل تحليل قرأته حول أعمال الشغب في فرنسا، وفعلا المسلمين لم يقدروا هذه الحرية التي منحت لهم بل إنهم أساؤوا استغلالها أسوء استغلال، مما يؤكد أن المسلمين أنفسهم هم السبب في جميع المصائب التي حلت بهم.
صالح صالح.، «المملكة العربية السعودية»، 17/11/2005
جميل أن يتعايش الناس مع بعضهم وأن يتقبل بعضهم بعضا بشرط أن لا يضر ذلك بأحد الأطراف، وأن لا يتم إشاعة الفساد (سواء أكان ذلك علنا أو سرا) بعلة التعايش وحرية التصرف لأن ذلك سيضر حتما بأحد الأطراف بل بجميع الأطراف حتى المشيع لها عاجلا أم آجلا.
فالمدخن مثلا يضر بصحته وبصحة كل المحيطين به أثناء تدخينه، إلا أنك تجده مستمتعا لا يكترث لتحذيرات الشركة الصانعة من إمكانية إصابته ومن حوله بالسرطان وغيرها من الأمراض.
وقس على ذلك كثيرا من الأمور.
طيرا الحنفي، «المملكة المغربية»، 17/11/2005
الجالية الإسلامية بدولة فرنسا تشكل ثاني ديانة رسمية بها بعد المسيحية مع العلم أن هناك اختلاف بين وضع فرنسا كنادي علماني أم نادي مسيحي وهو تناقض لا تستطيع العلمانية الإلحادية أن تجد له حلا، فتناقض فرنسا إذن يكمن في وجود طبقة منتمية لعلمانية الإلحادية وضد الأديان وتريد فرض رأيها على معظم فرنسا وحينما كان هناك فشل في استدراج مسيحيي فرنسا لتبني نهج العلمانية الإلحادية أصبحت هذه الفئة تبحث عن تغذية فكرها بافتعال وجود تناقض حي بين الإسلام وهوية فرنسا وباء ذلك بالفشل لأن التناقض الحقيقي هو أن فرنسا هي أرض إيمان، لذلك كانت على الدوام بلد تعايش واستقرار تام في فضائيها الخاص والعام حتى أن حكمائها السياسيين الذين يشتغلون على أرض الميدان باتوا مقتنعين أن الإشكالية التربوية في شقها الأبوي الخاص والمؤسسي العام سوف تعالج بحنكة وتدبير مقتدرين.
الخطاط محمد فاضل، «فرنسا ميتروبولتان»، 17/11/2005
تحليل واقعي وصحيح للسياسة الفرنسية إلا أن هذه السياسة تحمل في طياتها بذور الفتنة. فهي خلال تاريخها الاستعماري البائس تعطيك الحرية وتعلمك فعلا سياسة الاختلاف لكنها لا تعطيك حقوقك المادية، فيخال المراقب من بعيد أن العيش في هذه الظروف هو الديموقراطية والحرية. وما وقع أخيرا في جنة فرنسا المزعومة من ثورة انطلقت أول ما انطلقت من جيتوهات البؤس والفقر كذب كل المزاعم بأن فرنسا دولة يمكن أن تستوعب وتعدل مع من منحته جنسيتها، إن فرنسا يمكن أن تقبل كل من لا يطالبها بحقوق مادية.
============
/ نحو خروج من مأزق الطائفية
التاريخ: 28/01/1428
إن ما تشهده ساحة المسلمين اليوم يسر العدو ويحزن الصديق ويفرح مبتغي شقاء الأمة وفرقتها يسوء محب الدين والقرآن ونبي الإسلام محمدٍ صلى الله عليه وسلم والأئِمة المهديين وآل البيت الطاهرين والصحب الأكرمين والمتبعين بإحسان. إن ما يجري مصيبةٌ عُظمى في الأمة ومجدها وناصع تاريخها وصادق فتوحاتها وسير أئِمتها وخلفائِها ورجالاتها وعوامل بنائها واجتماعها إن استمزاج ذلك وقبوله والسماح به ناهيكم بالتمكين له كل ذلك إعانةً وخيانة ومسلك عدائي لا تصلح به دنيا ولا يقوم به دين إن وحدة المسلمين لا تقوم على التحريش والتحريض واستدعاء المسالب لطرب وإبراز المناقب لآخر و الانكفاء على العصبية والرموز المذهبية والنعرات الطائِفية إن ذلكم وربكم هو قاصمة الظهر وهو الذي ينبذ الأمة خارج التاريخ.(1/174)
يجب التفكير الجاد الصادق الأمين دينياً وفكرياً وسياسياً وأمنياً فلا يستهين عالم و لا مفكر ولا سياسي ولا صاحب رأي أو قلم بهذه الألغام الخطرة المدمرة التي إن لم تحاصر وتكبت فإنها والله ستجعل الأمة شذر مذر وسوف تعيش في ظلامٍ دامس ومستقبلٍ أشد ظلاماً في الدين والدنيا إلا أن يرحمنا الله إن العدو الخارجي والغازي الأجنبي لم يوجد الخلافة في الأمة ولكنه وجد فيه أرضاً خصبة ليزرع مكره وكيده فيمزق الأمة ويفتت القوة ويستبد بالسيطرة.
إن نجاح العدو في استثمار الخلاف ليس لشدة ذكائه وعظم دهائه فحسب ولكن لتقصير الأمة وقد يكون لعظم غفلتها وسذاجتها وأخشى أن أقول لضعف دينها وقلة أمانتها فحذاري ثم حذاري أن تزج الأمة في الزلزال الطائفي والبركان المذهبي يجب الإصرار ثم الإصرار على نهج الوحدة والعيش الجماعي والتعايش السلمي وأمن ديار الإسلام والحفاظ على بيضة المسلمين وعدم التمكين للعدو المتربص.
نعم ثم نعم إن هناك سلبيات وعوائق ونكسات تعترض المسيرة غير إن وجودها أمر طبيعي لتأثيرات التاريخ وسلبيات التراث عند مختلف الأطراف والفئات والمذاهب والطوائف. إن من الخذلان والخيانة ألا ينظر طالب علم أو مثقف أو مشتغل بتاريخ الفرق والمذاهب في أهل الإسلام إلا إلى صور بعض المظالم والتقاتل والمسالب والنقائص كيف إذا كان مثل هذا الاشتغال والنظر يتوجه إلى تاريخ صدر الإسلام وسير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسان والأئِمة والخلفاء ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، كيف وقد قالت الحكماء من تلمس عيباً وجده ومن اشتغل بعيوب الآخرين هلَك وأهلك، كيف إذا كانت عيوب نبلاء، وعثرات كرام، وأخطاءً هي من طبائع البشر والأمم والسياسات، كيف وقد نزع الله ما في صدورهم من غل وألَّف بين قلوبهم.
إن من النصح للأمة والصدق في جمع الكلمة من العالم المؤمن والمفكر الناصح والمحب للدين والأمة وللمصطفى وآله وأصحابه إعادة النظر في روايات التكفير والتحريف والسب والطعن وروايات الغلو والشطح والانحراف والتراث الأسطوري الخرافي الذي تعج به كتب الغلاة والمتعصبين وأشباههم مما يستدعي محاولةً جادة لاستبعاد ذلك الركام الأسود الذي يدعو إلى سب الصحابة والنيل من القرابة واحتقار التاريخ المجيد والمسيرة المضيئة لديننا ورجالاتنا وأئِمتنا وخلفائنا وفتوحاتنا، يجب هدُ ورد الروايات المدسوسة والبدع والمنكرات المفضوحة التي لم يكن هدف واضعيها ولا غرض مقترفيها إلا هدم الدين والعقيدة ونشر الفرقة والتناحر بين المسلمين، في مقابل ذلك يجب التوجه نحو العرض الحقي المشرق الصحيح الثابت لمجتمع الصحابة والقرابة ومن تبعهم بإحسان، ففي كتبنا جميعا روايات صحيحة مضيئة يثبتها النقل ويصدقها العقل ويألفها حس المؤمن والدلق الطيب النصوح وتتفق معها آي القرآن الكريم وهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايته وتوجيهه وسيرته.
وإن ممن العجب العجاب وما يدفع الريب والارتياب ويسر الصديق ويؤكده منهج التحقيق أن الناظر والباحث كلما تقدم متوغلاً في القدم راجعاً إلى عصور الإسلام الأولى يجد التطابق والتماثل والتواد والتحابب من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وكلما تأخر بالأمة الزمن بدت ألسنة الدخان ومناطق الظلام وصور التشويش والتحريش ومظاهر العنف الفكري والتعصب المذهبي والطائفي.(1/175)
وهذا إيراد لنماذج يبتهج معها قلب المؤمن ويأنس بذكرها محب الدين وتقر بها عين المشفق على الأمة نهج إيماني سارت عليه تلك المواكب الإيمانية الخيرة والقدوات الحسنة من الصحب والقرباء فليس في قلوبهم ولا في صدورهم غل بل كانوا على حق والخير إخوانا وأعوانا هذا أبوبكر يقول لعلي رضي الله عنهم جميعاً والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، ويقول ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في آل بيته، ويقول أفتنا يا أبا حسن ثم انظروا إلى هذه الصورة الحميمة الرقيقة فقد صلى أبوبكرٍ رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه وأخذ يرتجز: "بأبي شبيهٌ بالنبي لا شبيهٌ بعلي" وعلي رضي الله عنه معه يضحك، أما عمر رضي الله عنه فهو الذي يقول لولا علي لهلك عمر ولا مكان لابن الخطاب في أرضٍ ليس فيها ابن أبي طالب، وحينما وضع الديوان ليوزع بيت المال بدأ بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظن الناس أنه يبدأ بنفسه بل قال ضعوا عمر حيث وضعه الله فكان نصيبه في نوبة بني علي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش، أما عائشة رضي الله عنها فأفصح الطرق في مناقب علي رضي الله عنه كان من روايتها فقد روت حديث الكساء في فضل علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، وكانت تحيل السائلين والمستفتين إلى علي رضي الله عنه، وطلبت رضي الله عنها بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه أن يلزم الناس عليا؛ فقد سألها عبد الله الخزاعي من يبايع؟ فقالت إلزم علي رضي الله عنه، وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما إني لأبغض علياً فقال ابن عمر أبغضك الله أتبغض رجلاً سابقةً من سوابقه خيرٌ من الدنيا وما فيها.
هذه بعض الدرر المتلألئة من ماء الصحب الكرام في علي رضي الله عنه وآل البيت الأئمة الكرام الأطهار، أما علي رضي الله عنه وآل البيت فا سمعوا إلى دررٍ من دررهم في الصحب الكرام عن أبي جحيفة وهو الذي كان علي رضي الله عنه يسميه أبا الخير قال: قال لي علي رضي الله عنه: يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها قال: فقلت: بلى قال أبو جحيفة: ولم أكن أرى أن أحداً أفضل منه قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر وبعدهما آخر ثالث لم يسمه، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وضِع عمر على سريره يعني بعد وفاته فتكثفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يُرفع؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: وأنا فيهم فلم يروني إلا ورجل أخذ بمنكبي فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فترحم على عمر وقال: ما خلَّفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك أي والله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وجئت وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، أما عائشة رضي الله عنها فإن علي رضي الله عنه كان يكرمها ويجلها ويحفظ لها مكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف رجلان على باب دارها في البصرة فقال أحدهما: جزيتي عنا أمن عقوقاً وقال الآخر: يا أمنا توبي فقد أخطأتي فبلغ ذلك علي رضي الله عنه فبعث القعقاع بن عمر إلى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على الرجُلين فا ضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما.
ويروي جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنهم جميعاً قال: لقد رأى علي رضي الله عنه طلحة في وادٍ ملقى أي بعد الحرب فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال: عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً إلى الله أشكو عُجري وبُجري فترحم عليه ثم قال ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة وكان يقول: إني لأرجو أن أكون والطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سررٍ متقابلين)، ولما سأل رضي الله عنه عن أهل النهروان من الخوارج أمشركون هم؟ قال: هم من الشرك فروا قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل فما هم يا أمير المؤمنين قال: إخواننا بغوا علينا.
والموضوع ذو شجون والحديث مضيئاٌ ممتعاٌ في كتب الصحاح والتاريخ الثابت الموثق في كتب أهل الإسلام كلهم مليء بما بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والتابعين بإحسان من مودة ومحبة واعتراف بالفضل متبادل.(1/176)
ولم يقف الإعجاز والحب والمودة عند الأقوال على أهميتها وعظيم أثرها وصدق مخرجها ولكنهم سجلوا لنا من الأفعال والسلوك ما يتغنى به في الاقتداء ولزوم الأدب وحسن الأسوة؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر ورمله بنت أبي سفيان وعلي تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم وعثمان تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه سم ثلاثةً من أبنائه أبا بكر وعمر وعثمان وزوج ابنتيه فاطمة وأم كلثوم لعمر ابن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين والحسن بن علي سمى أولاده أبا بكر عمر وطلحة والحسين سمى ولده عمر والحسن تزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله وتزوج حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ومعاوية بن مروان بن الحكم الأموي تزوج رمله بنت علي وعبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي تزوج خديجة بنت علي واستمر هذا المسلك الراشد إلى أجيال متعاقبة فهذا الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وعن أبائه جده لأمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأمه فروه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأم القاسم هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ولهذا كان الإمام جعفر يقول: ولدني الصديق مرتين وجعفر بن موسى الكاظم رضي الله عنه وعن أبائه سمى ابنته عائشة.
إن هذه الأجيال المباركة في قرون الإسلام المفضلة لم يسموا أولادهم وفلذات أكبادهم لمصالح دنيوية ولا ابتغاء مناصب ومطامع ولكنهم سموهم بأسمائهم وصاهروهم في أنسابهم لأنهم رجال كرام يقتدى بهم بل كانت المصاهرة والمزاوجة مثالاً شامخاً ونموذجا يحتذى في سلامة الدين وصفاء القلوب وتلمس رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ورضا أهل لبيته ورضا أصحابه.
نعم والله إن هذا الترابط والتراحم والتلاحم الأسري المبارك من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وذرياتهم والتابعين بإحسان نسباً وصهراً كله تجسيد للمودة وإخوة الدين وأقوى إتباع سنن سيد المرسلين.
من ذلك كله يجب أن تفجر أنهار السلسبيل الدافق من ثقافة التسامح والقبول المتبادل والنظر إلى إيجابيات التاريخ والرجال يجب الزرع والنشر للصور الحقيقية المشرقة الجامعة المانعة لا أن تتبع العثرات والزلات والهفوات التي لا يمكن أن يخلو منها بشر أو أمة أو دولة أو سياسة هذا أذا كانت ثابتة واقعة فكيف إذا كانت مدسوسة مكذوبة أو كانت تفسيراً لمغرض أو تأويلاً لصاحب هوى أو قليل علم أو دين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).
إن الشكوى من تيارات ثلاثة: الغلاة والجفاة والغزاة، فالغلاة سلكوا مسالك التعصب والعنف والتكفير والقتل والتفجير، والجفاة يريدون قطع الأمة وبترها عن دينها ووصولها وأصالتها وثوابتها، أما الغزاة فيتخذون بين هذين الفريقين سبيلاً لتمزيق الأمة وهز ثوابتها وفرض ثقافتهم والعبث بثروات الأمة ومقدراتها.
إن الحساب السياسي المسؤول والأمانة الدينية الصادقة والحس الوطني والتبصر العقلاني يقضي بالتحري الكامل من خداع النفس والذات والذي يتصور به هذا المخدوع أن الغزاة سوف يقفون عند قطر دون قطر أو دولة دون دولة، كم هي المناطق المشتعلة اليوم في ديار المسلمين في أفغانستان والعراق ولبنان والسودان والصومال وكنت كتبت فلسطين ثم شطبتها، لن تنعم المنطقة ولن تستقر الأمة ولن يتحقق الأمن والأمان إلا بالوحدة والاجتماع والتعايش الكريم.
إن ما يجري في الساحة من أحداث نذير خطير لا تفيد فيه مسكنات قد تأخر معاناة ولكنها لا تمنع وقوعها من أجل هذا كله أيها المسلمون فيجب أن تكون وحدة المسلمين والحوار والتعايش فيما بينها على اختلاف مذاهبها ومكوناتها يجب أن يكون غايةً كبرى وهدفاً أساساً ومصلحةً عليا ونهجاً ثابتاً وخطةً دائمة لا تقبل المساومة إن مما ينبعث في المنطقة من روائح الطائفية المنتنة الهوجاء يجب أن ينبذه أهل العلم والإيمان والفضل والعقل والرأي والصلاح يجب الحفاظ على كيان الأمة في أهلها وأمنها ومحاصرة كل بوادر فتنة وسد أبوابها، على كل صادق في دينه وناصح لأمته وساع بجد وإخلاص وإيمان لمصلحتها أن يعلن براءته إلى الله عز وجل من كل دعوة تخاصم شريعة الله وتجاهر في عدائها في تاريخها وصحابتها وأئمتها ورجالها وصالح سلفها يجب أن يعلن أن مثل هذه الدعوات والمسالك إما نهج استعماري أو مسار نفاقي أو طريق زندقة أو مسلك جاهل، إنها عند التحقيق لا يمكن أن تجتمع مع عصر الإسلام والدين والتوحيد والنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.(1/177)
وعلى الرغم من هذه الأجواء المستهرة والظروف القاسية فها هي سلسبيل أنهار التسامح والوئام أبت إلا أن تسيل وتتدفق فالخير فيها للأمة مترسخ والآمال فيها عراب كبرى وطريق الإصلاح والتصالح واضح أبلج ونماذج مبشرة والحقائق الناصعة ظاهرة ماثلة فها هو رجل الأمة والدين والدولة والمبادرات الكبرى ولي أمر هذه البلاد خادم الحرمين الشريفين وراعيهما الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وجه نداءه الحار الصادق المخلص يوم العاشر من المحرم الحرام إلى إخوانه قيادات الشعب الفلسطيني وفصائله، فهو الرجل حين تشتد الخطوط وهو القائد بإذن الله حين تعصف المهمات ورجل العروبة والإسلام والإنسانية وجه نداءه ليجتمعوا في رحاب بيت الله الحرام في البلد الحرام وفي الشهر الحرام ليبحثوا ويتحاوروا بصدق وإخلاص وأمانة وتجرد ومسئولية وألتزم لهم حفظه الله أن يهيأ لهم أجواء الحوار المثالية بمنأى عن أي تدخلات أو ضغوطات أو تأثيرات، أجواء محبة وأخوة وحيادية في الموقف وحرية في القرار مع تقديم كل سبل العون وأدواته وبذل المشورة والتعاطي الإيجابي، وعلى بركة الله وبعونه وتوفيقه التأم الشمل واجتمع الأشقاء الفرقاء على طاولة الحوار والسلام في بلد الإسلام في وساطة نزيهة لم تستغل القضية ولم ترم كسباً شخصياً أو سياسياً.
أيها القادة الفلسطينيون حفظكم الله وسددكم، لقد كنتم عند حسن الظن وأحسب أنكم صدقتم الله فصدقكم وقد قال الله في الصالحين والمصلحين: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وأحسب أنكما أردتما الإصلاح فوفقكما الله بنواياكم الصالحة وبحسن عملكم وترفعكم عن ضغوطات النفس. وبعزمات الرجال ملكتم القدرة على حل الخلاف والحفاظ على المكتسبات والتمسك بالمنجزات، لقد نجحتم بفضل الله أولاً، ثم بفضل الرعاية الملكية الكريمة وجهودكم المخلصة وعملكم الدؤوب فحصل الاتفاق وتحقق الوئام وشفى الله صدور قومٍ مؤمنين، وأذهب غيض قلوبكم، وأغاظ الأعداء والمتربصين، إنكم الصبارون الجبارون صبارون للحق والعدل وجبارون أمام الظلم والباطل فهنيئاً لكم ياخادم الحرمين الشريفين وهنيئاً لسمو ولي عهدكم وهنيئاً لكل قيادات العرب والمسلمين وهنيئاً لكم أيها القادة الفلسطينيون، وهنيئاً لشقيقنا وحبيبنا الشعب الفلسطيني العزيز الأبي الصابر المجاهد المرابط، وهنيئاً لشعب المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين الشريفين، ولشعوب العرب والمسلمين كافة، ولكل محبي السلام قيادات وشعوباً.
إنها وقفة تاريخية وموقف مشرف وإنجاز عظيم تم في ليلة مباركة هي ليلة الجمعة من الشهر الحرام في البلد الحرام، إنها وقفة تؤكد تأكيداً لا شك فيه أن الكاسب هو الجميع ولو كانت خسارة أو فشل لا قدر الله لكان على الجميع ولكان الكاسب هو العدو المتربص، وكم استغل المحتل من ثغرات وعثرات، وكم حرص على تعميق الخلاف وبث المشاحنات ولقد أقدم في أثناء خلافاتكم على تهديد المسجد الأقصى بحفرياته الظالمة، ولكن اتفاقكم واجتماعكم بإذن الله كفيل بأن تعود الأمور إلى نصابها ويرجع الحق إلى أهله بإذن الله.
وبعد يا خادم الحرمين الشريفين إن نهجكم هذا دليل ساطع على أن الإجراءات الصادقة الناصحة المخلصة هي المصدر الرئيس لحل مشكلات العرب والمسلمين فهناك مناطق في ديار العروبة والإسلام ساخنة تحتاج إلى مثل هذا الحضن الدافئ والجهد الصادق، وتغليب الحق والمصلحة العليا مع الحكمة والتكافل فبارك الله في الجهود وسدد الخطى وأعز الإسلام وأهله.
نص خطبة الدكتور صالح بن حميد في الحرم المكي يوم الجمعة 22/1/1428هـ
==============
قسم الولاء لتحصيل الجنسية
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
التاريخ: 16/06/1427
تقييم:
طباعة المقال إرسال العنوان لصديق
السؤال
أنا مقيم في أمريكا وأريد أن أحصل على الجنسية الأمريكية؛ لأن المقيم يجد بعض المشاكل كوجوب البقاء في أمريكا ستة أشهر من كل سنة وغير ذلك، والجواز الأمريكي يساعدني على السفر إلى أغلب دول العالم، بخلاف الجواز الذي أحمله الآن.
المشكلة أنه من شرط الحصول على الجنسية أن أتلو أمام القاضي بيعة الولاء. وصيغنها كما يلي:
"إني أقسم أنني أتخلي عن أي ولاء لدولة أخرى أو حاكم آخر قد سبق لي أن أواليه، وأنني سأدافع عن دستور الولايات المتحدة الأمريكية وقوانيتها ضد جميع أعدائها الداخلية والخارجية، وأنني أوالي الولايات المتحدة الأمريكية، وأنني سأحمل السلاح للولايات المتحدة الأمريكية حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأخدم الجيش الأمريكي فيما دون القتال حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأقوم بالعمل المدني للوطن حينما يلزمني القانون بذلك وأنني أتحمل هذه المسؤولية طوعا دون تردد ومن غير نية الإعراض عنها، وعلى كل هذا أقسم بالله"
هل يجوز لي أن أحصل على الجنسية الأمريكية بهذا الشرط؟ هل هناك حيلة تساعدني؟ لم أجد في الإنترنت إلى الآن جواباً عن سؤالي.
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:(1/178)
هذه القضية من قضايا الولاء والبراءة، ولذلك لابد من بيان معنى الولاء وأقسامه وأحكام كل قسم، ثم يمكن بعد ذلك تطبيق سؤال السائل عليه:
الولاء: مصدر والى يوالي موالاة ، وهو المحبة والقرب والدنو والمناصرة، وهو ضد البراء والمعاداة ، وحقيقته إضمار المودة في القلب وإظهارها في الأقوال والأفعال محبة ونصرة وهو على أقسام :
الأول: الولاء لله ولدينه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فهذا من حقائق التوحيد والإيمان وهو واجب على كل مسلم .
الثاني: الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم العبد، وهذه هي الموالاة العامة التي إذا صدرت من مسلم لكافر عدَّ صاحبها كافراً، ومن الموالاة العامة: الدفاع عن الكفار وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ومحبة انتصارهم ، وهذا كفر صريح يخرج من الملة، ويسمى (التولي) وهو أخص من الموالاة ، وداخل ضمن مفهومها .
والتولي : مصدر تولّى أي اتخذه ولياً ، وهو بذل المحب لما يرضي المحبوب بذلاً تاماً ، والتولي أخص من الموالاة ، فكل تولٍ داخل في مفهوم الموالاة ، وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي ، بل موالاة الكفار موالاة مطلقة عامة تعدُّ كفراً صريحاً .
وهذه الموالاة مرادفة لمعنى التولي وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار ، وأن من والاهم فقد كفر كما قال - تعالى -: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [المائدة : 51] فالتولي يفيد معنى الاتخاذ والالتزام الكامل بمن يتولاه ، بخلاف الموالاة التي تدل على المحبة والمتابعة بدرجات متفاوتة ، وبين التولي والموالاة عموم وخصوص .
والتولي المأمور به أصل عظيم في دين الله كما قال تعالى: "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" [المائدة :56] ويكون ذلك بحب الله - تعالى - وحب ما يحبه وبغض ما يبغضه، وحب رسوله - عليه الصلاة والسلام - وكتابه وحب دينه وأهل دينه ومناصرتهم ، وبغض أعداء دينه ومجاهدتهم.
الثالث : الموالاة الخاصة وهي المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد وعدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام ، فهذه كبيرة من الكبائر ، وبين هذا القسم والذي قبله وهو التولي مراتب ، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم بحسب نية الفاعل وقصده .
وفي القسم المذكور من أمور الولاية العامة أمور وهي: الالتزام بدستورها ونظامها وهو - بلا شك - كفري، ومنها حمل السلاح والقتال معها وهذا لايجوز،ويكون من أفعال الكفر إذا كان في قتال المسلمين، وهذا ما تفعله أمريكا اليوم في أفغانستان والفلبين وفعلته في الصومال، وقد تفعله غداً في العراق أو إيران أو غيرها من بلاد المسلمين .
وخير للمسلم أن يكون في إحدى بلاد المسلمين- ولو حصل له بعض الضيم والعنت- من البقاء في الغرب حيث الكفر والفساد واستبطان العداوة للمسلمين، والتخطيط لذلك واستيلاء اليهود ومتطرفي النصارى على زمام الأمور،لاسيما وقد تبين لكثير من الناس مقدار ضخامة الخدعة المسماة ( الديموقراطية) والعدل وحقوق الإنسان، وخاصة بعد الأحداث الأخيرة.
وهناك حالة الاضطرار التي يكون فيها بعض المسلمين مطارداً أو ملاحقاً أو مضطهداً في بلده ويتوقع حصول الأذى الشديد عليه، وليست لديه القدرة على العيش في بلاد المسلمين، ولا القدرة على الهجرة إلى بلاد تؤويه من بلدان المسلمين، وليس أمامه سوى بلاد الكفار، فيجوز له في هذه الحالة، شريطة أن يكون مبغضاً للكفار يعتقد البراءة منهم، مع قيامه بالدين علماً وعملاً حسب المستطاع.
وأصل هذا الحكم الاستثنائي ما حصل للصحابة الكرام - رضي الله عنهم - حين هاجروا إلى الحبشة، وقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً" هذا لفظ ابن هشام في السيرة (2/164) والحديث في دلائل النبوة للأصبهاني (103) وتاريخ الطبري (1/546)، وتفسيره (9/249).
وعندما رجع - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ومنعته قريش، طلب الحماية من بعض كفار مكة فأجاره المطعم بن عدي فدخل مكة واعتمر، وبهذه الحماية استطاع - صلى الله عليه وسلم - العيش في مكة آمنا، رواه ابن هشام (2/244)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (3/95) والاستيعاب لابن عبد البر (1/40) وقال في فتح الباري (7/324) أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل.
وقد استفاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في مكة من حماية بني هاشم وبني المطلب وحماية عمه أبي طالب، رغم كفرهم وشركهم، وفي صحيح البخاري (2/804) قصة خروج أبي بكر - رضي الله عنه - متوجهاً إلى الحبشة فوصل إلى برك الغماد جنوب مكة فلقيه ابن الدغنة سيد القارة، فأعاده إلى مكة وأجاره وأدخله إلى مكة آمنا وبقي في جواره مدة.(1/179)
وهذا الحال الاضطراري يدخل في عموم قوله - تعالى -: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً" [ النحل:106] قال ابن القيم مستدلاً بهذه الآية عند كلامه على تحريم الحيل (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن بالتكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) إعلام الموقعين (3/191) قال ابن حزم في المحلى(11/198):
(وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله - تعالى - وعن إمام المسلمين وجماعتهم ويبين هذا حديثه - صلى الله عليه وسلم - أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين فيما رواه الترمذي (1604) والنسائي(4780) وأبو داود(2645)من حديث جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ وهو - عليه السلام - لا يبرأ إلا من كافر قال الله - تعالى - "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة: 71] فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها من وجوب قتله متى قدر عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبرأ من مسلم وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان الكفار عليهم ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم؛ لأن الوليد بن يزيد كان قد نذر دمه إن قدر عليه وكان هو الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور).
==============
الصدقة على غير المسلمين
تقييم:
طباعة المقال إرسال العنوان لصديق
د. حمد بن إبراهيم الحيدري
السؤال
نحن نعيش في بلد النصارى, ونجد من يسألنا الصدقة عند مرورنا بالفقراء, وأحياناً يسألوننا بالله. فهل يجوز أن نعطيهم صدقة أو مساعدة؟ وهل نؤجر على ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد قال الله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في كل كبد رطبة أجر" صحيح البخاري (2363)، وصحيح مسلم (2244).
وبناء على ذلك فتستحب الصدقة حتى على غير المسلمين، وقد يكون في ذلك تأليف لهم وترغيب في الإسلام، لكن لو كانوا يستعينون بذلك على أذى المسلمين فحينئذٍ لا تجوز الصدقة عليهم. والله تعالى أعلم.
============
هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟
تقييم:
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل.
الحمد لله والصلاة على رسول الله .. وبعد :
فإن دين الإسلام، دين الرحمة بالناس أجمعين "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" [سورة الجاثية 20] ."وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [سورة الأنبياء 107]وهو دين الخير للعالمين مؤمنهم وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من جهل الحقيقة "ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة الروم 30] أو كان من المستكبرين "وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" [سورة لقمان 32] .أما خيرية الإسلام للمسلمين فهي كما قال الأول :
فليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما خيريته لغير المسلمين، فلأنه حفظ حقوقهم، وصان كرامتهم وعاملهم بالحسنى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". [ سورة العنكبوت 46 ]. ولم يتخلف هذا التعامل الراقي حتى في ساعة الانتصار، ونشوة الشعور بالعزة والغلبة .
وكانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرائه الذين يبعثهم على الجيوش والسرايا : اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" (1) .
وأما خليفته الصديق رضي الله عنه فقد أوصى مبعوثه قائد جيش الشام يزيد بن أبي سفيان بقوله : إني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه ولا تغلل، ولا تجبن (2) . وهذا السمو في التعامل في ساعة الحرب، هو ما امتثله المسلمون في عصورهم المختلفة، وبالأخص في العصور الزاهية الأولى.
وهو ما اعترف به عقلاء ومنصفوا أعدائهم، قال "ول ديورانت" : (لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الدولة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيراً لها في البلاد في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم ... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم) (3) .
وقال الفيلسوف المؤرخ الفرنسي"غوستاف لوبون" : (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب) (4) .(1/180)
وهذه المعاملة الحسنة من المسلمين لمخالفي دينهم، ليست طارئة ولا غريبة، لأنها منبعثة من أسس دين الإسلام الذي يقوم على حفظ كرامة الإنسان لكونه إنساناً، ولهذا لما جهلت هذه الحقيقة في هذه الأيام، سمعنا أصواتاً نشازاً تتعالى في الإعلام باتهام دين الإسلام وأهله بانتهاك حقوق الإنسان، ومن هنا تأتي أهمية بحث هذه المسألة [هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب أم السلم ؟!!] .
وقبل الخوض في غمار هذه المسألة الهامة، أشير إلى بعض الوقفات التي أرى أهميتها قبل البدء بالمقصود :
الوقفة الأولى :
حاجة البشرية الماسة لدين الإسلام ومُثُلِه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه، إذ هو وحده الكفيل بحل أزمات وصراعات الحضارات، وهو القادر - دون غيره - على علاج مشكلات الأمم، ومعاناة الشعوب، ومستعصيات الزمن، لأنه دين يُعنى بالفرد والمجتمع، وبالروح والجسد، وهذا ما تفتقر إليه جميع المجتمعات التي تئن تحت وطأة الظلم والضياع، وتكتوي بلهيب فقده كل الأمم التي لا تعرف إلا الشقاء والضنك في الحياة، بل لقد أصبح الإسلام ضرورة من ضروريات الحياة الهانئة السعيدة، وهذا ما صرح به بعض الأوربيين الذين درسوا الإسلام أو قرأوا عنه، يقول المستشرق الفرنسي "غستاف دوكا" (5) : (للدين الإسلامي أثر كبير في تهذيب الأمم وتربية مشاعرها ووجدانها، وترقية عواطفها، فإذا قرأت تاريخ العرب قبل البعثة، وعلمت ما كانت عليه، اعتقدت أن للشريعة السمحة في تهذيب الأخلاق التأثير الأكبر، إذ ما كاد يتصل بالأمة العربية ذلك الإصلاح الروحي المدني، حتى انتشر العدل وزال النفاق والرياء والعدوان) (6) .
الوقفة الثانية :
عالمية الإسلام، وأنه دعوة إسلامية لكل الإنسانية، هو دين الله إلى الناس كافة، ورسالته عالمية بكل ما تحمله معاني العالمية ،" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" [سورة الأعراف 158]. ورسول هذا الدين العالمي بعث إلى كافة البشر" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة سبأ 28 ]، وإنما كانت دعوة هذا الدين عالمية، لأنه جاء لتحرير البشرية كلها من الانحرافات والضلالات والعبوديات لغير الله، ولم يكن الإسلام يوماً من الأيام خاصاً بقبيلة أو جنس أو طائفة، وإنما هو دين الله إلى الناس كافة. ولأنه دين مشتمل على منهج حياة متكامل في جميع مناحي الحياة، لم يكن هذا المنهج ناتجاً عن ردة فعل لسوء أوضاع بيئة معينة، كما هو شأن المناهج البشرية الوضعية، وإنما هو منهج عام شامل كامل، أراده الله ليكون للبشرية جمعاء في كافة ديارها وشتى أقطارها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاماً وطاعة عامة، وقد بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يكن يقبل من أحد إلا الإسلام) (7) .
الوقفة الثالثة :
تتجلى عظمة الإسلام وشموليته وعالميته في جوانب كثيرة من التشريعات، منها جانب تنظيم العلاقات، سواء في علاقة المسلمين بربهم، أو علاقة بعضهم ببعض، أو علاقتهم بالآخرين ممن لم يعتنقوا دينهم على أي وجه كان، وصدق الله إذ يقول: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"( سورة النحل - 89)، وقد جاء تنظيم العلاقة مع الآخرين في منتهى الروعة والكمال والجلال، في كافة شؤون الحياة، وفي مختلف الظروف والأحوال سواء في حال الحرب، أو في حال السلم، وسواء كانوا أهل ذمة أو مستأمنين أو معاهدين أو حربيين أو مرتدين، نظمها تنظيماً دقيقاً راعى فيه تحقيق المصالح والعدل، وحفظ حق الدين والإنسان، ومن أتي في شئ من هذا الباب، فإنما أتي لعدم تنزيله النصوص على الأشخاص أو الأحوال على وجهٍ صحيحٍ.
الوقفة الرابعة :
تعاملات المسلمين مع الكفار - وبالأخص في هذا الزمن - لا يلزم أن تمثل منهج الإسلام في التعامل معهم، لأن نظرات الناس وتصوراتهم نحو العلاقة بالكفار متباينة، كما أن واقعهم الفعلي متفاوت بين انفتاح وانغلاق، وبين انقباض وانبساط، من المسلمين اليوم من لا يفرق بين الكافر الحربي، وبين الذمي والمستأمن، ويرى أن العلاقة معهم جميعاً، قائمة على العنف والغلظة والمباينة المطلقة في كل معاملة، حتى في العقود المالية، والبيع والشراء، ولربما استند من هذا شأنه إلى قول الله تعالى :" محمد رسول الله والذين معه، أشداء على الكفار" [سورة الفتح 29] وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"(8).
ومنهم من يرى أن العلاقة بالكافر كالعلاقة بالمسلم في الجملة، وهذا الفهم يكثر عند من يعيش من المسلمين في أحضان الكفار، بسبب الانصهار في مجتمعاتهم، والاندماج في بيئاتهم .(1/181)
كما يوجد هذا التمييع والتفريط عند بعض المسلمين في بلاد الإسلام بسبب الجهل أو رقة الديانة، أو الإعجاب بالكفار وا لانبهار بحضارتهم، ولذلك وجدنا من المسلمين اليوم من ينادي بالمساواة بين الأديان السماوية، وعدم التفرقة بين اليهودية والنصرانية والإسلام، والمؤمن المنصف يعرف – بداهة – تساقط هذين الرأيين، فأما الرأي الأول المتبني للغلظة والعنف مطلقاً، فهو يتنافى مع سمو الإسلام وسماحته وعالميته، ويتنافى أيضاً مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وعموم تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملات صحابته مع اليهود والمشركين تثبت تهافت هذا الرأي وسقوطه من ذلك :
1- قصة الرهط من اليهود الذين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم، فرد" وعليكم" فقالت عائشة - رضي الله عنها -:"وعليكم السام واللعنة" فقال صلى الله عليه وسلم "مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله (9) .
2- ولما قيل له صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين قال :” إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" (10) .
3- ولما قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس قال : اللهم اهد دوساً وات بهم" وفي رواية قال : "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً (11).
وأما حديث” لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه"(12).
فهو كناية عن عزة المسلم، فلا يكون ذليلاً أمام الكافر، فإذا لقيه فلا يبدأ بالسلام، ولا يفسح له في الطريق ويذل نفسه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول : السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز، كما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وغيره : سلام على من اتبع الهدى .. قال القرطبي في قوله :" وإذا لقيتموهم في طريق ...." معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى طرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب) (13) . هذا ما يتعلق بالرأي الأول .
أما الرأي الثاني – الذي تبدو فيه الميوعة والتمييع لأصول الإسلام وثوابته، فهو أظهر ضعفاً، وأبين عوارا،ً ومصادمته لثوابت الشريعة لا تخفى على ذي إنصاف، إذ البراءة من الكفر وأهله، من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة قال تعالى :" وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون" [سورة الزخرف 26-28] .
والكلمة الباقية : هي لا إله إلا الله في قول كثير من المفسرين (14) .
يقول ابن كثير : (يقول تعالى مخبراً عن عبد الله ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث من بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: "إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه” أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام)(15) .
وجاء تفصيل موقف إبراهيم من أبيه وقومه في سورة الممتحنةفي قوله سبحانه :” قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء" [سورة الممتحنة 4] .
والبراءة المذكورة في هذه الآية تعني الأمور الآتية :
1- إنكار الباطل والتبري منه :
والباطل وإن كان يشمل كل ما ضاد الحق مما لا يريده الله ورسوله من كفر وفسوق وعصيان، إلا أن المراد به هنا : الكفر، فلا بد من إنكاره باليد أو باللسان أو بالقلب .
هذا مع أن الإنكار القلبي هو الأساس، وهو مستقر في قلب المؤمن، وإن لم يستطع الإنكار باللسان أو باليد .
2- البغض والعداوة، وهما من أهم معالم البراءة :
وقد دلت عليهما نصوص كثيرة، كقوله تعالى في موقف إبراهيم عليه السلام من قومه: "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده” [الممتحنة 4] .
وقوله : "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم” [المجادلة 22] .
3- عدم الموالاة مطلقاً :
قال الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" [سورة النساء 144] .(1/182)
وقال : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ سورة المائدة 51] .
وقال : "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" [سورة آل عمران 28] والآيات كثيرة .
أما الموالاة، فقال الراغب في مفرداته (16) : (الولاء والتولي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية : النصرة) أ.هـ.
فهي تشمل : الموالاة القلبية، وهي ميل القلب إلى الكافر تعظيماً وحباً أو اعتقاداً بصحة ما هو عليه، ومن ذلك التشبه به .
والموالاة العملية : وهي الميل والاقتراب من الكافر في الأمور العملية : كمعاشرته، ومداهنته، وتقريبه، وجعله بطانة، وطاعته في غير ما شرع الله ومناصرته، والإقامة بين ظهراني المشركين من غير حاجة، ومشاركتهم في الأعياد. وهذه الموالاة متفرعة من الموالاة القلبية، لأنها - أي الموالاة العملية – لا تتم في الغالب إلا بميل القلب وإصغائه .
فكل ذلك موالاة ممنوعة، وهي تتفاوت في المفسدة، ولذلك كان منها ما هو مخرج من الملة، ومنها ما هو معصية كبيرة، ومنها ما هو صغيرة(17)، ولا شك أن مقتضى البراءة عدم الموالاة مطلقاً .
الوقفة الخامسة :
يجب اعتبار حال المسلمين في القوة والضعف، وحال ظروف زمانهم، وملابسات قضاياهم، والنظر في مصالحهم الكبرى، وبذل الجهد في دفع المفاسد العظمى عنهم .
ولذلك نجد القرآن زاخراً وحاشداً بالآيات التي فصلت العلاقة بالكفار، وراعت أحوال الظروف والمواطن والزمن واتخذت المواقف المتناسقة معها، والمتأمل في ذلك يلحظ أن هذه المواقف جاءت على مرحلتين :
المرحلة الأولى : العهد المكي، وجملة الموقف منهم يتلخص في :
أ - المفاصلة الشعورية و تنافر القلوب بين المؤمنين والكافرين .
ب- الهجر الجميل، أو المقاطعة للكفار .
كما في قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً" [سورة المزمل 10] .
ج- أمر المؤمنين بالصبر على الأذى .
كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" [سورة النحل 127] .
د - الأمر بالعفو والصفح .
كما في قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ سورة الزخرف 89] .
هـ- الأمر بكف اليد وعدم القتال .
كما في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" [سورة النساء 77](18) . الآية .
و - الاستمرار في الدعوة والنذارة، كما في قوله : "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" [سورة الحجر 94] .
المرحلة الثانية : العهد المدني :ويتلخص الموقف في :
أ - تمييز المسلمين واستقلالهم في إقليم، وإعلان وحدتهم، ولذلك تكاملت التشريعات والأحكام العملية مع قصر هذا العهد .
ب- المواجهة مع الكفار، بالقوة البيانية، والقوة الاجتماعية، والقوة المادية .
ج- تشريع الجهاد .
وبه تحددت العلاقة مع الكفار على اختلافهم إلا أن هذا التشريع جاء على مراتب كما ذكر ابن القيم- رحمه الله - (19) ، وقد روعي في هذه المراتب واقع حال المسلمين وظروفهم وإمكانياتهم، ثم استقر أمر الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة .
د-منع موالاة المؤمنين للكافرين مطلقاً.
الوقفة السادسة :
لا بد من معرفة أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم وأنهم :
1- إما أهل عهد .
2- وإما من ليس له عهد .
وأهل العهد ثلاثة أصناف :
أ - أهل الذمة (20) :
وهم الذين يعطون عقداً مستمراً للبقاء في دار الإسلام إذا أعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام .
ب- المستأمنون :
وهم الذين يعطون عقداً مؤقتاً للبقاء في دار الإسلام لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو تجارة أو سفارة .
ج- أهل الصلح والهدنة :
وهم الكفار الذين بينهم وبين دولة الإسلام عهد، إما عهد هدنة، وهو الاتفاق على إيقاف الحرب لمدة معلومة، وإما معاهدة مطلقة (21).
والذين لا عهد لهم صنفان في الجملة :
أ - إما كفار أصليون محاربون(22):
وهم الذين لا عهد لهم ولا ذمة، سواء أكانوا محاربين فعلاً أم لا، فإن من ليس له عهد لا يستبعد منه الحرب للمسلمين .
ب - وإما مرتدون عن الإسلام (23) .
هذه هي أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم، ومسألة هل الأصل في علاقة المسلمين بالكفار السلم أو الحرب شامل لجميع هذه الأنواع السابقة .
والآن قد حان الشروع إلى المقصود وأقول مستعيناً بالله :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وبهذا قال كثير من علماء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة(24).(1/183)
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من القرآن والسنة والمعقول .فأما الأدلة من القرآن فهي على نوعين :
النوع الأول :
آيات تأمر بقتال الكفار مطلقاً كقوله تعالى : "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" [سورة الحج 39]، وقوله : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم" [سورة البقرة 216]، وقوله : " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال"[سورة الأنفال 65]، وقوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 191] ، وقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5 ]، وهذه تسمى آية السيف، قيل إنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم(25)، وكقوله تعالى أيضاً : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [سورة التوبة 36] وهذه الآية من أهم أدلة أصحاب هذا القول لأن فيها الأمر – كما يرون – بالقتال الجماعي للمشركين كافة، وشبيه بها قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [سورة التوبة 123]، وكذلك قوله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ..."[ سورة التوبة 29] .فهذه الآيات وما شابهها مما لم يذكر، تدل على وجوب قتال الكفار مطلقاً دون قيد أو شرط، لأن هذا الفريق يرون أن قتال الكفار هو دعوة إلى الإسلام، وحمل للمخالفين على نبذ كفرهم، واعتناق الإسلام.فإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال من الأحوال .
النوع الثاني :
الآيات التي ورد فيها النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء أو القاء المودة إليهم مطلقاً كقوله تعالى:" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" [سورة آل عمران 28]، وقوله :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [سورة المائدة 51]، وقوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" [سورة الممتحنة 1]، وقوله :"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ..." [سورة المجادلة] .
ففي هذه الآيات دلالة على وجوب أن لا يكون للمسلمين مع الكفار محالفة أو موالاة أو مودة واطمئنان وثقة. لانطوائهم على الغدر والحقد، وتبييتهم الخيانة والنقض، وانتظار الفرصة المواتية للنيل من المسلمين .
-وأما الأدلة من السنة، فقد ورد الأمر فيها بالقتال حتى تتحقق الغاية من القتال وهي اعتناق الإسلام، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"(26) ، ومعنى هذا – عند أصحاب هذا القول - أن للسيف المقام الأول في تقرير دعوة التوحيد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (27) .
وهذا يدل على أن الأمر بقتال الناس هو من أجل الدخول في الإسلام، فالقتال إذن هو الطريق الأول للدعوة إلى الإسلام وترك الكفر، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بهذا المعنى .
- وأما الاستدلال بالمعقول، فتقريره : أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على كفرهم، لأن الله أقام الأدلة القاطعة على وجوده ووحدانيته، وأن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، فلا بد من حملهم عليه قسراً امتثالاً لما ورد في النصوص التي سبق ذكرها .
القول الثاني :
أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وبهذا قال سفيان الثوري وسحنون من المالكية، ونسب لابن عمر – رضي الله عنه -، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ،ومن المعاصرين محمد رشيد رضا، ومصطفى السباعي .واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .
فأما الأدلة من كتاب الله فهي على أربعة أنواع :
النوع الأول :
الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالسلم، وحث فيها على قبوله من الكفار حين اللجوء إليه كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ..." [سورة البقرة 208]، وقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [سورة الأنفال 61]، وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [ سورة النساء 90]، وقوله :” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا” [سورة النساء 94] .
فهذه الآيات البينات، جاء فيها الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه .
النوع الثاني :(1/184)
الآيات التي قيد الله فيها الأمر بقتال الكفار في حال اعتدائهم وظلمهم للمسلمين كقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا، فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [سورة البقرة 190-193]، وقوله : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمي أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً" [سورة النساء 75]، وقوله :"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله" [سورة الحج 39 – 40] .
النوع الثالث :
الآيات التي أباح الله فيها صلة وبر الكفار الذين لم يقاتلونا كقوله تعالى :” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8] .
النوع الرابع :
قوله تعالى : "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي .." قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(جمهور السلف على أنها ليست بمنسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودينه، وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله، ولا يقدر أحد قط أن ينقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اكره أحداً على الإسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من اسلم قبل منه ظاهر الإسلام) (28).
أما الأدلة من السنة لأصحاب هذا القول – الذين قالوا بأن الأصل مع الكفار السلم – فكثيرة منها :
1-قول النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا (29) . حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو، وهذا يدل على أن حالة الحرب حالة طارئة، لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها، وتوافرت دواعيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بسؤال الله العافية والسلامة، فإن قدر للمسلم لقاء عدوه فالمشروع حينئذ الصبر والثبات، وكل هذا يفيد أن الأصل في العلاقة مع الكفار السلم .
2- حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين، [27 غزوة] كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال (30).
3- رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام (31)، يدل على أن الأصل السلم، ولو كان الأصل الحرب لما أرسل إليهم رسائل، وإنما بعث إليهم جيوشاً للمحاربة .- واستدلوا أيضاً بالإجماع، حيث نقل اتفاق المسلمين(32) عملاً بالثابت من السنة، انه لا يجوز قتل النساء والصبيان – وزاد الحنفية والمالكية والحنابلة ـ: الرهبان والشيوخ، والعميان والزمنى والعجزة والأجراء والفلاحين في حرثهم، إلا إذا قاتلوا أو شاركوا برأي أو إمداد، قالوا لوكان الأصل مع الكفار الحرب لحملهم على الإسلام، ما ساغ استثناء هؤلاء، واستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (الصواب أنهم لا يقاتلون، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر) (33) .
- واستدلوا أيضاً بالمعقول : ووجهه : ان وسائل الإكراه والقهر لا يمكن أن تنجح لفرض الدين في النفوس، لأن الدين أساسه القناعة، وهو شيء قلبي، واعتقاد داخلي، وما كان كذلك فطريقه الحجة والبرهان والإقناع لا القوة والقهر قال تعالى :” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [سورة يونس 99] .
وقال تعالى : لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي [سورة البقرة 256] .
هذه أبرز أدلة أصحاب القولين، ولهم عليها مناقشات وردود، أغضيت عنها اختصاراً، والذي يمكن استنتاجه بعد هذا الاستعراض السريع لنصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو دعوتهم إلى دين الإسلام كمرحلة أولى لا يسبقها غيرها، بل هي البوابة لتحديد نوع العلاقة (34)، لأن الأمة مخاطبة بنشر دينها وعقيدتها، فإذا ما قامت بهذا الحمل الدعوي الكبير، ودعت أمم الكفر لدين الإسلام ففي هذه الحالة ينقسم الكفار إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول :(1/185)
من يستجيب منهم لدعوتنا، ويعتنق ديننا، فهؤلاء اخواننا لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، قال تعالى : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )) {سورة التوبة ـ 11} وقال تعالى: (( فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)) {سورة التوبة ـ 5}.
القسم الثاني :
من لا يقبل الدخول في الإسلام، لكن لا يقف في طريق دعوته، ولا يقاتل من يدعو إليه، ويلقي الينا السلم سواء كان من أهل العهد أو لم يكن فهؤلاء الأصل في حقهم المسالمة، ما لم يعتدوا بقول أو فعل، وعلى هؤلاء تحمل الآيات التي أمر الله فيها بالسلم، وأباح فيها الإحسان للكفار كقوله تعالى :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8]، وقوله :” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” [سورة الأنفال 61]، وقوله: "فإن اعتزلوكم، فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [سورة النساء 90] .
قال الشوكاني رحمه الله على هذه الآية : ( فإن اعتزلوكم ولم يتعرضوا لقتالكم وألقوا إليكم السلم أي استسلموا لكم وانقادوا، "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً” أي طريقاً، فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه)(35) .
القسم الثالث :
من يرفض الدخول في الإسلام، ويقف في طريق دعوته، أو ينقض عهداً مع المسلمين، أو يعتدي على أحد منهم بقول أو فعل، أو يخطط لذلك مستقبلاً، فهؤلاء الأصل في حقهم الحرب – وهي المرحلة التالية لدعوتهم إلى دين الإسلام – وعلى هؤلاء تحمل الآيات الواردة بقتال المشركين كقوله تعالى :"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله : "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..." [سورة التوبة 29]، وقوله : "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5]، وقوله : "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 193] والمراد بهؤلاء الذين أمر الله بقتالهم في هاتين الآيتين كفار مكة الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأخرجوهم منها (36)، لأنه قال بعد قوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" :"واخرجوهم من حيث أخرجوكم" فأمر الله بقتالهم أنى كانوا، لأنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضي الله عنهم-، و أخرجوهم من ديارهم، ووقفوا في طريق دعوتهم للإسلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال تعالى : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين” [سورة البقرة 190])(37) وقال أيضا (وأما النصارى فلم يقاتل أحداً منهم حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام .... فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغياً وظلما فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّر عليها زيد بن حارثة ثم جعفر ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام ،واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء رضي الله عنهم)(38).
وقال الإمام النووي رحمه الله : (الناس صنفان فأما الذين قاتلوا أهل الإسلام أو أجلوهم عن أوطانهم أو أعانوا على شيء من ذلك فمن الظلم المنهي عنه أن يتولاهم المسلمون، ويحسنوا إليهم، ولهؤلاء وأمثالهم شرع القتال ليفسحوا للدعوة سبيلها، وأما الذين لم يفعلوا شيئاً من ذلك فلا على المسلمين في الإحسان إليهم والبذل لهم، ولو كان هؤلاء ممن أمر بقتالهم لما ساغ ذلك، فعسى أن يكون فيه قوة لهم، مع أن إضعاف العدو بكل وسيلة من أخص ما يعنى به المحاربون) (39) .
وأما قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [سورة التوبة 36 ] فهذا من طريق المقابلة الجماعية أمام تكتل المشركين الجماعي وهو أمر لكافة المسلمين المُقاتلين بمحاربة كافة المشركين المقاتلين .
قال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية : (كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم) (40).
