الخلاصة في أحكام الشهيد
بقلم
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فهذا كتاب يتحدث عن الحث على الشهادة في سبيل الله في القرآن والسنة النبوية المطهرة حيث قمت باستقصاء الآيات التي تتحدث عن الشهادة ، وقمت بشرحها بما يوضح معناها ويبين مرماها
وكذلك سقت فيه كثيرا من الأحاديث الصحيحة التي تتحدث عن فضل الشهادة في سبيل الله و الجهاد
وكذلك فيه خلاصة عن أحكام الشهداء في الفقه الإسلامي المقارن
وكذلك فيه تفصيل حول مشروعية العمليات الاستشهادية والفرق بينها وبين الانتحار ، وغير ذلك مما يثلج صدر المجاهدين في سبيل الله ويرفع معنوياتهم ، ويدفعهم قدما إلى الأمام بإذن الله
ويكون غصة في حلوق المنافقين والطغاة الملاعين والكفرة المجرمين
قال تعالى :
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (74) سورة النساء
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ; ولا للاستيلاء على السكان . .
لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات , والأسواق للمنتجات ; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة , ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة .(1/1)
ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج , وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . .
في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله , بقصد إعلاء كلمة الله , وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . .
يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . .
وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله , بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . .
والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب ; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . .
من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ; في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ; ومن يغلب في سبيل الله أيضا:
ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم , في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل , وما ترجوه من الغنيمة كذلك ! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ? وأين غنيمة المال من فضل الله ?
وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ?! ( الظلال )
====================
هذا وقد قسمت هذا الكتاب لتمهيد و ستة أبواب وهي
الباب الأول -الشهادة في القرآن الكريم
الباب الثاني - الحث على الشهادة في السنة النبوية
الباب الثالث - جوازالعمليات الاستشهادية(1/2)
الباب الرابع - فصل في مسألة التترس…
الباب الخامس - أحكام الشهيد في الفقه الإسلامي
الباب السادس – االفتاوى المعاصرة حول الشهيد
قال تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 2 رجب لعام 1428 هـ لموافق 18/7/2007 م
تمهيد - معنى الشهادة لغة واصطلاحا
معنى الشهادة في اللغة
ففي مفردات القرآن(1) :
شهد
__________
(1) - مفردات القرآن - (ج 1 / ص 791) ومفردات ألفاظ القرآن ـ نسخة محققة - (ج 1 / ص 555)(1/3)
- الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة؛ إما بالبصر، أو بالبصيرة، وقد يقال للحضور مفردا قال الله تعالى: { عالم الغيب والشهادة } [السجدة/6]، لكن الشهود بالحضور المجرد أولى، والشهادة مع المشاهدة أولى؛ ويقال للمحضر: مشهد، وللمرأة التي يحضرها زوجها مشهد، وجمع مشهد: مشاهد، ومنه: مشاهد الحج، وهي مواطنه الشريفة التي يحضرها الملائكة والأبرار من الناس. وقيل مشاهد الحج: مواضع المناسك. قال تعالى: { ليشهدوا منافع لهم } [الحج/28]، { وليشهدوا عذابهما } [النور/2]، { ما شهدنا مهلك أهله } [النمل/49]، أي: ما حضرنا، { والذين لا يشهدوا الزور } [الفرقان /72]، أي: لا يحضرونه بنفوسهم ولا بهمهم وإرادتهم. والشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر. وقوله: { أشهدوا خلقهم } [الزخرف/19]، يعني مشاهدة البصر ثم قال: { ستكتب شهادتهم } [الزخرف /19]، تنبيها أن الشهادة تكون عن شهود، وقوله: { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } [آل عمران/70]، أي: تعلمون، وقوله: { ما أشهدتهم خلق السموات } [الكهف/51]، أي: ما جعلتهم ممن اطلعوا ببصيرتهم على خلقها، وقوله: { عالم الغيب والشهادة } [السجدة/6]، أي: ما يغيب عن حواس الناس وبصائرهم وما يشهدونه بهما. وشهدت يقال على ضربين: أحدهما جار مجرى العلم، وبلفظه تقام الشهادة، ويقال: أشهد بكذا، ولا يرضى من الشاهد أن يقول: أعلم، بل يحتاج أن يقول: أشهد. والثاني يجري مجرى القسم، فيقول: أشهد بالله أن زيدا منطلق، فيكون قسما، ومنهم من يقول: إن قال: أشهد، ولم يقل: بالله يكون قسما، ويجري علمت مجراه في القسم، فيجاب بجواب القسم نحو قول الشاعر: ولقد علمت لتأتين منيتي(1/4)
ويقال: شاهد وشهيد وشهداء، قال تعالى: { ولا يأب الشهداء } [البقرة/282]، قال: { واستشهدوا شهيدين } [البقرة/282]، ويقال: شهدت كذا، أي: حضرته، وشهدت على كذا، قال: { شهد عليهم سمعهم } [فصلت/20]، وقد يعبر بالشهادة عن الحكم نحو: { وشهد شاهد من أهلها } [يوسف/26]، وعن الإقرار نحو: { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } [النور/ 6]، أن كان ذلك شهادة لنفسه. وقوله: { وما شهدنا إلا بما علمنا } [يوسف/ 81] أي: ما أخبرنا، وقال تعالى: { شاهدين على أنفسهم بالكفر } [التوبة/17]، أي: مقرين. { لم شهدتم علينا } [فصلت/21]، وقوله: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [آل عمران/18]، فشهادة الله تعالى بوحدانيته هي إيجاد ما يدل على وحدانيته في العالم، وفي نفوسنا كما قال الشاعر:
- ففي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
قال بعض الحكماء: إن الله تعالى لما شهد لنفسه كان شهادته أن أنطق كل شيء كما نطق بالشهادة له، وشهادة الملائكة بذلك هو إظهارهم أفعالا يؤمرون بها، وهي المدلول عليها بقوله: { فالمدبرات أمرا } [النازعات/5]، وشهادة أولي العلم: اطلاعهم على تلك الحكم وإقرارهم بذلك (قال ابن القيم: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه:
أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر.
الثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.
والثالث: اقترانها بشهادة الملائكة.(1/5)
الرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول. ، وهذه الشهادة تختص بأهل العلم، فأما الجهال فمعبدون منها، ولذلك قال في الكفار: { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } [الكهف/51]، وعلى هذا نبه بقوله: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر/28]، وهؤلاء هم المعنيون بقوله: { والصديقين والشهداء والصالحين } [النساء/69]، وأما الشهيد فقد يقال للشاهد، والمشاهد للشيء، وقوله: { معها سائق وشهيد } [ق/21]، أي: من شهد له وعليه، وكذا قوله: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } [النساء /41]، وقوله: { أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق/37]، أي: يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم على ضد من قيل فيهم: { أولئك ينادون من مكان بعيد } [فصلت/44]، وقوله: { أقم الصلاة } (الآية: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا } سورة الإسراء: آية 78)، إلى قوله: { مشهودا } (الآية: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا } سورة الإسراء: آية 78) أي: يشهد صاحبه الشفاء والرحمة، والتوفيق والسكينات والأرواح المذكورة في قوله: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [الإسراء/82]، وقوله: { وادعوا شهداءكم } [البقرة/23]، فقد فسر بكل ما يقتضيه معنى الشهادة، قال ابن عباس: معناه أعوانكم وقال مجاهد: الذين يشهدون لكم، وقال بعضهم: الذين يعتد بحضورهم ولم يكونوا كمن قيل: فيهم شعر: مخلفون ويقضي الله أمرهمو *** وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا(1/6)
وقد حمل على هذه الوجوه قوله: { ونزعنا من كل أمة شهيدا } [القصص/75]، وقوله: { وإنه على ذلك لشهيد } [العاديات/7]، { أنه على كل شيء شهيد } [فصلت/53]، { وكفى بالله شهيدا } [النساء/79]، فإشارة إلى قوله: { لا يخفى على الله منهم شيء } [غافر/16]، وقوله: { يعلم السر وأخفى } [طه/7]، ونحو ذلك مما نبه على هذا النحو، والشهيد: هو المحتضر، فتسميته بذلك لحضور الملائكة إياه إشارة إلى ما قال: { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا... } الآية [فصلت/30]، قال: { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم } [الحديد/19]، أو لأنهم يشهدون في تلك الحالة ما أعد لهم من النعيم، أو لأنهم تشهد أرواحهم عند الله كما قال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون *** فرحين بما آتاهم الله من فضله } [آل عمران/169 - 170]، وعلى هذا دل قوله: { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } ، وقوله: { وشاهد ومشهود } [البروج/3]، قيل: المشهود يوم الجمعة ، وقيل: يوم عرفة، ويوم القيامة، وشاهد: كل من شهده، وقوله: { يوم مشهود } [هود/103]، أي: مشاهد تنبيها أن لا بد من وقوعه، والتشهد هو أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وصار في التعارف اسما للتحيات المقروءة في الصلاة، وللذكر الذي يقرأ ذلك فيه.
=================
وفي لسان العرب (1) :
__________
(1) -[ جزء 3 - صفحة 238 ](1/7)
( شهد ) من أَسماء الله عز وجل الشهيد قال أَبو إِسحق الشهيد من أَسماء الله الأَمين في شهادته قال وقيل الشهيدُ الذي لا يَغيب عن عِلْمه شيء والشهيد الحاضر وفَعِيلٌ من أَبنية المبالغة في فاعل فإِذا اعتبر العِلم مطلقاً فهو العليم وإِذا أُضيف في الأُمور الباطنة فهو الخبير وإِذا أُضيف إِلى الأُمور الظاهرة فهو الشهيد وقد يعتبر مع هذا أَن يَشْهَدَ على الخلق يوم القيامة ابن سيده الشاهد العالم الذي يُبَيِّنُ ما عَلِمَهُ شَهِدَ شهادة ومنه قوله تعالى شهادَةُ بينِكم إِذا حضر أَحدَكم الموتُ حين الوصية اثنان أَي الشهادةُ بينكم شهادَةُ اثنين فحذف المضاف وأَقام المضاف إِليه مقامه وقال الفراء إِن شئت رفعت اثنين بحين الوصية أَي ليشهد منكم اثنان ذوا عدل أَو آخران من غير دينكم من اليهود والنصارى هذا للسفر والضرورة إِذ لا تجوز شهادة كافر على مسلم إِلا في هذا ورجل شاهِدٌ وكذلك الأُنثى لأَنَّ أَعْرَفَ ذلك إِنما هو في المذكر والجمع أَشْهاد وشُهود وشَهيدٌ والجمع شُهَداء والشَّهْدُ اسم للجمع عند سيبويه وقال الأَخفش هو جمع وأَشْهَدْتُهُم عليه واسْتَشْهَدَه سأَله الشهادة وفي التنزيل واستشهدوا شَهِيدين والشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ منه شَهِدَ الرجلُ على كذا وربما قالوا شَهْدَ الرجلُ بسكون الهاء للتخفيف عن الأخفش وقولهم اشْهَدْ بكذا أَي احْلِف والتَّشَهُّد في الصلاة معروف ابن سيده والتَّشَهُّد قراءَة التحياتُ للهِ واشتقاقه من « أَشهد أَن لا إِله إِلا الله وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله » وهو تَفَعُّلٌ من الشهادة وفي حديث ابن مسعود كان يُعَلِّمُنا التَّشَهُّدَ كما يعلمنا السورة من القرآن يريد تشهد الصلاة التحياتُ وقال أَبو بكر بن الأَنباري في قول المؤذن أَشهد أَن لا إِله إِلا الله أَعْلَمُ أَن لا إِله إِلا الله وأُبَيِّنُ أَن لا إِله إِلا الله قال وقوله أَشهد أَن محمداً رسول الله أَعلم وأُبيِّن أَنَّ(1/8)
محمداً رسول الله وقوله عز وجل شهد الله أَنه لا إِله إِلا هو قال أَبو عبيدة معنى شَهِدَ الله قضى الله أَنه لا إِله إِلا هو وحقيقته عَلِمَ اللهُ وبَيَّنَ اللهُ لأَن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه فالله قد دل على توحيده بجميع ما خَلَق فبيَّن أَنه لا يقدر أَحد أَن يُنْشِئَ شيئاً واحداً مما أَنشأَ وشَهِدَتِ الملائكةُ لِما عاينت من عظيم قدرته وشَهِدَ أُولو العلم بما ثبت عندهم وتَبَيَّنَ من خلقه الذي لا يقدر عليه غيره وقال أَبو العباس شهد الله بيَّن الله وأَظهر وشَهِدَ الشاهِدُ عند الحاكم أَي بين ما يعلمه وأَظهره يدل على ذلك قوله شاهدين على أَنفسهم بالكفر وذلك أَنهم يؤمنون بأَنبياءٍ شعَروا بمحمد وحَثُّوا على اتباعه ثم خالَفوهم فَكَذَّبُوه فبينوا بذلك الكفر على أَنفسهم وإِن لم يقولوا نحن كفار وقيل معنى قوله شاهدين على أَنفسهم بالكفر معناه أَن كل فِرْقة تُنسب إِلى دين اليهود والنصارى والمجوس سوى مشركي العرب فإِنهم كانوا لا يمتنعون من هذا الاسم فَقَبُولهم إِياه شَهادَتهم على أَنفسهم بالشرك وكانوا يقولون في تلبيتهم لبَّيْكَ لا شَريكَ لك إِلاَّ شريكٌ هو لكَ تَمْلِكُه وما ملك وسأَل المنذريّ أَحمدَ بن يحيى عن قول الله عز وجل شهد الله أَنه لا إِله إِلا هو فقال كُلُّ ما كان شهد الله فإِنه بمعنى علم الله قال وقال ابن الأَعرابي معناه قال الله ويكون معناه علم الله ويكون معناه كتب الله وقال ابن الأَنباري معناه بيَّن الله أَن لا إِله إِلا هو وشَهِدَ فلان على فلان بحق فهو شاهد وشهيد واسْتُشِهْدَ فلان فهو شَهِيدٌ والمُشاهَدَةُ المعاينة وشَهِدَه شُهوداً أَي حَضَره فهو شاهدٌ وقَوْم شُهُود أَي حُضور وهو في الأَصل مصدر وشُهَّدٌ أَيضاً مثل راكِع ورُكّع وشَهِدَ له بكذا شَهادةً أَي أَدّى ما عنده من الشَّهادة فهو شاهِد والجمع شَهْدٌ مثل صاحِب وصَحْب وسافر وسَفْرٍ وبعضهم يُنْكره وجمع الشَّهْدِ شُهود(1/9)
وأَشْهاد والشَّهِيدُ الشَّاهِدُ والجمع الشُّهَداء وأَشْهَدْتُه على كذا فَشَهِدَ عليه أَي صار شاهداً عليه وأَشْهَدْتُ الرجل على إِقرار الغريم واسْتَشْهَدتُه بمعنًى ومنه قوله تعالى واسْتَشْهِدُوا شَهيدَيْن من رجالكم أَي أَشْهِدُوا شاهِدَيْن يقال للشاهد شَهيد ويُجمع شُهَداءَ وأَشْهَدَني إِمْلاكَه أَحْضَرني واسْتَشْهَدْتُ فلاناً على فلان إِذا سأَلته اقامة شهادة احتملها وفي الحديث خَيْرُ الشُّهَداءِ الذي يأْتي بِشهَادَتِه قبل إنْ يُسْأَلَها قال ابن الأَثير هو الذي لا يعلم صاحبُ الحق أَنَّ له معه شَهادةً وقيل هي في الأَمانة والوَديعَة وما لا يَعْلَمُه غيره وقيل هو مثَلٌ في سُرْعَةِ إِجابة الشاهد إِذا اسْتُشْهِدَ أَن لا يُؤَخِّرَها ويَمْنَعَها وأَصل الشهادة الإِخْبار بما شاهَدَه ومنه يأْتي قوم يَشْهَدون ولا يُسْتَشْهَدون هذا عامّ في الذي يُؤدّي الشهادَةَ قبل أَن يَطْلُبها صاحبُ الحق منه ولا تُقبل شهادَتُه ولا يُعْمَلُ بها والذي قبله خاص وقيل معناه هم الذين يَشْهَدون بالباطل الذي لم يَحْمِلُوا الشهادَةَ عليه ولا كانت عندهم وفي الحديث اللّعَّانون لا يكونون شهداء أَي لا تُسْمَعُ شهادتهم وقيل لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأُمم الخالية وفي حديث اللقطة فَلْيُشْهِدْ ذا عَدْل الأَمْرُ بالشهادة أَمْرُ تأْديب وإِرْشادٍ لما يُخافُ من تسويلِ النفس وانْبِعاثِ الرَّغْبة فيها فيدعوه إِلى الخِيانة بعد الأَمانة وربما نزله به حادِثُ الموت فادّعاها ورثَتُه وجعلوها قي جمل تَرِكَتِه وفي الحديث شاهداك أَو يَمِينُه ارتفع شاهداك بفعل مضمر معناه ما قال شاهِداكَ وحكى اللّحياني إِنَّ الشَّهادةَ ليَشْهَدونَ بكذا أَي أَهلَ الشَّهادَة كما يقال إِن المجلس لَيَشْهَدُ بكذا أَي أَهلَ المجلس ابن بُزرُج شَهِدْتُ على شَهادَة سَوْءٍ يريد شُهَداءَ سوء وكُلاَّ تكون الشَّهادَة كَلاماً يُؤَذَّى وقوماً يَشْهَدُون(1/10)
والشاهِدُ والشَّهيد الحاضر والجمع شُهَداء وشُهَّدٌ وأَشْهادٌ وشُهودٌ وأَنشد ثعلب كأَني وإِن كانَتْ شُهوداً عَشِيرَتي إِذا غِبْتَ عَنّى يا عُثَيْمُ غَريبُ أَي إِذا غِبْتَ عني فإِني لا أُكلِّم عشيرتي ولا آنَسُ بهم حجتى كأَني غريب الليث لغة تميمِ شهيد بكسر الشين يكسرون فِعِيلاً في كل شيء كان ثانيه أَحد حروف الحلق وكذلك سُفْلى مُصغر يقولون فِعِيلاً قال ولغة شَنْعاءُ يكسرون كل فِعِيل والنصب اللغة العالية وشَهدَ الأَمَر والمِصْرَ شَهادَةً فهو شاهدٌ من قوْم شُهَّد حكاه سيبويه وقوله تعالى وذلك يومٌ مَشْهودٌ أَي محضور يَحضُره أَهل السماءِ والأَرض ومثله إِنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً يعني صلاة الفجر يَحْضُرها ملائكة الليل وملائكة النهار وقوله تعالى أَو أَلقى السمع وهو شهيد أَي أَحْضَرَ سمعه وقلبُهُ شاهدٌ لذلك غَيْرُ غائب عنه وفي حديث عليّ عليه السلام وشَهِيدُكَ على أُمَّتِك يوم القيامة أَي شاهِدُك وفي الحديث سيدُ الأَيام يوم الجمعة هو شاهد أَي يَشْهَدُ لمن حضر صلاتَه وقوله فشهادَةُ أَحدِهم أَربع شهادات بالله الشهادة معناها اليمين ههنا وقوله عز وجلّ إِنا أَرسلناك شاهداً أَي على أُمتك بالإِبْلاغ والرسالة وقيل مُبَيِّناً وقوله ونزعنا من كل أُمة شهيداً أَي اخْتَرْنا منها نبيّاً وكلُّ نبي شَهِيدُ أُمَّتِه وقوله عز وجل تبغونها عِوَجاً وأَنْتم شُهَداء أي أَنتم تشهدون وتعلمون أَن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق لأَن الله عز وجل قد بينه في كتابكم وقوله عز وجل يوم يقوم الأَشْهادُ يعني الملائكة والأَشهادُ جمع شاهد مثل ناصر وأَنصار وصاحب وأَصحاب وقيل إِن الأَشْهاد هم الأَنبياءُ والمؤمنون يَشْهدُون على المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم قال مجاهد ويَتْلُوه شاهد منه أَي حافظٌ مَلَكٌ وروى شمِر في حديث أَبي أَيوب الأَنصاري أَنه ذكَرَ صلاة العصر ثم قال قلنا لأَبي أَيوب ما الشَّاهِدُ ؟ قال النَّجمُ(1/11)
كأَنه يَشْهَدُ في الليل أَي يحْضُرُ ويَظْهَر وصلاةُ الشاهِدِ صلاةُ المغرب وهو اسمها قال شمر هو راجع إِلى ما فسره أَبو أَيوب أَنه النجم قال غيره وتسمى هذه الصلاةُ صلاةَ البَصَرِ لأَنه تُبْصَرُ في وقته نجوم السماء فالبَصَرُ يُدْرِكُ رؤْيةَ النجم ولذلك قيل له
( * قوله « قيل له » أي المذكور صلاة إلخ فالتذكير صحيح وهو الموجود في الأَصل المعول عليه ) صلاةُ البصر وقيل في صلاةِ الشاهد إِنها صلاةُ الفجر لأَنَّ المسافر يصليها كالشاهد لا يَقْصُرُ منها قال فَصَبَّحَتْ قبلَ أَذانِ الأَوَّلِ تَيْماء والصُّبْحُ كَسَيْفِ الصَّيْقَل قَبْلَ صلاةِ الشاهِدِ المُسْتَعْجل وروي عن أَبي سعيد الضرير أَنه قال صلاة المغرب تسمى شاهداً لاستواءِ المقيم والمسافر فيها وأَنها لا تُقْصَر قال أَبو منصور والقَوْلُ الأَوَّل لأَن صلاة الفجر لا تُقْصَر أَيضاً ويستوي فيها الحاضر والمسافر ولم تُسَمَّ شاهداً وقوله عز وجل فمن شَهِدَ منكم الشهر قليصمه معناه من شَهْدِ منكم المِصْرَ في الشهر لا يكون إِلا ذلك لأَن الشهر يَشْهَدُهُ كلُّ حَيٍّ فيه قال الفراء نَصَبَ الشهر بنزع الصفة ولم ينصبه بوقوع الفعل عليه المعنى فمن شَهِدَ منكم في الشهر أَي كان حاضراً غير غائب في سفره وشاهَدَ الأَمرَ والمِصر كَشهِدَه وامرأَة مُشْهِدٌ حاضرة البعل بغير هاءٍ وامرأَة مُغِيبَة غاب عنها زوجها وهذه بالهاءِ هكذا حفظ عن العرب لا على مذهب القياس وفي حديث عائشة قالت لامرأَة عثمان بن مَظْعُون وقد تَرَكَت الخضاب والطِّيبَ أَمُشْهِدٌ أَم مُغِيبٌ ؟ قالت مُشْهِدٌ كَمُغِيبٍ يقال امرأَة مُشْهِدٌ إِذا كان زوجها حاضراً عندها ومُغِيبٌ إِذا كان زوجها غائباً عنها ويقال فيه مُغِيبَة ولا يقال مُشْهِدَةٌ أَرادت أَن زوجها حاضر لكنه لا يَقْرَبُها فهو كالغائب عنها والشهادة والمَشْهَدُ المَجْمَعُ من الناس والمَشْهَد مَحْضَرُ الناس ومَشاهِدُ مكة المَواطِنُ التي(1/12)
يجتمعون بها من هذا وقوله تعالى وشاهدٍ ومشهودٍ الشاهِدُ النبي صلى الله عليه وسلم والمَشْهودُ يومُ القيامة وقال الفراءُ الشاهِدُ يومُ الجمعة والمشهود يوم عرفةَ لأَن الناس يَشْهَدونه ويَحْضُرونه ويجتمعون فيه قال ويقال أَيضاً الشاهد يومُ القيامة فكأَنه قال واليَوْمِ الموعودِ والشاهد فجعل الشاهد من صلة الموعود يتبعه في خفضه وفي حديث الصلاة فإِنها مَشْهودة مكتوبة أَي تَشْهَدُها الملائكة وتَكتُبُ أَجرها للمصلي وفي حديث صلاة الفجر فإِنها مَشْهودة مَحْضورة يَحْضُرها ملائكة الليل والنهار هذه صاعِدةٌ وهذه نازِلَةٌ قال ابن سيده والشاهِدُ من الشهادة عند السلطان لم يفسره كراع بأَكثر من هذا والشَّهِيدُ المقْتول في سبيل الله والجمع شُهَداء وفي الحديث أَرواحُ الشهَداءِ قي حَواصِل طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ من وَرَق
( * قوله « تعلق من ورق إلخ » في المصباح علقت الإبل من الشجر علقاً من باب قتل وعلوقاً أكلت منها بأفواهها وعلقت في الوادي من باب تعب سرحت وقوله عليه السلام أرواح الشهداء تعلق من ورق الجنة قيل يروى من الأَول وهو الوجه اذ لو كان من الثاني لقيل تعلق في ورق وقيل من الثاني قال القرطبي وهو الأكثر ) الجنة والإسم الشهادة واسْتُشْهِدَ قُتِلَ شهِيداً وتَشَهَّدَ طلب الشهادة والشَّهِيدُ الحيُّ عن النصر بن شميل في تفسير الشهيد الذي يُسْتَشْهَدُ الحيّ أَي هو عند ربه حيّ ذكره أَبو داود(1/13)
( * قوله « ذكره أبو داود إلى قوله قال أبو منصور » كذا بالأصل المعول عليه ولا يخفى ما فيه من غموض وقوله « كأن أرواحهم » كذا به أيضاً ولعله محذوف عن لان أرواحهم ) أَنه سأَل النضر عن الشهيد فلان شَهِيد يُقال فلان حيّ أَي هو عند ربه حيّ قال أَبو منصور أُراه تأَول قول الله عز وجل ولا تحسبن الذين قُتِلوا في سبيل الله أَمواتاً بل أَحياءٌ عند ربهم كأَنَّ أَرواحهم أُحْضِرَتْ دارَ السلام أَحياءً وأَرواح غَيْرِهِم أُخِّرَتْ إِلى البعث قال وهذا قول حسن وقال ابن الأَنباري سمي الشهيد شهيداً لأَن اللهَ وملائكته شُهودٌ له بالجنة وقيل سُمُّوا شهداء لأَنهم ممن يُسْتَشْهَدُ يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأُمم الخالية قال الله عز وجل لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وقال أَبو إِسحق الزجاج جاءَ في التفسير أَن أُمم الأَنبياء تكَذِّبُ في الآخرة من أُرْسِلَ إِليهم فيجحدون أَنبياءَهم هذا فيمن جَحَدَ في الدنيا منهم أَمْرَ الرسل فتشهَدُ أُمة محمد صلى الله عليه وسلم بصدق الأَنبياء وتشهد عليهم بتكذيبهم ويَشْهَدُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهذه بصدقهم قال أَبو منصور والشهادة تكون للأَفضل فالأَفضل من الأُمة فأَفضلهم من قُتِلَ في سبيل الله مُيِّزوا عن الخَلْقِ بالفَضْلِ وبيَّن الله أَنهم أَحياءٌ عند ربهم يُرْزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ثم يتلوهم في الفضل من عدّه النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً فإِنه قال المَبْطُونُ شَهيد والمَطْعُون شَهِيد قال ومنهم أَن تَمُوتَ المرأَةُ بِجُمَع ودل خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ مُنْكَراً وأَقام حَقّاً ولم يَخَفْ في الله لَومَة لائم أَنه في جملة الشهداء لقوله رضي الله عنه ما لكم إِذا رأَيتم الرجل يَخْرِقُ أَعْراضَ الناس أَن لا تَعْزِمُوا عليه ؟ قالوا نَخافُ لسانه فقال ذلك أَحْرَى أَن لا تكونوا شهداء قال الأَزهري(1/14)
معناه والله أَعلم أَنَّكم إِذا لم تَعْزِموا وتُقَبِّحوا على من يَقْرِضُ أَعْراضَ المسلمين مخافة لسانه لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يُسْتَشهَدُون يوم القيامة على الأُمم التي كذبت أَنبياءَها في الدنيا الكسائي أُشْهِدَ الرجلُ إِذا استُشهد في سبيل الله فهو مُشْهَدٌ بفتح الهاءِ وأَنشد أَنا أَقولُ سَأَموتُ مُشْهَداً وفي الحديث المبْطُونُ شَهِيدٌ والغَريقُ شَهيدٌ قال الشهيدُ في الأَصل من قُتِلَ مجاهداً في سبيل الله ثم اتُّسِعَ فيه فأُطلق على من سماه النبي صلى الله عليه وسلم من المَبْطُون والغَرِق والحَرِق وصاحب الهَدْمِ وذات الجَنْب وغيرِهم وسُمِّيَ شَهيداً لأَن ملائكته شُهُودٌ له بالجنة وقيل لأَن ملائكة الرحمة تَشْهَدُه وقيل لقيامه بشهادَة الحق في أَمْرِ الله حتى قُتِلَ وقيل لأَنه يَشْهَدُ ما أَعدّ الله له من الكرامة بالقتل وقيل غير ذلك فهو فَعيل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول على اختلاف التأْويل والشَّهْدُ والشُّهْد العَسَل ما دام لم يُعْصَرْ من شمَعِه واحدته شَهْدَة وشُهْدَة ويُكَسَّر على الشِّهادِ قال أُمية إِلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ لُبابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ(1/15)
( * قوله « ملاء » ككتاب وروي بدله عليها ) أَي من لباب البر يعني الفالوذَق وقيل الشَّهْدُ والشُّهْدُ والشَّهْدَة العَسَلُ ما كان وأَشْهَدَ الرجُل بَلَغَ عن ثعلب وأَشْهَدَ اشْقَرَّ واخْضَرَّ مِئْزَرُه وأَشْهَدَ أَمْذَى والمَذْيُ عُسَيْلَةٌ أَبو عمرو أَشْهَدَ الغلام إِذا أَمْذَى وأَدرَك وأَشْهَدت الجاريةُ إِذا حاضت وأَدْركتْ وأَنشد قامَتْ تُناجِي عامِراً فأَشْهَدا فَداسَها لَيْلَتَه حتى اغْتَدَى والشَّاهِدُ الذي يَخْرُجُ مع الولد كأَنه مُخاط قال ابن سيده والشُّهودُ ما يخرجُ على رأْس الولد واحِدُها شاهد قال حميد بن ثور الهلالي فجاءَتْ بِمثْلِ السَّابِرِيِّ تَعَجَّبوا له والصَّرى ما جَفَّ عنه شُهودُها ونسبه أَبو عبيد إِلى الهُذَلي وهو تصحيف وقيل الشُّهودُ الأَغراس التي تكون على رأْس الحُوار وشُهودُ الناقة آثار موضع مَنْتَجِها من سَلًى أَو دَمٍ والشَّاهِدُ اللسان من قولهم لفلان شاهد حسن أَي عبارة جميلة والشاهد المَلَك قال الأَعشى فلا تَحْسَبَنِّي كافِراً لك نَعْمَةً على شاهِدي يا شاهِدَ اللهِ فاشْهَدِ وقال أَبو بكر في قولهم ما لفلان رُواءٌ ولا شاهِدٌ معناه ما له مَنْظَرٌ ولا لسان والرُّواءُ المَنظَر وكذلك الرِّئْيِ قال الله تعالى أَحسنُ أَثاثاً ورِئْياً وأَنشد ابن الأَعرابي لله دَرُّ أَبيكَ رَبّ عَمَيْدَرٍ حَسَن الرُّواءِ وقلْبُه مَدْكُوكُ قال ابن الأَعرابي أَنشدني أَعرابي في صفة فرس له غائِبٌ لم يَبْتَذِلْه وشاهِدُ قال الشاهِدُ مِن جَرْيِهِ ما يشهد له على سَبْقِه وجَوْدَتِهِ وقال غيره شاهِدُه بذله جَرْيَه وغائبه مصونُ جَرْيه
************
تعريف الشهيد في الاصطلاح
عند الحنفية (1): هو من قتله المشركون أو وجد مقتولاً في المعركة وبه أثر أية جراحة ظاهرة أو باطنة كخروج الدم من العين أو نحوها .
__________
(1) -- انظر صاحب العناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 2/142 وحاشية ابن عابدين 2/268(1/16)
وقالوا أيضاً (1):كل من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة أو قطاع الطريق بمعنى مضاف إلى العدو كان شهيداً ، بالمباشرة أو التسبب ، وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً .
قال في البحر الرائق(2) : وفي التجنيس رجل قصد العدو ليضربه فأخطأ فأصاب نفسه فمات يغسل ، لأنه ما صار مقتولا بفعل مضاف إلى العدو ولكنه شهيد فيما ينال من الثواب في الآخرة لأنه قصد العدو لا نفسه ، وأطلق في قتله فشمل القتل مباشرة أو تسببا لأن موته مضاف إليهم ، حتى لو أوطؤا دابتهم مسلما أو انفروا دابة مسلم فرمته أو رموه من السور أو ألقوا عليه حائطا أو رموا بنار فأحرقوا سفنهم أو ما أشبه ذلك من الأسباب كان شهيدا ، ولو انفلتت دابة مشرك ليس عليها أحد فوطئت مسلما أو رمي مسلم إلى الكفار فأصاب مسلما ، أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار أو نفر المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار أو نحوه أو جعلوا حولهم الشوك فمشى عليها مسلم فمات بذلك لم يكن شهيدا ، خلافا لأبي يوسف لأن فعله يقطع النسبة إليهم وكذا فعل الدابة دون حامل ، وإنما لم يكن جعل الشوك حولهم تسبيبا لأن ما قصد به القتل فهو تسبيبي وما لا فلا وهم إنما قصدوا به الدفع لا القتل .
عند المالكية : قال الدردير (3): هو من قتل في قتال الحربيين فقط ، ولو قتل ببلد الإسلام بأن غزا الحربيون المسلمين ، أو لم يقاتل بأن كان غافلاً أو نائماً ، أو قتله مسلم يظنه كافراً ، أو داسته الخيل ، أو رجع عليه سيفه أو سهمه ، أو سقط في بئر أو سقط من شاهق حال القتال .
عند الشافعية : قال ابن حجر في الفتح(4): هو من قتل في حرب الكفار مقبلاً غير مدبر مخلصاً .
__________
(1) - في تبيين الحقائق للزيلعي 1/247
(2) - 2/211
(3) - في الشرح الكبير 1/425
(4) - 6/1291/350(1/17)
وقال في مغني المحتاج (1): هو الذي يقتل في قتال الكفار مقبلاً غير مدبر لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى دون عرض من أعراض الدنيا .
عند الحنابلة : قال صاحب كشاف القناع بتصرف (2) :هو الذي يموت في المعترك مع الكفار ، رجلاً كان أو امرأة بالغاً أو غير بالغ ، سواء قتله الكفار ، أو عاد عليه سلاحه فقتله ، أو سقط عن دابته ، أو وجد ميتاً ولا أثر به إذا كان مخلصاً .
وقال ابن قدامة في المغني(3): فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو ، وقال القاضي يغسل ويصلى عليه لأنه مات بغير أيدي المشركين أشبه ما لو أصابه ذلك في غير المعترك ، ولنا ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه ، فأصاب نفسه بالسيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخوكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ) فقالوا يا رسول الله أشهيد هو ؟ قال ( نعم وأنا له شهيد ) وعامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فذهب يسفل له فرجع سيفه على نفسه فكانت فيها نفسه ، فلم يفرد عن الشهداء بحكم ولأنه شهيد المعركة فأشبه ما لو قتله الكفار .
ومما تقدم من تعريف الشهيد يتبين أن الجمهور خلافاً للحنفية لم يجعلوا لليد الفاعلة للقتل دوراً في تحقق الشهادة ، سوى ما جاء عند الحنفية بأن الشهيد الذي قتله المشركون أو وجد قتيلاً في أرض المعركة .
__________
(2) -2/113
(3) -2/206(1/18)
وقول الجمهور هو الراجح ، وقول الحنفية يرده ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضى الله عنه - قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرٍ يَا عَامِرُ أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ . وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أَبْقَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ هَذَا السَّائِقُ » . قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ . قَالَ « يَرْحَمُهُ اللَّهُ » . قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ . فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ ، فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِى فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَىِّ شَىْءٍ تُوقِدُونَ » . قَالُوا عَلَى لَحْمٍ . قَالَ « عَلَى أَىِّ لَحْمٍ » . قَالُوا لَحْمِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا » . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ « أَوْ ذَاكَ » . فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ قَصِيرًا فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِىٍّ لِيَضْرِبَهُ ، وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ ، فَأَصَابَ(1/19)
عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ ، فَمَاتَ مِنْهُ قَالَ فَلَمَّا قَفَلُوا ، قَالَ سَلَمَةُ رَآنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِى ، قَالَ « مَا لَكَ » . قُلْتُ لَهُ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى ، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَبَ مَنْ قَالَهُ ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ - وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ » أخرجه البخاري (1)..
وروى أبو داود(2) عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : أَغَرْنَا عَلَى حَىٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ فَطَلَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ وَأَصَابَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ». فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشَهِيدٌ هُوَ قَالَ : « نَعَمْ وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ ».
وبهذا يتبين أنه ليس شرطاً أن يقتل المجاهد بسلاح العدو حتى يقال عنه شهيد ، إنما الشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وقتل في أرض المعركة بأية طريقة كانت فإنه ينطبق عليه وصف الشهيد .
ومن توقف عن القول بجواز العمليات الاستشهادية شبهته فيها أن المجاهد يقتل نفسه ، فتوقفه ليس له ما يبرره ، فإن كان توقف لهذه الشبهة فليعلم أنه لا تأثير لها في استحقاق الشهيد للشهادة .
__________
(1) - برقم (4196)
(2) - برقم( 2541) وهو حسن(1/20)
فالشرع يفرق بين حكم متماثلين ظاهراً بسبب القصد والنية ، فهذا زواج المحلِل محرم والزواج الشرعي مباح ، والسبب أن قصد المحلِل التحليل أو هو قصد للطرفين سواءً سراً أو علانية ، فأثرت النية في العقد فأبطلته ، وحينما فارقت النية المنهي عنها العقد في الزواج الشرعي جاز ذلك العقد ، وكذلك اللفظ أو العرف أو الإشارة تؤثر بالعقود ، فلو أن رجلاً اقترض من آخر ألف روبل وأراد أن يردها له ألفاً ومائة بدون اتفاق جزاءً له بالحسنى فهذا جائز ، ولكنه لو اتفق معه أو أشار له أو تعارف أهل البلد بأنه لا بد من رد القرض أكثر من أصله لكان ذلك رباً محرماً ، وأيضاً لو صلى إمام رياءً وخلفه مأموم مخلص ، لبطلت صلاة الإمام وقبلت صلاة المأموم ، فالعمدة في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري(1) « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » .
__________
(1) - برقم(1)(1/21)
فالنية هي مناط تغير الحكم والتفريق بين المتماثلين ظاهراً في الأحكام الشرعية ، ومن المتماثلات لقتيل المعركة التي فرق بينها الشارع ، قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين(1) عن أبي موسى « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » فهذا بينه وبين من قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فرق رغم تشابه الظاهر ، وهو ما جاء عند مسلم (2) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ.