وقال ابن عطية رحمه الله : (لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله :” كما يقاتلونكم” فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) (41) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : (قاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين، وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة )(42).(1/186)
وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره 6/1803 – والبيهقي في سننه (ح17938) – وروى أبو داود في سننه في الجهاد، باب في نسخ نفير العامة بالخاصة (ح2505) – والبيهقي في سننه أيضاً، في السير، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية (ح17937) – من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال في قوله : "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً "[سورة التوبة 39]، وقوله : "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" [سورة التوبة 120] قال نسختها الآية التي تليها : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" [سورة التوبة 122] .
وبهذا التفصيل السابق تجتمع الأدلة، ويتم إعمالها جميعاً، وتُنزل النصوص في محالِّها، فأما كون الأصل الأول الذي يتحدد به نوع العلاقة، دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم فهذا محل اتفاق بين أهل العلم (43) لأدلة كثيرة منها :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب يوم خيبر : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" (44) .
2-كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ..."(45) .
3- قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوماً قط إلا دعاهم)(46). قال الطبري : (أجمعت الحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهاره الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة)(47) . ومعنى هذا أن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم أمر واجب إن كانت دعوة الإسلام لم تبلغهم، ومستحبه إن تكن قد بلغتهم، هذا إذا كان المسلمون هم الذين قصدوا الكفار في ديارهم، أما إذا كان الكفار هم الذين قصدوا المسلمين ففي هذه الحالة للمسلمين أن يقاتلوهم من غير دعوة، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم وحريمهم .(48).
وإلى هنا انتهى المقصود – باقتضاب شديد – والله أعلم .
----------------------------
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح 1617)، وابن ماجه (ح2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، في الجهاد، النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (ح1292) عن يحيى بن سعيد مرسلا.
(3) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، للعايد ص 6 – نقلاً عن قصة الحضارة 13/131.
(4) معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/256 – إعداد : المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – الأردن .
(5) مستشرق فرنسي، كان يدرس اللغات الشرقية في باريس، له العديد من المقالات عن جغرافية البلدان الإسلامية، وألف كتاباً اسمه :"تاريخ فلاسفة المسلمين وفقهائهم". انظر : الأعلام للزركلي 5/120 .
(6) ينظر : هداية المرشدين، لعلي محفوظ ص 531، ومنهج الداعية في دعوته لغير المسلمين، لأسماء الوهيبي ص 13 .
(7) الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 13 .
(8) أخرجه مسلم في صحيحه، في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الأدب، باب 35- ومسلم في صحيحه في السلام (ح10) – من حديث عائشة .
(10) أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة (ح87) – من حديث أبي هريرة .
(11) أخرجه البخاري في صحيحه، في المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (ح4392) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (ح2524) – من حديث أبي هريرة .
(12) أخرجه مسلم في صحيحه في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(13) فتح البارىء 11/40 .
(14) انظر : تفسير الطبري 25/63 .
(15) تفسير ابن كثير 4/136 .
(16) ص 533 .
(17) يراجع في تفاصيل ذلك : الولاء والبراء في الإسلام / للقحطاني . والموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية / للجلعود . والاستعانة بغير المسلمين ص 51 – 86، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 33 – 36 كلاهما للدكتور عبد الله الطريقي .
(18) ويراجع في تفسير الآية : تفسير ابن كثير 1/538 .
(19) زاد المعاد 3/158- 161 .
(20) الذمة : بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق . ومثلها : الذمام . ( انظر : النهاية في غريب الحديث 2/168 ) .
(21) على أنه ينبغي أن يعلم بأنه لا يجوز عند الفقهاء عقد معاهدة أبدية، انظر أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة د / إسماعيل العيساوي .(1/187)
(22) يجوز عند المالكية والحنفية عقد الذمة مع جميع أصناف الكفار واستثنى الحنفية منهم عبدة الأوثان من العرب، انظر حاشية الدسوقي للدردير 2/206، شرح السير الكبير للسرخسي 5/1692، الموسوعة الفقهية - مصطلحات أهل الذمة - .
(23) ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/414، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 4 - 5 - 14 - 15 .
(24) انظر : كشاف القناع 3/28، 32 - 36، فتح القدير لابن الهمام 4/277-282، البدائع للكاساني 7/100، مغني المحتاج للشربيني 4/2-9 - 219، اللباب في شرح الكتاب للميداني 4/115، معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/249 .
(25) الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن خزيمة ص 264، والناسخ والمنسوخ لابن حزم 2/179، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص 264، وتفسير المنار 10/199 .
(26) أخرجه أحمد (ح5115)، وابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في الشعب (ح1199) - من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف .
(27) أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة (ح7284)، ومسلم في الإيمان (ح20 - 21) - من حديث أبي هريرة .
(28) السياسة الشرعية ص 123 - 125 .
(29) أخرجه البخاري في صحيحه، في الجهاد (ح2966)، ومسلم في صحيحه في الجهاد (ح1741) - من حديث أبي هريرة .
(30) انظر : رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(31) كهرقل وكسرى والمقوقس والمنذر بن ساوى وملك عمان وصاحب اليمامة هوذة بن علي والحارث الغساني وغيرهم من ملوك وأمراء المناطق انظر : نصوص هذه الرسائل في صحيح مسلم بشرح النووي 12/103، 111 زاد المعاد3/688ـ697، وحياة الصحابة للكاندهلوي 1 / 31، 124 .
(32) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 414، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 201.
(33) السياسة الشرعية ص 123 .
(34) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا يسوغ طرح هذه المسألة على أن العلاقة مع الكفار سلم أو حرب، لأن فيه إيهاماً يؤدي إلى اللبس في شأن هذه العلاقة هل هي قبل تبليغ الدعوة ورفض الاستجابة أو بعد ذلك، لأن الفرق بينهما مختلف . انظر : أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي للعيساوي ص 50 - 51، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/828 - رسالة دكتوراه، د محمد خير هيكل .
(35) فتح القدير 1/742 .
(36) تفسير الطبرى 2/109، تفسير ابن عطية 8/132، تفسير البغوي 1/162 .
(37) الفتاوى 28/354 .
(38) رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(39) شرح مسلم 1/98 - 99 .
(40) تفسير ابن كثير 2/469 .
(41) المحرر الوجيز 8/178 .
(42) تفسير السعدي 2/244 .
(43) انظر : المبسوط 10/3، البحر الرائق 5/81، حاشية ابن عابدين 4/128، المغني 9/172-173، كشاف القناع 3/40، مطالب أولي النهى 2/509، روضة الطالبين 9/259، الفواكه الدواني 1/396، شرح صحيح مسلم للنووي 1/197 - 12/36، سبل السلام 4/45، الموسوعة الفقهية 16/143، موسوعة الإجماع لابن تيمية ص 340 .
(44) البخاري (ح3701)، ومسلم (ح2406)، وأحمد 5/333- من حديث سهل بن سعد .
(45) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح1617)، وابن ماجه (ح2858) - من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .
(46) أخرجه أحمد (ح2105)، والدارمي (ح2444)، وأبو يعلى (ح2591) - من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس، وسنده صحيح .
(47) اختلاف الفقهاء ص 2 .
(48) انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/5 .
==============
مسلمو الصين.. هل يكونون شركاء في النهضة؟
الرياض/ عبد الله أبا الخيل
تاريخ المسلمين في الصين قديم قدم الإسلام؛ إذ تشير المصادر إلى أن الإسلام دخل الصين رسميا عام 29هـ، ومنذ ذلك الحين قامت للمسلمين عدة دول فيما يسمى الصين حالياً أو تركستان الشرقية والغربية.
ولا توجد أرقام واضحة لعدد المسلمين في الصين حيث تصرح الحكومة الصينية أن عدد المسلمين لا يتجاوز (24) مليون مسلم، بينما أقل الإحصاءات الأخرى تشير إلى أن عدد المسلمين في الصين لا يقل عن (50) مليوناً قبل (10) سنوات، وإحصاءات أخرى تشير إلى أن عدد المسلمين يتجاوز مائة مليون نسمة.
وينحدر المسلمون الصينيون من قوميتين رئيستين:
التركستانيون، ويرجعون إلى العرق التركي ومعظمهم من الإويغور، وموطنهم الأصلي تركستان الغربية (أذربجيان - تركستان- تركمانستان.
والمسلمون الصينيون؛ إذ يعتنق الإسلام أكثر من عشر عرقيات من أصل (56) عرقية تتوزع في الصين، منها تونجان كانسو ونينغ سيا، ويقيم أكثرهم في تركستان الشرقية (سينكيانغ) وإقليم شانج يانج.
المسلمون والصراع مع الشيوعية
عانى المسلمون في الصين من اضطهادات بالغة البشاعة من النظام الشيوعي القائم، وخصوصاً في عهد مؤسس الصين الشيوعية (ماو تسي تونغ) 1949م، مورست ضدهم جميع أنواع الاضطهاد والتهجير، قام المسلمون على إثرها بثورات ضد الحكم الشيوعي استمرت هذه الحملات من عام 1949م إلى عام 1976م، كانت البداية بثورة الجنرال حسين مايو فان عام 1949م، مروراً بثورة التبت وثورة الجوعى، وانتهاء بثورة الجنرال عمر باتور في تركستان الشرقية.
الجمعيات الإسلامية في الصين(1/188)
أنشأ المسلمون في الصين وتركستان العديد من الجمعيات الإسلامية قبل الثورة الشيوعية، منها:
جمعية التقدم الإسلامي، وأنشأها أعيان المسلمين برئاسة الشيخ عبد الرحمن وانغ هاويان في مدينة بكين سنة 1911م،
الجمعية الإسلامية الصينية، وقد أُنشئت في مدينة شنغهاي سنة 1923م، أنشأها الأستاذ الإمام هلال الدين هاتي جنغ وزملاؤه.
جمعية نقابة المسلمين، وأنشأها الجنرال مافو سيانغ وبعض زملائه، في بكين سنة 1927م.
جمعية الاتحاد الإسلامية، أُنشئت في تين تسين.
جمعية شبان الشعب الإسلامي الصيني، وتم إنشاؤها سنة 1933م في بكين.
لجنة الترقية لأبناء المسلمين، وقد أنشأها عدد من المسلمين، منهم: الأستاذ ووتي كونغ سنة: 1933م في نانكينغ.
جمعية الهداية الإسلامية الصينية، وقد أُنشئت في تاي يون.
الجمعية الاتحادية الإسلامية، أُنشئت سنة 1938م وكان رئيسها: الجنرال عمر باي تشونغ، وزير الدفاع الصيني حينذاك، وكان هدفها مقاومة العدوان الياباني وتوثيق العلاقات مع الدول الإسلامية.
وقد أُلغيت هذه الجمعيات، وأسست الحكومة الشيوعية عام 1953 م، جمعية حكومية واحدة تحت مسمى (الجمعية الإسلامية الصينية) ولها (460) فرعاً في أنحاء الصين، وينظر كثير من المسلمين إلى هذه الجمعية نظرة شك وريبة، كونها جمعية حكومية، ويرى بعض المسلمين أن الغرض من إنشائها، إحكام الحزب السيطرة الكاملة على جميع أنواع النشاطات الإسلامية، بحيث لا يزاول المسلمون في عباداتهم وعاداتهم، وفي منازلهم ومساجدهم ومناسباتهم، إلا ما تأذن به الدولة، مما لا يعارض سياستها المرسومة.
وضع المسلمين الحالي في الصين
المتأمل في الوضع الحالي للمسلمين في الصين، يجد أن الحكومة الصينية تفرق بين المسلمين الصينيين الذي ينتشرون في أنحاء الصين، وبين المسلمين ذوي الأصول التركساتنية (الإويغور) الذي يقيمون في تركستان الشرقية، حيث تتاح للمسلمين الصينيين بعض الحريات في الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية التي ستُذكر لاحقاُ.
أما المسلمون في إقليم تركستان الشرقية (سينكيانغ) فلا يزالون يعانون من اضطهاد الحكومات الصينية، حيث يُمنعون من تدريس أولادهم العلوم الشرعية علانية، ويلجأ المسلمون إلى كهوف تحت الأرض لتعليم أولادهم العلوم الشرعية، ويكون مصير الأستاذ القتل أو السجن الطويل على أقل تقدير في حال القبض عليه.
ولا يكاد يوجد في تركستان أي جمعية خيرية أو معهد إسلامي، كما أن الحكومة الصينية تحاول دائماً منع التركستانيين من مغادرة البلاد أو إعطائهم جوازات سفر، وتقوم الحكومة بما يُسمّى توطين الصينيين في داخل تركستان، وذلك عن طريق جلب ما لا يقل عن (20- 30) أسرة سنوياً من الأسر التي لا تعود أصولها إلى تركستان- ويكونون من غير المسلمين- إلى تركستان وبناء مستوطنات لهم وتوظيفهم وتوطينهم بشكل كامل، وتهدف الحكومة من هذا التوطين إقامة توازن بين عدد المسلمين وغيرهم في هذا الإقليم ذي الأغلبية المسلمة.
ويعود سبب هذا التفريق بين المسلمين الصينيين (الخوي) والمسلمين التركستانيين (الإويغور) إلى أن تركستان هي في الأصل امبراطورية مسلمة احتلتها القوات الصينية، ولا يزال مسلموها يطالبون بالإنفصال، ويشير بعض المراقبين إلى الأهمية الإستراتجية التي تتمتع بها تركستان بحكم موقعها وكثرة ثرواتها، ومنها إنتاجها من النفط الذي لا يقل عن إنتاج دول الخليج النفطية، كما أن مساحتها تتجاوز (1,8) مليون كلم.
أوضاع المسلمين بعد عهد (ماو) في بقية الصين
يحس بعض المسلمين الصينين بتحسن الأوضاع بعد وفاة الزعيم الصيني (ماو) ذي القبضة الحديدية، ويمكن تلخيص أبرز المكاسب التي تحققت للمسلمين بعد موته في النقاط التالية:
سُمح رسمياً بالاعتقاد الديني.
أُعيد فتح المساجد وترميم بعضها على نفقة المسلمين.
استؤنف التعليم في المساجد لأبناء المسلمين.
سُمح لهم بالاحتفال بالأعياد؛ إذ يُمنح كل موظف مسلم إجازة في الأعياد، واستؤنفت بعثات الحج.
تمكن المسلمون من إعادة جسور اتصالهم بإخوانهم في الأقطار الإسلامية عن طريق تبادل الزيارات وحضور بعض الندوات والمؤتمرات.
استطاع الشباب المسلم الصيني أن يسافر إلى بعض البلدان الإسلامية، للدراسة في المعاهد والجامعات الإسلامية، بعد انقطاع طويل، وهذا يعدّ من أحسن الفرص التي أُتيحت لأبناء المسلمين.
المشاركة في بعض الوظائف الحكومية-وإن كان جلّها من الوظائف الصغيرة أو الخدمية.
أُعيد فتح مطاعم المسلمين في كل المقاطعات والمدن.
أُتيحت الفرصة-غير الرسمية-للشباب المسلم في الصين أن يقوموا بنشاطات دعوية، وإن كانت محدودة.
أبرز المشكلات التي تواجه المسلمين في الصين(1/189)
يعدّ التنصير من أبرز المشكلات التي تواجه المسلمين في الصين، ويعمل المنصرون الغربيون على تنصير المسلمين بشكل مكثف عبر طرق عديدة، منها: الإذاعات الموجهة لهم من هونج كونج، وفرنسا، وبريطانيا، وأمريكا، كما تقوم الجمعيات التنصيرية بتكثيف بناء الكنائس، فقد وصلت عدد الكنائس في الصين إلى (30) ألف كنيسة، أما المساجد فهي (50) ألف مسجد، رغم الفرق الهائل بين عدد المسلمين الصينيين والنصارى، وتقوم الكنائس بالتنصير عن طريق الدعم المادي، وتوزيع المكآفات على من يدخل الكنائس، كما توزع الكنائس كتباً باللغات المحلية توضح فيها أوجه الاتفاق بين الإسلام والنصرانية للدخول إلى قلوب العامة من المسلمين.
ويشير بعض المسلمين إلى أن الحكومة الصينية بدأت تلتفت إلى حركات التنصير المكثفة واعتقلت بعض القسس.
غياب الهوية الإسلامية للبارزين من المسلمين
رغم وجود العديد من المسلمين الذين يتولون مناصب مهمة في الدولة، ووجود بعضهم في وظائف التدريس في التخصصات العلمية، إلا أنه لا يوجد لكثير منهم أي مظهر من مظاهر الإسلام أو العمل الإسلامي.
غياب القيادات الإسلامية
ففي ظل القمع الذي تم في عهد (ماو)، فقَد المسلمون العديد من قياداتهم السياسية والدينية التي قُتل بعضها وسُجن البعض الآخر، كما أن تغييب الهوية الإسلامية في نفوس الأطفال، وإيقاف التعلم الديني للمسلمين ساهم في غياب القيادات الإسلامية الشابة.
دعوات التشيّع
وتنشط الدعوات إلى التشيّع في المناطق ذات الأكثرية المسلمة في الصين، وذلك بدعم من الحكومة الإيرانية التي تقوم بابتعاث مئات الطلاب سنوياً إلى إيران لتدريسهم العلوم الشرعية على المذهب الشيعي، ويشير أحد المسلمين إلى أنه تلقى دعوة من السفارة الإيرانية في الصين، للدراسة في إيران، ووصل العرض إلى توفير سكن خاص بالطالب داخل إيران وتوفير سيارة خاصة وزوجة يختارها من إيران.
ويمكن لأي صيني الحصول على بعثة للدراسة في إيران عن طريق تقديم طلب لدى السفارة الإيرانية، إذ يأتي الرد دائماً بالموافقة والدعم.
الفقر النسبي
ويلاحظ الزائر للصين وجود أكثرية من المسلمين الصينيين تحت خط الفقر، وذلك يرجع لاشتغال أكثرهم بالزراعة والرعي وصيد الأسماك، وعزوفهم عن التعليم العام والتخصصات العلمية.
الإعلام الإسلامي في الصين
رغم كثرة عدد المسلمين في الصين إلا أنه لا توجد لديهم أي صحيفة يومية أو إذاعة فضائية، ولا يوجد للمسلمين في الصين سوى بعض المجلات الإسلامية التي تصدر بشكل شهري، وتُعد مجلة أخبار المسلمين (مسلم بونشونغ) أشهر المجلات الإسلامية، وتوزع نحو مليوني نسخة شهرياً، كما توجد بعض المجلات الشهرية مثل: مجلة الفتح، ومجلة المسلمين في قانصوه.
متطلبات للنهوض بشأن المسلمين في الصين
تشير الأستاذة سعاد الوحيدي، مديرة مركز الدراسات والأبحاث الشرقية في جامعة السوربون في فرنسا، إلى عدة متطلبات للنهوض بالمسلمين في الصين، ومنها:
1-منح دراسية للطلاب الصينيين تمثل فيها مناطق المسلمين بالصين وتغطي مختلف التخصصات الإسلامية المطلوبة للمسلمين الصينيين. وتوزع على الجامعات الإسلامية.
2- وضع خطة دراسة مبنية على احتياجات المسلمين في الصين مع إدخال مناهج التعليم المهني لتأهيل الطلاب لخدمة المجتمع الصيني في مجال الدعوة خصوصاً بعد ضعف البوذية والديانات الوثنية الأخرى.
3- القيام بمسح شامل للمساجد في الصين، وذلك بهدف إعمارها وتلبية احتياجات المسلمين.
4- القيام باستطلاع الاحتياجات في هذا المجال، وذلك بالاتصال بالمنظمات أو الهيئات الإسلامية في الصين، والتخطيط لإقامة مشروع لنشر وطبع الكتب الإسلامية محلياً مع ضرورة الأخذ في الاعتبار اللغة المحلية في حركة ترجمة الكتب الإسلامية، و استغلال العلاقات الطيبة بين حكومة الصين والدول الإسلامية لدعم المسلمين في الصين.
5- تنظيم قطاع الدعوة وتغذيته بالدعاة مع ملاحظة إشراك المسلمين الصينيين الذين حصلوا على جانب وفير من العلوم والثقافة الإسلامية، ووضع خطة إستراتيجية للمستقبل البعيد، وذلك بإعداد دعاة من الصين مع دقة الاختيار لهؤلاء.
6- إنشاء مؤسسات إغاثة إسلامية ومؤسسات تحويل تعاونية إسلامية تبين معاني التآلف والتعاضد والمسؤولية المشتركة والجسد الواحد.
7- إنشاء مدارس إسلامية وتوحيد مناهج المدارس السابقة ونشر مراكز تحفيظ القرآن الكريم في جميع مقاطعات الصين.
8- العمل على إنشاء كلية للدراسات الإسلامية ووضع خطط كفيلة بتطويرها إلى جامعة بمختلف التخصصات، وفتح فروع لها في المناطق الإسلامية.
9- إنشاء دور نشر إسلامية باللغة الصينية تراعي اللهجات المحلية تقوم بطباعة الكتب الشرعية بعد ترجمتها.
10- إنشاء محطة إذاعية إسلامية موجهة إلى المسلمين في الصين باللغات التي يستعملونها على غرار الإذاعات التنصيرية، ويوضع لها البرامج والدورات الإذاعية بشكل مدروس يتولى إعداده هيئة متخصصة من الخبراء والدعاة ويجري التركيز على تعليم مبادئ الإسلام، والتركيز على مفاهيم الأخوة الإسلامية، وربطهم بأخبار إخوانهم المسلمين في العالم.
=============(1/190)
من فقه التعامل مع غير المسلمين
تقييم:
الشيخ الدكتور : يوسف القرضاوي
1. آيات وأحاديث أسيء فهمها:
- آية {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
- آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.
- آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
- آية {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
- حديث: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام... ".
2. الجزية:
3. تميز أهل الذمة في زيهم عن المسلمين.
4. موقفنا من الأقليات.
1- آيات وأحاديث أسيء فهمها:
آية {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
ومن الناس من اتخذ من قوله تعالى في سورة المجادلة: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة: 22)، اتخذوا منها دليلا على أن الإسلام ينهى عن مودة المسلم لغير المسلم بصفة مطلقة، ويؤكدون ذلك بقوله تعالى في أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
وأود أن أبين هنا أن آية المجادلة لا تنهى عن مودة من كان غير مسلم، ولو كان مسالما للمسلمين بل تنهى عن موادة (من حاد الله ورسوله) أي حارب الله ورسوله، وشاق الله ورسوله، فهذا شخص معادٍ للإسلام وأهله، فكيف يطلب من المسلم أن يظهر له الود والمحبة؟.
ولو كانت مودة غير المسلم ممنوعة في الإسلام ما أجاز الشرع الإسلامي للمسلم أن يتزوج الكتابية. والزوجية في نظر الإسلام تقوم على أسس وأركان، منها: المودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
ولذا قال ابن عباس: لا يجوز زواج الكتابية إذا كانت من قوم معادين للمسلمين، واستدل العلماء لقوله بهذه الآية: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}. والمفروض في الحياة الزوجية ما أثبتته الآية الأخرى: {وجعل بينكم مودة ورحمة} فآية (من حاد الله ورسوله) تعني الأعداء المحاربين للمسلمين.
- آية {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}:
يؤكد هذا آية الممتحنة: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}. فالآية قد عبرت عنهم بأنهم أعداء الله، وأعداء المسلمين (عدوي وعدوكم)، وليس مقبولا أن يعادوا الله ورسوله والمؤمنين، ويقابل المسلمون معاداتهم بالولاء لهم، وإلقاء المودة إليهم.
وليس هذا لمجرد كفرهم بالإسلام، بل ضموا إليه إيذاء المسلمين وحصارهم وتعذيبهم وفتنتهم في دينهم، حتى أخرجوهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولذا قالت الآية: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ}.
وقد ذكرت السورة قاعدة من أعظم قواعد السلوك والتعامل مع المخالفين ولو كانوا أعداء، وهي: أن العداوة ليست أمرا دائما وأبديا بالضرورة، فقد تستحيل العداوة إلى مودة، ودوام الحال من المحال، وهذا ما قررته السورة بصيغة الرجاء حيث قال تعالى: {عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 7). أي: والله قدير على تحويل القلوب من كراهية إلى مودة، والله غفور رحيم يعفو عما سلف، ويسامح عباده فيما مضى.
- آية (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء):(1/191)
وقوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يجب أن يفهم في ضوء السياق وأسباب النزول للآيات فالآية التي تليها تشير إلى أن اليهود والنصارى كانوا معادين للمسلمين، وكانوا في حالة من القوة والمنعة بحيث أصبح كثير من المنافقين ومرضى القلوب يحاولون التقرب إليهم، والموالاة لهم على حساب دينهم وأمتهم وجماعتهم. وهذا لا ينازع منصف في أنه خطر على سيادة الأمة ووحدتها وتماسكها، ولا سيما في مرحلة تكوينها وتأسيس بنيانها.
تقول الآية الكريمة التالية للآية المذكورة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (المائدة: 52-53).
فالواضح من هذه الآية الأخيرة أننا أمام جماعة من المنافقين الانتهازيين المخادعين الذين يخونون جماعتهم، ويوالون أعداءها، ويحلفون لهم كاذبين إنهم لمعكم! ولذا يقول القرآن: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين).
ولا غرو أن من يوالي الأعداء وينضم إليهم، ويلقي إليهم بالمودة على حساب أمته أمر مجرَّم ومحرَّم وطنيا ودينيا، ولا سيما في أوقات الصراع والحروب، فهو في نظر الوطنية خيانة، وهو في نظر الدين ردة، وهي معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).
ومن هنا جاءت الآية التالية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54).
كأن الآية تقول: إن هؤلاء الذين خانوا قومهم وانضموا إلى أعدائهم، وارتدوا عن دينهم، سيعوِّض الله الأمة خيرا منهم بجيل جديد أو أجيال جديدة على نقيض هؤلاء.
فهذه الآيات ليست في مطلق يهود ونصارى عاديين مسالمين للمسلمين، بل في يهود ونصارى معادين لهم، محاربين لدعوتهم، كاليهود الذين نقضوا عهد رسول الله، وانضموا إلى أعدائه من الوثنيين المشركين، الذين أغاروا على المدينة، وأرادوا القضاء على الرسول وأصحابه، واستئصال شأفة المسلمين، واقتلاع الإسلام من جذوره.
والآيات التالية في سياق النهي عن الولاء لليهود والنصارى تؤكد ذلك. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (المائدة: 57-58).
فهؤلاء قوم أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله، وهزؤوا بعقيدته، وهزؤوا بشعائره، وأعظمها الصلاة، واتخذوها هزوا ولعبا.
أما اليهود والنصارى العاديون المسالمون، فهم في نظر المسلمين أهل كتاب، أجاز القرآن مؤاكلتهم كما أجاز مصاهرتهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة: 5).
وإذا كان أهل الكتاب لهم مكانة خاصة ومعاملة خاصة لدى المسلمين، فإن النصارى منهم يعتبرهم القرآن أقرب مودة للمسلمين من اليهود الذين بارزوه بالعداوة برغم مبادرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعقد الاتفاقية معهم بُعَيد هجرته إلى المدينة، وقد جعلهم فئة من أهل الدار يتناصرون في السلم والحرب، ويتواسون في السراء والضراء.
ولعل الآيات التي صدرت بها سورة الروم تدلنا بجلاء على قرب النصارى من المسلمين، فقد قامت حرب بين الدولتين العظيمتين في ذلك الزمن: الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وانتصر الفرس على الروم في أول الأمر، فحزن لذلك المسلمون وفرح المشركون لأن الفرس مجوس يعبدون النار، ويعبدون إلهين للخير والشر، أو للنور والظلمة، فهم أقرب إلى مشركي العرب عبدة الأوثان، والروم كانوا نصارى أهل كتاب، فكانوا أقرب إلى المسلمين.(1/192)
وتجادل الفريقان وتراهنوا حول مستقبل الأمتين، ولمن تكون الغلبة بعد؟ وكان المسلمون بطبيعة الحال مع الروم، والمشركون مع الفرس، فنزل قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1-5).
انظر كيف بشر القرآن المسلمين بنصر الروم، وكيف عبّر عن مشاعر المسلمين بقوله: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله). فهذا هو موقف الإسلام المبدئي من أهل الكتاب عامة، ومن النصارى خاصة.
وهذا لا يمنع أن تأتي آيات من القرآن تنقد اليهود أو النصارى أو أهل الكتاب عامة، فيما حرَّفوا من كتبهم، وما بدَّلوا من عقائد موسى وعيسى، ومن ملة إبراهيم، وما غيروا من شرائع أنبيائهم، فالقرآن قد جاء مصدقا ومتمما للتوراة والإنجيل، كما أعلن ذلك في آيات كثيرة، كما جاء أيضا (مصححا) لها، أو بتعبير آخر (مهيمنا عليها) كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48).
كما ينقد القرآن مواقف أهل الكتاب -خصوصا اليهود- من دعوة الإسلام، ورسول الإسلام وأمة الإسلام، ومع هذا يأمر الرسول والمسلمين بالعفو والصفح، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109).
ومعنى: (حتى يأتي الله بأمره) أي حتى يشرح الله صدورهم للإسلام، أو يروا انتصار الإسلام وعلو كلمته أمام أعينهم.
وقد أكدت سورة المائدة -وهي من أواخر ما نزل من القرآن- ذلك في قوله تعالى في شأن بني إسرائيل، وقد نقضوا ما أخذ الله عليهم من ميثاق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13).
فرغم ظهور الخيانة من أكثرهم أمر الرسول أن يعفو عنهم ويصفح، فهذا من الإحسان الذي يحبه الله تعالى. وهذا في نفس السورة التي نهت عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
ونلاحظ أن القرآن حين دان بني إسرائيل قال: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وذلك ليؤسس منهج العدل مع الخصوم في الرضا والغضب، ولذلك استثنى فقال: (إلا قليلا منهم).
وهذا هو نهج القرآن معهم ففي سورة آل عمران بعد أن تحدث عن بعض مساوئهم التاريخية، وقتلهم الأنبياء بغير حق، قال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 113-115).
ويقرر القرآن أن من أقام منهم الأركان الأساسية للدين، وهي: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالخلود والجزاء في الآخرة، والعمل الصالح، فإن الله لن يضيع أجره، ولن يخيب سعيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17).
وقد كرر القرآن هذا المعنى وأكده في آية أخرى من سورة المائدة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69).
* آية {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى}:
ومن الآيات التي تذكر كثيرا ويساء فهمها في العلاقة بين المسلمين من ناحية واليهود والنصارى من ناحية أخرى قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120).
أرى كثيرا من المتدينين المسلمين الذين لا يتدبرون الآيات، ولا يتأملون النصوص بعمق وتأمل يجدون في هذه الآية حائلا دون التفاهم والتعايش والتصالح مع اليهود والنصارى. وهذا ليس بصحيح، ولا ينبثق هذا التفكير عن فهم سليم للآية الكريمة لعدة أمور:(1/193)
أولا: لأن الآية خطاب خاص للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ) ولم تجئ بلفظ عام من ألفاظ العموم المعروفة.
وثانيا: لو سلمنا بأنها خطاب للجميع، فإنها لا تدل على أكثر من عدم رضاهم عنا -الرضا الكامل، أو الرضا المطلق- حتى نتبع ملتهم. وهذا شأن كل ذي ملة متمسك بملته حريص عليها. ونحن كذلك لا نرضى عنهم تمام الرضا حتى يتبعوا ملتنا فهو موقف طبيعي ومتبادل بين أهل الملل أو أهل الأديان جميعا، وقد قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (البقرة: 145).
وثالثا: إن هدفنا ليس إرضاء اليهود والنصارى، حتى يكون عدم رضاهم حجر عثرة في طريقنا، أو عائقا دون تفاهمنا وتعايشنا، بل هدفنا هو إرضاء الله تبارك وتعالى قبل كل شيء -وسواء رضي الناس عنا أم سخطوا- ولن نبيع رضوان الله تعالى برضا أي مخلوق كان، ولا بأي ثمن مادي أو أدبي، ولو وضعوا الشمس في أيماننا، والقمر في شمائلنا، ما فرطنا مثقال ذرة في ابتغاء مرضاة ربنا.
ورابعا: أن الإسلام -برغم وجود هذه الآية- لم يمنع المسلم أن يؤاكل اليهودي أو النصراني، وأن يصاهره، فيتزوج ابنته أو أخته أو قريبته، وينجب منها أولادا، يبرون أمهاتهم وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم، ويعاملونهم بما يجب لذوي الأرحام وأولي القربى من الحقوق والحرمات. كما قال تعالى: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} (الأنفال: 75). {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ} (النساء: 1).
- حديث (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام...).
وأما حديث "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"([10]). فهذا مقيد بأيام الصراع والحروب، لا بأيام الاستقرار والسلام، وقد كان بعض الصحابة يقرأ السلام على كل من لقيه من مسلم وغير مسلم، عملا بالأمر بإفشاء السلام.
وهل من المعقول أن يبيح الإسلام للمسلم الزواج بالمسيحية ولا يبيح له أن يسلم عليها؟ وهل يمنع الولد أن يسلم على أمه أو على خاله أو خالته أو جده أو جدتهوقد أمره الله بصلة الرحم، وإيتاء ذي القربى؟!.
وحسبنا هذا النص القرآني العام المحكم: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). فالقسط هو العدل، والبر هو الإحسان، وهو شيء فوق العدل. العدل: أن تعطي الحق، والبر أن تعطي فوق الحق، العدل: أن تأخذ مالك من حق، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك أو عن حقك كله، وهذا ما رغب فيه القرآن في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين.
إلقاء السلام على المسلمين وغير المسلمين:
أما إلقاء السلام على غير المسلمين فإن كانوا في مجلس يجمع بينهم وبين المسلمين خلاف في جواز من إلقاء السلام عليهم، وقد روى البخاري في صحيحه أن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارا حتى مر على مجلس فيه أخلاط المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس ابن رواحة، فسلم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم وقف فنزل..." ([11]).
وقد بوب البخاري لهذا الحديث بعنوان: "باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين".
وقال النووي: السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم([12]).
ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم:
وأما ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم فذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام عليهم، واستدلوا بأدلة منها:
1. قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). ومن برهم: إلقاء السلام عليهم.
2. وقوله على لسان إبراهيم لأبيه: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (مريم: 47).
3. وقوله تعالى آمرا نبيه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ}([13]).
وذكر القرطبي أن عددًا من السلف فعل ذلك، ومنهم ابن مسعود، والحسن، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز. كما ذكر ابن حجر في الفتح أن أبا أمامة، وابن عيينة فعلا ذلك أيضا.
ومما ورد أن ابن مسعود فعله مع دهقان صحبه في طريقه، فلما سئل: أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: بلى، ولكن حق الصحبة.
وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلّم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام.
وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.
وقال أبو أمامة: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا([14]).(1/194)
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب: أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. قال عون: فقلت له: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسا أن نبدأهم ([15]).
أما حديث مسلم: "لا تبدؤوا اليهود بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريقه فاضطروه إلى أضيقه"([16])، فهو مقيد بأيام الحرب، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي عن أبي بصرة أن رسول الله قال: "إني راكب غدًا إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام"([17]).
ويمكن القول بتأكيد الجواز إن كان هناك سبب يستدعي السلام كقرابة أو صحبة، أو جوار، أو سفر، أو حاجة، وقد ذكر القرطبي ذلك عن النخعي فقال مؤوِّلا حديث أبي هريرة "لا تبدؤوهم بالسلام": إذا كان بغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق أو جوار، أو سفر([18]).
أما إذا كانت التحية بغير السلام فلا مانع منها، كأن يقول له صباح الخير، مرحبا، مساء الخير.
رد السلام على غير المسلم:
وأما رد السلام على غير المسلم، فقد اتفق العلماء على أنه يرد على أهل الكتاب بـ "وعليكم"([19]). ويشهد لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"([20]).
وقد جعل البخاري هذا الحديث تحت باب: "كيف الرد على أهل الذمة"، وعلّق على ذلك ابن حجر بقوله: في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا مانع من رد السلام على أهل الذمة، فلذلك ترجم بالكيفية([21]).
ويكون الرد بهذه الصيغة "وعليكم" إذا تحقق أنه قال: "السام عليكم" أو شك فيما قال([22]).
أما إذا تحقق من قول "السلام عليكم" قال ابن القيم: فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالإحسان، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86)، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل([23]).
وقال الحافظ في الفتح: "قال ابن بطال: قال: رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسيا"([24]).
وكنت قد قرأت منذ زمن بعيد كلاما لشيخنا العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره "المنار" وأحب أن أنقل هنا بعض فقرات مما قاله: "إن الإسلام دين عام، ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج، وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين لأن من سلم على أحد فقد أمنه، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد.
ورُوي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمي: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش. وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال {فحيوا بأحسن منها} للمسلمين، {أو ردوها} لأهل الكتاب، وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة".
إلى أن يقول رحمه الله: "أما جعل تحية الإسلام عامة فعندي أن ذلك مطلوب، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم، فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ {وعليكم}، حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين.
ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام، ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته، وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصون له من المخالفين، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم، ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم.
وقال رحمه الله عن حديث "لا تبدؤوهم بالسلام": "فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدءوهم لأن السلام تأمين، وما كان يجب أن يؤمنهم وهو غير أمين منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه فكان ترك السلام عليهم تخويفا ليكونوا أقرب إلى المواتاة، وقد نقل النووي([25]) في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز رضي الله عنه قال: "وهو وجه لأصحابنا"([26]).
2- قضية الجزية:(1/195)
برغم الصحائف المشرقة التي تؤكد مبادئ العدالة والسماحة التي جاء بها الإسلام، وبرغم التاريخ الحافل بالتسامح الفذ في شتى صوره ومظاهره رأينا بعض المستشرقين أثاروا بعض شبهات جمعوها من هنا وهناك، وحسبوها تشوِّه هذا الموقف الناصع، والتاريخ الرائع. والحقيقة أن هذه المسائل التي أثيرت حولها تلك الشبهات لو فهمت على وجهها، ووُضعت في زمنها وإطارها، لكانت مأثرة للإسلام وأمته في علاقاته مع أهل الذمة.
فمن هذه الشبهات التي أثارها ويثيرها المستشرقون: قضية (الجزية) التي غلفت بظلال كئيبة، وتفسيرات سوداء، جعلت أهل الذمة يفزعون من مجرد ذكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة فرضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام. وهذه لا شك نظرة زائفة، ولا أساس لها من أحكام الإسلام وتعاليمه وفلسفته العامة.
ومن نظر إلى الأمم الغالبة قبل الإسلام وإلى ما كانوا يفرضونه على الأمم المغلوبة، تبين له عدل الإسلام وسماحته التي لا نظير لها.
وقد بينت في كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) وجه إيجاب الجزية على الذميين، وأنها بدل عن فريضتين فرضتا على المسلمين: فريضة لها طابع عسكري، وأخرى لها طابع مالي فريضة الجهاد، وفريضة الزكاة، وخصوصا فريضة الجهاد، فهي الأقرب إلى أن تكون الجزية بديلا عنها. ونظرا لـ (الطبيعة الدينية) لهاتين الفريضتين لم يلزم الإسلام بهما غير المسلمين.
على أنه في حالة اشتراك الذميين في الخدمة العسكرية والدفاع عن الحَوْزة مع المسلمين فإن الجزية تسقط عنهم.
كما أني بحثت في كتابي (فقه الزكاة) مدى جواز أخذ ضريبة من أهل الذمة بمقدار الزكاة، ليتساووا بالمسلمين في الالتزامات المالية، وإن لم تُسمَ (زكاة) نظرا لحساسية هذا العنوان بالنظر إلى الفريقين. ولا يلزم أيضا أن تُسمى (جزية) ماداموا يأنفون من ذلك. وقد أخذ عمر -رضيالله عنه- من (نصارى بني تغلب) -وهم قوم عرب- (الجزية) باسم (الصدقة) حين طلبوا منه ذلك، تألفا لهم، واعتبارا بالمسميات لا بالأسماء([27]) إذ المقصود أن يدفعوا ما يدل على إذعانهم لسلطان الدولة الإسلامية.
وزيادة في الإيضاح والبيان، ودفعا لكل شبهة، وردًّا لأية فرية، يسرني أن أسجل هنا ما كتبه المؤرخ المعروف سير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) عن الغرض من فرض الجزية وعلى من فُرضت. قال([28]): "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين -كما يريدنا بعض الباحثين على الظن- لونا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين. ولما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم دفعوا هذه الجزية على شريطة: "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم".([29])
كذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا".([30])
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط، من تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشا ضخما لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزاما على المسلمين -نتيجة لما حدث- أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا، ونصركم عليهم (أي على الروم) .. فلو كانوا هم، لم يردوا علينا شيئا، وأخذوا كل شيء بقي لنا".([31])
وقد فرضت الجزية -كما ذكرنا- على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بها لو كانوا مسلمين، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تُعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي. وكانت الحال على هذا النحو مع قبيلة (الجراجمة) وهي مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم، على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم.([32])
ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة 22هـ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود تلك البلاد، وأعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية.([33])(1/196)
ونجد أمثلة شبيهة بهذه للإعفاء من الجزية في حالة المسيحيين الذين عملوا في الجيش أو الأسطول في ظل الحكم التركي. مثال ذلك ما عومل به أهل ميغاريا (Migaria) وهم جماعة من مسيحي ألبانيا الذين أُعفوا من أداء هذه الضريبة على شريطة أن يقدموا جماعة من الرجال المسلحين لحراسة الدروب على جبال (cithaeron) و(Geraned) التي كانت تؤدي إلى خليج كورنته وكان المسيحيون الذين استخدموا طلائع لمقدمة الفتح التركي، لإصلاح الطرق وإقامة الجسور، وقد أعفوا من أداء الخراج، ومنحوا هبات من الأرض المعفاة من جميع الضرائب.([34])
وكذلك لم يدفع أهالي (Hydra) المسيحيون ضرائب مباشرة للسلطان، وإنما قدموا مقابلها فرقة من مائتين وخمسين من أشداء رجال الأسطول، كان ينفق عليهم من بيت المال في تلك الناحية.([35])
وقد أعفي أيضا من الضريبة أهالي رومانيا الجنوبية الذين يطلقون عليهم (Armatioli)([36]) وكانوا يؤلفون عنصرًا هامًّا من عناصر القوة في الجيش التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ثم المرديون (Midrdites) وكان ذلك على شريطة أن يقدموا فرقة مسلحة في زمن الحرب.([37]) وبتلك الروح ذاتها لم تقرر جزية الرؤوس على نصارى الإغريق الذين أشرفوا على القناطر([38]) التي أمدت القسطنطينية بماء الشرب([39])، ولا على الذين كانوا في حراسة مستودعات البارود في تلك المدينة([40]) نظرًا إلى ما قدموه للدولة من خدمات. ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام. وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك كما فرضت على المسيحيين".([41])
هذا ما سجله المؤرخ المنصف توماس أرنولد مؤيدا بالأدلة والمراجع الموثقة.
3- تميز أهل الذمة في زيهم عن المسلمين:
ومن هذه الشبهات التي ضخمها المستشرقون: ما يتعلق بملابس أهل الذمة وأزيائهم، وما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشترط عليهم ألا يتشبهوا بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم، وأن يضعوا في أوساطهم أو على أكتافهم شارات معينة تميزهم عن المسلمين. وينسب ذلك إلى عمر بن عبد العزيز أيضا.
ومن المستشرقين المؤرخين من يشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها (كتب الطبري، والبلاذري، وابن الأثير، واليعقوبي... وغيرهم)([42]) وأنا مع هؤلاء.
و(الشروط العمرية) التي تنسب إلى عمر بن الخطاب، والتي شرحها ابن القيم في جزأين لم تثبت نسبتها إلى عمر بسند صحيح، وهذا ما اعترف به ابن القيم وغيره، ولكنه ادعى أن شهرتها تُغني عن ثبوت سندها. وهو ما لا نسّلمه، فكم من أمور تشتهر بين الناس -حتى بين أهل العلم منهم- ويتناقلها بعضهم عن بعض، وهي في الحقيقة لا أصل لها.([43]) فالمدار في إثبات النقول على صحة السند، وسلامته من الشذوذ والعلة.
على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرًا دينيًّا يتعبد به في كل زمان ومكان كما فهم ذلك جماعة من الفقهاء، وظنوه شرعا لازما، وهو -إن صح- ليس أكثر من قرار إداري أو أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولا مانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيُلغى هذا الأمر أو يُعدل.
لقد كان التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرًا ضروريًّا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي حيث لم يكن لديهم نظام (الهويات) أو البطاقات الشخصية المعروف في عصرنا، التي يسجل فيها -مع اسم الشخص ولقبه ـ دينه وحتى مذهبه في بعض البلدان، فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار تلك الأوامر والقرارات. ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من فقهاء المسلمين، يرى ما رآه الأولون من طلب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.
ويسرني أن أنقل هنا ما كتبه الدكتور الخربوطلي في توضيح هذه القضية ودوافعها، فقد قال:([44]) "ونحن نرى أنه لو افترضنا جدلا حقيقة هذه الأوامر الصادرة عن الخليفتين، فقد كان هذا لا غبار عليه، فهو نوع من التحديد للملابس في نطاق الحياة الاجتماعية، للتمييز بين أصحاب الأديان المختلفة، وبخاصة أننا في وقت مبكر من التاريخ، ليس فيه بطاقات تثبت الشخصية، وما تحمله عادة من تحديد الجنسية والدين والعمر وغير ذلك، فقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم، كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان المستشرقون قد اعتبروا أن تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد، فنحن نقول لهم: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء. وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين ألا يتشبهوا بالعرب المسلمين".(1/197)
وناقش المؤرخ (ترتون)([45]) هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها فقال: "كان الغرض من القواعد المتعلقة بالملابس: سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لا يرقى إليه شك بل نراه مقررا تقريرا أكيدا عند كل من أبي يوسف([46]) وابن عبد الحكم، وهما من أقدم الكُتاب الذين وصلت كتبهم إلينا، على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف ما يلبسه المسلمون إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام. على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم، والتشبه في ثيابهم. ومهما يكن الرأي فإن كانت هذه الأوامر التي تحدد أنواع وأشكال الملابس حقيقية، فإنها لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية.
وهناك فرق بين وجود القانون ومدى تطبيق هذا القانون، فقد انتهج معظم الخلفاء، والولاة المسلمين سياسة تسامح وإخاء ومساواة، ولم يتدخلوا كثيرا في تحديد ملابس أهل الذمة، ولم ترتفع أصوات مطلقا بالشكوى أو الاحتجاج.
وهناك أدلة تاريخية تثبت هذه الحقائق التي ذكرناها، فقد كان الأخطل الشاعر النصراني (المتوفى سنة 95هـ) يدخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعليه جبة وحرز من الخز، وفي عنقه سلسلة بها صليب من الذهب، وتتعصر لحيته خمرا([47]) ويحسن الخليفة استقباله!
كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون في سنة 89هـ مع (الجراجمة) المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين.([48])
تحدث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: "لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه، ولا في مركبه، ولا في هيئته". واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: "حتى يُعرف زيهم من زي المسلمين". أي أنه لا اضطهاد في الأمر، إنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء، لكل طائفة أو أصحاب حرفة أو مهنة زي واحد يميزهم.
4- موقفنا من الأقليات:
وقد عرضنا لموقف الإسلام من الأقليات في أكثر من كتاب، منها (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، ورسالة (الأقليات الدينية والحل الإسلامي)، وكتاب (أولويات الحركة الإسلامية)، وبعض الفتاوى والبحوث في كتابنا (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني، وكتابنا (من فقه الدولة في الإسلام). كما بينا ذلك في محاضرات شتى في أكثر من بلد.
وأعتقد أن اجتهادنا في هذه القضية الكبيرة قد استبانت معالمه، واتضحت صورته في ضوء الأدلة الشرعية، ولقي القبول من جمهرة المسلمين.
(( نحن نتحفظ على بعض ما يقول الدكتور القرضاوي لمخالفته للنصوص القطعية )) علي
================
الوقف في ديار الغرب
تقييم:
فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
قد طلب مني أن أكتب حول هذا الموضوع وهو موضوع له أهمية قصوى لأنه من أهم الوسائل للحفاظ على شخصية المسلمين في ديار الغرب والغربة وتوفير الظروف الملائمة لممارسة شعائرهم الدينية.
مقدمة:
إن هذا البحث المختصر عن الأوقاف في الغرب يرمى إلى إبراز أهمية الوقف في ديار الغرب.
ولهذا سنتحدث عن الأقلية المسلمة وهي المستهدفة من هذا البحث وعن معوقات الوقف الإسلامي في الغرب وحلول تشتمل على ضرورة مساعدة المسلمين وأهمية التضامن فيما بينهم.
تعريف للوقف في الإسلام مع مقارنة سريعة بنظام المؤسسة الوقفية fondation في الغرب "فرنسا أنموذجاً" لتكييف الوقف في ديار الغرب.
ضرورة تأقلم الوقف مع المحيط الغربي.
أولاً: الأقلية المسلمة:
إن مصطلح الأقلية مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول تسمية "فقه الأقليات" وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن ايرلندا.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.(1/198)
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك أحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
وهكذا فإن تنامي الوجود الإسلامي يطرح تحديات ومهمات جديدة قد تشكل الأوقاف أداة للقيام بها والتعامل مع تعقيداتها إذا أنشأت أوقاف إسلامية في مجالات متنوعة ومتعددة بالإضافة إلى المساجد والتي يسمونها في الغرب بدور العبادة ومؤسسات التعليم التي لها أهمية كبرى وبخاصة على مستويات التعليم الابتدائي والثانوي حيث تتشكل شخصية الفرد العقدية والخلقية خاصة بالإضافة إلى مشكلة منع الحجاب بالنسبة للفتيات في هذه المرحلة في بعض الدول الأوربية.
بالإضافة إلى التعليم الجامعي والعالي كمعهد العلوم الإنسانية في باريس الذي يرتاده طلاب من أوربا وكذلك المراكز الثقافية التي من خلالها يتاح القيام بأنشطة ثقافية من شأنها أن تحافظ على المقومات الثقافية والفكرية للمسلمين وتتكامل وظيفتها مع المعاهد والمساجد وهناك بعض المجالات المهمة الأخرى التي لم تصلها عناية المسلمين وهي مراكز الدراسة والبحث فقد تكوّن المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وله شعبة للبحث تصدر مجلة المجمع ونحن بحاجة إلى أوقاف في مجال البحث والفكر ودراسة المجتمعات والحوار... إلى آخره.
وكذلك تحتاج الأقليات إلى مؤسسات اقتصادية وثقافية فاعلة تجبر ضعفها وتقيم أودها وتحرس عقيدتها وتحافظ على أبنائها بتعليمهم أمر دينهم ولمساعدة المحتاجين والفقراء والمرضى منهم وبخاصة بعد أن تزايد أعداد المسلمين في الغرب ولم يعد وجودهم عابراً ولا عارضاً وإنما أصبح وجودهم يتصف بالديمومة والنمو حيث بلغ عددهم كما يراه بعض الباحثين يتجاوز ستين مليوناً في أمريكا وأوربا بين مسلمين أصليين في شرق أوربا ومسلمين جدد ووافدين وهناك مدن مرشحة لأن يكون عدد المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كمدينة ابريكسل البلجيكية عاصمة أوربا. وفي مدينة واحدة كمدينة باريس بلغ عدد المسلمين مليونين.
ثانيا:معوقات الوقف الإسلامي في الغرب
ويواجه الوقف في ديار الغرب جملة من المعوقات منها معوقات مادية :
المعوق الاول:
شح الموارد الذي كان من أسبابه الحملة الشرسة الموجهة ضد مؤسسات العمل الخيري مما جعل كثيراً من الخيرين يعزفون عن تقديم الأموال التي من شأنها أن تساعد في إنشاء أوقاف في الغرب وينصرفون إلى إنفاق ما ينفقون - إن أنفقوا- إلى بناء مساجد ودور أيتام في نطاق محيط جغرافي محدود جداً في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التنصيرية بإنفاق الأموال بسخاء لترسيخ دعوتها في البلاد الإسلامية وفي إفريقيا وآسيا بلا حدود ولا نكير.
ولهذا فإن هذا الموضوع ينبغي أن يدرج على جدول الحوار مع الجهات الغربية وكذلك أن يلفت انتباه الجهات الرسمية إلى أهمية المعاملة بالمثل في مثل هذه القضايا.
فالمسلمون كالجسد الواحد فلا يجوز أن نخذل الأقليات المسلمة التي هي جزء من الأمة الإسلامية وجسر للتواصل الحضاري مع الغرب وحلقة حيوية في حلقات العلاقة مع الغرب.
المعوق الثاني:(1/199)
يتمثل في وجود بعض الخلل في التضامن والتعاون بين الأفراد والجمعيات الإسلامية في بلاد الغرب الأمر الذي يشكل عقبة تحول دون القيام بمجهود جماعي لإنشاء مؤسسات وقفية متعددة الخدمات على مستوى التحدي.
ومع ذلك فلا ينكر وجود حد من التضامن – ولله الحمد- في أكثر من منطقة.
المعوق الثالث:
النقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للوصول إلى أكبر قدر من استغلال الموارد الإنسانية والمالية المتاحة أو التي يمكن أن تتاح.
المعوق الرابع: هو التلاؤم مع النظم والقوانين الغربية إذ أن الأقلية المسلمة تعيش ضمن مجتمع غير مسلم خاضع لسلطان قوانين وضعية غالباً تختلف في أحكامها عن أحكام الشريعة التي تحكم الوقف الإسلامي بناء على طبيعته الخاصة التي أملت أحكاماً قد لا تتفق بشيء من الاجتهاد والانتقاء من الأقوال مع الأنظمة الغربية.
حلول:
لمواجهة هذه المعوقات يمكن أن نتصور بالنسبة للمعوق الأول: قيام جهات وقفية مهمة في العالم الإسلامي بتقديم دعم مادي كبير لمنظمات إسلامية معترف بها في بلاد المهجر لتنفيذ برنامج وقفي مسجل لدى الجهات الرسمية.
وأعترف أن هذا الحل يقتضي اتصالات مكثفة بين المنظمات الإسلامية المستفيدة والسلطات المختصة وبخاصة بعدما شرعت بعض الجهات في دول أوربية بتكوين مؤسسات تمويلية محلية لبناء دور العبادة والاعتناء بها في نطاق الحماية مما يسمى "بالأصولية الوافدة".
وبالنسبة للمعوق الثاني: فإن مزيداً من التوعية في صفوف المسلمين لإقناعهم بإدماج هيئاتهم في بعضها البعض حيث تقوم في الوقت الحاضر مؤسسات ومساجد على أساس عرقي وجهوي وأحياناً مذهبي وبالتالي لتكوين أوقاف ضخمة لمواجهة الحاجات وهناك بشائر منها الوقف الإسلامي الأوربي وهو حديث وهناك وقفية في أمريكا وقد قامت على أكثر من مائة وثلاثين مسجداً ويمكن للمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وللإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يقوما بدور طليعي في هذا المجال.
المعوق الثالث:
وهو المتعلق بالنقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للاستغلال الأمثل فيبدو لي أنه من الممكن التغلب عليه عن طريق تبادل الخبرات وتنظيم دورات للراغبين والتركيز على النماذج الناجحة لتكون قدوة ويمكن للأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت على دورات.
أما المعوق الرابع:
وهو فقهي قانوني فيجب لإيضاحه أن نبين طبيعة الوقف في الإسلام باختصار
تعريف الوقف :
الوقف وهو الحبس وهما لفظان مترادفان يعبِّر بهما الفقهاء عن مدلول واحد وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. [ شرح الرصاع 2/539] .
ويُطلق على ما وقف فيقال هذا وقف فلان أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج ويطلق على المصدر وهو الإعطاء .
وحده ابن عرفة بأنه : إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً.
ورد ابن عرفة ما حدّه به ابن عبد السلام : بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد مبطلا طرده بصورة المخدم.(مرجع سابق)
وحده في أقرب المسالك بأنه :جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس )[ الشرح الصغير للدردير4 /97] .
وعند أبي حنيفة: حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. [حاشية ابن عابدين 3 /357] .
وقال ابن قدامة: ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. [المغني 8 /184] .
وهو أقرب تعريف لنص الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه من حديث ابن عمر بلفظه وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعمر في المائة سهم التي أصابها في خيبر : "حبس أصلها وسبل ثمرتها".وأخرجه الدار قطني والبيهقي وصححه الألباني في إرواء الغليل .
الوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن يوجدوا فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة وللواقفين صدقة جارية يجرى عليهم أجرها ويدخر لهم ذخرها فيتلقون روحها في القبور ويوم الحشر والنشور .
ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقة جارية" في الأعمال الثلاثة التي يبقى أجرها ولا ينقطع درها بالموت حيث جاء في الحديث الصحيح :" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".أخرجه مسلم.
وفسرت الصدقة الجارية بالوقف وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى وغيره إن الوقف من خصائص هذه الأمة وأنه لم يكن معروفاً قبل الإسلام.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها منظومة كاملة تمثل سياجاً حول الوقف لسد ذرائع التدخل فيه ضد أيدي الحكام والنظار عن التغيير فيه والتبديل بله التفويت والتبذير.(1/200)
ولهذا كان الإبدال والاستبدال والمناقلة والمعاوضة وترميم الوقف من وفره وغلته وقسمته مهايأة أو بتة كل ذلك كان محل عناية من الفقهاء أدت أحياناً إلى خلاف قسم الفقهاء إلى ثلاث مدارس هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد ، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين ، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة - صلبة إذا جاز الجمع بين الضدّين .
الفريق الأول:
يمكن أن نصنّف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلاّ في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد .
الفريق الثاني:
المتوسط يمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث:
الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الأحناف كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين بن تيمية وبعض متأخري المالكية .
ونحن هنا نتبنى هنا رأي مدرسة إعمال المصلحة في الوقف وتجيز المناقلة والمعاوضة وتتبنى التعريف المالكي للوقف الذي ذكرناه عن أقرب المسالك لأن الموقوف لا يشترط أن يكون عيناً باقية بل شيئاً مملوكاً حتى ولو كان منفعة مدة بقاء الإجارة وهو لا يمنع التوقيت في الوقف.
ومن أهم قضايا الوقف النظارة وبمراجعة أقوال علماء وبمراجعة أقوال علماء المذاهب الإسلامية فإن النظارة تدور على الواقف والناظر والقاضي والإمام "الحاكم المسلم" والموقوف عليهم وجماعة المسلمين.( يراجع كتابنا "إعمال المصلحة في الوقف" وبحثنا المقدم لهذا المنتدى حول النظارة)
والناظر يمكن أن يكون واحداً أو متعدداً كما نص عليه صاحب التوضيح الجامع بين المقنع والتنقيح في الفقه الحنبلي.
ولهذا فإن إدارة الجمعية تتمتع بالنظارة وكذلك مؤسسة الوقف التي ينضم إليها في النظام الفرنسي الجديد مفوض الحكومة.
ويستند في جواز الوقف على غير المسلمين كما ثبت عن أمنا صفية رضي الله عنها أوقفت على أخيها اليهودي.
كما يجوز الوقف على الكنائس قصداً للإنفاق على المار بها.( يراجع المغني لابن قدامة وغيره )
هذا في حال كان الوقف مؤسسة اجتماعية يستفيد منها المسلمون وغيرهم, وكذلك ما لو كان الوقف مؤسسة تعليمية تستقبل أطفال المسلمين وغيرهم لأن المصلحة هي المعيار الأهم.
أما في الحالة الغربية فهناك صور متعددة منها: أن تسجل جمعيةassociation للنفع العام لها الشخصية المعنوية القانونية وهذه الجمعية تدير أملاكها طبقاً لنظامها المؤسسي الذي قدمته في تصريحها ويمكن أن تجمع أموالاً من الجمهور كما يمكن أن تتلقى مساعدة من السلطات العمومية وتقبل الهدايا والوصايا.
وهناك المؤسسة الوقفية fondation وهي لا تختلف كثيراً عن نظام الجمعيات ذات النفع العام في مصادر تمويلها إلا أن هناك فرقاً مهما بالنسبة للقانون الفرنسي وهو أن العطايا المقدمة إلى المؤسسة الوقفية تخضع لترخيص إداري للسماح لها بتلقي التبرعات.
كما أن الاعتراف بالمؤسسة يكون بمرسوم من مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية في فرنسا.
وفي الختام:
لا بد من نظرة تأصيلية شمولية لواقع الأوقاف في الغرب وآفاق المستقبل لإيجاد الصيغ الملائمة التي تسمح برواج الأوقاف في المحيط الغربي مع المحافظة على أساسيات الوقف في الشريعة الإسلامية.
وأخيراً فإن مجالات الوقف الإسلامي في ديار الغرب عديدة وأهمها: المجال الدعوي والمجال التربوي والمجال الاجتماعي ومجال البحث العلمي كما شرحه بإسهاب الدكتور عبد المجيد النجار في بحثه:" مقاصد الوقف في الغرب".
وقد يكون من المناسب إجراء كشف لحاجات المسلمين في هذه المجالات.
والله ولي التوفيق.
==============
عقد نكاح المسلم في الكنيسة
الكاتب: الشيخ أ.د.سعود بن عبدالله الفنيسان
تقييم:
طباعة المقال إرسال العنوان لصديق
السؤال
أنا فتاة نصرانية مخطوبة لشاب مسلم، وقد اتفقنا على الزواج، ووافقتُ أن الأولاد سيكونون على الإسلام.
وعلاقتي مع خطيبي مبنية على احترام كل منا لدين الآخر واتباعه له، وأعرف أن للمسلم أن يتزوج المرأة النصرانية، ولكن هل في القرآن ما يمنع أو يحرم الاحتفال بهذا الزواج في الكنيسة؟ لأنه في ديننا أي زواج لا يكون في كنيسة ولا يباركه الراهب فلا يعتبر زواجاً، بل وقوعا في الفاحشة، فيجب أن يتم الزواج بحفل ديني، وبخلاف ذلك تعتبره الكنيسة الكاثوليكية زواجاً باطلاً.
وإذا كان المسلم لا يحق له الاحتفال في الكنيسة فسوف ننهي علاقتنا ولن نتزوج. وأنا موافقة على إجراء الزواج على يد الإمام ومباركته له، ولا نعلم أنا وخطيبي عن حكم الإسلام في ذهابنا للكنيسة لمباركة زواجنا. فما الحكم في ذلك؟
الجواب
ليس ذهاب المسلم -عند تزوجه الكتابية- إلى الكنيسة أو المسجد شرطاً من شروط النكاح في الإسلام، والبركة تطلب من الله مباشرة لا من الراهب أو الإمام أو غيرهما،(1/201)
وعندي -في هذا المقام -نصيحتان، أوجه أولاهما لهذه المرأة النصرانية وأنا ألمس من سؤالها العقل ومحبة الطهر والعفاف -ألا تصر على الذهاب إلى الكنيسة. ونصيحتي الثانية لهذا الرجل المسلم أن يحرص ويحاول إقناعها بعدم الذهاب إلى الكنيسة لهذا الغرض، ويسمح لها بالذهاب إليها بعد ذلك لو رغبت ويعرفها على الدين الإسلامي بخلقه وسلوكه وتعامله أكثر من الكلام والقراءة بالكتب، وأقول له: إن أصرت الزوجة على عقد الزواج بالكنيسة أو تعطيل الزواج أصلاً فلا حرج عليك في الذهاب معها إلى الكنيسة بشرط أن تعتقد في قلبك بأن ذهابك ليس لشرعية العقد، وإنما هو مجرد إجراء من الإجراءات المدنية البحتة، ولا علاقة للحل والحرمة بذلك.
============
نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب
تقييم:
أ.د. عبد المجيد النجار
تمهيد:
جاءت شريعة الإسلام حاكمة على حياة الناس في كل ظرف زماني ومكاني كانوا فيه، وفي كل الأحوال التي يكونون عليها، تطبيقا في ذلك لنص من نصوص الوحي، أو لاجتهاد من اجتهادات العقول وفق إرشادات الدين وتوجيهاته العامة، وعلى منهج للاجتهاد ضُبطت قواعده وأصوله في علم أصول الفقه ليكون هاديا للعقل في تحري مراد الله تعالى، المبين للناس على وجه التفصيل أو على وجه الهدي العام، إذ تعبد الله تعالى عباده بأن يتحروا مراده قدر طاقاتهم، وأن يخضعوا لذلك المراد في كل حياتهم.
وإذا كانت تعاليم الدين الحنيف قد تناولت بالبيان في شؤون الإنسان كل مناحي الحياة، فإنها لم تكن على سواء في ذلك التناول من حيث التفصيل والإجمال. فبعض تلك الشؤون فُصل البيان فيها تفصيلا، بينما أُجمل في شؤون أخرى إجمالا، صدروا في ذلك عن حكمة إلهية لعل من بعض وجوهها توافق التفصيل مع ما هو ثابت لا يتغير من وجوه الحياة، ومع ما هو خارج نطاق الاجتهاد العقلي في تحري المراد الإلهي مما يختص الوحي وحده ببيانه، وتوافق الإجمال مع ما هو متغير من أحوال الناس مما يحتاج إلى تدبير العقل في سبيل توفيق منقلبات أوضاعه إلى هدي الدين ومقاصده.
والناظر في عموم تعاليم الدين، وفي مبانيه الكلية ومقاصده العامة يجد أنه دين جاء لبناء المجتمع الإنساني وتدبير شؤونه كغاية عليا لكل تدبير جاء يتعلق بشؤون الفرد أو الفئة القليلة من الأفراد، وهو المغزى الذي انفرد به الإسلام من بين سائر الأديان، وكأنما هو مغزى مندرج ضمن الخاتمية التي أرادها الله تعالى لهذا الدين، فهي خاتمية كمال شامل بما في ذلك الكمال المتمثل في معالجة شؤون الإنسان مجتَمعا بعد معالجة شؤونه أفرادا وجماعات، وقد جاءت الدلالات على ذلك متواترة، ومنها على سبيل المثال تلك الصيغة في الخطاب الديني التي جاء بها موجها إلى جماعة الإنسان لا إلى أفراده، ومنها ذلك البعد الجماعي البين حتى في أخص مظاهر العلاقة بين الإنسان وربه من مثل الصلاة والصيام والحج، ولا غرو فإن الإسلام جاء يكلف الإنسان بمهمة الخلافة في الأرض، وهي مهمة لا ينهض بها إلا التدين الجماعي ويقصر عن أدائها مجرد التدين الفردي.
وبناء على هذا المغزى الديني القائم على المفهوم الجماعي للتدين جاءت تعاليم الدين بصفة عامة، وما يتعلق منها بوجوه التعامل بين الناس بصفة خاصة، متجهة ببيانها التفصيلي إلى مقتضى وجود جماعي للمتدينين يديرون فيه شؤون الحياة على أساس من تدينهم الجماعي، وذلك سواء فيما يشجر بين بعضهم وبعض من العلاقات، أو فيما يشجر بينهم وبين غيرهم ممن لا ينضوي تحت جماعتهم الدينية من الناس، ورتب كل ذلك على أساس أن سلطان الدين هو السلطان القيم الذي تنفذه ضمائر الأفراد فيما هو من خصائص الضمائر، والهيئة الجماعية متمثلة في الدولة فيما هو من خصائصها.
ومن المعلوم أن شؤون المسلمين لئن كان من المطلوب دينا أن تجري على هذا النحو من الوجود الجماعي الذي يخضع لسلطان الدين، فإنها قد تطوح بها الأقدار في واقع الحياة فتجري على أحوال غير تلك الأحوال، فإذا أفراد أو جماعات من المسلمين -تقل أعدادهم أو تكثر- يجدون أنفسهم في أوضاع يكونون فيها متدينين في خاصة أنفسهم أو في علاقات ضيقة تدار بينهم، ولكنهم في علاقاتهم الاجتماعية الواسعة والمتشعبة يكونون خاضعين لسلطان غير سلطان الدين، من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها ويكون السلطان فيها لدين غير دينهم، وينفذه على مجموع من ينضوي تحته من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبقون شريعته بين الناس.
وقد كان حظ هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي التي قد تطوع إليها ظروف الزمان من التفصيل في بيانات الوحي أقل من حظ تلك الحال التي يكون فيها ذلك الوجود جاريا على سلطان الدين في شؤون الجماعة كلها؛ إذ جاء ما يتعلق به راجعا إلى تصرف الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة في ذلك الوضع مع المجتمع الذي انخرطوا فيه، والسلطان الذي انضووا تحته على قدر من الكلية والإجمال والهدي العام.(1/202)
ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن الوضع الذي يكون فيه للدين سلطان على الجماعة هو وضع منضبط ثابت مستقر، فناسبه البيان التفصيلي، وأما الوضع الذي يكون فيه الوجود الإسلامي خاضعا لسلطان غير سلطان الدين فإنه وضع متعددة صوره، متنوعة أحواله، مستجدة فصوله على غير انضباط، فناسبه إذن الهدي العام دون تفصيل ليكون للاجتهاد العقلي مجال في توفيقه إلى مراد الله تعالى على ضوء ذلك الهدي الديني العام.
وقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل، مثل حال الأقليات التي أشرنا إليها، بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجه ذلك النظر وتكون له ميزانا هاديا يُتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدى منها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ ما تيسر له أن يؤدي، وهي اليوم في شأن الأقليات المسلمة ملقاة على عاتق النظار من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين بأشد وأثقل مما كانت ملقاة على عاتق السابقين؛ وذلك لما حصل في هذا الشأن من تطور لم يكن له في السابق مثيل.
إن المسلمين اليوم يعيش شطر كبير منهم -لعله يناهز ثلث عددهم أو يزيد- في حال أقلية تخضع في حياتها الجماعية لسلطان غير سلطان الدين الإسلامي، وتنفذ فيها إرادة قانونية هي إرادة أكثرية غير مسلمة، وتلك أحد إفرازات العالم المتغير المتسارع التغير، الذي تقاربت أطرافه، وتداخلت شعوبه وأممه، وتمازجت ثقافاته وحضاراته، ولعل المشهد الأوربي في هذا الشأن يمثل أحد النماذج الأبرز للأقليات المسلمة.
يعيش في أوربا اليوم في هذا الوضع ما يقارب الستين مليونا من المسلمين، وإذا كانت أوربا هي قلب الحضارة الغربية ومركز الثقل فيها، وإذا كان هذا الوجود المعتبر للإسلام والمسلمين فيها يمثل المظهر الأبرز للقاء المتفاعل بين الإسلام والغرب في عالم متغير، فكيف لا يكون من الأهمية بمكان أن تتجه الهمم العلمية لاجتهاد تأصيلي فقهي يوفق هذا الوجود الإسلامي لما فيه الخير لجميع القاطنين بهذه القارة ومن وراءهم من بني الإنسان، بسطا لقيم الإسلام الخالدة، واستفادة من الكسب الحضاري الأوربي، فإذا هي علاقة بين الإسلام والغرب مؤصلة على أصول من الدين متينة، فتكون مثمرة للتعايش السلمي والتعارف الحضاري، عاصمة من الصراع وما يفرزه من المآسي التي شهدت منها العلاقة بين الطرفين مشاهد محبطة في الماضي، وتشهد اليوم منها مشاهد أخرى تنذر بالإحباط بأسباب لعل من أهمها الافتقار إلى تأصيل عقدي فقهي مرشد. إن هذا التأصيل هو الذي نعنيه في هذه الورقة بالتأصيل لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
فقه الأقليات: تحديد المفاهيم
لعله يكون من المتأكد -في هذا الصدد- أن نحدد المفاهيم التي سيدور عليها التحليل متمثلة بالأخص في مصطلح الأقليات وفقه الأقليات، فهي مصطلحات حديثة عهد بالتداول بين المهتمين بهذا الشأن، ولا يزال الحوار فيها قائما في سبيل الانتهاء فيها إلى مفاهيم بينة، بل في سبيل الانتهاء فيها إلى إقرار بمشروعيتها مبحثا علميا ذا خصوصية، فيتوارد عليها النظار والباحثون إذن على سواء في البسط والاحتجاج، ويتقدم العلم فيها درجات مثمرة لا ينقض بعضها بعضا.
لقد راج مصطلح الأقليات في عصرنا وأصبح له بعد سياسي واجتماعي وقانوني؛ وذلك لما حدث في الواقع من اختلاط بين الأمم والشعوب بفعل تفشي هجرة الأفراد والجماعات من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، لتوفر مغرياتها وليسر أسبابها، فإذا المجتمعات الأصلية في كل قارة تنضم إليها جماعات مغايرة لها ممن هاجر إليها، فتشاركها الحياة في وجوهها المختلفة، وتحدث في تلك المشاركة وجوه من الاحتكاك تسفر عن وجوه من الاضطرابات التي تطلب لها حلولا اجتماعية وسياسية، فكان ذلك من أهم أسباب رواج مصطلح الأقليات، ثم مصطلح فقه الأقليات.
أ ـ مصطلح الأقليات المسلمة:
حينما يُطلق مصطلح الأقليات فإنه يُراد به -في الغالب- المجموعات البشرية التي تعيش في مجتمع تكون فيه أقلية من حيث العدد، وتكون مختصة من بين سائر أفراد المجتمع الآخرين ببعض الخصوصيات الجامعة بينها، كأن تكون أقلية عرقية، أو أقلية ثقافية، أو أقلية لغوية، أو أقلية دينية، وإذن فإن هذا المصطلح يشير إلى عنصرين في تحقق وصف الأقلية هما: القلة العددية لمجموعة ما تعيش في مجتمع أوسع، والتميز دون سائر ذلك المجتمع بخصوصيات أصلية في الثقافة أو في العرق[1].(1/203)
وفي تحديد مصطلح الأقليات المسلمة المقصود في هذا المقام، ربما تعترض بعض المشكلات، فاللفظ بظاهره حينما يندرج في المصطلح العام للأقليات يكون دالا على مدلول عددي، ومدلول تميز ثقافي، فيصبح المعنى المقصود بالأقليات المسلمة تلك المجموعة من الناس التي تشترك في التدين بالإسلام، وتعيش أقلية في عددها ضمن مجتمع أغلبه لا يتدين بهذا الدين.
ومما يتوجه إلى هذا المصطلح من وجوه الاستفسار: هل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك الأقليات العددية التي قد تكون هي النافذة في مجتمع غير مسلم، بحيث يكون بيدها السلطان السياسي الذي تحقق به سيادة القانون الإسلامي على عموم المجتمع؟ وهل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك المجموعة المسلمة التي هي من حيث العدد أكثرية، ولكنها تعيش في مجتمع تكون فيه مجموعة أخرى غير مسلمة هي النافذة بحيث تسيطر على الحكم وتطبق من خلاله قانونا غير إسلامي على سائر المجتمع؟
إن الإجابة عن هذه المشكلات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أيضا طبيعة الصفة الإسلامية في خصوصيتها من بين سائر الأديان؛ إذ إن المسلم لكي تتحقق صفته الإسلامية ينبغي أن يحكم الإسلام كل وجوه حياته الفردية والاجتماعية، وهو ما يجعل علاقة القانون العام الذي ينظم الحياة ميزانا أصليا في تحقق الصفة الإسلامية أو عدم تحققها، بينما غير المسلمين يمكن أن يتحققوا بصفة دينهم إذا ما تدينوا به في خاصة النفس مهما يكن القانون العام الذي يطبق عليهم.
إذا ما أضفنا هذا إلى ذاك أصبح مصطلح الأقليات المسلمة مصطلحا ذا خصوصية بين نظائره من المصطلحات الضابطة للأقليات؛ إذ يصبح القانون العام الذي يُطبق في المجتمع الذي توجد به الأقلية عنصرا مهما في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فيكون إذن مصطلحا ينطبق على تلك المجموعة من المسلمين التي تعيش في مجتمع تُطبق فيه قوانين غير إسلامية من قِبل سلطات حاكمة غير إسلامية، أو تسود فيه لسبب أو لآخر ثقافة وأعراف وتقاليد غير إسلامية.
وعلى هذا الاعتبار يدخل في مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأكثرية المسلمة في مجتمع يخضع لقانون وثقافة غير إسلامية إذا كانت تلك الأكثرية مغلوبة على أمرها في ذلك النمط من الحياة، ومن باب أولى أن يدخل فيه الأقلية الخاضعة لنظام غير إسلامي. وعلى هذا الاعتبار أيضا يخرج من مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأقلية التي يكون لها نفوذ يسود به القانون الإسلامي والثقافة الإسلامية في المجتمع الذي تعيش فيه، كما يخرج منه أيضا المسلمون الأكثرية إذا كانوا يخضعون لحكم من قِبل أنفسهم، ولكن لا يُطبق فيهم القانون الإسلامي إن جزئيا أو كليا كما هي أوضاع الكثير من البلاد الإسلامية اليوم، إذ هذه الحال من عدم التطبيق الديني عليهم ليست متأتية من مغلوبيتهم لجماعة غير إسلامية، وإنما هي متأتية من جهل أو تقصير أو غير ذلك من الأسباب الذاتية.
ب ـ مصطلح فقه الأقليات:
لا يتجاوز عمر هذا المصطلح حسبما نعلم بضعة عقود، ولا يتجاوز شيوعه في الاستعمال عقدا أو عقدين. ولعل منشأه كان مرتبطا بالجالية الإسلامية بالبلاد الغربية، إذ لما تكاثرت هذه الجالية بأوربا وأمريكا، وبدأت حياتها تنتشر وعلاقاتها تتشعب، وبدأت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها الذي يعيش فيه مجتمع غير إسلامي، وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، إذ ذاك بدأت تتوق إلى أن تنظم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها، ولكن وجدت أن وجوها كثيرة من تلك الحياة لا يفي بتوفيقها إلى أحكام الدين ما هو متداول معروف من الفقه المعمول به في البلاد الإسلامية، إما لأنه لا يناسب أوضاعا مخالفة للأوضاع الموجودة بالبلاد الإسلامية، أو لأنه لا يغطي أوضاعا انفردت بها حياتهم بالمهجر، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختص في معالجة حياة هذه الأقلية أُطلق عليه مصطلح فقه الأقليات.
وليس فقه الأقليات بمنعزل عن الفقه الإسلامي العام، ولا هو مستمد من مصادر غير مصادره، أو قائم على أصول غير أصوله، وإنما هو فرع من فروعه، يشاركه ذات المصادر والأصول، ولكنه ينبني على خصوصية وضع الأقليات، فيتجه إلى التخصص في معالجتها، في نطاق الفقه الإسلامي وقواعده، استفادة منه وبناء عليه، وتطويرا له فيما يتعلق بموضوعه، وذلك سواء من حيث ثمرات ذلك الفقه من الأحكام، أو من حيث الأصول والقواعد التي بُنيت عليها واستُنبطت بها.
فمن حيث ثمرات الفقه من الأحكام فإن فقه الأقليات ينبني جسمه الأكبر على تلك الثمرات؛ إذ القدر الأكبر منها متعلق بما هو ثابت تشترك فيه أوضاع المسلمين مهما تغايرت ظروفها في الزمان والمكان، ولكن مع ذلك فإنه يعمد إلى اجتهادات كانت مرجوحة، أو غير مشهورة، أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها، وينشطها ويحييها، لما يُرى فيها من مناسبة لبعض أوضاع الأقلية المسلمة تتحقق بها المصلحة، فيعالج بها تلك الأوضاع، في غير اعتبار لمذهبية ضيقة، أو عصبية مفوتة للمصلحة، ما دام كل ذلك مستندا إلى أصل في الدين معتبر.(1/204)
ومن حيث الأصول والقواعد، يعمد هذا الفقه إلى استعمال القواعد الفقهية والمبادئ الأصولية ما يُرى منها أكثر فائدة في توفيق أحوال الأقلية إلى حكم الشرع، ويوجهها توجيها أوسع في سبيل تلك الغاية، وربما استروح من مقاصد الشريعة ما يستنبط به قواعد اجتهادية لم تكن معهودة في الفقه الموروث، فيدخلها في دائرة الاستخدام الاجتهادي في هذا الفقه، أو يعمد إلى قواعد كانت معلومة ولكن استعمالها ظل محدودا جدا، فينشط العمل بها في استخدام واسع تقتضيه طبيعة أوضاع الأقليات المسلمة، ليتحصل من ذلك كله فقه للأقليات ينبني على الفقه الإسلامي المأثور، ويتجه بخصوصية في هذا الشأن، يضيف بها فقها جديدا يكون كفيلا بمعالجة هذا الوضع الجديد[2].
________________________________________
[1] راجع في شرح هذا المصطلح: يوسف القرضاوي ـ في فقه الأقليات المسلمة:25 ( ط دار الشروق/2001 )
[2] راجع في ذلك : طه جابر العلواني ـ مدخل إلى فقه الأقليات ( بحث مخطوط ).
________________________________________
فقه الأقليات في التراث الفقهي
لما نشأ الفقه الإسلامي وتوسع وتطور فإنه انبنى -في كل ذلك بوجه عام- على معالجة الحياة الواقعية للمسلمين، يروم تدبيرها في مستجداتها ومنقلبات أحوالها بأحكام الشريعة المنصوص عليها أو المستنبطة بالاجتهاد، فجاء في أنواع قضاياه ومستنبطات أحكامه، وفي منهجه وروحه العامة يعكس -إلى حد كبير- واقع الحياة الإسلامية فيما يطرأ عليها من الأطوار، وما تنقلب فيه من الأحوال، فيصوغ لكل تلك الأطوار والأحوال أحكاما شرعية من صريح النص أو من أصول الاجتهاد، ولم تكن الأحكام الافتراضية فيه إلا جارية على سبيل المران التعليمي، بل قد كانت منكرة عند بعض أئمة الفقه من كبار المجتهدين.
وواقع الوجود الإسلامي عند نشأة الفقه وطيلة فترة ازدهاره الحية بحركة الاجتهاد كان واقعا يقوم ذلك الوجود فيه على سلطان الدين الذي به تنتظم حركة العلاقات الاجتماعية كلها من تلقاء الأفراد والفئات فيما بينهم، ومن تلقاء الدولة التي تسوس الأمة سياسة شرعية، ولم يعرف ذلك الوجود جماعات واسعة من المسلمين تعيش في مجتمعات غير إسلامية يخضعون بها في علاقاتهم الاجتماعية العامة لسلطان غير سلطان دينهم، وقصارى ما كان يحصل في هذا الشأن وجود أفراد من المسلمين أو جماعات صغيرة منهم في مجتمعات غير إسلامية وجودا عارضا في الغالب بسبب ضرب في الأرض، أو إيمان بالدين ناشئ لم تتوسع دائرته ليصبح سلطانه غالبا، فلم يكن إذن ذلك الوجود للأقليات المسلمة ظاهرة بارزة ضمن الوجود الإسلامي العام.
وبسبب هذه المحدودية غير اللافتة للانتباه في ظاهرة الوجود الإسلامي الذي لا يخضع لسلطان الدين، مضافا إلى ذلك ما ذكرنا آنفا من أن البيان الديني في هذا الشأن كان بيانا جُمَليا عاما، فإن الاجتهاد الفقهي الذي كان يتصدى لحل مستجدات الواقع بأحكام الشريعة لم يتناول بشكل عميق موسع هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي بما هي ظاهرة غير ذات شأن بين في واقع المسلمين، وربما تناول قضايا جزئية محدودة منها، كانت تعرض للمجتهدين بين الحين والآخر فيصدرون فيها فتاوى وأحكاما في غير ما اهتمام شمولي عام بها كحالة من أحوال المسلمين ذات الوزن الواقعي المهم.
وربما طرأت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي ظروف أصبحت فيها حال المسلمين الخاضعين لسلطان غير سلطان دينهم ظاهرة ذات شأن واقعي، وذلك مثل ما حصل للمسلمين عند سقوط الأندلس، ومثل ما كان من أمر المسلمين ببعض البلاد الآسيوية والأفريقية حينما تزايدت أعدادهم وتوسعت جماعاتهم مع بقائهم أقليات مسلمة في مجتمعات غير إسلامية تساس بسلطان غير سلطان الإسلام، ولكن هذه المراحل التاريخية التي أفرزت هذا الواقع الجديد للأقليات المسلمة وافت بالنسبة لمراحل تاريخ الفكر الفقهي مرحلة الضعف الاجتهادي والأيلولة إلى التقليد والجمود، فلم يكن هذا الفكر قادرا على أن يتناول هذه الظاهرة الجديدة بمعالجة فقهية أصلية شاملة، وظل في نطاق التقليد والجمود يردد المعالجات الجزئية الاجتهادية القديمة في طابعها الجزئي، أو يضيف إليها إضافات من الفتاوى ذات الطابع الجزئي أيضا.
وقد أسفر هذا الوضع المتعلق بوجود الأقليات المسلمة في طوريه مع اختلاف الأسباب بينهما عن أن المدونة الفقهية الإسلامية لم يكن لفقه الأقليات فيها بيان ثري يتناول في شمولٍ أحكام العلاقات الاجتماعية للمسلمين، وتصرفاتهم الاقتصادية، وسائر أحوال شؤونهم العامة فيما له صلة بالمجتمع غير المسلم الذي يعيشون فيه، والذي يسوسه سلطان غير سلطان دينهم يكونون هم خاضعين له كما يخضع له سائر المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنما وجدت في هذه المدونة أحكام وفتاوى واجتهادات فقهية جزئية متفرقة في الغالب بين أبواب الفقه المختلفة، لا يجمعها جامع في باب موحد، ولا منهج شامل في النظر الفقهي.(1/205)
وقد استصحب هذا الوضع في المدونة الفقهية بالنسبة لفقه الأقليات وضعا مشابها في مدونة أصول الفقه، إذ من المعلوم أن هذا العلم المنهجي قد نشأ متأخرا عن علم الفقه، وكان نشوؤه -في عمومه- استقراء من محررات الأحكام الفقهية، وليس وضعا ابتدائيا لقواعده المنهجية، فكان لهذا السبب متأثرا على نحو من الأنحاء بالمسار العام للفقه، وذلك فيما يتعلق بأحجام الاهتمام بقضايا الحياة الإسلامية، وشمول البيان فيها، وإن يكن هو من الناحية المنطقية الأصل الذي ينبني عليه الفقه، والذي يتوجه بتوجيهه.
ومن بين ما طاله استصحاب أصول الفقه لما جاء في المدونة الفقهية من شح في البيان المفصل ما يتعلق بالأقليات المسلمة الواقعة تحت سلطان غير إسلامي، فلئن كانت قواعد أصول الفقه وقوانينه وأحكامه ذات طابع منهجي عام، يشمل بالتقعيد المنهجي كل جزئيات الأحكام، ولا يختص ببعضها دون بعض، فإن توجه الأصولي الفقيه بكثافة وعناية إلى مجال من مجالات النظر الفقهي أكثر من توجهه إلى مجال آخر، من شأنه أن يؤثر في نظره الأصولي باستخراج قوانين وقواعد منهجية ذات علاقة أشد وأمتن بالمجال الفقهي الذي كان توجهه إليه أكثر كثافة وعناية، وبإنضاج تلك القوانين والقواعد بمحاكمتها التفصيلية التطبيقية إلى جزئيات الأحكام التي تنضوي تحت ذلك المجال.
ونتيجة لذلك فإن مدونة أصول الفقه -كما المدونة الفقهية- جاء فيها حظ التأصيل لفقه الأقليات حظا ضعيفا بالنسبة لغيره من الاهتمامات الأصولية، فهذا المجال الفقهي لم يوجه إليه التأصيل باهتمام مقدر في تقرير القواعد الفقهية وتوجيهها والتمثيل لها، وكذلك في تقرير أصول الاجتهاد فيه، وتطبيقاتها المختلفة الوجوه، وبقي الأمر في ذلك كله على حد القدر المشترك من الوجوه العامة في استنباط الأحكام من مداركها، وهو ما يلتقي عليه النظر الفقهي في كل مجال من مجالات الحياة حينما يكون سلطان الدين سائدا، دون خصوصية لأوضاع الأقليات المسلمة التي تعيش تحت سلطان غير ذلك السلطان.
=============
التأصيل لفقه الأقليات.. ضرورته وموجهاته
طوح الزمان بالأمة الإسلامية في عهودها الأخيرة إلى وضع من الحياة جديد لم تكن له سابقة في ماضيها، وهو وضع المغلوبية الحضارية لأمم أخرى، ذلك الذي أصبحت فيه تابعة بعدما كانت متبوعة، ومغلوبة بعدما كانت غالبة. ومن إفرازات هذا الوضع الجديد أن نشأت ظواهر متعددة من وجود إسلامي لا يكون الإسلام فيه هو القيم على حياة المسلمين الاجتماعية إن بصفة كلية أو بصفة جزئية، وما عاشته كثير من الشعوب الإسلامية طيلة القرنين الماضيين من حياتها تحت استعمار الأمم الأوربية يعتبر إحدى أبرز تلك الظواهر وأكثرها توليدا وتفريعا في خصوص هذا الشأن.
وإذا كانت سنة الله تعالى في تدبير حياة الناس كثيرا ما ينساق إليهم فيها ما ينفعهم ويكون لهم فيه خير إن هم استثمروه بالاعتبار وفق تلك السنة ضمن ما يصيبهم من ضرر وهم له كارهون، فلعل من تجليات هذه السنة في خصوص ما نحن بصدده أن أفرزت تلك الحال الاستعمارية للشعوب الإسلامية التي خضعت فيها لسلطان غير سلطان الدين وضعا من الوجود الإسلامي بالبلاد الأوربية أصبح على صعيد العد يقدر بعشرات الملايين، وأصبح على صعيد الآمال يستشرف التعارف الحضاري أخذا وعطاء بما لم يتسن للمسلمين من قبل، بالرغم مما اتصفت به جهودهم من العزم والإخلاص، وكان هذا التجلي لتلك السنة يتمثل فيما ساقه الله تعالى فيها من خير نافع للإسلام والمسلمين، وذلك في ثنايا ما كان فيه كره لهم متمثل في خضوع هذه الأقليات الإسلامية الكبيرة في حياتها الاجتماعية لسلطان غير سلطان دينها، وهو سلطان القانون الوضعي في تلك البلاد التي تعيش فيها. ولكن ذلك الخير مشروط في حصول خيريته بحسن استثمار المسلمين لمقدماته حتى ينتج ثماره وفق قواعد الاعتبار وقوانينه.
أ ـ ضرورة التأصيل لفقه الأقليات:
ولعل من أهم ما يستثمر به هذا الوضع للأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية من قوانين الاستثمار المنتجة للخير منه، هو أن يؤخذ بالمعالجة الشرعية وفق منهج علمي هو منهج التأصيل الذي تُبنى فيه الأحكام والفتاوى لهذا الوجود الإسلامي كي يثمر ثماره الخيرة على أصول وقواعد من أصول الاجتهاد وقواعده، توجهها وتسددها نحو أهدافها على اعتبار خصوصية الوضع الذي تعالجه بالنسبة لعموم الوضع الإسلامي الذي جاء النظر الفقهي العام يعالجه وفق الأصول والقواعد العامة في الاجتهاد.(1/206)
وقد اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوربا منذ بعض الزمن، واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقها من الفتاوى والأحكام ظلت تثري الحياة يوما بعد يوم، وتوج ذلك الاهتمام بنشوء مجمع علمي خاص بهذا الشأن هو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوربا، وما أثمره من ثمار، وما تراكم به من فقه، ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن هذا الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به، ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوربية من جهاته المختلفة.
ولا يظن ظان أن هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات سيكون بدعا مستأنفا مقطوع الصلة بالمنهج العام لأصول الفقه الذي يوجه النظر الفقهي، وإنما هو ليس إلا فرعا من فروع ذلك المنهج أو قسما من أقسامه وبابا من أبوابه يشترك مع ذلك المنهج العام فيما هو مشترك بين حياة المسلمين مطلقا عن الظروف والأحوال، ولكن توجه فيه عناية النظر التأصيلي إلى خصوصية وضع الأقليات المسلمة بأوربا من حيث واقعه الخاضع فيه لسلطان القانون الوضعي، ومن حيث ما ينطوي عليه من أبعاد دعوية وآمال مستقبلية، تلافيا في ذلك لنقص في مدونة أصول الفقه شرحنا أسبابه آنفا، ولينتج منه فقه للأقليات المسلمة يتجاوز الفتاوى الظرفية والأحكام الجزئية التي تعالج وجودا إسلاميا ظرفيا عارضا في مقاطع متفاصلة، ليكون فقها يستجيب لآمال الدعوة في تلك البلاد تحقيقا للتعارف الحضاري نفعا وانتفاعا بما لم يتحقق من قبل على الوجه المأمول.
ولا يكون هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات موفيا بالغرض المبتغى منه إلا بأن يبنى في منهجه على أصول ومبادئ موجهة، تقوم عليها أركانه وتتأسس قواعده، ويتوجه بها منهجه وتنطبع بها صبغته العامة، وبأن يشتمل في محتواه على قواعد وقوانين اجتهادية تستنبط وفقها الأحكام ويتوجه بوجهتها الفقه التفصيلي، ويكون كل من تلك الأصول الموجهات وذلك المحتوى من القواعد والقوانين، مأخوذا بنظر خاص يستجيب به لخصوصية الوجود الإسلامي بأوربا، وذلك في نطاق نظر عام مستجيب للمقتضيات الشرعية للوجود الإسلامي المطلق عن الزمان والمكان.
ب ـ المبادئ الموجهة لتأصيل فقه الأقليات:
هي مبادئ أصول من المقاصد العامة للدين مصاغة باعتبارات وضع الأقليات المسلمة بحسب ما يقتضيه ذلك الوضع من مقتضيات تتحقق بها مقاصد الدين فيه، وهو ما تكون به أصولا ذات طابع كلي شمولي تهدف إلى أن تنتج فقها لا يجعل من المعالجات الشرعية الجزئية لآحاد المشاكل ونوازل الأفراد هدفا نهائيا له، وإنما يجعلها طريقا لهدف أعلى منها، وهو هدف نشر الدعوة الدينية في الربوع الأوربية لينبسط بها الدين الحنيف فيها فينقذ المسلمين فيها من الضياع، ويشهد على غير المسلمين بالتبليغ، فهي إذن ليست مجرد أصول فنية تفضي إلى قواعد للاستنباط الصحيح للأحكام والفتاوى في شؤون الأقليات المسلمة من مداركها الشرعية، وإنما هي أصول تنطوي بالإضافة إلى ذلك على بعد دعوي تبليغي تحتل فيه مقاصد الدين العامة ومغازيه الكلية الموقع المرموق. ولعل من أهم تلك الأصول التي تتأسس عليها هذه المعاني ما يلي:
أولا ـ حفظ الحياة الدينية للأقلية المسلمة:
وذلك لتكون هذه الحياة -في بعدها الفردي والجماعي- حياة إسلامية في معناها العقدي الثقافي، وفي مبناها السلوكي والأخلاقي، انتهاجا في ذلك منهج المواجهة لما تتعرض له هذه الحياة من غواية شديدة من قِبل الحضارة الغربية في بنائها الفلسفي والثقافي والسلوكي، والمواجهة أيضا لمغلوبية حضارية متمكنة في شعور تلك الأقلية من شأنها أن تبسط لتلك الغواية منافذ واسعة للتأثير الذي يعصف بالتدين في النفوس والأذهان كما في الأخلاق والأعمال، فيكون إذن من الموجهات الأساسية في التأصيل الفقهي لفقه الأقليات أن يبنى هذا التأصيل على مقصد حفظ الدين في خصوص الأقليات المسلمة بأوربا؛ وذلك حتى تحافظ على وجودها الديني الفردي والجماعي وجودا قويا صامدا في ذاته، وناميا مؤثرا في غيره.
وإذا كان هذا الموجه المقصدي للتأصيل لفقه الأقليات يعتبر موجها لعموم التأصيل الفقهي، ما تعلق منه بفقه الأقليات وما تعلق بغيره، إلا أنه في توجيهه لتأصيل فقه الأقليات يكون مستصحبا لمقتضيات ما يكون به حفظ الوجود الديني للأقليات المسلمة بناء على خصوصية الظروف التي تعيشها والتحديات التي تواجهها، وهي مقتضيات قد تختلف في كثير أو قليل عن مقتضيات حفظ الدين في الوجود الإسلامي الذي يكون فيه المسلمون يملكون أمر أنفسهم في تطبيق سلطان الدين على حياتهم، إذ الظروف غير الظروف والتحديات غير التحديات، فتكون إذن مقتضيات الحفظ غير المقتضيات، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الأصل الموجه لتأصيل فقه الأقليات.
ثانيا ـ مراعاة خصوصية أوضاع الأقليات:(1/207)
الأقليات المسلمة بالغرب -على وجه الخصوص- تكونت في أساسها بموجة من الهجرات من البلاد الإسلامية عبر مراحل متتالية من القرن العشرين، ولم يكن المنضمون إليهم من الذين أسلموا من أهل الغرب إلا أعدادا قليلة بالنسبة لعدد المهاجرين. وقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين إلى أوربا على وجه الخصوص من طبقة العمال، ثم انضم إلى العمال طلبة العلم، ثم انضم إليهم المضطهدون السياسيون، ثم انضمت إليهم أعداد من العقول المهاجرة، وبالتراكم الزمني أصبح لهؤلاء المهاجرين أبناء وأحفاد شكلوا ما يُعرف بالجيل الثاني وأصبح الآن الجيل الثالث قيد التشكل.
إن القاعدة العريضة للأقليات المسلمة بالغرب هي قاعدة مهاجرة بدوافع الحاجة، إما طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، فكان هذا الوجود الإسلامي بالغرب هو في عمومه وجود حاجة لا وجود اختيار، وليست فكرة المواطنة الشائعة اليوم بين هؤلاء المهاجرين مشيرة إلى ضرب من الاختيار إلا تطورا لا يتجاوز عمره سنوات قليلة، وهي فكرة لم يعتنقها بعد القسم الأكبر من الأقلية المسلمة بالغرب. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأقلية جاءت تحمل معها هويتها الثقافية، وقد ظلت محافظة عليها بشكل أو بآخر من أشكال المحافظة، وهي بذلك وجدت نفسها في خضم ثقافة غربية مغايرة لثقافتها، بل مناقضة لها في بعض مفاصلها المهمة، وليست هذه الهوية في مستكن المسلم هي مجرد هوية انتماء شخصي، بل هي أيضا هوية تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري.
ومن هذه العناصر المتعددة في وجود الأقلية المسلمة بالغرب تكونت خصوصيات عديدة يجب أخذها بعين الاعتبار في التأصيل لفقه الأقليات، حتى يكون هذا التأصيل موجها ذلك الفقه بحسب ما تقتضيه الظروف الواقعية، إذ من المعلوم أن الاجتهاد ينبغي أن يكون مبنيا على فقه الواقع كما هو مبني على فقه الأحكام.
ولعل من أهم تلك الخصوصيات التي ينبغي اعتبارها في هذا التأصيل ما يلي:
ـ خصوصية الضعف:
تتصف الأقليات المسلمة -بوجه عام- بصفة الضعف التي لا تكاد تفارق أي أقلية إسلامية في العالم، وإذا كانت حال الضعف حالا ملازمة للأكثر من الأقليات في العالم، فإنها ليست حالا لجميعها، بل من الأقليات من هي على حال من القوة تفوق قوة الأكثرية التي تعيش بينها، ولكن الأقليات المسلمة تفوق في حال ضعفها الأكثر من الأقليات في العالم لأسباب متعددة سنذكر بعضها لاحقا.
ويبدو هذا الضعف أول ما يبدو في الضعف النفسي، فهذه الأقليات هي -في أغلبها- منتقلة من أوساطها الإسلامية إلى وسط ثقافي واجتماعي وحضاري غريب عنها، وهذه النقلة إلى مناخ غريب من شأنها -لا محالة- أن تحدث في النفس شعورا بالغربة الثقافية والاجتماعية، فالاستقرار بالمنبت في المجال الإنساني كما في المجال الطبيعي هو دائما مبعث للشعور بالاطمئنان النفسي المتأتي من الانسجام مع المحيط، والهجرة في المجالين أيضا مبعث للشعور بضرب من القلق النفسي جراء عدم الانسجام مع المحيط الجديد إلى أن يتطاول العهد، وينشأ الانسجام. والشعور بالاغتراب والقلق هو ضرب من الضعف النفسي.
وينضاف إلى هذا المظهر من مظاهر الضعف النفسي ما يستكن في نفوس الأقليات المهاجرة من شعور بالدونية الحضارية أو المغلوبية الحضارية، فالمهاجرون المسلمون إلى الغرب، وهم أكثر الأقلية، انتقلوا من مناخ حضاري متخلف في وسائله المادية والإدارية، إلى مناخ حضاري باهر التقدم في ذلك، وهذه النقلة بين المناخين مع ما يصحبها من مقارنة دائمة تسفر عن تبين استمرارية دائمة في الفوارق من شأنها لا محالة أن تشيع في النفوس شعورا نفسيا بالدونية والانهزام، وذلك ضرب من ضروب الضعف النفسي.
وينضاف إلى ذلك الضعف النفسي ضعف اقتصادي، إذ الأقلية المسلمة في أوربا على وجه الخصوص هي من أكثر الأقليات ضعفا اقتصاديا، إذ هي -في أكثرها- من اليد العاملة أو من الحرفيين، أو من الموظفين في قلة قليلة، وكل أولئك هم على حافة الكفاية إن لم تكن حافة الكفاف، وهو ما انعكس على طريقة الحياة كلها من السكن وسائر المرافق الأخرى، كما انعكس أيضا بصفة سلبية على قدرة هذه الأقلية على تطوير نفسها وتحقيق برامجها وأهدافها التربوية والثقافية والاجتماعية، وقدرتها على الاندماج في الحركة الحضارية والاستفادة منها الاستفادة المثلى.(1/208)
ومن مظاهر الضعف أيضا الضعف السياسي والاجتماعي، فبالرغم من أن عددا كبيرا من الأقلية المسلمة أصبح من المواطنين الأوربيين، فإن المشاركة السياسية لهؤلاء ما تزال ضعيفة جدا، إن لم تكن معدومة، فالتأثير السياسي الذي من شأنه أن ينشأ عن تلك المشاركة هو أيضا على غاية من الضعف، ولذلك فإن هذه الأقلية يكاد لا يكون لها اعتبار يُذكر في القرار السياسي في البلاد التي تعيش فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للوضع الاجتماعي، فليس لهذه الأقلية مؤسسات اجتماعية ذات أهمية وتأثير لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، واندماجها في المؤسسات الاجتماعية العامة اندماج ضعيف لا يكاد يُلحظ له أثر، ومحصلة ذلك كله أن الأقلية المسلمة بالغرب هي من الضعف السياسي والاجتماعي بحيث يكاد لا يُلمح لها وجود، ولا يكون لها أثر، وشتان في ذلك بينها وبين أقليات أخرى أقل منها بكثير عددا، ولكنها لقوتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ترى آثارها فتحسبها هي الأغلبية وليست الأقلية. وهذا الوضع من الضعف المتعدد الوجوه ينبغي أن يكون ملحَظا معتَبرا عند التأصيل لفقه الأقليات.
ـ خصوصية الإلزام القانوني:
البلاد الغربية بصفة عامة يحظى فيها القانون باحترام كبير، سواء في الحس الجماعي، أو في دوائر التنفيذ؛ ولذلك فإن سيادة القانون فيها يُعتبر أحد الثوابت التي بُنيت عليها ثقافتها وحضارتها، ومن ثم فإن أيما منتم إلى هذه البلاد من فرد أو جماعة، سواء بالإقامة أو بالمواطنة، فإنه سيصبح تحت سيادة القانون السيادة الكاملة، مهما كان وضعه العرقي أو الديني أو الثقافي.
والقانون في هذه البلاد مبني على ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه، وهو منظم للحياة العامة على أساس تلك الثقافة والمبادئ والقيم، ويطبق هذا القانون على الأقلية المسلمة كما يُطبق على سائر أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو تطبيق يمتد من أحوال الفرد إلى أحوال الأسرة إلى أحوال المجتمع بأكمله في قدر كبير من الصرامة النظرية والفعلية، بحيث يكاد لا يترك استثناء لخصوصية فرد أو مجموعة تمارس فيها تلك الخصوصية خارج سلطان القانون، وهو ديدن الدولة الحديثة في السيطرة الإدارية المحكمة على المجتمع، وإن تكن تلك السيطرة بتفويض من المجتمع نفسه.
في هذا الوضع تجد الأقلية المسلمة نفسها ملزمة بالخضوع للقانون، وتطبيقه في حياتها حيثما يكون له تدخل في تلك الحياة، وخاصة ما كان يتعلق بالعلاقات العامة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، والحال أن تلك القوانين كثير منها يخالف المبادئ الدينية والثقافية التي تكون هويتها، وتشكل التزامها العقدي، وهكذا ينتهي الأمر إلى سيادة قانونية على حياة الأقلية معارضة في كثير من الأحيان لقوانين هويتها، فإذا هي ملزمة بالخضوع لتلك القوانين، أو هي إذا كان الموقف موقف خيار بين الدخول في معاملات يحكمها القانون وبين عدم الدخول فيها فإن عدم الدخول يحرمها أحيانا كثيرة من ميزات مادية وأدبية يتمتع بها سائر أفراد المجتمع، وهو ما يعطل كثيرا من مصالحها، ويعرقل من سبل تقدمها.
إن هذه السيادة القانونية على الأقلية المسلمة المعارضة في كثير من محطاتها لضميرها الديني والتزامها العقدي تمثل وضعا خاصا لهذه الأقلية من بين أوضاع عامة المسلمين، فالمسلم وضعه الأصلي أن يكون خاضعا لسيادة القانون الإسلامي، والتكاليف الدينية التي كلف بها إنما كلف بها باعتباره يعيش تحت سيادة ذلك القانون، إذ تلك التكاليف هي -في أغلبها- ذات بعد جماعي كما هي الطبيعة الجماعية للدين الإسلامي، فإذا ما وجد المسلم نفسه ضمن مجموعة من المسلمين هي تلك الأقلية موضوع البحث، ووجد أنه ملزم بأن يكون تحت سيادة غير سيادة القانون الإسلامي الذي هو الوضع الطبيعي لتنظيم حياته الجماعية، فإنه سيجد نفسه لا محالة في تناقض بين واقعه وبين مقتضيات هويته الجماعية، وهو ما يمثل ظرفا خاصا في حياة الأقلية المسلمة بالبلاد الغربية على وجه الخصوص يقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي في شؤونها.
ـ خصوصية الضغط الثقافي:
تعيش الأقليات المسلمة في مناخ مجتمع ذي ثقافة مخالفة لثقافتها في الكثير من أوجه الحياة، وهي تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك الثقافة في كل حين وفي كل حال، فمن الإعلام، إلى التعليم، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى المعاملات الاجتماعية، إلى المعاملات الاقتصادية والإدارية، إلى المناخ العام في الشارع من عادات وتقاليد وتصرفات فردية واجتماعية، بحيث تطغى تلك الثقافة على أحوال المسلم أينما حل، بل تطغى عليه حتى داخل بيته.(1/209)
ومما يزيد من سطوة تلك الثقافة على الأقلية المسلمة أن هذه الأقلية لم تنتظم أمورها الاجتماعية بحيث تكون لها فضاءات خاصة بها، تسود فيها ثقافتها، فتخفف بذلك من سطوة الثقافة الغربية عليها، ففي فرنسا يعيش أكثر من 5 ملايين مسلم، ولكن ليس لهم مدرسة واحدة منتظمة كامل أيام الأسبوع تمثل فضاء ثقافيا خاصا بهم يخفف عن أبنائهم ما يتعرضون له من غلبة الثقافة الاجتماعية السائدة، ناهيك عن النوادي والمؤسسات الترفيهية إذا ما استثنينا المساجد والمراكز الدينية.