__________
(1) - البخاري برقم(123) ومسلم برقم( 5029 )
(2) - برقم( 5032 )(1/22)
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ». ، فهذا ظاهره يشبه ظاهر من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولكنه لاختلاف الباطن استحق النار والأول استحق الجنة .(1/23)
وجاء أيضاً في التفريق بين المتشابهين في الظاهر ، ما رواه البخارى ٍ (1)عَنْ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » . فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، وَهْوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْرِعًا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ « وَمَا ذَاكَ » . قَالَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ » . وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ » . ، ومثيل لهذا ظاهراً ما جاء في الصحيحين (2)وقد قدمناه بأن عامر ابن الأكوع ارتد عليه سيفه فقُتل بسيفه وفعل نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه « كَذَبَ مَنْ قَالَهُ ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ - وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ مَشَى
__________
(1) - برقم(6607)
(2) - البخارى برقم(4196) ومسلم مبرقم(4769)(1/24)
بِهَا مِثْلَهُ » ، فالأول قُتل بسلاحه في أرض المعركة جزعاً فوجبت له النار ، والثاني قتل بسلاحه في أرض المعركة خطأ فوجبت له الجنة
هذه الأمثلة تدل دلالة واضحة على أنَّ الحكم الشرعي للشهيد لا يتغير ولا يعتبر باليد القاتلة للمجاهد ، ولا بأداة القتل إذا كان ذلك لوجه الله و بنية خالصة لإعلاء كلمة الله ، فالذي قتله العدو مع سوء نيته كان في النار ، وآخر قتله العدو مع إخلاصه فهو في الجنة ، وآخر قتل نفسه جزعاً فهو في النار ، والرابع قتل نفسه خطأً فهو في الجنة ، والذي أعان على قتل نفسه لنشر الدين فهو في الجنة كالغلام ، وفيما قدمنا من أدلة عبرة للمعتبر وبيان لمن أراد الحق .
************
الباب الأول -الشهادة في القرآن الكريم
الحث على بيع الأنفس لله تعالى :
قال تعالى :{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 218)(1/25)
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم.
وقال شَمِر بن عطية: ما من مسلم إلا ولله، عز وجل، في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية.
ولهذا يقال: من حمل في سبيل الله بايع الله، أي: قَبِل هذا العقد ووفى به.
وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني ليلة العقبةِ -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت! فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنزلت: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية.
وقوله: { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي: سواء قتلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة؛ ولهذا جاء في الصحيحين: "وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة".
وقوله: { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة، وأنزله على رسله في كتبه الكبار، وهي التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(1/26)
وقوله: { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [أي: ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله] فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [النساء: 87]{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } [النساء: 122] ؛ ولهذا قال: { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي: فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد، بالفوز العظيم، والنعيم المقيم.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة: { التَّائِبُونَ } من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، { الْعَابِدُونَ } أي: القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ الأقوال الحمد ؛ فلهذا قال: { الْحَامِدُونَ } ومن أفضل الأعمال الصيامُ، وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة هاهنا؛ ولهذا قال: { السَّائِحُونَ } كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: { سَائِحَاتٍ } [التحريم: 5] أي: صائمات، وكذا الركوع والسجود، وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال: { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } وهم مع ذلك ينفعون خلق الله، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركُه، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق؛ ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.(1/27)
[بيان أن المراد بالسياحة الصيام]: قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود قال: { السَّائِحُونَ } الصائمون. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، والعوفي عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة، هم الصائمون. وكذا قال الضحاك، رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام.
وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مُزاحم، وسفيان بن عُيينة وغيرهم: أن المراد بالسائحين: الصائمون.
وقال الحسن البصري: { السَّائِحُونَ } الصائمون شهر رمضان.
وقال أبو عمرو العَبْدي: { السَّائِحُونَ } الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن بَزِيع،
حدثنا حكيم بن حزام، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السائحون هم الصائمون"
[ثم رواه عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: { السَّائِحُونَ } الصائمون].وهذا الموقوف أصح.
وقال أيضا: حدثني يونس، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن عمرو بن دينار، عن عُبَيد بن عُمَير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال: "هم الصائمون".
وهذا مرسل جيد.
فهذه أصح الأقوال وأشهرها، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله".(1/28)
وقال ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة: أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة: أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف".
وعن عِكْرِمة أنه قال: هم طلبة العلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم.
وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن"(1).
وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } قال: القائمون بطاعة الله. وكذا قال الحسن البصري، وعنه رواية: { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } قال: لفرائض الله، وفي رواية: القائمون على أمر الله.
وفي الظلال (2):
والذين باعوا هذه البيعة , وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة , ذات صفات مميزة . .
منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع اللّه في الشعور والشعائر ; ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين اللّه في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود اللّه في أنفسهم وفي سواهم:
(التائبون , العابدون , الحامدون , السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه . وبشر المؤمنين) .
__________
(1) - صحيح البخاري برقم (19).
(2) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 81)(1/29)
والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة , وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولى قربى - فقد اختلفت الوجهتان , واختلف المصيران , فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة , والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم . ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم . وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة , ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم:
(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه , فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه . إن إبراهيم لأواه حليم) . .
وولاء المؤمن يجب أن يتمحض للّه الذي عقد معه تلك الصفقة ; وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة - وهذا بيان من اللّه للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة - وحسب المؤمنين ولاية اللّه لهم ونصرته ; فهم بها في غنى عن كل ما عداه , وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه: (وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون , إن اللّه بكل شيء عليم , إن اللّه له ملك السماوات والأرض , يحيي ويميت , وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير) .
ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة ; فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل اللّه أمراً عظيماً , تجاوز اللّه عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف ; فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً:
(لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة , من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ; ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت , وضاقت عليهم أنفسهم , وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ; ثم تاب عليهم ليتوبوا , إن اللّه هو التواب الرحيم) . .(1/30)
ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ; أولئك القريبون من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية , ومركز الانطلاق الإسلامي ; واستنكار لما وقع منهم من تخلف ; مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه , ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار , ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح , إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين , ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة , ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم , ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون) . .
ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام . وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد , وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين ; ويبقى البعض للقيام بحاجيات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض , ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف:
(وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم , لعلهم يحذرون !)
وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية - بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه - وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه .
وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون:
(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار , وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن اللّه مع المتقين) . .(1/31)
وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي . . يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموحيات الإيمان القلبية , وبالتكاليف والواجبات العملية . ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات , ولا تعظهم النذر والابتلاءات:
(وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول:أيكم زادته هذه إيماناً ; فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون . أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ? وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض:هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا . صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) . .
ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته . مع توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتماد على اللّه وحده , والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم , عزيز عليه ما عنتم , حريص عليكم , بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو , عليه توكلت , وهو رب العرش العظيم) .
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد ; وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة ; وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض - وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال - لتقرير حدود اللّه والمحافظة عليها ; أي لتقرير حاكمية اللّه للعباد , ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية !(1/32)
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات اللّه وشريعة اللّه في هذا الزمان ; وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدودالدفاع الإقليمي عن "أرض الإسلام" بينما كلمات اللّه - سبحانه - تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون "أرض الإسلام" هذه من الكفار ; دون ذكر لأنهم معتدون ! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية اللّه - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير اللّه . وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد !
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن , ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه , وبشر المؤمنين) . .
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات , في أثناء حفظي للقرآن , وفي أثناء تلاوته , وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان . .
هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان !
إنه نص رهيب ! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه , وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !(1/33)
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ; فلم يعد لهم منها شيء . .
لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . .
كلا . . إنها صفقة مشتراة , لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء , وفق ما يفرض ووفق ما يحدد , وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم , لا يتلفت ولا يتخير , ولا يناقش ولا يجادل , ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . والثمن:هو الجنة . .
والطريق:هو الجهاد والقتل والقتال . .
والنهاية:هي النصر أو الاستشهاد: (إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون) . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . .
فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . . ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا , وإلا فهو واهب الأنفس والأموال , وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. .
شر البهيمة . .
(إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) . .
كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون) . .
عونك اللهم ! فإن العقد رهيب . .(1/34)
وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها , قاعدون , لا يجاهدون لتقرير ألوهية اللّه في الأرض , وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال !
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم , أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة , لا إلى صورة متأملة . .
هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه , لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ يعني ليلة العقبة ] -:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:
"الجنة " " . قالوا:ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ; انتهى أمرها , وأمضي عقدها , ولم يعد إلى مرد من سبيل:" لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ; والجنة:ثمن مقبوض لا موعود ! أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه:
(وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن) . .
(ومن أوفى بعهده من اللّه ?) .
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ?
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . .
كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . .(1/35)
إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) . .
(ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً)
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . .
بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . .
إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . .
ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . .
وما دام في "الأرض" كفر . وما دام في "الأرض" باطل . وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض , والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان:و " من مات ولم يغز , ولم يحدث نفسه بغزو , مات على شعبة من النفاق " . . . [ رواه الإمام أحمد , وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] .
(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم) .
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه , وأخذ الجنة عوضاً وثمناً , كما وعد اللّه . .
وما الذي فات ?
ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة ? واللّه ما فاته شيء . فالنفس إلى موت , والمال إلى فوت . سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه ! والجنة كسب . كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك !(1/36)
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه . ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمته , وتقرير دينه , وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه . ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله , ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة . ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض , والإيمان ينتصر فيه على الألم , والعقيدة تنتصر فيه على الحياة .
إن هذا وحده كسب . كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة ; وانتصار الإيمان فيه على الألم , وانتصار العقيدة فيه على الحياة . .
فإذا أضيفت إلى ذلك كله . . الجنة . .
فهو بيع يدعو إلى الاستبشار ; وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال:(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم) .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية: (وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن) . .
فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . . وهو لا يدع مجالا للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني ; باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي , يحمي نفسه بالقوة المادية ; ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك ; ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية اللّه وحده للعباد , وتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد . كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد . .(1/37)
ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في "الأرض" لتحقيق إعلانه العام بتحرير "الإنسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية ; والتي تحاول بدورها - في حتمية لا فكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري , لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !
فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والإنجيل . فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام ! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها ; وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ; ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . . وهو قليل . .
أضيف إليه الكثير !
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد , والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين , لنصر إلههم وديانته وعبادته !
وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله .
فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد . . ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية ; فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم ! - وقبل ذلك بشهادة اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ:إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ; ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن . . فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال !
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل , ومنذ كان دين اللّه . .(1/38)
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة , والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله) . .
(التائبون) . . مما أسلفوا , العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى , وتوجه إلى اللّه فيما بقي , وكف عن الذنب , وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
(العابدون) . . المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية , إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر , كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
(الحامدون) . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ; وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة , وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها , ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه , مهما خفي على العباد إدراكه .
(السائحون) . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول:إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول:إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول:إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه , ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر:(1/39)
(إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب , الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ) .
فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه , وإدراك حكمته في خلقه , وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك .
(الراكعون الساجدون) . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه , فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه , يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .
ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ; وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده , وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه , فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر , وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . .(1/40)
والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه , وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم , قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل ! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر , كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
(والحافظون لحدود اللّه) . . وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . .
ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ; وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ; ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .
والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !(1/41)
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها:توبة ترد العبد إلى اللّه , وتكفه عن الذنب , وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته . وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين , ويصونها من التهجم والانتهاك . .
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة , واشترى منها الأنفس والأموال , لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته . قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ; وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ; أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل , وبين الإسلام والجاهلية , وبين الشريعة والطاغوت , وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة , وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه:كفاح في سبيل الحق , وجهاد في سبيل الخير , وانتصار لإعلاء كلمة اللّه , أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . .
ثم الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . . .
وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه . .
وفي التفسير الوسيط (1):
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 2048)(1/42)
قال الفخر الرازى : أعلم الله - تعالى - لما شرع فى شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحيقته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين } الآية .
وقال القرطبى : " نزلت هذه الآية فى البيعة الثانية ، وهى بيعة العقبة الكبرى وهى التى أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبى - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشكروا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا فمالنا؟ قال :
" لكم الجنة " قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقبل فنزلت هذه الآية " .
ثم هى بعد ذلك عامة فى كل مجاهد فى سبيل الله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة . تثميل للثواب الذى منحه الله - تعالى - للمجاهدين فى سبيله .
فقد صور - سبحانه - جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابته - سبحانه - لهم على ذلك بالجنة ، صور كل ذلك بالبيع والشراء .
أى : أن الله - تعالى - وهو المالك لكل شئ ، قد اشترى من المجاهدين أنسهم وأموالهم التى بذلوها فى سبيله ، وأعطاهم فى مقابل ذلك الجنة .
قال أبو السعود : الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين فى الجهاد . . وقد بلوغ فى ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبّر عن قبول الله - تعالى - من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التى بذلوا فى سبيله - تعالى - وإثباته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية . ثم جعل المبيع الذى هو العمدة والمقصد فى العقد : أنفس المؤمنين وأموالهم ، والثمن الذى هو الوسيلة فى الصفقة : الجنة .(1/43)
ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ ليدل على أن المقصد فى العقد هو الجنة ، وما بله المؤمنون فى مقابلتها من الأنفس والأمول وسيلة إليها ، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأوالهم .
ثم إن لم يقل " بالجنة " بل قل : { بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مبالغة فى تقرير وصول الثمن إليهم " واختصاصه بهم " فكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } جملة مستأنفة جئ بها لبيان الوسيلة التى توصلهم إلى الجنة وهى القتال فى سبيل الله .
أى : أنهم يقاتلون فى سبيل الله ، فمنهم من يقتل أعداء الله ، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء ، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة .
وقرأ حمزة والكسائى " فيقتلون ويقتلون " بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل .
وهذه القراءة فيها إشارة إلا أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة من القتل؛ لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وإلى الحياة الباقية الدائمة . .
وقوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن } تأكيد للثمن الذى وعدهم الله به .
أى : أن هذه الجنة التى هى جزاء المجاهدين ، قد جعلها - سبحانه - تفضلا منه وكرما ، حقا لهم عليه ، وأثبت لهم ذلك فى الكتب السماوية التى أنزلها على رسله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : " وعدا عليه " مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله " حقا " نعت له ، وقوله " عليه " فى موضع الحال من قوله " حقا " لتقدمه عليه ، وقوله : { فِي التوراة والإنجيل والقرآن } متعلق بمذحوف وقع نعتا لقوله " وعدا " أيضاً .(1/44)
أى : وعدا مثبتاً فى التوراة والإِنجيل كما هو مثبت فى القرآن فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف . إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم فى القرآن . ثم إن ما فى الكتابين إما أن يكون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك ، أو أن من جاهد بنفسه وماله . من حقه ذلك ، وفى كلا الأمرين ثبوت موافق لما فى القرآن . .
وقوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد وتقريره : والاستفهام للنفى .
أى : لا أحد أوفى بعهده من الله - تعالى - لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم ، فكيف يكون الحال من جانب الخالق - عز وجل - المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال .
وقوله : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } تحريض على القتال ، وإعلام لهم بأنهم رابحون فى هذه الصفقة .
والاستبشار : الشعور بفرح البشرى ، شعورا تنبسط له أسارير الوجه .
أى : إذا كان الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذى بايعتم به غاية الفرح ، وارضوا به نهاية الرضى ، فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذى لا فوز أعظم منه .
قال بعض العلماء : ولا ترى ترغيبا فى الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه فى صورة عقد عقده رب العزة ، وثمنه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المقعود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضاً لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا فى الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .(1/45)
وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية ، حيث صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثباة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء وأتى بقوله : " يقاتلون " . . بيانا لمكان التسليم وهو المعركة وإليه الإِشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - " الجنة تحت ظلال السيوف " ، ثم أمضاه بقوله { وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .
ويروى عن الحسن البصرى أنه قرأ هذه الآية فقال : انظروا إلى كرم الله . تعالى . أنفس هو خالقها ، وأموال هو رازقها ، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها فى سبيله بالجنة .
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة فقال : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : ذكر الله - تعالى - فى هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين ، الستة الأولى منها تتعلق بمعاملة الخالق ، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والوصف التاسع يعم القبيلتين .
وقوله : { التائبون } فيه وجوه من الأعراب منها : أنه مرفوع على المدح . فهو خبر لمبتدأ محذوف وجوباً للمبالغة فى المدح أى : المؤمنون المذكورون التائبون ، ومنها أن الخبر هنا محذوف ، أى : التائبون المصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة . .(1/46)
والمعنى : " التائبون " عن المعاصى وعن كل ما نهت عنه شريعة الله ، " العابِدون " لخالقهم عبادة خالصة ولجهه ، " الحامدون " له - سبحانه - فى السراء والضراء ، وفى المنشط والمكره ، وفى العسر واليسر ، " السائحون " فى الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله . والعمل على مرضاته { الراكعون الساجدون } لله - تعالى - عن طريق الصلاة التى هى عماد الدين وركنه الركين " الآمرون " غيرهم " بالمعروف " أى : بكل ما حسنه الشرع " والناهون " له " عن المنكر " الذى تأباه الشرائع والعقول السليمة ، { والحافظون لِحُدُودِ الله } أى : لشرائعهم وفرائضه وأحكامه وآدابه . . هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، بشرهم . يا محمد . بكل ما يسعدهم ويشرح صدورهم ، فهم المؤمنون حقاً ، وهم الذين أعد الله - تعالى - لهم الأجر الجزيل ، والرزق الكريم .
ولم يذكر - سبحانه - المبشر به فى قوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } ، للاشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به الوصف ، ولا تحده العيارة .
ولم يذكر - سبحانه - فى الآية لهذه الأوصاف متعلقاً ، فلم يقل " التائبون " من كذا ، لفهم ذلك من المقام ، لأن المقام فى مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله ، تعالى . فصاروا ملتزمين طاعته فى كل أقوالهم وأعمالهم .
وعبر عن كثرة صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله . { الراكعون الساجدون } للاشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس . وإنما عطف النهى عن المنكر على الأمر بالمعروف للإِيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما فى الغالب ، أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل ، والنهى عن المنكر طلب ترك أو كف .(1/47)
وكذلك جاء قوله . { والحافظون لِحُدُودِ الله } بحرف العطف ومما قالوه فى تعليل ذلك . أن سر العطف هنا التنبيه على أن ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفاً ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله بالإِجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه .
هذا ، وما ذركناه من أن المراد بقوله : " السائحون " أى : السائرون فى الأرض للتدير والاعتبار والتفكر فى خلق الله ، والعمل على مرضاته .
. هذا الذى ذكرناه رأى لبعض العلماء . ومنهم من يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم : المجاهدون .
قال الآلوسى : وقوله : " السائحون " أى الصائمون . فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين . وجاء عن عائشة : " سياحة هذه الأمة الصيام " .
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ، وليس فى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سياحة إلا الهجرة .
وعن عكرمة أنهم طلبة العمل ، لأنهم يسيحون فى الأرض لطلبه .
وقيل : هم المجاهدون فى سبيل الله ، لما أخرج الحاكم وصححه والطبرانى وغيرهما ، " عن أبى أمامة أن رجلا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى السياحة فقال : إن سياحة أمتى الجهاد فى سبيل الله " . والذى نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون فى الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم . كتحصيل العلم ، والجهادفى سبيل الله ، والتدبر فى ملكوته - سبحانه - والتفكر فى سنته فى كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب .
ولعل ما يؤيد ذلك أن لفظ " السائحون " معناه السائرون ، لأنه مأخذو من السيح وهو الجرى على وجه الأرض ، والذهاب فيها . وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر .(1/48)
وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حملا للفظ على ظاهره ، ما دام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيته وظاهره .
أما الأحاديث والآثار التى اشتشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث .
قال صاحب المنار : وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مروفوعاً وموقوفاً حديث : " السائحون هم الصائمون " لا يصح رفعه . .
وفضلا عن كل هذا ، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون فى الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم . . . يتناول الجهاد فى سبيل ، كما يتناول الرحلة فى طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير .
وما أكثر الآيات القرآنية التى حضت على السير فى الأرض ، وعلى التكفر فى خلق الله ، ومن ذلك قوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } وقوله تعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } قال الإِمام الرازى : للسياحة أثر عظيم فى تكميل النفس لأن الإِنسان يلقى الأكابر من الناس ، يفتخر نفسه فى مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتقع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله . تعالى . فى كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته . وبالجلمة فالسياحة لها آثار قوية فى الدين
ثم بين - سبحانه - أنه لا يصح للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، لأن رابطة العقيدة هى الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال - تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ . . . . مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
*************
من الذين أنعم الله عليهم(1/49)
قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
أي: من عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.
ثم أثنى عليهم تعالى فقال: { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يَمْرَضُ إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه التي قبض فيه، فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } فعلمت أنه خُيِّر.
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم به .
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "اللهم في الرفيق الأعلى" ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم .
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة:
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان، ما لي
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 353)(1/50)
أراك محزونًا؟" قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: "ما هو؟" قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] } فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا.
قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ [فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ] } الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك -يعني هذه الآية-فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه" .(1/51)
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: "صفة الجنة"، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به. ثم قال: لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم.
وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري حدثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأنزل الله عز وجل [ { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وِالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } .(1/52)
وقد رواه ابن جرير، عن ابن حُمَيْد، عن جرير، عن عطاء، عن الشعبي، مرسلا . وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سَلْ". فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: "أو غَيْرَ ذلك؟" قلت: هو ذاك. قال: "فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه-ما لم يعق والديه" تفرد به أحمد .
قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم، حدثنا ابن لهيعة، عن زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله" .
وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن أبي حمزة، عن الحسن البصري، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".
ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري .
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: "المرء مع من(1/53)
وقال الإمام مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ولفظه لمسلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا فزارة، أخبرني فُلَيْح، عن هلال -يعني ابن علي-عن عطاء، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون -أو تَرون-الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات". قالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم.(1/54)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عُفَيْف بن سالم، عن أيوب بن عُتْبة عن عطاء، عن ابن عمر قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَلْ واسْتَفْهِمْ". فقال: يا رسول الله، فُضِّلتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنتَ به، وعملتُ مثلَ ما عملتَ به، إني لكائن معك في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام" قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته" ونزلت هذه الآيات { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } إلى قوله: { نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } [الإنسان: 1-20] فقال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم". فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر: لقد
فيه غرابة ونكارة، وسنده ضعيف .
ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } أي: من عند الله برحمته، هو الذي أهلهم لذلك، لا بأعمالهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } أي: هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
وفي الظلال (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 173)(1/55)
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب , فيه ذرة من خير ; وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة , في جوار الله الكريم . .
وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي . .
إنما هي من فضل الله . فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها . . إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم .
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة ; وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه . .
وهو صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم . فتنزل هذه الآية:فتندي هذا الوجد ; وتبل هذه اللهفة
الوجد النبيل . واللهفة الشفيفة: قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد , حدثنا يعقوب السقمي , عن جعفر بن أبى المغيرة , عن سعيد بن جبير . قال:جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون . فقال له النبى صلى الله عليه وسلم:" يا فلان . ما لي أراك محزونا ? " فقال:يا نبي الله . شيء فكرت فيه . فقال:" ما هو ? " قال:نحن نغدو عليك ونروح . ننظر إلى وجهك , ونجالسك . وغدا ترفع مع النبيين , فلا نصل إليك . . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا . فأتاه جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) . . الآية , فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره .(1/56)
وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعا - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله . إنك أحب إلي من نفسي , وأحب إلى من أهلي , وأحب إلي من ولدي . وإني لأكون في البيت , فأذكرك , فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتيوموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين , وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت:(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) . .
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد , عن الأوزاعي , عن يحيى بن كثير , عن أبى سلمة بن عبد الرحمن , عن ربيعة بن كعب الأسلمي , أنه قال:كنت أبيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي:" سل " . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال:" أو غير ذلك " . قلت:هو ذاك . قال:" فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم , فقال:" المرء مع من أحب " . .
قال أنس:فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث . .
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم . .
أمر الصحبة في الآخرة . .
وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا !
وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم . .
وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور . . .
وفي التفسير الوسيط (1) :
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 992)(1/57)
روى المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون . فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : يا فلان مالى أراك محزونا؟ فقال الرجل : يا نبى الله شئ فكرت فيه . فقال ما هو؟ قال : نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك . وغدا ترفع مع النبين فلا نصل إليك . فلم يرد النبى صلى الله عليه وسلم شيئا . فأتاه جبريل بهذه الآية . { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } " . الخ .
قال : فبعث إليه النبى صلى الله عليه وسلم فبشره .
والمعنى : { وَمَن يُطِعِ الله } بالانقياد لأمره ونهيه ، ويطع { والرسول } فى كل ما جاء به من ربه " فأولئك " المطيعون { مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } بالنعم التى تقصر العبارات عن تفصيلها وبيانها .
وقوله : { مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } بيان للمنعم عليهم الذين سيكون المطيع فى صحبتهم ورفقتهم .
أى : فأولئك المتصفون بتمام الطاعة لله - تعالى - ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، يكونون يوم القيامة فى صحبة الأنبياء الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين؛ فبلغوا رسالته ونالوا منه - سبحانه - أشرف المنازل .
وبدأ - سبحانه - بالنبيين لعلو درجاتهم ، وسمو منزلتهم على من عداهم من البشر .
وقوله { والصديقين } جمع صديق وهم الذين صدقوا بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا لا يخالجه شك ، ولا تحوم حوله ريبة ، وصدقوا فى دفاعهم عن عقيدتهم تمسكهم بها ، وسارعوا إلى ما يرضى الله بدون تردد أو تباطؤ .
وقوله { والشهدآء } جمع شهيد . وهم الذين استشهدوا فى سبيل الله ، ومن أجل إعلاء دينه وشريعته .
وقوله { والصالحين } جمع صالح . وهم الذين صلحت نفوسهم ، واستقامت قلوبهم وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم ونحو غيرهم .(1/58)
هؤلاء هم الأخيار الأطهار الذين يكون المطيعون لله ولرسوله فى رفقتهم وصحبتهم . قال الفخر الرازى : " وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النببين والصديقين . . كون الكل فى درجة واحدة ، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول . وأنه لا يجوز . بل المراد كونهم فى الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا : وإذا أرادوا الزيارة والتلاقى قدروا عليه . فهذا هو المراد من هذه المعية .
ثم قال : وقد دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة فى الفضل والعلم إلا هذا الوصف . وهو كون الإِنسان صديقا ولذا أينما ذكر فى القرآن الصديق والنبى لم يجعل بينهما واسطة كما قال - تعالى - فى صفة إدريس { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } وقوله - تعالى { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب فى العمل الصالح الذى يوصل المسلم إلى صحبة هؤلاء الكرام .
وقوله { وَحَسُنَ } فعل مراد به المدح ملحق بنعم . ومضمن معنى التعجب من حسنهم .
واسم الإِشارة { أولئك } يعود إلى كل صنف من هذه الأصناف الأربعة وهم النبيون ومن بعدهم .
والرفيق : هو المصاحب الذى يلازمك فى عمل أو سفر أو غيرهما . وسمى رفيقا لأنك ترافقه ويرافقك ويستعين كل واحد منكما بصاحبه فى قضاء شئونه . وهو مشتق من الرفق بمعنى لين الجانب ، ولطف المعاشرة .
ولم يجمع ، لأن صيغة فعيل يستوى فيها الواحد وغيره .
والمعنى وحسن كلو احد من أولئك الأخيار - وهم الأنبياء ومن بعدهم - رفيقا ومصاحبا فى الجنة لأن رفقة كل واحد منهم تشرح الصدور ، وتبهج النفوس .
والمخصوص بالمدح محذوف أى : كل واحد من المذكورين رفيقا أو وحسن المذكورون أو الممدحون رفيقا ، لأن حسن لها حكم نعم .
وقوله { أولئك } فاعل حسن . ورفيقا تمييز .(1/59)
قال صاحب الكشاف وقوله { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا . ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين .
واسم الإِشارة { ذلك } فى قوله { ذلك الفضل مِنَ الله } يعود إلى ما ثبت للمطيعين من أجر جزيل ، ومزيد هداية ، وحسن رفقة . وهو مبتدأ . وقوله { الفضل } صفته ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبره . أى : ذلك الفضل العظيم كائن من الله - تعالى - لامن غيره .
وقوله { وكفى بالله عَلِيماً } تذييل قصد به الإِشارة إلى أن أولئك الأخيار . الذين قدموا أحسن الأعمال ، واستحقوا أفضل الجزاء ، وإن لم يعلمهم الناس فإن الله - تعالى - يعلمهم ، وقد كافأهم بما يستحقون .
أى : كفى به - سبحانه - عليما بمن يستحق فضله وعطاءه وبمن لا يستحق ، فهو - سبحانه - ما دام يعلم أحوال عباده وسيحاسبهم على أعمالهم ، فجدير بالعاقل أن يرغب فى الطاعة وأن ينفر من المعصية .
هذا ، وقد وردت أحاديث كثيرة تشير إلى أن المؤمنين الصادقين سيكونون يوم القيامة مع أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإِمام مسلم فى صحيح " عن ربيعة بن كعب الأسلمى أنه قال . كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لى . ( سل ) . فقلت أسألك مرافقتك فى الجنة . فقال أو غير ذلك؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعنى على نفسك بكثرة السجود " .
ومنها ما رواه الإِمام عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألف آية فى سبيل الله ، كتب يوم القيامة مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " .
ومنها ما رواه الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " .(1/60)
قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ، ما ثبت فى الصحيح والمساند وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال " المرء مع من أحب " " .
قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المطيعين لله ولرسوله بأحسن البشارات ، وأرفع الدرجات .
***************
شراء الآخرة بالدنيا
قال تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (74) سورة النساء
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
ثم قال تعالى: { فَلْيُقَاتِلْ } أي: المؤمن النافر { فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي: يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم.
ثم قال تعالى: { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: كل من قاتل في سبيل الله -سواء قتل أو غَلَب وسَلَب-فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله، إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.
وفي الظلال (2):
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ; ولا للاستيلاء على السكان . . لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات , والأسواق للمنتجات ; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 358)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 181)(1/61)
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة , ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج , وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله , بقصد إعلاء كلمة الله , وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . .
يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله , بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب ; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . .
من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ; في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ; ومن يغلب في سبيل الله أيضا:
ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم , في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل , وما ترجوه من الغنيمة كذلك !
فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ?
وأين غنيمة المال من فضل الله ?
وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ?!(1/62)
وفي التفسير الوسيط (1):
الفاء فى قوله { فَلْيُقَاتِلْ } للإِفصاح عن جواب شرط مقدر . أى إن أبطأ هؤلاء المنافقون والذين فى قلوبهم مرض وتأخروا عن الجهاد والقتال ، فليقاتل المؤمنون الصادقون الذين { يَشْرُونَ } أى يبيعون الحياة الدنيا بكل متعها وشهواتها من أجل الحصول على رضا الله - تعالى - فى الآخرة .
وقوله { فِي سَبِيلِ الله } تنبيه إلى أن هذا النوع من القتال هو المعتد به عند الله - تعالى - ، لأن المؤمن الصادق لا يقاتل من أجل فخر أو مغنم أو اغتصاب حق غيره ، وإنما يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
وقوله { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } بيان للثواب العظيم الذى أعده الله - تعالى - للمجاهدين .
أى : ومن يقاتل فى سبيل الله ومن أجل علاء دينه ، فيستشهد ، أو يكون له النصر على عدوه ، فسوف نؤتيه أجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا الله تعالى . . . وإنما اقتصر - سبحانه على بيان حالتين بالنسبة للمقاتل وهى حالة الاستشهاد وحالة الغلبة على العدو ، للإِشعار بأن المجاهد الصادق لا يبغى من جهاده إلا هاتين الحالتين ، فهو قد وطن نفسه حالة جهاده على الاستشهاد أو على الاتصال على أعداء الله ، ومتى وطن نفسه على ذلك فى قتاله ، وأخلص فى جهاده .
وقدم - سبحانه - القتل على الغلب؛ للإِيذان بأن حرص المجاهد المخلص على الاستشهاد فى سبيل الله ، أشد من حرصه على الغلب والنصر .
والتعبير بسوف فى قوله { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } لتأكيد الحصول على الأجر العظيم فى المستقبل .
والجملة جواب الشرط وهو قوله { وَمَن يُقَاتِلْ } وقوله { فَيُقْتَلْ } تفريع على فعل الشرط .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 999)(1/63)
ونكر - سبحانه - الأجر ووصفه بالعظم ، للإِشعار بأنه أجر لا يحده تعيين ، ولا يبينه تعريف ، ولا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - .
**************
التجارة الرابحة
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (13) سورة الصف سورة الصف
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنزل الله هذه السورة، ومن جملتها هذا الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال: { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 112)(1/64)
ثم قال: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي: إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، والدرجات العاليات؛ ولهذا قال: { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
ثم قال: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي: { نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي: إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد : 7] وقال تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج : 40] وقوله { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي: عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
وفي الظلال (1):
يبدأ بالنداء باسم الإيمان: يا أيها الذين آمنوا . .
يليه الاستفهام الموحي . فالله - سبحانه - هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ?) . .
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة ? وهنا تنتهي هذه الآية , وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق . ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع: (تؤمنون بالله ورسوله) . .
وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم ! (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 7 / ص 198)(1/65)
وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة , يجيء في هذا الأسلوب , ويكرر هذا التكرار , ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار , وهذا التنويع , وهذه الموحيات , لتنهض بهذا التكليف الشاق , الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . .
ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) . .
فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل هذا الخير في آية تالية مستقلة , لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه , ويقره في الحس ويمكن له: (يغفر لكم ذنوبكم) . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء ? أو يدخر في سبيلها شيئا ?
ولكن فضل الله ليست له حدود: (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن) . .
وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة - حتى حين يفقد هذه الحياة كلها - ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقا . . (ذلك الفوز العظيم)
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة . فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق . فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض , ومتاع محدود في هذه الحياة الدنيا , فيكسب به خلودا لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله , ومتاعا غير مقطوع ولا ممنوع ?(1/66)
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - ليلة العقبة . قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشترط لربك ولنفسك ما شئت" . فقال صلى الله عليه وسلم:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا , وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " قالوا:" ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل" !
ولكن فضل الله عظيم . وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض , يناسب تركيبها البشري المحدود . وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض , وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل:(وأخرى تحبونها:نصر من الله وفتح قريب . وبشر المؤمنين) . .
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله . الله الذي لا تنفد خزائنه , والذي لا ممسك لرحمته . فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة . وفوقها .
فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب . . فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد ?!
وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب . .
إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة ; ويعيش بقلبه في هذا التصور ; ويطلع على آفاقه وآماده ; ثم ينظر للحياة بغير إيمان , في حدودها الضيقة الصغيرة , وفي مستوياتها الهابطة الواطية , وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة . .
هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان , ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع , ليعيش فيه , وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك .
ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجرا خارجا عن ذاته . فهو ذاته أجر . .
هذا الجهاد . .(1/67)
وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح . ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان . ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان . فهو مدفوع دفعا إلى الجهاد . كائنا مصيره فيه ما يكون . .
ولكن الله - سبحانه - يعلم أن النفس تضعف , وأن الاندفاع يهبط , وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط . .
ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد ; ويعالجها ذلك العلاج , ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع , في شتى المناسبات . ولا يكلها إلى مجرد الإيمان , ولا إلى نداء واحد باسم هذا الإيمان .
وفي التفسير الوسيط (1):
هذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها ، كما سبق . أن ذكرنا فى سبب قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فكأنه - سبحانه - بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا ، تخالفه أفعالهم ، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى - عليهما السلام - وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان .
بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه - سبحانه - فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ } .
والتجارة فى الأصل معناها : التصرف فى رأس المال ، وتقليبه فى وجوه المعاملات المختلفة ، طلبا للربح .
والمراد بها هنا : العقيدة السليمة ، والأعمال الصالحة ، التى فسرت بها بعد ذلك فى قوله - تعالى - { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { هَلْ أَدُلُّكمْ } للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 4190)(1/68)
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن أدلكم على تجارة رابحة ، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها ، من عذاب شديد الأليم؟ إن كنتم تريدون ذلك ، فهاكم الطريق إليها ، وهى : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } .
فقوله - سبحانه - : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } استئناف مفسر وموضح لقوله { هَلْ أَدُلُّكمْ } ؟ فكأن سائلا قال : وما هذه التجارة؟ دلنا عليها ، فكان الجواب : تؤمنون بالله ورسوله .
أى : تداومون تامة على الإيمان بالله - تعالى - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتجاهدون فى سبيل إعلاء كلم الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم .
قالوا : وقوله { تُؤْمِنُونَ } خبر فى معنى الأمر ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله رسوله ، وجاهدوا فى سبيله .
وفائدة العدول إلى الخبر : الإشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه ، فكأنه - سبحانه - يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم .
وجاء التعبير بقوله : { هَلْ أَدُلُّكمْ } لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التى تحتاج إلى من يهدى إليها ، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله - تعالى - .
وتنكير لفظ التجارة ، للتهويل والتعظيم ، أى : هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن . . ؟
وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح ، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان فى أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم ، والسعى من أجل الحصول على المنافع .
وقدم - سبحانه - هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس ، لأن المقام قمام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد فى سبيل الله ، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال ، وهذه الأموال هى عصب الجهاد ، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التى لا غنى للمجاهدين عنها ، وفى الحديث الشريف " من جهز غازيا فقد غزا " .(1/69)
وقدم - سبحانه - فى قوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ . . } وقدم الأنفس على الأموال ، لأن الحديث هناك ، كان فى معرض الاستبدال والعرض والطلب ، والأخذ والعطاء . . . فقدم - سبحانه - الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإنسان ، وجعل فى مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب ، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس .
واسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد . أى : ذلكم الذى أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد فى سبيل الله ، هو خير لكم من كل شىء إن كنتم من أهل العلم والفهم .
فقوله { تَعْلَمُونَ } منزلة منزلة الفعل اللازم ، للإشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم ، ولا من أهل الإدراك .
وجعله بعضهم فعلا متعديا ، ومفعوله محذوف ، والتقدير : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه ، ولا تتقاعسوا عن ذلك .
وقوله - سبحانه - : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر ، أى : إن تمتثلوا أمره - تعالى - يغفر لكم ذنوبكم .
ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر فى قوله - تعالى - قبل ذلك { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } . لأنهما - كما قلنا - وإن جاءا بلفظ الخبر ، إلا أنهما فى معنى الأمر ، أى : آمنوا وجاهدوا .
أى : آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وجاهدوا فى سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم ، يغفر لكم - سبحانه - ذنوبكم ، بأن يزيلها عنكم ، ويسترها عليكم .
{ وَيُدْخِلْكُمْ } فضلا عن ذلك { جَنَّاتٍ } عاليات { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى : تجرى من تجت مساكنها وبساتيها الأنهار .
ويعطيكم { مَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أى : قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع .(1/70)
وخصت المساكن الطيبة بالذكر ، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم ، ومنهم من استشهد بعيدا عنها ، وفيها أهله وماله . . . فوعدهم - سبحانه - بما هو خير منها .
وقوله { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أى : هذه المساكن الطيبة كائنة فى جنات باقية خالدة ، لا تزول ولا تنتهى ، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة ، يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة . { ذَلِكَ الفوز العظيم } أى : ذلك الذى منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم ، ومن خلودكم فى الجنة . . . هو الفوز العظيم الذى لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه ظفر .
وقوله - سبحانه - : { وأخرى تُحِبُّونَهَا } بيان لنعمة أخرى يعطيهم - سبحانه - إياها ، سوى ما تقدم من نعم عظمى .
ولفظ " أخرى " مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم ، وقوله : { تُحِبُّونَهَا } صفة للمبتدأ .
أى : ولكم - فضلا عن كل ما تقدم - نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها .
وهذه النعمة هى : { نَصْرٌ } عظيم كائن { مِّن الله } - تعالى - لكم { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أى : عاجل { وَبَشِّرِ المؤمنين } أى : وبشر - أيها الرسول الكريم - المؤمنين بذلك ، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا .
ويدخل فى هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا : فتح مكة ، ودخول الناس فى دين الله أفواجا
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم ، الراجعة إلى الإخبار بالغيب ، حيث أخبر - سبحانه - بالنصر والفتح ، فتم ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، فى أكمل صورة ، وأقرب زمن
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين ، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
*****************
من قتل في سبيل الله فهو حي (1)
قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154) سورة البقرة(1/71)
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث: "عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له".
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45] . وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى . والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله.
وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله. قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] .
وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 446)(1/72)
وقوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة،
فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نقتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب جلّ جلاله: إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون" .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".
ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما .
وفي الظلال (1):
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله , والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق , هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم:أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور , ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر , وحسبما ترى العين . ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 114)(1/73)
إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد . وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع . . وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة , والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد , وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها , وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار , وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به: (أحياء ولكن لا تشعرون) . .
لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى , ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم , ولا يتعاظمها الأمر , ولا يهولنها عظم الفداء .ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله , مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
في صحيح مسلم:" إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغون ? فقالوا:يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " . .(1/74)
وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا , وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد , ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات , لما يرى من الكرامة " . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ? إنهم أولئك الذين يقتلون (في سبيل الله) . . في سبيل الله وحده , دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . .
في هذا السبيل وحده , لا في أي سبيل آخر , ولا تحت أي شعار آخر , ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث , حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة , ويقاتل حمية , ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال:يا رسول الله:رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ? فقال:" لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول:" لا أجر له " . [ أخرجه أبو داود ] .(1/75)
وعنه - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده , ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم , لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم , ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل , ثم اغزو فأقتل , ثم اغزو فأقتل " [ أخرجه مالك والشيخان ] .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله , لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله , وإيمان به , وتصديق برسله .
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد:عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه [ وكان مولى من أهل فارس ] قال:[ شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا . فضربت رجلا من المشركين , فقلت:خذها وأنا الغلام الفارسي . فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" هلا قلت:وأنا الغلام الأنصاري ? إن ابن أخت القوم منهم , وإن مولى القوم منهم " ] [ أخرجه أبو داود ] .
فقد كره له صلى الله عليه وسلم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم , وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين . .
وهذا هو الجهاد . وفيه وحده تكون الشهادة , وتكون الحياة للشهداء .
وفي التفسير الوسيط (1) :
نهى - سبحانه - المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتاً فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 241)(1/76)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت هذه الآية في قتلى غزوة بدر ، قتل من المسلمين فيها أربعة عشر ؤجلا : ست من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان الناس يقولون . مات فلان ومات فلان . فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم : إنهم ماتوا .
وقيل إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة ، فنزلت هذه الآية
والسبيل : الطريق وسبيل الله : طريق مرضاته ، وإنما قيل للجهاد سبيل الله ، لأنه طريق إلى ثواب الله وإعلاء كلمته . و { أَمْوَاتٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : لا تقربوا هم أموات وكذلك قوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أي : هم أحياء .
قال الآلوسي : " والجملة معطوفة على { وَلاَ تَقُولُواْ } اضراب عنه ، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل قولوا أحياء ، لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضاً صحيحاً " .
أي : لا تقربوا أيها المؤمنون لمن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه إنهم أموات ، بمعنى أنهم تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت ، بل هم أحياء - في عالم غير عالمكم كما قال - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } وقوله : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر ، لأنها من شئون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي .(1/77)
قال الآلوسي ما ملخصه : ثم إن نهى المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات ، إما أن يكون دفعاً لإِيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ . . . وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولن يروه أبداً . . . ثم قال : وقد اختلف في هذه الحياة التي يحياها أولئك الشهداء عند ربهم : فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنها لا ندركها في هذه النشأة واستدلوا بسياق قوله - تعالى - : { عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون } وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم . وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون ولا ينافي ذلك . . وذهب البلخي إلى نفي الحياة عنهم وقال؛ معنى { بَلْ أَحْيَاءٌ } إنهم يحبون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء . فالآية على حد قوله - تعالى - { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بسبب ما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل ، كما روى عن علي أنه قال : " هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة " .
ثم قال : " ولا يخفى أن هذه الأقوال - ما عدا الأولين - في غاية الضعف ، بل نهاية البطلان ، والمشهور ترجيح القول الأول " .(1/78)
والذي نراه أن الآية الكريمة قد نبهتنا إلى أن للشهداء مزية تجعلهم مفضلين عمن سواهم من كثير من الناس ، وهي أنهم في حياة سارة ، ونعيم مقيم عند ربهم ، وهه الحياة الممتازة تسمو بهم عن أن يقال فيهم كما يقال في غيرهم إنهم أموات وإن كان المعنى اللغوي لللموت حاصلا لهم ، ونحن نؤمن بهذه الحياة السارة لهم عند ربهم ونعتقد صحتها كما ذكرها الله - تعالى - إلا أننا نفوض كيفيتها وكنهها إليه - سبحانه - إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحي ، كما قال - تعالى - : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : لا تشعرون بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا ، لأنها حياة من نوع معين لا يعلمها إلا علام الغيوب .
****************
من قتل في سبيل الله فهو حي (2)
قال تعالى :{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)} سورة آل عمران(1/79)
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عُمَر بن يونس، عن عِكْرِمة، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين أو سبعين. وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري، فخرج أولئك النَّفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتَوْا غارا مُشْرِفا على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ هذا الماء؟ فقال -أرَاه ابن ملْحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخَرَج حتى أتى حيا [منهم] فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر مَعُونة، إني رسولُ رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رَجُل من كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر. فقال: الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة. فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن الطفيل. وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك: أن الله [تعالى] أنزل فيهم قرآنا: بَلِّغُوا عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زَمَنًا وأنزل الله: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 161)(1/80)
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمَشُ، عن عبد الله بن مُرَّةَ، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".انفرد به مسلم من طريق حماد.(1/81)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان، عَن محمد بن علي بن رَبيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أما عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ".انفرد به أحمد من هذا الوجه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه-قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال: سمعت جابرا قال: لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَبْكِهِ -أو: مَا تَبْكِيهِ -ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: لما قتلَ أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي... وذكر تمامة بنحوه .(1/82)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ،وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ" فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها".هكذا رواه [الإمام] أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن إسماعيل بن عَيَّاش عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس فذكره، وهذا أثبت . وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.(1/83)
حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويَه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "يا جابر، مَا لِي أراك مُهْتَما؟" قال: قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك دَينا وعيالا. قال: فقال: "ألا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا -قال علي: الكفَاح: المواجهة -فَقَالَ: سَلْني أعْطكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أيْ رَبِّ: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ اللهُ [عَزَّ وجَلَّ] { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } الآية .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني، به .(1/84)
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري، وهو عيسى بن عبد الرحمن، إن شاء الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: "يَا جَابِرُ، ألا أُبَشِّرُكَ؟ قال: بلى. بشّرك الله بالخير. قال شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ: يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ مَعَ نَبِيَّكَ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [لا] يَرْجعُ" .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعَبَدة عن محمد بن إسحاق، به. وهو إسناد جيد
وكان الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم.(1/85)
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة؛ فإن الإمام أحمد، رحمه الله، رواه عن [الإمام] محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" .
قوله: "يعلق" أي: يأكل .
وفي هذا الحديث: "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ".
وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان.
وقوله: { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ] } أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله، وهم فَرحون مما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمد بن إسحاق { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي: ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.(1/86)
[و] قال السدي: يُؤتى الشهيد بكتاب فيه: "يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ" .
وقال سعيد بن جبير: لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا للقتال باشروها بأنفسهم، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربهم-[أني] قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستَبْشروا بذلك، فذلك قوله: { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من الأنصار، الذين قتلوا في غداة واحدة، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم، يدعو عليهم ويَلْعَنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا" .
ثم قال: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } قال محمد بن إسحاق: استبشروا وسُرّوا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم.(1/87)
وقوله: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم "حمراء الأسد"، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه -لما سنذكره-فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [عز وجل] ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد -أو: بئر أبي عيينة -الشك من سفيان-فقال المشركون: نرجع من قابل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله عز وجل: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره .(1/88)
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال: يا بَنَيّ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلّف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان شَهد أحدا قال: شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، قلتُ لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها، وما منّا إلا جريح ثَقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون .(1/89)
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] } قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، رضي الله عنهما، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: "مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ؟" فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما.
هكذا رواه البخاري منفردا به، بهذا السياق. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم، عن العباس الدوري، عن أبي النضر، عن أبى سعيد المؤدب، عن هشام بن عروة، به، ثم قال: صحيح ولم يخرجاه. كذا قال .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن البَهِيّ، عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا بُني، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
وروى ابن ماجة، عن هشام بن عمّار، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان، به .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه. حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه، أنبأنا سَمويه، أنبأنا عبد الله بن الزبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ كَانَ أبَواك لَمن الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ: أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما" .(1/90)
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده، لمخالفته رواية الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه، ومن جهة معناه، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، [حدثني] عَمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا، وَقَدْ رَجَعَ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ". وكانت وقعةُ أحد في شوال، وكان التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس لينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين، وقال: "إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ". فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: "إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ". لأحضض الناس، فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر،وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله [عز وجل] { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] } .(1/91)
ثم قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. وقد مَر به -كما حدثني عبد الله بن أبي بكر-معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي، وكانت خُزاعة -مسلمهم ومشركهم-عيبة نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة، صَفْقَتُهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم.. لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك. ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل -قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك. ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي ... إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل ...
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة ... عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً ... لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول ...
فقلتُ: ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ ... إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً ... لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول ...(1/92)
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة ... وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل ...
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من بني عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ المدينة. قال: ولم؟ قالوا:
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ" .
وقال الحسن البصري [في قوله { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [الرُّعْبَ] فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ؟" فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعُمَر، وعثمان، وعلي، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال: ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا، وأنني راجع إليهم. فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه الآية.
وهكذا قال عِكْرِمة، وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن [غزوة] حَمْراء الأسد"، وقيل: نزلت في بَدْر الموعد، والصحيح الأول.(1/93)
وقوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] } أي: الذين توعدهم الناس [بالجموع] وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك، بل توكلوا على الله واستعانوا به { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبي حَصين، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وقد رواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله، كلاهما عن يحيى بن أبي بُكَير، عن أبي بكر -وهو ابن عياش-به. والعجب أن الحاكم [أبا عبد الله] رواه من حديث أحمد بن يونس، به، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ثم رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم، عليه السلام، حين ألقي في النار: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } .
وقال عبد الرزاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشَّعْبِي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان. رواه ابن جرير.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري، أنبأنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فأنزل الله هذه الآية .(1/94)
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي، عن أبيه، عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال ابن مَرْدُويه: حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد، أخبرنا الحسن بن سفيان، أنبأنا أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد، أنبأنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" .هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بَقِيَّة، حدثنا بَحِير بن سَعْد، عن خالد بن مَعْدان، عن سيف، عن عوف بن مالك أنه حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ". فقال: "ما قلتَ؟". قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير، عن خالد، عن سَيْف -وهو الشامي، ولم ينسب -عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه .(1/95)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا مُطَرِّف، عن عَطية، عن ابن عباس [في قوله: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [المدثر: 8 ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ". فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: فما نقول ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا".
وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيد وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب [بنت جحش] رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا فقالت زينب: زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب، ثم قالت: كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين .
ولهذا قال تعالى: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } مما أضمر لهم عدوهم { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن نُعَيم، حدثنا بِشْر بن الحكم، حدثنا مُبشِّر بن عبد الله بن رَزِين، حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } قال: النعمة أنهم سلمُوا، والفضل أن عيرا مرت، وكان في أيام الموسم، فاشتراها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.(1/96)
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } قال: [هذا] أبو سفيان، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: موعدكم بدر، حيثُ قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: "عَسَى". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعِده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا (8) فذلك قول الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] } قال: وهي غزوة بدر الصغرى.
رواه ابن جرير. وروى [أيضا] عن القاسم، عن الحُسَين، عن حجاج، عن ابن جُرَيج قال: لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرْعَبُوهم فيقول المؤمنون: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، قال: رَجُل من المشركين فأخبر أهل مَكَّة بخيل محمد، وقال في ذلك :
نَفَرَتْ قَلُوصِي من خُيول محمد ... وَعَجْوَةٍ منْثُورةٍ كالعُنْجُدِ ...
واتَّخَذَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
ثم قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو: قَد نَفَرَتْ من رفْقَتي محمد ... وَعَجْوَة مِنْ يَثْربٍ كَالعُنْجُد ...
تَهْوى عَلَى دين أبِيها الأتْلَد ... قَدْ جَعَلَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي ...
وَمَاء ضَجْنَان لَهَا ضُحَى الغَد(1/97)
ثم قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، قال الله تعالى: { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [أي: ف] إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجؤوا إلي، فأنا كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } إلى قوله: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر:36-38] وقال تعالى: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء:76] وقال تعالى: { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة:19] وقال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21] وقال [تعالى] { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } [الحج:40] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ] } [محمد:7] وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ . يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر:51 ، 52].
وفي الظلال (1):
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل , وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: (لو أطاعونا ما قتلوا) فقال يتحداهم: قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 497)(1/98)
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء:الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى , مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء , لهم كل خصائص الأحياء . فهم "يرزقون" عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . .
فهذه خصائص الأحياء:من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ? وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث , فوق ما نالهم من فضل الله , وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ? وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ? والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ? ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين , الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ?
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها , وهي موصولة لا تنقطع ; فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر , ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين , واستقبالهم للحياة والموت , وتصورهم لما هنا وما هناك .
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) . .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله , وفارقوا هذه الحياة , وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم "أحياء" . . "عند ربهم" . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات , وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم "يرزقون" . .(1/99)
ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء , إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . .
إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة , وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ; وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ; وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا , يقتلون , وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها , ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم: قتلوا في سبيل الله ; وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ; واتصلت أرواحهم بالله , فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك , فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق , أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك , ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده , وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . .
ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:
(فرحين بما آتاهم الله من فضله) . .
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح ; لأنهم يدركون أنه "من فضله" عليهم . فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله . فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه ?
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم ; وهم مستبشرون لهم ; لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . (يستبشرون بنعمة من الله وفضل , وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) .
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) ولم تنقطع بهم صلاتهم . إنهم "أحياء" كذلك معهم , مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة . موضع استبشارهم لهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .(1/100)
وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم "عند ربهم" ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل , ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين . وأنه لا يضيع أجر المؤمنين . .
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله ? - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ? وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس , عن هذه الرحلة إلى جوار الله , مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة !
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم , وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها , بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة , كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض , لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة , ومن حياة إلى حياة !
ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين , سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة - في سبيل الله - وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن "المؤمنين" الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم , فيعين من هم ; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا . وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء , واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) . .(1/101)
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة , ومرارة الهزيمة , وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا , فقل عددهم , فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح) , ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومى ء إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .(1/102)
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . .
حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -: (الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:(1/103)
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي , فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو , قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ? - والله ما لنا من دابة نركبها , وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه , فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال , فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال , أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو , وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة , في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا , وترضى به وحده وتكتفي , وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة , وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس: (حسبنا الله , ونعم الوكيل) . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه , المكتفي به , المتجردين له:
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) .(1/104)
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
(بنعمة من الله وفضل) . .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع , فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله , لأن هذا هو الأصل الكبير , الذي يرجع إليه كل فضل , وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
(والله ذو فضل عظيم) . .
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد , وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله , صورتهم هذه , وموقفهم هذا , وهي صورة رفيعة , وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف , فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة , التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . .
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش , وأيقظ القلوب , وثبت الأقدام , وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب , وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان , وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء , ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر , الذي ينبغي أن يخاف:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) .(1/105)
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه , ويلبسهم لباس القوة والقدرة , ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول , وأنهم يملكون النفع والضر . .
ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه , وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد , وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب , فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم , ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل , وأن يتضخم الشر , وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا , لا تقف في وجهه معارضة , ولا يصمد له مدافع , ولا يغلبه من المعارضين غالب . .
الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة , وفي ظل الإرهاب والبطش , يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وينشرون الفساد والباطل والضلال , ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل , ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم , ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له , وجلاء الحق الذي يطمسونه .
والشيطان ماكر خادع غادر , يختفي وراء أوليائه , وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . .
ومن هنا يكشفه الله , ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته , ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه , ويستند إلى قوته . .
إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله , وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . .
لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
(فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين) . .(1/106)
وفي التفسير الوسيط (1):
قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان أن القتل فى سبيل الله الذى يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر ، بل هو أجل المطالب وأسناها ، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر ، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه . ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه .
فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة ، وتحريض للمؤمنين على القتال ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هى أن الاستشهاد فى سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء .
والخطاب فى قوله " ولا تحسبن " للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .
والحسبان : الظن ، والنهى بلا هنا منصب على هذا الظن ، أى أنهاكم عن أن تظنوا أنهم أموات ، ونون التوكيد فى قوله " ولا تحسبن " لتأكيد هذا النهى .
أى : لا تحسبن أيها الرسول الكريم ، أو أيها المؤمن أن الذين قتلوا فى سبيل الله ، من أجل إعلان كلمته ، لا تحسبنهم أمواتا لا يحسون شيئاً ولا يتلذون ولا يتنعمون ، بل هم أحياء عند ربهم ، يرزقون رز الأحياء ، ويتنعمون بألوان النعم التى أسبغها الله عليهم ، جزاء إخلاصهم وجهادهم وبذلهم أنفسهم فى سبيل الله .
وقوله { الذين } مفعول أول لقوله : { تَحْسَبَنَّ } وقوله { أَمْوَاتاً } مفعوله الثانى وقوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى بل هم أحياء .
وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } يصح أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو ظرفا له لأن المعنى : يحيون عند ربهم .
والمراد بالعندية هنا المجاز عن القرب والإكرام والتشريف ، أى هم أحياء مقربون عنده ، فقد خصهم بالمنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، وليس المراد بها القرب المكانى لاستحالة ذلك فى حق الله - تعالى - .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 798)(1/107)
وقوله { يُرْزَقُونَ } صفة لقوله { أَحْيَاءٌ } أو حال من الضمير فيه أى يحيون مرزوقين .
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تصرح بأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت فى شهداء أحد ، ويدخل فى حكمهم كل شهيد فى سبيل الله ، ومن هذه الأحدايث ما أرخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا يزهدوا فى الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله - تعالى - : " أنا أبلغهم عنكم . قال : فأنزل الله هؤلاء الآيات { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . إلخ الآيات " .
وأخرج الترمذى وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا جابر مالى أراك منكساً مهتما "؟ قلت يا رسول الله استشهد أبى - فى أحد - وترك عيالا وعليه دين . فقال : ألا أبشرك بما لقى الله - عز وجل - به أباك؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً - أى مواجهة ليس بينهما حجاب - وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب ، فقال له يا عبدى تمن أعطك . قال يا رب فردنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال الرب - تعالى - إنه قد سبق منى أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائى فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . الآية " .(1/108)
قال القرطبى - بعد أن ساق هذين الحديثين وغيرهما - ما ملخصه : " فقد أخبر الله - تعالى - فى هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء فى الجنة يرزقون . والذى عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققه . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح فى قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذبون . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم فى حكم الله مستحقون للتنعم فى الجنة . وقال آخرون أرواحهم فى أجواف طير خضر وأنهم يزرقون فى الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس - الذى سقناه قبل قليل - نص يرفع الخلاف " .
والذى تطمئن إليه النفس : أن الآية الكريمة تنبه على أن للشهداء مزية خاصة تجعلهم يفضلون الموتى المعروفين لدى الناس ، وهى أنهم فى حياة سارة ، ونعيم لذيذ ، ورزق حسن عند ربهم . وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم : أموات ، وإن كان المعنى اللغوى للموت - بمعنى مفارقة الروح للجسد فى ظاهر الأمر - حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى .
إلا أن الحياة البرزخية التى أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله - تعالى - ولا ندرك حقيقتها ، إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى ، فقد قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى ولكن لا تحسون وال تدركون حال هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله بمشاعركم وحواسكم ، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعمل بها إلا بالوحى .
ثم بين - سبحانه - ما هم فيه من مسرة وحبور فقال : { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أى فرحين فرحا عظيما بعد انتقالهم من الدنيا ، بما أعطاهم الله ف حياتهم الجديدة من ضروب النعم المتعددة التى من بينها الثواب العظيم ، والنعيم الدائم ، والسعادة التى ليس بعدها سعادة .(1/109)
وقوله { فَرِحِينَ } يصح أن يكون حالا من الضمير فى { يُرْزَقُونَ } أو من الضمير فى " أحياء " وقوله { مِن فَضْلِهِ } متعلق بأتاهم .
و { مِن } يصح أن تكون للسببية أى الذى آتاهم متسبب عن فضله . أو لابتداء الغاية وقوله { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون . أو هو حال من الضمير فى { فَرِحِينَ } بتقدير وهم يستبشرون . . .
وأصل الاستبشار : طلب البشارة وهو الخبر السار الذى تظهر آثاره على البشرة إلا أن المراد هنا السرور استعمالا للفظ فى لازم معناه .
أى : أن هؤلاء الشهداء فرحين بما آتاهم الله من فضله من شرف الشهادة ، ومن الفوز برضا الله ، ويسرون بما تبين لهم من حسن مآل إخوانهم الذين تركوهم من خلفهم على قيد الحياة ، لأن الأحياء عندما يموتون شهداء مثلهم سينالون رضا الله وكرامته ، وسيظفرون بتلك الحياة الأبدية الكريمة كما ظفروا هم بها . فالمراد لم يلحقوا بهم من خلفهم : رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم فى الدنيا ولم يظفروا بالشهادة بعد ، لأنهم ما زالوا على قيد الحياة .
وفى هذا دلالة على أن أرواح هؤلاء الشهداء قد منحها الله - تعالى - من الكشف والصفاء ما جعلها تطلع على ما يسرها من أحوال الذين يهمهم شأنهم فى الدنيا .
وقيل : إن معنى { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم .
وقوله { مِّنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بمحذوف حال من فاعل { يَلْحَقُواْ } أى لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد فى الدنيا . أو متعلق بقوله { يَلْحَقُواْ } ذاته على معنى أنهم قد يقوا بعدهم وهؤلاء الشهداء قد تقدموهم .
وقوله { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل اشتمال من قوله { الذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم .(1/110)
والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال الذين تركوهم من خلفهم فى الدنيا من رفقائهم المجاهدين ، وهو أنهم لا خوف عليهم فى المستقبل ولا هم يحزنون على ما تركوه فى الدنيا ، بل هم سيكونون آمنين مطمئنين بعد فراقهم للدنيا وعندما يبعثون يوم القيامة .
ونفى عنهم الخوف والحزن ، لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل فى المستقبل .
والحزن يكون بسبب فوات المنافع إلتى كانت موجودة فى الماضى . فبين - سبحانه - أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا .
وقوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } استئناف مبين لما هم عليه من سرور يتعلق بذواتهم . بعد أن بين - سبحانه - سرورهم بحال الذين لم يلحقوا بهم .
والمعنى أن هؤلاء الشهداء يستبشرون بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم . كما أنهم يستبشرون ايضاً لأنفسهم بسبب ما أنعم الله به عليهم من نعم جزيلة وبسبب ما تفضل به عليهم من زيادة الكرامة ، وسمو المنزلة .
وهذا يدل على أن هؤلاء الشهداء لا يهتمون بشأن أنفسهم فقط . وإنما يهتمون أيضا بأحوال إخوانهم الذين تركوهم فى الدنيا ، وفى ذلك ما فيه من صفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم ، حيث أحبوا الخير لغيرهم كما أحبوه لأنفسهم ، بل إن تقديم استبشارهم بحال إخوانهم على استبشارهم بما يتعلق بأنفسهم ليشعر بأن اهتمامهم بحال إخوانهم أشد من اهتمامهم بحال أنفسهم .
ويرى بعضهم أن الضمير فى قوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ } يعود على الذين لم يلحقوا بهم فتكون جملة { يَسْتَبْشِرُونَ } حالا من الذين لم يلحقوا بهم . وعليه يكون المعنى : أن هؤلاء الذين لم يلحقوا بهم لا خوف عليهم ولا حزن ، فهم مستبشرون بنعمة من الله وفضل . . . " .(1/111)
وقوله { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } معطوف { نِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } ، وهذا على قراءة الجمهور بفتح همزة أن على معنى وبأن .
وقرأ الكسائى " وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، بكسر همزة إن على الاستئناف والمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مؤمن يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن الهوى ، ويجاهد فى سبيل إعلاء كلمة الله فإن الله - تعالى - لا يضيع شيئا من أجره ، بل يعطيه من الجزاء الحسن - بفضله وإحسانه - أكثر مما يستحق .
ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .
أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .
وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .
فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .(1/112)
وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .
وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .
ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .
وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .
قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
ثم مدحهم - سبحانه - على ثباتهم وشجاعتهم وحسن اعتمادهم على خالقهم - عز وجل - ، بعد أن مدحهم قبل ذلك على حسن استجابتهم لله ولرسوله فقال - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل }(1/113)
قال الفخر الرازى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة فى أعقاب غزوة أحد نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت . فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر : قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله .
فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له أن يرجع . فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له : يا نعيم : إنى وعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر . وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن . وقد بدا لى أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل .
فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأى .
أتوكم فى دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد .
فوقع هذا الكلام فى قلوب قوم منهم . فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال " والذى نفسى بيده لأخرجن إليهم ولو وحدى " .
ثم خرج صلى الله عليه وسلم فى جمع من أصحابه ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهى ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين .
ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً . وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين .
أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران . . .
وقيل إن الذين قابلهم أبو سفيان عند خروجه من مكة جماعة من بنى عبد القيس ، وقد قال لهم ما قاله لنعيم بن مسعود عندما أزمع العودة إلى مكة بعد أن قذف الله الرعب فى قلبه من لقاء المسلمين .(1/114)
وعلى أية حال ففى سبب نزول هذه الآية والتى قبلها أقوال أخرى للمفسرين اكتفينا بما ذكرناه خشية الإطالة .
وقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من قوله { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } أو صفة له . أو فى محل نصب على المدح أى مدح الذين قال لهم الناس . . . الخ .
والمراد فى الموصول فى الآيتين طائفة واحدة من المؤمنين وهم الذين لم تمنعهم الجراح عن الخروج للقتال ، ولم يرهبهم قول من قال لهم بعد ذلك إن الناس قد جمعوا لكم .
والمراد من الناس الأول وهو قوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قيل " الناس " إن كان نعيم هو المثبتط وحده؟ قلت : قيل ذلك؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه .
والمراد من الناس الثانى وهو قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أبو سفيان ومن معه . فأل فيهما للعهد ، والناس الثانى غير الأول .
وقوله - تعالى - حكاية عن هؤلاء المثبطين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أى إن أعداءكم المشركين قد جمعوا لكم جموعا كثيرة ليستأصلوكم ، فاخشوهم ولا تخرجوا لقتالهم .
وحذف مفعول { جَمَعُواْ } فلم يقل : جمعوا جيشا كبيرا أو جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم وذلك ليذهب الخيال كل مذهب فى مقدار ما جمعوا من رجال وسلاح وأموال ، ولمن هذا القول الذى صدر من هؤلاء المثبطين ، لم يلتفت إليه المؤمنون الصادقون المخلصون فى جهادهم وفى اعتمادهم على خالقهم ، بل كانوا كما أخبر الله تعالى - عنهم { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .(1/115)
أى أن هذا القول الذى قاله المثبطون ، زاد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعلهم يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان : { حَسْبُنَا الله } أى كافينا الله أمر أعدائنا { وَنِعْمَ الوكيل } أى نعم النصير خالقنا - عز وجل - فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا .
وقولهم هذا يدل دلالة واحضة على قوة إيمانهم ، وشدة ثقتهم فى نصر الله - تعالى - لهم ، مهما كثر عدد أعدائهم ، ومهما تعددت مظاهر قوتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم ، وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج . ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر : قلنا يا رسول الله : إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال : " نعم . يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار " . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزداد إيمانا . وعنه : " لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به " .
وقال ابن كثير : روى البخارى عن ابن عباس : قال : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى به فى النار . وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " .
وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " " .(1/116)
ثم حكى - سبحانه - ما تم لهؤلاء المجاهدين الذين خرجوا للقاء أعدائهم من عاقبة حسنة وعود حميد فقال - تعالى - : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
فالفاء فى قوله { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } للتعقيب ، وهى معطوفة على مقدر دل عليه السياق
ومعنى { انقلبوا } عادوا ورجعوا .
والنعمة : هى العطاء الذى ينفع صاحبه . والفضل : الزيادة فى العطاء والنعمة .
والمعنى : أن هؤلاء المجاهدين الصادقين خرجوا للقاء أعدائهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة فلم يجدوهم ، فرجعوا إلى ديارهم مصحوبين { بِنِعْمَةٍ } عظيمة { مِّنَ الله } - تعالى - ، إذ خذل أعداءهم ، وسملهم من شرورهم ، ومصحوبين بفضل جليل منه - سبحانه - حيث أغدق عليهم ربحا وفيرا فى تجارتهم ، وأجراً جزيلا بسبب قوة إيمانهم ، وإخلاصهم فى دينهم .
قال الآلوسى : " روى البيهقى عن ابن عباس أن عيراً مرت فى أيام الموسم - أى موسم بدر - فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل " .
وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى غزوة بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم ، فأصابوا تجارة - فربحوا بها "
وقوله { بِنِعْمَةٍ } فى موضع الحال من الضمير { فانقلبوا } فتكون الباء للملابسة أو للمصاحبة فكأنه قيل : فانقلبوا متلبسين بنعمة أو مصاحبين لها .
وقوله { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف صفة لنعمة ، وهو مؤكد لفخامتها وأنها نعمة جزيلة لا يقدر قدرها .
وقوله { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أى لم يصبهم أى أذى أو مكروه عند خروجهم وعودتهم .
والجملة فى موضع الحال من فاعل { انقلبوا } أى رجعوا منعمين مبرئين من السوء والأذى .
وقوله { واتبعوا رِضْوَانَ الله } معطوف على قوله { فانقلبوا } .(1/117)
أى اتبعوا ما يرضى الله ويوصلهم إلى مثوبته ورحمته ، باستجابتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم وخروجهم للقاء أعدائهم بإيمان عميق ، وعزم وثيق .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أخبر عن هؤلاء المجاهدين المخلصين أنهم قد صحبهم فى عودتهم أمور أربعة :
أولها : النعمة العظيمة .
وثانيهما : الفضل الجزيل .
وثالثها : السلامة من السوء .
ورابعها : اتباع رضوان الله .
وهذا كله قد منحه الله لهم جزاء إخلاصهم وثباتهم على الحق الذى آمنوا به .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
أى والله - تعالى - صاحب الفضل العظيم الذى لا يحده حصر ، ولا يحصيه عد ، هو الذى تفضل على هؤلاء المؤمنين الصادقين بما تفضل به نم عطاء كريم ، وثواب جزيل .
وفى هذا التذيل زيادة تبشير للمؤمنين برعاية الله لهم ، وزيادة تحسير للمتخلفين عن الجهاد فى سبيله - عز وجل - ، حيث حرموا أنفسهم مما فاز به المؤمنون الصادقون .
ثم أمر الله - تعالى - عباده المؤمنين أن يجعلوا خشيتهم وخوفهم منه وحده ، فقال - تعالى - : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
فالخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين ، والإشارة بذلك إلى المثبط بالذات أو بالواسطة .
وقوله { إِنَّمَا } أداة حصر ، و { ذلكم } مبتدأ و { الشيطان } خبره ، وقوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } جملة مستأنفة مبينة لشيطنته .
وقيل إن { ذلكم } مبتدأ أول ، و { الشيطان } مبتدأ ثان . وقوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } خبر للمبتدأ الثانى . وهو وخبره خبر للمبتدأ الأول .
والمراد بالشيطان إبليس لأنه علم بالغلبة عليه ولأنه هو الذى يخوف بالوسوسة . وقيل المراد به أتباعه الذين دسهم لكى يرهبوا المؤمنين من الكافرين وهم جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود المجاشعى .(1/118)
إنما ذلكم المثبط لكم عن لقاء أعدائكم هو الشيطان ، الذى يوسوس فى قلوبكم بالشر بذاته ، أو بواسطة أتباعه الضالين ، ومن شأن المؤمنين الصادقين أنهم لا يتأثرون بهذه الوساوس الكاذبة ، وإنما الذين يتأثرون بها هم ضعاف الإيمان .
وقوله { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أى يخوف أولياءه المنافقين وضعفاء الإيمان ليقعدوا عن مقاتلة المشركين . أما أنتم أيها المؤمنون الصادقون فإنكم لن يقعدكم تخويفه ، لأن هذا التخويف لا أثر له فى قلب من آمن بالله حق الإيمان ، واتقاه حق تقاته .
وقيل إن معنى { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يخوفكم بأوليائه فحذف المفعول وحذف الجار . كما فى قوله : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى فإذا خفت عليه فرعون . فحذف المفعول . وكما فى قوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } أى لينذركم يوم التلاقى .
وقيل إن المعنى : يخوفكم أولياءه فحذف المفعول الأول كما تقول : أعطيت الأموال ، أى أعطيت القوم الأموال .
وقوله { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أى فلا تخافوا أولياء الشيطان ، بل اجعلوا خوفكم منى وحدى ، إن كنتم مؤمنين حقا .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة تشجيعهم ، وتقويتهم ، وإلهاب شعورهمن إذ الإيمان الحق يستلزم الخوف من الله دون سواه .
والمراد بالنهى عن الخوف وهو أمر نفسى : النهى عن أسبابه التى من أهمها حب الدنيا وكراهية الموت أى خذوا بأسباب القوة التى من أهمها التمسك بتقوى الله فإن ذلك يزيل الخوف من قلوبكم .(1/119)
وفى المقابلة بين النهى عن الخوف من أولياء الشيطان ، وبين الأمر بأن يكون خوفهم من الله وحده ، فى هذه المقابلة إرشاد إلى العلاج الذى يزيل الخوف والفزع من نفوسهم . لأن الذى يجعل خشيته وخوفه من الله وحده لن يستطيع الشيطان أو أولياؤه أن يبعدوه عن الطريق القويم وصدق الله إذ يقول : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وبذلك ترى أن الآيات الكريمة قد رفعت منازل الشهداء إلى أعلى الدرجات ، وصرحت بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون . كما أثنت ثناء مستطابا على الذين لبوا دعوة رسولهم صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الجهاد فى سبيل الله ، ولم يمنعهم عن إجابة دعوته ما بهم من جراح ، أو ما قاله لهم المرجفون من أقوال باطلة ، فرضى الله عنهم وأرضاهم .
*****************
الحشر إلى الله تعالى :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) سورة آل عمران
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 147)(1/120)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي الحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم. فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي: عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي: سافروا للتجارة ونحوها { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي: في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي: في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } أي: ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو.
وقوله: { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم ثم قال تعالى ردا عليهم: { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.
وقوله: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله، والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعَفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.
ثم أخبر بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله، عز وجل، فيجزيه بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر فقال: { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ }
وفي الظلال (1):
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة , أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة , والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ; ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 473)(1/121)
وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد , مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم , واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات , ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها , للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها:سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله , متعرف إلى مشيئة الله , مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له , وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع , ولا يتلقى السراء بالزهو , ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ; ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا , أو ليستجلب كذا , بعد وقوع الأمر وانتهائه !
فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة , كله قبل الإقدام والحركة ; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج , فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ; موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ; وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ; ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . .
توازن بين العمل والتسليم , وبين الإيجابية والتوكل , يستقيم عليه الخطو , ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة , فهو أبدا مستطار , أبدا في قلق ! أبدا في "لو" و "لولا" و "يا ليت" و "وا أسفاه" !(1/122)
والله - في تربيته للجماعة المسلمة , وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات , كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق , أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد:
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون , ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية , بسبب انقطاعهم عن الله , وعن قدره الجاري في الحياة .
(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا , أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . .
إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل , يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل , ونداء المضجع , وقدر الله , وسنته في الموت والحياة , ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين , ولفاءوا إلى الله راضين: (والله يحيي ويميت) . .