إن هذه الثقافة المغايرة التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في بلاد الغرب بوجوهها المختلفة، وبوسائلها الجذابة المغرية، وبطرق إنفاذها المتقنة، تسلط ضغطا هائلا عليها، وبصورة خاصة على أجيالها الناشئة، وهذا الضغط يصطدم بالموروث الثقافي الذي تحمله هذه الأقلية إن بصفة ظاهرة معبرة عن نفسها أو بصفة مضمرة مختزنة، وفي كل الصور يحصل من ذلك تدافع بين الثقافتين، وينتهي هذا التدافع في الغالب إما إلى الانسلاخ من الثقافة الأصل والذوبان في الثقافة المغايرة، أو إلى التقوقع والانزواء اعتصاما بذلك من الابتلاع الثقافي، أو إلى رد الفعل العنيف على هذه السطوة الثقافية يجد له تعبيرات مختلفة من جيل الشباب على وجه الخصوص.
ومهما يكن من رد فعل على هذه السطوة الثقافية فإنها تُحدث في نفوس الأقلية المسلمة -وبالأخص في نفوس الشباب منها- ضربا من الاضطراب والقلق في الضمير الفردي والجماعي على حد سواء، وهو ما يصبغ الحياة العامة للأقلية بصبغة التأرجح التي ينتفي معها وضع الاستقرار النفسي والجماعي، فلا هذه الأقلية اندمجت في جسم المجتمع الذي تعيش فيه حتى صارت خيوطا من نسيجه، ولا هي كونت هيكلا متجانسا يتفاعل مع المجتمع من منطلق تلك الهيكلية المتماسكة فيما بينها كما هو شأن الأقليات في بعض البلاد الآسيوية مثل الهند، وهو وضع يكتسب من معنى الخصوصية ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في التأصيل الفقهي.
ـ خصوصية التبليغ الحضاري:
مهما يكن من وضع الأقلية المسلمة بالغرب من قوة أو ضعف، ومن استقرار أو اضطراب، فإن مجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين بالبلاد الغربية يُعتبر ضربا من الصلة الحضارية بين الحضارة الإسلامية -مهما يكن تمثيلها ضعيفا- وبين الحضارة الغربية المستقرة؛ فالمسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد لا يمثلون مجرد كمية بشرية انتقلت من مكان إلى مكان، شأن كثير من الهجرات التي تقع قديما وحديثا، وإنما هجرتهم تحمل معها دلالة حضارية، وهي دلالة تتأكد باطراد بارتقاء نوعية المهاجرين وتعزز تلك النوعية بهجرة العقول وتمكن المهاجرين في مواقعهم العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على وجه العموم.
وإنما كان الأمر كذلك من بين كثير من الأقليات المشابهة في وجودها بالغرب للأقلية المسلمة لأن هذه الأقلية تحمل معها ميراثا حضاريا ضخما، لئن لم يكن حاضرا الحضور البين الفاعل في واقع التدافع الحضاري، إلا أنه حي في النفوس، مختزن فيها بقيمه ومبادئه الروحية، وبرؤيته في تفسير الوجود وتنظيم الحياة، وبتاريخه الممتد لألف ونصف من الأعوام، فهذا الميراث لم يتركه المهاجرون إلى البلاد الغربية خلف البحار ليصلوا إليها غفلا من التشكل الحضاري، بل أولئك الذين نشئوا بهذه البلاد من الجيل الثاني والثالث لم يكونوا كذلك أيضا، وإنما هم يحملون أقدارا من ذلك الميراث منحدرا إليهم من الانتماء الأسري ومن الانتماء الحضاري العام، ومهما بدا في الظاهر أحيانا من ملامح التخلص من هذا الميراث كما هو متمثل في بعض مظاهر التنصل من مقتضيات ذلك الميراث الحضاري فإنه ليس إلا مظاهر سطحية، أما الضمير فهو مختزن لذلك الميراث.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الميراث الحضاري الذي تحمله الأقلية المسلمة ليس ميراثا طبيعته الانكفاء والسكون، وإنما طبيعته الظهور والعرض؛ وذلك لما انبنى عليه من أصول عقدية توجب على حاملها في ذاتها وحامل مقتضياتها الحضارية أن يعرف الناس بها، وأن يعرضها عليهم عرض بيان واختيار، عسى أن يجدوا فيها من الخير ما يقنعهم فيأخذون به، فيعم إذن نفعه، ولا يبقى حكرا على أصحابه، وذلك هو معنى الشهادة على الناس التي تضمنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمة وَسَطا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة: 143).
ومن جهة أخرى فإن هذه الأقلية المسلمة ليس وجودها بمهجرها وجود انبتات عن الجسم الأكبر لأمتها، وإنما هو وجود انتماء إليها وتواصل معها مهما شط بها المكان، ونأى بها المقام، ومهما اتخذت لها من مجتمعاتها الجديدة موطن تفاعل واستقرار، ويقتضي هذا الانتماء والتواصل بمقتضى امتزاجها بالحضارة الغربية امتزاج عيش يومي، ووقوفها عليها وقوفا عن كثب أن تكون أيضا واسطة اقتباس لما هو خير في هذه الحضارة في وجوهها المادية والمعنوية لتبلغها إلى أمتها الإسلامية قصد تعريفها بها، والانتفاع منها في بناء نهضتها.(1/210)
يتحصل من ذلك إذن أن الأقلية المسلمة في أي موقع وجدت فيه بصفة عامة، وفي موقعها بالبلاد الغربية بصفة خاصة، تمثل حلقة وصل حضاري بين حضارتين، ومن مهامها باعتبار ذلك الموقع أن تقوم بدور تنقل فيه المنافع النظرية من قيم ومبادئ تشرح الوجود وتبين الحياة، والمنافع العملية في وجوهها المختلفة من طرف إلى آخر، وأن تعمل على تأكيد معنى التعارف الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، لتكون سببا من أسباب العمل على البناء الحضاري المشترك لما فيه خير الإنسان، وبهذا الموقع الذي هي فيه، وهذا الدور المناط بعهدتها تكتسب خصوصية ينبغي اعتبارها في التأصيل لفقه الأقليات.
ثالثا ـ التطلع إلى تبليغ الإسلام:
وذلك انطلاقا من وجوده بالبلاد الأوربية في حال الأقلية، وسعيا إلى التعريف به لدى غير المسلمين، انتهاجا في ذلك لمنهج يأخذ بعين الاعتبار المسالك النفسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي منها يمكن أن يأخذ الدين طريقه إلى النفوس بينا واضحا، فينتفع به من أراد الانتفاع، فيكون إذن من الموجهات الأساسية لتأصيل فقه الأقليات أن يبنى ذلك التأصيل على مقصد دعوي لا يقف عند حد حفظ تدين الأقليات وتدعيمه، وإنما يتخذ منه منطلقا للتوسع والانتشار ليراه الناس على حقيقته، فيؤمن به من يختار الإيمان، ويستفيد منه من يرى فيه الفوائد.
ولهذا الأصل الموجه مقتضيات يقتضيها في التأصيل لفقه الأقليات قد لا تكون مقتضاة أصلا في التأصيل للفقه العام، أو قد لا تكون مقتضاة فيه بالحجم نفسه وعلى القدر نفسه؛ وذلك لأن هذا التأصيل إذا كان ملاحظا فيه البعد الدعوي على نحو ما ذكرنا ينبغي أن يستصحب خصوصيات ما تقوم به الدعوة في الظروف الأوربية بمعطياتها النفسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، لينشأ منه بهذا الاستصحاب فقه للأقليات ذو صبغة دعوية لا يقتصر على أحكام وفتاوى تحفظ على الأقليات دينها فحسب، وإنما تصاغ فيه تلك الأحكام والفتاوى صياغة فقهية تبسط من روحها الدينية السمحة إلى النفوس الحائرة والأفكار الضالة والعلاقات الاجتماعية المتأزمة ما تنفتح له طبيعتها بما تجد فيها من أمل العلاج لأزمتها، فتقبل على الدين من خلال ذلك الفقه، ويحقق مقصد الدعوة هدفه بفقه للأقلية موجه في تأصيله بتطلع دعوي يروم التعريف بالإسلام في الربوع الأوربية.
رابعا ـ التأصيل لفقه حضاري:
وهو فقه لا يقتصر على التشريع لعبادة الله تعالى بالمعنى الخاص للعبادة، وإنما يتجاوز ذلك ليشرع في حياة الأقليات المسلمة عبادة لله تعالى بمعناها العام الذي يشمل كل وجوه الحياة الفردية والجماعية في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، وعلاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، وعلاقتهم بالمحيط البيئي الذي هو مجال حركتهم، بحيث تتناول أحكام الشريعة في هذا الفقه ما به تترقى جماعة المسلمين في ذاتها الإنسانية ترقية فردية بالعلم والفضيلة، وترقية جماعية بالتراحم والتعاون والتكافل، وما به تكون شاهدة على الناس شهادة قول وشهادة فعل بتبليغ الخير الديني والدعوة إليه، وما به تكون مرتفقة للمقدرات الكونية: استثمارا لها ومحافظة عليها من الدمار، بحيث ينشأ من هذا المبدأ الموجه للتأصيل فقه من شأنه أن يصنع من حياة المسلمين بأوربا أنموذجا حضاريا إسلاميا شاملا خاضعا لله تعالى في شموله لوجوه الحياة.
وهذا الأصل الموجه لفقه حضاري على نحو ما وصفنا يقتضي في فقه الأقليات الإسلامية بأوربا ما يقتضيه النظر الفقهي العام ويقتضي زيادة عليه؛ ذلك لأنه يستلزم أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير الحالة الحضارية العاتية التي يعيش في كنفها المسلمون بأوربا، والتي تغالب في نفوسهم وسلوكهم منزع التدين بسلطان ذي سطوة شديدة، فإذا لم يؤخذوا بفقه حضاري على نحو ما وصفنا يكافئ في عيونهم نفسيا وفكريا، وفي أثره على حياتهم نفعيا ذلك الأنموذج الحضاري الذي يتعرضون لسطوته أو يشف عليه، وترك الأمر لمجرد أن تعالج حياتهم معالجة فقهية تعبدية بالمعنى الخاص، أفضى الأمر إلى أن تكون لتلك السطوة غلبة على النفوس، فتنساق حياتهم في أكثر وجوهها على غير شريعة الله تعالى حتى إن انتظمت فيها شعائر العبادة.
وكذلك يقتضي هذا الموجه أيضا أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير ما هو مترسب في أذهان الأوربيين وأذهان بعض المسلمين المتأثرين بهم من صورة للدين لا يدخل فيها إلا ما هو علاقة روحية بين العبد وربه، ويخرج منها ما هو تنظيم للحياة الاجتماعية وتنظيم لعلاقة الإنسان بالمقدرات الكونية، فتخلو بذلك من البعد الحضاري للتدين الذي يكاد يتمحض فيها للبعد الروحي من حياة الإنسان، وإذا ما لم يؤصل فقه الأقليات تأصيلا حضاريا واقتصر على أبعاده التعبدية الروحية والأخلاقية كرست في الأذهان تلك الصورة المنقوصة للتدين فلم يبق لها أثر ذو بال في التمكين للدين الذي هو مقصد أساسي لفقه الأقليات كما بينا آنفا.
خامسا ـ التأصيل لفقه جماعي:(1/211)
وهو فقه لا يقف عند حد تزكية الفرد في خوافي نفسه وظواهر أعماله بأحكام الشريعة ليظفر بخلاصه الفردي، وإنما يتخذ من ذلك منطلقا لتزكية الجماعة المسلمة والجماعة الإنسانية في حياتها المشتركة لتكون مهدية فيها بحكم الشريعة، فتجري على التعاون على البر والتقوى، وتنأى عن الإثم والعدوان، وتنتهي إلى الفلاح الجماعي في إثمار الحياة بالتعمير في الأرض، وإلى الخلاص الجماعي من شرور الدنيا وحساب الآخرة.
وهذا التوجيه إلى فقه جماعي يستلزم في التأصيل لفقه الأقليات المسلمة بأوربا ما يستلزمه التأصيل للفقه العام مع زيادة عليه؛ لأن هذه الأقليات تعيش في المناخ الاجتماعي الأوربي الذي تطورت فيه بأقدار كبيرة مظاهر التعاون الجماعي، وبنيت فيه القوانين على ذلك التعاون، كما يبدو إداريا في مظهر المؤسسات الجماعية التي تدير الحياة الاجتماعية الأوربية برمتها، وكما يبدو إنسانيا في تحقيق التكافل بما يحقق الكفاية في إقامة الحياة لكل المنخرطين في المجتمع الأوربي، فإذا لم يكن الفقه المبتغى منه معالجة حياة المسلمين بالمجتمع الأوربي فقها جماعيا يشرع للإدارة المؤسسية، كما يشرع للتكافل المادي والمعنوي بحيث يكافئ في بعده الجماعي جماعية القانون الوضعي أو يفوقها ضعف في إدارة حياة المسلمين من جهة، وضعف في تقديم أنموذج حضاري إسلامي من جهة أخرى، فقصر إذن عن تحقيق حفظ الدين في حياة المسلمين، فضلا عن تمكين الإسلام ونشره بالديار الأوربية.
إن التأصيل لقواعد فقه الأقليات الذي نحن بصدد الحديث فيه إذا ما توجه بهذه الموجهات الخمسة التي نعدها من أهم موجهاته المنهجية، فإننا نحسب أنه تنشأ منه قواعد أصولية فقهية تشكل منهجا في النظر الفقهي بخصوص الوجود الإسلامي بأوربا من شأنه أن يثمر فقها للأقليات يثرى في نطاق النظر الفقهي العام بخصوصيات كفيلة بأن تحقق قدرا كبيرا من النفع بالديار الأوربية.
إن الموجه الأول يؤسس لما به حفظ الدين في حياة الأقليات في مناخ يغري بانحلاله. والموجه الثاني يؤسس للانطلاق من الفقه الواقعي فيكون الاجتهاد مبنيا على علم بالموضوع المبتغى علاجه. والموجه الثالث ينتج فقها دعويا ينتقل بحفظ التدين في حياة المسلمين إلى بسط الدين لينبسط بدائرته إلى غير المسلمين فيقفوا على حقيقته. والموجه الرابع يثمر قواعد أصولية ينشأ منها فقه حضاري يقدم من حياة المسلمين أنموذجا حيا للإسلام الحضاري الشامل في الممارسة الفردية والاجتماعية والكونية يكافئ الأنموذج الحضاري الغالب اليوم. والموجه الخامس يثمر قواعد ينشأ منها فقه جماعي ينشد فلاح الجماعة الإسلامية والإنسانية من خلال فلاح الفرد بما يشرع من الإدارة الجماعية ومن التكافل الاجتماعي، كما ينشد الخلاص الجماعي لنوع الإنسان من خلال الخلاص الفردي، فكيف يمكن لهذه الموجهات المبدئية العامة أن تؤسس قواعد أصولية تتضمن من المواصفات المنهجية ما تثمر به فقها يمكن من التعريف بالدين في البلاد الأوربية
==============
لقواعد الأصولية لفقه الأقليات.. وأمثلتها
إن المنهج الأصولي الذي تضبط قواعده طرق الاستنباط للأحكام الشرعية هو -بفروعه المختلفة- متمثل بالأخص في أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، تراكم فيه عبر تطوره وتوسعه من الأصول والضوابط والقواعد المنهجية التي توجه الاستنباط الشرعي تراث في هذا الشأن أصبح يغطي كل مجالات النظر الفقهي دون استثناء، فما من فقيه رام استنباط حكم شرعي في أي مجال من مجالات الحياة إلا وجد من الأصول والقواعد المنهجية الفقهية ما يساعده ويوجهه في استنباط ذلك الحكم من مدركه النصي أو الاجتهادي.
وعلى هذا الاعتبار فإن ما قدمناه آنفا من موجهات أصولية منهجية حسبنا أنها تؤسس لقواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تُستحدث به استحداثا بعد أن لم تكن موجودة في المدونة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة بقدر ما يقصد منه تأسيس يُستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتُستخلص جملةٌ منها تؤلف في بناء جديد، وتوجه توجيها جديدا، بحيث يتكون منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات، ويوجهه ليثمر ثماره في التعريف بالإسلام كما سبق بيانه.
أ ـ التكييف الأصولي لقواعد فقه الأقليات:(1/212)
من المعلوم أن القواعد الأصولية الكثيرة التي اشتملت عليها فروع علم الأصول لئن كانت تغطي بتنوعها كل مجالات الاستنباط الفقهي إلا أنها مع ذلك لم تكن على سواء في طبيعتها من حيث الشمول والجزئية؛ إذ منها ما هو ذو طابع شمولي يمكن أن تُستخدم به في كل نظر فقهي في أي مجال من مجالات الحياة، ومنها ما هو دون ذلك في الشمول، فيستخدم بحسب طبيعته في بعض مجالات النظر الفقهي أكثر مما يستخدم في البعض الآخر. وبالإضافة إلى هذا الفارق المرشح للتفاوت في استخدام تلك القواعد من تلقاء الفارق في طبيعتها فإن بعضا منها كان أوفر حظا في الاستخدام الفعلي من بعض، وذلك تبعا للتفاوت في حجم الاهتمام الذي وقع به تناول أوجه الحياة بالنظر الاجتهادي الفقهي لأسباب راجعة إلى ظروف وملابسات النظر الفقهي نفسه، لا إلى تفاوت طبيعة القواعد في ذاتها، وذلك على سبيل المثال على نحو ما نرى من تفاوت في حجم الاهتمام بالاجتهاد الفقهي بين مجال العبادات والأنكحة والبيوع من جهة، وبين مجال السياسة الشرعية وأوضاع الأقليات المسلمة من جهة أخرى.
وهذا التفاوت في الاستخدام للقواعد الأصولية منهجا للاجتهاد الفقهي -بقطع النظر عن أسبابه- أفضى إلى تفاوت بينها في النضج باعتبارها آلات منهجية للاجتهاد، وذلك سواء من حيث صياغتها وتحريرها، أو من حيث تفريعها وترتيبها، أو من حيث صناعتها المنهجية، كما أفضى أيضا إلى تفاوت بينها في درجة حضورها في الذهنية الفقهية الاجتهادية، وفي مقدار تأثيرها فيها وأثرها في نتائجها من الأحكام تبعا لذلك، كما هو ملحوظ -على سبيل المثال- من تفاوت في كل ذلك بين قواعد الدلالات وقواعد القياس وقواعد التحوط من جهة، وبين قواعد مآلات الأفعال وقواعد الموازنات والقواعد التي تجوز في بعض الحالات ما لا تجوزه في بعض من جهة أخرى، وكان من نتيجة ذلك أن بعضا من القواعد الفقهية الاجتهادية لئن كان مدرجا ضمن المدونة الأصولية ذكرا وعدا وربما محاورة ودرسا، إلا أنه بقي مغمورا في الاستخدام الاجتهادي، وضعيف الأثر في المدونة الفقهية، كما أنه بقي تبعا لذلك يختزن طاقات اجتهادية لم يكتمل الكشف عنها، أو لم يكتمل نضجها بالتقرير والتحرير والترتيب، وتلك سنة جارية، فالآلات -على اختلاف أجناسها- تتطور وتنضج وتزكو ثمرتها بالاستعمال، وتؤول إلى خلاف ذلك بالإهمال.
ومن القواعد الأصولية التي اشتملت عليها مدونة أصول الفقه قواعد ذات فوائد اجتهادية كبيرة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها، سواء كان ذلك بصفة خاصة تتمحض بها على قدر كبير للإفادة في هذا المجال الفقهي، أو كان بصفة عامة تشترك بها في الإفادة الاجتهادية مع مجالات أخرى من مجالات النظر الفقهي. ولكن لما كانت أحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها لم تحظ من الاهتمام بالنظر الفقهي الاجتهادي إلا بالقدر القليل بالنسبة لسائر مجالات الفقه العام للأسباب التي ذكرناها آنفا، فإن تلك القواعد الأصولية لم يكن استخدامها في الاجتهاد الفقهي بصفة عامة، وفي الاجتهاد لجهة فقه الأقليات بصفة خاصة إلا استخداما محدودا، فظلت لذلك السبب قواعد مغمورة، ضعيفة في أثرها الفقهي، غير نضيجة التقرير والتحرير والترتيب، وذلك بالرغم من أنها تنطوي على طاقة منهجية اجتهادية كبيرة في مجال فقه الأقليات على وجه الخصوص.
وما نطرحه في هذه الورقة من فكرة التأسيس لقواعد أصولية لفقه الأقليات إنما نعني به أول ما نعني أن يقع الاتجاه البحثي على تلك القواعد الأصولية التي من شأنها أن تفيد إفادة كبيرة في فقه الأقليات، فتؤخذ بعناية دراسية خاصة، واهتمام بحثي مستقل، وتعالج بالنظر المنهجي وفق الموجهات الأصولية الأربعة التي شرحناها آنفا، لينشأ من ذلك فرع متميز من علم الأصول، أو باب مستقل من أبوابه، لئن كان يشترك في الأسس العامة مع سائر فروع هذا العلم وأبوابه إلا أنه يختص بخصوصية التوجه لخدمة فقه الأقليات وتطويره وإنضاجه ليبلغ هدفه المرتجى منه، وما تقتضيه تلك الخصوصية من مقتضيات التوجيه والتكيف والترتيب. وإن هذا التوجه بالبحث الأصولي المختص بمجال فقه الأقليات المسلمة لكفيل -على ما نحسب- بأن يثمر في ذلك الفقه من الحكمة الاجتهادية الموفية بالتمكين للدين ما لا يتم لو ترك الأمر لأنظار فقهية في مجال الأقليات تجري على القواعد الأصولية العامة كما هي عليه في مدونة علم الأصول في غير تميز وتوجيه خاص.
ويمكن أن تتم تلك المعالجة الأصولية للقواعد المتعلقة بفقه الأقليات بوجوه متعددة. منها أن يجمع منها ما هو شديد الصلة في مقاصده بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعهم، وما هو بين الإفادة في المعالجة الشرعية لتلك الأحوال، ثم يرتب في نسق متكامل ينظمه منهجيا الغرض المشترك والوجهة الجامعة.(1/213)
ومنها أن تشرح تلك القواعد شرحا يكشف عما تختزنه من إمكانيات اجتهادية في الاستنباط الفقهي، ومن مقاصد وحكم تنطوي عليها تلك الإمكانيات، ما كان من ذلك معلوما متداولا وما قد يكون منه غير معلوم ولا متداول. ومنها أن تكيف تلك القواعد في صياغتها وفي ترتيبها وفي شرح حكمها وارتياد أبعادها بما تكون به مهيأة للإفادة في فقه الأقليات، وأن توجه في كل ذلك توجيها يخدم ذلك الغرض بما يضرب لها من الأمثلة التطبيقية الموضحة لمعانيها والشارحة لمغازيها، وبما يُكشف من آثار لمقاصدها متعلقة على وجه الخصوص بأحوال الأقليات وأوضاعهم.
ويمكن أن يكون من بين تلك الوجوه أيضا أن يُستروح من مجموع القواعد الأصولية المتداولة على وجه العموم ومن بعضها على وجه الخصوص بعض الحكم والأسرار التشريعية مما هو مصرح به في صياغتها وشروحها أو مضمن في مقاصدها وروحها العامة لتصاغ منه قواعد وضوابط خاصة بمعالجة أحوال الأقليات المسلمة فيما يشبه التوليد منها أو التفريع عليها أو التطوير لها. ومن كل تلك المعالجة بوجوهها المختلفة يتكون كيان معرفي متجانس منهجيا موحد غائيا يمكن أن يسمى على سبيل المثال بكيان "القواعد الأصولية لفقه الأقليات" أو ما يشبه ذلك من الأسماء.
ب ـ نماذج من قواعد فقه الأقليات:
إذا كان هذا المقام ليس مقام محاولة تطبيقية لنظم ذلك الكيان في أبوابه ومحتوياته ومنهج بنائه على المقصد الذي بيناه، فإننا نورد تاليا بعض النماذج من القواعد الأصولية التي يمكن أن تدرج ضمن ما اقترحنا من كيان أصولي لقواعد فقه الأقليات، اقتصارا على ذكر عناوينها مما هو متداول في الأصول الفقهية العامة، أو مما يمكن أن يولد من ذلك المعلوم المتداول من الفروع، مع بيان بعض الوجوه التي تبرر اختيارها لتدرج ضمن ذلك الكيان، وتبرر انتظامها في مقاصده وأهدافه.
أولا ـ قاعدة مآلات الأفعال:
هي قاعدة أصولية في استنباط الأحكام الشرعية متداولة في مدونة أصول الفقه، ولها بعض الأثر في الاجتهاد الفقهي، وإن يكن على ما نحسب ليس على مقدار حجم أهميتها. وتقريرها -في الجملة- أن الأحكام الشرعية تبنى في صيغتها النظرية المجردة أمرا ونهيا على اعتبار ما تؤدي إليه مناطاتها من الأفعال باعتبار أجناسها المجردة من مصلحة أو مفسدة، ولكن تلك الأفعال في حال تشخصها العيني قد يطرأ عليها من الملابسات ما يجعل بعض أعيانها تؤول إلى عكس ما قُدر نظريا أنه تؤول إليه أجناسها، فإذا ما قدر باعتبار جنسه أنه يحقق مصلحة فوضع له حكم الأمر أصبح لتلك الملابسات يؤول باعتبار عينه إلى تحقيق مفسدة، والعكس صحيح، وحينئذ فإن الفقيه المجتهد يعدل فيه بالنظر الاجتهادي عن حكم الأمر إلى حكم النهي، أو يعدل عن حكم النهي إلى حكم الأمر اعتبارا لذلك المآل الذي غلب على ظنه أنه يؤول إليه في الواقع.
ولهذه القاعدة الأصولية مجال استعمال واسع في المعالجة الفقهية لأحوال الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية؛ ذلك لأن أحكام الشريعة في مجال التعامل الاجتماعي بمعناه العام الذي تتشابك فيه العلاقات بين الناس جاءت في عمومها أحكاما تعالج أوضاع تلك العلاقات على اعتبار أنها علاقات يحكمها سلطان الدين في نطاق الأمة المسلمة فيما بين بعض أفرادها وفئاتها وبعض، أو في نطاق علاقتها كأمة مسلمة بشعوب وأمم ودول غير مسلمة، وكانت تلك المعالجة الشرعية مبنية على وضوح في مآلات الأفعال المحكوم عليها، إذ مسالكها بينة في ظل وضع يحتكم في عمومه لسلطان الدين.
ولكن كثيرا من تلك الأحكام حينما تطبق في أوضاع الأقلية المسلمة التي تعيش في مجتمع لا يحكمه سلطان الشرع، وإنما يحكمه سلطان قانون وضعي وضعه وينفذه غير المسلمين عليهم وعلى غيرهم، فإنها تؤول -عند التطبيق الواقعي- إلى عكس مقصدها، فإذا ما شُرع للمصلحة يؤول تطبيقه في هذا الوضع إلى مفسدة والعكس صحيح، وهو ما يدعو إلى أن تستخدم هذه القاعدة، قاعدة مآلات الأفعال، استخداما واسعا في الاجتهاد الفقهي الذي يعالج أوضاع الأقليات المسلمة، وأن توجه بمعالجة أصولية لتكون إحدى القواعد الأصولية في الاستنباط الفقهي المتعلق بتلك الأوضاع.
ثانيا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:
هي قاعدة أصولية واسعة التداول في النظر الفقهي، بالغة الأثر فيه، وتقريرها في الجملة أن الحكم الشرعي إذا أدى تطبيقه إلى إهدار المصالح الضرورية للإنسان التي تحفظ له ما به قوام حياته المادية والمعنوية، فإن النظر الفقهي يعدل عن الحكم بالحظر إلى الحكم بالإباحة بسبب تلك الضرورة، وقد ألحقت بالضرورة في هذا الشأن لإباحة المحظور الحاجةُ الشديدة القريبة من الضرورة، ولهذه القاعدة تطبيقات مشهورة في عموم الفقه الإسلامي.(1/214)
ولعل مجال استعمال هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة هو أوسع من أي مجال آخر من مجالات النظر الفقهي؛ ذلك لأن الضرورة في حياة الأقليات المسلمة يختلف تطبيقها عنه بالنسبة لحياة المسلمين في المجتمع الإسلامي، بل قد يتسع مفهومها أيضا بين الوضعين، إذ المسلمون بالبلاد الأوربية محكومون بقانون الوضع المخالف في كثير منه لأحكام الشرع، وهم ملزمون بأن ينفذوا ذلك القانون في حياتهم الاجتماعية، وذلك مجال واسع للضرورة لا نظير له في البلاد الإسلامية، ثم إن الضرورة في ذاتها تخضع في ميزان التقدير لنسبية واسعة، فبعض ما يكون غير ضروري في مجتمع ما لإقامة الحياة يكون ضروريا لذلك في مجتمع آخر، وذلك بالنظر إلى تفاوت المجتمعات في بنائها الأساسي من بساطة وتعقيد، وانفتاح وانغلاق، وتلاحم وتفكك، وغير ذلك من الصيغ التي تبنى عليها المجتمعات، وكل تلك الفروق فروق قائمة بشكل بين بين المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقليات المسلمة وبين المجتمع الإسلامي في البلاد الإسلامية.
وتبعا لذلك فإنه مما يقتضيه التأصيل لفقه الأقليات أن تؤخذ هذه القاعدة الأصولية العامة بمعالجة خاصة توجه فيها توجيها تطبيقيا على أحوال الأقليات المسلمة بأوربا، فتدرس في نطاقها وبحسب مقاصدها أحوال الضرورات في حياة المسلمين بهذه البلاد، وتقدر مقاديرها بالقسط، منظورا فيها إلى معطيات من خصوصيات الأوضاع في تلك الحياة مما لم يكن منظورا في حياة المسلمين بالمجتمع الإسلامي الخاضع لسلطان الدين، لتصبح بتلك المعالجة الخاصة موجها أصوليا مهما في فقه الأقليات.
ثالثا ـ قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:
هي جملة من القواعد الأصولية التي تلتقي عند معنى الموازنة بين ما ينتهي إليه فعل ما من الأفعال أو وضع ما من الأوضاع من المصلحة وما ينتهي إليه من المفسدة، فيبنى الحكم الشرعي على نتيجة تلك الموازنة أمرا إذا رجحت المصلحة، ونهيا إذا رجحت المفسدة، وذلك من مثل قاعدة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وقاعدة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الأفراد، وقاعدة المصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة الظرفية، وقاعدة أن الحرام القليل لا يحرم به الحلال الكثير إذا اختلط به، وما شابهها من قواعد أخرى مبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وإذا كان لجملة قواعد الموازنات هذه تطبيقات مقدرة في الاجتهاد الفقهي العام، وتوجيهات مؤثرة فيه، ونتائج بينة في الأحكام الناتجة به، فإن لها مجال استعمال أوسع من ذلك في النظر الفقهي بأحوال الأقليات المسلمة؛ وذلك لأن المجتمع حينما يكون إسلاميا محكوما بسلطان الشرع يكون تمايز المصالح والمفاسد فيه على قدر من الوضوح، ويكون مجال المتشابهات بينهما ضيقا، فظواهر الصلاح وآثاره الناتجة من المواقف والأفعال، وكذلك ظواهر الفساد وآثاره تكون قريبة الوقوع من زمن حدوث أسبابها، فتبدو متمايزة جلية التمايز، مما يسهل على الفقيه الموازنة بينها، وبناء حكمه الفقهي على تلك الموازنة، ولكن المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقلية المسلمة لا تتمايز فيه بسرعة وجلاء مظاهر الفساد وآثاره من مظاهر الصلاح وآثاره لشدة تشابكه وتعقيده، ولا يغرنك في ذلك ما يبدو من تمايز صارخ بين الصلاح والفساد في التصرفات الأخلاقية السلوكية، فإن مجال الصلاح والفساد الذي نعنيه في هذا المقام هو مجال الحياة الاجتماعية بمعناه الشامل سياسة واقتصادا وتربية وعلاقات إنسانية، وهو أوسع بكثير من المجال الأخلاقي.
وبناء على ذلك فإن هذه القواعد الأصولية المتعلقة بالموازنة بين المصالح والمفاسد يقتضي النظر التأصيلي لفقه الأقليات أن يأخذها بالعناية، فيصوغها بما يستجيب لمقتضيات ذلك الفقه، ويوجهها بالدرس والتحليل والإثراء لتكون معيارا منهجيا أصوليا يمكن من الموازنة بين المصالح والمفاسد في نطاق خصوصيات الوجود الإسلامي بالمجتمع الأوربي، ويكشف عما قد يخفى عن كثير من الأنظار في غياب هذا التأصيل من وجوه التراجح بين ما يحدثه موقف أو فعل من مفسدة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مصلحة كبيرة مستقبلية تمكن للإسلام والمسلمين، أو بين ما يحدثه موقف أو فعل آخر من مصلحة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مفسدة كبيرة مستقبلية تتعلق بتشتيت الإسلام والمسلمين، فيبنى الفقه إذن على ما فيه من الأحكام رجحان للمصالح الحقيقية بمقاييسها الشرعية.
رابعا ـ قاعدة: يجوز فيما لا يمكن تغييره ما لا يجوز فيما يمكن تغييره:(1/215)
هي قاعدة قد لا تكون صياغتها على هذا النحو واردة في القواعد الأصولية، ولكنها في روحها ومقاصدها مستروحة من جملة من القواعد والمبادئ الأصولية، والمعني بها أن المجتهد الفقهي إذا عرض عليه وضع من أوضاع المسلمين كان جاريا على بنائه العام نسق مخالف لمقتضيات الشرع وأحكامه، وهم في ذلك الوضع لا يملكون إمكان تغيير النسق الجاري عليه لسبب أو لآخر من الأسباب، فإنهم إذا عرض لهم ما قد تتحقق به مصلحة بحسب ظروفهم مما هو ممنوع شرعا يجوز أن يفعلوه طالما أنهم لا يستطيعون تغيير نسقه العام المندرج فيه، وهو ما لا يجوز لهم فعله لو كانوا يملكون القدرة على تغيير نسقه المندرج فيه.
ومن البين أن هذه القاعدة تختص بمجال ما يحل من الأفعال بالإحلال، أما ما لا يحل بالإحلال فإنها لا تصح فيه؛ وذلك لأنه لا تكون فيه مصلحة معتبرة أصلا.
ومما استروحت منه هذه القاعدة ما ورد في المدونة الأصولية من قواعد ذات مقاصد مشابهة، وذلك مثل قاعدة ما عمت به البلوى، وقاعدة يغتفر في الانتهاء ما لا يغتفر في الابتداء، وغيرهما من القواعد المشابهة، وما نظن التصرف النبوي مع الأعرابي الذي تبول في المسجد إذ نهى أصحابه عن أن يزرموه إلا تصرفا مؤسسا لهذه القاعدة، كما لا نظن ما ذهب إليه الأحناف من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب إلا مستروحا أيضا من روح هذه القاعدة في صياغتها التي أوردناها بها.
وفي أحوال الأقليات المسلمة بالديار الأوربية مجال واسع لتطبيق هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بها؛ ذلك لأن هذه الأحوال في شطر كبير من جوانبها الاجتماعية خاضعة لقوانين الوضع بسلطان الدولة الملزم، وليس لهذه الأقلية المسلمة القدرة على تغيير تلك القوانين، ولا حتى الحق في المطالبة بتغييرها في بعض الأحيان، ولكن بعضا من تلك القوانين المنضوية تحت المنظومة القانونية العامة بالرغم من أنها من حيث ذاتها في وضعها المجرد تخالف الأحكام الشرعية، إلا أن العمل بمقتضاها قد تحصل به للمسلم مصلحة معتبرة، فيجوز له إذن أن يعمل بها بالرغم من أنه ليس ملزما بذلك العمل وإنما هو مختار فيه. ومثاله ما ذهب إليه بعض الفقهاء المحدثين من إجازة الاقتراض بالفائدة لأجل شراء المساكن بالبلاد الأوربية، طالما تحققت من ذلك الاقتراض مصلحة بينة، وطالما كان المقترض المسلم وكل المسلمين معه غير قادرين على تغيير النظام الربوي الذي تقوم عليه الحياة الأوربية. ولهذا المثال نظائر كثيرة تمثل مجالا فسيحا لتطبيقات هذه القاعدة.
مثل هذه المبادئ والقواعد الأصولية، ما يكون منها مأخوذا بصيغته من مدونة أصول الفقه، وما تستروح له صياغة جديدة من معان ومقاصد وأسرار مبثوثة في تلك المدونة، إذا ما عولجت بمعالجة علمية جادة، توجهها المبادئ المنهجية المقصدية الآنفة البيان، فإنها يمكن أن تتألف منها منظومة متكاملة ذات غاية مشتركة تلتقي فيها جميعا عند هدف التأسيس لمنهج أصولي متميز ومتخصص يكون منهجا علميا شرعيا يعتمده النظر الفقهي في شأن الأقليات المسلمة، لينشأ منه فقه يعالج ذلك الشأن معالجة تبلغ به الآمال المعلقة عليه تعريفا بالإسلام في الديار الغربية فيما يشبه دورة جديدة للتعارف الحضاري بين الإسلام والغرب، ولكنها دورة تتأسس على أسس علمية، هي هذه القواعد الأصولية المنهجية التي تؤسس لفقه الأقليات، وهي في الحقيقة تؤسس لتبليغ الإسلام بالدعوة الحضارية السلمية.
ولو ترك الأمر في هذا الشأن عفوا يجري على غير تأصيل علمي، ويقتصر على الأحكام الشرعية الجزئية والفتاوى العارضة التي تستنبط من القواعد الأصولية العامة في غير توجيه خاص، لكان قاصرا دون تحقيق هذا الهدف الأسمى، بل ولأدى الأمر مع اتساع الوجود الإسلامي بالغرب إلى مضاعفات قد تنفلت بها مظاهر من هذا الوجود إلى ما هو مخالف لمقاصد الدين ومناقض لمصلحة الإسلام والمسلمين والمجتمعات الغربية، وذلك تحت تبريرات دينية ولكنها تبريرات خاطئة بسبب عدم التأصيل، وهو ما لا تخطئ عين الناظر عينات منه قد تتنامى مع الأيام، ولكان ذلك تفريطا في فرصة عظيمة للتعارف هيأها الله تعالى للدعوة إلى الإسلام والشهود على الناس من حيث لا يتوقع أهلها.
=============
من فقه الأقليات المسلمة
محمد عبدالقادر » خالد محمد عبدالقادر
* ولد في شمالي لبنان ، سنة 1961م.
* درس في المعهد الشرعي بمدينة حمص السورية.
* حصل على الثانوية الشرعية من المعهد الديني بدولة قطر، سنة 1981م.
* حصل على البكالوريوس في الشريعة من جامعة قطر، سنة 1985م.
* نال درجة الماجستير في الشريعة من كلية الامام الاوزاعي في بيروت ، سنة 1994م، عن رسالته :"الاحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الاسلامية".
* أنهى اعداد رسالة لنيل درجة الدكتوراة في الشريعة بعنوان : "ابن تيمية بين المذهب والاجتهاد".
* له تحت الطبع :
- ابن تيمية ..رد مفتريات ومناقشة شبهات.
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه(1/216)
الحمد لله الذي جعل مقوم بناء الأمة المسلمة، آصرة الأخوة، فقال : (إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات : 10)، وجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة : 71).
وسما برابطة الإيمان على جميع روابط اللون، والجنس، والأرض، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والجغرافيا...إلخ، قال تعالى : (قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة : 24)
وبذلك أصبح كل مسلم حيثما كان، عضوًا في أمة الإسلام العالمية، وأصبح بمقدور كل إنسان أن يختار هذا الدين، وبذلك يتمتع بالولاية الإسلامية أو بموالاة المسلمين جميعًا، أينما كانوا، كما يتمتع بحقوق الأخوة الإسلامية، الأمر الذي يحقق خلود هذا الدين وامتداده وعالميته، ويحول دون التعصب والانغلاق والتمييز بكل أشكاله.. ويجعل هذا الدين بخصائصه وقيمه ا لذاتية، مؤهلاً لقيادة العالم، والعطاء الحضاري والإنساني المستمر.. كما يجعل كل مسلم مسؤولاً عن حمل الأمانة، والقيام بمهمة الترقي الذاتي وأداء مسؤولية الدعوة والبلاغ المبين لهذا الدين.
والصلاة والسلام على من كانت سيرته وسنته تجسيدًا عمليًا لمبادئ الإسلام، وتحقيقًا واقعيًا لمجتمع الأخوة، نواة المجتمع الإسلامي العالمي الكبير، الذي ضم الفقير والغني، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وبيَّن حقوق الأخوة الإسلامية، ليجيء المجتمع قويًا متماسكًا، يتحقق بالولاء والبراء، شعاره قول الله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة )، وممارساته بيانُ الرسول صلى الله عليه و سلم : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كُلُّ المسلم على المسلم حرام، دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه) (رواه مسلم عن أبي هريرة). وقوله : (المسلمون تتكافأُ دِماؤهم، وهُم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويُرَدُّ على أقصَاهم) (رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد، من حديث ابن عباس).
وبعد، فهذا كتاب الأمة الحادي والستون : (من فقه الأقليات المسلمة) للأستاذ خالد محمد عبد القادر، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة الإحياء للقيم الإسلامية في النفوس، والاستيعاب النضيج لقضية الولاء والبراء، وتجديد مفهوم الأخوة الإسلامية الشاملة، بعيدًا عن تضييق مفهومها بسببٍ من التعصب والتحزب والتمذهب، وتغيبب حقوقها تحت شتى الذرائع والمعاذير والفلسفات والتلبيسات، حيث أصبح من المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، التخلص من حالة الوَهْن والركود والتخاذل الثقافي، وتأسيس الرؤية الثقافية على معرفة الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، واستئناف دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري لقضايا الأمة ومشكلاتها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي، ومكتسبات العقل وإبداعاته.
كما هو مطلوب أيضًا، محاولة التدليل على خلود القيم الإسلامية وتجردها عن حدود الزمان والمكان، وذلك بقدرتها على إنتاج النماذج الإسلامية المتميزة في كل عصر، وقدرتها على إيجاد الحلول والأوعية الشرعية لحركة الأمة ومشكلاتها، في النظر إلى الواقع وتقويمه بقيم الوحي المعصوم، والاجتهاد في تنزيل القيم الإسلامية على الواقع، بحيث ينطلق النظر والاجتهاد، من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته ومعاناته.
إن تحقيق هذا الخلود لا يمكن أن يتحصل إلا بإشاعة روح التخصص في فروع المعرفة المختلفة، وإحياء مفهوم الفروض الكفائية، والتأكيد على أن العصر بثورته المعلوماتية وضخه الإعلامي والمعرفي، لم يعد يسمح بوجود الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على الاجتهاد والفتوى في كل شيء، وإنما لابد من التخصص وتقسيم العمل الذي يؤدي إلى تكامله وإتقانه، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، أو النسيج الاجتماعي للأمة بشكل متماسك كالبنيان المرصوص، الذي يشدّ بعضه بعضًا.
إن إشاعة روح الاختصاص، وإحياء مفهوم فروض الكفاية، يستلزم شحذ فاعلية المسلم في المواقع المختلفة، ليستأنف دوره في حمل الأمانة وإلحاق الرحمة بالناس، مستثمرًا طاقاته الروحية والمادية والتخصصية المعرفية، لنصرة الحق والدعوة إليه، وإثارة الاقتداء، والتدليل على أن المسلم ليس جسمًا غريبًا في أي مجتمع، وإنما هو عنصر خير وعطاء وتخصص، قادر على التكيف والاندماج لمصلحة الدعوة، مستعص على الذوبان والانحلال.(1/217)
ومن القضايا الأساسية في هذا المجال، إحياء مفهوم الارتكاز الحضاري، والانتماء الثقافي لرسالة الإسلام والأمة الأم، وعلى الأخص بالنسبة للمسلمين المهاجرين، لسبب أو لآخر، إلى مجتمعات غير إسلامية، قد تكون مشبعة بأحقاد تاريخية وعداوات عنصرية ضد الإسلام والمسلمين، والمساهمة بطرح رؤية واقعية لكيفيات التعامل معها، وإيصال الخير لها.
ولعل القضية التي تستدعي التأمل والنظر باستمرار -نظرًا لتبدل الظروف وتطور الأحوال- قضية الاجتهاد، التي تعني فيما تعني خلود هذا الدين، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة المتجددة، ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وإنتاج النماذج التي تحمل الرسالة، وتحول دون الفراغ الذي يعني تمدد (الآخر).
الاجتهاد بمفهومه العام هو محاولة لتنزيل النص الشرعي، مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.. ومحله دائمًا المكلف وفعله، وهذا يتطلب أول ما يتطلب -بعد فقه النص- النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص، وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري.
وهذه الأحكام المستنبطة من النص لتقويم الواقع والحكم عليه، هي أحكام اجتهادية، قد تخطئ وقد تصيب، حسبها أنها اجتهادات بشرية يجري عليها الخطأ والصواب، لا قدسية لها، ومهما بلغت من الدقة والتحري لا ترقى إلى مستوى النص المقدس في الكتاب والسنة، ولا تتحول لتحل محل النص، فتصبح معيارًا للحكم.. هي حكم مستنبط يعاير ويقوّم بالنص، ويستدل عليه بالنص.
وقد نقول : إن دقة وتحري الحكم وصوابيته في عصر معين، له مشكلاته وقضاياه، أو في واقع معين أثناء تنزيله عليه، لا يعني بالضرورة صوابيته لكل واقع متغير، ذلك أن فقه المحل (الواقع) بكل مكوناته وتعقيداته واستطاعاته هو أحد أركان العملية الاجتهادية، إلى جانب فقه النص المراد تنزيله على هذا الواقع.
فتغير الواقع وتبدل الحال، يقتضي بالضرورة إعادة النظر بالاجتهاد أو بالحكم الاجتهادي، ولا ضير في ذلك، بل الضرر والضير في الجمود على الأحكام الاجتهادية، مهما تغيرت وتبدلت الظروف، وبذلك تتحول الأحكام الاجتهادية من كونها حلاً للمشكلات، ليصبح تطبيقها وتنزيلها على غير محلها هو المشكل الحقيقي.
ومن هنا نقول : إن الكثير من الأحكام الاجتهادية التي وردت لمعالجة مشكلات عصر معين، ليست ملزمة لسائر العصور، إذا تبدلت تلك المشكلات، وأنها في معظمها قابلة للفحص والاختبار، والنظر في مدى ملائمتها للواقع الذي عليه الناس، حيث لابد من العود ة والتلقي من النص الأصلي الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والنظر في كيفية تنزيله على الواقع والحال.. وهذا الذي نقوله هو من سنن التطور الاجتماعي والفقه الشرعي، حيث غيّر الكثير من الفقهاء من أحكامهم نفسها، وليس من حكم غيرهم، عندما تغير الزمان أو تغير المكان، فكان لهم جديد، وكان لهم قديم، أو عندما اطلع على نصوص ووقائع جديدة لم يكن يعرفها مسبقًا، أو عندما أدرك حكمة الحكم وعلته الدقيقة، وعدم انطباقها على الحالات المتشابهة، أو أن الامتداد في تطبيقها بشكل آلي وصارم قد يؤدي إلى فوات مصلحة شرعية وحصول مفسدة محققة، بما أُطلق عليه مصطلح : (الاستحسان)، وكيف أن الأحكام في الكتاب والسنة تتعدد بتعدد الحالات والاستطاعات، ولا تجمد على حال واحدة، فكيف يكون ذلك، والواقع خاضع لسنة التغيير، سقوطًا ونهوضًا، ولكل حالة حكمها؟
وقد كنتُ أشرتُ -فيما كتبتُ سابقًا- إلى أن القرآن الكريم مصدر التشريع والمعرفة، لم يأت ترتيبه في ضوء أزمنة النزول -على أهمية معرفة أزمنة النزول وأسبابه، لإدراك أبعاد النص الزمانية والمكانية والتطبيقية- حتى لا يتجمد الاجتهاد على حال ووتيرة واحدة، وإنما جاء ترتيبه توقيفيًا، ليمنح مرونة اجتهادية، فيكون لكل حالة حكمها، ولو كان ذلك من أواخر أو أوائل ما نزل من القرآن، فالقرآن كله خالد، ولكل حالة حكمها الملائم، ولا يخرج البيان النبوي عن هذا الإطار القرآني، وإنما هو تنزيل له، وبيان ميداني بتحويل الفكر إلى فعل.
وقولنا : بأن الاجتهادات الكثيرة التاريخية، والتي يمكن تصنيفها في إطار الموروث أو التراث هي اجتهادات لزمانها ومشكلاته وأنها غير ملزمة، لا يعني إلغاءها أو القفز من فوقها، أو عدم معاودة الإفادة منها عند تشابه الحال، وإنما يعني استصحابها والاستئناس بها، والفقه بنظرها الدقيق وآليتها الاجتهادية، لتكون معوانًا لنا على النظر الذي يقتضيه تبدل العصر وتغير مشكلاته.
ومن هنا نرى : أن الكثير مما ورد من الفقه الاجتماعي والدولي والاقتصادي والمالي والإداري والدستوري، ليس ملزمًا إذا تبيّن أن الزمن قد تجاوزه -وهذا بطبيعة الحال لا يرد على الاجتهاد في أحكام العبادات بنفس القدر- وأننا مدعوون لإعادة النظر والاجتهاد الفقهي والفكري بشكل عام، في ضوء تبدل الواقع الذي نعيشه، أو تبدل المجتمعات من حولنا، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في أحكام الفقه في ضوء معطيات النص الخالد.(1/218)
لذلك فالموضوع الذي نعرض له -فقه الأقليات- يقع في بؤرة العمل الاجتهادي، لأنه يشكل محلاً لتنزيل الأحكام، مختلفًا كثيرًا عما كان عليه الحال مسبقًا.
والقضية الأخرى التي نريد أن نتوقف عندها بما يتسع له المجال، ونحاول أن نلقي عليها بعض الأضواء التي نراها ضرورية لاستجلاء الحقيقة أو شيء من أبعادها هي : مصطلح الأقلية، أو مفهوم الأقلية والأكثرية.
ذلك أن هذه القضية هي في حقيقتها قضية نسبية، تختلف فيها معايير النظر والحكم والتقويم والنتائج.. وابتداءً نرى أن الأمر لا يمكن أن يحكمه عدد الرؤوس، الكم المهمل، أو ما يمكن أن يُسمَّى (الكَلّ المعطل) الذي لا يأتي بخير أينما توجهه، بمقدار ما يحكمه الكيف والنوعية والفاعلية، أو ما أطلق عليه القرآن الكريم (الإنسان العدل).. ولذا نرى على مستوى القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، والعطاء الحضاري الإسلامي التاريخي، أن معيار التفاضل والكرامة والإنجاز، لم يكن أبدًا منوطًا بالكم من حيث الكثرة والقلة، وإنما يتحقق بمقدار العطاء ونوعية العطاء، فالأكرم هو الأتقى، وليس الأكرم الأقل ولا الأكرم الأكثر.. والتقوى المقصودة في الآية كمعيار للتفاضل، هي جماع الأمر كله، ذلك أن التقوى بأبعادها المتعددة، تعني امتلاك الميزان الحق، والتحلي بالقيم الصحيحة، لاستيعاب الحياة بكل مجالاتها، وكيفيات التعامل معها.. فقد تكون المحصلة فردًا يعدل أمة كاملة، ويكون أمة فعلاً بما يمثل وما يحقق، قال تعالى : (إن إبراهيم كان أمة) (النحل : 120)، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (تجدون الناسَ كإبلٍ مائة، لا يجدُ الرَّجُلُ فيها راحلة) (رواه مسلم عن ابن عمر).
ويحذر القرآن الكريم من الانخداع بالغثاء والكثرة القائمة على غير الحق والعدل، التي يمكن أن تشكل عبئًا يسوده مناخ القطيع، الذي يحرك الإنسان دون دراية وإرادة، فيقول : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام : 116)، والضلال يعني الضياع، وعدمية الحياة، وغياب المقاصد، والانسلاك في القطيع دون فحص واختبار ومعرفة للوجهة.. والرسول صلى الله عليه و سلم حذّر من الوَهْن الذي يصيب الأمة المسلمة، بسبب من الحالة الغثائية، المؤدية بها إلى مرحلة القصعة، التي تسود مراحل النكوص والتخلف، فيتحول الناس إلى مستهلكين بدل أن يكونوا منتجين، فيقول : (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها)، فقال قائل : ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال : (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ لكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهْن) فقال قائل : يا رسول الله! وما الوَهْن؟ قال : (حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) (رواه أبو داود عن ثوبان).
والشاعر العربي حاول معالجة الانخداع بالكثرة التي لا عطاء لها ولا فاعلية، كما حاول تصويب المعيار عندما قال :
تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا فقلت لها : إن الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
فالمعيار يبقى دائمًا هو الكرامة، المتولدة عن التقوى، والعطاء والفاعلية، وليس عدد الرؤوس، أو مساحة القطيع المتحرك بلا رؤوس، أو ذي الرأس الواحد.
ولعلي ألمح من قوله تعالى : (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة : 249 )، عدم الاقتصار في الغلبة على المعركة العسكرية، ذلك أن ميدان الغلبة والظهور والصراع والحوار الحضاري، الحياة بكل أصعدتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية، وإن كان سبب نزول النص معركة طالوت مع جالوت التي قصّها الله علينا، لتحقيق العبرة من تاريخ النبوة، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقرر علماؤنا في أصول الفقه والنظر والاجتهاد. حيث لا عبرة إذا لم نستطع تجريد النص من ظرف الزمان والمكان والمناسبة، وتوليده في المجالات المشابهة.
وكذلك نرى الحقيقة تستمر تاريخيًا، فالذي يدرس واقع المسلمين قبيل بدر، وواقع المشركين، من زواياه المتعددة، يدرك أن كل مؤهلات الغلبة العسكرية والحضارية كانت إلى جانب المسلمين، الفئة القليلة، بمؤهلاتهم وطبيعتهم النوعية وعقيدتهم المميزة، لذلك نستطيع أن نقول : إن الغلبة الحضارية والظهور الثقافي، أو إظهار الإسلام على الدين كله، لا يمكن أن تحدده القلة والكثرة، وإنما تحدده المؤهلات والخصائص والنوعية.(1/219)
وقد يكون من المفيد أن نذكّر بهذه المناسبة، بالنص القرآني الحاسم لهذه القضية في سورة التوبة -وهي من أواخر ما نزل- الذي نزل بمناسبة التحضير لغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، التي سميت بغزوة العسرة، وسمي جيشها بجيش العسرة، وكان في أشد الظروف الطبيعية قسوة، عندما تخاذل الكم الهائل عن الذهاب، وبدأت صناعة فلسفات الهزيمة تستميل النفوس الضعيفة، وتحركت الفئة القليلة لممارسة الإنجاز الكبير، عندها قال الرسول صلى الله عليه و سلم في مجال التبرع والعطاء : (سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم)، قالوا : يا رسول الله! وكيف؟ قال : (رجل له درهمان فأخذ أحدَهما فتصدّق به، ورجل له مالٌ كثيرٌ فأخذ من عُرْضِ ماله مائة ألف فتصدّقَ به) (رواه النسائي، عن أبي هريرة)، فالأمر لا يُعَايَر بالقلة والكثرة.
نعود للنص القرآني المجرد عن حدود الزمان والمكان، لننظر له من زاوية أخرى.. هذا النص الذي يتلوه المسلم، ويتعبد به صباح مساء، والذي نزل لمعالجة حالة التخاذل وتصويب المعيار، وتقرير الحقيقة التاريخية التي ما تزال تعيش في عقول المسلمين ووجدانهم، قال تعالى : (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة : 40).
لقد تحقق النصر الكبير في طريق الهجرة، كما هو معلوم ومعروف للجميع، بواحد أولاً وبثاني اثنين، وكان ما نعلم جميعًا من إقامة الدولة المسلمة النواة، قبل أن تكون هذه الجموع المتخاذلة عن الذهاب إلى تبوك، فلم تكن القلة تعني الهزيمة، ولا الكثرة تعني النصر.. وهذه الوقائع التاريخية من تجارب النبوة، ما تزال ماثلة للعيون، فإذا أضفنا إلى ذلك اليوم أن الإبداعات التكنولوجية، التي جاءت ثمرة للعقول القليلة، قد ألغت قيمة الكثرة في المجالات الحياتية المتعددة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتنموية والاجتماعية، نتأكد أن القضايا الحضارية لا تحكمها موازين القلة والكثرة.
وحسبنا في هذا الموضوع دليلاً من واقع عدونا، بعد أن نسينا تاريخنا، ودخلنا مرحلة (القَصْعَة)، وحالة (الغُثَاء)، و(الوَهْن) الحضاري، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما ذكرنا آنفًا.
فاليهود في العالم لا يتجاوزون الثلاثين مليونًا، حتى في الحسابات المبالغ فيها، ومع ذلك هم يحكمون أو يتحكمون بالعالم، بكل ملياراته وأعداده الضخمة، وليس في ذلك مبالغة، ولا الانطلاق من مركب نقص، لأنه حقيقة ماثلة أمام الجميع، سواء في ذلك من قَبِلَها أو رفضها، ومَن تجاهلها أو جهلها.
فالقضية وما فيها كما يقولون، تحكمها القدرة على استيعاب سنن التدافع الحضاري، والقدرة على التفكير الاستراتيجي، وإمكانية الاستنبات في كل الظروف، وحسن التقدير والتسخير للمواقع المتاحة.. هي في حقيقة الأمر، في التحقق بالتقوى بمعناها الأعم، وانبعاث الفاعلية، واكتشاف المواقع والمنابر المؤثرة، وتوفر عنصري الإخلاص والصواب معًا، ليجيء العمل حسنًا، كما فهم الفضيل بن عياض رحمه الله قوله تعالى : (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (هود : 7)، بأن العمل لا يبلغ مرتبة الحسن ما لم يتوفر له الإخلاص في النية، والصواب، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإرادة والقوة، الحماس والاختصاص، أو بمعنى آخر العمل للوصول إلى بناء الإنسان العدل، والتخلص من الإنسان الكَلّ.
وهنا نقول : كم من الحالات والشدائد، التي نصبح أحوج ما نكون فيها إلى النماذج المتكررة لنعيم بن مسعود رضي الله عنه، الذي قام بالدور العظيم في معركة الأحزاب، وهو كما قال عنه الرسول صلى الله عليه و سلم : (إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت).
من هنا أقول : إن الكلام عن قضية الأقلية والأكثرية، أو عن فقه الأقلية والأكثرية، يحتاج إلى الكثير من الدقة، فكم من أكثرية لا قيمة لها ولا نفوذ ولا قرار، وكم من أقلية تمتلك إدارة الأمور والتشريع لها.
فالقضية قضية واقع، أو حالة حضارية أو ثقافية، يمكن أن تلحق بالأكثرية أو بالأقلية، تحتاج إلى فقه ونظر واجتهاد، وليست قضية محصورة بفقه الأقلية بالشكل المطلق.
والأمر الذي نرى أنه من المفيد لفت النظر إليه في هذا المجال، أن الوجود الإسلامي العالمي هو من طبيعة هذا الدين، الذي ابتعث رسوله رحمة للعالمين، ومن مقتضيات رسالته، قال تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء : 107)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا) (سبأ : 28).. وخطابه بدأ عالميًا منذ اللحظات أو الخطوات الأولى في مكة، فمعظم الآيات بدأت خطابها بقوله تعالى : (يا أيها الناس)، لتستبين السبيل، وتتضح الرؤية، وتدرك أبعاد المهمة من أول الطريق.(1/220)
وأكثر من ذلك، فقد اعتبرت جذور هذا الدين ممتدة حتى النبوة الأولى، قال تعالى : (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) (الأعلى : 18-19). وقال : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى : 13). كما اعتبر الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ أمة واحدة، حتى لو اختلفت المواقع الجغرافية والأزمنة التاريخية، قال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء : 92)، وإن صورة الكمال والاكتمال التاريخي لرحلة النبوة تحققت في الرسالة الخاتمة : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ) (المائدة : 4).
وكانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، القيام بمهمة البلاغ المبين، وإظهار الدين، واستيعاب رحلة النبوة وإكمالها، قال صلى الله عليه و سلم : (مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء من قبلي كَمَثَل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأَجْمَلَهُ إلا موضع لبنةٍ، من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون : هلاَّ وُضعت هذه اللبنة، قال : فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة).
ولقد تعهد الله سبحانه وتعالى بإظهار هذا الدين على الدين كله، فقال تعالى : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة : 33). والإظهار يعني فيما يعني الامتداد والبلوغ لسائر المواقع الجغرافية، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَر ولا وَبَر، إلا أدخله اللهُ هذا الدين، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر) (رواه الإمام أحمد عن تميم الداري)، حيث سيعم البلاغ الحواضر والبوادي، وهذا يعني تحقيق الوجود الإسلامي في كل المواقع الجغرافية.. ووجود المسلمين يعني إقامة أحكام الشرع الإسلامي، والانضباط بالقيم الإسلامية على الأصعدة المتعددة المتاحة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وإداريًا، وتربويًا، في ضوء الاستطاعات المتاحة.
لذلك كان فهم الصحابة لأبعاد المهمة واستجابتهم، منسجمًا مع التكليف الشرعي، فحملوا الإسلام صوب العالم كله، لإخراجه من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، واستطاعوا العيش والتكيف مع كل الظروف، شأنهم في ذلك شأن الإسلام بمبادئه العالمية والإنسانية، واستوطنوا البلاد، وعاشوا إسلامهم بمقدار استطاعاتهم، استجابة لقوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعت) (التغابن : 16)، ولم يحسوا بعقدة الاغتراب، أو أن يميزوا في مجال الدعوة بين أرض وأرض، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، أو بين شعب وشعب، وجنس وجنس، فالأكرم الأتقى، أو بين أقلية وأكثرية، وإنما هي قدرات واستطاعات قد تتوفر في إطار الأقلية العددية، فيكون الواحد بمائة أو بألف : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) (الأنفال : 65).
والغلبة هنا لا تقتصر على الغلبة العسكرية، وإنما تتجاوز إلى أبعاد أخرى، حتى تستوعب الغلبة والظهور الحضاري والثقافي، كما أسلفنا، وتغيب في مجال الأكثرية العددية، وقد يكون العكس هو الصحيح، ولكل حالة فقهها ومتطلباتها.
ولعل مما ساعد الإسلام على الظهور والانتشار، وجعل للإسلام وجودًا في كل المواقع، أنه اعتبر اعتناقه أو الإيمان به خيارًا إنسانيًا، وجاء هذا الخيار ليكون عنوانًا لكرامة وإرادة وحرية الإنسان، قال تعالى : (لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية : 22). وقال : (وما أنت عليهم بجبار ) (ق : 45)، وقال : (لا إكراه في الدين) (البقرة : 256) بدون سيطرة أو جبروت أو إكراه، وجعل الأمة المسلمة أو المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا لكل الأجناس والأعراق والألوان، وبذلك نفى عن هذا الدين العنصرية والتعصب والانغلاق على لون أو جنس أو جغرافيا، كما هو حال كل الحضارات التاريخية، فليس أحد بأحق به من أحد، فـ (سلمان منّا آل البيت)، و(أبو جهل فرعون هذه الأمة).. وأي إنسان يعتنق الإسلام، يتمتع بالأخوة الإسلامية وحقوقها، ويكون له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على كل مسلم.
لذلك يمكن القول : بأن هذا مكّن من الانتشار والوجود في كل المواقع، وكسر كل أسوار التعصب والانغلاق، وأدى إلى الاندماج والانفتاح والتعاون وإنتاج المسلم -حيثما وجد الإنسان- الذي لا يعاني من عقدة اللون أو الجنس أو العرق أو الاغتراب، وأنه يمكن له أن يكون مسلمًا يمارس التكاليف الشرعية، في حدود ما يمتلك من استطاعة، قال تعالى : (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ) (البقرة : 286)، وهذا يعني أن يطبق الإسلام في كل أحواله طالما استفرغ استطاعته.
ومن القضايا ذات الصلة المباشرة بموضوع الوجود الإسلامي في البلاد التي توصف بأنها غير إسلامية، قضية الهجرة، التي تعتبر من الجهاد ومن لوازم مهمة البلاغ المبين ومراغمة أعداء الله، وقد سبق أن أشرنا إلى عالمية الرسالة الإسلامية، ومهمة البلاغ المبين.(1/221)
إن إظهار دين الحق، الإسلام، على الدين كله، يقتضي حمل الدعوة والتبشير بها إلى كل المواقع والأماكن، حتى يخرج المسلم من عهدة التكليف.. وسبق أن أشرنا إلى البشائر النبوية بأن هذا الدين سوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وينتشر في الحواضر والبوادي على حدٍّ سواء، وهذا يعني الوجود والانتشار الإسلامي بشكل أو بآخر في كل المواقع، سواءً كانت البلاد إسلامية بأغلبية سكانها، أو كانت غير إسلامية من حيث أغلبية السكان.
لذلك يمكن القول : بأن الهجرة دعوة وحركة، والهجرة جهاد، والهجرة محاولة لتجاوز الواقع الراكد المستنقع، وتحول إلى موقع أجدى، وتحرف لمدافعة أكثر عطاءً، ولا أعتقد أن للهجرة أحكامًا شرعية واحدة ثابتة لكل الحالات، بل لكل حالة أحكامها بحسب الظروف والملابسات والتغييرات السكانية والإدارية والدستورية، شريطة أن تبقى الهجرة مرتبطة بمقاصدها ومنطلقاتها الشرعية، ولا تتحول إلى مهارب سلبية تسودها فلسفات ومسوغات الانسحاب والهزيمة، شأنها في ذلك شأن الجهاد، حيث لا يجوز التولي عن الزحف والفرار من الموقع، إلا في حالة التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، يقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (الأنفال : 15-16).
والمقصد الشرعي الأساس في الهجرة، أن تكون فرارًا إلى الله، سواءً كان ذلك على مستوى النفس أو على مستوى المكان. فالرسول صلى الله عليه و سلم يعرّف المهاجر بقوله : (إنَّ المهاجر مَن هَجَرَ ما نهى الله عنه) (رواه أحمد عن ابن عمرو)، حتى ولو لم يغير موقعه، لأنه مارس هجرة نفسية وذلك بالانخلاع من الواقع الثقافي الجاهلي والوثني الذي تسوده العبودية لغير الله، مصداقًا لقوله تعالى : (والرجز فاهجر) (المدثر : 5).
ولحكمة يريدها الله، ولبيان دور الهجرة في إظهار الدين، وعدم ركون المسلم إلى الدعة والاسترخاء والسقوط في الرفه، أو السقوط أمام الظالمين، ولأن الهجرة حالة مستمرة استمرار الحياة، جعلها الرسول صلى الله عليه و سلم المثال والأنموذج لإخلاص النية، فقال : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه) (رواه الجماعة عن عمر، واللفظ لأبي داود).
والمقصد المتبادر للهجرة والمشروع : هو الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام، أو الفرار بالدين من الفتن إلى محل يأمن فيه المسلم من الإثم، أو من بلد يفتن فيه المسلم عن دينه ويؤذى بسبب اعتقاده...إلخ. يقول تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت : 56)، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيرها : (هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين) (تفسير ابن كثير، 3-419).
حتى إن الإسلام جعل الهجرة القاصدة سبب الولاء وآصرته، قال تعالى : (الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ) (الأنفال : 72).
والهجرة، حركة دعوة وجهاد، كما أسلفنا، وليست حركة سلبية هروبية انسحابية من الموقع، وإنما يتحدد حكمها بحسب الظروف، فقد تقتضي الظروف الثبات في الموقع وتحمل الأذى، والصبر على الافتتان، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، ومن ذلك أن يكون أمر الإسلام قد توجه بالانتشار والانتصار، ولا يعيقه فتنة فلان أو إيذاء فلان، أو عندما تكون فتنة فلان إيقاظًا لأمة وإشهارًا للاستبداد، عند ذلك يصبح التشبث بالأرض وعدم إخلائها لصالح أعداء الله في الداخل والخارج واجبًا شرعيًا، فتكون الهجرة الداخلية بهجر ما نهى الله عنه، والثبات، وتقديم أنموذج الاقتداء، ويحكم هذه الحالة من بعض الوجوه، قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) (رواه مسلم من حديث عائشة).
وتصبح الهجرة واجبة عند المحاصرة الكاملة، وانسداد قنوات الحركة، واستحالة الاستجابة والدعوة، عندها لابد من التفكير بمواقع أخرى، حتى ولو كانت في الخروج إلى بلاد الكفر، إذا كانت فيها أقدار من الحرية تمكّن من إظهار الدين.
ولقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا البعد للهجرة، فقال : (المقيم بها -أي في غير بلاد الإسلام- إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه) (الفتاوى، 28-240). وعند الماوردي أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فالإقامة فيها أفضل، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.(1/222)
والهجرة اليوم أصبحت خاضعة إلى نوع من تحكم الأقوياء، الذين ضيّقوا أرض الله الواسعة، بما شرّعوا من قوانين الهجرة والإقامة، جعلت لهم إمكانية السيطرة، والقدرة على امتصاص الأدمغة وإغرائها بالهجرة، ليقيموا حضارتهم على إنتاجها، ويمارسون في الوقت نفسه إقامة أنظمة الاستبداد السياسي، التي تساهم بالطرد لكل خبرة وإمكانية واختصاص، إلى مواقع الجذب للإفادة من ذلك كله.. وليس ذلك فقط، وإنما إيجاد هوامش من الحرية المنضبطة في محاولة للاستلاب الحضاري، وتبقى الصورة غير الحقيقة.. ذلك أن الذين يمنحون الحرية هناك في بلادهم للمهاجر والمقيم، هم نفسهم الذين يمنعونها في بعض بلاد العالم الإسلامي، ويشيعون أنظمة الاستبداد السياسي بكل أشكالها ويساندونها، ويقفون وراءها، وهذا من الفتن، حيث افتتن الكثير من أبناء المسلمين بذلك، وذابوا فيه دون أن يدركوا أن الذي يمنحهم هذه الحرية هو الذي يمنعهم، ويساند الاستبداد، ويطارد الحرية في بلادهم، لينتهوا إليه.
لذلك نقول : إن الذي يحاول أن يضع بعض الأحكام والفتاوى الشرعية لقضية الهجرة، لابد أن يكون على دراية بالمسألة من جميع وجوهها، وحسن تقدير لمعرفة تداعياتها المستقبلية على أكثر من مستوى، وأن ما يصلح من الأحكام لعصر أو مكان، قد لا يصلح لعصر أو مكان آخر.. وإطلاق الأحكام بعيدًا عن أرض الميدان وعدم استيعاب الصورة، يحمل الكثير من المضاعفات.
فقد تقتضي الظروف التشبث بالأرض، وعدم الهجرة وإخلاء البلاد لامتداد أعداء الله وتمكينهم من مقادير الأمور، حتى في حالات الاستضعاف، لأن ذلك قد يشكل فراغًا أو تفريغًا لصالح (الآخر).. وقد تصبح الهجرة واجبة ومفروضة في حالات الانسداد الاجتماعي والثقافي، وقد يجد المسلم في البلاد غير الإسلامية فسحة لممارسة عقيدته ودعوته، وتقديم نماذج حضارية وإنسانية تثير الاقتداء. وكم يتأكد دور الهجرة وفاعليتها في إطار الدعوة، إذا علمنا أن انتشار الإسلام في العالم والإقبال عليه، كان بسبب إثارة الاقتداء، أو الدعوة بالقدوة من قِبَل التجار والمهاجرين.
وعلى العموم يمكن القول : إن لكل حالة حكمها، ولكل هجرة دواعيها وأسبابها، ولا يمكن أن يكون حكمًا واحدًا لكل الحالات ولكل الظروف والملابسات، فالأرض كلها لله.. وواجب الدعوة وإيصال الإسلام وإظهاره، مهمة كل مسلم، بحسب استطاعته.. والوجود الإسلامي وإظهار الدين، أصبح -جغرافيًا وثقافيًا وإعلاميًا، على المستوى العالمي- أمرًا قائمًا ومستقرًّا ومستمرًّا، وقد تتمتع الأقلية السكانية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، في ممارسة عبادتها وحريتها، أكثر بكثير مما تتمتع به في بعض البلاد الإسلامية، وهذا من الفتن، كما أسلفنا.
وأعتقد أن هذا الأمر يقتضي شيئًا من التوقف عند مصطلح دار الحرب ودار الإسلام، وبعض الأحكام الفقهية الجاهزة للتطبيق في المواقع المتعددة والحالات المختلفة، دون القدرة على النظر والاجتهاد في محل التطبيق، ومدى ملاءمته، وتوفر استطاعته لهذا التطبيق أو التنزيل، مع الأخذ بعين الاعتبار تجدد الأعراف والتشريعات، والتغيير الذي طرأ على طبيعة المجتمعات، ومواصفات المواطنة والقوانين الناظمة لحقوقها وواجباتها، والقوانين الناظمة للهجرة والإقامة.
والقضية فيما أرى تقتضي قدرًا من المراجعة وإعادة النظر في مدلول هذه المصطلحات أو مفهوم هذه المصطلحات، ولعل من الأمور البدهية والمسلمة أيضًا، أن رسالة الإسلام رسالة عالمية، كما أسلفنا، يمكن أن نصفها بأنها خطاب الإنسان حيثما كان، وأن جغرافية الرسالة هي أرض الله الواسعة وأزمنته الممتدة إلى يوم القيامة، ومحل خطابها الإنسان المخلوق، وأنها من حق كل إنسان وليست وقفًا على أحد، وأن الإنسان بمجرد اعتناق الإسلام يتمتع بحقوق المسلم العضو في أمة الإسلام، ويكتسب صفة الأخوة، وتترتب عليه حقوقها.
هذا في مجال الدعوة أو الفكرة والعقيدة، وهو المجال المستمر في كل حالات الاستضعاف والتمكين على سواء، ولعل انتشار الإسلام اليوم، أو اعتناق الإسلام المستمر في أرقى المجتمعات المادية، وفي أكثرها تخلفًا، على الرغم من واقع المسلمين الذي لا يحسدون عليه، دليل على أن خطاب الدعوة مستمر، ومجاله مفتوح، وعطاءه متجدد، وهذا من الخلود.
ولكن الإسلام كما هو متيقن وواقع تاريخي، ليس دعوة مجردة فقط، وليس أمة منتشرة متفرقة في أرجاء الأرض، في الحواضر والبوادي فقط، وإنما هو دعوة ودولة، بحيث تكون الدولة دولة الدعوة والفكرة، وتشكل إحدى وسائل نشر الدعوة وحمايتها.. والإسلام أمة وحكومة تبسط سلطتها، وتشرف على إنفاذ القوانين وتطبيق الأحكام في الأمة، وليس مجرد وصايا أخلاقية تعيش في ضمير الفرد دون أن تحكم واقعه وتضبط تصرفاته بضوابط الشرع، وتعالج انحرافاته بعقوبات رادعة.(1/223)
وهذا الواقع سوف يتولد عنه بطبيعة الحال جغرافيا سياسية، وموقع على الخارطة الدولية، ومواصفات ثقافية، ونمط اجتماعي، وتميز تربوي وقانوني، وسوف يترتب عليه علاقات ومعاهدات ومواجهات ومدافعات، شأن الواقع الدستوري للدول جميعًا، ومن هنا كان لابد أن ينشأ مصطلح يُطلق على هذه المنطقة الجغرافية، سواء أطلق عليه دار الإسلام أو غير ذلك من المصطلحات ذات الدلالة الكافية.. فنشأ مصطلح دار الإسلام، وترتب على نشوئه مصطلح دار الحرب، والدار المعاهدة، بحسب طبيعة الدول وعلاقاتها الدولية ومواقفها من الدولة المسلمة أو من دار الإسلام.
والقضية الأهم هنا أن دار الحرب والدار المعاهدة، إنما تتحدد في ضوء وجود دار الإسلام، بكل مواصفاتها ومقوماتها، ولعل من أهم المقومات قيام دولة الفكرة، أو دولة الرسالة الإسلامية التي تقيم شرع الله على الأرض، وقد وضع الفقهاء خصائص ومواصفات لدولة الإسلام أو للمجتمع الإسلامي، وبذلك يوصف المجتمع بأنه مجتمع إسلامي، وتوصف الأرض التي بسطت عليها الدولة الإسلامية سلطانها وشرعها بأنها دار إسلام، بالمصطلح الدستوري الذي كان شائعًا، أو بمصطلح القانون الدولي، وعلى مستوى الدولة وليس على مستوى الأمة المسلمة الممتدة في سائر أنحاء الأرض، فإذا لم يتوفر الكيان الإسلامي أو الدولة التي تقيم الإسلام وتطبق شرعه، وتنطلق من قيمه في التشريع والتربية والسياسة والاقتصاد...إلخ، أو المجتمع الإسلامي بتعبير آخر، فإن المجتمع حينئذ يسمى مجتمع مسلمين، يمارس الأفراد فيه من الإسلام ما استطاعوا، ويعملون على إقامة الدولة المسلمة، وعلى ذلك -أي عند غياب المجتمع الإسلامي بمواصفاته المعروفة- لا يمكن عندها تحديد دار الحرب أو الدار المعاهدة، التي تُحَدَّد وتُميَّز في ضوء وجود دار الإسلام.
أما على مستوى الأمة فيصعب الانضباط بهذا المصطلح، والالتزام بما يترتب عليه، فقد يكون المسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية لهم من الحرية السياسية والممارسة والحقوق ما هو مفقود في كثير من مجتمعات مسلمين آخرين، ولو كانوا أكثرية، لكنها أكثرية مغلوبة على أمرها ومضطهدة.
والجانب الآخر الذي نرى أنه بحاجة إلى إيضاح، أن تسمية المصطلحات التي تخص الجغرافيا السياسية، إن صح التعبير، هي اجتهادات بشرية، اقتضتها ظروف الحال والواقع الدولي في ذلك الوقت، غير ملزمة، فقد يقتضي تطور العصر، وتغير طبيعة المجتمعات، وتقدم القوانين الدولية، وقيام المعاهدات والمؤسسات الدولية المشتركة، توليد مصطلحات أخرى ذات دلالة أكثر دقة ومعاصرة.
وهنا قضية قد تكون غابت عن بعض الباحثين، حتى من الذين يدّعون التخصص والاجتهاد، ويقيمون مؤسسات ومعاهد الاجتهاد والنظر والتجديد، ويطلقون دعاوى ومشاريع التجديد، وهي أن مصطلح دار الحرب ودار الإسلام هو مصطلح اجتهادي، وهذا صحيح أيضًا، وأن الأفضل أن يستبدل بدار الإسلام أمة الإجابة، لمن آمنوا واستجابوا، وبدار الحرب أمة الدعوة، لمن لايزالون على الكفر، ومحلاً للدعوة، كما نقل ذلك الرازي في تفسيره، وهذا وإن كان صحيحًا ودقيقًا ومقبولاً من حيث المضمون العام، وعلى مستوى الأمة، إلا أنه غير دقيق ولا صحيح ولا معبر على مستوى الدولة أو القانون الدولي والجغرافيا السياسية ،كما أسلفنا، لوجود أقليات مسلمة في مجتمعات غير مسلمة من أمة الدعوة هي من أمة الإجابة، فكيف يمتد إليهم سلطان الدولة المسلمة جغرافيًا؟!
وأعتقد أن الخطاب التكليفي والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالأمة كأفراد، غير الخطاب والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالدولة، كمؤسسة ذات سلطات.
لذلك فالأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، تعتبر من الأمة المسلمة، بما يمكن أن نطلق عليه الجغرافيا الثقافية، وليس من الدولة المسلمة، أو من دار الإسلام، حال وجود الدولة المسلمة فيما يمكن أن نسميه الجغرافيا السياسية.
وأعتقد أن الكثير من أحكام الهجرة الشرعية، أو الأحكام الفقهية لما يطلق عليه : الإقامة في بلاد الكفر، بحاجة إلى إعادة النظر في ضوء المتغيرات الاجتماعية والإعلامية والثقافية، حيث أصبح العالم دولة إعلامية واحدة تقريبًا، وأصبح بإمكان الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، أن تعايش ثقافة وقضايا ومشكلات العالم الإسلامي، كما يمكنها أن تتعلم الأحكام الشرعية والثقافة الإسلامية بأكثر من وسيلة، بل قد يكون وجودها في تلك البلاد ضروريًا لقضية الدعوة ونشر الإسلام وإعطاء الأنموذج الذي يثير الاقتداء، وقد يراغم الأعداء، وقد تتاح لهم فرص غير متوفرة في بلاد المسلمين.(1/224)
والهجرات الإسلامية القاصدة تاريخيًا، كلها كانت ذات عطاء، سواءً في نشر الدين، أو إقامة الدولة المسلمة، وقد لا نحتاج لإيراد الأمثلة من أكثر من موقع، ولكن حسبنا أن نقول : إن الهجرة الأنموذج من مكة إلى المدينة، هي التي شكلت المنعطف التاريخي البشري وإقامة دولة الإسلام.. ولأمر يريده الله، أن دولة الإسلام الأنموذج كتب لها أن تقوم في معقل يهود في المدينة المنورة، ولم تقم بمكة حول البيت الذي بُني على التوحيد، ليكون ذلك دليلاً وهاديًا وحافزًا لكل الهجرات القادمة على الطريق حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وأن الضعف بتقدير الله، سوف يتحول إلى قوة.. وأن أوهن البيوت، وهو بيت العنكبوت، كان بحسب الظاهر سببًا في حماية الرسول صلى الله عليه و سلم في هجرته لإقامة دولة الإسلام.
فما على المسلم إلا أن يعرف إسلامه، ويعرف كيف يدعو إليه، وسوف يكون مؤثرًا وفاعلاً أينما كان، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (اتق الله حيثما كنت) (رواه الترمذي، من حديث أبي ذر)، والأرض لله يورثها من يشاء، ومسؤولية المسلم مسؤولية عالمية لاستنقاذ الناس وإلحاق الرحمة بهم، والفرد قد يكون أمة، كما أسلفنا، فلا تقاس الأمور بالأكثرية والأقلية، فكم من أكثرية لا قيمة لها، وكم من أقلية تمتلك القيمة الكبرى، إذا أحسنت التعامل مع سنن التدافع الحضاري.
وبعد :
فالكتاب الذي نقدمه اليوم هو في أصله دراسة علمية أكاديمية لموضوع فقه الأقليات المسلمة، عرض المؤلف من خلالها للأحكام الفقهية الشرعية، والاجتهادات المتعددة، بقدر غير قليل من الاستقصاء، وحاول الترجيح ما أمكن لبعض الاجتهادات، سواء في مجال العبادات أو المعاملات، والعلاقات الاجتماعية، وقضية الولاء والبراء، بحسب ما أمكن من استقراء الظروف والأحوال للواقع الدولي اليوم.
وقد لا يكون المطلوب الاقتصار على النظر والاجتهاد في مجال الفقه التشريعي -على ضرورته وأهميته- وإنما لابد من التفكير في المناهج التربوية، وبناء الأنظمة المعرفية وموارد التشكيل والتحصين الثقافي، وبيان موقع الثقافة الإسلامية من الثقافات القائمة، والقدرة على استيعاب الحالات المتعددة، فما يصلح لأقلية في مجتمع ما من الأحكام والمناهج، قد لا يصلح لأقلية في مجتمع ذي طبيعة أخرى، وما يصلح للمسلم في بلاد العالم الإسلامي، قد لا يصلح للمسلم في مجتمعات غير إسلامية.
ولعل من الأهمية بمكان التفكير بتوطين الدعوة، ليأتي الفقه التربوي والتشريعي والثقافي ثمرة للواقع الميداني، فيتحقق بذلك مدلول قوله تعالى : (رسولاً منهم)، بعيدًا عن مخاطبتهم من وراء الحدود ومن خارج المعاناة.
ويبقى ملف الأقلية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، مفتوحًا لمزيد من البحث والدرس والاجتهاد والمتابعة، على المستوى الفكري والفقهي والثقافي، في ضوء التطورات الاجتماعية والمعاهدات والمؤسسات الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان، والمعطيات الحضارية في مجال الإعلام، وشبكة المعلومات، والقنوات الفضائية التي احتلت الأثير، واخترقت الحدود السياسية للدول، فجعلت من الأقلية أكثرية في القدرة والتأثير، وجعلت من الأكثرية أقلية حيث العجز والتخاذل وصور التحكم، وأتاحت إمكانات علمية وتعليمية تصل إلى كل المواقع. لذلك فالقضية محتاجة إلى الكثير من التأمل والنظر والاجتهاد والتخطيط.
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
=================
المقدمة في المعاملات التجارية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد :
فالإسلام منهج حياة متكامل، تناول كل جوانب الحياة، ونظّم العلاقات الإنسانية كلها، ووضع لها أحكامًا وقواعد على مقتضى الحق والعدل.
فلم يقتصر على بيان علاقة الأفراد بخالقهم، والتي هي أساس كل علاقة، بل اتسع ليستوعب شؤون العلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبين المسلمين ومخالفيهم، على نحو لم تعرف البشرية شبيهًا ولا مثيلاً له.
ولم يكتف كذلك بالتنظير، بل ربط بين المعرفة والعمل برباط متين في كثير من النصوص، وطلب من أتباعه أن يكيِّفوا سلوكهم وفق قواعده وتعاليمه، وأن يحكموا الرباط بين الفكر والمسلك كارتباط القاعدة بالبناء، ليكونوا -بحق- خير أمة هادية للحقيقة التي ضل عنها كثير من الناس.
والإسلام هو الدين المهيمن على الدين كله، ومعتنقوه شهداء على الناس.. ولكي يصدق على المسلم وصف الشاهد، لابد أن يكون على مستوى إسلامه، منهجًا وفكرًا وتصورًا وسلوكًا.(1/225)
وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بالعبودية لله، وبالاستقامة على طريقة الشرع، وعندئذ يصبح داعية بسلوكه في بيئته، وسفيرًا للإسلام في مجتمعه، وكم من مجتمع أسلم أهله لما رأوه ولمسوه من مكارم أخلاق الدعاة، ومواقفهم الطيبة مع الآخرين، وبرهم بهم، وقسطهم إليهم، فلم يملكوا إلا أن أخضعوا عقولهم ومداركهم لما يحمله هؤلاء من عقيدة وفكر. وبهذا يتحقق المقصد الأسمى من خلق الناس، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب.
ولما كان سبحانه وتعالى وعد بإظهار دينه، وإدخاله كل بيت، بعز عزيز أو بذل ذليل، كان طبيعيًا أن يوجد مسلمون في ديار غيرهم، إما بحكم النشأة، أو الهجرة.
وهؤلاء المسلمون في الغالب أحد رجلين :
إما متشدد يعتزل أهل الملل الأخرى، ويعاملهم بغلظة، بل قد وصل الأمر إلى حد استباحة أموالهم.
وإما متساهل مع المخالفين إلى حد التوادد والرضا، بل والذوبان التام، وفقدان الشخصية الدينية.
ومن هنا جاءت هذه الدراسة، إسهامًا في جهود ترشيد الصحوة، ليستعيد المسلم دوره في الريادة، ولتكون شعلة تضيء الطريق، وتجعل المسلم على هدى ونور، معتمدًا فيها على نصوص الكتاب، وما صح من السنة، وإجماع الأمة، مسترشدًا بأقوال الصحابة، والتابعين، وأئمة المذاهب وغيرهم، مبتعدًا عن التعصب والتقليد لإمام بعينه، سائرًا مع الدليل حيث سار، لأن الله تعبدنا به دون سواه.
جاءت هذه الدراسة على فصلين، كل فصل حوى عدة مباحث، ومطالب، ومسائل، وفروع منتقاة، مما يتطلع المسلمون في ديار غير المسلمين إلى معرفته، لتصحيح سلوكهم مع مخالفيهم، وضبط تعاملهم مع غيرهم، بحكم الخلطة والجوار، على أساس قويم.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الأحكام إنما اختيرت من رسالة ضخمة (حوالي 700 صفحة)، حوت الأحكام التي يفتقر إلى معرفتها المسلم في ديار المخالفين، في شتى مجالات الحياة، على وجه التفصيل.
وهي في الأصل رسالة علمية نلت بها درجة الماجستير من (كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية) في بيروت، في ربيع الأول من سنة 1415هـ، بعنوان : (الأحكام الشرعية لمسلمي البلاد غير الإسلامية)، وهي قيد الطبع والنشر إن شاء الله.
وما تمَّ اختياره هنا من أحكام إنما كان ثمرة مناقشات ومحاورات مع عدد كبير من المختصين، الذين سبق أن أقاموا في ديار غير المسلمين لفترة طويلة.
والله ولي التوفيق.
خالد محمد عبد القادر
تقديم
بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل مقوم بناء الأمة المسلمة، آصرة الأخوة، فقال : (إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات : 10)، وجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة : 71).
وسما برابطة الإيمان على جميع روابط اللون، والجنس، والأرض، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والجغرافيا...إلخ، قال تعالى : (قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة : 24)
وبذلك أصبح كل مسلم حيثما كان، عضوًا في أمة الإسلام العالمية، وأصبح بمقدور كل إنسان أن يختار هذا الدين، وبذلك يتمتع بالولاية الإسلامية أو بموالاة المسلمين جميعًا، أينما كانوا، كما يتمتع بحقوق الأخوة الإسلامية، الأمر الذي يحقق خلود هذا الدين وامتداده وعالميته، ويحول دون التعصب والانغلاق والتمييز بكل أشكاله.. ويجعل هذا الدين بخصائصه وقيمه ا لذاتية، مؤهلاً لقيادة العالم، والعطاء الحضاري والإنساني المستمر.. كما يجعل كل مسلم مسؤولاً عن حمل الأمانة، والقيام بمهمة الترقي الذاتي وأداء مسؤولية الدعوة والبلاغ المبين لهذا الدين.
والصلاة والسلام على من كانت سيرته وسنته تجسيدًا عمليًا لمبادئ الإسلام، وتحقيقًا واقعيًا لمجتمع الأخوة، نواة المجتمع الإسلامي العالمي الكبير، الذي ضم الفقير والغني، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وبيَّن حقوق الأخوة الإسلامية، ليجيء المجتمع قويًا متماسكًا، يتحقق بالولاء والبراء، شعاره قول الله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة )، وممارساته بيانُ الرسول صلى الله عليه و سلم : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كُلُّ المسلم على المسلم حرام، دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه، ) (رواه مسلم عن أبي هريرة). وقوله : (المسلمون تتكافأُ دِماؤهم، وهُم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويُرَدُّ على أقصَاهم) (رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد، من حديث ابن عباس).(1/226)
وبعد، فهذا كتاب الأمة الحادي والستون : (من فقه الأقليات المسلمة) للأستاذ خالد محمد عبد القادر، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة الإحياء للقيم الإسلامية في النفوس، والاستيعاب النضيج لقضية الولاء والبراء، وتجديد مفهوم الأخوة الإسلامية الشاملة، بعيدًا عن تضييق مفهومها بسببٍ من التعصب والتحزب والتمذهب، وتغيبب حقوقها تحت شتى الذرائع والمعاذير والفلسفات والتلبيسات، حيث أصبح من المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، التخلص من حالة الوَهْن والركود والتخاذل الثقافي، وتأسيس الرؤية الثقافية على معرفة الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، واستئناف دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري لقضايا الأمة ومشكلاتها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي، ومكتسبات العقل وإبداعاته.
كما هو مطلوب أيضًا، محاولة التدليل على خلود القيم الإسلامية وتجردها عن حدود الزمان والمكان، وذلك بقدرتها على إنتاج النماذج الإسلامية المتميزة في كل عصر، وقدرتها على إيجاد الحلول والأوعية الشرعية لحركة الأمة ومشكلاتها، في النظر إلى الواقع وتقويمه بقيم الوحي المعصوم، والاجتهاد في تنزيل القيم الإسلامية على الواقع، بحيث ينطلق النظر والاجتهاد، من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته ومعاناته.
إن تحقيق هذا الخلود لا يمكن أن يتحصل إلا بإشاعة روح التخصص في فروع المعرفة المختلفة، وإحياء مفهوم الفروض الكفائية، والتأكيد على أن العصر بثورته المعلوماتية وضخه الإعلامي والمعرفي، لم يعد يسمح بوجود الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على الاجتهاد والفتوى في كل شيء، وإنما لابد من التخصص وتقسيم العمل الذي يؤدي إلى تكامله وإتقانه، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، أو النسيج الاجتماعي للأمة بشكل متماسك كالبنيان المرصوص، الذي يشدّ بعضه بعضًا.
إن إشاعة روح الاختصاص، وإحياء مفهوم فروض الكفاية، يستلزم شحذ فاعلية المسلم في المواقع المختلفة، ليستأنف دوره في حمل الأمانة وإلحاق الرحمة بالناس، مستثمرًا طاقاته الروحية والمادية والتخصصية المعرفية، لنصرة الحق والدعوة إليه، وإثارة الاقتداء، والتدليل على أن المسلم ليس جسمًا غريبًا في أي مجتمع، وإنما هو عنصر خير وعطاء وتخصص، قادر على التكيف والاندماج لمصلحة الدعوة، مستعص على الذوبان والانحلال.
ومن القضايا الأساسية في هذا المجال، إحياء مفهوم الارتكاز الحضاري، والانتماء الثقافي لرسالة الإسلام والأمة الأم، وعلى الأخص بالنسبة للمسلمين المهاجرين، لسبب أو لآخر، إلى مجتمعات غير إسلامية، قد تكون مشبعة بأحقاد تاريخية وعداوات عنصرية ضد الإسلام والمسلمين، والمساهمة بطرح رؤية واقعية لكيفيات التعامل معها، وإيصال الخير لها.
ولعل القضية التي تستدعي التأمل والنظر باستمرار -نظرًا لتبدل الظروف وتطور الأحوال- قضية الاجتهاد، التي تعني فيما تعني خلود هذا الدين، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة المتجددة، ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وإنتاج النماذج التي تحمل الرسالة، وتحول دون الفراغ الذي يعني تمدد (الآخر).
الاجتهاد بمفهومه العام هو محاولة لتنزيل النص الشرعي، مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.. ومحله دائمًا المكلف وفعله، وهذا يتطلب أول ما يتطلب -بعد فقه النص- النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص، وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري.
وهذه الأحكام المستنبطة من النص لتقويم الواقع والحكم عليه، هي أحكام اجتهادية، قد تخطئ وقد تصيب، حسبها أنها اجتهادات بشرية يجري عليها الخطأ والصواب، لا قدسية لها، ومهما بلغت من الدقة والتحري لا ترقى إلى مستوى النص المقدس في الكتاب والسنة، ولا تتحول لتحل محل النص، فتصبح معيارًا للحكم.. هي حكم مستنبط يعاير ويقوّم بالنص، ويستدل عليه بالنص.
وقد نقول : إن دقة وتحري الحكم وصوابيته في عصر معين، له مشكلاته وقضاياه، أو في واقع معين أثناء تنزيله عليه، لا يعني بالضرورة صوابيته لكل واقع متغير، ذلك أن فقه المحل (الواقع) بكل مكوناته وتعقيداته واستطاعاته هو أحد أركان العملية الاجتهادية، إلى جانب فقه النص المراد تنزيله على هذا الواقع.
فتغير الواقع وتبدل الحال، يقتضي بالضرورة إعادة النظر بالاجتهاد أو بالحكم الاجتهادي، ولا ضير في ذلك، بل الضرر والضير في الجمود على الأحكام الاجتهادية، مهما تغيرت وتبدلت الظروف، وبذلك تتحول الأحكام الاجتهادية من كونها حلاً للمشكلات، ليصبح تطبيقها وتنزيلها على غير محلها هو المشكل الحقيقي.(1/227)
ومن هنا نقول : إن الكثير من الأحكام الاجتهادية التي وردت لمعالجة مشكلات عصر معين، ليست ملزمة لسائر العصور، إذا تبدلت تلك المشكلات، وأنها في معظمها قابلة للفحص والاختبار، والنظر في مدى ملائمتها للواقع الذي عليه الناس، حيث لابد من العود ة والتلقي من النص الأصلي الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والنظر في كيفية تنزيله على الواقع والحال.. وهذا الذي نقوله هو من سنن التطور الاجتماعي والفقه الشرعي، حيث غيّر الكثير من الفقهاء من أحكامهم نفسها، وليس من حكم غيرهم، عندما تغير الزمان أو تغير المكان، فكان لهم جديد، وكان لهم قديم، أو عندما اطلع على نصوص ووقائع جديدة لم يكن يعرفها مسبقًا، أو عندما أدرك حكمة الحكم وعلته الدقيقة، وعدم انطباقها على الحالات المتشابهة، أو أن الامتداد في تطبيقها بشكل آلي وصارم قد يؤدي إلى فوات مصلحة شرعية وحصول مفسدة محققة، بما أُطلق عليه مصطلح : (الاستحسان)، وكيف أن الأحكام في الكتاب والسنة تتعدد بتعدد الحالات والاستطاعات، ولا تجمد على حال واحدة، فكيف يكون ذلك، والواقع خاضع لسنة التغيير، سقوطًا ونهوضًا، ولكل حالة حكمها؟
وقد كنتُ أشرتُ -فيما كتبتُ سابقًا- إلى أن القرآن الكريم مصدر التشريع والمعرفة، لم يأت ترتيبه في ضوء أزمنة النزول -على أهمية معرفة أزمنة النزول وأسبابه، لإدراك أبعاد النص الزمانية والمكانية والتطبيقية- حتى لا يتجمد الاجتهاد على حال ووتيرة واحدة، وإنما جاء ترتيبه توقيفيًا، ليمنح مرونة اجتهادية، فيكون لكل حالة حكمها، ولو كان ذلك من أواخر أو أوائل ما نزل من القرآن، فالقرآن كله خالد، ولكل حالة حكمها الملائم، ولا يخرج البيان النبوي عن هذا الإطار القرآني، وإنما هو تنزيل له، وبيان ميداني بتحويل الفكر إلى فعل.
وقولنا : بأن الاجتهادات الكثيرة التاريخية، والتي يمكن تصنيفها في إطار الموروث أو التراث هي اجتهادات لزمانها ومشكلاته وأنها غير ملزمة، لا يعني إلغاءها أو القفز من فوقها، أو عدم معاودة الإفادة منها عند تشابه الحال، وإنما يعني استصحابها والاستئناس بها، والفقه بنظرها الدقيق وآليتها الاجتهادية، لتكون معوانًا لنا على النظر الذي يقتضيه تبدل العصر وتغير مشكلاته.
ومن هنا نرى : أن الكثير مما ورد من الفقه الاجتماعي والدولي والاقتصادي والمالي والإداري والدستوري، ليس ملزمًا إذا تبيّن أن الزمن قد تجاوزه -وهذا بطبيعة الحال لا يرد على الاجتهاد في أحكام العبادات بنفس القدر- وأننا مدعوون لإعادة النظر والاجتهاد الفقهي والفكري بشكل عام، في ضوء تبدل الواقع الذي نعيشه، أو تبدل المجتمعات من حولنا، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في أحكام الفقه في ضوء معطيات النص الخالد.
لذلك فالموضوع الذي نعرض له -فقه الأقليات- يقع في بؤرة العمل الاجتهادي، لأنه يشكل محلاً لتنزيل الأحكام، مختلفًا كثيرًا عما كان عليه الحال مسبقًا.
والقضية الأخرى التي نريد أن نتوقف عندها بما يتسع له المجال، ونحاول أن نلقي عليها بعض الأضواء التي نراها ضرورية لاستجلاء الحقيقة أو شيء من أبعادها هي : مصطلح الأقلية، أو مفهوم الأقلية والأكثرية.
ذلك أن هذه القضية هي في حقيقتها قضية نسبية، تختلف فيها معايير النظر والحكم والتقويم والنتائج.. وابتداءً نرى أن الأمر لا يمكن أن يحكمه عدد الرؤوس، الكم المهمل، أو ما يمكن أن يُسمَّى (الكَلّ المعطل) الذي لا يأتي بخير أينما توجهه، بمقدار ما يحكمه الكيف والنوعية والفاعلية، أو ما أطلق عليه القرآن الكريم (الإنسان العدل).. ولذا نرى على مستوى القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، والعطاء الحضاري الإسلامي التاريخي، أن معيار التفاضل والكرامة والإنجاز، لم يكن أبدًا منوطًا بالكم من حيث الكثرة والقلة، وإنما يتحقق بمقدار العطاء ونوعية العطاء، فالأكرم هو الأتقى، وليس الأكرم الأقل ولا الأكرم الأكثر.. والتقوى المقصودة في الآية كمعيار للتفاضل، هي جماع الأمر كله، ذلك أن التقوى بأبعادها المتعددة، تعني امتلاك الميزان الحق، والتحلي بالقيم الصحيحة، لاستيعاب الحياة بكل مجالاتها، وكيفيات التعامل معها.. فقد تكون المحصلة فردًا يعدل أمة كاملة، ويكون أمة فعلاً بما يمثل وما يحقق، قال تعالى : (إن إبراهيم كان أمة) (النحل : 120)، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (تجدون الناسَ كإبلٍ مائة، لا يجدُ الرَّجُلُ فيها راحلة) (رواه مسلم عن ابن عمر).(1/228)
ويحذر القرآن الكريم من الانخداع بالغثاء والكثرة القائمة على غير الحق والعدل، التي يمكن أن تشكل عبئًا يسوده مناخ القطيع، الذي يحرك الإنسان دون دراية وإرادة، فيقول : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام : 116)، والضلال يعني الضياع، وعدمية الحياة، وغياب المقاصد، والانسلاك في القطيع دون فحص واختبار ومعرفة للوجهة.. والرسول صلى الله عليه و سلم حذّر من الوَهْن الذي يصيب الأمة المسلمة، بسبب من الحالة الغثائية، المؤدية بها إلى مرحلة القصعة، التي تسود مراحل النكوص والتخلف، فيتحول الناس إلى مستهلكين بدل أن يكونوا منتجين، فيقول : (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها)، فقال قائل : ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال : (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ لكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهْن) فقال قائل : يا رسول الله! وما الوَهْن؟ قال : (حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) (رواه أبو داود عن ثوبان).
والشاعر العربي حاول معالجة الانخداع بالكثرة التي لا عطاء لها ولا فاعلية، كما حاول تصويب المعيار عندما قال :
تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا فقلت لها : إن الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
فالمعيار يبقى دائمًا هو الكرامة، المتولدة عن التقوى، والعطاء والفاعلية، وليس عدد الرؤوس، أو مساحة القطيع المتحرك بلا رؤوس، أو ذي الرأس الواحد.
ولعلي ألمح من قوله تعالى : (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة : 249 )، عدم الاقتصار في الغلبة على المعركة العسكرية، ذلك أن ميدان الغلبة والظهور والصراع والحوار الحضاري، الحياة بكل أصعدتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية، وإن كان سبب نزول النص معركة طالوت مع جالوت التي قصّها الله علينا، لتحقيق العبرة من تاريخ النبوة، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقرر علماؤنا في أصول الفقه والنظر والاجتهاد. حيث لا عبرة إذا لم نستطع تجريد النص من ظرف الزمان والمكان والمناسبة، وتوليده في المجالات المشابهة.
وكذلك نرى الحقيقة تستمر تاريخيًا، فالذي يدرس واقع المسلمين قبيل بدر، وواقع المشركين، من زواياه المتعددة، يدرك أن كل مؤهلات الغلبة العسكرية والحضارية كانت إلى جانب المسلمين، الفئة القليلة، بمؤهلاتهم وطبيعتهم النوعية وعقيدتهم المميزة، لذلك نستطيع أن نقول : إن الغلبة الحضارية والظهور الثقافي، أو إظهار الإسلام على الدين كله، لا يمكن أن تحدده القلة والكثرة، وإنما تحدده المؤهلات والخصائص والنوعية.
وقد يكون من المفيد أن نذكّر بهذه المناسبة، بالنص القرآني الحاسم لهذه القضية في سورة التوبة -وهي من أواخر ما نزل- الذي نزل بمناسبة التحضير لغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، التي سميت بغزوة العسرة، وسمي جيشها بجيش العسرة، وكان في أشد الظروف الطبيعية قسوة، عندما تخاذل الكم الهائل عن الذهاب، وبدأت صناعة فلسفات الهزيمة تستميل النفوس الضعيفة، وتحركت الفئة القليلة لممارسة الإنجاز الكبير، عندها قال الرسول صلى الله عليه و سلم في مجال التبرع والعطاء : (سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم)، قالوا : يا رسول الله! وكيف؟ قال : (رجل له درهمان فأخذ أحدَهما فتصدّق به، ورجل له مالٌ كثيرٌ فأخذ من عُرْضِ ماله مائة ألف فتصدّقَ به) (رواه النسائي، عن أبي هريرة)، فالأمر لا يُعَايَر بالقلة والكثرة.
نعود للنص القرآني المجرد عن حدود الزمان والمكان، لننظر له من زاوية أخرى.. هذا النص الذي يتلوه المسلم، ويتعبد به صباح مساء، والذي نزل لمعالجة حالة التخاذل وتصويب المعيار، وتقرير الحقيقة التاريخية التي ما تزال تعيش في عقول المسلمين ووجدانهم، قال تعالى : (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة : 40).
لقد تحقق النصر الكبير في طريق الهجرة، كما هو معلوم ومعروف للجميع، بواحد أولاً وبثاني اثنين، وكان ما نعلم جميعًا من إقامة الدولة المسلمة النواة، قبل أن تكون هذه الجموع المتخاذلة عن الذهاب إلى تبوك، فلم تكن القلة تعني الهزيمة، ولا الكثرة تعني النصر.. وهذه الوقائع التاريخية من تجارب النبوة، ما تزال ماثلة للعيون، فإذا أضفنا إلى ذلك اليوم أن الإبداعات التكنولوجية، التي جاءت ثمرة للعقول القليلة، قد ألغت قيمة الكثرة في المجالات الحياتية المتعددة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتنموية والاجتماعية، نتأكد أن القضايا الحضارية لا تحكمها موازين القلة والكثرة.
وحسبنا في هذا الموضوع دليلاً من واقع عدونا، بعد أن نسينا تاريخنا، ودخلنا مرحلة (القَصْعَة)، وحالة (الغُثَاء)، و(الوَهْن) الحضاري، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما ذكرنا آنفًا.(1/229)
فاليهود في العالم لا يتجاوزون الثلاثين مليونًا، حتى في الحسابات المبالغ فيها، ومع ذلك هم يحكمون أو يتحكمون بالعالم، بكل ملياراته وأعداده الضخمة، وليس في ذلك مبالغة، ولا الانطلاق من مركب نقص، لأنه حقيقة ماثلة أمام الجميع، سواء في ذلك من قَبِلَها أو رفضها، ومَن تجاهلها أو جهلها.
فالقضية وما فيها كما يقولون، تحكمها القدرة على استيعاب سنن التدافع الحضاري، والقدرة على التفكير الاستراتيجي، وإمكانية الاستنبات في كل الظروف، وحسن التقدير والتسخير للمواقع المتاحة.. هي في حقيقة الأمر، في التحقق بالتقوى بمعناها الأعم، وانبعاث الفاعلية، واكتشاف المواقع والمنابر المؤثرة، وتوفر عنصري الإخلاص والصواب معًا، ليجيء العمل حسنًا، كما فهم الفضيل بن عياض رحمه الله قوله تعالى : (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (هود : 7)، بأن العمل لا يبلغ مرتبة الحسن ما لم يتوفر له الإخلاص في النية، والصواب، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإرادة والقوة، الحماس والاختصاص، أو بمعنى آخر العمل للوصول إلى بناء الإنسان العدل، والتخلص من الإنسان الكَلّ.
وهنا نقول : كم من الحالات والشدائد، التي نصبح أحوج ما نكون فيها إلى النماذج المتكررة لنعيم بن مسعود رضي الله عنه، الذي قام بالدور العظيم في معركة الأحزاب، وهو كما قال عنه الرسول صلى الله عليه و سلم : (إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت).