فبيده إعطاء الحياة , وبيده استرداد ما أعطى , في الموعد المضروب والأجل المرسوم , سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم , أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء , وعنده العروض , عن خبرة وعن علم وعن بصر:
(والله بما تعملون بصير . .) . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ; فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى , واعتبارات أرقى في ميزان الله:
(ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) . .(1/123)
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد , وبهذا الاعتبار - خير من الحياة , وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار:من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته , وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية , ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله , ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق , وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .
وكلهم مرجوعون إلى الله , محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض , أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ; وما لهم مصير سوى هذا المصير . .
والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . .
أما النهاية فواحدة:موت أو قتل في الموعد المحتوم , والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . .
ومغفرة من الله ورحمة , أو غضب من الله وعذاب . .
فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال !
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة , وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ; وإلى ما وراء القدر من حكمة , وما وراء الابتلاء من جزاء . .
وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة , وفيما صاحبها من ملابسات .
وفي التفسير الوسيط (1) :
المراد بالذين كفروا المنافقون كعبد الله بن أبى بن سلول وأشباهه من المنافقين الذين سبق للقرآن أن حكى عنهم أنهم قالوا : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وإنما ذكرهم بصفة الكفر للتصريح بمباينة حالهم لحال المؤمنين وللتنفير عن مماثلتهم ومسايرتهم . وقيل المراد بهم جميع الكفار .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 778)(1/124)
والمراد بإخوانهم : إخوانهم فى الكفر والنفاق والمذهب أو فى النسب وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أى سافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا . وأصل الضرب : إيقاع شىء على شىء ثم استعمل فى السير ، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل ، ثم صار حقيقة فيه .
وقوله : { غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم .
والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا بفزع وجزع من أجل إخوانهم الذين فقدوهم بسبب سفرهم للتجارة أو بسبب غزوهم فى سبيل الله .
قالوا على سبيل التفجع : لو كان هؤلاء الذين ماتوا فى السفر أو الغزو مقيمين معنا ، أو ملازمين بيوتهم ، ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا فيها لبقوا أحياء ولما ماتوا أو قتلوا .
وقولهم هذا يدل على جبنهم وعجزهم ، كما يدل على ضعف عقولهم وعدم إيمانهم بقضاء الله وقدره ، إذ لو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذى يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء .
وقولهم هذا بجانب ذلك يدل على سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، لأنهم قصدوا به تثبيط عزائم المجاهدين عن الجهاد ، وعن السعى فى الأرض من أجل طلب الرزق الذى أحله الله .
والنهى فى قوله - تعالى { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يشعر بالتفاوت الشديد بين المقامين : مقام الإيمان ومقام الكفران ، وأنه لا يليق بالمؤمن أن ينحدر إلى المنحدر الدون وهو التشبه بالكافرين ، بعد أن رفعه الله بالإيمان إلى أعلى عليين ، وفى هذا تقبيح للمنهى عنه بأبلغ وجه وبأدق تصوير .(1/125)
واللام فى قوله { لإِخْوَانِهِمْ } يرى صاحب الكشاف أنها للتعليل فقد قال : قوله : { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أى لأجل إخوانهم ، كقوله - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ويجوز أن تكون اللام للدلالة على موضع الخطاب ، ويكون المعنى : لا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء الذين كفروا وقالوا لإخوانهم الأحياء : لو كان أولئك الذين فقدناهم ملازمين لبيوتهم ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا لما أصابهم ما أصابهم من الموت أو القتل .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل إن قوله { قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } يدل على الماضى ، وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب من وجوه :
أولها : أن قوله { قَالُواْ } تقديره : يقولون ، فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا .
وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضى للتأكيد وللإشعار بأن جدهم فى تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد ينظر لى هذا المستقبل كالكائن الواقع .
وثانيها : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية . والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا فى الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك فلا بد أن يقول : قالوا .
وثالثها : قال " قطرب " كلمة " إذ " و " وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وهو حسن لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى " .
وقوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } معطوف على { ضَرَبُواْ فِي الأرض } من عطف الخاص بعد العام ، اعتناء به لأن الغزو هو المقصود فى هذا المقام وما قبله توطئة له .(1/126)
قالوا : على أنه قد يوجد الغزو بدون الضرب فى الأرض بناء على أن المراد بالضرب فى الأرض السفر البعيد ، فيكون على هذا بين الضرب فى الأرض وبين الغزو خصوص وعموم من وجه .
وإنما لم يقل أو غزوا : للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة ، أو لا نقضاء ذلك ، أى كانوا غزاة فيما مضى .
وقوله { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فى محل نصب مقول القول .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على أقوالهم من عواقب سيئة فقال : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .
والحسرة - كما يقول الراغب - هى غم الإنسان على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أى انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " .
فالحسرة هى الهم المضنى الذى يلقى على النفس الحزن المستمر والألم الشديد ، واللام فى قوله { لِيَجْعَلَ } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وهى متعلقة بقالوا أى قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التى يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون فى طريق الجهاد الذى كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذى وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة فى قلوبهم والغم فى نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال فى عقولهم .(1/127)
قال صاحب الكشاف : فإن قتل ما متعلق ليجعل؟ قلت : قالوا . أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم على أن اللام مثلها فى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أو لا تكونوا بمعنى : لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعلى إلى الله؟ قلت : معناه أن الله - تعالى - عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة فى قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة لهم . كما قال - تعالى - { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى ، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثهلم حسرة فى قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم " .
والجعل هنا بمعنى التصيير ، وقوله { حَسْرَةً } مفعول ثان له ، وقوله ، { فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بيجعل
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها ، لإرادة التمكن ، والإيذان بعدم الزوال .
وقوله { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } رد على قولهم الباطل أثر بيان سوء عاقبته وحض للمؤمنين على الجهاد فى سبيل الله وترغيب لهم فى العمل الصالح ، أى أن الأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود فى البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد فى سبيل الله أو للسعى فى طلب الرزق لا ينقصها وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يسارع إلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وأن يسعى فى الأرض ذات الطول والعرض ليأكل من رزق الله وأن يباشر الأسباب التى شرعها الله بدون عجز أو كسل وليعلم أن الله مطلع على أعمال الناس وأقوالهم وسيجازيهم عليها يوم القيامة بما يستحقون من خير أو شر .(1/128)
ثم رد الله - تعالى - على أولئك الكافرين برد آخر ، فيه تثبيت للمؤمنين ، وترغيب لهم فى الجهاد فقال : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } أيها المؤمنون وأنتم تجاهدون { فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } على فراشكم بدون قتل بعد أن أديتم رسالتكم فى الحياة على أكمل وجه ، وأطعتم ربكم فيما أمركم به أو نهاكم عنه لنلتم مغفرة من الله - تعالى - لذنوبكم ولظفرتم برحمته الواسعة التى تسعدكم .
وقوله { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أى خير مما يجمعه الكفرة من متع الدنيا وشهواتها الزائلة بخلاف مغفرة الله ورحمته فإنهما باقيتان ولا كدر معهما ولا تعب ولا قلق . واللام فى قوله { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } موطئة للقسم ، أى : والله لئن قتلتم فى سبيل الله أو متم .
وقوله { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ } جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه .
ثم بين - سبحانه - أن مصير العباد جميعا إليه وحده فقال .{ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } .
أى ولئن متم - أيها المؤمنون - وأنتم فى بيوتكم أو فى أى مكان ، أو قتلتم بأيديى أعدائكم وأنتم تجاهدون فى سبيل الله ، فعلى أى وجه من الوجوه كان انقضاء حياتكم فإنكم إلى الله وحده جميعا تعودون وتحشرون فيجازيكم على أعمالكم .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على أبلغ ألوان الترغيب فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنها قد بينت أن الحياة والموت بيد الله وحده وأنه سبحانه قد يكتب الحياة للمسافر والغازى مع اقتحامها لموارد الحتوف ، وقد يميت المقيم والقاعد فى بيته مع حيازته لأسباب السلامة .
وأن الذين يموتون على الإيمان الحق ، أو يقتلون وهم يجاهدون فى سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا .
وأن جميع الخلق مؤمنمهم وكافرهم سيعودون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم يوم الدين .(1/129)
قال الفخر الرازى : واعلم أن فى قوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } دقائق :
أحداها : أنه لم يقل : تحشرون إلى الله ، بل قال : لإلى الله تحشرون ، وهذا يفيد الحصر ، وهذا يدل على أنه لا حاكم فى ذلك اليوم ولا نافع ولا ضار إلا هو .
وثانيهما : أنه ذكر من أسمائه هذا الاسم ، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة . وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد .
وثالثها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } فعل لم يسم فاعله ، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما ما يقع التصريح به لأنه - تعالى - هو العظيم الكبير الذى شهدت العقول بأنه هو الذى يبدىء ويعيد ، ومنه الإنشاء والإعادة فترك التصريح فى مثل هذا الموضع أدل على العظمة .
ورابعها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العاملين ، يحشرون إلى الله فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل ، والله - تعالى - هو الذى يتولى الحكم بينهم .
*****************
الشهادة في سبيل الله من قدر الله :
قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168)} سورة آل عمران
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 158)(1/130)
يقول تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } وهي ما أصيب منهم يوم أُحد من قتل السبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } يعني: يوم بَدْر، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } أي: من أين جرى علينا هذا؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }
قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا قُرَاد أبو نوح، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سِمَاك الحنفي أبو زُميل، حدثني ابن عباس، حدثني عُمَر بن الخطاب قال: لما كان يومُ أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفِدَاء، فقتل منهم سبعون وفَرَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وكُسرت رَبَاعِيتُه وهُشمَت البَيْضَة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عز وجل: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } بأخذكم الفداء.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غَزْوان، وهو قُرَاد أبو نوح، بإسناده ولكن بأطول منه، وكذا قال الحسن البصري.(1/131)
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة عن ابن عوْن، عن محمد عن عَبيدة(ح) قال سُنَيد -وهو حسين-: وحدثني حجاج عن جَرير، عن محمد، عن عَبيدة، عن علي، رضي الله عنه، قال: جاء جبريل، عليه السلام، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله قد كَرِه ما صنع قومُك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين، إما أن يُقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقْتَل منهم عدّتهم. قال: فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، ألا نأخذ فداءهم فَنتَقوّى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدّتهم، فليس في ذلك ما نكره؟ قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي داود الحَفْري، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سفيان بن سعيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، به. ثم قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشَام نحوه. وروى عن ابن سِيرِين عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .
وقال محمد بن إسحاق، وابن جريج، والربيع بن أنس، والسديِّ: { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } أي: بسبب عصيانكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مُعَقبَ لحكمه .
ثم قال تعالى:{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } أي: فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك. [وقوله] { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.(1/132)
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } يعني [بذلك] أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق، فاتبعهم من اتبعهم من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة؛ ولهذا قال: { أَوِ ادْفَعُوا } قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، وأبو صالح، والحسن، والسُّدِّي: يعني كَثروا سواد المسلمين. وقال الحسن بن صالح: ادفعوا بالدعاء. وقال غيره: رابطوا. فتعلَّلوا قائلين: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } قال مجاهد: يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالا.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كُلهم قد حدث قال: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني حين خرج إلى أحد-في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/133)
قال الله تعالى: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ } استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب [إلى] الإيمان؛ لقوله: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ }
ثم قال: { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني: أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة، يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، أنه كائن بينهم قتال لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .
وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أي: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: إن كان القُعود يَسْلَم به الشخص من القتل والموت، فينبغي، أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مُشَيّدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد، عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول.
وفي الظلال (1):
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه , حملة رايته , وأصحاب عقيدته . . ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ; وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم ; وباستكمال العدة التي في طاقتهم , وببذل الجهد الذي في وسعهم . . فهذه سنة الله . وسنة الله لا تحابي أحدا . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 492)(1/134)
فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور , فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير . فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وأبطال الناموس . فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن , ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس . .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك , ولا يضيع هباء . فإن استسلامهم لله , وحملهم لرايته , وعزمهم على طاعته , والتزام منهجه . .
من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب , تزيد في نقاء العقيدة , وتمحيص القلوب , وتطهير الصفوف ; وتؤهل للنصر الموعود ; وتنتهي بالخير والبركة
ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته . بل تمدهم بزاد الطريق . مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة ; وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ; ويكشف عن السبب القريب من أفعالها ; كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - يواجه المنافقين بحقيقة الموت , التي لا يعصم منها حذر ولا قعود:
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير) . .
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا ; والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير ; والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم , وهم المسلمون , وهم يجاهدون في سبيل الله , وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله . .(1/135)
المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة , كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها:أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش . وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة , حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم . وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين !
ويذكرهم الله هذا كله , وهو يرد على دهشتهم المتسائلة , فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب:
(قل:هو من عند أنفسكم) . .
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر . وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس . وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة . . فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم , وتقولون:كيف هذا ? هو من عند أنفسكم , بانطباق سنة الله عليكم , حين عرضتم أنفسكم لها . فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه , مسلما كان أو مشركا , ولا تنخرق محاباة له , فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء !
(إن الله على كل شيء قدير) . .
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته , وأن يحكم ناموسه , وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته , وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث .
ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها . وقدر الله دائما من وراء كل أمر يحدث , ومن وراء كل حركة وكل نأمة , وكل انبثاقة في هذا الكون كله: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله . . .) . .
لم يقع مصادفة ولا جزافا , ولم يقع عبثا ولا سدى . فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون ; ومقدر لها علتها ونتائجها ; وهي في مجموعها - ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي - تحقق الحكمة الكامنة وراءها ; وتكمل "التصميم" النهائي للكون في مجموعة !(1/136)
إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية , ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية . .
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية . .
وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة . وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها . . والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء - ومن بينها الإنسان - والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة , وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره , فتنطبق عليه , وتؤثر فيه . .
ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر الله ومشيئته ; ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره . . وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل , ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره . فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس . ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها , كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة , ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة . .
كلا . ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي . .
فالإنسان ليس ندا لله , ولا عدوا له كذلك . والله - سبحانه - حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض , لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته - سبحانه - لا مناهضا لمشيئته , ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير . . ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر ; وأن يتحرك ويؤثر ; وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه ; وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم , وراحة وتعب , وسعادة وشقاوة . . وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته , قدر الله المحيط بكل شيء , في تناسق وتوازن . .(1/137)
وهذا الذي وقع في غزوة أحد , مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل . فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة . فخالفوا هم عن سنته وشرطه , فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له . . ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد , فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف , وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور , ومن ضعف أو قصور . .
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين - من واء الألم والضر - وقد نالوه وفق سنة الله كذلك . فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه , يعينهم الله ويرعاهم , ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي - ولو ذاقوا مغبتها من الألم - لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد .
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم , بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة , وهم يواجهون قدر الله , ويتعاملون مع سنته في الحياة ; وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده , وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء , وأن خطأهم وصوابهم - وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم - متساوق مع قدر الله وحكمته , وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله
وليعلم المؤمنين , وليعلم الذين نافقوا , وقيل لهم:تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا , قالوا:لو نعلم قتالا لاتبعناكم . هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان . يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . والله أعلم بما يكتمون) . .
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول , وممن معه , ويسميهم:"الذين نافقوا" . .(1/138)
وقد كشفهم الله في هذه الموقعة , وميز الصف الإسلامي منهم . وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) . . وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين . فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر , وإنما هم: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) . . فقد كان في قلوبهم النفاق , الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة , وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها . فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم , وجعل الرياسة لدين الله , ولحامل هذا الدين ! . .
فهذا الذي كان في قلوبهم , والذي جعلهم يرجعون يوم أحد , والمشركون على أبواب المدينة , وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام , وهو يقول لهم: (تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا ! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية: (والله أعلم بما يكتمون) . .
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس:
(الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا) . .
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس , وبخاصة أن عبد الله بن أبي , كان ما يزال سيدا في قومه , ولم يكشف لهم نفاقه بعد , ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة , وهم يقولون: (لو أطاعونا ما قتلوا) . .(1/139)
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة , ويجعلون من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه مغرما ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله , ولحتمية الأجل , ولحقيقة الموت والحياة , وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع , الذي يرد كيدهم من ناحية , ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: (قل:فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) . .
فالموت يصيب المجاهد والقاعد , والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . .
وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم , فيرد كيدهم اللئيم , ويقر الحق في نصابه , ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة , تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . .
فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ; وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ; وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها . . ثم يشير هذه الإشارة إلى "الذين نافقوا" . وفعلتهم وتصرفهم بعدها , وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح , وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة , وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم , ووزن الأعمال والأشخاص , ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح , بذلك الحس الإيماني الصحيح . .(1/140)
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم , وبلبلة في الأفكار , كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . .
فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ; وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ; وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح:"الذين نافقوا" والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة:
(ألم تر إلى الذين نافقوا ?) , وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه , ليبقى نكره في:"الذين نافقوا" كما يستحق من يفعل فعلته , وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . .
ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .
وفي التفسير الوسيط (1) :
قوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } الخ مستأنف مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة ، إثر إبطال بعض آخر تقدم الحديث عنه من فوائد غزوة أحد أنها كشفت عن قوة الإيمان من ضعيفه ، ميزت الخبيث من الطيب .
وإذا كان انتصار المسلمين فى بدر جعل كثيراً من المنافقين يدخلون فى الإسلام طمعا فى الغنائم . . فإن عدم انتصارهم فى أحد قد أظهر المنافقين على حقيقتهم ، ويسر للمؤمنين معرفتهم والحذر منهم .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 792)(1/141)
والهمزة فى قوله { أَوَ لَمَّا } للاستفهام الإنكارى التعجيبي . و " الواو " للعطف على محذوف و " لما " ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة فى الشرط . والمصيبة : أصلها فى اللغة الرمية التى تصيب الهدف ولا تخطئه ، ثم أطلقت على ما يصيب الإنسان فى نفسه أو أهله أو ما له أو غير ذلك من مضار . وقوله { مِّثْلَيْهَا } أى ضعفها ، فإن مثل الشىء ما يساويه . ومثليه ضعفه
والمعنى : أفعلتم ما فعلتم من أخطاء ، وحين أصابكم من المشركين يوم أحد نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك فى بدر تعجبتم وقلتم { أنى هذا } أى من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل فى سبيل الله ، وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداؤنا الذين قتلوا منا من قتلوا مشركون يقاتلون فى سبيل الطاغوت .
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على ما قالوه لأنه ما كان ينبغى أن يصدر عنهم . إذ هم قد قتلوا من المشركين فى بدر سبعين من صناديدهم واسروا منهم قريبا من هذا العدد وفى أحد كذلك كان لهم النصر فى أول المعركة على المشركين ، وقتلوا منهم قريبا من عشرين إلا أنهم حين خالفوا وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى الغنائم منع الله عنهم نصره ، فقتل المشركون منهم قريبا من سبعين .
وقوله { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } فى محل رفع صفة " لمصيبة " . وفائدة هذا القول التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على حال واحدة ، وإن من شأن الحرب أن تكون سجالا ، إلا أن العاقبة جعلها الله للمتقين .
وقوله { قُلْتُمْ أنى هذا } هو موضع التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، لأن قولهم هذا يدل على أنهم لم يحسنوا وضع الأمور فى نصابها حيث ظنوا أن النصر لا بد أن يكون حليفهم حتى ولو خالفوا أمر قائدهم ورسولهم - صلى الله عليه وسلم - ولذا فقد رد الله - تعالى - عليهم بما من شأنه أن يعيد إليهم صوابهم وبما يعرفهم السبب الحقيقى فى هزيمتهم فقال :
{ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } .(1/142)
أى قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما قالوا : إن ما أصابكم فى أحد سببه أنتم لا غيركم .
فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبى صلى الله عليه وسلم أشار عليكم بالبقاء فيها . وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التى حددها لكم وأمركم بالثبات فيها . وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة ، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ساعة الشدة والعسرة لهذه المخالفات التى نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم فى أحد ، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول التى لا يليق بالعقلاء ، إذ العاقل هو الذى يحاسب نفسه عندما يفاجئه المكروه ويعمل على تدارك أخطائه ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر مستفيدا بماضيه ومتعظا بما حدث له فيه .
وما أحوج الناس فى كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس فإن كثيرا منهم يقصرون فى حق الله وفى حق أنفسهم وفى حق غيرهم ، ولا يباشرون الأسباب التى شرعها الله للوصول إلى النصر . . بل يبنون حياتهم على الغرور والإهمال ، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم فى القضاء والقدر ، أو فى غيرهم من الناس ، أو شدهوا لهول ما أصابهم - بسبب تقصيرهم - ثم قالوا : أنى هذا؟ وما دروا لجهلهم وغرورهم - أن الله - تعالى - قد جعل لكل شىء سببا . فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله - تعالى - من عونه ورعايته .(1/143)
ولقد أكد - سبحانه قدرته على كل شىء فقال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أى إن الله تعالى - قدرته فوق كل شىء فهو القدير على نصركم وعلى خذلانكم وبما أنكم قد خالفتم نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد حرمكم الله نصره ، وقرر لكم الخذلان ، حتى تعتبروا ولا تعودوا إلى ما حدث من بعضكم فى غزوة أحد ، ولتذكروا دائما قوله - تعالى - { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ثم أكد - سبحانه - عموم قدرته وإراته فقال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } .
أى : وما أصابكم - أيها المؤمنون - من قتل وجراح وآلام يوم التقى جمعكم وجمع أعدائكم فى أحد ، { فَبِإِذْنِ الله } أى فبإرادته وعلمه ، إذ ما من شىء يقع فى هذا الكون إلا بتقدير الله وعلمه ، فعليكم أن تستسلموا لإرادة الله ، وأن تعودوا إلى أنفسكم فتهذبوها وتروضوها على تقوى الله وطاعته ، حتى تكونوا أهلا لنصرته وعونه .
و " ما " موصولة بمعنى الذى فى محل رفع بالابتداء ، وجملة { أَصَابَكُمْ } صلة الموصولة ، وقوله { فَبِإِذْنِ الله } هو الخبر . ودخلت الفاء فى الخبر لشبه المبتدأ بالشرط . وقوله { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } بيان لبعض الحكم التى من أجلها حدث ما حدث فى غزوة أحد .
والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرر فى الخارج لما قدره - سبحانه - فى الأزل أى أراد الله أن يحدث ما حدث فى غزوة أحد ليظهر للناس ويميز لهم المؤمنين من غيرهم .
وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } حكمة ثانية لما حدث فى غزوة أحد ليعلم - سبحانه - المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرا .(1/144)
إذ أن نصر المسملين فى بدر فتح الطريق أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإسلام . وعدم انتصارهم فى أحد ، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم ، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس ، وحنايا القلوب .
ثم بين - سبحانه - بعض النصائح التى قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم ، وحكى مارد به المنافقون على الناصحين فقال : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } .
أى فعل - سبحانه - ما فعل فى أحد ليميز المؤمنين من المنافقين الذين قيل لهم من النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه : تعالوا معنا لتقاتلوا فى سبيل الله ، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أى فانضموا إلى صفوف المقاتلين ، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء .
أو المعنى : تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله ، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم ، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم ، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة .
أى إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله ، فقالتوا دفاعا عن أوطانكم وعزتكم .
قال الجمل : وهذه الجملة وعى قوله - تعالى - { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ } تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع أى تكثير سواد المسلمين - أى عددهم .
والثانى : أن تكون معطوفة على { نَافَقُواْ } فتكون داخلة فى خبر الموصول . أى وليعلم الذين حصل منهم النافق والقول المذكور وإنما لم يأت بحرف العطف بين تعالوا وقاتلوا ، لأن المقصود أن تكون كل من الجملتين مقصودة بذاتها .
وقوله { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } حكاية لردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين .(1/145)
أى قال المنافقون - وعم عبد الله بن أبى وأتباعه - لو نعلم أنكم تقاتلون حقا لسرنا معكم ، ولكن الذى نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أحد ثم تعودون بدون قتال لأى سبب من الأسباب
أو المعنى - كما يقول الزمخشرى - " لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا { لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشىء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لأن رأى عبد الله بن أبى كان فى الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج " .
وقال ابن جرير : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فى ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة ، انخذل عنهم عبد الله بن أبى ابن سلول بثلث الناس وقال . أطاعهم ، أى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصانى . والله ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب ، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أخو بنى سلمة - يقول لهم . يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم - وقاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا - فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكننا لا نرى أن يكون قتال .
فلما استعصوا عليه ، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم . أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغنى الله رسوله عنكم ، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا هو موقف المنافقين فى غزوة أحد ، وهو موقف يدل على فساد قلوبهم ، وخبث نفوسهم ، وجبنهم عن لقاء الأعداء .(1/146)
ولقد كان المؤمنون الصادقون على نقيض ذلك ، فلقد خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه فكانوا ممن قال الله فيهم : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ولقد حكى لنا التاريخ أن بعض المؤمنين الذين كانت لهم أعذارهم التى تسقط عنهم الخروج للجهاد ، كانوا يخرجون مع المجاهدين لتكثير عددهم .
فعن أنس بن مالك قال : " رأيت يوم القادسية - عبد الله بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك؟ فقال : بلى ولكنى أحب أن أكثر المسلمين بنفسى .
هذا ، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .
أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون ، لأنهم قبل أن يقولوا : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر .
أو المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين .
قال الجمل : " وقوله { هُمْ } مبتدأ ، وقوله { أَقْرَبُ } خبره ، وقوله { لِلْكُفْرِ } وقوله { لِلإِيمَانِ } متعلقان بأقرب ، لأن أفعل التفضيل فى قوة عاملين . فكأنه قيل : قربوا من الكفر وقربوا من الإيمان ، وقربهم الكفر فى هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهى خذلانهم للمؤمنين " .(1/147)
وقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا فى ذلك اليوم فحسب .
أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر ، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم - أيها المؤمنون - .
قال صاحب الكشاف : وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم وأن إيمانهم موجود فى أفواههم معدوم فى قلوبهم ، بخلاف صفة المؤمنين فى مواطأة قلوبهم لأفواههم " .
وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم .
أى والله - تعالى - أعلم منكم - أيها المؤمنون - بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم ، لأنه - سبحانه - يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم ، وقد كشف الله لكم أحوالهم لكى تحذروهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم ، وسينزل بهم ما يستحقونه من عذاب مهين .
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين ، والتشكيك فى صدق تعاليم الإسلام فقال - تعالى - : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها ، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه ، : قالوا لهم وقد وقعوا عن القتال : لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل ، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل .
ويجوز أن تكون اللام فى قوله " لإخوانهم " للتعليل فيكون المعنى : أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد ، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة ، كما هو حالنا الآن ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا .(1/148)
وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم ، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته ، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد .
ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويدحض قولهم ، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم ، وامتناعكم عن الخروج للقتال ، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم ، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة ، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة ، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال ، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما ، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره
فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل ، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله ، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم .
وقوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { الذين نَافَقُواْ } .
أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل : والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . . .
وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال .
وجواب الشرط فى قوله { الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } .(1/149)
والتقدير : إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل ، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله .
قال الآلوسى : والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم ، ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة . غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية .وأما الثانى : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه ، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم ، وأمرها أهم لديكم " .
وقال ابن القيم : وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد ، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مراد النفاق ، وما يؤول إليه ، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة .فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .
**************
استجابة الدعاء ومغفرة الذنوب :(1/150)
قال تعالى :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) } سورة آل عمران
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 183)(1/151)
قال الطبراني: حدثنا الحسن بن إسحاق التُسْتَرِي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصَّفا ذَهَبًا. فدعا ربه، فنزلت هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } فليتفكروا فيها
وهذا مُشْكل، فإن هذه الآية مدنية. وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة. والله أعلم.
ومعنى الآية أنه يقول تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابتَ وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي: تعاقبهما وتَقَارضهما الطول والقصر، فتارة يطُول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ؛ ولهذا قال: { لأولِي الألْبَابِ } أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البُكْم الذين لا يعقلون الذين قال الله [تعالى] فيهم: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف:105، 106].(1/152)
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ أي: لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وعلمه وحكمته، واختياره ورحمته.
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرجُ من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة، أوْ لِي فيه عِبْرَة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار".
وعن الحسن البصري أنه قال: تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة. وقال الفُضَيل: قال الحسن: الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ ... ففي كل شيء له عبرَة ...
وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا، وصَمْته تَفكُّرًا، ونَظَره عبرًا.
وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.
وقال وهب بن مُنَبِّه: ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله، عز وجل، حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه، قد ذهب عقله.(1/153)
وقال عبد الله بن المبارك: مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر، كنز الرجال وكنز الأموال.
وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهْلُك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص:88].
وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه .
وقال الحسن: يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.
وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر.
وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا، وعَلِّم عينيك البكاء، وجَسَدك الصَّبْر، وقلبك الفِكْر، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أنه بكى يوما بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن:
نزهَة المؤمن الفكَرْ ... لذّة المؤمن العِبرْ ...
نحمدُ اللهَ وَحْدَه ... نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ ...
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه ... قد تَقَضّى وما شَعَرْ ...
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو ... ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ ...
في خَرير من العيُو ... ن وَظل من الشَّجَرْ ...(1/154)
وسُرُور من النَّبا ... ت وَطيب منَ الثَمَرْ ...
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف:105، 106] ومدح عباده المؤمنين: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي: ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: { سُبْحَانَكَ } أي: عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي: يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
ثم قالوا: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي: يوم القيامة لا مُجِير لهم منك، ولا مُحِيد لهم عما أردت بهم.(1/155)
{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ } أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم { أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول: { آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي: فاستجبنا له واتبعناه { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي: بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي: فيما بيننا وبينك { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي: ألحقنا بالصالحين { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } قيل: معناه: على الإيمان برسلك. وقيل: معناه: على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن محمد، عن أبي عِقَال، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَسْقَلان أحد العروسين، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفًا لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وُفُودًا إلى الله، وبها صُفُوف الشهداء، رؤوسهم مُقَّطعة في أيديهم، تَثِجّ أوداجهم دما، يقولون: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فيقول: صَدَق عبدي، اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضًا، فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا".
وهذا الحديث يُعد من غرائب المسند، ومنهم من يجعله موضوعا، والله أعلم .
{ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: على رؤوس الخلائق { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرتَ عنه رسُلَك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك.(1/156)
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سُرَيْج حدثنا المعتمر، حدثنا الفضل بن عيسى، حدثنا محمد بن المنكدر؛ أن جابر بن عبد الله حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله، عز وجل، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار" حديث غريب .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فقال البخاري، رحمه الله:
حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نَمْر، عن كُرَيب عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثُلث الليل الآخر قَعد فنظر إلى السماء فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } ثم قام فتوضأ واستن. فصلى إحدى عَشْرَة ركعة. ثم أذّن بلالٌ فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.(1/157)
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني، عن ابن أبي مريم، به ثم رواه البخاري من طُرقٍ عن مالك، عن مَخْرَمَة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خالته، قال: فاضطجعت في عَرْض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طُولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل -أو قبله بقليل، أو بعده بقليل -استيقظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من منامه، فجعل يمسحُ النومَ عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيمَ من سُورة آل عمران، ثُم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وُضُوءه ثم قام يصلّي -قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذَهَبتُ فقمت إلى جَنْبه -فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَه اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يَفْتلُها فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خَرَجَ فصلّى الصبح.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طُرُق عن مالك، به ورواه مسلم أيضًا وأبو داود من وجوه أخرَ، عن مخرمة بن سليمان، به .
" طريق أخرى " لهذا الحديث عن ابن عباس [رضي الله عنهما] .(1/158)
قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي، أخبرنا أبو يحيى بن أبي مسرَّة أنبأنا خَلاد بن يحيى، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عَمْرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره قام فمرّ بي، فقال: "من هذا؟ عبد الله؟" فقلت نعم. قال: "فَمَه؟" قلت: أمرني العباسُ أن أبيت بكم الليلة. قال: "فالحق الحق" فلما أن دخل قال: "افرشَنْ عبد الله؟" فأتى بوسادة من مسوح، قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سَمعتُ غَطِيطه، ثم استوى على فراشه قاعدا، قال: فَرَفَع رأسَه إلى السماء فقال: "سُبحان الملك القدوس" ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها.
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث علي بن عبد الله بن عباس حديثا في ذلك أيضا .
طريق أخرى رواها ابن مَرْدُويَه، من حديث عاصم بن بَهْدَلَة، عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مَضى ليل، فنظر إلى السماء، وتلا هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } إلى آخر السورة. ثم قال: "اللهم اجعل في قلبي نُورا، وفي سَمْعي نورا، وفي بَصَري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يَدَيّ نورا، ومن خَلْفي نورا، ومن فَوْقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعْظِم لي نورا يوم القيامة " وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح، من رواية كُريب، عن ابن عباس، رضي الله عنه. .(1/159)
ثم روى ابن مَرْدُويَه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بما جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا. فدعا ربه، عز وجل، فنزلت: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } قال: "فليتفكروا فيها" لفظ ابن مَرْدُويَه.
وقد تقدم سياق الطبراني لهذا الحديث في أول الآية، وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية، والمشهور أنها مدنية، ودليله الحديث الآخر، قال ابن مَرْدويه :
حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن على الحراني، حدثنا شجاع بن أشرس، حدثنا حَشْرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم، عن الكلبي -هو أبو جَنَاب [الكلبي] -عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعُبَيد بن عُمَير إلى عائشة، رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر :
زُر غبّا تزدد حُبّا ...(1/160)
فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَبَكَتْ وقالت : كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي [عز وجل] قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: "ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ في هذه الليلة: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } " ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وقد رواه عَبْد بن حُمَيد، عن جعفر بن عَوْن، عن أبي جَنَاب الكلبي عن عطاء، بأطول من هذا وأتم سياقا .
وهكذا رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، عن عمران بن موسى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سُوَيد النَّخعي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: دخلت أنا [وعبد الله بن عمر] وعُبَيد بن عُمَير على عائشة فذكر نحوه.
وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار" عن شجاع بن أشرص، به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز: سمعت سُنَيْدًا يذكر عن سفيان -هو الثوري-رفعه قال: من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيه ويْلَه. يعد بأصابعه عشرا. قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني عُبَيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم، حدثنا علي بن عَيَّاش، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يَتَعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هُنَيّة ثم قال: يقرؤهن وهو يَعْقلُهُن.(1/161)
[حديث آخر فيه غرابة: قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم البستي ح وقال: أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو قالا أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف] .
يقول تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي: فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر : وداعٍ دعا: يَا مَن يجيب إلى النّدى ... فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب ...
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سلمة، رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله [عز وجل] { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قَدمت علينا.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة، ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه .
وقد روى ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، عن أم سَلَمة قالت: آخر آية أنزلت هذه الآية: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها. رواه ابن مَرْدُويَه.
ومعنى الآية: أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا -مما تقدم ذكره-فاستجاب لهم ربهم -عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .(1/162)
وقوله: { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مُجِيبًا لهم: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله، من ذكر أو أنثى.
وقوله: { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي: جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي: تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي: إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [الممتحنة:1] . وقال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج:8] .
وقوله: { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله، فيُعْقَر جَواده، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر، أيُكَفِّر الله عني خطاياي؟ قال: "نعم" ثم قال: "كيف قلت؟": فأعاد عليه ما قال، فقال: "نعم، إلا الدَّين، قاله لي جبريل آنفًا".
ولهذا قال تعالى: { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك، مما لا عَيْنَ رَأتْ، ولا أذن سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بَشَر.(1/163)
وقوله: { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا، كما قال الشاعر : إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ ... طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي ...
وقوله: { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي: عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم: حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرني حَرِيز (3) بن عثمان: أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تَتهِموا الله في قضائه، فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله، وإذا أنزل به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب .
وفي الظلال (1):
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 28)(1/164)
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . .
هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . .
وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .(1/165)
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم) . . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . .
لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ; ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان , وتحيل حياته إلى جحيم منكرة , وإلى حياة قلقة مهددة , وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . .(1/166)
فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !) . .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب) من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:(ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !) . .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
(.. فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار.).(1/167)
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . .
ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل , الخاشع الواجف الراجف المنيب , ذي النغم العذب , والإيقاع المنساب , والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) . . (وما للظالمين من أنصار) . .
إنها تشي بأن خوفهم من النار , إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله , فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله , وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل:(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) . .(1/168)
فهي قلوب مفتوحة ; ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة , فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها , فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات , والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها , في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية , في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان , مع أعداء الله وأعداء الإيمان . .
والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد) . .
فهو استنجاز لوعد الله , الذي بلغته الرسل , وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد , ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة , يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء , ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي , وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة , لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه , في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء , من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر , فيه ليست حرفا متحدا , ولكنها إيقاع متشابه - مثل:"بصير . حكيم . مبين . مريب" "الألباب , الأبصار , النار . قرار" "خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا .. . إلخ
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .(1/169)
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين:أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية , وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . .
إن عرض هذا المشهد:مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم , عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته , على الأعصاب والأسماع والخيال , فيؤثر في الوجدان , بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني , ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته . ثم . .
طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي , وقاتلوا وقتلوا , لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . .
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .(1/170)
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) . .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسيرالأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات: (فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب) .(1/171)
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . .
ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . .
في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . .
ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .(1/172)
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . .
وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .
ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة !
ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . .
أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله: (جنات تجري من تحتها الأنهار) . . (خالدين فيها) . . (نزلا من عند الله) . . (وما عند الله خير للأبرار) .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان .
وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !(1/173)
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:
التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . .
ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . .
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:(1/174)
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط !
لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
وفي التفسير الوسيط (1):
وبعد أن بين - سبحانه - أن ملك السموات والأرض بقبضته ، أشار - سبحانه - إلى ما فيهما من عبر وعظات فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 825)(1/175)
أى : إن فى إيجاد السموات والأرض على هذا النحو البديع ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وبحار وزروع وأشجار . . . وفى إيجاد الليل والنهار على تلك الحالة المتعاقبة ، وفى اختلافهما طولا وقصرا . . فى كل ذلك لأمارات واضحة ، وأدلة ساطعة ، لأصحاب العقول السليمة على وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته ، وباهر حكمته
وصدرت الجملة الكريمة بحرف " إن " للاهتمام بالخبر ، وللاعتناء بتحقيق مضمون الجملة .
أى إن فى إيجاد السموات والأرض وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب ، وما اشتملتا عليه من البدائع ، وفى اختلاف الليل والنهار . . . إن فى كل ذلك من العبر والعظات ما يحمل كل عاقل على الاعتراف بوحدانية الله ، وكمال قدرته وحكمته .