من هنا أقول : إن الكلام عن قضية الأقلية والأكثرية، أو عن فقه الأقلية والأكثرية، يحتاج إلى الكثير من الدقة، فكم من أكثرية لا قيمة لها ولا نفوذ ولا قرار، وكم من أقلية تمتلك إدارة الأمور والتشريع لها.
فالقضية قضية واقع، أو حالة حضارية أو ثقافية، يمكن أن تلحق بالأكثرية أو بالأقلية، تحتاج إلى فقه ونظر واجتهاد، وليست قضية محصورة بفقه الأقلية بالشكل المطلق.
والأمر الذي نرى أنه من المفيد لفت النظر إليه في هذا المجال، أن الوجود الإسلامي العالمي هو من طبيعة هذا الدين، الذي ابتعث رسوله رحمة للعالمين، ومن مقتضيات رسالته، قال تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء : 107)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا) (سبأ : 28).. وخطابه بدأ عالميًا منذ اللحظات أو الخطوات الأولى في مكة، فمعظم الآيات بدأت خطابها بقوله تعالى : (يا أيها الناس)، لتستبين السبيل، وتتضح الرؤية، وتدرك أبعاد المهمة من أول الطريق.
وأكثر من ذلك، فقد اعتبرت جذور هذا الدين ممتدة حتى النبوة الأولى، قال تعالى : (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) (الأعلى : 18-19). وقال : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى : 13). كما اعتبر الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ أمة واحدة، حتى لو اختلفت المواقع الجغرافية والأزمنة التاريخية، قال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء : 92)، وإن صورة الكمال والاكتمال التاريخي لرحلة النبوة تحققت في الرسالة الخاتمة : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ) (المائدة : 4).
وكانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، القيام بمهمة البلاغ المبين، وإظهار الدين، واستيعاب رحلة النبوة وإكمالها، قال صلى الله عليه و سلم : (مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء من قبلي كَمَثَل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأَجْمَلَهُ إلا موضع لبنةٍ، من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون : هلاَّ وُضعت هذه اللبنة، قال : فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة).
ولقد تعهد الله سبحانه وتعالى بإظهار هذا الدين على الدين كله، فقال تعالى : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة : 33). والإظهار يعني فيما يعني الامتداد والبلوغ لسائر المواقع الجغرافية، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَر ولا وَبَر، إلا أدخله اللهُ هذا الدين، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر) (رواه الإمام أحمد عن تميم الداري)، حيث سيعم البلاغ الحواضر والبوادي، وهذا يعني تحقيق الوجود الإسلامي في كل المواقع الجغرافية.. ووجود المسلمين يعني إقامة أحكام الشرع الإسلامي، والانضباط بالقيم الإسلامية على الأصعدة المتعددة المتاحة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وإداريًا، وتربويًا، في ضوء الاستطاعات المتاحة.(1/230)
لذلك كان فهم الصحابة لأبعاد المهمة واستجابتهم، منسجمًا مع التكليف الشرعي، فحملوا الإسلام صوب العالم كله، لإخراجه من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، واستطاعوا العيش والتكيف مع كل الظروف، شأنهم في ذلك شأن الإسلام بمبادئه العالمية والإنسانية، واستوطنوا البلاد، وعاشوا إسلامهم بمقدار استطاعاتهم، استجابة لقوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعت) (التغابن : 16)، ولم يحسوا بعقدة الاغتراب، أو أن يميزوا في مجال الدعوة بين أرض وأرض، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، أو بين شعب وشعب، وجنس وجنس، فالأكرم الأتقى، أو بين أقلية وأكثرية، وإنما هي قدرات واستطاعات قد تتوفر في إطار الأقلية العددية، فيكون الواحد بمائة أو بألف : (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) (الأنفال : 65).
والغلبة هنا لا تقتصر على الغلبة العسكرية، وإنما تتجاوز إلى أبعاد أخرى، حتى تستوعب الغلبة والظهور الحضاري والثقافي، كما أسلفنا، وتغيب في مجال الأكثرية العددية، وقد يكون العكس هو الصحيح، ولكل حالة فقهها ومتطلباتها.
ولعل مما ساعد الإسلام على الظهور والانتشار، وجعل للإسلام وجودًا في كل المواقع، أنه اعتبر اعتناقه أو الإيمان به خيارًا إنسانيًا، وجاء هذا الخيار ليكون عنوانًا لكرامة وإرادة وحرية الإنسان، قال تعالى : (لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية : 22). وقال : (وما أنت عليهم بجبار ) (ق : 45)، وقال : (لا إكراه في الدين) (البقرة : 256) بدون سيطرة أو جبروت أو إكراه، وجعل الأمة المسلمة أو المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا لكل الأجناس والأعراق والألوان، وبذلك نفى عن هذا الدين العنصرية والتعصب والانغلاق على لون أو جنس أو جغرافيا، كما هو حال كل الحضارات التاريخية، فليس أحد بأحق به من أحد، فـ (سلمان منّا آل البيت)، و(أبو جهل فرعون هذه الأمة).. وأي إنسان يعتنق الإسلام، يتمتع بالأخوة الإسلامية وحقوقها، ويكون له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على كل مسلم.
لذلك يمكن القول : بأن هذا مكّن من الانتشار والوجود في كل المواقع، وكسر كل أسوار التعصب والانغلاق، وأدى إلى الاندماج والانفتاح والتعاون وإنتاج المسلم -حيثما وجد الإنسان- الذي لا يعاني من عقدة اللون أو الجنس أو العرق أو الاغتراب، وأنه يمكن له أن يكون مسلمًا يمارس التكاليف الشرعية، في حدود ما يمتلك من استطاعة، قال تعالى : (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ) (البقرة : 286)، وهذا يعني أن يطبق الإسلام في كل أحواله طالما استفرغ استطاعته.
ومن القضايا ذات الصلة المباشرة بموضوع الوجود الإسلامي في البلاد التي توصف بأنها غير إسلامية، قضية الهجرة، التي تعتبر من الجهاد ومن لوازم مهمة البلاغ المبين ومراغمة أعداء الله، وقد سبق أن أشرنا إلى عالمية الرسالة الإسلامية، ومهمة البلاغ المبين.
إن إظهار دين الحق، الإسلام، على الدين كله، يقتضي حمل الدعوة والتبشير بها إلى كل المواقع والأماكن، حتى يخرج المسلم من عهدة التكليف.. وسبق أن أشرنا إلى البشائر النبوية بأن هذا الدين سوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وينتشر في الحواضر والبوادي على حدٍّ سواء، وهذا يعني الوجود والانتشار الإسلامي بشكل أو بآخر في كل المواقع، سواءً كانت البلاد إسلامية بأغلبية سكانها، أو كانت غير إسلامية من حيث أغلبية السكان.
لذلك يمكن القول : بأن الهجرة دعوة وحركة، والهجرة جهاد، والهجرة محاولة لتجاوز الواقع الراكد المستنقع، وتحول إلى موقع أجدى، وتحرف لمدافعة أكثر عطاءً، ولا أعتقد أن للهجرة أحكامًا شرعية واحدة ثابتة لكل الحالات، بل لكل حالة أحكامها بحسب الظروف والملابسات والتغييرات السكانية والإدارية والدستورية، شريطة أن تبقى الهجرة مرتبطة بمقاصدها ومنطلقاتها الشرعية، ولا تتحول إلى مهارب سلبية تسودها فلسفات ومسوغات الانسحاب والهزيمة، شأنها في ذلك شأن الجهاد، حيث لا يجوز التولي عن الزحف والفرار من الموقع، إلا في حالة التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، يقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (الأنفال : 15-16).
والمقصد الشرعي الأساس في الهجرة، أن تكون فرارًا إلى الله، سواءً كان ذلك على مستوى النفس أو على مستوى المكان. فالرسول صلى الله عليه و سلم يعرّف المهاجر بقوله : (إنَّ المهاجر مَن هَجَرَ ما نهى الله عنه) (رواه أحمد عن ابن عمرو)، حتى ولو لم يغير موقعه، لأنه مارس هجرة نفسية وذلك بالانخلاع من الواقع الثقافي الجاهلي والوثني الذي تسوده العبودية لغير الله، مصداقًا لقوله تعالى : (والرجز فاهجر) (المدثر : 5).(1/231)
ولحكمة يريدها الله، ولبيان دور الهجرة في إظهار الدين، وعدم ركون المسلم إلى الدعة والاسترخاء والسقوط في الرفه، أو السقوط أمام الظالمين، ولأن الهجرة حالة مستمرة استمرار الحياة، جعلها الرسول صلى الله عليه و سلم المثال والأنموذج لإخلاص النية، فقال : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه) (رواه الجماعة عن عمر، واللفظ لأبي داود).
والمقصد المتبادر للهجرة والمشروع : هو الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام، أو الفرار بالدين من الفتن إلى محل يأمن فيه المسلم من الإثم، أو من بلد يفتن فيه المسلم عن دينه ويؤذى بسبب اعتقاده...إلخ. يقول تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت : 56)، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيرها : (هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين) (تفسير ابن كثير،
==============
الفصل الأول : مجتمعات غير المسلمين، وموقف الشريعة منها
المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله
تقسيم المجتمعات البشرية على أساس العقيدة، ليس بالأمر النظري الذي لا أثر له في مسيرة الحياة بالنسبة لنا، أو لا تترتب عليه أحكام، بل إن بحثنا هذا بأكمله ما هو إلا نتاج هذا التقسيم، لما ينشأ عنه من آثار بالغة الأهمية، تمس المرء المسلم في دنياه وأخراه، إذ أن الشرع الحنيف شرَّع الكثير من الأحكام التي تبين للمسلم كيفية التعامل مع غير المسلمين، وما يجب أن يكون عليه موقفه منهم في شؤون الحياة المتنوعة، وطبيعة الصلة بهم، وموقعه بالنسبة لحكوماتهم التي يقيم تحت ظل قوانينها. ومجتمعات غير المسلمين تتباين بحسب أصول عقائدها، فهي ليست سواء، وليست على درجة واحدة، وفي مستوى واحد في نظر الشرع.
المبحث الأول : أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها
البشر في نظر الشريعة الإسلامية، ينقسمون بحسب الديانة، إلى طائفتين كبيرتين :
أ - طائفة المسلمين.
ب - طائفة الكافرين.
والذي نبغي بيانه هنا هو طوائف الكافرين المشهورة منها، وذائعة الصيت، وهؤلاء أصناف وملل شتى، يجمعهم وصف واحد وهو الكفر، وإن كان لكل صنف منهم اسم خاص يميزه عن الآخر.
(والكافر هو من لم يؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى، أو بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، أو بشريعته، أو بثلاثتها) (1).
وبعبارة موجزة : هو من لم يعتنق دين الله الحق (الإسلام).
وهم أصناف :
أولاً : أهل الكتاب :
اختلف الفقهاء في تحديد الكتابي، وفيمن ينطبق عليه هذا الوصف، إلى فريقين :
الفريق الأول : الحنفية :
فقد ذهبوا في تعريفه إلى أنه : (هو كل من اعتقد دينًا سماويًا، وله كتاب منزل، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وشيث، وزبور داود) (2)، ونص على ذلك الشافعي (3).
فأهل الكتاب عند هؤلاء ليسوا هم اليهود والنصارى كما هو مشهور فحسب، بل هم من لهم كتاب ذو أصل سماوي.
ويظهر أن الحنفية ومن وافقهم، نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية (أهل الكتاب)، أي أصحاب أي كتاب سماوي، وبه قال أبو يعلى، من الحنابلة (4).
الفريق الآخر، وهم جمهور الأمة من العلماء والفقهاء :
فقد قالوا : (إن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى فقط)، ولا يدخل غيرهم في هذا المسمى، لقوله تعالى : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (الأنعام : 156).
ووجه الدلالة، أن أهل الكتاب لو كانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بهما (أي بالطائفتين).
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : إن المقصود بالطائفتين هم اليهود والنصارى، وذهب ابن عطية إلى إضافة القول : (بإجماع من أهل التأويل).
وقال أصحاب هذا القول : وأما أصحاب الصحف فلا يدخلون تحت مسمى (أهل الكتاب)، لأنها كانت مواعظ، وأمثالاً لا أحكام فيها ولا شرائع، فلا يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الأحكام.
ولا يشترط في الكتابي أن يلتزم بدينه عقيدة وسلوكًا، فقد ذهب جمهور الأمة (5) إلى أنه تكفي العقيدة، فبمجرد أن يعتقد شخص دينًا من أديان أهل الكتاب فإنه يصبح به كتابيًا، ولو لم يلتزم بالعمل بأحكامه، أو لم يكيّف منهجه وفق منهج دينه.
وأما ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اعتراضه على الصحابة لما اعتبروا عرب بني تغلب المتنصّرين من أهل الكتاب، أنه قال : (إنهم ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر)، فأجابه جميع الصحابة : (حسبنا أنهم صاروا نصارى).
وردّ ابن عباس رضي الله عنهما فقال : قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة : 51).(1/232)
فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية في نصرهم، وتوليتهم إياهم في الحرب لكانوا منهم (6)، واتفق الصحابة على ذلك ما عدا عليًا رضي الله عنه (7)، وصالحهم عمر رضي الله عنه على الجزية (8).
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره ذبائحهم ونساءهم، ولم يحرمهما (9).
ثانيًا : المجوس :
المجوس قوم يعظمون الأنوار، والنيران، والماء، والأرض، ويقرون بنبوة زرادُشت (10)، وقيل : كان له كتاب، ولهم شرائع يقرون بها، وهم فرق شتى (11).
واختلف الفقهاء : هل المجوس أهل كتاب أم لا؟ على قولين :
القول الأول : وهو قول جماهير الأمة، أنهم ليسوا بأهل كتاب (12).
القول الثاني : وهو قول الشافعي، أنهم أهل كتاب.
فقد قال في الأم (13) : (والمجوس كانوا أهل الكتاب، يجمعهم اسم أنهم أهل كتاب مع اليهود والنصارى). وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان للمجوس كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه، ولكنه رفع (14).
وقال الصنعاني : (ولا يخفى أن في قول النبي صلى الله عليه و سلم :(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) (15)، ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب) (16).
قلت : ومما يؤيد رأي الجمهور، عدم حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، باتفاق أهل العلم إلا (أبا ثور) (17). ومن جهة أخرى، فإن قول علي رضي الله عنه والشافعي رحمه الله خلاف ما تدل عليه آية : (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) (الأنعام : 156)، إذا نحن أخذنا بظاهرها، لتصبح لدينا ثلاث طوائف بدل اثنتين.
أماكن وجودهم : توجد في إيران في الوقت الحاضر طائفة من المجوس، يبلغ عددها المليون تقريبًا، ولهم معابد ونيران (18) لا يدعونها تخمد لحظة واحدة (19).
ثالثًا : الدهريون :
الدهريون ينكرون الخالق، ويقولون : لا إله ولا صانع للعالَم، وأن هذه الأشياء وجدت بلا خالق.. فهم قد عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاه الله عنهم : (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (الجاثية : 24).
وقال تعالى عنهم أيضًا : (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) (الأنعام : 29).
والدهر هو مر الزمان الطويل، وطول العمر، واختلاف الليل والنهار.
وقالت فرقة منهم : إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، وإن العالَمَ دائمٌ لم يزل ولا يزال (20).
وهؤلاء قديمًا، يتفق معهم حديثًا -في أصل نظرتهم للكون والحياة- الشيوعيون.
والشيوعية : مذهب فكري يقوم على الإلحاد -أي إنكار وجود الله سبحانه، والغيبيات كلها- وأن المادة هي أساس كل شيء.
وتُفسِّر الشيوعيةُ التاريخَ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي.. وشعارهم : نؤمن بثلاثة : ماركس (21)، ولينين (22)، وستالين (23)، ونكفر بثلاثة : الله، والدين، والملكية الخاصة!
وينكرون الآخرة، ويؤمنون بأزلية المادة، ويحاربون الأديان (24)، والملكية الخاصة (25)، ومن شعاراتهم العسكرية : بالحديد والنار تنتصر الثورة.
عُرفت الشيوعية بالقسوة والعنف والإبادة الوحشية للمخالفين لها، لكن التطورات الأخيرة فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي حملت انفراجًا للأديان.
رابعًا : المشركون :
سمي هؤلاء بالمشركين نسبة إلى الشرك.. والشرك : هو أن يتخذ المرء من دون الله ندًا (أي مثلاً ونظيرًا) يحبه كحبه، ويعظمه كتعظيمه، ويعبده كعبادته، وهذا هو حال مشركي العالم، إذ يسوون آلهتهم برب العالمين (26).
وقد سُئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) (27).
فهؤلاء المشركون يقرون بربوبية الله تعالى في الجملة، وأنه الخالق المالك، ولكنهم لا يفردونه -سبحانه- وحده بالعبادة والتوجه، بل يجعلون معه غيره -ليقربهم إلى الله- مما يستحسنونه من الأصنام والأوثان والشمس والملائكة والنيران والأنَاسِيّ، وغير ذلك.
ومن ملل أهل الشرك ذوات النفوذ والانتشار والأغلبية في ديارها، نذكر : الهندوسية، الكونفوشيوسية، البوذية، السيخية.
المبحث الثاني : موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم
مما هو في نطاق اليقين، بإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، لقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء : 107). وقوله : (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرًا لكم) (النساء : 170). وقوله : (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف : 158).
وفي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي) .. وذكر منها : (وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة) (28).(1/233)
فشريعة محمد صلى الله عليه و سلم ناسخة لجميع الشرائع السماوية والملل الأرضية، ومهيمنة عليها، لها صفة الدوام والخلود، فهي المرحلة النهائية لدين الله، وكلمته الأخيرة للبشرية، لذا فإن الناس جميعًا مخاطبون بها على سبيل الوجوب، وعليهم جميعًا الاستجابة لتعاليمها. فهي دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعًا، وهي منهاج حياة فاضلة تبتغي رقي الإنسان، عقلاً ووجدانًا وأخلاقًا.
جاءت هذه الشريعة لتستوعب الحياة كلها، واتسعت لتخاطب الجن أيضًا وتدعوهم إليها، فهي إذن ليست بإقليمية ولا عنصرية، بل عالمية عامة، وبناءً عليه فهي تعترف بمجتمعات المخالفين اعترافًا واقعيًا بطبيعتهم الإنسانية.
ومادامت هذه هي طبيعتهم، فأساس العلاقة بينها وبين أهل الملل الأخرى هي علاقة دعوة، وهداية بالحجة، وبيان بالمنطق والبرهان، وتعتبر المخالفين لها في ضلال وعلى أباطيل، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (الحج : 62).
وقد اختلف فقهاؤنا حول توصيل هذه الدعوة إلى المخالفين على فريقين :
الفريق الأول : وهم جمهور الأقدمين، يرى أن تعدّ القوة، وتجهز الجيوش، ثم تسير إلى ديار المخالفين، وقبل البدء بالقتال يخيّرون بين الإسلام والجزية (29) -إن كانوا من أهلها- والحرب (30).
كما يرى أن أصل العلاقة بين الإسلام والكفر هو الحرب، وأما السَّلْم (31) فهو أمر استثنائي ولظروف طارئة، وسبب هذه الحرب هو الكفر، كقوله تعالى : (واقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (البقرة : 193). وقوله : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (التوبة : 5). وقوله : (وقاتلوا المشركين كافة ) (التوبة : 36).
وفسّروا (الفتنة) الواردة في الآية الأولى بمعنى الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يبقى شرك، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : (أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...) (32) الحديث.
الفريق الآخر : وهم جمهور الباحثين من المعاصرين، وقلة من المتقدمين : يرى أن أصل العلاقة مع المخالفين هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ مستثنى.
وقالوا : إن على الدولة إعداد الدعاة وتأهيلهم، لبثهم في ديار المخالفين لنشر نعمة الله (الإسلام) بينهم، ودعمهم بكل ما يقتضيه العمل في حقل الدعوة، مع بقاء علاقات المسلمين بغيرهم على أساس الأمن والمسالمة، لا على أساس الحرب والقتال، إلا إذا أرادت دار الكفر بالدعاة سوءًا، لتفتنهم عن دينهم، وتصدهم عن الدعوة إليه، فعندئذ يجب قتالهم، لأن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثَمَّ فهي أشد من القتل، لأنه يجب أن تُتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تُدعى إليه.
ولا يجوز بدء الكافرين بقتال إلا في حالة اعتدائهم على الدين، أو على الدولة الإسلامية، أو في حالة نقضهم للعهود، أو لنصرة المستضعفين.
فالحرب ما هي إلا أداة لإزالة الطواغيت، التي تحول بين الناس وبين سماع الدعوة، والتي تريد الانفراد بالضمير البشري وتدّعي حق الألوهية وخصائصها، ولتقرير سلطان الله في الأرض وكلمة الله وعدله. فالحرب إذن هي سياج لفكرة الحق والعدل، وعدم البغي والعدوان، التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة (33).
يقول سيد قطب رحمه الله، عند قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لله) : (استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، أو يستجيب له، وأن يبقى عليه. إنه الجهاد للعقيدة لحمايتها من الحصار، وحمايتها من الفتنة) (34).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
من القرآن قوله تعالى : (وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (البقرة : 190). وقوله تعالى : (لا إكراه في الدين) (البقرة : 256). فأفادت أن وسائل القهر والإكراه، ليست من طرق الدعوة إلى الدين، لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد، وهذا الأساس تكوّنه الحجة لا السيف.
وقوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال : 61).
وقالوا : إن المأثور المتواتر من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وخلفائه الذين ساروا على هداه، أنهم لم يقاتلوا إلا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا، أو نكثًا بعد عهد.
ورد الفريق الأول بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف.
وقالوا : وقد عمت الآية جميع المشركين، وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة (35).
والحقيقة أن القول بالنسخ (36) فيه خلاف واسع بين الفقهاء والمفسرين، مع اتفاقهم على أن لا نسخ إلا بدليل (37). فالقضية إذًا خلافية، والفيصل في ذلك سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وهديه في الغزو والجهاد.
يقول محمد عزة دروزة رحمه الله (38) : (من الثابت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل إلا الأعداء المعتدين، والناكثين لعهودهم) (39).(1/234)
ويقول محمد أبو زهرة رحمه الله : (إن الإسلام ما سلَّ سيفًا على طالب حق، وما اعتدى على أحد، ولكن كان اعتداء غاشم، وكان ملوك أرهقوا رعاياهم، وضيّقوا عليهم، ومنعوهم من أن يصل إليهم نور الحق، وقتلوا مَن آمنوا بالحق الذي أدركوا، والدين الذي ارتضوا، فكان قانون التعاون أن يرد كيد الظلم، وأن يرفع عن تلك الشعوب المنكوبة بحكم الطغاة نير العبودية والاسترقاق، وقد كانت -أي الحرب- لذلك، وأن السكوت في هذه الحال ليس من التعاون، بل والحرب العادلة هي التعاون، لأنها منع للفتنة في الدين) (40).
قلت : هذا القول لا يخرج عن دائرة الصواب.
فالناظر في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم والمتمعن فيها، تتأكد في قرارة نفسه هذه المقولة (41). فمشركو قريش كانوا أشد الناس عداوة لمحمد صلى الله عليه و سلم، فلم يتركوا وسيلة ولا سبيلاً يُضعفه أو يضعف من شأن دعوته بل يقضي عليه إلا سلكوه، بدءا بتكذيبه في مكة واضطهاده مع أتباعه، وانتهاءً بغزوة الأحزاب، تلك الغزوة التي حشدت لها قريش كل ما تملك، وجاءت بقَضِّها وقَضِيضِها، يؤازرها في ذلك من يواليها من القبائل العربية المشركة، ويتفق معها في العقيدة، بتحريض من أعداء الله يهود بني قريظة لوأد ذلك الحق الذي قلب الموازين، وغيّر نظام المجتمع السائد، وبعد أن انجلى الأحزاب عن المدينة، قال النبي صلى الله عليه و سلم : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (42).. لماذا؟
لرد الاعتداء وظلم الظالمين، الذين ما برحوا يثيرون مخاوف المسلمين، ويفتنونهم عن دينهم بشتى صنوف التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويستولون على أموالهم!
وأما القبائل العربية الأخرى، فكانت منقسمة في ولائها بين فارس والروم، وقد بلغ تهديد تلك القبائل وتخويفهم للمسلمين مبلغه بتحريض من متبوعيهم.
اقرأ ما قاله عمر رضي الله عنه : (...وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر، وإذا غاب كنتُ آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكًا من ملوك غسان، ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه...) (43).
وأما الفرس والروم، فيكفي منهما أنهما كانا يؤلبان القبائل التابعة لهما للقضاء على أي قوة، أو عقيدة تجمع الناس من جديد، وتنافسهم في المنطقة الموالية لهما للانفراد بالتسلط والسيطرة، ولم يكتفوا بذلك، بل إن (هرقل) أخذ يضطهد من أسلم من عرب الشام، ويقتلهم، وكان (كسرى) (قد أرسل من يأتي برأس الرسول الأمين) (44)، حين أرسل إليه كتابه يدعوه فيه إلى الإسلام، ورَفْعِ الحجب عن عقول وضمائر رعيته، بالإضافة إلى تهديدهما الفعلي للدولة الإسلامية.
وتكفي هذه الجرائم لتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من بعده للخلاص من هاتين القوتين الباغيتين، اللتين وقفتا من الدعوة وأصحابها موقف الجبار العنيد، لما أصبح للمسلمين من قوة ضاربة قادرة على دك عروش القياصرة والأكاسرة.
فالحرب في الإسلام ليست هجومية لدك أبواب الكافرين، المسالمين منهم والمعاندين، والله سبحانه ما أراد إفناء الكفار ولا خلقهم ليُقتلوا كما قال ابن الصلاح.. وليست هي دفاعية تنتظر من يغزو ديار المسلمين، ثم تهب لتقاتلهم بعد أن يصبح زمام المعركة في يد المعتدين، وإنما هي دفاعية عن الإسلام ودعوته وأهله، تحريرية هجومية تهجم على مَن يقف في وجه الدعوة، بحسب ما يقتضيه الموقف، بلا بغي ولا عدوان.
يقول صاحب كتاب : (علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى) : (وهذه الصلة القائمة -بين المسلمين والمخالفين- على العقيدة لتتخذ شكل منهج متكامل العناصر، ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحة الدعوة وجودًا وعدمًا، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها، أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه الدعوة به مختلف الاحتمالات والظروف) (45).
وكنت أتمنى على مَن كتب من المعاصرين عن دوافع الجهاد، واعتبره هجوميًا، وشنّع على المخالفين لمذهبه تشنيعًا قاسيًا عنيفًا -أخرجه من دائرة الباحث المنصف الملتزم بأخلاقيات وآداب البحث العلمي- واعترض عليهم بأنهم لم يعولوا على تفاسير السلف الصالح للآيات المتعلقة بالقتال وأحكامه، التي احتجوا بها، تمنيت على هؤلاء المعترضين أن لو اطلعوا على تفسير الطبري، الذي هو قِبلة المفسرين من بعده وشيخهم، وهم عيال عليه في هذا الفن، وتفسيره تفسير بالمأثور، وهو أسبق من تفسير ابن كثير والشوكاني وغيرهم، من الذين اعتمد عليهم القائلون بأن الجهاد في الإسلام للهجوم، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى(46).
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله:
جرت عادة فقهائنا الأقدمين على تقسيم الدنيا إلى دارين رئيسين هما : دار الإسلام ودار الكفر. واشتقوا وصف كل دار من عقيدة أهلها، وطبيعة النظم السياسية الحاكمة، والقواعد القانونية المسيطرة فيها.
وتأسيسًا على هذا الاعتبار سُميت بلاد غير المسلمين بدار الكفر.
فماذا قال فقهاؤنا في تعريفها، وما هي أقسامها؟(1/235)
قالوا : (هي الدار التي تكون فيها الغلبة لغير المسلمين، أو التي تظهر أحكام الكفر، ولا يمكن إظهار أحكام الإسلام فيها) (47).
ودار الكفر تنقسم إلى دارين : دار حرب، ودار عهد.
أولاً : دار الحرب :
(هي الدار التي يكون بينها وبين ديار المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، ولا يربطنا معها عهد ولا صلح).
فهذه الدار ليست في حالة سلم مع المسلمين بسبب موقفها العدائي الصارخ، كاعتداء عسكري فعلي، أو صد عن دين الله، أو عدوان على الدعاة، أو إعانة من يحاربنا ويسلب أرضنا، وما شابه ذلك.
ومن هنا أوجب الله على المؤمنين اتخاذ الحيطة والحذر للذَود عن حِياض الإسلام وأهله في أي بقعة من بقاعه، التي تتحدد بوجوده فيها، فنظرة الشعوب غير المسلمة إلى هذا الدين وأتباعه، نظرة عدائية ماكرة حاقدة. ودار الحرب دار إباحة بإجماع الفقهاء (48).
ثانيًا : دار العهد :
الفرع الأول : تعريف المعاهدة :
المعاهدة هي موادعة المسلمين وأهل الحرب مدة معلومة على ترك القتال -بعوض وبغير عوض- وعلى شروط يلتزمونها(49).
وأجمع الفقهاء على أن أهل الهدنة هم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم -سواء أكان الصلح على مال أو بدونه- لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة (50).
وعلى هذا التعريف، فلا تعتبر دار العهد من دار الإسلام إذا لم يستول المسلمون عليها ويتمكنوا من إقامة شعائر دينهم فيها باتفاق (51)، سواء أكان الاستيلاء قد تمّ عنوة وقهرًا أم صلحًا، وسواء أكان الصلح على أن تبقى الأرضون لنا أم لهم، مقابل خراج (52) أو جزية (53)، وتبقى من دار الكفر لعدم التزام حكم الإسلام فيها، ولعدم ظهوره.
وإذا ما تحققت شروط الصلح وتوفرت أصوله العامة، فحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وعلى هذا إجماع العلماء(54).
ومن شرط الوفاء بالعهد، محافظة العدو -المعاهد لنا- عليه بحذافيره من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه (55). قال تعالى : (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) (التوبة : 7).. وهنا يجب التنبه إلى نقطة هامة وبالغة الخطورة، قد يغفل عنها بعض الباحثين هي : فمع وجوب مراعاة العهود والاستقامة عليها، فإنه يلزم الإمام الحيطة والحذر والترقب الدائم لحركات العدو المعاهد، ورصد سلوكياته، وعدم أمن جانبه وترك الثغور رهوًا. إن الحقد لا ينمحي بمجرد حبر على ورق، وهم لا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة، فيحرم علينا أن نترك الإعداد لمجرد العهد، فيطمع فينا كل وضيع وحقير، وخاصة أننا مستهدفون بالقتل والرد عن الدين، قال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة : 217).
الفرع الثاني : موجبات عقد الموادعة والأمان :
قال المفكر السياسي الإسلامي الماوردي : (وعقد الهدنة موجب لثلاثة أمور)(56) :
الأول : الموادعة في الظاهر : وهو الكف عن القتال، وترك التعرض للنفوس والأموال.. (وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، أو بموادعة، حرم تعرضه لشيء من دمٍ ومالٍ وفرجٍ منهم، إذ المسلمون على شروطهم) (57).
والمعروف أن الدول اليوم لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا على أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك، وهذا العرف مقارن لحصول الشيء بل سابق عليه.
(وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك، ما لم يتضمن شرطًا فاسدًا فيه معصية لله) (58)، وعليه يحرم كذلك قتل نفوسهم، أو إزهاق أرواحهم أو خطفهم والتنكيل بهم، عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذي هو (قاعدة العبادة لله وتقواه) (59).
الثاني(60) : (ترك الخيانة في الباطن، وهو ألا يُسِرُّوا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه، وهذا يستوي الفريقان في التزامه).
الثالث : المجاملة في الأقوال والأفعال، فعليهم أن يكفوا عن القبيح من القول أو الفعل، ويبذلوا للمسلمين (أحسن) القول والفعل، ولهم علينا الأول (القول) دون الثاني (الفعل) أ.هـ.
قلت : مجاملة المعاهدين لنا بالأفعال لا يوجد في الشرع ما يمنعه، بل قد يكون دافعًا لتقبل الإسلام لدى الكثيرين واعتناقه، وهذا هو غاية الجهاد الأولى في الإسلام(61).
================
الفصل الثاني : من أحكام الأقليات المسلمة
* المبحث الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
* المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها
* المبحث الثالث : من أحكام العبادات
* المبحث الرابع : المعاملات
* المبحث الخامس : النكاح
* المبحث السادس : العادات والحياة اليومية
نقرر هنا قاعدة عظيمة من أهم قواعد الشرع وهي :
أن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين يتبع المسلم أينما حل وأقام، وأن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، فما وجب في ديار المسلمين وجب في ديار غيرهم، وما حرم فهو كذلك، وكذا ما أبيح طالما أن المرء يعتنق مبادئ الدين.(1/236)
وقد وقع اختيارنا في هذا الفصل على ستة مباحث كانت على النحو التالي :
==============
الأول : حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
لما كان الأصل في دار الإسلام، أن المسلم فيها يَقْدِر أن يمارس عبوديته لخالقه، ويُعان عليها، وتُوفَّر له وسائلها، ويُذكّر إن قصر فيها، مع شعوره بالأمن والطمأنينة، شرعت الهجرة إليها، بل أُمر بها.
والهجرة في الأصل : (الترك، فعلاً كان أو قولاً) (62). وتأتي بمعنى : (الخروج من أرض إلى أرض) (63) حسًا.
وفي الاصطلاح : هي هجر المقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى : (والرجز فاهجر) (المدثر : 5) (64).
أو هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام (65).
وأقول بداية : الأصل أن المسلم لا يقيم إلا في دار المسلمين، وإذا أقام في غيرها فلعذر مع بقاء نية الخروج منها متى رفع السبب، وتهيأت الظروف (لأن نية الاستمرار في دار الكفر لا تحل بلا مبرر شرعي) (66).
حكم الهجرة :
حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى إمكانية المسلم ومقدرته على إقامة شعائر دينه بأمان تام، وبعدم خشية الفتنة في دينه ودين أهله وعياله، فإن كان لا يقدر على إظهار دينه ويخاف الفتنة والاضطهاد فيه أو في دين أسرته، ففي هذه الحالة تجب عليه الهجرة متى استطاع عليها، بالإجماع (67).. واستدل لذلك بما يلي :
أولاً : قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فألئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء : 97-99).
ففي هذه الآية أوجب الله على المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين، وليسوا متمكنين من إقامة الدين، أوجب عليهم الهجرة بشرط المقدرة والطاقة. وقالوا : إن الآية عامة في كل مسلم، فقوله تعالى : (ظالمي أنفسهم)، أي بترك الهجرة وبارتكاب الحرام بالإقامة بين الكافرين، من غير أن يتمكن من أداء واجباته الدينية، إن كان قادرًا بأي وجه وبأي حيلة، لأنه غير معذور.
وقوله تعالى : (إلا المستضعفين)، وهذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وهم مَن كان استضعافه على حقيقة من زَمَنَةِ الرجال، وضَعَفَة النساء والولدان، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين بأي سبب، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق.
يقول القرطبي : (يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة) (68).
قلت : ومفهوم الزاد والراحلة اليوم، توفر السيولة المالية لديه، والوسيلة التي تنقله.
يقول ابن عباس : (كنتُ أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله، هي من النساء وأنا من الولدان) (69).
فإن حمل العاجز على نفسه وتكلّف الخروج أُجر، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لهؤلاء المستضعفين في صلاته (70).
وقال العلماء : (إن هذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة في حق من أسلم في دار الكفر وفتن في دينه، وقدر على الخروج منها) (71).
ثانيًا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى(72) نارهما) (73).
وحديث معاوية وغيره مرفوعًا، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (74).
فحملَ العلماءُ الهجرة في هذين الحديثين على مَن خاف الفتنة واضطهد، وقالوا : (أُمر المسلمون بالانتقال إلى حضرة النبي صلى الله عليه و سلم، ليكونوا معه فيتعاونوا، ويتظاهروا إن حَزَبَهم أمر، وينضموا إلى المؤمنين في القيام بنُصرة الرسول، ويتعلموا منه أحكام الدين ويتفقّهوا فيها، ويحفظوا عنه، وينقلوه) (75).
وكانت فرضًا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم على الأعيان، واستمرت بعده لمن خاف (76) الاضطهاد في حريته الدينية.
ومما هو جدير بالذكر أن الهجرة ليست عملية انسحابية هروبية، ولكنها انتقالية من دار الباطل الجبار العنيد إلى دار الحق للالتزام به علانية، وتكثير سواد أهله، والاستعداد معهم للكر على تلك الدار التي حالت دون إسماع الناس دعوة الإسلام.
فالهجرة بالمفهوم القرآني هي تحيز إلى فئة، وهي جماعة المسلمين.
ومن شروط وجوب الهجرة، توفر حرية الانتقال، والدار التي يفر إليها المسلم بدينه.. وبإلقاء نظرة على واقع دار الإسلام المعاصرة، نجد أن هذه الدار غير مؤمنة وغير مهيئة تهيئة كاملة تمكّنها من استقبال عشرات الملايين من المسلمين المضطهدين في العالم. هذا إذا سمحت لهم السلطات بدخولها أصلاً، أو أذنت لهم سلطات بلادهم بالرحيل عنها (77).
ويمكن القول : إن المسلمين الذين يُفتنون في ديارهم من أجل عقيدتهم، وهم غير قادرين على الهجرة، هم معافون إن شاء الله من الإثم، وسوف يُسأل عنهم دينًا مَن تسبب في حدوث هذه الشقاوة والتعاسة لهم، مع قدرته على رفع هذا الحرج عنهم.(1/237)
ولكن يجب التذكير أن أي جماعة مسلمة في أي بلد من البلاد غير الإسلامية تقدر أن تحمي دينها ونفسها ومالها، فإنه يحرم الخروج منه، ويجب البقاء فيه.
يقول صاحب نهاية المحتاج : (من قدر على الامتناع والاعتزال في دار الكفر، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة، كان مقامه واجبًا، لأن محله دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، ثم إن قدر على قتالهم ودعائهم للإسلام لزمه وإلا فلا) (78).
وفي الجملة، إذا كان المسلمون في ديار المشركين ضعفاء لا يرجون ببقائهم ظهور الإسلام، ويُمنعون من إظهار شعائرهم الدينية والقيام بواجباتها، وجبت عليهم الهجرة متى توفرت شروطها وإلا فلا، مع بقاء نية الهجرة قائمة في القلب، والعمل على قدر وسع النفس لتحقيقها، قال تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت : 56).
وأما من وجبت عليه وهو قادر عليها ولم يهاجر، فإنه يرتكب إثمًا قد يؤدي إلى الردة والكفر، لأن الإقامة على هذه الحال، وترك الدين مع التزام إجابتهم إلى الكفر المقام عليه وارتكاب المحرمات، وترك الفرائض والواجبات، وفعل المحظورات والمنكرات وهو قادر على هجرانها، فظاهر حاله المصير إلى الكفر الحقيقي، والانسلاخ من الدين الحنفي، والانخراط في سلك الملحدين.. فالواجب وقتئذ الفرار من تلك الدار التي غلب عليها أهل الشرك والخسران، إلى دار الأمن والأمان (79).
وأما إذا كان المسلمون يتمكنون من إظهار دينهم بحرية، ولا يخشون فتنة فيه على أنفسهم، أو على أسرهم، فمذهب الجمهور إلى أن هذه الهجرة غير واجبة.
والجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر، وإن استطاع إظهار دينه، حتى لا يكثر سوادهم (80)، ويميل إليهم في الرسوم والخُلُق، والعادة، والهيئة، لتأثير الجوار والصحبة.
ويتأكد هذا الاستحباب في زماننا، لشيوع الفواحش في دار الكفر، وضعف السلطة الأبوية.. صحيح أن الزمان قد فسد، وأن البلاد كلها يُجاهَر فيها بالمعاصي، ولكن ينبغي على المسلم في مثل هذه الحالة، أن يختار أقل البلاد إثمًا إن استطاع.
قال البغوي : (يجب على من كان ببلد يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، الهجرة إلى حيث تُهيأ له العبادة، فإن استوت جميع البلاد في إظهار ذلك -كما في زماننا- فلا وجوب بلا خلاف) (81).
ويقول ابن تيمية : (أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلمًا وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا وتارة منافقًا، وتارة برًا تقيًا وتارة فاجرًا شقيًا، وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة) (82).
وما يتعرض له المسلمون اليوم في بلدان العالم غير الإسلامي من عدم احترام مشاعرهم الدينية، إلى محاولات الدمج في المجتمعات التي يقيمون فيها، سواء من قِبَل سلطات البلاد أو رغبة من أبناء المسلمين في عملية الاندماج، والتي يترتب عليها رفض للمبادئ التربوية والعادات الإسلامية، وقطع للصلة بينهم وبين عقيدتهم، وتراثهم الديني، (وفرنجة) فكرهم وسلوكهم، والتخلق بأخلاق القوم هناك (83)، إلى التأثر بمناهج تلك البلاد التربوية، والتعليمية في التكوين الفكري والنفسي والاجتماعي، والتي تناقض أخلاقياتنا، وتعاليم ديننا وحقائقه، بالإضافة إلى البيئة، وعلاقة أبناء المسلمين بغيرهم وأثرها عليهم في تكوين شخصياتهم، وطريقة تفكيرهم، مع فقدان جهاز الرقابة في الأسرة، وضعف المؤسسات التعليمية المسلمة في تقديم الخدمات الاجتماعية، وعدم وجودها بالقدر الكافي وبالفعالية المطلوبة، في مقابل ما تقدمه النوادي ووسائل الإعلام من الشرور والفساد والرذيلة (84)، ما يكفي لهدم ما لدى المسلم من قيم إسلامية ومُثُل عليا.. يضاف إلى ذلك ما تضطلع به المدارس والمؤسسات الكنسية النشطة وغيرها، والتي تعمل ليل نهار، لإخراج الناشئة المسلمة من الإسلام إلى النصرانية وغيرها من الأديان، أو الاكتفاء بدمجها وتذويبها في المجتمعات هناك.
كل ذلك يفرض علينا أن نقول : (إن من لم يستطع مقاومة تلك المحاولات والمؤثرات ومجانبتها، وطأطأ لها رأسه -من أبناء المسلمين- وعاشها بما فيها، فإن قول من قال بحرمة الإقامة في تلك البلاد -والحال هكذا- صائب، وإن توفرت له الحرية الدينية، التي تسمح بإظهار شعائر دينه إن أراد، فإن ما كان ذريعة وسببًا إلى إسقاط عبادة الله بمفهومها الرحب وإلى موالاة المشركين فهو حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام) (85).
إلا إن كان في إقامته مصلحة معتبرة للمسلمين، (وذلك لأن ما يترتب على بقائه من الخير، سيتضاعف على ما يمكن أن يجعل له من الشر والضرر، على أن يكون قادرًا على إظهار دعوته، وشعائر دينه وهكذا الحكم في إقامته من أجل مصلحة تهم المسلمين، كتعلم نوع من العلوم، أو صنعة من الصنائع أو نحوهما مما تحتاجه الأمة الإسلامية ولا يوجد في ديارهم، أو ليكون سفيرًا لدولة الإسلام عندهم) (86).
================
المبحث الثاني : موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها(1/238)
لا يخفى على كل مطلع ومهتم بأخبار المسلمين في البلدان غير المسلمة، ما يتعرضون له من فتن ومحن، وصد عن سبيل الله، بالقتل جهارًا وغيلة، وبالسلب الصارخ لأموالهم وممتلكاتهم، وبالاعتداء على مساجدهم وكتبهم الدينية، وعلى أنفسهم وأعراضهم، تحت شعارات مكذوبة لا يحتاج الأمر إلى دحضها وردها، ولكنه الحقد الدفين في أغوار النفوس، والصراع الدائم بين فكرتي الحق والباطل.
وبما أن الكفر ملة واحدة من حيث الموقف من الإسلام، والنظرة إليه، فهي لا تتورع عن تقريع المسلمين، وطردهم، وسفك دمائهم، وتخويفهم، فقد رمت الإسلام والمسلمين عن قوس واحدة، حكامًا وشعوبًا، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.
وتعاني بعض الأقليات المسلمة في العالم الكثير من صور الاضطهاد والقمع، الذي يصل إلى حد ذبحهم، وانتهاك أعراضهم، وحرق منازلهم ومتاجرهم، وهدم مساجدهم يومًا بعد يوم، ومحاصرة لغتهم وثقافتهم، لاستبدالهما بلغة وثقافة المخالفين لهم، وخفض نسبتهم في تولي الوظائف الحكومية، بل إغلاق المناصب العليا أمامهم تمامًا.. كل ذلك على مرأى من حكومات الدول التي يعيشون في ظلها.
وقد أدى ذلك إلى أن تتفشى بينهم الأمية والخرافات والجهل والفقر، مع عدم العناية بمناطقهم ثقافيًا، واجتماعيًا، وصحيًا، ويمكن أن نذكر مثالاً على ذلك : مسلمي الهند والفلبين.
فإذا كان الحال كهذا، ما الذي يجب على المسلمين في تلك الديار؟ هل يصبرون أم يقاتلون من يقاتلهم فقط؟ أم يقاتلون مخالفيهم كافة؟ أم ماذا يفعلون؟
لقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم على المسلم التعرض لدماء الكافرين وأموالهم إن كان بينه وبينهم عهد وأمان، لأنه يقتضي وجوب أمان المسلمين منهم وحمايتهم، وأمانهم من المسلمين.
ولكنهم أجازوا للمسلم التعرض لأموالهم وأنفسهم، في حال ما إذا غدر بهم ملكهم فأخذ مالهم وديارهم وحبسهم بغير وجه حق، أو فتنهم في دينهم ليرتدوا عنه فعذبهم وقتل منهم، أو فعل هذا غيره بعلمه، ولم يمنعه ورضي به هو وباقي رعيته.. ففي هذه الحالات ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين المواطنين، ويكون أهل الكفر هم أول من نقضه، وهذا الحل عام في مال جميعهم، ودم جميعهم.
أما إذا نقض العهد الأتباع ولم يعلم الرئيس بذلك، ففي انتقاض العهد بحق جميعهم وجهان. وكذا إن اغتال حاكمهم بعض أفراد المسلمين، أو فعل ذلك بعض رعيته بموافقته فينتقض العهد بذلك عند الجمهور خلافًا للحنفية (87).
قال الماوردي : إن نقض الأتباع فرضي إمامهم أو باقيهم، انتقض عهدهم. وإن نقضه إمامهم انتقض أيضًا، لأنه لم يبق في حق المتبوع فلا يبقى في حق التابع. فإن نقض الأتباع ولم يعلم الرئيس والأشراف بذلك ففي انتقاض العهد في حق الرعية وجهان :
وجه القول بعدم النقض أنه لا اعتبار بعقدهم، فلذلك لا اعتبار بنقضهم، مع اتفاق الكل على أن العهد ينتقض في حق الطائفة المعتدية إن لم ينتقض في حق الجميع.
وعليه فإن أمام المسلمين الذين يُعتدى عليهم ثلاثة مسالك مختلفة بحسب مقدرتهم وإمكاناتهم وتقديرهم للظروف المعاصرة لهم.
المسلك الأول : إما أن يصبروا على الأذى والاضطهاد لاستضعافهم، ويتحملوا المشاق مع التمسك بعقيدتهم، وهم معذورن في ذلك لأنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولو عرفوا ما استطاعوا لأنهم يفتقدون الزاد والراحلة.
وقد يفضلون الصبر على غيره لحاجة في نفوس أئمتهم، كرجاء تحقيق مصلحة كبرى ودرء مفسدة عظمى، فولاة الأمر هناك من علماء ودعاة أعلم بأحوالهم، وأكثر معرفة وإلمامًا بطبيعة المجتمع، ومصلحة الدعوة، ووضع السلطة القائمة، فقد يكون الصبر أجدى وأنجع علاجًا لحالات دون أخرى، وقد قيل قديمًا : (أهل مكة أدرى بشعابها).
ثم إن هناك أحكامًا شرعية تختلف باختلاف حال الإنسان صحة ومرضًا، قوة وضعفًا، فما يصلح في بلد قد لا يصلح في آخر، فقد يفضلون الالتزام بالآيات -في تلك المرحلة- الآمرة بالصبر والمغفرة والإعراض، بالرغم من أن جماهير الأمة يرون بأنها قد نسختها (88) آية السيف.
المسلك الثاني : وإما أن يكتفوا بصد العدوان، وقتل من يشهر عليهم سلاحًا يبتغي إماتتهم والسطو على أموالهم وأعراضهم، والوقوف في موقع المدافع عن دينه ونفسه وما يتعلق بها، ولا يتجاوزون في ذلك إلى من لم يشارك في الإيذاء فعلاً، بالرغم من ظهور ما يؤكد رضاه على ذلك، لظروف يفقهها ويقدرها مسلمو ذلك الإقليم.
وهم في مسلكهم هذا يلتزمون قوله تعالى : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة : 194)، كما هو موقف الكثير من الأقليات المسلمة في العالم، وهو موقف شرعي يلتقي مع روح التدرج في الأحكام، ونرى أنه لا حرج في العمل به.
المسلك الأخير : وإما أن يتميز المسلمون عن مخالفيهم، ويعلنوها حربًا عامة، لأن العهد قد انتقض في حق الجميع لتحقق ما يوجب ذلك، ويقاتلوا الحربيين كافة كما يقاتلونهم كافة.(1/239)
وهم في ذلك ملتزمون قوله تعالى : (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (التوبة : 36)، ويصبح قتال الحربيين واجبًا على المسلمين ثَمَّ، لتحقق الاستطاعة، وتبقى دار المعتدين بالنسبة لهؤلاء المسلمين دار حرب مباحة إلى حين إنشاء صلح جديد.
قال تعالى : (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا) (النساء : 91).
ويصبح ما تحت يد المسلمين من دار الإسلام، إن أظهروا فيه شعائر الدين وأقاموا أحكامه، بإجماع الفقهاء.
================
المبحث الثالث : من أحكام العبادات
يحتوي هذا المطلب على ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : هل الكافر طاهر الذات أم نجس الذات؟
الفرع الأول : هل الكافر نجس؟
الأصل في ذلك قوله تعالى : (إنما المشركون نجس) (التوبة : 28).
فما المراد بالشرك؟ وما المراد بالنجاسة هنا؟
اختلف الفقهاء في المشرك على فريقين :
الأول : وهم الجمهور، قالوا : المراد بالمشرك في الآية هو : كل عابد وثن أو صنم. قال الإمام مالك : ولكن يُقاس عليه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
الثاني : وهو مذهب الشافعي، أن الآية عامة في جميع الكفار، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد الله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونصره ابن حزم الظاهري(89).
وأما النجاسة، فقد ذهبت جماهير العلماء إلى أن المقصود بقوله تعالى : (نجس)، إنما هي النجاسة المعنوية، أي نجس في الاعتقاد، والدين، أو أنهم أشرار خبثاء، أو اي من باب التشبيه البليغ(90).
وذهب الإمام مالك(91)، والرازي(92)، والألوسي(93)، وأهل الظاهر(94)، إلى أن الكافر (كل كافر) نجس العين.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح، لما يلي :
أولاً : إباحة الله نكاح الكتابيات للمسلمين، ومعلوم أن ملامستهن وعرقهن لا يسلم منه أزواجهن، وكذا أثاث المنزل ولباس الزوج وغيره. ومع ذلك لم يوجب الشرع من غسلٍ إلا ما أوجبه من غسل من كانت تحته مسلمة.
ثانيًا : إباحة طعام أهل الكفر قاطبة إلا الذبائح، فإنها مقتصرة على أهل الكتاب، ومعلوم أن الطعام لا يسلم من مسهم ومعالجتهم إياه، فلو كانت أعيانهم نجسة حسية للزم منه أن ينجس كل ما يلمسونه، ولاستحال طعامهم إلى خبيث مستقذر فيحرم.
وقد قال تعالى : (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف : 157).
وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم أكل طعامهم، واستعمل أوانيهم، وقبل هداياهم(95)، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه استعملوا مزادة امرأة مشركة(96).
فالحديث يدل على طهارة المشرك، لأن المرأة قد باشرت المزادة، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه توضأ من بيت نصرانية، وقيل من جرة، بدل بيت(97). وكذلك فإن حذيفة استسقى فسقاه مجوسي(98).
ثالثًا : لو صحت نجاستهم لاستفاض بين الصحابة نقل ذلك. والعادة في مثل ذلك تقضي بالاستفاضة، فإذا علمنا هذا، قلت : لم يصح -مما وقفت عليه- عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن صحابته خبر واحد من القول بنجاسة المشركين، على المعنى الذي قال به الإمام مالك ومن وافقه.
نخلص من هذا كله إلى أن الكافر طاهر العين والبدن (إن لم تكن عليه نجاسة حسية)، نجس في الاعتقاد والدين، وقد ورد في ذلك إجماع(99).
ويترتب على ذلك :
أولاً : طهارة سؤره، وهو الماء الذي يبقيه الشارب في الإناء، وجمعها (أسآر).
ثانيًا : طهارة ثيابه وما ينسجه.
الفرع الثاني : هل على الكافر إذا أسلم من غسل؟
الأصل في ذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم لثمامة بن أثال عندما أسلم أن يغتسل(100).
وكذلك ما رواه قيس بن عاصم عن أبيه : أنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتسل بماء وسدر(101).
الفرع الثالث : هل يجب الختان على من أسلم؟
الختان : هو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة عند الرجال.
والحكمة في ذلك لئلا يجتمع فيها الوسخ، وليتمكّن من الاستنزاه من البول(102).
حكمه : ذهب الجمهور إلى أن الختان سنة وليس بواجب، لعدم ورود دليل في ذلك يدل على وجوبه، وهو المشهور وعليه العمل(103)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (الفطرة(104) خمس : وذكر منها الختان) (105).