والمراد بأولى الألباب : أصحاب العقول السليمة ، والأفكار المستقيمة ، لأن لب الشىء هو خلاصته وصفوته .
ولقد قال الزمخشرى فى صفة أولى الألباب : " هم الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطرة . وفى الحكم : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلهما فى جملة هذه العجائب متفكرا فى قدرة مقدرها ، متدبرا فى حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ، ويحال بينك وبين النظر "
هذا ، وقد أورد المفسرون كثيرا من الآثار فى فضل هذه الآيات العشر التى اختتمت بها سورة آل عمران ، ومن ذلك قول ابن كثير - رحمه الله - : وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقد روى البخارى - رحمه الله - عنابن عباس - رضى الله عنهما - قال : بت عند خالتى ميمونة ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد : فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } . . . الآيات .(1/176)
ثم قام فتوضأ واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى شطر من الليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } إلى آخر السورة .
ثم قال : " اللهم اجعل فى قلبى نوراً ، وفى سمعى نوراً ، وفى بصرى نوراً ، وعن يمينى نوراً ، وعن شمالى نوراً ، ومن بين يدى نوراً ، ومن خلفى نوراً ، ومن فوقى نوراً ، ومن تحتى نوراً . وأعظم لى نوراً يوم القيامة " .
وروى ابن مردويه عن عطاء قال : " انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة - رضى الله عنها - فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقال لها ابن عمر : أخبرينا بأعجب ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا!! أتانى فى ليلتى حتى مسَّ جلده جلدى ثم قال : يا عائشة : ذرينى أتعبد لربى - عز وجل - قالت : فقلت والله أنى لأحب قربك وإنى أحب أن تعبد ربك .
فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلى فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى . ثم إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : ويحك يا بلال!! وما يمنعنى أن أبكى وقد أنزل الله على هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } إلخ الآيات .
ثم قال : ويل لمن يقرأها ولم يتفكر فيها " .
ثم وصف - سبحانه - أولى الألباب بصفات كريمة فقال : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } .
فقوله { الذين يَذْكُرُونَ } إلخ . فى موضع جر على أنه نعت لأولى الألباب . ويجوز أن يكون فى موضع رفع أو نصب على المدح .(1/177)
أى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } لآيات واضحات على وحدانية الله وقدرته ، لأصحاب العقول السليمة ، الذين من صفاتهم أنهم { يَذْكُرُونَ الله } أى يستحضرون عظمته فى قلوبهم ، ويكثرون من تسبيحه وتمجيده بألسنتهم ، ويداومون على ذلك فى جميع أحوالهم . فهم يذكرونه قائمين ، ويذكرونه قاعدين . ويذكرونه وهم على جنوبهم فالمراد بقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } أن ذكرهم الله - تعالى - بقلوبهم وألسنتهم يستغرق عامة أحوالهم " .
وقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً } منصوبان على الحالية من ضمير الفاعل فى قوله : { يَذْكُرُونَ } .
وقوله { وعلى جُنُوبِهِمْ } متعلق بمحذوف معطوف على الحال أى : وكائنين على جنوبهم أيى مضطجعين .
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } أى أن من صفات هؤلاء العباد أصحاب العقول السليمة أنهم يكثرون من ذكر الله - تعالى - ، ولا يكتفون بذلك ، بل يضيفون إلى هذا الذكر والتدبر والتفكر فى هذا الكون وما فيه من جمال الصنعة ، وبديع المخلوقات ، ليصلوا من رواء ذلك إلى الإيمان العميق ، والإذعان التام ، والاعتراف الكامل بواحدانية الله .
وعظيم قدرته . . .
فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون فى مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع - سبحانه - ، فيعلموا أن لهذا الكون قادراً مدبراً حكيما ، لأن عظم آثاره وأفعاله ، تدل على عظم خالقها .
ولقد ذكر العلماء كثيرا من الأقوال التى تحض على التفكير السليم ، وعلى التدبر فى عجائب صنع الله ، ومن ذلك قول سليمان الدارانى : " إنى أخرج من بيتى فما يقع بصرى على شىء إلا رأيت لله على فيه نعمة ، ولى فيه عبرة " ، وقال الحسن البصرى : " تفكر ساعة خير من قيام ليلة " .(1/178)
وقال الفخر الرازى : دلائل التوحيد محصورة فى قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس . ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال - تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنه فى هذه الآية بالفكر فى خلق السموات والأرض ، لأن دلالتها أعجب . وشواهدها أعظم " .
وقد وبخ - سبحانه - الذين يرون العبر فلا يعتبرون ، وتمر أمامهم العظات فلا يتعظون ولا يتفكرون فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } ثم حكى - سبحانه - ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم فى خلقه فقال :
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
أى أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق ، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن ، وتفكرت عقولهم فى بدائع صنع الله تفكيرا سليما ، استشعروا عظمة الله استشعاراً ملك عليهم جوراحهم ، فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم :
يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثاً ، أو عاريا من الحكمة . أو خالياً من المصلحة ، { سُبْحَانَكَ } أى ننزهك تنزيها تاما عن كل ما لا يليق بك { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أى فوفقنا للعمل بما يرضيك ، وأبعدنا عن عذاب النار .
وقوله { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } إلخ جملة واقعة موقع الحال على تقدير قوله أى يتفكرون قائلين ربنا . لأن هذا الكلام اريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .
وقوله : باطلا صفة لمصدر محذوف أى خلقاً باطلاً ، أو حال من المفعول والمعنى يا ربنا ما خلقت هذا المخلوق العظيم الشأن عاريا عن الحكمة ، خالياً من المصلحة ، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة ، منتظما لمصالح عظيمة .(1/179)
وكان نداؤهم لخالقهم - عز وجل - بلفظ { رَبَّنَآ } اعترافا منهم بأنه هو مربيهم وخالقهم فمن حقه عليهم أن يفردوه بالعبادة والخضوع .
وسبحان اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه ، وهو مفعول بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه أى ، تنزهت ذاتك وتقدست عن كل ما لا يليق ، وجىء بفاء التعقيب فى حكاية قولهم { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } لأنه ترتب على اعتقادهم بأنه سبحانه - لم يخلق هذا عبثاً - أن هناك ثواباً وعقاباً ، فسألوا الله - تعالى - أن يجعلهم من أهل الجنة لا من أهل النار .
وقوله - تعالى - حكاية عنهم { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فى مقام التعليل لضراعتهم بأن يبعدهم عن النار .
أى : أبعدنا يا ربنا عن عذاب النار ، فإن من تدخله النار تكون قد أخزيته أى أهنته وفضحته على رءوس الأشهاد .
والخزى : مصدر خزى يخزى بمعنى ذل وهان بمرأى من الناس . وفى هذا التعليل مبالغة فى تعظيم أمر العقاب بالنار ، وإلحاح فى طلب النجاة منها ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها ، كان رجاؤه فى القبول أشد ، وإخلاصه أتم ، وعوده بالعطاء أقوى .
وقوله { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أى ليس لهم ناصر ينصرهم من عقاب الله - تعالى - أو يخلصهم مما وقعوا فيه من بلاء .
و " من " للدلالة على استغراق النفى ، أى لا ناصر لهم ايا كان هذا الناصر ، وفى ذلك إشارة إلى انفراد الله - تعالى - بالسلطان ونفاذ الإرادة .
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من ألوان ضراعتهم يدل على قوة إيمانهم فقال - تعالى - { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } .
أى أنهم يقولون على سبيل الضراعة والخضوع لله رب العالمين : يا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى أى داعياً يدعو إلى الإيمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فاستجبنا لدعوته ، وآمنا بما دعانا إليه بدون تردد أو تسويف .(1/180)
وفى وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادى ، دلالة على كمال اعتنائه بشأن دعوته التى يدعو إليها ، وأنه حريض على تبليغها للناس تبليغا تاما .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فأى فائدة فى الجمع بين " المنادى " و { يُنَادِي } ؟ قلت : ذكر النداء مطلقا ، ثم مقيداً بالإيمان ، تفخيما لشأن المنادى؛ لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدى للإسلام . وذلك أن النمادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحر ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادى قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك .
فإذا قلت : ينادى للإيمان . ويهدى للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادى والهادى وفخمته .
و " أن " فى قوله { أَنْ آمِنُواْ } تفسيرية لما فى فعل { يُنَادِي } من معنى القول دون حروفه ، وجىء بفاء التعقيب فى قوله - تعالى - حكاية عنهم { فَآمَنَّا } ؛ للدلالة على المبادرة والسبق ، إلى الإيمان ، وأنهم قد أقبلوا على الداعى لى الله بسرعة وامتثال ، وفى ذلك دلالة على سلامة فطرتهم ، وبعدهم عن المكابرة والعناد .
ثم حكى - سبحانه - مطلبهم فقال : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } .
أى نسألك يا ربنا بعد أن آمنا بنبيك ، واستجبنا للحق الذى جاء به ، أن تغفر لنا ذنوبنا بأن تسترها وتعفو عنها ، وأن تكفر عنا سيئاتنا بأن تزيلها وتمحوها وتحولها إلى حسنات أو بأن تحشرنا مع الأبرار أى مع عبادك الصالحين المستقيمين الأخيار . إذ الأبرار جمع بار وهو الشخص الكثير الطاعة لخالقه - تعالى - .
فأنت تراهم قد طلبوا من خالقهم ثلاثة أمور ، غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار الأخيار ، وهى مطالب تدل على قوة إيمانهم ، وصفاى نفوسهم ، وزهدهم فى متع الحياة الدنيا .(1/181)
وقد جمعوا فى طلبهم بين غفران الذنوب وتكفير السيئات ، لأن السيئة عصيان فيه إساءة ، والذنب عصيان فيه تقصير وتباطؤ عن فعل الخير ، والغفران والتكفير كلاهما فيه معنى التسر والتغطية ، إلا أن الغفران يضتمن معنى عدم العقاب ، والتكفير يتضمن ذهاب أثر السيئة .
ومعنى وفاتهم مع الأبرار : أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات ، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم ، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تاما .
وبذلك يكونو في صحبة الأبرار وفى جملتهم .
ثم حكى القرآن أنهم ترقوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل ، والعطاء الحسن فقال - تعالى - حكاية عنهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } .
أي نسألك يا ربنا أن تعطينا وتمنحنا بعد وفاتنا ، وحين قيامنا من قبورنا يوم القيامة ، ما وعدتنا به من ثواب فى مقابل تصديقنا لرسلك ، وطاعتنا لهم ، واستجابتنا لأوامرهم ونواهيهم { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } أى ولا تذلنا ولا تفضحنا يوم المحشر على رءوس الأشهاد { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } . أى أنك - سبحانك - لا تخلف وعدك الذى وعدته لعبادك الصالحين .
فهم قد جعلوا هذا الدعاء وهو طلب الثواب الجزيل يوم القيامة ، ختاما لدعواتهم ، لشعورهم بهفواتهم وبتقصيرهم أمام فضل الله ونعمه .
والمراد بقولهم { مَا وَعَدتَّنَا } الثواب والعطاء الكائن منه - سبحانه - و " ما " موصولة أى آتنا الذى وعدتنا به أو وعدتنا إياه .
وقوله { على رُسُلِكَ } فيه مضاف محذوف أى آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب . أو آتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم من جزاء حسن .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟ .(1/182)
قلت : معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو هو من باب الملجأ إلى الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، " يستغفرون مع علمهم بأنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل لربهم ، والتضرع إليه ، والملجأ الذى هو سيما العبودية "
تلك هى الدعوات الخاشعات التى حكاها - سبحانه - عن أصحاب العقول السليمة ، وهم يتضرعون بها إلى خالقهم - عز وجل - فماذا كانت نتيجتها؟
لقد كانت نتيجة دعواتهم ، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطالبهم فقال - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } !!
قال الحسن البصرى : " ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم " .
وقال جعفر الصادق : " من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبَّنَآ } أنجاه الله مما يخالف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال : اقرءوا أن شئتم قوله - تعالى - { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً } . . . إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم
ودلت الفاء فى قوله { فاستجاب } على سرعة الإجابة ، لأن الفاء للتعقيب ، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم ، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء .
واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء ، إن السين والتاء للتأكيد ، مثل استوقد واستخلص .
وقال بعضه : إن استجاب أخص من أجاب ، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه ، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد .
والمعنى : أن الله - تعالى - قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم ، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - لا يضيع عمل عامل منهم ، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى ، وسيمنحهم من الثواب . فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب ، ولن يفرق فى عطائه بين ذكر وأنثى ، لأن الذكر من الأثنى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة .(1/183)
وفى التعبير باللفظ السامى { رَبُّهُمْ } إشارة إلى أن الذى سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم ، والرحيم بهم .
ومعنى { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم ، بل أكافئه عليه بما يستحقه ، وأعطيه من ثوابى ورحمتى ما يشرح صدره ، ويدخل البهجة والسرور على نفسه .
وقوله { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل ، وتأكيد عمومه ، أى لا اضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكراً أم أنثى .
ومعنى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة .
روى الترمذى عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله - تعالى - ذكر النساء فى الهجرة ، فأنز الله - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } .
ثم بين - سبحانه - الأعمال الصالحة التى استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه - سبحانه - فقال : { فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
أى فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التى أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا من ديارهم ، فرارا بدينهم من ظلم ظالمين ، واعتداء المعتدين ، { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أى تحملوا الأذى والاضطهاد فى سبيل الحق الذى آمنوا به { وَقَاتَلُواْ } أعداء الله { وَقُتِلُواْ } وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .(1/184)
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك ، وعدهم الله - تعالى - بالأجر العظيم فقال : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات ، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التى فيها العسل المصفى ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .
وقوله { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندى ، والله - تعالى - عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منح هؤلاء الأخيرا ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التى أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم ، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : " يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت " .
ولأنهم قد تحملوا ما تحملوا من الأذى فى سبيل الله ، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .
وقوله { الذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، والتفخيم لشأنه . وخبره قوله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
وقوله { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } معطوف على { هَاجَرُواْ } . وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم ، وانتشار الحق الذى اعتنقوه ، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء .(1/185)
وقوله { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } معطوف على ما قبله . والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين .
وجمع - سبحانه - بين قوله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا أحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جواب قسم محذوف ، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم .
وقدّم - سبحانه - تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة ، لأن التخلية - كما يقولون - مقدمة على التحلية ، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها ، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وقوله { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله ، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما .
وقوله { مِّن عِندِ الله } صفة لقوله { ثَوَاباً } وهو وصف مؤكد؛ لأن الثواب لا يكون إلا من عنده - تعالى - ، لكنه صرح به - سبحانه - تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه .
وقوله { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
وقد ختم - سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال فى الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده - سبحانه - فى الآخرة لعباده المتقين .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم فى عجائب صنعه ، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التى تضرع بها الأخيار إلى خالقهم ، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذى منحه الله لهم فى مقابل إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده .
****************
الرزق الحسن :(1/186)
قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (58) سورة الحج
وقال ابن كثير رحمه الله (1) :
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخِلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله { ثُمَّ قُتِلُوا } أي: في الجهاد { أَوْ مَاتُوا } أي: حتف أنفهم ، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء: 100 ].
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 447)(1/187)
وقوله: { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي: ليُجْريَن عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي: الجنة. كما قال تعالى: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة: 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم، كما قال هاهنا: { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، { حَلِيمٌ } أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران: 169 ]، والأحاديث في هذا كثيرة، كما تقدم وأما من تُوُفي إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.(1/188)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن ابن الحارث -يعني: عبد الكريم-عن ابن عقبة -يعني: أبا عبيدة بن عقبة-قال: حدثنا شُرَحْبِيل بن السِّمْط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان-يعني: الفارسي-رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله يقول: "من مات مرابطًا، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفَتَّانين" واقرءوا إن شئتم: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
وقال أيضا: حدثنا أبو زرعة، حدثنا زيد بن بشر، أخبرني همام، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم-فمر بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال: والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا كتاب الله: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] }(1/189)
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لَهِيعة، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم .
وفي الظلال (1):
الهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس , ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه:الأهل والديار والوطن والذكريات , والمال وسائر أعراض الحياة . وإيثار العقيدة على هذا كله ابتغاء رضوان الله , وتطلعا إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعا .
والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية . أما بعد الفتح فلم تعد هجرة . ولكن جهاد وعمل - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة , وكان له ثوابها . .
(والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 210)(1/190)
سواء لاقوا الله شهداء بالقتل , أو لاقوه على فراشهم بالموت . فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير , واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق , وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا لله . فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه: (ليرزقنهم الله رزقا حسنا , وإن الله لهو خير الرازقين) . . وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) فقد خرجوا مخرجا يرضي الله , فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلا يرضونه . وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن يتوخى ما يرضونه فيحققه لهم , وهم عباده , وهو خالقهم سبحانه . (وإن الله لعليم حليم) . .
عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى , وبما يرضي نفوسهم ويعوضها . حليم يمهل . ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى . .
وفي التفسير الوسيط (1):
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله - تعالى - : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين . وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ،
والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلىغيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه .
والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام .
وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له .
{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 2524)(1/191)
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا .
قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : " نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن . . الثانى : الرزق الحسن . قاله مجاهد . الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج . الخامس : ما استولوا عليه من البلاد . . السادس : ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .
ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى - " .
والمعنى : والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم . . من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا .
وقوله { فى الله } أى : فى سبيله ، ومن أجل نصرة دينه . فحرف " فى " مستعمل للتعليل ، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها . . . " .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض .
وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون .
وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى .
وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم .
*************
لن يضل الله أعمالهم(1/192)
قال تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (4) سورة محمد
وقال ابن كثير رحمه الله (1):
يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي: إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي: أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [وثاق] الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه. والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله، سبحانه، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء، والتقلل من القتل يومئذ فقال: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ]
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 7 / ص 307)(1/193)
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية -المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه-منسوخة بقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } الآية [ التوبة : 5 ]، رواه العوفي عن ابن عباس. وقاله قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جُرَيْج.
وقال الآخرون -وهم الأكثرون-: ليست بمنسوخة.
ثم قال بعضهم: إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت .
وزاد الشافعي، رحمه الله، فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا. وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع، وقد دللنا على ذلك في كتابنا "الأحكام"، ولله الحمد والمنة.
وقوله: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إبراهيم بن سليمان، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جُبَير بن نُفيَر؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سَيَّبْتُ الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت: "لا قتال" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم: ويرزقهم الله منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".(1/194)
وهكذا رواه النسائي من طريقين، عن جُبَيْر بن نُفَير، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني، به .
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رُشَيْد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جبير بن نُفَير، عن النواس بن سمعان قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا: يا رسول الله، سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، قالوا: لا قتال، قال: "كذبوا، الآن، جاء القتال، لا يزال الله يُرَفِّع قلوب قوم يقاتلونهم، فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعُقْر دار المسلمين بالشام".
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد، به . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم. وهذا يقوي القول بعدم النسخ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب.
وقال قتادة: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك. وهذا كقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ]. ثم قال بعضهم: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: أوزار المحاربين، وهم المشركون، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل. وقيل: أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله، عز وجل.
وقوله: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي: هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم. كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي "آل عمران" و "براءة" في قوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .(1/195)
وقال في سورة براءة: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] .
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين، قال: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها. ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال:حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مُرّة ، عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يُكَفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حُلَّة الإيمان" . تفرد به أحمد رحمه الله.
حديث آخر: قال أحمد أيضا: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن بَحِير ابن سعيد، عن خالد بن مَعْدان، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حُلَّة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويَأمَن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه".
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه .(1/196)
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو، وعن أبي قتادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن" . وروي من حديث جماعة من الصحابة، وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته". ورواه أبو داود . والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا.
وقوله: { سيهديهم } أي: إلى الجنة، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس : 9 ] .
وقوله: { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي: أمرهم وحالهم، { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي: عرفهم بها وهداهم إليها.
قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا. وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا.
وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة، كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة.
وقال مقاتل بن حَيَّان: بلغنا أن الملك الذي كان وُكِّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرّفه كل شيء أعطاه الله في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [إلى] منزله وأزواجه، وانصرف الملك عنه ذكرهن ابن أبي حاتم، رحمه الله.
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا، رواه البخاري من حديث قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا" .
وفي الظلال (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 435)(1/197)
اللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء . فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد ; ولم تكن بعد قد نزلت سورة "براءة " التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها , والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر ; وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا . كي تخلص القاعدة للإسلام .
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا . وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة , وبالحركة التي تمثلها , تمشيا مع جو السورة وظلالها .
(حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) . .
والإثخان شدة التقتيل , حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى , فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع . وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه . فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر .
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية , ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر . والتقتيل كان أولى . وذلك حيث يقول تعالى:(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة , والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) . .
فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته ; وبعد ذلك يكون الأسر . والحكمة ظاهرة , لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال . وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة . وكانت الكثرة للمشركين . وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك . والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو , وتعجيزه عن الهجوم والدفاع .(1/198)
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك , فتحدده هذه الآية . وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى: (فإما منا بعد وإما فداء) . .
أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين . وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين .
وليس في الآية حالة ثالثة . كالاسترقاق أو القتل . بالنسبة لأسرى المشركين .
ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى - وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة .
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب "أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي" ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه . قبل أن نقرر الحكم الذي نراه:
قال الله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان . وهو نظير قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) . . "وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف" .
حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال:حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان . قال:حدثنا أبو عبيد .قال:حدثنا عبدالله بن صالح , عن معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة . عن ابن عباس في قوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) . قال:ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل , فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى: (فإما منا بعد وإما فداء) . . فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار . إن شاءوا قتلوهم , وإن شاءوا استعبدوهم , وإن شاءوا فادوهم . شك أبو عبيد في . . وإن شاءوا استعبدوهم . . "والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه . وأما جواز القتل فلا نرى له سندا في الآية وإنما نصها المن أو الفداء .(1/199)
وحدثنا جعفر بن محمد قال:حدثنا أبو عبيد , قال:حدثنا أبو مهدي وحجاج , كلاهما عن سفيان . قال:سمعت السدي يقول في قوله: (فإما منا بعد وإما فداء) . . قال:هي منسوخة , نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) :قال أبو بكر:أما قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) . . وقوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) . .
وقوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) . . فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ . وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين , فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء . فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام . "ونقول:إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة . بينما النص في سورة محمد عام . فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى . وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال , ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها" . .(1/200)
وأما قوله: (فإما منا بعد وإما فداء) . . ظاهره يقتضي أحد شيئين:من أو فداء . وذلك ينفي جواز القتل . وقد اختلف السلف في ذلك . حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير , وقال:من عليه أو فاده . وحدثنا جعفر قال:حدثنا أبو عبيد قال:أخبرنا هشيم . قال:أخبرنا أشعث قال:سألت عطاء عن قتل الأسير فقال:من عليه أو فاده قال:وسألت الحسن . قال:يصنع به ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر , يمن عليه أو يفادى به . وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله , فأبى أن يقتله , وتلا قوله: (فإما منا بعد وإما فداء) . . وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله: (فإما منا بعد وإما فداء) منسوخ بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) . وروي مثله عن ابن جريج . حدثنا جعفر قال:حدثنا أبو عبيد قال:حدثنا حجاج , عن ابن جريج , قال:هي منسوخة . وقال:قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبرا , قال أبو بكر:اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه , وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله الأسير , منها قتله عقبة بن أبي معيط , والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر . وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ , فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية . ومن على الزبير بن باطا من بينهم , وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة , وشرط على إبن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا , فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله . وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل , ومقيس بن حبابة , وعبد الله بن أبي سرح , وآخرين , وقال:"اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " . ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم . وروي عن صالح بنكيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف , أنه سمع أبا بكر الصديق(1/201)
يقول:"وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته , وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا" . وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله . فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه . واتفق فقهاء الأمصار على ذلك . "وجواز القتل لا يؤخذ من الآية , ولكن يؤخذ من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة . وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة , وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر . فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء دعوته . وكذلك أبو عزة الشاعر , ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفا . وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية: (فإما منا بعد وإما فداء) . .(1/202)
وإنما اختلفوا في فدائه , فقال أصحابنا جميعا "يعني الحنفية ":لا يفادى الأسير بالمال , ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا . وقال أبو حنيفة:لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا , ولا يردون حربا أبدا . وقال أبو يوسف ومحمد:لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين . وهو قول الثوري والأوزاعي , وقال الأوزاعي:لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب , ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون . وقال المزني عن الشافعي:للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم , فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله: (فإما منا بعد وإما فداء) وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ; وبأن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسارى بدر بالمال . ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك , عن معمر , عن أيوب , عن أبي قلابة , عن أبي المهلب , عن عمران ابن حصين . قال:أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عامر ابن صعصعة ; فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو موثق , فناداه , فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:علام أحبس ? قال:" بجريرة حلفائك " . فقال الأسير:إني مسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح " . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضا , فأقبل , فقال:إني جائع فأطعمني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هذه حاجتك " . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما . . (وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الإختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين) .(1/203)
وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال:وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء , وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) . . وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج . وقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك . ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة "براءة " بعد سورة "محمد" صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها . . "وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم . أما غيرهم خارجهافتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب . وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم . فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم ? نقول:إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة , أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين , إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية . فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى , فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية) .(1/204)
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى . وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر . وأنه هو الأصل الدائم للمسالة . وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية . فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ; وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر , لا بمجرد خروجهم للقتال . ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير . وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه ويبقى الإسترقاق . وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة , وتقاليد في الحرب عامة . ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام: (فإما منا بعد وإما فداء) . .
في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين . ومن ثم طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا . وفادى ببعضهم أسرى المسلمين , وفادى بعضهم بالمال . وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء .
فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى , فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي: (فإما منا بعد وإما فداء) لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق . فليس الاسترقاق حتميا , وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام .
وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم . ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث . .
والله الموفق للصواب .
ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرى ء الإسلام منها !(1/205)
إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا , فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير , لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول:إنه يرى خيرا مما يرى الله . إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه .
وذلك . . - أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى - (حتى تضع الحرب أوزارها) . .
أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له . فهي القاعدة الكلية الدائمة . ذلك أن " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون كلمة الله هي العليا .
والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر , ولا يفرض عليهم هذا الجهاد , لأنه يستعين بهم - حاشاه - على الذين كفروا . فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ; وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ; الإبتلاء الذي تقدر به منازلهم: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم , ولكن ليبلو بعضكم ببعض . والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم , ويدخلهم الجنة عرفها لهم) . .
إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله , وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين , الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار , ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء . إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق . تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض , بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة , تكاد تكون ضائعة , لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله .(1/206)
فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع , بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها , أن يكونوا نمالا صغيرة . لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات . لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله .
إنما يتخذ الله المؤمنين - حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم - إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته . ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة . كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم . بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها , ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير . وهو يبتليهم , ويربيهم , ويصلحهم , وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار يريد ليبتليهم . وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات . فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به , حتى تجاهد في سبيله فتقتل وتقتل , ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه , ولا تستطيع الحياة بدونه , ولا تحب هذه الحياة في غير ظله .
ويريد ليربيهم . فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه . ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص , وينفي كل زغل ودخل , حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد , والتطلع إلى وجه الله ورضاه . فترجح هذه وتشيل تلك . ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت , وأنها تربت فعرفت , وأنها لا تندفع بلا وعي ولكنها تقدر وتختار .
ويريد ليصلحهم . ففي معاناة الجهاد في سبيل الله , والتعرض للموت في كل جولة , ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف , الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه . وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته . سواء سلم منه أو لاقاه . والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام !(1/207)
وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح .
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها , عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها ; وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله . ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه . .
وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد . ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد ; وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح , وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله !
ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب . وتيسيرالوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه . وكل ميسر لما خلق له . وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته .
ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله: (والذين قتلوا في سبيل الله , فلن يضل أعمالهم . سيهديهم , ويصلح بالهم , ويدخلهم الجنة عرفها لهم) .
لن يضل أعمالهم . . في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم . فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه , وانبعثت حماية له , واتجاها إليه . وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع .
ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة . . حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله . . فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى:(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) . . ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا . تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه . طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء:(1/208)
(سيهديهم ويصلح بالهم) : فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله , يظل يتعهدهم بالهداية - بعد الاستشهاد - ويتعهدهم بإصلاح البال , وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض ; أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه , وإشراقه وسناه . فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون . وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى . ويزيدها هدى . ويزيدها صفاء , ويزيدها إشراقا . وهي حياة نامية في ظلال الله . وأخيرا يحقق لهم ما وعدهم:(ويدخلهم الجنة عرفها لهم) . .
وقد ورد حديث عن تعريف الله الجنة للشهداء رواه الإمام أحمد في مسنده قال:حدثنا زيد بن نمر الدمشقي , حدثنا ابن ثوبان , عن أبيه , عن مكحول , عن كثير بن مرة , عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يعطى الشهيد ست خصال:عند أول قطرة من دمه , تكفر عنه كل خطيئة ; ويرى مقعده من الجنة , ويزوج من الحور العين , ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر , ويحلى حلة الإيمان " . . [ تفرد به أحمد . وقد روى حديثا آخر قريبا من هذا المعنى . وفيه النص على رؤية الشهيد لمقعده من الجنة . أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه ] .
فهذا تعريف الله الجنة للشهداء في سبيله . وهذه هي نهاية الهداية الممتدة , وإصلاح البال المستأنف بعد مغادرتهم لهذه الأرض . ونماء حياتهم وهداهم وصلاحهم هناك عند الله .
وفي التفسير الوسيط (1):
الفاء فى قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار .
فالمراد باللقاء هنا : القتال لا مجرد اللقاء والرؤية . كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال .
__________
(1) - التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 3881)(1/209)
وقوله - سبحانه - : { فَضَرْبَ الرقاب } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم . وقوله : { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف . أى : فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا .
والتعبير عن القتل بقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } ، لتصويره فى أفظع صوره . ولتهويل أمر القتال ، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضرب الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه .
وضرب الرقاب : عبارة عن القتل . . وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل .
على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس سفى لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق ، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن .
وقوله - سبحانه - : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم ، وإنزال الهزيمة بهم .
وقوله : { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح ، مأخوذ من الشئ الثخين ، أى : الغليظ ، يقال : أثخن الجيش فى عدوه ، إذا بالغ فى إنزاله الجراحة الشديدة به ، حتى أضعفه وأزال قوته .
والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم الشئ الى يوثق به الأسير كالرباط أى : عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، فاضربوا أعناقكم ، فإذا ما تغلتم عليهم وقهرتموهم ، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم ، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم ، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم .(1/210)
وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك .
والمن : الإِطلاق بغير عوض ، يقال : مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل .
والفداء : ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر .
وقوله : { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف : أى : فإما تمنون عليهم بعد السر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل ، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم .
وقوله - سبحانه - { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات .
وأوزار الحرب : آلاتها وأثقالها الى لا تقوم إلا بها ، كالسلاح وما يشبه .
قال الشاعر :
وأعددتَ للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلا ذكورا
أى : افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله ، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصارهم عليهم .
وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار ، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء ، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء ، فقال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } .(1/211)
واسم الإِشارة : خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر ذلك ، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف ، أى : افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل ، أى : لو يشاء إهلاكهم لأهلكم ، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان ، قوى الإِيمان من ضعيفه . كما قال - تعالى - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } أى : والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .
{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها .
بل { سَيَهْدِيهِمْ } أى : بل سيوصلهم إلى طريق السعادة والفلاح .
{ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أى : ويصلح أحوالهم وشئونهم وقلوبهم .
{ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } أى : ويدخلهم بعد كل ذلك الجنة يوم القيامة ويهديهم إلى بيوتهم ومساكنهم فيها ، بحيث لا يخطئونهأ ، حتى لكأنهم يقيمون فيها منذ خلقوا ، وذلك كله بإلهام من الله - تعالى - : لهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } هذا التعريف فى الآخرة . قال مجاهد : يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله - تعالى - لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا . . . وذلك بإلهام منه - عز وجل - .
وورد فى بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا له على منزلته فيها ، وقيل : إنه - تعالى - : رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف .
وقيل : معنى عرفها لهم . طيبها لهم منا لعرف وهو الرائحة الطيبة ، ومنه طعام معرف ، أى مطيب .(1/212)
وعن الجبائى أن التعريف فى الدنيا ، وهو يذكر أوصافها ، والمراد أنه - سبحانه - لم يزل يمدحها لهم ، حتى عشقوها ، فاجتهدوا فى فعل ما يوصلهم إليها . .
هذا ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1- وجوب قتال الكافرين بكل شدة وقوة ، حتى تضعف شوكتهم ، وتدول دولتهم ، ويخضعوا لحكم شريعة الإِسلام فيهم .
وفى هذه المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } 2- أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } أن السير من الأعداء يدور أمره بين هاتين الحالتين إما أن نطلق سراحه بدون مقابل ، وإما أن نطلق سراحه فى مقابل فدية معينة نأخذها منه ، وقد تكون هذه الفدية مالا ، أو عملا ، أو غير ذلك مما فيه منفعة للمسلمين .
ويرى بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ويرى المحققون من العلماء أن هذه الآية ، وهى قوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } . تحكى حالات معينة يكون امر الأسرى فيها دائرا بين المن والفداء ، لأنهما من مصلحة المسلمين ، وهناك حالات أخرى يكون الأصلح فيها قتل الأعداء ، أو استرقاقهم .
فمسألة الأسرى من الأعداء ، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين ، ومرجع الحكم فيها إلى البصراء بالحرب وبوضع خططها ، لأنهم أعرف الناس بكيفة معاملة الأسرى .(1/213)
وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه الثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أفعاله أصحابه ، ولأن ذكر المن والفداء لا ينافى جواز غيره كالقتل - مثلا - لأن هذا الغير مفهوم من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة .
وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء ، منهم الإِمام ابن جرير ، فقد قال ما ملخصه - بعد أن ساق جملة من الأقوال - : والصواب من القول عندنا فى ذلك ، أن هذه الآية محكم غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المن والقتل والفداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم وإلى القائمين بعده بأمر الأمة . وإن لم يكن القتل مذكورا فى هذه الآية ، لأنه قد أذن - سبحانه - بقتلهم فى آيات أخرى منها { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقد فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك ، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط . وأخذ الفداء من غيره . . ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفى وهو أسير فى يده .
وقال القرطبى - بعد أن ذكر أربعة أقوال - : الخامس : أن الآية محكمة ، والإِمام مخير فى كل حال .
وبهذا قال كثير من العلماء منهم : ابن عمر ، والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعى والثورى والأوزاعى . . وغيرهم ، وهو الاختيار؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك .
فقد قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بدر النضربن الحارث . وأخذ الفداء من أسارى بدر . . وقد مَنَّ على سبى هوزان ، وهذا كله ثابت فى الصحيح .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : وما نحسبنا مخطئين إذ قلنا إن الذى كان من النبى - صلى الله عليه وسلم - نم الأعمال المختلفة ، كان نزولا على مقتضى المصلحة ، ولذلك نراه كان يجتهد فى تعرف وجوه المصلحة ، فيستشير أصحابه .(1/214)
ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة ، واحدا لا يتخطى . ما كان هناك معنى للاستشارة ، ولا للنزول على رأى بعض أصحابه ، ولما خالف فى الواحدة بين أسير وأسير ، فقتل هذا ، وأخذ الفداء من هذا . ومنَّ على هذا .
وإذا فالمصلحة العامة وحدها المحكْمة ، وهى الخطة التى تتبع فى الحروب ، خصوصا والحرب مكر وخديعة ، ما دامت مكر أو خديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ولا يرسم لهم كيف يمكرون ، وإلا ما كانوا ما كرين .
3- بشارة الشهداء بالثواب الجزيل ، وبالأجر العظيم ، ويكفى لذلك قوله - تعالى - : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإِمام أحمد عن قيس الجذامى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى الشهيد ست خصال : عند أول قطرة من دمه يكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإِيمان " .
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين بشرهم بنصره متى نصروا دينه ، وتوعد الكافرين بالخيبة والخسران ، ووبخهم على عدم تدبرهم فى مصير الذين من قبهلم ، وسلى النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ . . . فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } .
**************
الباب الثاني - الحث على الشهادة في السنة النبوية
1-الترغيب في الرباط في سبيل الله :(1/215)
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ».أخرجه البخاري (1)
الغدوة بفتح الغين المعجمة هي المرة الواحدة من الذهاب ، والروحة بفتح الراء المرة الواحدة من المجيء
وعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ ». رواه مسلم (2)
وعن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الَّذِى مَاتَ مُرَابِطًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ». وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ ». أخرجه الترمذي وقَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَجَابِرٍ. وَحَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(3)
__________
(1) -برقم ( 2892)
(2) -برقم( 5047)
(3) -برقم(1721) وهو كما قال(1/216)
و عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِى أَوَّلِ دَفْعَةٍ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِى سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ».رواه الترمذي (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِى غُنَيْمَةٍ فِى رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاَةَ وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ فِى خَيْرٍ ».رواه مسلم (2).