وذهب الشافعي إلى القول بوجوبه على الرجال(106) والنساء(107) جميعًا.
وذهب الحنابلة(108) إلى القول بوجوبه في حق الرجال دون النساء، فإنه في حقهن مكرمة، وقالوا : وهو من شعار المسلمين فكان واجبًا.
واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لواثلة بن الأسقع لما أسلم : (ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن) (109).
وسئل أحمد عن الكافر إذا أسلم : ترى له أن يطهر بالختان؟ قال : لابد له من ذلك. قلت (القول للسائل) : إن كان كبيرًا؟ قال : أحب إليّ أن يتطهر، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام اختتن بعد ثمانين سنة(110).
وهو قول الأوزاعي وربيعة الرأي، واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية(111).
المسألة الثانية : هل الخمر طاهرة أم نجسة؟(1/240)
الأصل في ذلك قوله تعالى : (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة : 90).
وقد فَهِمَ جمهور أهل العلم من قوله تعالى : (رجس)، أن الخمر نجس حسًا ومعنى(112). وقالوا : رجس : أي نجس. وقال ابن عباس : أي سخط. وقال مجاهد : ما لا خير فيه. وقال ابن جبير : إثم. وقال الطبري : إثم ونتن. وقال ابن أسلم : عذاب وشر(113).
وقال الألوسي : (ليس معقولاً في معنى الآية إرادة الرجس بمعنى النجس، فالميسر مثلاً هو لعب القمار لا يعقل فيه نجاسة من طهارة) (114).
قلت : بل أجمع الفقهاء على طهارة الميسر والأنصاب والأزلام(115)، بالرغم من أن وصف (الرجس) عائد إلى الجميع، كما هو السياق لا إلى الخمر وحده.
قال الصنعاني : (والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة. وأن التحريم لا يلازم النجاسة. فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة، ولا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم. فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع من ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم. فإن لبس الحرير يحرم (على الرجال) وكذلك الذهب(116)، وهما طاهران، ضرورة شرعية وإجماعًا. فإذا عرفت هذا فتحريم الخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسة، بل لابد من دليل آخر عليه وإلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولا دليل من الشريعة صريحًا أصلاً يدل على نجاستها، فتبقى على الأصل وهو الطهارة) (117).
وبهذا الرأي قال ربيعة الرأي، والمزني من أصحاب الشافعي(118)، والشوكاني ومحمد صديق خان.
وأضاف الشيخ محمد رضا(119) : (وإنما كان يصح إلحاق الشرع بالنجاسات الحسية، لو ورد الأمر الصريح بغسل ما أصابه شيء من الخمر، ولم يرد حديث صحيح أو حسن في ذلك).
وكان الصحابة يشربونها، ولا يسلمون من إصابة أيديهم وثيابهم بشيء منها، ولو كانت نجسة لأمروا بالتنزه عنها قبل تحريمها.. ولا يقال :(إنها صارت نجسة بالتحريم، لأن النجاسة لا تختلف باختلاف الحكم، فهي إذًا طاهرة حسًا وشرعًا) (120).
وأما الإمام النووي فلم يسلّم لأدلة الجمهور في نجاستها، وقال : (وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي، أنه يحكم بنجاستها تغليظًا وزجرًا) (121).
قلت : وهذا أيضًا لا يسلم له، فالأزلام محرمة، ولم يقل أحد بنجاستها حتى ولو على سبيل التغليظ.
وأما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإراقتها فليس لنجاستها -والله أعلم- بل سدًّا للذرائع. فوجودها بصحبة شخص وقد ثمل واعتاد عليها سابقًا، قد يكون سبيلاً لشربها أو بيعها لعمق صلته وارتباطه بها، وكلاهما محرم بالإجماع.
أما الكحول : (وهو سائل عديم اللون، له رائحة خاصة، ينتج عن تخمر السكر والنشاء (وغير ذلك)، وهو روح الخمر، والجمع كحولات) (122).
حكمه : ما قيل في الخمر يقال فيه باعتباره خمرًا، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام. وقد أفتت لجنة الأزهر بطهارته، واعتبرت الأشياء التي تضاف إليه لا تنجس به(123). وفي فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا : (الكحول طاهرة مطهرة، ولا وجه لتحريمها ولا يحرم منها شيء) (124).
وعليه فيجوز التعطر بالعطور الإفرنجية التي تضاف إليها مادة الكحول (وهي نسبة قليلة) والادهان بها، باعتبارها طاهرة غير نجسة.
(وكذا بعض أنواع الصابون، والشامبو، وكريم الحلاقة، وغيرها، مما يدخل الكحول في صناعتها) (125).
وجاز شراؤها وبيعها باعتبار أن نسبة الكحول المسكرة في العطور وغيرها تتحلل بالمواد الأخرى، ولا تظهر وتنقلب إلى حقيقة أخرى(126).
المسألة الثالثة : طهارة الكلب(127) :
للفقهاء في طهارة عين الكلب ونجاسته ثلاثة أقوال :
أولاً : أنه نجس حتى شعره، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في إحدى الراويتين عنه.
ثانيًا : أنه طاهر حتى لعابه، وهو المشهور من قول مالك والمالكية.
ثالثًا : أنه طاهر عدا ريقه ولعابه، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنفية، والرواية الأخرى عن أحمد(128).
قلت : وأولى الأقوال بالصواب، قول من قال : إنه طاهر عدا لعابه، فإنه نجس دون سائر بدنه، وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل.
ولم يأت ما يدل على نجاسة شيء من الكلب، إلا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا(129) وزاد مسلم : (أولاهنّ بالتراب) (130).
فدل الحديث على نجاسة لعاب الكلب وفمه، إذ هو محل استعمال النجاسات بحسب الأغلب، ومكان اللهاث(131) يتنجس باللعاب دون سائر بدنه، وأنه يغسل الإناء سبعًا. وبوجوب غسل الإناء سبعًا قول الجماهير(132).
وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب العدد في إزالة شيء من النجاسات، وقال : إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه منها. واستدل الحنفية بما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء : (يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا). وقالوا : فدل الحديث على التخيير.
وأجيب بأن الحديث ضعيف(133).(1/241)
ورجح ابن رشد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأنه للندب والإرشاد مخافة أن يكون الكلب كَلِبًا(134)، يدخل على شارب سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عما يضر الناس في دينهم ودنياهم، لا لنجاسة، إذ هو محمول على الطهارة.
فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام، ووجب أن يُتوقى من شربه، أو أكله، أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة الضرر(135).
وقد ثبت طبيًا أن لعابه يحوي جراثيم ضارة، تحتاج إلى مطهر قوي لإزالتها(136). وهذا يقوّي نوعًا ما، ما ذهب إليه ابن رشد.
- المطلب الثاني : الصلاة
لا يخفى على كل مسلم أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، وأن الله تعالى قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنها تجب على المسلم العاقل البالغ العالم بها، وأن من أنكرها فقد خرج من الملة.
ولمنزلتها العظمى في الإسلام، فقد حذّر الشرع، وتوعّد المضيعين لها، فقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (مريم : 59).
وجعل النبي صلى الله عليه و سلم : (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (137).
وفي هذا المطلب عدة مسائل يحتاج المسلم في ديار غير المسلمين إلى معرفتها، وهي :
المسألة الأولى : مواقيت الصلاة :
وهذه المسألة تنقسم إلى عدة أقسام، وتشمل : تعريف الميقات، ومواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة، وكذا غير المعتدلة.
أولاً : في تعريفها لغة وشرعًا :
في اللغة : يقال وقت الله (بتشديد القاف وتخفيفها) الصلاة، أي : حدد لها وقتًا، والميقات : الوقت المضروب للفعل، والجمع مواقيت(138).
في الشرع : المراد به (الوقت الذي عيّنه الله لأداء هذه العبادة (الصلاة)، وهو القدر المحدود للفصل من الزمان(139).
ثانيًا : في مواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة :
وأعني بالبلاد المعتدلة : البلاد التي يحل فيها ليل ونهار، ويتمايزان عن بعضهما في كل أربع وعشرين ساعة.
والأصل في مواقيت تلك البلاد، ما رواه مسلم في صحيحه أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئًا (باللفظ والقول)، وفي رواية بريدة، فقال له : (صل معنا هذين (اليومين)). قال (راوي الحديث وهو أبو موسى الأشعري) : فأقام الفجر (أي النبي صلى الله عليه و سلم) حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره (أي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بلالاً) فأقام الظهر حين زالت(140) الشمس، والقائل يقول : قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت (أي غربت) الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول : قد احمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول (وفي رواية : أن وقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط) (141).
ثم أصبح فدعا السائل، فقال : (الوقت بين هذين)، يعني أن وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما.
ثالثًا : في ضبط الصلاة في البلاد غير المعتدلة، كالقطبين وما يدخل في حكمهما :
إن ما ورد في الأحاديث الصحيحة من تحديد مواقيت الصلاة وضبطها، إنما هو للبلاد المعتدلة التي كان يقيم فيها النبي صلى الله عليه و سلم، وما يأخذ حكمها، ولكن ما الطريقة لضبط مواقيت الصلاة في البلاد التي لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل قد تكون السنة في البلاد المعتدلة يومًا، كالجهات القطبية والإسكندنافية التي يطول نهارها صيفًا ويقصر شتاءً، أو البلاد الشمالية التي لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا صيفًا وعكسه شتاءً، أو البلاد التي يتداخل ويتحد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض أشهر السنة وهي البلاد التي يتجاوز موقعها خط العرض 84 شمالاً أو جنوبًا(142).
سأعرض هنا أقوال الفقهاء في بيان تحديد وضبط أوقات الصلاة فيها، كما هي من كتبهم ثم أناقش وأرجح.
1- أقوال الحنفية :
جاء في فتح القدير ما نصه :
(ومن لا يوجد عندهم وقت للعشاء، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم، فقد أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب وهو مختار صاحب الكنز (الزيلعي) (143)، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين). ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض (وهو هنا اليدان المقطوعتان من المرفقين)، وبين عدم سببه الجعلي (وهو هنا انتفاء علامة وقت العشاء) الذي جُعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرّفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرّف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر.(1/242)
معنى كلام ابن الهمام : (أنه إذا عدمت علامة دخول وقت العشاء، وهي غياب الشفق وعدم طلوع الفجر معه، باعتبارها علامة معرّفة له، ليس معناه أن الصلاة تسقط بعدمها، لوجود دليل آخر يدل على وجوبها، وإن لم توجد العلامة الدالة على الوقت). ثم قال : وقد وجد (أي الدليل الآخر الدال على وجوب صلاة العشاء، بالرغم من عدم وجود علامتها) وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله سبحانه خمسًا (أي الصلاة)، بعدما أمروا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعًا(144) عامًا لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قُطر وقُطر.
ثم ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر الدجال فقلنا (أي الصحابة) : وما لبثه في الأرض؟ فقال (أي النبي صلى الله عليه و سلم) : (أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم). فقيل : يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (145). فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مِثْلاً أو مِثْلين، وقس عليه.
فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها، فلا يقسط بعدمها الوجوب وكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : (خمس صلوات كتبهن الله على العباد(146)) (147).
2- أقوال المالكية :
جاء في مواهب الجليل ما نصه : ورد في صحيح مسلم أن مدة الدجال أربعون يومًا، وأن فيها يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة : يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : (لا، اقدروا له قدره) (148).
قال القاضي عياض : (في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع) وقال : (لو وُكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام)، ومعنى (اقدروا له قدره)، أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها.
وأما اليوم الثاني كشهر، والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول.
3-أقوال الشافعية :
جاء في روضة الطالبين : أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق، في أقراب البلاد إليهم(149). أي فإن كان شفقهم (شفق أقرب البلاد) يغيب عند ربع ليلهم مثلاً، اعتبر من ليل هؤلاء بالنسبة، لا أنهم يصيرون بقدر ما يمضي من ليلهم، لأنه ربما استغرق ذاك ليلهم(150).
4- أقوال الحنابلة :
جاء في غاية المنتهى : ويُقدّر للصلاة أيام (الدجال) قدر المعتاد من نحو ليل أو شتاء ويتجه، وكذا حج وزكاة وصوم(151)، وبمثله قال صاحب الإقناع(152).
ولم أجد من تعرّض لمسألة فاقد وقت العشاء من الحنابلة.
ويتضح لنا من خلال سرد تلك النقول، أن جماهير العلماء يقولون بوجوب صلاة العشاء على أهل البلاد التي ينعدم فيها وقتها، وهو غياب الشفق، معتمدين في ذلك على عموم النصوص الآمرة بإقامة الصلوات الخمس، من غير تفريق بين إقليم وآخر، على سبيل الوجوب، وعلى حديث (الدجال) الآمر بالتقدير للصلوات، والمبيّن وجوبها، وإن لم يوجد سببها على وجه العموم.
رابعًا : أقسام البلاد غير المعتدلة، وكيفية ضبط المواقيت فيها :
تنقسم هذه البلاد إلى قسمين :
القسم الأول : قسم لا تغيب عنه الشمس لفترة ستة أشهر تقريبًا، ثم تغيب مطلقًا بقية السنة.
وهذه ينسحب عليها حديث (الدجال)، فيقدر أهلها للصلوات الخمس، حيث يؤدونها كاملة في كل أربع وعشرين ساعة، معتمدين في ذلك على أقرب البلاد إليهم، والتي تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، وعليهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارًا بالأبعاد الزمنية التي بين كل صلاتين.
ويقاس على ذلك سائر الأحكام المتعلقة بالأيام والأهلّة، من عدة وصوم وزكاة.
يقول الشيخ محمد رضا : (أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين، وما يقرب، أن يصلي في يومه وهو سنة، أو عدة أشهر خمس صلوات فقط؟ كلا، إن الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه).
فأطلق الأمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه و سلم بيّن أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة، التي هي القسم الأعظم في الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل تلك البلاد التي أشرنا إليها، يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم، والقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه و سلم من أمر الله المطلق، فيقدروا لها قدرها.. ولكن على أي البلاد يكون التقدير؟ قيل : على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل : على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهما جائز، فإنه اجتهادي لا نص فيه (153).
وقد أفتت هيئة كبار العلماء في السعودية، في دورتها الثانية عشرة، بالتقدير على أقرب البلاد التي تتمايز فيها أوقات الصلاة المفروضة(154).(1/243)
قلت : وفي كلٍّ خير، ولكن بشرط أن يتفق مسلمو تلك البلاد، ومراكزها على بلد معين، حتى لا تختلف صلواتهم في البلد الواحد، فتصلي جماعة بتوقيت مكة، وتصلي الأخرى بتوقيت أقرب البلاد، فيحصل الشقاق والاختلاف، وكل محرم منهي عنه.
القسم الثاني : قسم تتميز فيه الأوقات عدا العشاء، فإنه يتحد مع الفجر.
فالراجح من أقوال جماهير أهل العلم، وجوب صلاة العشاء على تلك البلاد وحُرمة تركها. ولكنهم اختلفوا في وقت أدائها، وفي النية لها، هل تؤدى أداء أم قضاء؟
قلت : الأظهر والأقرب إلى النص (حديث الدجال)، أن يقدر المسلمون في تلك البلاد لوقت العشاء بأقرب البلاد، فتكون صلاة العشاء فيها أداءً، وصلاة المغرب فيه قضاء، لانتهاء وقتها حسب التقدير، وهو قول المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، حيث حدد درجة 45ْ للقياس عليها، وهي درجة إحدى المناطق في فرنسا، يغيب الشفق فيها قبل طلوع الفجر(155). وفي هذا التقدير رفع حرج، وفيه يسر، ويصلح لبريطانيا وما جاورها.
المسألة الثانية : حكم الصلاة في معابد أهل الكفر :
ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة الصلاة في الكنائس وغيرها من معابد أهل الشرك، وعللوا الكراهة بوجود الصور فيها، ولأنها ملعونة، ولأنه لا يتعبد الله في بيوت أعدائه، ولأنها مأوى الشياطين كالحمّام.
وقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور)، ولا فرق بين أن تكون المعابد عامرة أو دارسة (أي تقادم عهدها).
وذهب الإمام مالك إلى القول بالمنع مطلقًا، وهو رواية عن أحمد.
وذهب بعض أصحاب أحمد إلى الجواز مطلقًا(156).
قال ابن تيمية : (والصحيح أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها، لأن الملائكة (ملائكة الرحمة لا الحفظة، لا تدخل بيتًا فيه صورة(157)، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة) (158).
وإذا جازت الصلاة في كنيسة مع خلوها عن الصور، جازت في أي معبد آخر لا يوجد فيه صور.
ويظهر من كلام الجمهور أن من صلى فيها مع وجود التماثيل فصلاته صحيحة مع الكراهة(159)، وإن كان الأَولى أن ينأى المسلم في صلاته عن مثل هذه الأماكن إذا توفرت له أماكن أخرى ولم يحتج إليها.. أما إذا اضطر إلى الصلاة فيها كخوف برد، أو عدم توفر محل آخر، جازت بلا كراهة، ولا إعادة عليه(160)، فكل أرض مصلى للمسلمين (إلا ما تيقنا نجاسته) (161)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) (162).
ولقدأجاز المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، استئجار الكنائس للصلاة، ولكن أوصى بتجنّب استقبال التماثيل، فإن لم يمكن فإنها تستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة(163).
وهنا أهيب بالمسلمين أن يوفروا ما يحتاجون إليه من مساجد ليستغنوا عن معابد أهل الشرك، وأن يبذلوا في سبيل ذلك ما يقدرون عليه. وأنبه إلى أن معابد أهل الكفر يحرم إطلاق (بيت الله) عليها بالإجماع.
وأما الصلاة في المقابر فقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أن المقابر ليست بموضوع للصلاة، وأما الصلاة على الثلج فقد صح عن ابن عمر أنه صلى عليه(164).
المسألة الثالثة : الجمع للحاجة :
لا أقصد به جمع السفر، أو المطر، أو المرض، وإنما الجمع الذي يرفع الحرج والمشقة في غير الأعذار السابقة.
فمثلاً هناك بعض البلاد يتأخر فيها غياب الشفق إلى ما بعد منتصف الليل في بعض أيام السنة، وهناك بلاد يطول فيها بعض أشهر السنة، ويقصر الليل إلى أربع ساعات، وهناك الموظف والطالب الذي لا يتمكن من أداء الصلوات في أوقاتها لتتابع العمل وضيق الوقت المخصص للراحة، وهناك الشيخ العجوز والصبي.
فجميع هؤلاء يجدون حرجًا وعسرًا ومشقة في أداء بعض الصلوات في أوقاتها المحددة شرعًا، وخاصة أنهم في بلاد غير إسلامية، لا تراعي شعور المسلم في ذلك ولا تقيم لعبادته وزنًا ولا اعتبارًا(165).
فهل يجب على من يغيب الشفق عنده بعد منتصف الليل، أن ينتظر وقت العشاء ليؤديها في وقتها، وهو ملتزم في صبيحة ذلك اليوم بعمل؟ مع احتياجه للنوم والراحة؟
وهل يجب على مَن ليله أربع ساعات أن يؤدي ثلاث صلوات فيها مع هجران النوم انتظارًا للصلاة، وهو أيضًا مرتبط بعمل، وكل الأعمال تتطلب ذهنًا صافيًا، وبدنًا معافىً، وهذا بدوره متوقف على مدى ما يحصل عليه الإنسان من راحة وسبات، أم أن هناك رخصة يمكن أن يلجأ إليها المسلم عند الحرج والمشقة، باعتبار (أن المشقة تجلب التيسير)، وأن الحرج مرفوع في ديننا لقوله تعالى : (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج : 78)، وأن الأمر إذا ضاق اتسع؟
انعقد الإجماع على أنه لا يجوز في الحضر أن تصلى الصلاتان معًا في وقت واحد لغير عذر(166). ثم اختلفوا في هذه الأعذار.
فاتفقوا على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء بمزدلفة، سنة للحجاج، وعلى ذلك اقتصر الحنفية(167).
وجوّز المالكية الجمع للمقيم بسبب المطر، والطين، والمرض، رخصة توسعة بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء(168).(1/244)
وجوّزه الشافعية بسبب المطر الذي يبلّ الثياب، وذهب جماعة منهم إلى جوازه بسبب المرض، والطين، والخوف(169).
وزاد الحنابلة في رواية : الثلج، والبرد، والريح الشديد البارد، والمرضع، والمستحاضة، وما في معناها، والمعذور والعاجز عن الطهارة لكل صلاة، وعن معرفة الوقت، ولمن خاف على نفسه، أو ماله، أو عرضه، ولمن خاف ضررًا يلحقه في معيشته بترك الجمع، وقالوا : يفعل الأرفق به، من تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إليها(170).
وليس هناك -فيما وقفت عليه- أدلة صحيحة صريحة تدل على جواز الجمع لكل عذر مما ذكره الحنابلة.
قال الإمام الشافعي : (والجمع في المطر رخصة لعذر، وإن كان عذر غيره لم يجمع فيه، لأن العذر في غيره خاص وذلك كالمرض والخوف، وما أشبهه، وقد كانت أمراض وخوف فلم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع. والعذر بالمطر عام، ويجمع بالسفر للخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا رخصة في الجمع إلا حيث رخّص النبي) (171).
ولكن يمكن أن يستدل للحنابلة (الذين هم أوسع المذاهب الأربعة في الجمع)، بما رواه مسلم وغيره، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر.
قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال : أراد ألا يحرج أمته(172).
وهو مروي أيضًا عن ابن مسعود من طريق ضعيف كما قال الهيثمي، ولكن خالفه الشوكاني وصحح تلك الرواية(173).
فدلّ الحديث على جواز الجمع الحقيقي، بشرط تحقق الحرج والمشقة عند عدم الجمع، لقوله : (أراد أن لا يحرج أمته).
ومن هذا الحديث استنتج الجمهور جواز الجمع للمرض وما في معناه. وقالوا : (إن مشقة المرض فيه أشد من المطر) (174).
قلت : فإذا جاز الجمع بسبب المرض لما في الصلاة بوقتها معه من المشقة، جاز بأي عذر يترتب على ترك الجمع ضيق وحرج لا يحتمل، ويشترط ألا يتخذ ذلك عادة، وألا يتوسع فيه.
وممن قال بهذا : ربيعة، وابن المنذر، وأشهب، وابن سيرين، وعبد الملك من أصحاب مالك، والظاهرية(175). وبه قال الشيخ محمد أبو زهرة(176)، والشيخ يوسف القرضاوي، الذي يرى جواز (الجمع بين الصلاتين في حالات نادرة، وعلى قلةٍ، لرفع الحرج والمشقة) (177).
وبالنسبة لمن يتأخر عندهم غياب الشفق، أو يقصر ليلهم، فليأت من الصلوات في أوقاتها ما يقدر عليه(178)، فإن غلبه النعاس فنام وفاتته الصلاة فليصل ما فاته عند استيقاظه -فإنه ليس في النوم تفريط- على الترتيب.
وأما من وجد مشقة معتبرة في انتظار الصلاة، وخاف إن نام ألا يقوم للصلاة، وذلك يعرف بالعادة، فهناك رواية عند الحنابلة فقط بجواز الجمع بغلبة النعاس(179).
وهنا يجب التنبيه إلى أمر جد خطير وهو : أن إساءة استعمال هذه الرخصة التي ترفع المشقة والحرج، وذلك باتخاذها عادة لتحقيق غاية الراحة، وبالتوسع فيها من غير عذر معتبر، يبطل الصلاة.
فإن العلماء قد أجمعوا على أن الصلاة في غير وقتها بغير عذر شرعي باطلة، وكأنه لم يصلها، لأن الوقت لها شرط صحة.
المسألة الرابعة : صلاة الجمعة :
(أجمع العلماء على أن الجمعة واجبة، وفرض عين، وأن تركها إثم بلا خلاف) (180)، لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (الجمعة : 9).
وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (لينتهين أقوام عن وَدْعِهِم (تركهم) الجُمُعات أو ليَخْتِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين) (181).
وقتها :
ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت الجمعة هو بعد الزوال(182).
وإن وقعت قبله فلا تجوز، إلا عند أحمد وابن راهويه وعطاء لما رواه مسلم : (كنا نصلي مع رسول الله الجمعة ثم نرجع فنريح نواضحنا (أي إبلنا) حين تزول الشمس).
قلت : ومجموع الأحاديث يدل على أنها تصح حال الزوال وقبله(183).
وفي المغني والشرح(184) : المستحب إقامتها بعد الزوال للأدلة وفي ذلك خروج من الخلاف.
قلت : إن اضطرت جماعة في دار الكفر إلى تقديمها على الزوال بدافع المشقة والظروف الحرجة فيمكن أن يعملوا بقول أحمد ومن معه، وهو قول ابن عباس والشوكاني(185)، على ألا تتقدم عن الزوال بوقت طويل، لأن الحديث الذي استدل به أحمد يدل على أن الزوال يبدأ بعد الانتهاء من الخطبة والصلاة حسب ظاهره.
وإن لم تكن هناك مشقة، أقيمت بعد الزوال وهو عمل السلف.
وقد أجاز الإمام مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة(186).
وأما عن آخر وقتها، فالجمهور على أنه آخر وقت الظهر.
ثالثًا : هل تصح الخطبة بغير العربية؟
أجمع العلماء على أن الخطبة شرط(187). فهل تصح بغير العربية؟
أقول بداية : إن توفر إمام يحسن إقامة الجمعة، لهو من فروض الكفايات، بحيث لو قصرت جماعة أثموا جميعًا بالتقصير، لقوله تعالى : (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) (التوبة : 39).(1/245)
وأما عن صحة الخطبة بغير العربية، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تشترط بالعربية، لأنه ذكر مفروض، فشرط فيه العربية كالتشهد، وتكبيرة الإحرام، ولأنه فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان لا يخطب إلا بالعربية.
وذهب أبو حنيفة إلى جوازها بغير العربية، بعذر وبغير عذر، وأجازها صاحباه بعذر، وكذا الحنابلة. وعندهم رواية توافق رأي أبي حنيفة ولكنها مرجوحة في المذهب(188).
وإذا قيل : ما فائدة الخطبة بالعربية إذا كان المستمعون لا يفهمونها؟
قيل : (فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، قاله القاضي حسين من الشافعية)(189).
قلت : وما فائدة العلم بالوعظ الإجمالي مادام المستمع لا يعقل ولا يدري ما يقال له؟ وهل الخطبة بالعربية مقصودة لذاتها حتى يقال بأنها لا تصح بغيرها، وإن كان القوم لا يفهمون منها شيئًا؟ أم لما تحويه من تعليم وتوعية؟
وللخروج من الخلاف، وليطمئن كل مسلم إلى أن صلاته صحيحة، يمكن اتباع إحدى الطريقتين الآتيتين :
الأولى : أن يأتي الخطيب بأركان الخطبة -التي قال بها الموجبون للعربية- بالعربية، ثم يأتي بالوعظ بلغة السامعين للحاجة والعذر.
والأركان هي : الابتداء بحمد الله، قراءة آية أو أكثر من القرآن، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم، الوصية بتقوى الله، والدعاء للمسلمين.
الثانية : أن تلقى الخطبة بالعربية ثم تترجم، سواء في أثنائها، أم بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، سواء من قِبل الخطيب نفسه، أم من آخر يقوم مقامه.
ونستطيع أن نقول : إنه يجوز إقامة الخطبة بغير العربية إن كان هناك عذر وحاجة وإلا فلا، مع مراعاة قراءة الآيات كما أنزلت ثم تُتَرجم(190).
ويستحب في الخطبة أن تكون قصيرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه) (191)، أي دليل وعلامة عليه، ولما رواه جابر بن سمرة : (أن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كانت قصدًا وكذلك خطبته) (192).
ويجب لها الإنصات على قول الجمهور لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول : أنصت ليست له جمعة) (193). أي بالقياس على غيره الصامت، ولكن صلاة من تكلم صحيحة بالإجماع(194). ولا يشترط لها أن تكون في المسجد(195). فلو أقيمت في أماكن عامة أو ساحات صحت، وكذا في معابد أهل الكفر للضرورة(196).
ويستحب في خطيب الجمعة أن يكون متخصصًا بدراسة الفقه والفكر الإسلاميين، وأن يكون ملمًّا بثقافة القوم ومشكلاتهم المتنوعة، من أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وغير ذلك، ليكون أقدر على طرح الحلول ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية.
وأن يتطرق إلى المواضيع التي تهم حديثي العهد بالإسلام، من عقيدة، وعبادة، وتركيز على عالمية الإسلام، وخلوده وصلاحه.
وأن يعرفهم بموقف الإسلام من الحركات المنتشرة في بلاد الكفر ليكون المسلم على بينة منها. وأن يشعرهم بأن لهم إخوة من ورائهم يهتمون بمشاكلهم، ويفكرون بحاضرهم ومستقبلهم. وأن يبتعد عن الخلافيات قدر الإمكان، وأن يراعي أوقات المصلين.
خامسًا : فيمن يعذر بتركها :
يعذر بترك الجمعة : المرأة، والصبي، والمسافر، والمريض الذي يشق عليه حضورها، وأيام الوحل والمطر الذي يبل الثياب، والريح الشديدة، والحر والبرد الشديدين، والزَّمِن، والأعمى الذي ليس له قائد، ومن له مريض يخاف ضياعه، لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة، ومن بحضرة طعام وهو محتاج إليه، والعريان، والذي يخاف من ظالم على نفسه أو ماله، ومن هو بعيد عن مكان إقامتها، بحيث لو حضر لشق عليه الأمر(197).. ولا يدخل ضمن الأعذار طلاب العلم في تلك الديار، ولو اقتضت بعض المواد الدراسية حضوره، لأن الجمعة من العبادات التي لا تتكرر، ولا تقع إلا مرة في الأسبوع، فوجب تداركها، وعلى الطالب أن يهيء أحواله للمحافظة عليها في وقتها.
وأجمع أهل العلم على أن من فاتته الجمعة لزمه الظهر(198). وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن صلى أصحاب الأعذار قبل صلاة الإمام فلهم ذلك، ولهم أن يصلوا الظهر جماعة.
المسألة الخامسة : الجنازة وبعض أحكامها :
أولاً : حكم غسل الميت :
أجمع الفقهاء على وجوب غسل الميت على الأحياء(199)، من حيث الجملة.. فإن لم يوجد الغاسل المسلم، فهل يصح غسل الكافر للميت المسلم؟
ذهب الجمهور إلى جواز غسل المرأة الكتابية لزوجها المسلم، وغسل الرجل لزوجته الكتابية، ونص الشافعي على أن غسل الكافر للمسلم صحيح، ولا يجب على المسلمين إعادته، وبه قال العراقيون(200)، لأن الغسل لا يحتاج إلى نية الحي هنا.
قلت : لم يرد نهي عن ذلك، وغاية ما في الأمر أن الكافر قد يطلع على عيب المسلم أثناء غسله، فلا يؤمن من جانبه أن يشهر به، ويظهره على رؤوس الناس، فأما إذا وجد المسلم ابتداءً فلا يغسله غيره.
ثانيًا : حكم الصلاة عليه :
أجمع الفقهاء على أن الصلاة على الميت المسلم فرض كفاية(201).(1/246)
ولو حدث أن مُنع أولياء الميت من المسلمين من الصلاة عليه، وجب عليهم وجوبًا كفائيًا أن يصلوا على قبره، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم : صلى على ميت وهو في قبره(202)، ولم ينبشه.
وأما إن تركوا الصلاة عليه عمدًا فيأثموا جميعًا، للإجماع السابق.
ثالثًا : هل يصح الدفن في التابوت؟
أجمع الفقهاء على أن الدفن في التابوت مكروه(203)، ولا يستعمل إلا في حالة العذر فقط(204). واعتمدوا في ذلك على أنه لم يصح أن أحدًا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم أو أن النبي نفسه قد دفن في تابوت، بل كانوا يوضعون على التراب، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص فيه أيضًا أو منع منه.
وقد أجاز الفقهاء اتخاذ التابوت إذا كانت التربة رخوة وغير متماسكة، أو كان جسد الميت مهترئًا بالاحتراق، أو مقطعًا، أو أشلاء بحيث لا يضبطه إلا الصندوق.
وقالوا : والسنة أن يفترش في التابوت التراب(205).
وعليه فمن أجبرته سلطات بلاده(206)، على أن يضع متوفاه في صندوق خشبي أو حديدي، فلا شيء في ذلك -إن شاء الله تعالى- للعذر، وإلا فلا يفعله.
رابعًا : هل يصح دفن مسلم في مقابر الكفار؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم بمقابر الكفار، ولا كافر في مقابر المسلمين، وإذا دفن أحدهما في مقبرة الآخر نبش وجوبًا ما لم يتغير(207)، لأن الكفار يُعذبون في قبورهم، والمسلم يتأذى بمجاورتهم.
فإذا لم تكن في بعض البلاد التي يسكنها مسلمون مقابر خاصة بهم، فإنه يُنقل وجوبًا(208) إلى بلاد المسلمين، إن أمكن ذلك ماديًا وسمحت سلطات بلاد المسلمين، ولم يخف تغير جثة الميت، وإلا جاز دفنه في مقابر الكفار على أن يخصص للمسلمين جانب منها لهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. فإن لم يمكن جاز دفنه للضرورة، وبه أفتى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي(209). واقترح أحد أعضاء المجمع(210) أن تراعى عند دفنه في مقابر الكفار درجات الكفر، فمقابر النصارى عند الضرورة أولى من مقابر اليهود، ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملحدين، وهكذا.
خامسًا : هل يصح أن يحمل كافر في جنازة مسلم؟
لم يرد نهي في ذلك، والأولى ألا يسمح بذلك لأنها قربة من القرب العظيمة، إلا إذا احتيج لذلك قياسًا على قول الشافعي في جواز غسل الكفار للميت المسلم.
سادسًا : الصلاة على الغائب :
لو أن مسلمًا بدار الكفر توفي له مسلم قريب، أم صاحب، أم غير ذلك (في بلد آخر) فهل يصح أن يصلي عليه صلاة الغائب ويصلي معه المسلمون؟
ذهب الجمهور إلى جواز ذ لك، مستدلين بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي ومعه المسلمون(211). وقالوا : لا دليل على أن ذلك خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها لا تشرع.
وقال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه(212).
وقال العيني : (إذا مات المسلم في بلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه، فإنه لا يُصلي عليه من كان ببلد آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لم يصلَّ عليه لعائق أو مانع عذر، كان السنة أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة لا جهة بلد الميت) (213).
قلت : والراجح هو قول الجمهور، لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الدال على مشروعيتها، وما أضيف من قيود على جوازها لا يصح، إذ لو كان الأمر كما قالوا لما أخّره النبي عليه الصلاة والسلام ولبيّنه للناس.
سابعًا : في بعض أحكام الميت الكافر ومدى علاقة المسلم بها :
وصورة هذه الجزئية : لو توفي كافر وهو جار لمسلم أو قريب له.. فهل يجب عليه أن يغسله ويكفنه، أم هل يجوز ذلك ويصح منه؟ وما حكم تشييع جنازته؟ وتعزية أهله؟
أجمع الفقهاء على أنه تحرم الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، لكفره(214)، ولأنه لا تقبل فيه شفاعة ولا يستجاب فيه دعاء، وقد نهينا عن الاستغفار له، لقوله تعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (التوبة : 84).
والذي نطمئن إليه، أن الكافر البعيد إذا لم يكن له مَن يقوم بأمره من الكفار، للمسلمين غسله وتكفينه، ودفنه، ومواراته.. أما الكافر القريب، فللمسلم غسله وتكفينه ودفنه، وجد من يقوم بذلك أو لم يوجد، من باب صلة الرحم، ومراعاةً لمشاعر القرابة، إذ لا نص يمنع من ذلك. وخاصة إذا كان مسالمًا غير حربي، بل لقد صح أن عليًّا غسل أباه ودفنه بإذن من النبي(215) عليه الصلاة والسلام.. أما الغريب فالأولى والأسلم للمسلم أن ينأى عن ذلك، إلا إذا كانت هناك مصلحة شرعية، أو لم يكن من يقوم من الكفار بذلك، احترامًا لإنسانيته.
فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كفّن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول (رأس الكفر والنفاق)، بناءً على طلب ولده عبد الله(216).
قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك تطييبًا لقلب ولده، وإكرامًا له (وهو صحابي).
أما اتباع جنازة غير المسلم، فإن كان قريبًا وليس له مَن يقوم فيه، اتفقوا على أن للمسلم تشييع جنازته واتباعها.(1/247)
وقال الحنابلة : يركب المسلم دابته ويسير أمامه(217).
قلت : إذا صح القول به في دار الإسلام -فيما إذا سلمنا به- فلا يصح أن يقولوا به في دار الكفر، حيث إن المسلمين هناك قليلون مستضعفون، وقد يصيبهم من جراء ذلك ضرر.
وقد قال ابن تيمية : (لو أن مسلمًا بدار حرب، أو بدار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة) (218). أما إذا لم يترتب على ذلك ضرر فيتعين.
وقال ابن عباس : وما عليه لو اتبعها(219).
فإذا كان في اتباع جنائزهم مصلحة دينية، أو درء مفسدة، فلا شك في جوازه، سواءً أكان الميت قريبًا أم بعيدًا، ويسلك المسلم عندئذ في تشييعها من حيث المشي أمامها أم خلفها ما يراه مناسبًا.
أما إذا لم يكن قريبًا، ولم تكن هناك مصلحة دينية مرجوة، أو دفع ضرر عن نفسه أو ماله، أو عياله، فذهب الحنفية والشافعية إلى صحة اتباع المسلم لجنازة الكافر(220)، وذهب المالكية والحنابلة إلى خلاف ذلك.
ويمكن أن يُعزي أهله على ما أجازه الجمهور(221). واستحبوا أن يقال في تعزية المسلم بالكافر : (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك).
وفي تعزية الكافر بالمسلم : (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك).
وفي تعزية الكافر بالكافر : (أخلف الله عليك) (222).
ثامنًا : القيام لجنازة غير المسلم :
أما القيام لجنازة الكافر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قام لجنازة يهودي مرت به حتى توارت، وقام معه أصحابه.
فقال الصحابة : يا رسول الله! إنها يهودية. فقال : (إن الموت فَزَع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا). وفي رواية أخرى : (أليست نفسًا) (223).
قال بعض السلف : يجب القيام للجنازة إذا مرت.
وقال القرطبي : (ومعنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : (إن الموت فزع)، أي يفزع منه، إشارة إلى استعظامه.. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت. فمن ثَمَّ يستوي فيه كون الميت مسلمًا أو غير مسلم؟)
وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها، ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال واللامبالاة.
وذهب جماعة من العلماء(224) إلى أن القيام مستحب غير واجب.
وعند المالكية جائز لا واجب.
وهناك مسألة : إذا مات كافر فشهد عدل بأنه أسلم قبل موته، ولم يشهد غيره، فهل يحكم بشهادته في توريث المسلم ومنع الكافر؟ وهل تقبل شهادته في الصلاة عليه؟
قال النووي في المجموع : لا خلاف أنه لا يحكم بشهادته في توريث قريبه المسلم وحرمان قريبه الكافر.
(وأما في الصلاة عليه فوجهان) (225).
رجح القاضي حسين من الشافعية عدم قبولها في الصلاة عليه(226).
قلت : صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه ليبلّغ عنه القبائل والأصحاب في العقائد وغيرها.
وعليه فلا يصح أن يترك لمن شهد له مسلم عدل بأنه أسلم، للمخالفين ليجروا عليه ما يسمى (بمراسيم الدفن) على حسب دينهم.
- المطلب الثالث : الصيام
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في إثبات رؤية الهلال، وهل يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية؟
نقل إلينا فقهاؤنا إجماع السلف على عدم الاعتبار بقول الحسّاب، والمؤقِّتين في الأهلّة، ووجوب اعتماد الرؤية البصرية لإثبات الأهلّة(227)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (228). وقوله : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) (229).
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا المجال فقال : (يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد، مراعاةً للحديث : (صوموا لرؤيته)، وللحقائق العلمية) (230).
وذهب ابن الشخير من التابعين، والقرافي وابن الشاط من المالكية، والسبكي من الشافعية، وجماعة من العلماء المعاصرين(231) إلى القول بالحسابات الفلكية في إثبات الأهلة. وقالوا : (إن الحساب يفيد القطع، وإن الحكم باعتبار الرؤية معلل بأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، وقد انتفى ذلك، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا).
والذي أميل إليه بالنسبة للاعتماد على الحسابات الفلكية، أنه لا يعمل بها إذا تفردت، عملاً بالنصوص والحقائق العلمية التي أفادت أن اختلاف المطالع أمر مقرر.
ويرى الشيخ القرضاوي : (أنه يؤخذ بها في النفي، بأن نظل على إثبات الهلال بالرؤية، ولكن إذا نفى الحُسّاب إمكان الرؤية كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال) (232).
وهنا تساؤل : هل يصح الاعتماد على الحسابات إذا كان الحُسّاب من الكافرين؟
تم الإجماع على عدم قبول شهادة المخالف في العبادات، والحاسب شاهد، فلو جاء كفار وشهدوا أمام المسلمين أنهم رأوا الهلال، فلا يُلتفت لشهادتهم، لأنهم ليسوا من أهل الرواية؟ ولأنهم لا يلتزمون الحكم(233). وعلى ذلك فلا يقبل قولهم في الحساب.
تنبيه لابد منه :(1/248)
عندما يحدّد ولاة أمر المسلمين في ديار المشركين الجهة التي تثبت الهلال لديها، ويعلنون الأخذ برؤيتها، لا يحل للمسلمين هناك أن يخالفوا، بحيث يصوم البعض على رؤية هذا البلد، وآخرون على رؤية بلد غيره، وآخرون على رؤية بلد ثالث، وهكذا.. والجميع يقيم في إقليم واحد مما يجعلك ترى في البلدة الواحدة الصائم المتبع للهند، والمفطر المتبع للسعودية أو ما شابه ذلك.
فإن في ذلك من الاختلاف المذموم بما لا يخفى، وهو أمر يمقته الله تعالى، فلا يستقيم شرعًا ولا عقلاً أن ينقسم المسلمون في منطقة واحدة على الجهة التي يعتمدون عليها في الصيام والإفطار، كما هي حالهم اليوم، فهذا ما يحرم ارتكابه وممارسته.
فإما أن يصوموا على رؤيتهم الخاصة، وإما أن يأخذوا برؤية أول بلد إسلامي، وإلا كان الاختلاف، وكان الشر.
المسألة الثانية : صيام أهل القطبين :
تقدم أثناء الكلام عن صلاة هؤلاء، أن الراجح في مواقيت الصلاة عندهم أنهم يعملون بالتقدير، إما على أقرب البلاد اعتدالاً إليهم، وإما على مكة أو المدينة، ولكن كيف يصومون والشمس لا تغيب عندهم إلا بعد ستة أشهر من طلوعها، ثم تغرب ستة أشهر وهكذا؟
الحكم في صيامهم كالحكم في صلاتهم، بمعنى أنهم يقدرون يومهم وليلهم بأقرب البلاد التي يشهد أهلها الشهر، ويعرفون وقت الإمساك والإفطار، والتي تتميز فيها الأوقات، ويتسع ليلها ونهارها لما فرض الله من صوم وقيام، على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق، أو بمكة بعد أن يأخذوا برؤية أول بلد قريب، أو بمن يثقون بها من البلدان الإسلامية، ويكون صومهم أداء. ولم يخالف أحد في وجوب الصيام عليهم أبدًا.
المسألة الثالثة : صيام من يطول نهارهم جدًا :
يحدث في بعض الفصول أن يطول نهار بعض دول أوروبا(234)، ويصل إلى عشرين ساعة أو يزيد. وقد يتفق أن يأتي رمضان في ذلك الوقت على أهل تلك البلاد، وغالبًا ما يشكو المسلمون هناك من جراء الصيام من الضيق والحرج.
فهل يرخص لهم بالفطر؟ أم يعملون بالتقدير على البلاد المعتدلة وقتئذ؟
لم تناقش هذه القضية قديمًا، وإنما ناقشها فقهاء معاصرون يمكننا من خلال اجتهاداتهم أن نقول : إن هناك فريقين إزاء هذه القضية :
الفريق الأول : تمثله دار الإفتاء المصرية :
فقد أجازت لمسلمي النرويج، وغيرهم ممن شاكلهم في وضعهم، أن يصوموا على قدر الساعات التي يصومها أهل مكة أو المدينة في حال طول نهارهم وقصر ليلهم، أو أن يقدروا بأقرب البلاد المعتدلة إليهم، وأن يبدأوا بالصوم من طلوع الفجر، ويفطرون مع ميعاد البلاد التي يقدرون بها، من حيث عدد الساعات، ولا يتوقفون على غروب الشمس.
وقال الشيخ شلتوت : (صيام ثلاث وعشرين ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة، تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين، والرحمة من أرحم الراحمين) (235).
الفريق الآخر : تمثله لجنة الإفتاء في السعودية، والشيخ حسنين مخلوف.
فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بخصوص ذلك ما يلي :
(إذا تميز النهار والليل في مكان ما وجب على المكلفين من سكانه في رمضان أن يصوموا ويمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب شمس ذلك اليوم طال النهار أم قصر) (236).
وقال الشيخ حسنين مخلوف ما يلي :
(أما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصوم، يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى ذلك الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصيام الهلاك، أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات، أو التجربة، أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك، أو المرض الشديد، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة، وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر) (237).
والذي يترجح عندي قول الفريق الآخر، لأنه يتفق مع النصوص الآمرة بالصيام على سبيل الإطلاق بمجرد شهود الشهر، وتميز الليل والنهار، فمن ذلك قوله تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (البقرة : 185).
فهذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو الصحيح في بدنه، أن يصوم لا محالة (238).
وقوله أيضًا : (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (البقرة : 187).
وهؤلاء يتميز عندهم الليل والنهار، ويتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي ضياء الصباح من سواد الليل.
ويلاحظ أن هذه الآيات جاءت على سبيل الإطلاق فشملت كل مسلم لا فرق بين إقليم وآخر، ولا بين من كان نهاره طويلاً أم قصيرًا.
ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) (239). وهؤلاء يتميز ليلهم ونهارهم بحيث يقبل ليلهم، ويدبر نهارهم، وتغرب شمسهم كل أربع وعشرين ساعة، والحكم منوط بذلك.
==============(1/249)
المبحث الرابع : المعاملات
المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات
إن الإسلام دين استوعب الحياة كلها بتشريعاته، فنظّم علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، أفرادًا وجماعات.
ولما كان الإنسان لا تسعه العزلة، ولا يمكنه أن يحقق أمور معاشه إلا من خلال تبادل المنافع مع الآخرين، فقد وضع الشرع ضوابط تحكم أمور التعامل، وبناها على أسس سليمة قائمة على الحق والعدل، دونما حرج أو عنت.
المطلب الأول : المعاملات والنصوص الواردة في التعامل مع غير المسلمين
المعاملات : هي الأحكام الشرعية المتعلقة بأمر الدنيا، لتصريفها وصيانتها، كالبيع والشراء والإجارة ونحوهما.
وهناك نصوص وقواعد تجيز التعامل مع غير المسلمين :
من القرآن : قوله تعالى : (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران : 75).
ومن السنة : ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعه(240).. وثبت أنه اشترى سلعة من يهودي إلى الميسرة(241).
وما رواه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال : (كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم جاء رجل مشرك بغنم يسوقها فاشترى منه النبي صلى الله عليه و سلم شاة(242)). وغير ذلك من النصوص.
ومن عمل الصحابة : أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : (كاتبت أمية بن خلف(243) كتابًا بأن يحفظني في صياغتي (أي أهلي ومالي) بمكة، وأحفظه في صياغته بالمدينة) (244).
ومن الإجماع : (أجمع المسلمون على جواز معاملة المسلمين الكفارَ إذا وقع ذلك على ما يحل) (245).
ومن أقوال العلماء : جاء في كشف الأسرار على أصول البزدوي : (ولهذا كان الكافر أهلاً لأحكام لا يراد بها وجه الله (أي لا تحتاج إلى نية كالعبادات)، مثل المعاملات... لأنه أهل لأدائها، إذ المطلوب من المعاملات مصالح الدنيا، وهم (أي الكفار) أليق بأمور الدنيا من المسلمين، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة) (246).
قال ابن بطال : (معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين).
وقال ابن حجر : (تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم) (247).
فدلت الآيات والأحاديث والآثار وأقوال العلماء بمجموعها، على جواز التعامل مع الكتابي والوثني.
المطلب الثاني : مسائل في المعاملات
المسألة الأولى : حكم التعامل بالربا في دار غير المسلمين :
ذهبت جماهير العلماء إلى أن الربا حرام، قليله وكثيره سواء، لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْن، أو مسلم وحربي، وسواء دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغيره، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وأبو يوسف وغيرهم، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة(248).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عموم الأخبار القاضية بتحريم الزيادة والتفاضل، والتي لم تقيد التحريم بمكان دون مكان، أو بزمان دون زمان، بل جاءت مطلقة وعامة، ومن هذه الأدلة العامة قوله تعالى : (وأحل الله البيع وحرم الربا) (البقرة : 275). وقوله : (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) (البقرة : 278).
ومن الأخبار قول النبي صلى الله عليه و سلم : (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منهن الربا(249).
فكل هذه النصوص تفيد تحريم الربا على سبيل العموم، من غير تفصيل ولا تخصيص.
2- ما كان محرمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالربا بين المسلمين وسائر المعاصي.
3- القياس على المستأمن الحربي الذي يدخل دارنا بأمان، فقد أجمعوا على حرمة التعامل معه بالربا، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب فلا يجوز التعامل معهم بالربا.
قال الشافعي : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة) (250). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر) (251).
وقال الشوكاني : (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية) (252).
المسألة الثانية : هل للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر فيما هو معصية عندنا؟
صورة هذا التساؤل : أن يؤجر المسلم نفسه لكافر، لبناء معبد للشرك، أو حمل محرم كخمر، أو ميتة، أو خنزير، أو بيعه، أو أن يعمل عنده في معاملات ربوية، أو في مصانع تنتج محرمات، أو ما شاكل ذلك.
فقد ذهب الجمهور إلى حُرمة أن يؤجر المسلم نفسه لكافر في عمل كهذا. فقد سئل الإمام مالك : المسلم يؤجر نفسه للكافر يحمل له خمرًا، فقال : (لا تصلح هذه الإجارة). وقال : (بل لا يعطى عليها إجارة).
والقول بأنه لا يعطى عليها الأجر، رواية عن أحمد(253).(1/250)
وفي المدونة عن ابن القاسم فيمن رعى خنازير لكافر، قال : تؤخذ الإجارة من الكافر، ويتصدق بها على المساكين أدبًا للكافر، ولا يعطاها المسلم بل ويضرب أدبًا له(254).
وسئل الإمام أحمد : أيبني مسلم للمجوس ناووسًا؟ فقال : لا يبني لهم. وقاله الآمدي، وكرهه الشافعي(255)، ومثله الكنيسة، وما يماثلها عند أهل الكفر(256).
وأما العمل في معاملات ربوية فمحرم، لحديث جابر : (لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال : (وهم فيه سواء) (257).
قال النووي : (هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المرابين والشهادة عليهما) (258). وفي الحديث أيضًا تحريم الإعانة على الباطل أيًّا كان نوعه(259).
والنص هنا عام مطلق، بلا فرق بين من عمل بذلك في دار الإسلام أم في دار الكفر.
نخرج من هذا إلى أنه يحرم على المسلم أن يبني للمشركين دارًا للكفر، أو أن يعمل لديهم ببيع خمر، أو بيع خنزير أو أي محرم آخر، لأنها أفعال محرمة.
فإذا اضطر لذلك جاز، ولكن فليعمل بقاعدة : (الضرورة تقدر بقدرها) فلا يتجاوز قدر الحاجة، ولا يتوسع في ذلك، وليكتف بالكفاف، وليعمل جاهدًا للخروج من هذا الواقع.
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بحرمة العمل في المطاعم من غير ضرورة (أي المطاعم التي تقدم الخمر والخنزير)، وبحرمة تصميم معابد شركية، أو الإسهام فيها.
وأما إذا اضطر للعمل في تلك المطاعم فيجوز، بشرط ألا يباشر نفسه سقي الخمر أو حملها، أو صناعتها، أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير، ونحوها من المحرمات(260).
وعلى ذلك يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر بشروط منها :
1- أن يكون عمله مباحًا.
2- أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين.
3- ألا يشتمل على مذلة وإهانة.
المسألة الثالثة : حكم استقراضهم، واستيداعهم، والاستعارة منهم :
أولاً : استقراضهم :
الاستقراض هو طلب القرض، والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره(261) أنه لما توفي والد جابر بن عبد الله، ترك على جابر ثلاثين وسقًا(262) لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشفع له إليه...الحديث.
فدل عدم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الاستقراض من المخالفين، على جواز استقراضهم، وأنه لا حرج في ذلك.
ولكن لابد من الإشارة إلى أنه إذا جر الاستقراض إلى الركون إليهم، وموالاتهم والتذلل لهم، فإن : (ما أدى إلى الحرام فهو حرام)، وكذلك إذا تضمن عقد الاستقراض شرطًا محرمًا(263).
ثانيًا : استئمانهم واستيداعهم :
الأصل في ذلك قوله تعالى : (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنه من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليهم قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران : 75).
قال الشوكاني : معنى الآية أن أهل الكتاب منهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، ومنهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة.. ومن كان أمينًا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنًا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى(264).
قال بدر الدين العيني عند كلامه على استئجار النبي صلى الله عليه و سلم رجلاً من بني الدَّيل هاديًا يوم الهجرة : (فيه ائتمان أهل الشرك على السر والمال، إذا عُهد منهم الوفاء والمروءة، كما استأمن رسول الله هذا المشرك) (265).