متن الفرس : ظهره ، والهيعة بفتح الهاء وسكون الياء كل ما أفزع من جانب العدو من صوت أو خبر
والشعفة بالشين المعجمة والعين المهملة مفتوحتين هي رأس الجبل
=================
2ـ الترغيب في الحراسة في سبيل الله تعالى :
__________
(1) - برقم (1764 ) وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وهو كما قال
(2) - برقم (4997)(1/217)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». رواه الترمذي .(1)
وعن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين باتت تكلأ المسلمين في سبيل اللّه، وعين بكت من خشية اللّه ».أخرجه أبو يعلى إتحاف الخيرة (2)
تكلأ مهموزا أي تحفظ وتحرس
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَارِسٌ حَرَسَ فِى أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ». رَفَعَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَوَقَفَهُ وَكِيعٌ.رواه البيهقي في السنن الكبرى (3)
وعَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : حُرِّمَ عَلَى عَيْنَيْنِ أَنْ تَنَالَهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ الإِسْلامَ وَأَهْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أخرجه الحاكم.(4)
__________
(1) - برقم (1740) وهو حديث صحيح لغيره
(2) - برقم (4367) وهو حديث حسن
(3) - برقم (18910) وهو صحيح
(4) - برقم (2431) وهو صحيح لغيره(1/218)
وعن أَبَي رَيْحَانَةَ قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةٍ فَأَتَيْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَرَفٍ فَبِتْنَا عَلَيْهِ فَأَصَابَنَا بَرْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى رَأَيْتُ مَنْ يَحْفِرُ فِى الأَرْضِ حُفْرَةً يَدْخُلُ فِيهَا وَيُلْقِى عَلَيْهِ الْحَجَفَةَ - يَعْنِى التُّرْسَ - فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ النَّاسِ نَادَى « مَنْ يَحْرُسُنَا فِى هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَأَدْعُو لَهُ بِدُعَاءٍ يَكُونُ فِيهِ فَضْلاً ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « ادْنُهْ ». فَدَنَا فَقَالَ « مَنْ أَنْتَ ». فَتَسَمَّى لَهُ الأَنْصَارِىُّ فَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالدُّعَاءِ فَأَكْثَرَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو رَيْحَانَةَ فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ أَنَا رَجُلٌ آخَرُ. فَقَالَ « ادْنُهْ ». فَدَنَوْتُ فَقَالَ « مَنْ أَنْتَ ». قَالَ فَقُلْتُ أَنَا أَبُو رَيْحَانَةَ. فَدَعَا بِدُعَاءٍ هُوَ دُونَ مَا دَعَا لِلأَنْصَارِىِّ ثُمَّ قَالَ « حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ رواه أحمد .(1)
===============
3 ـ الترغيب في النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة وخلفهم في أهلهم :
عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ». رواه الترمذي (2).
__________
(1) - برقم (17676) وهو حديث حسن
(2) -برقم (1725) وهو صحيح(1/219)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » رواه البخاري ومسلم(1).
================
4ـ الترغيب في الغدوة في سبيل الله والروحة وما جاء في فضل المشي والغبار في سبيل الله والخوف فيه
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « لَرَوْحَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِى سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ». رواه البخاري (2)
(الغدوة)بفتح الغين المعجمة هي المرة الواحدة من الذهاب ،(والروحة) بفتح الراء هي المرة الواحدة من المجيء ،(النصيف) الخمار
و عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِىِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « غَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ ». رواه مسلم (3)
__________
(1) - البخاري (2843) ومسلم (5011)
(2) - (2796)
(3) - (4985)(1/220)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ». البخاري (1).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَإِيمَانًا بِى وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِى فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّى أَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ».رواه مسلم (2)
الكلم : بفتح الكاف وسكون اللام هو الجرح
__________
(1) - (2892)
(2) - (4967)(1/221)
وعن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِى الضَّرْعِ وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ». رواه الترمذي (1)
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ ». رواه البخاري (2)
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ مُكَاتِباً لَهَا دَخَلَ عَلَيْهَا بِبَقِيَّةِ مُكَاتَبَتِهِ فَقَالَتْ لَهُ أَنْتَ غَيْرُ دَاخِلٍ عَلَىَّ غَيْرَ مَرَّتِكَ هَذِهِ فَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا خَالَطَ قَلْبَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ رَهَجٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ ». رواه أحمد (3).
الرهج بفتح الراء وسكون الهاء وقيل بفتحها هو ما يداخل باطن الإنسان من الخوف والجزع ونحوه
=================
5 ـ الترغيب في سؤال الشهادة في سبيل الله تعالى:
عن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ». رواه مسلم (4)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ ». رواه مسلم (5)
__________
(1) - (1733) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
(2) - (2811)
(3) - (25285) وهو صحيح لغيره
(4) - (5039)
(5) - (5038)(1/222)
عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِيهِ يَرُدُّ إِلَى مَكْحُولٍ إِلَى مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « مَنْ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ شَهِيدٍ ». زَادَ ابْنُ الْمُصَفَّى مِنْ هُنَا : « وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِىءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ وَمَنْ خَرَجَ بِهِ خُرَاجٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ طَابَعَ الشُّهَدَاءِ ».رواه أبو داود والترمذي (1)
================
6 ـ الترغيب في الجهاد في سبيل الله تعالى وما جاء في فضل الكلم فيه والدعاء عند الصف والقتال
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ « إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ». قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « حَجٌّ مَبْرُورٌ ». رواه البخاري (2)
__________
(1) - أبو داود (2543) والترمذي (1751) وهو صحيح
(2) - (26)(1/223)
و عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ « الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ ». قَالَ قُلْتُ أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ « أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا ». قَالَ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ « تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ قَالَ « تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ ». أخرجه مسلم (1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ». مسلم (2)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فَقَالَ « أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلَةً ». فَقَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ أَفَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِى يَلِيهِ ». قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ « امْرُؤٌ مُعْتَزِلٌ فِى شِعْبٍ يُقِيمُ الصَّلاَةَ وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ وَيَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ أَفَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً ». قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « الَّذِى يُسْأَلُ بِاللَّهِ وَلاَ يُعْطِى بِهِ » أحمد (3).
__________
(1) - (260)
(2) - (4995)
(3) - (2150) وهو صحيح(1/224)
و عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِى فَاكِهٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِى الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ». رواه النسائي (1)
__________
(1) -(3147) وهو صحيح(1/225)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَنَا زَعِيمٌ - وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ - لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا وَلاَ مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ ». رواه النسائي (1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِى هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِى بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ».ؤواه الترمذي (2).
__________
(1) - (3146) وهو صحيح
(2) - (1751) و قَالَ :هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.(1/226)
وعند أحمد (1) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةُ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَهُ طِيبُهُ فَقَالَ لَوْ أَقَمْتُ فِى هَذَا الشِّعْبِ فَاعْتَزَلْتُ النَّاسَ وَلاَ أَفْعَلُ حَتَّى اسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلاَةِ سِتِّينَ عَاماً خَالِياً أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ». فواق الناقة هو ما بين رفع يدك عن ضرعها وقت الحلب ووضعها وقيل هو ما بين الحلبتين
و عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : « مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عُبَادَةِ رَجُلٍ سِتِّينَ سَنَةً » رواه الحاكم (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ « مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ». رواه مسلم(3)
__________
(1) - (11070) وهو حديث حسن
(2) - (2383) وقال صحيح على شرط البخاري وهو كما قال
(3) - (4977)(1/227)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ. قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ». أخرجه البخاري (1)
و عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ». فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَىَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ « وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِى الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ». قَالَ وَمَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». رواه مسلم (2)
__________
(1) - (2790)
(2) - (4987)(1/228)
و عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ». فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ هَذَا قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ. ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم (1)
(جفن السيف) بفتح الجيم وإسكان الفاء هو قرابه
و عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ - رضى الله عنه - يَقُولُ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ. قَالَ « أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ ». فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا ».رواه البخاري (2)
(مقنع) بضم الميم وفتح تانون المشددة متغط بالحديد وقيل على رأسه خوذة وقيل غير ذلك
__________
(1) - (5025)
(2) - (2808)(1/229)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِى سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لاَ أَدْرِى مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَكَلَّمَ فَقَالَ « إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا ». فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِى ظُهْرَانِهِمْ فِى عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ « لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا ». فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ ». فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم (1)
__________
(1) - (5024)(1/230)
القرن بفتح القاف والراء هو جعبة النشاب
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِى النَّارِ أَبَدًا ». رواه مسلم (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْنِى « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ إِنْ قَبَضْتُهُ أَوْرَثْتُهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ رَجَعْتُهُ رَجَعْتُهُ بِأَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ ».رواه الترمذي (2)
و عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلاَمٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». أبو داود (3)
و عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « جَاهِدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنَ الهَمِّ وَالْغَمِّ ». أحمد (4)
__________
(1) - (5003)
(2) - (1720) و قَالَ هذا حديث صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.وهو كما قال
(3) - (2476) و هو حديث صحيح
(4) - (23348) وهو صحيح لغيره(1/231)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ « مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ». أخرجه مسلم (1)
وعَنْ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَقَالَتْ َا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقَ زَوْجِى غَازِياً وَكُنْتُ أَقْتَدِى بِصَلاَتِهِ إِذَا صَلَّى وَبِفِعْلِهِ كُلِّهِ فَأَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُبْلِغُنِى عَمَلَهُ حَتَّى يَرْجِعَ. فَقَالَ لَهَا « أَتَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَقُومِى وَلاَ تَقْعُدِى وَتَصُومِى وَلاَ تُفْطِرِى وَتَذْكُرِى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلاَ تَفْتُرِى حَتَّى يَرْجِعَ ». قَالَتْ مَا أُطِيقُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقْتِيهِ مَا بَلَغْتِ الْعُشْرَ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ ». أحمد (2)
العشور : جمع عشرة وهو الواحد من عشرة أجزاء
__________
(1) - (4977)
(2) - (16038) وهو صحيح لغيره(1/232)
و عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِىِّ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاذاً يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ جُرِحَ جُرْحاً فِى سَبِيلِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهُ لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ مُخْلِصاً أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَمَنْ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ». أحمد (1)
و عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِى يَدِهِ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِى وَلاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِى ». أخرجه مسلم (2)
الكلم بفتح الكاف وإسكان اللام هو الجرح، والعرف بفتح العين المهملة وإسكان الراء هو الرائحة
__________
(1) - (22763) وهو صحيح
(2) - (4971)(1/233)
و عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِى خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا الأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرٌ فِى فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ ».رواه الترمذي (1)
وعن الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ الذِّمَارِىُّ حَدَّثَنِى عَمِّى : نِمْرَانُ بْنُ عُتْبَةَ الذِّمَارِىُّ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ أَيْتَامٌ فَقَالَتْ : أَبْشِرُوا فَإِنِّى سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ». أبو داود (2)
وعَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِىِّ - رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ ». أحمد (3)
=================
7 ـ الترغيب في إخلاص النية في الجهاد وما جاء فيمن يريد الأجر والغنيمة والذكر وفضل الغزاة إذا لم يغنموا
__________
(1) - (1770) و قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.وهو كما قال
(2) - (2524) وهو حديث حسن
(3) - (18257) وهو حديث صحيح(1/234)
عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهْوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». رواه البخاري ومسلم (1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِى عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لاَ أَجْرَ لَهُ ». فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ وَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفَهِّمْهُ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِى عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. فَقَالَ : « لاَ أَجْرَ لَهُ ». فَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ : « لاَ أَجْرَ لَهُ ».رواه أبو داود(2)
العرض: بفتح العين المهملة والراء جميعا هو ما يقتنى من مال وغيره
__________
(1) - رواه البخاري (3126)ومسلم (5028)
(2) - (2518) وهو حديث حسن(1/235)
و عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه – قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ». البخاري ومسلم (1)
و عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ شَىْءَ لَهُ ». فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ شَىْءَ لَهُ ». ثُمَّ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ ». رواه النسائي (2)
قوله يلتمس الأجر والذكر: يعني يريد أجر الجهاد ويريد مع ذلك أن يذكره الناس بأنه غاز أو شجيع ونحو ذلك
و عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ.
__________
(1) - البخاري (6689) ومسلم ( 5036 )
(2) -(3153) وهو حديث حسن(1/236)
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ». رواه مسلم (1)
__________
(1) - (5032)(1/237)
وعن عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ . فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِى حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مَعَهُ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَىَّ طَوِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ(1/238)
فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ.
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.(1/239)
وَيُؤْتَى بِالَّذِى قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِىءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ». ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُكْبَتِى فَقَالَ « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَقَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ فَأَخْبَرَنِى عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَحَدَّثَنِى الْعَلاَءُ بْنُ أَبِى حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِىَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). رواه الترمذي (1)
جريء : هو بفتح الجيم وكسر الراء وبالمد أي شجاع
__________
(1) - (2557) وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وهو كما قال(1/240)
و عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ « قَسَمْتُهُ لَكَ ». قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّى اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ - فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ « إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ ». فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِى قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَهُوَ هُوَ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ». ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى جُبَّةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ « اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِى سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ». رواه النسائي (1)
__________
(1) - (1965) وهو صحيح(1/241)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلاَّ تَعَجَّلُوا ثُلُثَىْ أَجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ». رواه مسلم (1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ ». رواه الترمذي (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذُكِرَ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا فِى بَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ وَفِى يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ». ابن ماجة (3)
===================
8- تمني الشهيد العودة إلى الدنيا
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ ». أخرجه البخاري (4)
__________
(1) -(5034)
(2) - (1769) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(3) - (2904) ضعيف
(4) - (2817)(1/242)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ فِى الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ ». أخرجه مسلم (1)
و عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدُ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى ». رواه الترمذي (2)
و عَنِ ابْنِ أَبِى عَمِيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا غَيْرُ الشَّهِيدِ ». قَالَ ابْنُ أَبِى عَمِيرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَلأَنْ أُقْتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ ». النسائي (3)
__________
(1) - (4975)
(2) - (1744) وقَالَ :هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
(3) - (3166) صحيح(1/243)
عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِىِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْقَتْلُ ثَلاَثَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِى خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لاَ يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلاَّ بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ فَمَصْمَصَةٌ تَحْتَ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ فَإِنَّ ذَلِكَ فِى النَّارِ السَّيْفُ لاَ يَمْحُو النِّفَاقَ ». أحمد (1)
=================
9- التحذير من ترك الغزو في سبيل الله
عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِى أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ». أبو داود (2)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ». مسلم (3)
===================
10- أنواع الشهداء
__________
(1) - (18124) في سنده لين
(2) - (2505) وهو حديث حسن
(3) -(5040)(1/244)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». أخرجه البخاري (1)
و عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ ». أخرجه البخاري (2)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ « إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِى إِذًا لَقَلِيلٌ ». قَالُوا فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَنْ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِى الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِى الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ ». أخرجه مسلم (3)
وعن عَوْفِ قال : حَدَّثَتْنَا حَسْنَاءُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ الصَّرِيمِيَّةُ قَالَتْ حَدَّثَنَا عَمِّى قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- : مَنْ فِى الْجَنَّةِ قَالَ : « النَّبِىُّ فِى الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِى الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِى الْجَنَّةِ وَالْوَئِيدُ فِى الْجَنَّةِ ». أبو داود(4)
__________
(1) - (653)
(2) - (5734)
(3) - (5050)
(4) - (2523) حسن(1/245)
و عَنْ رَاشِدِ بْنِ حُبَيْشٍ َنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَعُودُهُ فِى مَرَضِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَعْلَمُونَ مَنِ الشَّهِيدُ مِنْ أُمَّتِى ». فَأَرَمَّ الْقَوْمُ فَقَالَ عُبَادَةُ سَانِدُونِى. فَأَسْنَدُوهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّابِرُ الْمُحْتَسِبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِى إِذاً لَقَلِيلٌ الْقَتْلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحَرْقُ وَالسَّيْلُ ». أحمد (1)
***************
الباب الثالث - جوازالعمليات الاستشهادية
بما أن المسلمين اليوم غير ممكنين إلا من القليل القليل ، وذلك لكونهم يحكمون من قبل عدو ظاهر كما في فلسطين والشيشان والعراق وأفغانستان وكشمير وغيرها من بلدان المسلمين التي ترزح تحت نير الاحتلال العسكري المباشر
أو ( في الغالب )تحت حكم فرعوني متسلط متجبر، أفقر الناس وجوعهم وجردهم من كل من كل شيء حتى الكرامة الإنسانية والجيوش التي عندهم ليست لحماية البلاد والعباد ، بل لحماية العروش والكراسي ، ومن ثم فلا فائدة من وجودها بتاتا
ولا سيما أن العدو اليوم يملك من أدوات التدمير والبطش ما يعجز عنه الوصف فمواجهته مباشرة غير ممكنة في الظروف الراهنة
ومن هنا فإن الحل الأمثل لمواجهته هو بحرب العصابات كما فعل (( أبو بصير ومن معه رضي الله عنهم ضد قريش ))
__________
(1) - (16420) وهوصحيح لغيره(1/246)
ففي حديث صلح الحديبية الطويل ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا. فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا. فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ. فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا ». فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ ». فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ(1/247)
وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حَتَّى بَلَغَ (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. أخرجه البخاري (1)
000000000000000000
بل إن ( العمليات الاستهشادية ) هي الطريقة المثلى لمواجهة العدو وذلك لأن العدو لا يحب الموت .
قال تعالى مبينا طبيعة الكفار :{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) [البقرة/94-96]
وفي الظلال (2):
لن يتمنوه . لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب , ولا يؤمنهم من عقاب . إنه مدخر لهم هناك , والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون .
__________
(1) - البخاري (2731 و2732)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 64)(1/248)
وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود , خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) . . أية حياة , لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير !
حياة ديدان أو حشرات !
حياة والسلام !
إنها يهود , في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس , وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . .
أي حياة !
(ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة , وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر , والله بصير بما يعملون) . .
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله , ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها , ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . .
إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود , إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق , وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية , وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ; إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق , الذي لا يعلم إلا الله مداه , وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .
0000000000000000000
وقال تعالى :{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} (14) سورة الحشر
وفي الظلال (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 7 / ص 168)(1/249)
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في "تشخيص" حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان . بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة . فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان . حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء . وسبحان العليم الخبير !
وتبقى الملامح النفسية الأخرى (بأسهم بينهم شديد) . .
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم , وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان , والجنس والوطن والعشيرة . .
(ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) . .
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم , ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض , كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ; إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع . فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور , وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد , قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء , وتصادم الاتجاهات . وما صدق المؤمنون مرة , وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال .
وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار , وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة !(1/250)
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب . . من المسلمين . . عندما تتفرق قلوب المسلمين , فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة . فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز , وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب (بأسهم بينهم شديد) . .
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) . .
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين , ليهون فيها من شأن أعدائهم ; ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم . فهو إيحاء قائم على حقيقة ; وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت . ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله , وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد , فلم تقف لهم قوة في الحياة .
والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم . فهذا نصف المعركة . والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع , وفي سياق التعقيب عليه , وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل , شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه , ويتدبره كل من جاء بعدهم , وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة !
0000000000000000000
والأمر الآخر هذا أحد الممكنات اليوم، أن يجود المسلم الذي يريد الله تعالى والدار الآخرة بنفسه سخية في سبيل الله ، بل هو من أعظم القربات عند الله تعالى .
ومثل هذه العلميات لم تحدث من قبل لعدم حاجة المسلمين إليها، ولأنه لا توجد متفجرات تؤثر في العدو، فلم يكن سوى السيف والرمح والترس
0000000000000000000000
وأما الدليل على مشروعية العمليات الاستشهادية فهو ما يلي :(1/251)
قبل الدخول في حكم العمليات وتفصيلها ، ونقل أقوال العلماء فيها ، وحل بعض إشكاليات المسألة ، يحسن بنا أن نقدم الأدلة الشرعية لها ، ونعرض بعدها توجيهات الأدلة ووجه الدلالة منها ، ونظراً لكثرة الأدلة في هذه المسألة فإننا لن ندقق في أسانيد كل دليل على حده ، إنما يكفينا أن أصل أدلة المسألة واردة في الصحيحين وما كان ضعيفاً في غيرهما فإنه يشد بما جاء فيهما ، فنقول :-
1- قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة.
هذه الآية هي أصل عقد البيع والشروط بين المجاهد وربه ، فكل حال أدى فيها المجاهد الثمن ليقبض المثمن فهي جائزة حتى يدل دليل على منعها خاصة .
2- قال تعالى {…. كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (249) سورة البقرة.
هذه الآية دليل على أن مقياس الغلبة في الشرع ليست معلقة بالمقاييس الدنيوية المادية بشكل رئيسي
3- قال تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (207) سورة البقرة.
ومعنى يشري : أي يبيع ، وفي تفسير الصحابة لهذه الآية - كما سيأتي - دلالة على أن من باع نفسه لله ، لا يسمى منتحراً حتى ولو انغمس في ألف من رجال العدو حاسراً وقتل .(1/252)
4- روى مسلم في صحيحه قصة أصحاب الأخدود عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ(1/253)
فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.(1/254)
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.
ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 7703 )
المئشار : المنشار =الأخدود : الشق العظيم فى الأرض = القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة =تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم = الكنانة : وعاء السهام(1/255)
وفي هذا الحديث دلالة على أن الغلام عندما أمر بقتل نفسه فداءً للدين أن ذلك أمر مشروع ولم يسم منتحراً ، رغم أنه لم يوح إليه بذلك ولم يكن يعلم النتيجة لفعله مسبقاً .
5- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِى أُسْرِىَ بِى فِيهَا أَتَتْ عَلَىَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا. قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِىَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِى قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ . قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلاَنَةُ وَإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِى قَالَتْ نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِىَ وَأَوْلاَدُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِى وَعِظَامَ وَلَدِى فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا. قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلاَدِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِداً وَاحِداً إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِىٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ ». قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ(1/256)
ابْنَةِ فِرْعَوْنَ.أخرجه أحمد (1)
وفي هذا الحديث أن الله أنطق الطفل ليأمر أمه بالاقتحام في النار ، وهذا كطفل المرأة من أصحاب الأخدود ، ولو كان في قتل النفس للدين أي محظور لما أثنى الشارع على هذا الفعل ، وما إنطاق الطفل إلا آية لبيان فضل هذا الفعل .
6- عَنْ أَسْلَمَ أَبِى عِمْرَانَ قَالَ : غَزَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ : مَهْ مَهْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الإِسْلاَمَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَالإِلْقَاءُ بِالأَيْدِى إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ.قَالَ أَبُو عِمْرَانَ : فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. أخرجه أبو داود (2)
وقال البيهقي في السنن : باب جواز انفراد الرجل والرجال بالغزو في بلاد العدو ، استدلالاً بجواز التقدم على الجماعة وإن كان الأغلب أنها ستقتله ثم روى حديث أبي عمران المذكور وغيره .
وفي هذا الحديث فسر أبو أيوب رضي الله عنه بأن هذه الآية لا تنطبق على من اقتحم وحده على العدو ، حتى لو ظهر للناس أنه مهلك لنفسه ، وأقره على ذلك التفسير الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
__________
(1) - (2875) وهو حديث صحيح
(2) - (2514) وهو حديث صحيح(1/257)
7- عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ : قَالَ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم , مَا يَضْحَكُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ ؟ قَالَ : غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا ، قَالَ : وَأَلْقَى دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.أخرجه ابن أبي شيبة (1)
قال ابن النحاس : كذا جاء في رواية ابن أبي شيبة ، عن يزيد ، والمشهور في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن الذي فعل ذلك عوف بن عفراء أخو معاذ بن عفراء أمهما ، وعوذ ومعوذ أخواهما والكل من عفراء ، وأبوهما الحارث بن رفاعة النجاري بدري ، والله أعلم .
هذا الحديث وما بعده في معناه أدلة واضحة على فضل الأعمال الجهادية التي يغلب على الظن هلاك صاحبها ، وأن الجهاد له أدلة خاصة تجيز ما كان ممنوعاً في غيره .
8- عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ قَالَ « الَّذِينَ إِنْ يُلْقَوْا فِى الصَّفِّ يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أُولَئِكَ يَنْطَلِقُونَ فِى الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فِى الدُّنْيَا فَلاَ حِسَابَ عَلَيْهِ » أخرجه أحمد (2)
9- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :{ ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمُ : الَّذِي إِذَا تَكَشَّفَ فِئَةً قَاتَلَ وَرَاءَهَا بِنَفْسِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ }أخرجه الحاكم (3)
__________
(1) - (19496) وهو حديث صحسح مرسل
(2) - (23139) وهو صحيح
(3) - (68) وهو صحيح(1/258)
وعن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يحبهم الله عز وجل ، يضحك إليهم ويستبشر بهم ، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل ، فإما أن يقتل ، وإما أن ينصره الله عز وجل ويكفيه ، فيقول : انظروا إلى عبدي كيف صبر لي نفسه ، والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن ، فيقوم من الليل فيذر شهوته فيذكرني ويناجيني ولو شاء لرقد ، والذي يكون في سفر وكان معه ركب فسهروا ونصبوا ثم هجعوا فقام في السحر في سراء أوضراء »الأسماء والصفات للبيهقي (1)
10- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاَتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِى وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِى وَرَجُلٍ غَزَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمَ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِى الاِنْهِزَامِ وَمَا لَهُ فِى الرُّجُوعِ فَرَجَعَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلاَئِكَتِهِ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِى رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِى وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِى حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ».أخرجه البيهقي في السنن(2) ، ،
قال ابن النحاس : ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس ، والله أعلم .
__________
(1) - (931) وهو صحيح
(2) - (18994) وهو صحيح(1/259)
11- عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ رَفَعَهُ إِلَى أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « ثَلاَثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ فَتَخَلَّفَهُمْ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لاَ يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِى أَعْطَاهُ وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِى وَيَتْلُو آيَاتِى وَرَجُلٌ كَانَ فِى سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ ».أخرجه النسائي (1)
12- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِى غُنَيْمَةٍ فِى رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاَةَ وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ فِى خَيْرٍ ».أخرجه (2).
وهذا وما بعده دليلان على أن ابتغاء القتل والبحث عن الشهادة أمر مشروع وممدوح منفرداً .
__________
(1) - (1626) وهو صحيح
(2) - مسلم (4997)(1/260)
13- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ أَفْضَلُ النَّاسِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ بِهَيْعَةٍ اسْتَوَى عَلَى مَتْنِهِ ثُمَّ طَلَبَ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ وَرَجُلٌ فِى شِعْبٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلاَةَ وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ ».أخرجه أحمد (1)
__________
(1) - (9974) وهو صحيح(1/261)
14- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِى سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لاَ أَدْرِى مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَكَلَّمَ فَقَالَ « إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا ». فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِى ظُهْرَانِهِمْ فِى عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ « لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا ». فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ ». فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.أخرجه مسلم (1)
__________
(1) - (5024)(1/262)
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة ألا يقاتلوا في بدر إلا صفاً وكان يسوي صدورهم بالرمح حتى لا يتقدم أحد على الصف ، فلما سمع عمير ما سمع من فضل انطلق من الصف واقتحم على العدو وحده ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رغم أن الموت كان نتيجة فعله أمر محقق .
15- عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ غَابَ عَمِّى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِى قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ » - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ ، الْجَنَّةَ ، وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ . قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ . قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ . قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ أخرجه البخاري (1).
__________
(1) - (2805)(1/263)
16- عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : قَدْ بَعَثَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَخَبَّابًا سَرِيَّةً وَبَعَثَ دِحْيَةَ سَرِيَّةً وَحْدَهُ.أخرجه البيهقي (1)
هذا والذي بعده دليلان على أن نسبة الخطر مهما ارتفعت في الأعمال الجهادية أنه ليس لها اعتبار بل يبقى أصل العمل مشروعاً وكلما زاد الخطر زاد الثواب وهذا سيتضح في ثنايا البحث .
17- عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَعَثَهُ يَوْمَ الأَحْزَابِ سَرِيَّةً وَحْدَهُ " .أخرجه الطبراني (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أُنَيْسٍ،"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ سَرِيَّةً وَحْدَهُ".أهرجه الطبراني (3)
18- قال الشَّافِعِىُّ : أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ فَرَأَى الطَّيْرَ عُكُوفًا عَلَى مَقْتَلَةِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ سَأَتَقَدَّمُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْعَدُوِّ فَيَقْتُلُونِى وَلاَ أَتَخَلَّفُ عَنْ مَشْهَدٍ قُتِلَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَفَعَلَ فَقُتِلَ فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ فِيهِ قَوْلاً حَسَنًا وَيُقَالُ قَالَ لِعَمْرٍو :« فَهَلاَّ تَقَدَّمْتَ فَقَاتَلْتَ حَتَّى تُقْتَلَ ». قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىَّ وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ سَرِيَّةً وَحْدَهُمَا وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ. أخرجه البيهقي (4)
وفي هذا الحديث لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من تقدم وعلم أنه يقتل ، بل إنه حث من رجع على الإقدام حتى يقتل مثل أصحابه .
__________
(1) - (18663) وهو صحيح
(2) - (2932) وهو صحيح
(3) - (118) وهو صحيح
(4) - (18664)(1/264)
19- عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِىُّ - وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِى زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِى هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ ، كُلُّهُمْ رَامٍ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ . فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ ، وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا . قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ . فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ ، إِنَّ فِى هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً . يُرِيدُ الْقَتْلَى ، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ(1/265)
يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى فَقَالَ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ .(1/266)
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ ذَرُونِى أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . فَتَرَكُوهُ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا . وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا أخرجه البخاري (1).
__________
(1) - (3045)(1/267)
20- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِى سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِى فِى الْجَنَّةِ ». فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِى فِى الْجَنَّةِ ». فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِصَاحِبَيْهِ « مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ».أخرجه مسلم (1)
21- روى ابن كثير في البداية والنهاية (2)قال : قال ابن اسحاق وترس أبو دجانة دون رسول الله بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل .
في هذا الحديث والذي بعده أدلة على جواز فداء القائد بالنفس وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفداء القائد أقل من فداء الدين فكيف بفداء الدين ؟
__________
(1) - (4742)
(2) - 4/34(1/268)
22- عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلاً رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ ، يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْشُرْهَا لأَبِى طَلْحَةَ . فَأَشْرَفَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى ، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ ، نَحْرِى دُونَ نَحْرِكَ . وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا ، تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ، تُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ، ثُمَّ تَجِيآنِ فَتُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَىْ أَبِى طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ ، وَإِمَّا ثَلاَثًا أخرجه البخاري (1)
23- عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ ، قَالَ رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِى وَقَى بِهَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ شَلَّتْ .أخرجه البخاري (2)
24- عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ قَالَ قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ . قَالَ عَلَى الْمَوْتِ .أخرجه البخاري (3)
__________
(1) - (3811)
(2) - (3724)
(3) - (4169)(1/269)
25- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ :قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجْنَا أَنَا وَرَبَاحٌ غُلاَمُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجْتُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أُبْدِيَهُ مَعَ الإِبِلِ فَلَمَّا كَانَ بِغَلَسٍ غَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَتَلَ رَاعِيَهَا وَخَرَجَ يَطْرُدُهَا هُوَ وَأُنَاسٌ مَعَهُ فِى خَيْلٍ فَقُلْتُ َا رَبَاحُ اقْعُدْ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ فَأَلْحِقْهُ بِطَلْحَةَ وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَدْ أُغِيرَ عَلَى سَرْحِهِ - قَالَ - وَقُمْتُ عَلَى تَلٍّ فَجَعَلْتُ وَجْهِى مِنْ قِبَلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ نَادَيْتُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ َا صَبَاحَاهُ.(1/270)
ثُمَّ اتَّبَعْتُ الْقَوْمَ مَعِى سَيْفِى وَنَبْلِى فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَكْثُرُ الشَّجَرُ فَإِذَا رَجَعَ إِلَىَّ فَارِسٌ جَلَسْتُ لَهُ فِى أَصْلِ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَمَيْتُ فَلاَ يُقْبِلُ عَلَىَّ فَارِسٌ إِلاَّ عَقَرْتُ بِهِ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَنَا أَقُولُ أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَأَلْحَقُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَرْمِيهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَيَقَعُ سَهْمِى فِى الرَّجُلِ حَتَّى انْتَظَمْتُ كَتِفَهُ فَقُلْتُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَإِذَا كُنْتُ فِى الشَّجَرِ أَحْرَقْتُهُمْ بِالنَّبْلِ فَإِذَا تَضَايَقَتِ الثَّنَايَا عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَرَدَيْتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَمَا زَالَ ذَاكَ شَأْنِى وَشَأْنَهُمْ أَتْبَعُهُمْ فَأَرْتَجِزُ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئاً مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِى فَاسْتَنْقَذْتُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِينَ رُمْحاً وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً يَسْتَخِفُّونَ مِنْهَا وَلاَ يُلْقُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً إِلاَّ جَعَلْتُ عَلَيْهِ حِجَارَةً وَجَمَعْتُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا امْتَدَّ الضُّحَى أَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِىُّ مَدَداً لَهُمْ وَهُمْ فِى ثَنِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ ثُمَّ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَأَنَا فَوْقَهُمْ فَقَالَ عُيَيْنَةُ َا هَذَا الَّذِى أَرَى قَالُوا َقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ مَا فَارَقَنَا بِسَحَرٍ حَتَّى الآنَ وَأَخَذَ كُلَّ شَىْءٍ فِى أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . قَالَ عُيَيْنَةُ لَوْلاَ أَنَّ هَذَا يَرَى أَنَّ ورَاءَهُ طَلَباً لَقَدْ(1/271)
تَرَكَكُمْ لِيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ فَقَامَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فَصَعِدُوا فِى الْجَبَلِ فَلَمَّا أَسْمَعْتُهُمُ الصَّوْتَ قُلْتُ أَتَعْرِفُونِى قَالُوا َمَنْ أَنْتَ قُلْتُ َنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالَّذِى كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَطْلُبُنِى مِنْكُمْ رَجُلٌ فَيُدْرِكُنِى وَلاَ أَطْلُبُه فَيَفُوتُنِى . قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِنْ أَظُنُّ. قَالَ فَمَا بَرِحْتُ مَقْعَدِى ذَلِكَ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ وَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِىُّ وَعَلَى أَثَرِهِ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى أَثَرِ أَبِى قَتَادَةَ الْمِقْدَادُ الْكِنْدِىُّ فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ وَأَنْزِلُ مِنَ الْجَبَلِ فَأَعْرِضُ لِلأَخْرَمِ فَآخُذُ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فَقُلْتُ َا أَخْرَمُ ائْذَنِ الْقَوْمَ يَعْنِى احْذَرْهُمْ فَإِنِّى لاَ آمَنُ أَنْ يَقْطَعُوكَ فَاتَّئِدْ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ. قَالَ َا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ فَلاَ تَحُلْ بَيْنِى وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ. قَالَ فَخَلَّيْتُ عِنَانَ فَرَسِهِ فَيَلْحَقُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَعْطِفُ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ فَعَقَرَ الأَخْرَمُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ فَتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ فَيْلَحَقُ أَبُو قَتَادَةَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ فَعَقَرَ بِأَبِى قَتَادَةَ وَقَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَتَحَوَّلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى(1/272)
فَرَسِ الأَخْرَمِ ثُمَّ إِنِّى خَرَجْتُ أَعْدُو فِى أَثَرِ الْقَوْمِ حَتَّى مَا أَرَى مِنْ غُبَارِ صَحَابَةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئاً وَيُعْرِضُونَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ ذُو قَرَدٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهُ فَأَبْصَرُونِى أَعْدُو وَرَاءَهُمْ فَعَطَفُوا عَنْهُ وَاشْتَدُّوا فِى الثَّنِيَّةِ ثَنِيَّةِ ذِى بِئْرٍ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَأَلْحَقُ رَجُلاً فَأَرْمِيهِ فَقُلْتُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. قَالَ فَقَالَ َا ثُكْلَ أُمِّ أَكْوَعَ بَكْرَةً.(1/273)
قُلْتُ َعَمْ أَىْ عَدُوَّ نَفْسِهِ وَكَانَ الَّذِى رَمَيْتُهُ بَكْرَةً فَأَتْبَعْتُهُ سَهْماً آخَرَ فَعَلِقَ بِهِ سَهْمَانِ وَيَخْلُفُونَ فَرَسَيْنِ فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِى جَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ ذُو قَرَدٍ فَإِذَا بِنَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى خَمْسِمِائَةٍ وَإِذَا بِلاَلٌ قَدْ نَحَرَ جَزُوراً مِمَّا خَلَّفْتُ فَهُوَ يَشْوِى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ َا رَسُولَ اللَّهِ خَلِّنِى فَأَنْتَخِبَ مِنْ أَصْحَابِكَ مِائَةً فَآخُذَ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعَشْوَةِ فَلاَ يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلاَّ قَتَلْتُهُ. قَالَ « أَكُنْتَ فَاعِلاً ذَلِكَ يَا سَلَمَةُ ». قَالَ َعَمْ وَالَّذِى أَكْرَمَكَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ فِى ضَوْءِ النَّارِ ثُمَّ قَالَ « إِنَّهُمْ يُقْرَوْنَ الآنَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ ». فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ مَرُّوا عَلَى فُلاَنٍ الْغَطَفَانِىِّ فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُوراً - قَالَ - فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُونَ جِلْدَهَا رَأَوْا غَبَرَةً فَتَرَكُوهَا وَخَرَجُوا هِرَاباً فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ». فَأَعْطَانِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَهْمَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ جَمِيعاً ثُمَّ أَرْدَفَنِى ورَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا قَرِيباً مِنْ ضَحْوَةٍ وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لاَ يُسْبَقُ جَعَلَ يُنَادِى هَلْ مِنْ(1/274)
مُسَابِقٍ أَلاَ رَجُلٌ يُسَابِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَعَادَ ذَلِكَ مِرَاراً وَأَنَا وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُرْدِفِى قُلْتُ لَهُ َمَا تُكْرِمُ كَرِيماً وَلاَ تهَابُ شَرِيفاً. قَالَ لاَ إِلاَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى خَلِّنِى فَلأُسَابِقُ الرَّجُلَ. قَالَ « إِنْ شِئْتَ ». قُلْتُ َذْهَبُ إِلَيْكَ فَطَفَرَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَثَنَيْتُ رِجْلَىَّ فَطَفَرْتُ عَنِ النَّاقَةِ ثُمَّ إِنِّى رَبَطْتُ عَلَيْهَا شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ يَعْنِى اسْتَبْقَيْتُ نَفْسِى ثُمَّ إِنِّى عَدَوْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ فَأَصُكَّ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِيَدَىَّ. قُلْتُ َبَقْتُكَ وَاللَّهِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. قَالَ. فَضَحِكَ وَقَالَ ِنْ أَظُنُّ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. أخرجه أحمد (1)
وفي هذا الحديث مدح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فعل سلمة ولم ينكر عليه قتاله القوم وحده والغزو دون إذنه ، وكذلك لم نكر على الأخرم قتاله للقوم وحده ، فدل ذلك على جواز الغزو بدون إذن الإمام ، وعلى جواز قتال العدو بدون ضرورة مع الفارق الكبير في العدد والعدة .
روى البيهقي في سننه الكبرى (2)وغيره ، قال وفي يوم اليمامة لما تحصن بنو حنيفة في بستان مسيلمة الذي كان يعرف بحديقة الرحمن أو الموت ، قال البراء بن مالك لأصحابه : ضعوني في الجفنة – وهي ترس من جلد كانت توضع به الحجارة وتلقى على العدو – وألقوني ، فألقوه عليهم فقاتل وحده وقتل منهم عشرة وفتح الباب ، وجرح يومئذ بضعاً وثمانين جرحاً ، حتى فتح الباب للمسلمين ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
قلت:
__________
(1) - (16988) وهو صحيح
(2) - كتاب السير 9/44(1/275)
وقد ذكر ذلك مستقصى في أيَّام الصِّديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفاً فلمَّا التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون، فقال المهاجرون والأنصار: خلِّصنا يا خالد فميَّزهم عنهم وكان المهاجرون والأنصار قريباً من ألفين وخمسمائة، فصمَّموا الحملة وجعلوا يتدابرون، ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السِّحر اليوم فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت، فتحصَّنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان الأكبر - ما ذكر من رفعه على الأسنَّة فوق الرِّماح حتَّى تمكن من أعلى سورها، ثمَّ ألقى نفسه عليهم ونهض سريعاً إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتَّى تمكَّن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبِّرون، (1)
وفي إقرار الصحابة لهذا الفعل دليل على جواز كل عمل جهادي حتى لو كانت الهلكة فيه محققة .
والأمثلة كثيرة جدا في هذا الباب
27- وفي البداية والنهاية لابن كثير (2):
وقال محمَّد بن إسحاق: عن صالح بن كيسان إنَّ أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السَّواد يقال لها: بانقيا، وباروسما، وصاحبها حابان فصالحه أهلها.
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 335)
(2) - (ج 7 / ص 466) و(ج/ص:6/378) و تاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 183)(1/276)
قلت: وقد قتل منهم المسلمون قبل الصُّلح خلقاً كثيراً، وكان الصُّلح على ألف درهم، وقيل: دينار في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن صلوبا، ويقال: صلوبا بن بصبهري، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتاباً، ثمَّ أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع بيصة بن إياس بن حيَّة الطَّائيّ وكان أمَّره عليها كسرى بعد النُّعمان بن المنذر، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيصة: مالنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية.
فقال لهم خالد: تباً لكم إنَّ الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه رجلان أحدهما عربي والآخر أعجمي فتركه واستدلَّ بالعجمي، ثمَّ صالحهم على تسعين ألفاً، وفي رواية مائتي ألف درهم، فكانت أوَّل جزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.
قلت: وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممَّن وفد إلى خالد عمرو بن عبد المسيح بن حيان بن بقيلة وكان من نصارى العرب، فقال له خالد: من أين أثرك ؟
قال: من ظهر أبي.
قال: ومن أين خرجت ؟
قال: من بطن أمي.
قال: ويحك على أي شيء أنت ؟
قال: على الأرض.
قال: ويحك وفي أي شيء أنت ؟
قال: في ثيابي.
قال: ويحك تعقل؟
قال: نعم، وأقيد.
قال: إنَّما أسألك ؟
قال: وأنا أجيبك.
قال: أسلم أنت أم حرب ؟
قال: بل سلم.
قال: فما هذه الحصون التي أرى ؟
قال: بنيناها للسَّفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه، ثمَّ دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال فأجابوا إلى الجزية بتسعين، أو مائتي ألف كما تقدَّم.(1/277)
ثمَّ بعث خالد ابن الوليد كتاباً إلى أمراء كسرى بالمدائن، ومرازبته، ووزرائه كما قال هشام بن الكلبي: عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن: من خالد ابن الوليد إلى مرازبة أهل فارس، سلام على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد فالحمد لله الذي فضَّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإنَّ من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا، أمَّا بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرَّهن واعتقدوا منِّي الذِّمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبُّون الموت كما تحبُّون أنتم الحياة، فلمَّا قرؤوا الكتاب أخذوا يتعجَّبون...
28- وفي البداية والنهاية (1):خراسان مع الأحنف بن قيس.
وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين.
فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان.
فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد.
وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس.
ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان، فنزلها.
وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصفد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
__________
(1) -(ج/ص: 7/144)(1/278)
وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد، ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه، فعبر النهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها.
فقال عمر: وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار.
فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين؟
فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين، لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر.
وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان.
ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفاً، فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة.(1/279)
فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] فكانت الترك يقاتلون بالنهار، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل.
فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز:
إن على كل رئيس حقاً * أن يخضب الصعدة أو يندقا
إن لها شيخاً بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى
قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه.
ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية.
وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم، يضرب الأول بطبله، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث.
فلما خرجت الترك ليلتئذٍ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله.
ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا.
فرجعوا إلى بلادهم، وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحداً منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه.
وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟(1/280)
فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: ((اتركوا الترك ما تركوكم)).
وقد ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً)). [الأحزاب: 25]
ورجع كسرى خاسراً الصفقة، لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ولا انتصر، كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 88] وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب ؟.
وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده.
فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة وديناً يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك.
ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده، فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل؟ وماذا يصنعون؟ وكيف يصلون ؟.
فكتب معه إلى يزدجرد: أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ماداموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة.
فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين. ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه.(1/281)
ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك، ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتله عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً. فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على أتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة.
فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية، فرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم.
ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا يستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
29-وقال رحمه الله :ثم دخلت سنة ست وتسعين(1).
وفيها فتح قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى كاشغر من أرض الصين، وبعث إلى ملك الصين رسلاً يتهدده ويتوعده ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ويختم ملوكهم وأشرافهم، ويأخذ الجزية منهم أو يدخلوا في الإسلام.
فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال: إن عليها تسعين باباً في سورها المحيط بها يقال لها: خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعاً ومعاملات وأموالاً، حتى قيل: إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين، لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم لكثرة أموالهم ومتاعهم، وغيرهم محتاج إليهم لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج، لقهره وكثرة جنده وعدده.
__________
(1) - (ج/ص: 9/162)(1/282)
والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة حصينة، ذات أنهار وأسواق وحسن وبهاء، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة، فقال لهم ملك الصين: ما أنتم؟ - وكانوا ثلاثمائة رسول عليهم هبيرة - فقال الملك لترجمانه: قل لهم: ما أنتم وما تريدون؟ فقالوا: نحن رسل قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الإسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب.
فغضب الملك وأمر بهم إلى دار، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم: كيف تكونون في عبادة إلهكم؟ فصلوا الصلاة على عادتهم فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم. فقال: كيف تكونون في بيوتكم؟ فلبسوا ثياب مهنهم، فأمرهم بالانصراف، فلما كان من الغد أرسل إليهم فقال: كيف تدخلون على ملوككم؟ فلبسوا الوشي والعمائم والمطارف ودخلوا على الملك، فقال لهم: ارجعوا فرجعوا، فقال الملك لأصحابه: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك المرة الأولى، وهم أولئك.
فلما كان اليوم الثالث: أرسل إليهم فقال لهم: كيف تلقون عدوكم؟ فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا المغافر والبيض وتقلدوا السيوف ونكبوا القسي وأخذوا الرماح وركبوا خيولهم ومضوا، فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما قربوا منه ركزوا رماحهم ثم أقبلوا نحوه مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا - وذلك لما دخل قلوب أهل الصين من الخوف منهم - فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم ساقوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا كهؤلاء قط.(1/283)
فلما أمسوا بعث إليهم الملك: أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم، فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك حين دخل عليه: قد رأيتم عظم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم بمنزلة البيضة في كفي، وأنا سائلك عن أمر فإن تصدقني وإلا قتلتك، فقال: سل ! فقال الملك: لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم والثاني والثالث؟ فقال: أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا وطيبنا عندهم، وأما ما فعلنا ثاني يوم فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا، وأما زينا ثالث يوم فهو إذا لقينا عدونا.
فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له: ينصرف راجعاً عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم.
فقال له هبيرة: تقول لقتيبة هذا ؟! فكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها، وغزاك في بلادك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلاً إذا حضر فأكرمها عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
فقال الملك: فما الذي يرضي صاحبكم؟ فقال: قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ويختم ملوكك ويجبي الجزية من بلادك، فقال أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهباً كثيراً وحريراً وثياباً صينيةً لا تقوم ولا يدرى قدرها، ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة، ثم اتفق الحال على أن بعث صحافاً من ذهب متسعة فيها تراب من أرضه ليطأه قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم، وبعث بمال جزيل ليبر بيمين قتيبة.(1/284)
وقيل: إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك، فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملك الصين قبل ذلك منه، وذلك لأنه كان قد انتهى إليه خبر موت الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، فانكسرت همته لذلك، وقد عزم قتيبة بن مسلم الباهلي على ترك مبايعة سليمان بن عبد الملك، وأراد الدعوة إلى نفسه لما تحت يده من العساكر، ولما فتح من البلاد والأقاليم فلم يمكنه ذلك، ثم قتل في آخر هذه السنة رحمه الله تعالى.
فإنه يقال: إنه ما كسرت له راية، وكان من المجاهدين في سبيل الله، واجتمع له من العساكر ما لم يجتمع لغيره.
**************
فصل في أقوال العلماء فيمن هجم على العدو وحده
وبعدما أثبتنا من خلال الأدلة السابقة في الفصل المتقدم جواز الاقتحام على العدو منفرداً والهجوم عليه مع تيقن الموت ، فإننا نقول إن العمليات الاستشهادية متفرعة عن هذا الأصل ، وجوازها يتضح مما سبق من الأدلة ، بعد معرفة مناط تحريم قتل النفس المقصور على نقص الإيمان أو انتفائه ( وقد بينا المناط في فصل تعريف المنتحر ) ، إلا أن السلف رحمهم الله لم يعرفوا العمليات الاستشهادية بصورتها الحالية ، لتجدد أساليب القتال لذا لم يبحثوها بعينها ، ، ولكنهم بحثوا أشباهها من المسائل كالهجوم منفرداً للنكاية في العدو وإرهابهم مع تيقن الموت ، وقعّدوا قواعد تدخل تحتها العمليات الاستشهادية وغيرها ، ومستندهم في أقوالهم ما عرضناه في الفصل السابق من أدلة .
إذاً فأصل هذه المسألة هو الانغماس منفرداً أو مع جماعة قليلة في جيش العدو ، رغم التيقن بالموت المحقق ، إلا أن الفارق بين الانغماس والعملية الاستشهادية هو أن المنغمس في صف العدو يقتل بيد العدو والفدائي يقتل بيده ، وهذا الفارق ليس له أثر في الحكم على المسألة ، وسنبين ذلك فيما بعد .(1/285)
وفي هذا الفصل سننقل لمريد الحق بعض أقوال السلف حول المسألة التي تتفرع عنها العمليات الاستشهادية ، وسننقل أيضاً بعض تعليقات العلماء على بعض الأدلة التي مضت ، ومنعاً للتكرار فإننا سننقل كلام العلماء ، وما كان من أقوالهم فيه من الأدلة ما أوردناه سابقاً لن نذكر الدليل بطوله في الفتوى ولكننا سنشير في فتواه إلى رقم الدليل بين قوسين على حسب ترتيبنا لها في الفصل السابق .
1- روى ابن المبارك وابن أبي شيبة (1)عن مدرك بن عوف الأحمسي قال : كنت عند عمر رضي الله عنه ، إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن فسأله عمر عن الناس ، فقال : أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم ، فقال عمر رضي الله عنه : لكن الله يعرفهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ورجل شرى نفسه ، فقال مدرك بن عوف : ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين ، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر : كذب أولئك ، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا ، وذكر البيهقي أن ذلك كان يوم نهاوند .
2- وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (2)عن ابن عون عن محمد قال : جاءت كتيبة من قبل المشرق ، من كتائب الكفار ، فلقيهم رجل من الأنصار ، فحمل عليهم ، فخرق الصف حتى خرج ، ثم كر راجعا ، فصنع مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، فإذا سعد بن هشام ، يذكر ذلك لأبي هريرة ، فتلا هذه الآية { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }
3- وخرج الحاكم في كتاب التفسير (3)عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه ، قال له رجل : يا أبا عمارة ، قوله تعلى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أهو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل ؟ قال : لا ولكنه الرجل يذنب الذنب قيقول : لا يغفره الله لي .
__________
(1) - 5/303 بسند صحيح
(2) -5/322 صحيح مرسل
(3) -2/275 وابن أبي حاتم 1/128 قال الحاكم صحيح على شرطهما . وهو كما قال(1/286)
4- وعن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء ، وسأله رجل عن هذه الآية : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) هو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف ، والسيف بيده ؟ ، قال : « لا ، ولكنه رجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ، ويقول : لا توبة لي » أخرجه اليبيهقي في الشعب (1).
5- وقد روى هذا التأويل للآية ابن جرير في تفسيره(2) عن حذيفة و ابن عباس و عكرمة و الحسن و عطاء و سعيد ابن جبير و الضحاك و السدي و مقاتل وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين
6- وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه (3)عن مجاهد قال : إذا لقيت العدو فانهد فإنما نزلت هذه الآية في النفقة .
7- قال ابن النحاس في مشارع الأشواق (4): روى غير واحد ، عن القاسم بن مخيمرة أحد أئمة التابعين وأعلامهم ، أنه قال في قوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال : التهلكة ترك النفقة في سبيل الله ، ولو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس .
8- قال البيهقي في سننه (5): قال الشافعي رحمه الله تعالى : قد بورز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياه بما في ذلك من الخير فقتل .9- وقال الجصاص في أحكام القرآن (6):
__________
(1) - شعب الإيمان للبيهقي برقم( 6829 ) وهو صحيح
(2) -3/584
(3) - بإسناد جيد 5/331
(4) -2/ 528
(5) -9/43 باب من تبرع بالتعرض للقتال
(6) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 2 / ص 162)(1/287)
وقوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ : قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ , وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : غَزَوْنَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ , فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ , فَقَالَ النَّاسُ : مَهْ مَهْ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلَى التَّهْلُكَةِ , فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ , لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ الْإِسْلَامَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا فَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ ; قَالَ أَبُو عِمْرَانَ : فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ . فَأَخْبَرَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ . وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَعُبَيْدَةَ(1/288)
السَّلْمَانِيِّ : " الْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْيَأْسُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي " . وَقِيلَ : " هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا يَجِدَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَتْلَفُ " . وَقِيلَ : " هُوَ أَنْ يَقْتَحِمَ الْحَرْبَ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ " وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَوْمُ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَبُو أَيُّوبَ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِالسَّبَبِ . وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا وَجَوَازُ اجْتِمَاعِهَا مِنْ غَيْرِ تَضَادٍّ وَلَا تَنَافٍ فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَحْمِلُ عَلَى حَلْبَةِ الْعَدُوِّ , فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَهُوَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ , فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ فَيُقْتَلُونَ وَيُنْكُونَ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ وَلَا يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ , فَكَذَلِكَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُنْكَى غَيْرُهُ فِيهِمْ بِحَمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ(1/289)
فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ , وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْجُورًا ; وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ , وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُرْهِبُ الْعَدُوَّ , فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ النِّكَايَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ; وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْمَلُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعَدُوِّ ; إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْلِفَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَائِدَةٍ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَلَفِ نَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الدِّينِ فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وَقَالَ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ .
11- وفي شرح السير الكبير للسرخسي (1):
__________
(1) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 55) والسير الكبير - (ج 1 / ص 162) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 170)(1/290)
33 - بَابُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الْخُمُسُ وَالصَّدَقَةُ 162 - وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ الْعَامِلِ عَلَيْهَا , أَوْ الْغَارِمِ , أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ , أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى إلَى الْغَنِيِّ } . وَأَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا : تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِلْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا , وَلِلْغَارِمِ إذَا كَانَ غُرْمُهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا . وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا : إذَا كَانَ الْغَازِي غَنِيًّا فِي أَهْلِهِ وَلَيْسَ بِيَدِهِ مَالٌ حَيْثُ هُوَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصَّدَقَةِ مَا يَتَقَوَّى بِهِ . وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ إذَا كَانَ مَالَهُ غَائِبًا عَنْهُ أَوْ دَيْنًا عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ , فَهُمَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ . فَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَذَلِكَ فَوْقَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ نِصَابٍ , لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } . وَأَمَّا الْعَامِلُ فَمَا يَأْخُذُهُ عِمَالَةً وَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ فِي حَقِّهِ , فَغِنَاهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِهِ , وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْفَقِيرِ إنَّمَا يَأْخُذُهُ مَبِيعًا عِوَضًا عَنْ مَالِهِ . وَاَلَّذِي أَهْدَى إلَيْهِ الْمِسْكِينُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً , عَلَى مَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ رضي الله عنها : { هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } .(1/291)
163 - وَذَكَرَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ التَّهْلُكَةِ أَهُوَ الرَّجُلُ إذَا ( 47 ب ) مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ حَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُذْنِبُ ثُمَّ لَا يَتُوبُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى قوله تعالى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } . فَوَقَعَ عِنْدَ السَّائِلِ أَنَّ مَنْ حَمَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَعْدَاءِ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ . فَبَيَّنَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ الْمُلْقِي نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ مَنْ يُذْنِبُ ثُمَّ لَا يَتُوبُ , فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَهِنًا بِصَنِيعِهِ . فَأَمَّا مَنْ حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَهُوَ يَسْعَى فِي إعْزَازِ الدِّينِ , وَيَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي يَسْتَفِيدُ بِهَا الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ , كَيْفُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ؟ . 164 - ثُمَّ بَيَّنَ الْمَذْهَبَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْمَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَصْنَعُ شَيْئًا يَقْتُلُ أَوْ يَجْرَحُ أَوْ يَهْزِمُ . فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَمَدَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ حَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ؟ فَقَالَ : كَلًّا , وَلَكِنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قوله تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } , فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ(1/292)
لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ . لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِحَمْلَتِهِ شَيْءٌ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ , وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ فَقَطْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَى قَوْمًا مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بِنَهْيِهِ , وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ , فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ الْعَزِيمَةُ . وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالسُّكُوتِ ; لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ يَعْتَقِدُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ , فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُؤْثَرًا فِي بَاطِنِهِمْ . فَأَمَّا الْكُفَّارُ غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ لِمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ , فَالشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ حَمْلَتُهُ بِحَيْثُ تَنْكِي فِيهِمْ ظَاهِرًا فَإِذَا كَانَ لَا يَنْكِي لَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ , فَلَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
12- قال القرطبي (1): أصل الشراء بين الخلق والخالق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم بما كان أنفع لهم ، أو مثل ما خرج منهم في النفع ، فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك وهو عوض عظيم لا يدانية المعوض ولا يقاس به ، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال ، فسُمي هذا شراءً
__________
(1) - في تفسيره 8/267(1/293)
13- و قال ابن العربي في أحكام القرآن (1): لما قرأ ابن عباس هذه الآية ( إن الله اشترى من المؤمنين .. الآية ) قال : ثامنهم – والله – وأغلى الثمن ، أي أعطاهم أكثر مما يستحقون في حكم المتاجر ، ولم يأت الربح على قدر الشراء ، بل زاد عليه وأربى .
14- وقال ابن العربي في تفسير أحكام القرآن (2) وفي التهلكة خمسة أقوال هي : 1- لاتتركوا النفقة 2-لا تخرجوا بغير زاد 3-لا تتركوا الجهاد 4- لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها 5- لا تيئسوا من المغفرة .
ثم قال قال الطبري : هو عام في جميعها لا تناقض فيه ، قال وقد أصاب إلا في الاقتحام على العساكر – أي القول الرابع - ، فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد ، وعبدالملك من علمائنا ، لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة وكان لله بنية خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة ، وقد قيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصده واحد منهم – أي واحد من المشركين – ليقتله ، وذلك بيّن في قوله تعالى {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } ثم قال : والصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم ، لأن فيه أربعة وجوه :-
الأول : طلب الشهادة ، الثاني : وجود النكاية ، الثالث : تجرئة المسلمين عليهم ، الرابع : ضعف نفوسهم ، ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنّك بالجمع .
وكل هذه الوجوه متحققة في العمليات الاستشهادية .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 434)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 223و224) وانظر تفسير القرطبي 2/ 364 عند تفسيره لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }(1/294)
15- وقال الشوكاني في تفسيره (1): والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا ، وبه قال ابن جرير الطبري ، ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص ، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين . فمفهوم كلامه إذا تحقق النفع جاز ذلك .
16- وقال القرطبي(2): قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمه الله : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين ، وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة ، أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين ، فمن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو ، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر ، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى المؤمنين بقوله { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه .
17- و قال القرطبي (3)، قال ابن خويز منداد : فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص أو المحاربين والخوارج فلذلك حالتان :
الأولى : إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن ، وكذلك لو علم أو غلب على ظنه أنه يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً ، ثم ساق دليلاً على ذلك .
__________
(1) - فتح القدير 1/297 عند تفسيره لقوله تعالى { ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
(2) - في تفسيره 2/364
(3) - في تفسيره 2/364(1/295)
18- و قال ابن جزي المالكي(1): إن علم المسلمون أنهم مقتولون ، فالانصراف أولى ، وإن علموا مع ذلك أنهم لا تأثير لهم في نكاية العدو وجب الفرار .
19- وقال ابن عابدين(2): لا بأس أن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يصنع شيئاً بقتل أو بجرح أو يهزم ، فقد نقل ذلك عن جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك ، فأما إن علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم ، لأنه لا يحصل بحمله عليه شيء من إعزاز الدين .
20- وجاء في مغني المحتاج قول الخطيب الشربيني عن حديثه عن هجوم الكفار على بلد مسلم بغتة (3): …وإلا بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة ، فمن قُصد من المكلفين ولو عبداً أو امرأةً أو مريضاً أو نحوه ، دفع عن نفسه الكفار بالممكن له إن علم أنه إن أُخذ قُتل ، وإن جوّز المكلف لنفسه الأسر كان الأمر يحتمل الخلاف ، هذا إن علم أنه إن امتنع من الاستسلام قُتل وإلا امتنع عليه الاستسلام .
21- وفي تكملة المجموع للمطيعي(4): أشار أنه إذا كان عدد الكفار دون مثلي عدد المسلمين ولم يخشوا العطب ، وجب الثبات ثم قال : فإن غلب على ظنهم الهلاك قال فيه وجهان : الأول : أن لهم أن يولوا لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثاني : أنه ليس لهم أن يولوا ، وهو الصحيح لقوله تعالى { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ولأن المجاهد إنما يجاهد ليقتل أو يُقتل ، وإذا زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا ، وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون ، وإن غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان : الأول : أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثاني يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم ، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة .
__________
(1) - في القوانين الفقهية 165
(2) - في حاشيته 4/303
(3) - 4/219
(4) - 19/291(1/296)
22- و قال أبو حامد الغزالي رحمه الله(1): لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل ، وإن علم أنه يقتل ، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز – أيضاً – ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار ، كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز ، فذلك حرام ، وداخل تحت عموم آية التهلكة ، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقتل حتى يقتِل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل الله ، فتكسر بذلك شوكتهم " انتهى .
23- و قال ابن حزم(2):لم ينكر أبو أيوب الأنصاري ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ويثبت حتى يقتل ، وقد ذكروا حديثاً مرسلاً من طريق الحسن أن المسلمين لقوا المشركين ، فقال رجل يا رسول الله أشد عليهم أو أحمل عليهم ؟ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتراك قاتل هؤلاء كلهم إجلس فإذا نهض أصحابك فانهض وإذا شدوا فشد ) ، وهذا مرسل لا حجة فيه ، بل قد صح عنه عليه السلام أن رجلاً من أصحابه سأله ما يضحك الله من عبده قال ( غمسه يده في العدو حاسراً ) فنزع الرجل درعه ودخل في العدو حتى قتل رضي الله عنه .
24- وقال الرافعي والنووي وغيرهما (3)" التغرير بالنفس في الجهاد جائز ، ونقل في شرح مسلم الاتفاق عليه ، ذكره في غزوة ذي قرد .
وقال في قصة عمير بن الحمام ( دليل 14 ) ،(4): فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز لا كراهية فيه عند جماهير العلماء " انتهى .
__________
(1) - في إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين 7/26 و إحياء علوم الدين ومعه تخريج الحافظ العراقي - (ج 3 / ص 329) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 156)
(2) - في المحلى 7/294
(3) - في شرح النووي على مسلم 12/187
(4) - قال النووي في شرحه على مسلم 13/46(1/297)
25- و قال العز بن عبد السلام(1): التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة ، لكنه واجب إن علم أنه يُقتل في غير نكاية في الكفار ، لأن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين ، فإذا لم تحصل النكاية ، وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار ، وإرغام أهل الإسلام ، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة
26- و قال ابن قدامة (2): وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر ، فالأولى الثبات لما في ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب ، والحكم علق على مظنته ، وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف ، وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه ، ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضاً في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضاً ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الانصراف والإقامة ، فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلِبوا أيضاً .
27- و قال ابن النحاس (3): وفي هذا الحديث ( أي الحديث رقم 25 ) الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده ، وإن غلب على ظنه أن يقتل ، وإذا كان مخلصاً في طلب الشهادة ، كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه ، ولم يعب النبي ذلك عليه ، ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده ، ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون .
__________
(1) - في قواعد الأحكام 1/111
(2) - في المغني 9/309
(3) - في مشارع الأشواق 1/539(1/298)
وفيه أن للإمام وغيره ممن له على الحامل دالة المحبة أن يمنعه شفقة عليه ، وله أن يطلقة إذا علم منه صدق القصد وتصميم العزم وإخلاص النية في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأكوع مع الأخرم الأسدي ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم منعه ولا إطلاقه ، وكما فعل عمرو بن العاص رضي الله عنه مع الرجل في الحديث المتقدم .
وفي طلب سلمة انتخاب مائة من الصحابة ليلقى بهم الكفار دليل واضح على أن الكفار كانوا جمعاً كثيراً وإلا لم يستدع الحال أن يتوجه إليهم مائة من الصحابة المنتخبين ، ولم أر من ذكر هذا الحديث في هذا الباب وهو أوضح من كل دليل واضح ، والله أعلم .
28- و قال السيوطي (1): لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلم من العدو ما لايطيقه ، ولا بأس بالصبر أيضاً بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، بل في هذا تحقيق بذل النفس في سبيل الله تعالى ، فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ، منهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه حمي الدبر ( الدليل 19 ) ، وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فعلمنا أنه لا بأس به .
29- وقال الصنعاني(2): حديث أبي أيوب الأنصاري في تأويل آية البقرة ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ثم ذكر ما أورده ابن جرير في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، قال ما نصه : من حديث أسلم بن يزيد بن أبي عمران ثم ذكر نص ( الدليل 6 ) ، ثم نقل عن ابن حجر في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير ما نصه قال " صرح الجمهور : أنه إذا كان لفرط شجاعته ، وظنه أنه يرهب العدو الكثير بذلك أو يجرّي المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهور فممنوع لا سيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين .
__________
(1) - في شرح السير الكبير 1/125
(2) - في سبل السلام 4/51(1/299)
30- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(1): وقد روى مسلم في صحيحه قصة أصحاب الأخدود ( الدليل 4 ) وفيها ( أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين ) ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار ، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه ، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد ، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره : كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين ، التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك . انتهى كلامه
وقال جوابا على سؤال (2):وأما قوله : أريد أن أقتل نفسي في اللّه .
فهذا كلام مجمل، فإنه إذا فعل ما أمره اللّه به، فأفضى ذلك إلى قتل نفسه، فهذا محسن في ذلك، كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يُقتل، فهذا حسن . وفي مثله أنزل اللّه قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ البقرة : 207 ] ، ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روى الخَلاَّلُ بإسناده عن عمر بن الخطاب : أن رجلاً حمل على العدو وحده، فقال الناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال عمر : لا، ولكنه ممن قال اللّه فيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } .
وأما إذا فعل ما لم يؤمر به، حتى أهلك نفسه، فهذا ظالم متعدٍ بذلك، مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله، أو يصوم في رمضان صوماً يفضي إلى هلاكه، فهذا لا يجوز، فكيف في غير رمضان ؟ !
__________
(1) - في مجموع الفتاوى 28/540
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 97)(1/300)
وقد روى أبو داود في سننه، في قصة الرجل الذي أصابته جراحة، فاستفتى من كان معه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : لا نجد لك رخصة، فاغتسل، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : / ( قَتَلوه، قتلهم اللّه، هَلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شِفاءُ العيِّ السؤال )
وكذلك روى حديث عمرو بن العاص، لما أصابته الجنابة في غزوة ذات السلاسل، وكانت ليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه بالتيمم، ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال : ( ياعمرو، أصليت بأصحابك، وأنت جنب ؟ ) فقال : يارسول اللّه، إني سمعت اللّه يقول : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] فضحك، ولم يقل شيئاً . فهذا عمرو قد ذكر أن العبادة المفضية إلى قتل النفس بلا مصلحة مأمور بها، هي من قتل النفس المنهي عنه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .
وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع، كما ثبت عنه في الصحاح أنه قال : ( من قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة ) ، وفي الحديث الآخر : ( عبدي بادأني بنفسه، فحرمتُ عليه الجنة، وأوجبت له النار ) ، وحديث القاتل الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه من أهل النار، لعلمه بسوء خاتمته، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يصلى على من /قتل نفسه؛ ولهذا قال سمرة بن جندب عن ابنه لما أخبر أنه بُشِمَ، فقال : لو مات لم أصل عليه .
فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهي اللّه عنه من قصد الإنسان قتل نفسه، أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه اللّه من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] ، وقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } [ البقرة : 207 ] أي : يبيع نفسه .(1/301)
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده، أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز : من عَبَدَ اللّه بجهل، أفسد أكثر مما يصلح . 0000 ـ تعالى . اهـ
وحديث الغلام هو من أقوى الأدلة في المسألة ، وهذا الحديث يبين أن الغلام لما رأى أن في قتله على وجهة معينة سيكون سبباً لنشر الدين ودخول الناس فيه أقدم على فعل هذا السبب الذي يؤدي إلى قتله ، فأشار على الملك بطريقة قتله ، التي لا يمكن أن يقتل إلا بها ، وهو الذي قد سلمه الله منهم وحماه ، إلا أن نشر الدين وإدخال الناس فيه كان أعظم عنده من بقائه على قيد الحياة ، وهو بذلك يكون شريكاً في إزهاق نفسه ، صحيح أنه لم يزهقها بيده ، ولكن رأيه هو السبب الوحيد لقتله ، كما لو أن رجلاً طلب من آخر أن يقتله بسبب جزعه من الدنيا ، لقلنا أنه منتحر بالاتفاق ولا عبرة بمن قتل ، لأنه هو الذي طلب من الآخر أن يقتله وتساعد معه على ذلك ، والمتسبب بالقتل شريك للقاتل وعليه القود عند جمهور العلماء كما سيأتي .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أثنى على هذا الغلام ، دل ذلك أن الفرق بين الفعلين هو النية ، فمدح الغلام الذي تسبب بقتل نفسه لإعزاز الدين ، وهذا دليل واضح جلي على جواز ذلك ، وجواز العمليات الاستشهادية .
وكذلك أثنى الله على الذين آمنوا برب الغلام ، وكان يقال لهم ارجعوا عن دينكم أو ألقوا أنفسكم في النار ، فكانوا يقتحمون في النار ، نصراً للدين وإيثاراً لدينهم على دنياهم ، بل إن الرضيع نطق يحث أمه على الإقدام لما ترددت عن اقتحام النار ، وما أنطق الله الطفل إلا بالحق ، وأنزل الله فيهم سورة تتلى ونعتهم بقوله { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز العظيم } فهم فدوا الدين بأنفسهم وفازوا .(1/302)
وفعل الغلام وأصحاب الأخدود ، نظير لقصة ماشطة ابنة فرعون ( الدليل 5 ) ، وكلهم أثنى على فعلهم الشارع ، وأقدمت الماشطة على الموت وآثرت ما عند الله وأنطق الله رضيعها ليحثها على الإقدام لما تقاعست من أجله .
ولقد سقنا من الأدلة ما يؤيد هذين الحديثين من شرعنا ، ولم يأت من شرعنا ما يعارض بذل النفس لأجل إعلاء كلمة الله ، فكان ما في مضمون الحديثين شرعاً لنا على قول الجمهور .
31- وفي قصة عبدالله ابن الزبير في تصارعه مع الأشتر التي رواها الطبري( اقتلواني ومالكاً)(1) ، شاهد على رسوخ مسألة فداء الدين بالنفس إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك ، علماً أن الأشتر كان باغياً ولم يكن كافراً ، ولكنه هو الذي ألب الناس على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، فلما ظفر عبد الله بن الزبير به يوم الجمل رأى أن قتله سيخمد الفتنة ، لذا أراد أن يفدي بنفسه من أجل إخماد الفتنة ، فلما حاول الأشتر التفلت من بين يدي ابن الزبير قال ابن الزبير قولته المشهورة ( اقتلوني ومالكاً ) – أي الأشتر - ، لأن من أراد أن يقتل الأشتر من أصحاب عبدالله أثناء الصراع لا يمكن أن يفرد الأشتر بضربة تقتله ، فعلم عبدالله أن هذا مانع لأصحابه من عدم قتل الأشتر وحده ، فأمرهم بذلك ، وأراد أن يفدي بنفسه من أجل قتل باغ هو رأس في الفتنة كل ذلك لمصلحة الدين ، وما أظن من كان هذا فقهه لنصر الدين أن يتردد لحظة بتفجير نفسه إذا كان في ذلك مصلحة للدين كهذه ، ولم ينقل لنا أن أحداً اعترض على ابن الزبير طلبه أن يقتل مع الأشتر درءً للفتنة وتخليصاً للمسلمين من رجل واحد ، ونعلم أن عدم النقل لا يعني نفي الاعتراض ، ولكن هذا مما يستأنس به .
__________
(1) -تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 56)(1/303)
32- وفي قصة إلقاء البراء بن مالك من فوق حصن اليمامة ( دليل 26 ) دليل على عدم اعتراض الصحابة على هذا النوع من العمليات ، فإن البراء حمل في الترس وألقي من فوق الحصن على العدو ، ومعلوم أن الإلقاء وحده من فوق الحصن ربما يسبب الهلاك فكيف إذا كان في الحصن جملة من الجند وقد تأهبوا وتسلحوا ، وفعل البراء هذا لا يساور من سمع به الشك أن فاعله سيهلك إما من إلقائه أو من الجند الذين تأهبوا له ، ورغم ذلك لم يعترض لا أمير الجيش ولا أحد من الصحابة ، على ذلك رغم غلبة الظن بهلاكه .
33- وفي الزواجر(1) :كِتَابُ الْجِهَادِ ( الْكَبِيرَةُ التِّسْعُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : تَرْكُ الْجِهَادِ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ بِأَنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّونَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَوْ أَخَذُوا مُسْلِمًا وَأَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ مِنْهُمْ , وَتَرْكُ النَّاسِ الْجِهَادَ مِنْ أَصْلِهِ , وَتَرْكُ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ تَحْصِينَ ثُغُورِهِمْ بِحَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ تَرْكِ ذَلِكَ التَّحْصِينِ )
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 3 / ص 147)(1/304)
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } , وَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ قَوْمٌ : التَّهْلُكَةُ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَالْهَلَاكُ مَا لَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ , وَقِيلَ هِيَ نَفْسُ الشَّيْءِ الْمُهْلِكِ , وَقِيلَ هِيَ مَا تَضُرُّ عَاقِبَتُهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ , فَقِيلَ هُوَ رَاجِعٌ إلَى نَفْسِ النَّفَقَةِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ لَا يُنْفِقُوا فِي جِهَاتِ الْجِهَادِ أَمْوَالَهُمْ فَيَسْتَوْلِيَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَيُهْلِكَهُمْ , فَكَأَنَّهُ قِيلَ إنْ كُنْت مِنْ رِجَالِ الدِّينِ فَأَنْفِقْ مَالَك فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِنْ كُنْت مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا فَأَنْفِقْ مَالَك فِي دَفْعِ الْهَلَاكِ وَالضُّرِّ عَنْ نَفْسِك ; وَقِيلَ : هِيَ الْإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّ إنْفَاقَ جَمِيعِ الْمَالِ قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ إلَى الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ أَوْ الْمَلْبُوسِ , وَقِيلَ : هِيَ السَّفَرُ إلَى الْجِهَادِ بِلَا نَفَقَةٍ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ فَانْقَطَعُوا فِي الطَّرِيقِ , وَقِيلَ : الْمُرَادُ غَيْرُ النَّفَقَةِ , وَعَلَيْهِ فَقِيلَ هِيَ أَنْ يَخْلُوَا بِالْجِهَادِ فَيَتَعَرَّضُوا لِلْهَلَاكِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ النَّارِ , وَقِيلَ : هِيَ اقْتِحَامُ الْحَرْبِ بِحَيْثُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ تَحْصُلُ مِنْهُ لِلْعَدُوِّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ تَعَدِّيًا , وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ(1/305)
فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ . فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ : نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا , صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَصَرْنَاهُ وَشَهِدْنَا مَعَهُ الْمُشَاهَدَ , فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ رَجَعْنَا إلَى أَهْلَيْنَا وَأَمْوَالِنَا نُصْلِحُهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكَ الْجِهَادِ , فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى كَانَ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا بِقُسْطَنْطِينِيَّة فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما فَتُوُفِّيَ هُنَالِكَ وَدُفِنَ فِي أَصْلِ سُوَرِهَا وَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ , وَلَا شَاهِدَ فِي هَذَا لِأَنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَقُلْ يَحِلُّ إلْقَاءُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ نِكَايَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمُدَّعَى . وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَلْقَوْا بِنُفُوسِهِمْ فِي الْعَدُوِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ; وَكَذَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ لِرَجُلٍ فَقِيلَ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ كَذَبُوا { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُلَاقِ الْمُدَّعَى أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ نِكَايَةٌ فِيهِمْ , بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا ذَلِكَ الْإِقْدَامَ الْأَعْظَمَ إلَّا لِإِيقَاعِ نِكَايَةٍ فِي عَدُوِّهِمْ هَذَا(1/306)
قَصْدُهُمْ , ثُمَّ تَارَةً يَظْهَرُ مِنْ قَاصِدِ ذَلِكَ نِكَايَةٌ وَتَارَةً لَا , وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى قَصْدِ النِّكَايَةِ فِيهِمْ لَا ظُهُورِهَا , وَقِيلَ : هِيَ إحْبَاطُ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ , وَقِيلَ : هِيَ الْقُنُوطُ بِأَنْ يُصِيبَ ذَنْبًا فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ عَمَلٌ فَيَنْهَمِكُ فِي الْمَعَاصِي , وَقِيلَ : إنْفَاقُ الْخَبِيثِ , وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ ; وَمَا مَرَّ فِي قِصَّةِ أَبِي أَيُّوبَ رَوَاهَا بِنَحْوِهَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ { : كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ , فَأَمَّرُوا عَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ , وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ . فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَهُمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ , فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا وَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ(1/307)
مَا يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا وَلِلْفُقَرَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَصَلَاحِهَا وَتَرْكَ الْغَزْوِ , فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ : { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَغِبْتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ } . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ لَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ } . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ } . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَائِدِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا لَا يُتَدَارَكُ خَرْقُهُ وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ , فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِعَدِّ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ .(1/308)
34- وفي حديث مما يضحك الرب ( دليل 7 ) دليل أوضح على غلبة الظن بالهلاك ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عوف بن عفراء أن الذي يضحك الرب هو أن يغمس يده في العدو حاسراً ، أي بلا درع ولا شيء يقيه ضربة الأعداء ، فنزع عوف درعاً كانت عليه وقاتل حتى قتل ، ولا شك أنه يغلب على الظن قطعاً أن الرجل إذا أراد أن يقاتل جمعاً كثيراً من الأعداء بغير درع لا شك أن الجزم بهلاكه محقق إلا أن يشاء الله ، ولكن الحكم في هذه المسألة على غلبة الظن كما قال ابن قدامة فيما قدمنا .