وفي الآداب الشرعية : (إذا احتاج المسلم إلى ائتمان كافر، فله ذلك) (266).
ثالثًا : الاستعارة منهم :
الاستعارة طلب الإعارة.. والعارية : ما تعطيه غيرك لينتفع به، على أن يعيده نفسه إليك. والأصل في ذلك ما رواه أبو داود وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعار من صفوان درعًا يوم حنين، فقال صفوان : أغصبًا يا محمد؟ فقال : (لا، بل عارية مضمونة) (267).
فدلت الواقعة على جواز الاستعارة من الكفار، لأنها من جملة العقود، والإسلام ليس شرطًا في العاقدين، ثم الأصل في المعاملات الإذن والإباحة، إلا ما دل الدليل على التحريم، ولا دليل هنا. (ولأنه ليس فيها ولاية، ولا تسلط على المسلم، بل هما كالبيع والشراء ونحوهما) (268).
==============
المبحث الخامس : النكاح
المطلب الأول : حكم نكاح الكتابية في دار الكفر
لقد أحل الله نكاح المحصنات من أهل الكتاب مطلقًا، سواء كن في دار الإسلام أم في دار الكفر.
قال ابن المنذر : (ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك) (269).
وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (ينكح المسلم النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة) (270).
وقول عمر هذا أصح سندًا من نهيه عن تزويجهن(271).
والآية التي تحل للمسلمين نكاح المحصنات من أهل الكتاب هي : (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (المائدة : 5).
والإحصان في كلام العرب وتصريف الشرع، مأخوذ من المنعة، ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء : الإسلام، والعفة، والنكاح، والحرية.(1/251)
ويمتنع الإحصان أن يكون بمعنى الإسلام في هذا الموضع، لأن الآية قد نصت على نساء أهل الكتاب (من قبلكم).
ويمتنع أيضًا أن يكون النكاح، لأن ذات الزوج لا تحل، فلم تبق إلا الحرية، والعفة. فاللفظة تحتملهما.
وقد اختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال إلى فريقين :
الفريق الأول : وهم المذاهب الثلاثة الأوائل فقد قالوا :
إن المراد بالآية الحرائر دون الإماء، وأجازوا نكاح كل كتابية حرة، عفيفة كانت أو فاجرة.
قال الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : عَنى بقوله تعالى : (والمحصنات من الذين أتوا الكتاب) حرائر أهل الكتاب... فنكاحهن حل للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية) (272).
وقال الحنفية : (وحل تزويج الكتابية العفيفة عن الزنا، بيانًا للندب لا أن العفة فيهن شرط) (273).
الفريق الثاني : ذهب إلى أن المراد بـ (المحصنات) العفيفات، وحرموا نكاح البغايا من الكتابيات.
وهو قول عمر، وابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، والثوري، والسدي، والحسن، والنخعي، وهو قول الحنابلة، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي(274)، وجماعة من المعاصرين(275).
ويترجح لديّ القول الأخير، وهو أن المراد بالمحصنات : العفيفات، لعدة أدلة :
أولاً : لأن الله تعالى أباح لمن لم يجد الطَوْل (اليسار والغنى)، أن ينكح الأَمَة المؤمنة المحصنة، بقوله : (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات (الحرائر) المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتيكم المؤمنات)، ثم قيّد سبحانه تلك الفتيات المؤمنات بقوله : (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) (النساء : 25).
ومعنى الإحصان هنا العفة، إذ غير ذلك من معاني الإحصان بعيد. والمسافحات هنا : الزانيات اللواتي هن سوق للزنا.
ثانيًا : أن الله تعالى شنّع على ناكحي الزانيات بقوله : (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (النور : 3).
حتى إن ثلة من العلماء ذهبوا إلى القول بحرمة نكاح الزانية ولو مسلمة، قبل إعلان توبتها. فكيف إذا كانت تلك المومس الفاجرة من أهل الكتاب؟
ثالثًا : صح أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر أن خلّ سبيلها، فكتب إليه حذيفة : إن كان حرامًا خليتُ سبيلها. فكتب إليه عمر : إني لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات (الفاجرات) منهن(276).
رابعًا : أن الله سبحانه وتعالى ذكر الطيبات في المطاعم، والطيبات في المناكح في الآية (المائدة : 5). والزانية خبيثة بنص القرآن.
ويمكن القول : إنه على الرغم من أن إجماع الأمة قد تمّ على حل الكتابية من حيث الجملة، إلا أن الإجماع أيضًا قد وقع على أن نكاح المسلمة أفضل بكثير من نكاح الكتابية، بل هي أولى لتمام الألفة من كل وجه، إذ أنها تشاركه عقيدته، وفكره، ومنهجه، فتعينه على طاعة ربه، تذكّره إذا نسي، وتشحذ همته إذا قصر، وتخوّفه بالله إذا همّ بمعصية، وتكون له نعم الشريك في إعداد الجيل، فإذا بنى أكملت وحسّنت، وإذا غاب عن بيته اطمأن له ولأسرته، وقامت هي بالمهمة كاملة.
وفي أفضلية نكاح المسلمة يقول الله تعالى : (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) (البقرة : 221). ويقول : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة : 71). ويقول النبي صلى الله عليه و سلم : (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (277).
المطلب الثاني : حكم النكاح المؤقت نية دون إظهاره
وصورة هذا النوع : أن رجلاً تغرّب عن دياره ولم ينو إقامة طويلة في تلك الديرة، وفي الوقت ذاته خاف على نفسه من المغريات الجنسية، فنكح امرأة بنية الأجل، ولم يصرح لها بذلك، فما حكم هذا النكاح؟
جاء في شرح الموطأ للزرقاني : (وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، أنه جائز ليس بنكاح متعة). وقال الأوزاعي : (هو نكاح متعة ولا خير فيه.. قاله عياض) (278).
وقول الجماهير فيما إذا لم تفهم المرأة المراد نكاحها مقصود الرجل، فإن فهمت مراده فعند المالكية قول بالبطلان(279).
قلت : لا يضر علمها بالنية، سواء كان قبل النكاح أم بعده، بشرط ألا يصرح لها، لأن الرجل قد ينكح ونيته أن يفارقها، ثم يبدو له فلا يفارقها.
وعند الشافعية : (وإن قدم رجل بلدًا، وأحب أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يومًا أو اثنين أو ثلاثة، كانت على هذا نيته دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معًا دون نية الولي، غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقًا لا شرط فيه، فالنكاح ثابت ولا تُفسد النية من النكاح شيئًا، لأن النية حديثُ نفسٍ، وقد وُضع عن الناس ما حدّثوا به أنفسهم) (280).
وفي المذهب عند الشافعية : كراهة ذلك، لأنه لو صرح لبطل النكاح(281).
وفي المغني : (وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم وأنه لا بأس به، ولا تضر نيته)(282).
وقد ذهب إلى القول بالكراهة المالكية والشافعية.
قال مالك : (ليس هذا من الجميل ولا من أخلاق الناس) (283).(1/252)
قلتُ : ويؤكد هذه الكراهة ما يترتب على العقد من غش للمرأة التي جهلت نية الرجل، وخداعها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : (من غش فليس مني) (284)، وكان سفيان بن عُيينة يكره تفسير الحديث، ويقول : (نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر) (285).
فهل يرضى هذا العمل أحدٌ لبناته أو أخواته أو... فإذا كنا لا نقبله لأنفسنا فكيف نقبله لغيرنا، وقد جاء لفظ النبي صلى الله عليه و سلم : (من غش) على سبيل العموم، فشمل كل غش، وقد أجمع العلماء على تحريم الغش(286).
ثم إن عملاً كهذا يضر بسمعة الإسلام في مجتمعات مخالفيه، فيُشاع عن المسلمين أنهم قوم لا أخلاق لهم، وفي هذا من الضرر بالدعوة ما لا يخفى على كل ذي لب.
وإذا خشي المرء على نفسه الضياع، فلينو الدوام وهذا الأصل، فإن طرأ بعد ذلك طارئ شرعي فليلجأ إلى التسريح بإحسان.
============
المبحث السادس : العادات والحياة اليومية
- حكم صلة المشركين
- حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
- حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم
- حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وتعزيتهم
- حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم
- حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم
- عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها الكفار
- حكم اقتناء الكلب
الإنسان مدني بطبعه، ينزع بفطرته إلى العيش ضمن جماعة يتفاعل معها، فينشأ عن ذلك ألوان من المواقف الاجتماعية.
ولما كان التشريع الإسلامي شاملاً مستوعبًا لشؤون الحياة كلها، فقد حوى طائفة من التشريعات في هذا المجال، ليكيف المسلم حركته بها، ويضبط سلوكه وِفْقَهَا.
والمسلم يتعامل مع غيره وفق عقيدته، وقيمه، وتصوراته المستمدة من دينه. وأن ما يحمله، أو يجب أن يكون عليه من قيم عالية، وأخلاق سامية، وفكر إصلاحي، هو المنبّه لسلوك الآخرين وتصوراتهم، والذي قد يتبعه تأثير في مواقفهم، أو صدور استجابة منهم، ولا سيما أنه يعيش في مجتمعات لا تستمد تشريعاتها من وحي السماء المعصوم، بل من اجتهادات البشر التي لا تنفك عن التناقض والاضطراب وسطحية النظر.
ونحن في هذا المبحث المهم قد اقتصرنا على أهم مسائله، وعليه فقد جاء على شكل فروع وتساؤلات.
الفرع الأول : حكم صلة المشركين
الأصل في ذلك قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة : 8).
ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وقالوا في تفسيرها ما يلي :
ففي الطبري : (وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عنى بذلك جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، أن الله عمّ بقوله مَن كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال ذلك منسوخ) (287).
وفي القرطبي : (هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، أن يبروهم ويقسطوا إليهم، أي يعطونهم قسطًا من أموالهم على وجه الصلة) (288).
وفي ابن كثير : (لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، وتحسنوا إليهم) (289).
يؤخذ من مجموع ما قيل في تفسير الآية، أن صلة الكافر وبره والإحسان إليه جائز، شرط أن يكون مسالمًا غير محارب، وصِلة غير المسلم والإحسان إليه من مكارم الأخلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (290)، (فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعًا) (291).
وتتأكد هذه الصلة إذا كانت لرحم، فقد جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه و سلم (أذن لأسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها وهي مشركة) (292).
حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم
أولاً : حكم إلقاء السلام :
ذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام على المخالفين من أهل الكتاب والمشركين، وقد فعله ابن مسعود وقال : إنه حق الصحبة. وكان أبو أمامة لا يمر بمسلم ولا كافر إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك، فقال : (أمرنا أن نفشي السلام) (293). وبمثله كان يفعل أبو الدرداء.
وكتب ابن عباس لرجل من أهل الكتاب : (السلام عليك) (294)، وكان عمر بن عبد العزيز يقول : (لا بأس أن نبدأهم بالسلام).
وذهب جمع آخر إلى المنع من إلقاء السلام على الكافرين، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه و سلم : (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام) (295).
وقالوا : في الحديث دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهود والنصارى بالسلام، لأن ذلك أصل النهي، وهو قول جمهور أهل العلم(296).
قال ابن حجر : (والأرجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختص بأهل الكتاب) (297).
قلت : لكن النهي عن مبادرة أهل الكتاب بالسلام، معلل بكونهم يردون بـ (وعليكم السام) يعني الموت.(1/253)
يؤخذ هذا التعليل مما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن رهطًا (جماعة) من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : (السام عليك)، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام : (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم)، وفي رواية أخرى : (فإن أحدهم يقول : (السام عليك) (298).
وعليه فإذا غيّر أهل الكتاب من أسلوب ردهم وألفاظهم الخبيثة، فلا مانع من السلام عليهم، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
فقد نهانا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك حتى لا يكون هناك مقابل (إلقاء السلام) دعاء علينا بالموت، فإذا انتفى ذلك فلا أرى وجهًا للمنع.
وهذا ما فهمه جمع من الأئمة، فقد سئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلّم عليه، فقال : إن سلمتَ فقد سلّم الصالحون، وإن تركتَ فقد ترك الصالحون قبلك.
كل ما تقدّم من خلاف فإنه إذا كانت تحيتنا لهم (بالسلام عليكم)، أما إذا كانت بعبارة أخرى (كصباح الخير، أو مساء الخير، أو مرحبًا)، وما شابه ذلك، فلا أرى أن النهي يتناوله، وقد قال بذلك السدي، ومقاتل، وأحمد وغيرهم(299).
ثانيًا : حكم رد السلام :
اتفق أهل العلم على أنه يرد على أهل الكتاب بـ : (وعليكم) (300)، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم) (301).
ولكن هل يزاد على ذلك؟
ذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز الرد على الكفار بـ (وعليكم السلام)، كما يرد على المسلم، وهو قول ابن عباس، والأشعري، والشعبي، وقتادة، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية، ولكن لا يقول : (ورحمة الله)، وقيل يجوز مطلقًا وتكون الرحمة بمعنى الهداية.
وذهب الجمهور إلى المنع من الرد بـ(وعليكم السلام). ولم يأتوا بدليل على ما ذهبوا إليه إلا بالحديث السابق.
قلت : ولكنه مقيّد بسبب، فإذا زال فلا مانع من الرد بـ (وعليكم السلام).
فيترجح قول القائلين بفرضية الرد كاملاً بالصيغة التي تصلح ردًا لتحيته.
قال ابن القيم : (فإذا تحقق السامع أن الكافر قال له : (السلام عليكم)، فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له : (وعليكم السلام)، فإن هذا من باب العدل والإحسان، وقد قال تعالى : (وإذا حيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها).
ثالثا : حكم القيام لهم :
ذهب جمع من العلماء إلى جواز القيام للكافر إذا كان يُقصد من ورائه مصلحة دينية كترغيبه في الإسلام، وميله إليه، بشرط ألا يقصد القائم تعظيمًا.
ومنهم من جعل القيام جائزًا لغير مصلحة، لأنه من البر والإحسان إلى الكافر، ولم ننه عنه(302).
وأما القيام للكافر بقصد دينه وما عليه من الكفر فحرام باتفاق. وأما إذا كان عرفًا ومعاملة بالمثل فلا بأس. وتقدير ذلك يرجع إلى المسلم نفسه في ديار المخالفين، فهو أدرى بعادات ذلك المجتمع وأعلم.
حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم
أولا : حكم مصافحتهم :
ذهب جماعة من الأئمة إلى كراهية مصافحة الكفار(303)، منهم النخعي وأحمد وأبو يوسف.
قال النخعي : (كانوا يكرهون أن يصافحوا اليهود(304))، يقصد بذلك السلف الصالح.
وذهب آخرون وعلى رأسهم الثوري وعبد الرزاق الصنعاني، إلى أنه لا بأس بأن يصافح المسلمُ اليهوديَ والنصرانيَ(305).
وهو الراجح، الذي يقتضيه قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة : 8).
أما معانقتهم فلم أرَ مَن صرّح بجوازها ولا بمنعها، مع أنني أميل إلى القول بكراهتها، لأنها تعبير عن الرضا التام، والمحبة الفياضة، وهذا الشعور لا ينبغي أن يُعامل به الكافر، إلا أن يكون الكافر أبًا أو ابنًا أو جَدًّا، أو ما شابه ذلك، فلا بأس به، وليكن في المناسبات فقط.
أما تقبيلهم فقد كره الحنابلة ذلك(306)، وبه أقول للسبب الذي ذكر في كراهية معانقتهم. وإن حدث ذلك فلا إثم إن شاء الله لعدم النص، إن لم يترتب عليه المحبة والرضا، التي قد تجر إلى الموالاة المحظورة.
ثانيا : حكم تهنئتهم :
إذا كانت التهنئة في الأمور المشتركة كزواج، أو قدوم مولود، أو غائب، أو عافية ونحوها، لم أرَ أحدًا قد صرّح بالمنع إلا رواية عن أحمد، ولكن لما جازت عيادتهم (على ما سيأتي)، جازت تهنئتهم. قال ابن القيم : (ولكن فليحذر الوقوع في الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، مثل (أعزك الله)، وما قاربها.. أما إذا كانت التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول : (عيد مبارك)).
ثالثا : حكم شهود أعيادهم ومشاركتهم فيها :
لا يجوز للمسلم ممالأة الكفار على أعيادهم، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم، باتفاق أهل العلم، لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم، كانوا كالراضين المؤثرين له، فيخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع.
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة (اللعنة) تنزل عليهم).
وروى البخاري عنه قوله : (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم).(1/254)
وروى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو قوله : (من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتى يموت وهو على ذلك، حشر معهم).
ومن هنا أجمع العلماء على حرمة أن يُباع لهم شيء من مصلحة دينهم في يوم عيدهم، أو الإهداء إليهم(307).
قلت : لكن إذا خاف المسلم أن يترتب على عدم تهنئتهم ضرر عليه لا يمكن تحمله عادة، رخص له في مجاملتهم في الظاهر مع الإنكار القلبي.
حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم
أولا : حكم عيادة مرضاهم :
الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أنه كان للنبي صلى الله عليه و سلم غلام يهودي يخدمه فمرض فأتاه فعاده... الحديث(308).
قال ابن حجر : (وفي الحديث جواز عيادة المشرك إذا مرض) (309).
وقال الماوردي : (عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة) (310). قلت : أو صحبة.
وقد عاد النبي صلى الله عليه و سلم أيضًا عمه أبا طالب في مرض وفاته، وعرض عليه الإسلام(311).
كل ذلك دل على جواز عيادة مرضى المشركين، لأنها نوع من البر، وهي من محاسن الإسلام ولا بأس بها(312).
وسئل الإمام أحمد عن عيادة الكفار، فقال : (أليس قد عاد النبي صلى الله عليه و سلم اليهودي، ودعاه إلى الإسلام) (313).
وذهب قوم إلى أن عيادة مرضى المشركين جائزة بشرط دعوتهم إلى الإسلام وإلا فلا.
قال ابن بطال : (إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فإذا لم يطمع في ذلك فلا).
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد تقع بعيادته مصلحة أخرى(314).
ثانيا : حكم تشييع جنائزهم، وتعزيتهم :
أولاً : حكم تشييع جنائزهم :
تقدم القول عنه عند الكلام عن الجنائز فانظره.
ثانيًا : حكم تعزيتهم :
ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أن يعزّي المسلم الكافر، وكان الثوري يقول : يعزي المسلم الكافر ويقول له : (لله السلطان والعظمة).. وكان الحسن يقول : إذا عزيت الكافر فقل : (لا يصيبك إلا خير).. وكان أبو عبد الله بن بطة يقول : يقال في تعزية الكافر : (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدًا من أهل دينك) (315).
والصحيح عندي أن للمسلم أن يختار من الأدعية ما يراه مناسبًا مما ليس فيه دعاء للميت ولا قوة للحي.
وهناك قول للشافعية، ورواية عن أحمد(316) بالمنع من تعزية الكافر إلا إذا رجي إسلامهم(317).
ولا أجد دليلاً على هذا المنع، فإذا جازت عيادة مرضاهم، واعتبرناها من البر ومحاسن الإسلام، فلئن تجوز تعزيتهم أولى، سواء رجونا بذلك إسلام القوم أو بعضهم أو لا. قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) (الممتحنة : 8).
حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم
غالبًا ما تكون الزيارات بين الأسر المسلمة والمخالفة للمجاملة أو المصلحة، أو مكافأة على زيارة، فكل هذا لا مانع منه، وخاصة إذا كانت زيارة في ظاهرها، ودعوة إلى الإسلام في باطنها، فهنا يتأكد جوازها ويطلب تعميق الصلة، لتحقيق تلك الغاية الشريفة، إذ الأعمال تشرف بشرف غاياتها.
وأما إذا كانت لمجرد تفقد الأحوال، فأرى عدم كراهيتها، إلا إذا زادت عن وضعها الطبيعي، وتجاوزت الحد المعقول، لأنه يجب أن يكون هناك حواجز نفسية وشعورية في نفس المؤمن تجاه مخالفه، فلا يتداخل معه ذاك التداخل المؤدي إلى التوادد والتحابب والتراضي المنهي عنه.
والدليل على جواز زيارة المشركين قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة : 8).
حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم
أولا : حكم تكنيتهم :
الأصل في ذلك ما رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر عبد الله ابن أبيّ بن سلول رأس المنافقين بكنيته وهي : (أبو حُباب) (318).
قال العيني : وقول النبي عليه الصلاة والسلام ذاك لم يكن للتكرمة، بل قد تكون للشهرة(319).. وعن الثوري أن عمر كنى (الفرافصة) وهو نصراني بأبي حسّان(320). وقال أحمد لطبيب نصراني : يا أبا إسحاق(321).
فدل ذلك على جواز أن يُكنى المشرك بما يُعرف به من كنيته فقط، ولا يتعدى ذلك، كأن يكنيه كنية شريفة تشعره بالعزة، فهذا يكره.
ثانيا : حكم قبول هديتهم والإهداء إليهم :
الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها(322). وقد قَبِلَ هدية ملك إيله(323)، وهي بغلة بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه و سلم بردة(324).. وأن (أكيدر دومة) (325) أهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام جبة سندس(326)، وأهدى له (المقوقوس) جارية.
وهناك من أهل العلم من كره قبول هدية المشركين.
وعليه فلو أهدى كافر لمسلم هدية فلا حرج عليه من قبولها، وكان عليه أن يثيبه عليها قدر الإمكان، حتى لا تبقى للكافر على المسلم يد ونعمة.(1/255)
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم في أسرى بدر : (لو كان المطعم بن عدي حيًا، وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (327)، مكافأة له على جهده في نقض الصحيفة، وقيل : مكافأة له على حماية النبي صلى الله عليه و سلم يوم عودته من الطائف.
نخرج من هذا إلى القول بجواز قبول هدية المشركين، والإثابة عليها، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه و سلم، وأنه لا مانع من قبول هداياهم في يوم عيدهم، وإنما المحظور باتفاق، الإهداء لهم كما سبق.
أما قبول هدية مَن كان غالب ماله الحرام، فرخص فيها قوم منهم الزهري ومكحول، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعامل أهل الكتاب والمشركين، ويقبل هداياهم مع علمه بأنهم لا يجتنبون الحرام، وكرهته طائفة مطلقًا(328).
أما مَن علم أن ما أُهدي إليه هو من الحرام بعينه، فهو محرم بالإجماع(329).
عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها
أولا : للمرأة الكافرة :
الأصل في ذلك قوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن) (النور : 13).
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المراد من قوله تعالى : (أو نسائهن)، أنهن المؤمنات المختصات بالصحبة والخدمة، وكأنه تعالى قال : أو صنفهن.
وعليه فليس للمؤمنة أن تتجرد عن بعض زينتها بين يدي مشركة، لئلا تصفها لزوجها، فإنها أي المشركة لا يمنعها من أن تصفها لزوجها مانع بخلاف المسلمة، وقالوا : إن المرأة الكافرة ليست من نسائنا وأجنبية في الدين، وهو قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، ومكحول، وابن جريج وغيرهم.
والمعتمد عند الشافعية أن للمسلمة أن تكشف أمام المشركة ما يبدو عند المهنة عادة، أي الرأس والعنق واليدين إلى العضدين والرجلين إلى الركبتين(330). وهو مذهب الحنابلة(331).
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما صح من أن نساء كوافر قد كنّ يدخلن على أمهات المؤمنين، ولم يكنّ يحتجبن ولا أمرن بحجاب.
2- ما رواه عطاء أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لما قدموا بيت المقدس، كان قوابل (جمع قابلة، وهي المرأة التي تساعد الوالدة عند الولادة وتتلقى الولد) نسائهن اليهوديات والنصرانيات.
3- أن الحجاب إنما يجب بنصّ أو قياس، ولم يوجد واحد منهما. وقال الألوسي : (وهذا القول أرفق بالناس اليوم، فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الكافرات) (332).
وأما قوله تعالى : (أو نسائهن)، فيحتمل أن يكون المراد جملة النساء.. وقول السلف محمول على الاستحباب، وهو الراجح إن شاء الله، لسلامة الأدلة ورجحانها.
ثانيا : عورة المسلمة بالنسبة لأقاربها الكفار :
القريب الكافر إما أن يكون مَحْرما وإما أن يكون غير مَحرم، فإن كان محرمًا كأخيها وأبيها وجدّها وعمها، وما شاكل ذلك، فلها أن تُبدي زينتها أمامه، وإن كانوا كفارًا، لعموم قوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن) (النور : 13)، إن لم يكونوا إباحيين، وإلا فلا، لأن الإباحي لا يفرق بين من تحل له ومن تحرم عليه.
وكذلك للمسلم أن ينظر إلى زينة النساء اللاتي يعتبرن من محارمه الكافرات لعموم الآية السابقة، لاتحاد مشاعر الرجال تجاه محارمهم، ودون تفريق بين كونها مسلمة أو غير مسلمة.
وأما إن كان القريب غير محرم لها، فيحرم عليها أن تبدي شيئًا من زينتها وعورتها أمامه، لعموم الأدلة.
حكم اقتناء الكلاب
مما لا يخفى على مَن زار بلاد الكفر، وخاصة ديار الغرب منها، أن الكلاب توجد هناك بكثرة، على مختلف أشكالها وألوانها وأنواعها، حتى أنهم من شدة ولوعهم في هذه الطائفة من البهائم أقاموا لها جمعيات ترعى أحوالها وتدافع عن حقوقها، وتؤمن لها الرعاية والعناية الكاملة(333)، حتى إنك لا تكاد تجد بيتًا يخلو من كلب أو قطة.
فما حكم اقتناء الكلب؟
الأصل في ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (من أمسك كلبًا، فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط (والقيراط قدر معلوم عند الله)، إلا كلب غنم، أو حرث، أو صيد).. وعند مسلم : (ينقص كل يوم من عمله قيراطان) (334). فدل الحديث على عدم جواز اقتناء الكلاب لغير الماشية أو الزرع أو الصيد(335)، إذا لم يكن عقورًا (أي يعضّ)، أو كَلَبًا(336)، لأن العلماء قد أجمعوا على قتل هذين النوعين من الكلاب(337)، وأجمعوا أيضًا على أن من اقتنى الكلب إعجابًا بصورته، أو للمفاخرة، فهو حرام بلا خلاف(338).
وذهب ابن عبد البر إلى أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : (ينقص من عمله)، أي من أجر عمله، ما يشير إلى أن اتخاذه ليس بمحرم، لأن ما كان اتخاذه محرمًا امتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أو لم ينقص، فدل ذلك على أن اتخاذه مكروه لا حرام.
قلت : هو محجوج بالإجماع.
وقال ابن حجر : (بأن ما ادعاه (ابن عبد البر) من عدم التحريم ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط عما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب، ويحتمل أن يكون حرامًا) (339).(1/256)
والمراد بالنقص، أو الإثم الحاصل باتخاذه، يوازي قدر قيراط، أو قيراطين من أجر، فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه، وهو قيراط أو قيراطان.
قلت : وهذا التعليل يدل على حرمة اتخاذ الكلب لغير ما ذكر الحديث لا كراهيته.
وأما سبب نقصان الأجر، فقيل : لامتناع الملائكة من دخول بيته، أو لما يلحق المارين من الأذى، أو عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه، أو لكثرة أكله النجاسات، أو لأن بعضها شيطان، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها، فربما تنجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر، أو لكراهة رائحتها(340).
قلت : وأقربها إلى ظاهر الحديث، أن نقصان الأجر عقوبة لمخالفة النهي. أما سبب النهي فلجميع ما ذُكر، ويزاد عليها ما يترتب على اقتنائها من أمراض خطيرة.
وأما أن هذه المساوئ السالفة موجودة في الكلب المباح اقتناؤه، فقال صديق خان : (فيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة، لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه) (341).
أما اتخاذ الكلاب لحفظ الدور والدروب، قياسًا على الثلاثة، عملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة، فقد صحح الشافعية ذلك(342).
يقول ابن عبد البر من المالكية : (... إلا أن يدخل في معنى الصيد وغيره، مما ذكر اتخاذه لجلب المنافع ودفع المضار قياسًا) (343).
نخلص من هذا إلى القول بحرمة اقتناء الكلاب لغير حاجة، وجواز اقتنائها للحاجات الثلاث المذكورة في الحديث، كما جُوّز اقتناؤها لغير ذلك من الحاجات، بناء على القياس.
كما أن تربية الكلاب للهواية، لهي من العادات السيئة، بالإضافة إلى كون ذلك محرمًا، فإن فيها إسرافًا بالإنفاق عليها ومعالجتها، وأمراضًا خطيرة حذّر منها الأطباء.
===============
الخاتمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله صلى الله عليه و سلم.
*بعد هذه الرحلة العلمية التي حاولنا من خلالها التأكيد على شمولية الأحكام الشرعية وعمقها، وبعد أن قررنا جواز الإقامة بين ظهراني غير المسلمين بشرط توفر الحرية الدينية، وأن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين السلم، وأما الحرب فهي طارئة تزول بزوال أسبابها، نود التذكير بضرورة ما يلي :
1- أن يستغل المسلمون وجودهم في ديار غير المسلمين في الدعوة إلى الله، من خلال تصحيح المفاهيم عن الإسلام، بالفكر والسلوك، وبشتى الطرق المتاحة والممكنة.
2- أن يستثمروا أي مناسبة في تقديم الحل الإسلامي لمشاكل القوم في مختلف النواحي، حسب الرصيد الفكري، والمخزون الثقافي لدى كل مسلم، وذلك لإقامة الحجة عليهم، وإبراء الذمة من تبعة تبليغ الدعوة.
3- أن يعملوا بشكل دائب قبل كل شيء على وحدة الصف الإسلامي، ونبذ التفرق والتشتت، فإن في ذلك قوة وظهورًا، وخروجًا من الظل إلى معترك الحياة، وإثباتًا للوجود المسلم هناك، وبالتالي الحصول على كثير من الحقوق.
*وبعد أن قررنا أن ديار غير المسلمين ليست بناسخة لشيء من أحكام الشريعة، نذكر بما يلي :
1- وجوب اجتناب المحرمات بكل صورها وأشكالها، إلا حال الضرورة، التي تُقدر بقدرها.
2- وجوب أداء الفرائض الدينية المختلفة، وذلك حسب الطاقة.
3- الاعتزاز بالدين وبما جاء به من تكاليف، وأن المسلم هو الأعلى بما يحمله من قيم وأفكار ومناهج، وبما يقوم به من سلوكيات موافقة لمعتقده، وأن يتجنب الاعتزاز بالدنيا وزينتها، فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع الغرور.
*وبعد أن قررنا جواز بِر غير المسلمين من المسالمين لنا، نذكر بما يلي :
1- المحافظة على الشخصية الإسلامية من الذوبان في ذلك المحيط الكبير.
2- الحرص على إبقاء حواجز نفسية تجاه غير المسلمين وعقائدهم.
3- عدم الركون والرضا بما هم عليه من شرك ومعاصي، فإن أقل أحوال تغيير المنكر إنكاره بالقلب، وليس بعد ذلك مثقال ذرة من إيمان. وليعلم المسلم أن حسن الخلق مع المخالفين، ليس في الموالاة المحرمة، وأن قيمة الإنسان بقيمة عقيدته.
والحمد لله رب العالمين.
================
مؤتمر إسلامى بالقاهرة يبحث : فقه الأقليات ..
الاحد :22/04/2001
(الشبكة الإسلامية) القاهرة- وكالات(1/257)
ينظم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية مؤتمرًا عالميًا فى 31 مايو القادم حول التجديد فى الفكر الإسلامى. صرح بذلك الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف المصرى وقال: تدور مناقشات المؤتمر حول أربعة محاور وهى: المحور الأول: حول ضرورة التجديد وضوابطه ويشمل: مفاهيم التجديد والاجتهاد والإبداع ، ضرورة التجديد، الأساس الإسلامى للتجديد وضوابطه، اتجاهات المجددين فى الإسلام فى العصر الحديث. المحور الثانى: التجديد فى مجال الفقه الإسلامى ويشمل : الوسطية أساس التشريع الإسلامى، فقه الواقع ..المستحدثات فى مجال الطب والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، وفقه المتغيرات فى الواقع السياسى والاجتماعى - حقوق الإنسان - المرأة - الطفل. بالإضافة إلى فقه الأولويات، المصالح المرسلة ، الضرورات التى تبيح المحظورات ، الترجيح بين المصالح، فقه الأقليات المسلمة ، فقه البيئة ، التوفيق والتقريب بين المذاهب الإسلامية. المحور الثالث : ويدور حول التجديد فى مجال الدعوة والإعلام ويشمل التجديد فى مجال عرض علوم العقيدة ، التجديد فى طريقة عرض الإسلام فى الغرب ودور العقل فى الخطاب الدينى ، والحفاظ على الهوية الإسلامية فى إطار التجديد. ويدور المحور الرابع: حول النهضة والإحياء ويشمل مفهوم التنوير فى التصور الإسلامى الأصالة والمعاصرة ، إحياء التراث الإسلامى وضرورة تخليصه من العناصر الدخيلة ، النهوض باللغة العربية فى مختلف المراحل التعليمية والإعلام، مع ضرورة تدريس العلوم التجريبية باللغة العربية . وأوضح وزير الأوقاف المصرى بأنه سوف يحضر المؤتمر العديد من وزراء الأوقاف بالدول الإسلامية ، ورجال من علماء المذاهب الإسلامية المختلفة، كما يشارك فى المؤتمر المفكرون والعلماء من مصر ومختلف دول العالم.
=============
نشأة فقه الأقليات وعلاقته بسائر فروع الفقه
رقم الفتوى 72660 تاريخ الفتوى : 20 صفر 1427
السؤال
هل يوجد فقه خاص بالأقليات؟ مثلا أقلية مسلمة تعيش في أكثرية غير مسلمة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففقه الأقليات مصطلح حديث لم يكن معروفاً في القديم، وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب.
وإضافة الفقه للأقليات لا تعنى إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة، وإنما تعنى أن هذه الفئة لها أحكام خاصة بها نظراً لظروف الضرورات والحاجيات كما تقول فقه السفر أو فقه النساء ونحو ذلك.
وفقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة، إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج، وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضررين وأضعف الشرين، مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة. ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. ) كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين. وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.
ويمكنك أن تراجع لمزيد الفائدة كتبا صدرت بهذا العنوان: فقه الأقليات المسلمة، لعلماء معاصرين، مثل الشيخ د. سلمان بن فهد العودة .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
فقه الأقليات.. رؤية مختلفة (*)
إعداد: فتحي عبد الستار- 23/08/2003
أعضاء من المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
عندما تُذكَر كلمة أقلية فسرعان ما يتطرق للذهن الأقلية العددية، أو تلك الفئة المستضعفة، أو مجموعة قد هُضم حقها لسبب أو آخر، غير أن للأقلية مفهومًا آخر يرتبط معياره بالحقوق التي يكفلها الشرع والقانون، وبمدى تطبيقها وممارسة الأفراد لها، ومن ثم فمن الممكن أن نجد الغالبية العظمى من البشر في شعب من الشعوب أو دولة من الدول تعيش محرومة من حقوقها، وهنا ينطبق عليها لفظ أقلية؛ رغم كثرتها العددية.
اتضح ذلك المفهوم وغيره من خلال الندوة التي أقامها موقع "إسلام أون لاين.نت" واستضاف فيها كلا من: الدكتور صلاح الدين سلطان، الأستاذ المساعد للفقه الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورئيس الجامعة الإسلامية الأمريكية،فضيلة الشيخ حسين حلاوة، عضو المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء. الدكتور عطية فياض، الأستاذ المساعد للفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر.
وحضرها لفيف من الباحثين والمحررين من أقسام الموقع المختلفة.
وقد قام بالإعداد للندوة والتقديم لها الأستاذ محمد عبد اللطيف البنا، الباحث الشرعي بالموقع.
فقه الأقليات ليس للقلة !
د. صلاح سلطان
افتتح الحديث في الندوة الأستاذ الدكتور صلاح سلطان، فبدأ بتعريف مصطلح الفقه في اللغة والاصطلاح.
وتحدث عن مسئولية أهل العلم والفتوى وما ينبغي أن يكونوا عليه من آداب وأخلاق.(1/258)
ثم عرج بعد ذلك على ما ينبغي أن يكون عليه الفهم الصحيح لمصطلح الأقليات، وأن المقصود به ليس القلة العددية، بقدر ما يعبَّر به عن ضياع الحقوق السياسية والمدنية لأناس بأعينهم.
كما أوضح أنه بهذا المفهوم يغدو كثير من المسلمين أقلية مستضعفة في بلادهم رغم كونهم كثرة عددية، وضرب أمثلة على ذلك من بلاد متفرقة.
ثم بيّن بعد ذلك أن للاستضعاف فقها لا بد أن يختلف عن فقه التمكين، وقد اتضحت أحكام كل من النوعين على حدة في العهدين المكي والمدني، وذكر -تأييدًا لذلك- مثلَين يعبران عن مظاهر التطبيق لكل منهما، هما مقتل سمية رضي الله عنها في مكة وطعنها في موطن عفتها، والمرأة المسلمة التي كُشفت عورتها في سوق بني قينقاع، ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في كلا الحادثتين.
فقه له أولوياته وضوابطه
ثم بدأ الدكتور صلاح سلطان في تحديد الأولويات التي يجب أن يتناولها فقه الأقليات ويجعلها من صلب اهتمامه، فذكر أن أولى تلك الأولويات وأهمها الدعوة إلى التوطين في تلك البلاد، وناقش الأزمات التي يحدثها تعميم الفتاوى التي ترى حرمة الإقامة والتوطين في تلك البلاد.
وقرر أنه يرى أن إقامة بعض المسلمين في الغرب تعد واجبًا عينيًّا على الأمة، وعرض أسباب ذلك وأدلته وناقش المخالفين.
ثم تحدث عن بعض الآفات التي أصابت فهم المسلمين في الغرب، وذكر بعض مظاهرها.
كما حدد باختصار بعض أدوار ومسئوليات المسلمين في الغرب.
ثم قام ببيان الضوابط المنهجية التي يجب أن يتبعها مَن يتعرض لفقه الأقليات ويفتي لهم، وكذلك لمن يطلبون الفتوى، وأهمها الصدق مع الله ومع النفس، وتجنب الاضطرار الكاذب، ومراعاة القضايا التي تعم بها البلوى، واعتماد الاجتهاد الإصلاحي لا التسويغي.
وفي هذا الصدد أشاد بورع المجلس الأوربي للإفتاء، وتنزهه عن التسرع في إصدار الفتاوى، وحرصه على التمحيص والدراسة قبل إصدار فتاواه.
إلا أنه تأسف على أننا قد ابتلينا -سواء في بلادنا أم في بلاد الغرب- بنوعين من العلماء والمفتين: نوع يفتي بغير علم لافتقاده الحُجَّة الشرعية، ونوع يفتي بالهوى لافتقاده الخشية القلبية.
وأكد على أن استنهاض الأمة الآن لن يتم إلا بالتقاء السلطة السياسية بالسلطة الشرعية، كما تم تاريخيًّا قبيل انتصار المسلمين على التتار.
فقه إصلاحي لا تسويغي
وعبّر الدكتور صلاح عن كراهيته ورفضه للفتاوى التسويغية، مؤكدًا احتياجنا لاجتهاد إصلاحي لا تسويغي يقدم المبررات والرخص غير المعتبرة.
وفي هذا الصدد أبرز أهمية فقه الواقع والعلم به في تدعيم عناصر القوة للمسلمين في الغرب ومواجهة عناصر الضعف.
وقد أكد على أن التهديدات الداخلية التي تمثلها الآفات المستشرية في المسلمين في الغرب أقوى بكثير مما يتهددهم من الحكومات الغربية.
وشدد على أن فقه الأقليات ليس مرادفًا لفقه الترخص، وإنما هو يراعي كلاًّ من فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات وفقه الأولويات، بالإضافة إلى فقه المآلات.
وبيَّن أن أخطر ما يحدث للمسلمين في الغرب -من وجهة نظره- عدم وجود مؤسسات تأهيلية للدعاة الموفَدين تبصرهم بقضايا المجتمع الذي يوفَدون إليه وتحدياته وفقه الواقع المعيش.
وأكد أن فقه التيسير لا يعني فقه الترخص والابتذال، ولا يعني التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام، وتعارفت عليها الأمة.
وأوضح أن هناك فرقًا بين المجاهدة والتنطع، يجب أن ينتبه إليه المسلم في علاقته بالله عز وجل والمجتمع من حوله.
المؤسسات وصناعة المستقبل
وأوضح الدكتور صلاح أن المسلمين في الغرب قطعوا شوطًا في بناء المؤسسات، ولكنهم ما زالوا يحتاجون إلى بناء الرجال، وأن هذا يجب أن يوضع ضمن أولويات المرحلة القادمة.
وحدد الأولوية الثانية التي يجب أن يراعيها فقه الأقليات، وهي إحياء الوقف الإسلامي في الغرب، فإهماله يعرض الأقليات المسلمة في الغرب لخطر كبير، مبرزًا ما يقوم به أصحاب الديانات الأخرى في الغرب من جهود في هذا الصدد بما يخدم مصالحهم.
أما الأولوية الثالثة لفقه الأقليات -حسبما يرى- فهي إنشاء المؤسسات الإعلامية والاقتصادية، التي هي -من وجهة نظره- أولى من المساجد؛ لأن المسلمين في أي مكان لن يعدموا مكانًا يصلون فيه.
ومن الأولويات أيضًا التي رتبها الدكتور صلاح للمسلمين في الغرب أن يتبنى أبناء البلد أنفسهم صناعة الدعاة المتمرسين المتميزين بالحجة الشرعية والخشية القلبية، والصبر على تربيتهم وإعدادهم.
وآخر أولوية ذكرها هي بناء المؤسسات التعليمية، وإنشاء المناهج، وإعداد المعلمين للخروج من أسر المؤسسات التعليمية الغربية التي تبث قيمًا فاسدة، لا تساعد -بل تهدم- في البناء التربوي للمسلمين هناك.
فالغرب -بحسب الدكتور صلاح- يتبنى مع المسلم إحدى سياستين: إما أن يقتَل أو يُفتَن، وضرب أمثلة لذلك وبين مظاهره، مبينًا كيفية المواجهة.
واختتم حديثه بذكر أسماء بعض المؤلفات والدراسات العالمية التي تناولت فقه الأقليات في مختلف البلدان.
وبشر الحاضرين بعزمه على إنشاء مركز لفقه الأقليات المسلمة.
تساؤلات وتعقيبات(1/259)
وبعدما أنهى الدكتور صلاح سلطان حديثه، أعطيت الكلمة للدكتور عطية فياض الذي طرح عدة تساؤلات للنقاش حول فهم مصطلح الفقه وعودته لدائرته الأصلية، وحول تحديد مجالات فقه الاستضعاف، وخشيته من دعوة البعض اعتبار العصر الحالي عودةً إلى عصر المرحلة المكية وفقهها، وسلبيات ذلك وأثره على الشريعة.
ثم تساءل حول تأصيل فقه الأقليات، وأيهما أولى: الإصلاح الداخلي في بلاد المسلمين أم تقوية وضعهم في الخارج.
ثم وجه الحديث للشيخ حسين حلاوة مناشدًا إياه الاهتمام بالجانب الإعلامي لإبراز جهود المجلس، ودعم ثقة المسلمين فيه، وتقوية مصداقيته لدى المسلمين في أوربا.
وعقَّب الدكتور صلاح سلطان على تساؤلات الدكتور عطية، فعلق على التساؤل الأول بأنه من الممكن توسيع مدلول مصطلح الفقه حسب الاحتياج العلمي، وأشار إلى مرونة المصطلح، وأوصى بقراءة كتاب الدكتور محمد عمارة حول مصطلحات الفكر الإسلامي.
ونفى تمامًا أن يكون من بين الفقهاء من يرى أن فقه الاستضعاف يعني العودة للحالة المكية، وإنما هو عندهم يعني التعامل مع الواقع وتقديره بقدره، وعدم تجاوز المساحات المشروعة.
وأيد دعوة الدكتور عطية لتأصيل فقه الأقليات، وأكد ارتباطه بفقه الضرورات، وضرب أمثلة لبعض التجاوزات التي تحدث للثوابت، وأهمية رفضها مطلقًا. وفي المقابل ضرب أمثلة أخرى لمشكلات يقدم فقه الأقليات حلولاً لها دون تجاوز للثوابت، اعتمادًا على اجتهادات قديمة أو حديثة.
أما عن الموازنة بين إصلاح الداخل وتقوية الخارج، فبيَّن أنه يرى ألا مناص من تقوية وضع المسلمين في الغرب، انطلاقًا من رسالة المسلم في هداية الناس إلى طريق الحق والخير، وأهمية أن يسير المساران في اتجاه متوازٍ.
المسلمون ليسوا قلة
الشيخ حسين حلاوة بجوار الشيخ القرضاوي
وفي نهاية الندوة تحدث فضيلة الشيخ حسين حلاوة، فأكد أن المسلمين ليسوا قلة في أوربا، بل إن بعضهم يشكَّل دولاً بأكملها، كألبانيا والبوسنة والهرسك، وأكد حرص المجلس على عدم التنازل عن ثوابت الأمة، ووافق الدكتور صلاح فيما قال من تعقيبات حول تساؤلات الدكتور عطية.
وعقَّب على ما أشار إليه الدكتور عطية فياض من ضعف اهتمام المجلس بالجانب الإعلامي، فقرر أن هذه حقيقة، معللاً إياها بأن الإعلام ينتقي ما ينشره، ووعد بالاجتهاد في هذا الجانب، ومخاطبة وسائل الإعلام، إلا أنه أشار إلى بعض الجهد الإعلامي الذي يقوم به المجلس، مثل تعاونه مع موقع "إسلام أون لاين.نت" في نشر البحوث والفتاوى، كما أن للمجلس صفحة خاصة على شبكة الإنترنت، يتم خلالها نشر الفتاوى والبحوث الصادرة منه، كما قام المجلس أيضًا بإصدار 3 مجلات بحثية. وأوضح أن هناك العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة في العالم نوقشت حول المجلس.
===========
الأقليات في الغرب: أُكلت لحماً ورُميت عظماً!
25/7/2001
لندن - نور الدين العويديدي
المسلمون في الغرب باتوا يشكلون عددا لا يستهان به
شهدت أوروبا في الأعوام القليلة الماضية تناميًا واضحا للحركة العنصرية المعادية للأجانب. ولعبت عوامل متعددة دورا بارزا في تغذية المشاعر والحركات العنصرية، ووفرت لها المبررات السياسية والأيديولوجية التي تغذي نشاطها المتزايد الذي تنمو فيه وتترعرع.
فقد كشفت استطلاعات للرأي ومناسبات انتخابية عديدة عن تنامي أنصار الحركات العنصرية في أكثر من بلد أوروبي. وبالرغم من أن هذه الحركات لم تصل بعد في العديد من الدول الأوروبية إلى أن تصبح خطرا داهما، فإن التوقعات تشير إلى أنه سيكون لهذه الحركات المتنامية خطر حقيقي في السنين اللاحقة إذا لم تتخذ الإجراءات الكافية للوقوف في وجهها.
لقد صارت عمليات الاعتداء على الأجانب من الظواهر المميزة للعديد من المدن الأوروبية. وسجلت العديد من تلك المدن مواجهات دامية بين الشبان العنصريين البيض من ناحية وبين الشبان الآسيويين أو الأفارقة السود أو الأتراك أو أبناء المغرب العربي من جهة ثانية. لكن الشرطة وقفت في العديد من تلك المناسبات إلى جانب العنصريين البيض، وتصرفت بعقلية عنصرية رغم أنه يفترض فيها أن تكون حامية للأقليات، ومتعقبة للجماعات العنصرية التي تجرمها معظم القوانين الأوروبية.
وكشف استطلاع للرأي - أجراه مركز "موري" المتخصص في استطلاعات الرأي قبل أسابيع في دول أوروبا الغربية - أن 1 من كل 5 أوروبيين (21 في المائة) يعتبرون وجود الأجانب وأبناء الأعراق الأخرى وقضايا الهجرة واللجوء السياسي من أهم الانشغالات التي تشد اهتمامهم.
وتصدر هذا الموضوع في الترتيب انشغالات أخرى لدى الأوروبيين، متقدما على قضايا الاقتصاد والتربية والصحة. وبيّن الاستطلاع الذي أجري على 13000 أوروبي، تبين أن موضوع العلاقة مع الأجانب وقضايا الهجرة واللجوء السياسي تحتل المرتبة الرابعة من بين 11 مسألة عرضت على الأشخاص المستطلعة آراؤهم، وجاءت بعد النظام والأمن وقضية تلوث اللحوم وجنون البقر.(1/260)
أما في بريطانيا، فقد كشف الاستطلاع أن موضوع العلاقة مع الأجانب والأعراق الأخرى قد احتل فيها المرتبة الرابعة أيضا في انشغالات البريطانيين، ولكن بنسبة أقل قليلا من النسبة العامة لبقية أوروبا (19 في المائة)- غير أنه ظل متقدما على قضايا التربية والبطالة والصحة وغيرها من الانشغالات.
الغول القومي يستشري في بريطانيا
وأثبت نفس الاستطلاع - في بريطانيا - أن الأعوام الخمسة الماضية قد شهدت نموا كبيرا للنزاعات العنصرية وللقلق من الأجانب لدى البريطانيين. فقد أثبت استطلاع يتعلق بنفس الموضوع - ولكن أجري عام 1996 - أن 3 في المائة فقط من البريطانيين يعتبرون العلاقة مع الأجانب وقضايا الهجرة واللجوء من الانشغالات التي تؤرقهم. لكن الرقم تضاعف أكثر من 6 مرات في 5 أعوام فقط؛ إذ قفز من 3 في المائة عام 1996 إلى 19 في المائة عام 2001.
كما أثبتت نتائج الانتخابات البريطانية - التي جرت يوم 7 حزيران (يونيو) الماضي - أن أعداد البريطانيين الذين صوتوا للحزب القومي البريطاني (BNP) قد ارتفعت هذا العام في بعض المناطق، وخاصة تلك التي شهدت مواجهات بين العنصريين البريطانيين والشبان الآسيويين؛ بنسب تتجاوز 16 في المائة من الأصوات التي حصل عليها الحزب في انتخابات عام 1997. وهي نتيجة تكشف نموا كبيرا جدا في عدد أنصار الحزب؛ وإن كانت الانتخابات قد أجريت بعد فترة قليلة من حدوث اشتباكات مع الآسيويين- وهو ما من شأنه أن يؤثر على نتائج الانتخابات لصالح القوى العنصرية.
وبالرغم من أن أحدا من هؤلاء العنصريين لم يفز بعضوية البرلمان البريطاني - وهو ما يعني أن خطر سيطرتهم على موقع التوجيه والقرار السياسي ما زال بعيدا جدا - فإن ترتيبهم في بعض المواقع قد جاء متقدما على مرشحي بعض الأحزاب الكبرى.
لكن المشكلة أن هذه الجماعات لا يعرف عنها مراهنتها على تحصيل مقاعد في البرلمان، من خلال انتخابات نزيهة؛ وهي تلجأ بسبب نتائجها المتواضعة إلى التأثير على الحياة السياسية، من خلال تجنيد العشرات من الشباب فيما يشبه المليشيات والقيام بأعمال عنف ضد الأجانب؛ ومن ثم التأثير على سياسات الأحزاب الكبرى التي يتجه العديد منها نحو اليمين.. أما الأحزاب اليمينية فتتجه أكثر فأكثر إلى المزيد من اليمينية التي تلامس أحيانا لدى بعض قادتها فكر الجماعات العنصرية المتطرفة.
وكان حزب المحافظين البريطاني قد اُتّهم من قبل جماعات يسارية، ومن قبل مناهضين للحركة العنصرية، بأنه مال إلى التركيز في الانتخابات الماضية على قضايا الهجرة واللجوء السياسي من أجل كسب الأصوات في الانتخابات.
وكان قد بدر من بعض أقطاب الحزب تصريحات عنصرية فجّة؛ ولم تتمكن قيادته الضعيفة من اتخاذ مواقف قوية في مواجهة دعاة الأفكار العنصرية من داخل الحزب؛ وهو ما جعل نائبا أسود في المحافظين يفكر في الانتقال إلى حزب العمال؛ احتجاجا على السلبية التي واجهت بها قيادة المحافظين التصريحات العنصرية الصادرة عن أعضاء قياديين في الحزب.
الثقافة والإعلام والبطالة دعمت العنصرية
تلعب العديد من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية أدوارا متباينة الحجم والتأثير في تغذية الحركة العنصرية في أوروبا. ويمكن أن نذكر منها العوامل التالية، باعتبارها العوامل الأكثر تأثيرا في نمو الحركة العنصرية:
1- ثقافة التفوق العرقي والفردية الغربية وتميز الجنس الأبيض. وهي ثقافة ساهمت مساهمة كبيرة في صناعة تاريخ أوروبا والغرب الحديثين، وبررت موجات الاستعمار والهيمنة وتدمير الشعوب الأخرى في مختلف قارات العالم.
وبالرغم من تخلي المجتمعات الغربية الحديثة عن كثير من مسلمات هذه الثقافة - بل ونمو ثقافة مناهضة للعنصرية فيها - فإن صورا عديدة من ثقافة التفوق والتميز لا تزال تعشش في أعماق الوعي واللاوعي الأوروبي والغربي، فتنتج أجيالا من العنصريين المتشبعين بنظرة التفوق والتميز على العالمين.
وبالرغم من أن العنصرية الأوروبية - في أشكالها الأكثر وضوحا وفجاجة - قد انتهت إلى التحطم والانكسار- بانكسار الحركة النازية والفاشية، وهما حركتان عنصريتان بامتياز- إلا أن ثقافة الحلفاء المنتصرة لم تكن بريئة من لوثة العنصرية، التي تجلّت ممارساتها البشعة في الدول البعيدة عن أوروبا في إفريقيا وآسيا وأمريكا واستراليا.(1/261)