وهذا الأسلوب في الحرب لم يحدث بين يدي الرسول مرة واحدة بل أقدم على ذلك عمير بن الحمام يوم بدر ( دليل 14 ) وكذلك أنس بن النضر في أحد ( دليل 15 ) وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي نجا من بئر معونة يحثه على الإقدام ( دليل 18 ) وحدث ذلك أيضاً بين يدي الصحابة كما حدث لأبي موسى ( دليل 32 ) ولعمرو بن العاص ( دليل 35 ) وعقر جعفر لفرسه يدل على ذلك أيضاً ( دليل 28 ) والرجل الذي تصدى للفيل يوم الجسر ( دليل 34 ) ، كل هذه الأدلة تفيد بأن مسألة الاقتحام على العدو مع تيقن الموت كانت مسألة مشتهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي زمن أصحابه ، إلا أنه لم ينقل لنا أحد من العلماء ما يفيد بمنع مثل ذلك إذا تيقن المهاجم الموت ، فدل ذلك على الجواز .(1/309)
إن حماية الدين أعظم ما يقوم به المجاهد لإعلاء كلمة الله ، ولقد جاءنا مالا يدع مجالاً للشك بجواز فداء المجاهد لدينه بنفسه ، إلا أننا نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حمي بأنفس الصحابة يوم أحد ولم ينكر ذلك ، ولم يدل دليل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهذ الفعل ، ففي قصة حماية أبي دجانة للرسول بنفسه ليكون ترساً له من النبل ( دليل 21 ) وقول أبي طلحة للرسول صلى الله عليه وسلم : نحري دون نحرك ( دليل 22 ) ودفاعه عنه حتى شلت يده التي وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دليل 23 ) كل هذا يفيد أيضاً جواز فداء الأشخاص بالأنفس إذا كان يحدث من قتلهم ضرر على المسلمين أو الدين.
0000000000000000000000000
خلاصة أقوال أهل العلم وشروط جواز العمليات الاستشهادية
تبين لنا من أقوال العلماء في مسألة الاقتحام على العدو منفرداً تعليقهم المسألة بغلبة الظن ، أي أن من غلب على ظنه أنه يقتل في هذا الاقتحام ، أخذ حكم من سيقتل قطعاً ، فمن أجاز الاقتحام مع غلبة الظن كمن أجاز الاقتحام مع اليقين الجازم بالقتل .
وأيضاً فإن جمهور العلماء علقوا جواز الاقتحام بشروط
الأولى : الإخلاص ،
والثاني وجود النكاية بالعدو ،
الثالث : إرهابهم ،
الرابع : تقوية قلوب المسلمين .(1/310)
وأجاز القرطبي وابن قدامة الاقتحام بنية خالصة طلباً للشهادة فقط لأن طلب الشهادة أمر مشروع ، و للمجاهد فيه غرض ، وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يشترطوا ما اشترطه الجمهور في جواز الاقتحام ، فإن المصير لقول القرطبي وابن قدامة لا يبعد استحسانه ، لأننا لو أردنا أن نخرج من الأدلة التي جاءت بجواز هذا الفعل ما يعضد قول الجمهور بأن العمل الفاقد للشروط ممنوع لم تستقم لهم دلالة الأدلة ، إلا أنهم أخذوا ذلك من القواعد العامة للجهاد والعام لا يقضي على الخاص ، نعم نحن نقول بأن ما لا فائدة فيه لا ينبغي عمله ، ولكن القول لمن لم يحقق الشروط المذكورة أن عمله غير صحيح ولا محمود هذا ظلم ، لا سيما وأن هذه الشروط لم تأت بنصوص واضحة ولا آثار صحيحة ولا قياس جلي ، فأصل الجواز مع فقدها موجود ولكنه خلاف الأولى ، فلا ينبغي الإقدام على الشهادة فحسب بلا مقصود آخر يفيد المسلمين والمجاهدين .
====================
بعض الشبهات حول العمليات الاستشهادية ومناقشتها
يستمر لغط اللاغطين " الحكماء التجميليين " حول " العمليات الاستشهادية " التي يقوم بها الاستشهاديون وهم يدافعون عن دينهم وعرضهم وأمتهم وأرضهم – وهي أرض الإسلام- وفقا لأحكام الجهاد ، ؛ قصدا منهم إلى تشويهها أو تجريمها أو التشكيك فيها بينما هي في حقيقة الأمر : من أوثق وأعلى منازل الشهادة بشهادة ما يأتي :
أولا : فهي من ناحية الرجوع إلى النص القرآني : نموذج للتطابق الكامل مع قوله تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة : يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون )
ثانيا : وهي من ناحية القدوة المعتبرة نموذج يلتقي مع مثال الصحابي الذي أقدم على المعركة وهو على يقين من عدم النجاة(1/311)
فقد أخرج مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل وفيه ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض قال : يقول عُمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : نعم ، قال بخ بخ . فقال رسول الله : ما يحملك على قولك بخ بخ . قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها ، قال فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه ، إنها لحياة طويلة . قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)
وفي مثال آخر : أخرج مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه قال عمي الذي سُميت به - يعني أنس بن النضر - لم يشهد مع رسول الله بدراً ، قال فشق عليه ، قال : أول مشهد شهده رسول الله غُيبت عنه ، وإن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله ليراني الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . قال فشهد مع رسول الله يوم أحد . قال : فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس : يا أبا عمرو أين ؟ فقال : واها لريح الجنة أجده دون أحد . قال فقاتلهم حتى قتل قال : فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية قال فقالت أخته عمتي الرُبيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه . ونزلت هذه الآية : { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } [ 23 / الأحزاب ] قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه
ولا يصح إيراد الاعتراض الساذج على هذه العمليات بالحكم الشرعي بأن قتل النفس من بين المحرمات
وذلك لأن قتال العدو وما يترتب عليه من قتل النفس يأتي استثناء من تحريمها ، وإذا كان الاستثناء قد جاء في عملية القتال مع العدو فهو يصدق على الجهتين- قتل النفس أو قتل الآخر - بشروطهما المذكورة أعلاه ونخص بالذكر والتأكيد الشروط الآتية :
اشتراط الضرورة(1/312)
واشتراط : حصول غلبة الظن في تحقيق المصلحة والنكاية بالعدو ، على المستوى البعيد إن لم يكن على المستوى القريب
واشتراط : أن تقررها قيادة شرعية خبيرة
وفي شرح هذه الضرورة يقول الأستاذ الدكتور عجيل النشمي أستاذ الشريعة بجامعة الكويت - - ( أن يكون قتل النفس الطريق الوحيد لإحداث القتل في العدو أو الطريقة الأكثر تأثيرا بالعدو، فإذا غلب على الظن أن هذا الأسلوب في القتل لن يؤثر في العدو، ولن يحقق قتل أحد منهم، أو كانت هناك وسائل أنجح في تحقيق الغاية، فلا يقدم على هذا العمل.) نقلا منا من إسلام أونلا ين
وكما يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي عند ما يكونون : ( مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله، المصرين على عدوانهم، المغرورون بقوتهم، وبمساندة القوى الكبرى لهم والأمر كما قال الشاعر قديماً:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلى ركوبها !
ومن أهم شروطها : نية الجهاد في سبيل الله -- إذ يدافعون ضد الاحتلال عن أرضهم – وهي أرض الإسلام- وعن دينهم وعرضهم وأمتهم -- وهذه هي الفارقة بينها وبين الانتحار وهو فرق في الأثر كما هو فرق في النية
ففي الأثر - و على مستوى العمليات الحربية – يتحقق بها للمقاتل المسلم تصحيح لميزان الردع المائل أصلا بسبب ضعف السلاح في يد الجيش المسلم ، وهنا يأتي تصحيح هذا الميزان عن طريق هذه العملية الاستشهادية التي لا يملك العدو منها شيئا باعتبارها سلاحا شديد الخطر ، يتمثل هذا السلاح فيما يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي : " أن يصبح المجاهد (قنبلة بشرية) تنفجر في مكان معين وزمان معين في أعداء الله والوطن، الذين يقفون عاجزين أمام هذا البطل الشهيد، الذي باع نفسه لله، ووضع رأسه على كفه مبتغياً الشهادة في سبيل الله ".(1/313)
كما أنه فرق في النية ، وكما يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي: ( إن هذه العمليات تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله ، وهي من الإرهاب المشروع الذي أشار إليه القرآن ، في قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" الأنفال: 60.
وتسمية هذه العمليات (انتحارية) تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية بطولية استشهادية، وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، ومن يقوم بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر.
إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه ، وهذا يقدم نفسه ضحية من أجل دينه وأمته
المنتحر إنسان يائس من نفسه ومن روح الله ، وهذا المجاهد إنسان كله أمل في روح الله تعالى ورحمته
المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه، والمجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين )(1/314)
وكما يقول الأستاذ الدكتور عجيل النشمي في التفرقة بين هذه العمليات وبين الانتحار : الانتحار يحتاج إلى القصد، فإن انتفى القصد فلا يعد الفعل انتحارا. والمراد أن يقصد الانتحار أساسا ولا يتحقق ذلك بمجرد أن يقع منه القتل على نفسه : فقد روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم، فضربه فأخطأه، فأصاب نفسه بالسيف. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: أخوكم يا معشر المسلمين، فابتدره الناس، فوجدوه قد مات. فلفه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بثيابه ودمائه، وصلى عليه. فقالوا: يا رسول الله: أشهيد هو؟ قال: نعم، وأنا له شهيد.". وقد جاءت هذه القصة بتسمية من وقعت لهم : وذلك فيما روي عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه- قال: " قلت يا رسول الله ، زعم أسد بن حضير أن عامر بن سنان بن الأكوع حبط عمله، وكان ضرب يهوديا فقطع رجله ورجع السيف على عامر فعقره فمات منها، فقال: كذب من قال ذلك، إن له لأجرين : إنه جاهد مجاهد، (1)
وكما يقول الدكتور النشمي : ( والشاب الذي يقتل نفسه بحزام ناسف أو سيارة أو أية وسيلة لا يعتبر منتحرا، إلا إذا قصد أن يقتل نفسه دون غاية من وراء ذلك، فإن كان قصده من التسبب بقتل نفسه بهذه الوسائل إحداث القتل والنكاية بالعدو، وإعلاء كلمة الله، فلا يعد منتحرا بل يعد شهيدا إن شاء الله، ولا شك أن التسبب بقتل النفس بفعل مباشر من الشخص أشد على النفس من قتل الغير له، فهذه " شهادة " مع " عزيمة،" وهذا الحكم ليس مطلقا وإنما هو مقيد بقيود إن توافرت كان شهادة إن شاء الله
ومن صورها الخارجة عن حكم الانتحار ولا يشترط فيها رأي القيادة أو مراعاة المصلحة كما قررها جمهورالفقهاء وكما يقول الدكتور النشمي :
__________
(1) -(المصدر : " السير الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني وشرحه للسرخسي 1/102).(1/315)
: ( لو كان الهجوم عليه من العدو واحدا أو أكثر، فيبادرهم حينئذ بكل ما يستطيع ولو بتفجير نفسه على ظن أنهم قاتلوه لا محالة ويقتل منهم أكبر عدد يستطيع، ولا يتقيد تصرفه حينئذ بما ذكرنا من رأي جماعته، ومراعاة المصالح، فحاله حينئذ حال من صال عليه العدو، فيجب عليه – على رأي جمهور الفقهاء- أن يقتل من هجم عليه وصال، لقوله – تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" (البقرة:195) .. إذا أسلم أمره لهم ليقتلوه، أو يستدلوا به على غيره، فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وربما تسبب في هلكة غيره، فإن قتل فهو شهيد، لقوله –صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون دمه فهو شهيد." (الترمذي 4/30 وقال: حديث حسن صحيح).
ومنها في رأي الدكتور النشمي : ( بل لو لم يستطع أن يرد من يعزم الجهاد عليه، أو حوصر موقعه، وليس لديه ما يدفع به عن نفسه، وعنده من الأسرار التي لو أجبر على إظهارها عند الأسر يعرض غيره للهلاك ويتسبب في إفشال خطط المسلمين، بكشف عورتهم، جاز أن يقتل نفسه أو يستسلم لهم، ويرجع تقدير ذلك له، فإن علم من نفسه صلابة لا تلين تحت التعذيب فلا يفشي سرا، استسلم وسلم نفسه، وإن غلب على ظنه أو تيقن أنه لا يتحمل ذلك، قتل نفسه، ولا أرى قواعد الشرع تأبى عليه ذلك. )
وهو يستدل على ذلك بما نص عليه الفقهاء من أن ( من تعين موته بسببين واستويا في السوء، فله أن يتخير بينهما كمن احترقت سفينته ولا يحسن السباحة أو كانت الأسماك المفترسة تحته، فلو اختار موته غرقا أو احتراقا جاز، وإن غلب على ظنه أن أحد السببين أهون من الآخر، فيتبع الأهون وبه. رأي الشافعية :
قال جمهور الفقهاء. قال ابن السبكي: "لو وقع في نار محرقة ولم يخلص إلا بماء يغرقه، ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات النار، فله الانتقال إليه في الأصح." )
وفيما نقله أد : عجيل النشمي من أقوال الفقهاء القدماء :(1/316)
وقد نص الحنفية على جواز دخول المجاهد في معركة لا نجاة له منها إذا كان له فيها نكاية بالعدو أو تشجيع للمسلمين على دخولها ولهم فيها نكاية به . حيث قال الإمام الجصاص في كتابه(1) : " قال محمد بن الحسن الشيباني: لو أن رجلا حمل على ألف رجل وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية. فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، فإني أكره له ذلك لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة أو نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس وأرجو أن يكون فيه مأجورا."
وعند المالكية : قال القرطبي في تفسير قوله –تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" عن بعض علماء المالكية: "لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله – تعالى: "ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله" (البقرة:207)، …
وقد ورد من أسباب نزول هذا الآية أنها فيمن يقتحم القتال ، كما حمل هشام بن عامر –رضي الله عنه- على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة –رضي الله عنه: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" وروى مثله عن أبي أيوب(2).
وفيما نقله الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي -- عن الفقهاء القدماء في الموضوع تفسيرا لقوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" البقرة: 195-- :
وقال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده ، فقال القاسم بن مخيرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، إن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.
__________
(1) - (أحكام القرآن للجصاص، 1/309)
(2) -(القرطبي، 3/21)(1/317)
وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فيحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بيّن في قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله".
وقال ابن خويز منداد: وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم، فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، قيل له: "أنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين! وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة- الترس يتخذ من الجلود - وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده حتى فتح الباب.
وروى الإمام الطبري بسنده في تفسيره عن أبي اسحق السبيعي قال: قلت للبراء بن عازب (الصحابي): يا أبا عمارة، الرجل يلقى ألفاً من العدو، فيحمل عليهم، وإنما هو وحده (يعني: أنه مقتول في العادة لا محالة) أيكون ممن قال الله تعالى فيهم: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" النساء: 84.
وذكر نحو ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه المشهورة في قتال التتار، مستدلاً بما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة أصحاب الأخدود، وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه، لأجل مصلحة ظهور الدين (حين طلب إليهم أن يرموه بالسهم ويقولوا: باسم الله رب الغلام) قال: ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين.
ما قاله صاحب تفسير المنار العلامة رشيد رضا : "ويدخل في النهي : النطوح في الحرب بغير علم بالطرق الحربية، التي يعرفها العدو، كما يدخل فيه كل مخاطرة غير مشروعة، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييده ".(1/318)
ومفهوم هذا أن المخاطرة المشروعة المحسوبة التي يرجى بها إرهاب عدو الله وعدونا، ويُبتغى فيها نصر الحق لا اتباع الهوى، لا تكون من الإلقاء باليد إلى التهلكة.) (1)
---------------
ومن هنا فإنه لا يصح الاعتراض على هذه العمليات بأنها من المحرمات بقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إى التهلكة ) فقد جاءت هذه الآية في سياق الكلام عن القتال والإنفاق في سبيله وبما لا يفيد ما قصد إليه الاستسلاميون ، وأصحاب السلام الاستراتيجي
وإنه ليجب التسوية – على الأقل - في منزلة الشهادة بين من قتل نفسه بيده ومن قتل نفسه بسلاح عدوه إذا كان كل منهما قد دخل إلى المعركة وهو على يقين من الموت وهذا بيت القصيد في مخالفة بعض المفتين
بل إنا نقول : وإنه لمن باب أولى أن يكون الحكم بشرعية من يسعى إلى الشهادة وهو على يقين من الموت أولى ممن يسعى إليها وهو على رجاء بالنجاة - مع الاحتفاظ بنسبة من الرجاء في جميع الأحوال - وكما يقول الأستاذ الدكتور عجيل النشمي : ولا شك أن التسبب بقتل النفس بفعل مباشر من الشخص أشد على النفس من قتل الغير له، فهذه " شهادة " مع " عزيمة،"
ونقول بغير مبالغة : إن هؤلاء الاستشهاديين سبقوا – من حيث هذا الفعل المبتكر - سلفهم من أجيال الشهداء ، فهم قد أبدعوا السلاح الذي أعاد ميزان الردع والرعب بعد فقدانه ولفترة طويلة مع عدو الإسلام ، إلى حد ما نراه من انزعاج أعداء الله ، وتخبطهم في تعريفه كتخبطهم في مقاومته ، وعلى رأسهم أمريكا العاتية ، وهي من هي في ترسانة للأسلحة زادت تكاليفها على عشرات مئات البلايين من الدولارات دون جدوى
ولا باس من الاعتراف لهؤلاء الاستشهاديين بهذا السبق فقد شهد رسول الله به لأجيال تأتي من بعد جيل الصحابة والقرون الأولى لعلهم يدخلون في ظله :
__________
(1) - المصدر : نقلا عن المركز الفلسطيني للإعلام(1/319)
روى البخاري في خلق أفعال العباد من حديث أبي جمعة ولفظه: كنا مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول اللّه هل من أحد أعظم منا أجراً. آمنا بك واتبعناك ؟ قال صلى الله عليه وسلم : : وما يمنعكم من ذلك ورسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً.
وفي سنن الترمذي بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوّله خير أم آخره) (1)
واخرج الحاكم في مستدركه وصححه الذهبي عن أبي جمعة قال : (تغدينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال: فقلنا: يا رسول الله أحد خير منّا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟ قال: نعم! قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)
وفي نيل الأوطار : أخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة – ورفعه – : ( تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين . قيل : منهم أو منا يا رسول اللّه ؟ قال : بل منكم .
وذكر أنه جمع جمهور العلماء – أي بين هذه الأحاديث وحديث " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " - : بأن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة ، وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم ، قد يوجد فيمن بعدهم من هو أكثر أعمالًا منهم أو من بعضهم فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر ، فكان أفضل من هذه الحيثية ، وقد يوجد فيمن بعدهم ممن هو أقل عملًا منهم أو من بعضهم فيكون مفضولًا من هذه الحيثية )
والمقصود أن تأتي الأفضلية نتيجة مضاعفة اجر العمل إلى خمسين ضعفا
ثم يقول في نيل الأوطار - بعد مناقشة كثير من الإشكالات التي ترد حول هذا الموضوع -
__________
(1) - [سنن الترمذي، حديث رقم 2869].(1/320)
( والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى اللّه عليه وآله وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه ، ولمن بعدهم مزية لا يشاركهم الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت عليه الشقاوة
وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقًا من غير تقييد بحالة مخصوصة كما يدل عليه لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا الحديث . إلا أن هذه المزية هي للسابقين منهم على المخاطبين في الحديث .. فالذين قال لهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم فكان بين منزلة أول الصحابة وآخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبًا من متأخريهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم
وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد ذلك مقيدًا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلًا من الصحابة فيكون هذا مخصصًا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ومثل حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل
وبانضمام أفضلية الأعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون ويكون قوله لا يدرى خير أوله أم آخره باعتبار أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون له أجر خمسين
هذا باعتبار أجور الأعمال وأما باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره
لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقًا باعتبار مجموع القرن لحديث خير القرون قرني فإذا اعتبرت كل قرن قرن ووازنت بين مجموع القرن الأول مثلا ثم الثاني ثم كذلك إلى انقراض العالم فالصحابة خير القرون
ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن آخر .(1/321)
وفي الختام فقد تبين حكم هذه العمليات الاستشهادية شرعا بشروطها ورفعة شأنها ؛ إنه كما يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي : ( أعتقد أن الحق قد تبين، وتبين الصبح لذي العينين، وأن هذه الأقوال كلها ترد على أولئك المتطاولين، الذين اتهموا الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، والذين باعوا أنفسهم لله، وقتلوا في سبيله بأنهم قد انتحروا، وألقوا بأيديهم إلى التهلكة. فهم – إن شاء الله – في طليعة الشهداء عند الله، وهم العنصر الحي المعبر عن حيوية الأمة، وإصرارها على المقاومة وأنها حية لا تموت، باقية لا تزول.
كل ما نطلبه هنا: أن تكون هذه العمليات الاستشهادية بعد دراسة وموازنة لإيجابياتها وسلبياتها، وينبغي ن يتم ذلك عن طريق تفكير جماعي من مسلمين ثقات. فإذا وجدوا الخير في الإقدام أقدموا وتوكلوا على الله "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" الأنفال: 49.) والله أعلم(1)
*************
الفرق بين الشهيد في سبيل الله والمنتحر
لقد تبين لنا من خلال كلام الأئمة رضي الله عنهم أن ذلك جائز إذا كان فيه نكاية بالعدو أو تشجيع المسلمين على القتال ونحو ذلك من مصالح شرعية معتبرة ...
ولا علاقة له بالانتحار الذي حرمه الله تعالى
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} (30) سورة النساء
فهذه الآية الكريمة تحرم الانتحار ، وهذا تفصيل قول الفقهاء في الانتحار
ففي الموسوعة الفقهية :( انْتِحَارٌ )
__________
(1) - انظر مقال كشف الطوية في العلميات الاستشهادية أد : يحيى هاشم حسن فرغل(1/322)
1 - الِانْتِحَارُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ : انْتَحَرَ الرَّجُلُ , بِمَعْنَى نَحَرَ نَفْسَهُ أَيْ : قَتَلَهَا . وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى . لَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ رَجُلًا قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ , فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجُرْحِ , فَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى كِنَانَتِهِ , فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا } . وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ : { انْتَحَرَ فُلَانٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( النَّحْرُ وَالذَّبْحُ ) : 2 - النَّحْرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ : فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُ كُلِّ الْحُلْقُومِ , وَمَحَلُّهُ مِنْ أَسْفَلِ الْحُلْقُومِ . وَيُطْلَقُ الِانْتِحَارُ عَلَى قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ . وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ بِاسْمِ ( قَتْلُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ )
بِمَ يَتَحَقَّقُ الِانْتِحَارُ :(1/323)
3 - الِانْتِحَارُ نَوْعٌ مِنْ الْقَتْلِ فَيَتَحَقَّقُ بِوَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ . وَيَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْلِ . فَإِذَا كَانَ إزْهَاقُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ , كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ أَوْ الرُّمْحِ أَوْ الْبُنْدُقِيَّةِ أَوْ أَكْلِ السُّمِّ أَوْ إلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ فِي النَّارِ " لِيَحْتَرِقَ أَوْ فِي الْمَاءِ لِيَغْرَقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَسَائِلِ , فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ . وَاذَا كَانَ الْإِزْهَاقُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْوَاجِبِ , كَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلَاجِ الْجُرْحِ الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ سَيَأْتِي , أَوْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنْ السَّبُعِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّجَاةُ مِنْهُ , فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ السَّلْبِ 4 - وَيُقَسَّمُ الِانْتِحَارُ بِحَسَبِ إرَادَةِ الْمُنْتَحِرِ إلَى نَوْعَيْنِ : الِانْتِحَارِ عَمْدًا وَالِانْتِحَارِ خَطَأً . فَإِذَا ارْتَكَبَ الشَّخْصُ عَمَلًا حَصَلَ مِنْهُ قَتْلُ نَفْسِهِ , وَأَرَادَ النَّتِيجَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الْعَمَلِ , يُعْتَبَرُ الْقَتْلُ انْتِحَارًا عَمْدًا . كَرَمْيِ نَفْسِهِ بِقَصْدِ الْقَتْلِ مَثَلًا . وَإِذَا أَرَادَ صَيْدًا أَوْ قَتْلَ الْعَدُوِّ فَأَصَابَ نَفْسَهُ , وَمَاتَ , يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا خَطَأً . وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهُمَا قَرِيبًا . وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ الِانْتِحَارُ بِطَرِيقٍ يُعْتَبَرُ شَبَهَ الْعَمْدِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ , كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا , كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا . ر : ( قَتْلٌ ) .
أَمْثِلَةٌ مِنْ الِانْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ :(1/324)
أَوَّلًا : الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمُبَاحِ :
5 - مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ , مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ . لِأَنَّ الْأَكْلَ لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ , فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ انْتَحَرَ , لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ . وَإِذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ لِلْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا لَزِمَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ , فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا نَفْسَهُ , بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ , لِأَنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إهْلَاكِ نَفْسِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } . وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ , فَلَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ , لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ لقوله تعالى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ , وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ , وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ مُنْتَحِرًا , لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ إلَى التَّهْلُكَةِ . ثَانِيًا : تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ : 6 - مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لَا يُعَدُّ مُغْرِقًا , كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ(1/325)
عَادَةً , فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا مَثَلًا مُخْتَارًا لِذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ , يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلًا نَفْسَهُ , وَلِذَلِكَ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ , لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ , وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ , وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ , فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ . كَذَلِكَ إنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا , أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ , فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ . وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ , لِأَنَّهُ جَانٍ بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إلَى الْمَوْتِ . وَفَارَقَ الْمَاءَ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ , وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ , أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ , وَلِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ , فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ , أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا . ثَالِثًا : تَرْكُ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي : 7 - الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا وَامْتَنَعَ مِنْ الْعِلَاجِ حَتَّى مَاتَ , لَا يُعْتَبَرُ عَاصِيًا , إذْ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ . كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا , بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ , إذْ الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ . أَمَّا إذَا كَانَ الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلَاجُ(1/326)
مَوْثُوقًا بِهِ , كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ الْعِرْقِ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ , حَتَّى لَا يُسْأَلَ جَارِحُهُ عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلَافِهِ , وَقَالُوا : إنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ إمْكَانِهِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ , كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ . وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلَاجِ لَا يُعْتَبَرُ عِصْيَانًا , لِأَنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ , قَالُوا : إنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ عَمْدًا فَمَاتَ , لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ الْمُهْلِكِ الشَّافِعِيَّةُ , فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ . وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ :(1/327)
8 - الِانْتِحَارُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ , وَهُوَ فَاسِقٌ وَبَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ , حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ , وَقِيلَ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ . كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ . مِنْهَا قَوْلُهُ { مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا } .
وَهُنَاكَ حَالَاتٌ خَاصَّةٌ تُشْبِهُ الِانْتِحَارَ , لَكِنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا , وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُهَا , لِأَنَّهَا لَيْسَتْ انْتِحَارًا فِي الْوَاقِعِ كَالْآتِي :
أَوَّلًا : الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إلَى آخَرَ :(1/328)
9 - إذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي سَفِينَةٍ , وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَلَّ فِيهَا احْتَرَقَ , وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَرِقَ . فَالْجُمْهُورُ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَ . فَإِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَمَاتَ جَازَ , وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا مُحَرَّمًا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ . وَقَالَ الصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ وَالصَّبْرُ , لِأَنَّهُ إذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ كَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ , وَإِنْ أَقَامَ فَمَوْتُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ , إذَا كَانَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَيْهِ نَوْعُ خِفَّةٍ مَعَ التَّأَكُّدِ مِنْ الْقَتْلِ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : وَلَوْ قَالَ لَهُ : لَتُلْقِيَن نَفْسَك فِي النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَبَلِ , أَوْ لَأَقْتُلَنك , وَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِحَيْثُ لَا يَنْجُو مِنْهُ , وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ خِفَّةٍ , فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ , وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ , لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِي زَعْمِهِ , وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ . وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَصْبِرُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ , لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إهْلَاكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ . أَمَّا إذَا ظَنَّ السَّلَامَةَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبٍ إلَى سَبَبٍ آخَرَ لِلْمَوْتِ , أَوْ رَجَا طُولَ الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ مَوْتٍ أَشَدَّ(1/329)
وَأَصْعَبَ مِنْ الْمَوْتِ الْمُعَجَّلِ , قَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِهِ , لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ , وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ هُوَ الْأَوْلَى , مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ . 10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبِعَ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ مُمَيِّزًا هَارِبًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاءٍ أَوْ نَارٍ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ , فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , لِمُبَاشَرَتِهِ إهْلَاكَ نَفْسِهِ عَمْدًا , كَمَا لَوْ أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا . فَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ عِنْدَهُمْ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ . أَمَّا لَوْ وَقَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ جَاهِلًا بِهِ , لِعَمًى أَوْ ظُلْمَةٍ مَثَلًا أَوْ تَغْطِيَةِ بِئْرٍ , أَوْ أَلْجَأَهُ إلَى السَّبُعِ بِمَضِيقٍ ضَمِنَ مَنْ تَبِعَهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إهْلَاكَ نَفْسِهِ وَقَدْ أَلْجَأَهُ التَّابِعُ إلَى الْهَرَبِ الْمُفْضِي لِلْهَلَاكِ . وَكَذَا لَوْ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ فِي الْأَصَحِّ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إذَا طَلَبَ إنْسَانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ فَهَرَبَ مِنْهُ , فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ضَمِنَهُ , سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ الشَّاهِقِ , أَمْ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ أَمْ خَرَّ فِي بِئْرٍ , أَمْ لَقِيَهُ سَبْعٌ , أَمْ غَرِقَ فِي مَاءٍ , أَمْ احْتَرَقَ بِنَارٍ . وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا , أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا , عَاقِلًا أَمْ مَجْنُونًا . وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا : مَنْ أَشَارَ(1/330)
إلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ , وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ , فَتَمَادَى بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُ , فَطَلَبَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدُونِ الْقَسَامَةِ إذَا كَانَ الْمَوْتُ بِدُونِ السُّقُوطِ , وَإِذَا سَقَطَ وَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ الْقَسَامَةِ . أَمَّا إذَا كَانَ بِدُونِ عَدَاوَةٍ فَلَا قِصَاصَ , وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ
ثَانِيًا : هُجُومُ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ :(1/331)
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هُجُومِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْعَدُوِّ , مَعَ التَّيَقُّنِ بِأَنَّهُ سَيُقْتَلُ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ إقْدَامِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ , إنْ كَانَ قَصْدُهُ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ , وَكَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَظَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيهِمْ , وَلَوْ عَلِمَ ذَهَابَ نَفْسِهِ , فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا . وَقِيلَ إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ , وَخَلَصَتْ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ , لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَعْدَاءِ , وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قوله تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُو , وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ , لَكِنْ سَيَنْكِي نِكَايَةً أَوْ سَيُبْلِي أَوْ يُؤَثِّرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } لِأَنَّ مَعْنَى التَّهْلُكَةِ - كَمَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ - هُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحُهَا وَتَرْكُ الْجِهَادِ . لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ غَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّة أَنَّهُ { حَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْمَلِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ , فَصَاحَ النَّاسُ , وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ , يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلَى التَّهْلُكَةِ , فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّكُمْ(1/332)
تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ , وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ , فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ , وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ , فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا , فَأَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَى مَا قُلْنَا { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ } وَنَقَلَ الرَّازِيُّ رِوَايَةً عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْجَنَّةَ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَرَأَيْت إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ : فِي الْجَنَّةِ , فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ } . كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ , لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : طَلَبُ الشَّهَادَةِ . الثَّانِي : وُجُودُ النِّكَايَةِ . الثَّالِثُ : تَجْرِئَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ . الرَّابِعُ : ضَعْفُ نُفُوسِ الْأَعْدَاءِ , لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ظَنُّك بِالْجَمِيعِ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ : إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إذَا حَارَبَ قُتِلَ , وَإِذَا لَمْ يُحَارِبْ أُسِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَالُ , لَكِنَّهُ إذَا قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ . أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ(1/333)
يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِحَمَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ كَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَهُوَ وَحْدَهُ , لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ , إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ .
ثَالِثًا : الِانْتِحَارُ لِخَوْفِ إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ :
12 - إذَا خَافَ الْمُسْلِمُ الْأَسْرَ , وَعِنْدَهُ أَسْرَارٌ هَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَوْفَ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ , وَيُحْدِثُ ضَرَرًا بَيِّنًا بِصُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّالِي يُقْتَلُ , فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَنْتَحِرَ أَوْ يَسْتَسْلِمَ ؟ لَمْ نَجِدْ فِي جَوَازِ الِانْتِحَارِ خَوْفَ إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ , وَلَا فِي عَدَمِ جَوَازِهِ نَصًّا صَرِيحًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . إلَّا أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ أَجَازُوا قِتَالَ الْكُفَّارِ إذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ تَأَكَّدُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُقْتَلُونَ مَعَهُمْ , بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ , وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ , وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً , وَعَلِمْنَا أَنَّنَا لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا أَوْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِينَا , وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ : ( يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ ) . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُجَوِّزُوا إلْقَاءَ شَخْصٍ فِي الْبَحْرِ لِخِفَّةِ ثِقَلِ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ لِلْغَرَقِ , لِأَجَلِ نَجَاةِ رُكَّابِهَا مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ , إلَّا مَا نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ(1/334)
الْمَالِكِيُّ عَنْ اللَّخْمِيِّ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ (1)
__________
(1) - ((قلت : وفي كتاب حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار للشيخ عبد العزيز الجربوع تفصيل لذلك وخلاصته :
1- جميع النصوص المحرمة قتل المسلم نفسه أو إلقاءها في مواطن الهلكة ، عامة مخصوص منها مسألتنا ، ومن قال غير ذلك فعليه الدليل لكي نرجع إليه رغم أنوفنا { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }
2- يجب أن يُعلم أن قياس المنتحر في هذه العمليات الاستشهادية على المنتحر ضجراً من الدنيا أو لضر أصابه ، قياس مع الفارق فالمنتحر وازعه في قتل نفسه الجزع وعدم الصبر أو اليأس ، وهذا ما لا يرضي الله ، وأما المنتحر في العملية الاستشهادية المذكورة آنفاً فوازعه فيها أن يفدي الدين وإخوانه المؤمنين بنفسه ، وأن يحمي أعراضهم بدمه وبذلك تكمن رفعة الدين ، والنكاية بالعدو ، فنفسه ، مطمئنة ، فرحة ، مستبشرة متطلعة إلى لقاء الله والفوز بالجنة . فهل يستويان ؟! { هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون }
3- جواز الانتحار خوف إفشاء الأسرار لابد له من ضوابط :
أ- أن تكون نيته خالصة لله ووازعه ودافعه لهذا العمل حماية المسلمين والإسلام وبيضته لا أن يكون الوازع عدم الصبر على العذاب والضجر مما نزل به .
ب- أن يكون السر مهما ً يترتب على كشفه ضرر كبير يلحق بالمسلمين ، من هزيمة أو قتل أحدهم ، أو هتك أعراضهم ، أو الزج بهم في غياهب السجون وتعذيبهم مدداً طويلة لا يعلم أمدها إلا الله سبحانه وتعالى .
ج- أن يقع صاحب السر في أيدي الأعداء حقيقة وليس أن يتوقع أن يقع في أيديهم ، أو أن يكون في حصار لا فرار معه البتة فإن كان هناك مجال للفرار أو المقاومة حتى القتل أو النجاة فلا يجوز الانتحار ، بل يجب عليه أن يقاوم ويبذل طاقته ويستفرغ وسعه وجهده في الفرار أوحملهم على قتله .
د- أن لا يستطيع حامل السر الصمود أمام التعذيب ، ولا قدرة له على ذلك ، فإن كان له قدرة وصبرٌ على ذلك حتى الموت ، فلا يجوز الانتحار ، إلا أن يخاف ألا يصمد مع الوقت عند ذلك لا بأس بالانتحار خوف إفشاء الأسرار إن لم نقل بندبه أو وجوبه على حسب ما يترتب على إفشاء السر .))(1/335)
.
أَمْرُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ :
إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ : اُقْتُلْنِي , أَوْ قَالَ لِلْقَائِلِ إنْ قَتَلْتنِي أَبْرَأْتُك , أَوْ قَدْ وَهَبْت لَك دَمِي , فَقَتَلَهُ عَمْدًا , اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالَ : الْأَوَّلُ : 13 - أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا , لَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ , وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ . هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا زُفَرَ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ , وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ مَالِكٍ , وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ , لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النُّفُوسِ , وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ , وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ , فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ , وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْعَمْدِ . وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَقَالُوا : إنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فَلَا قِصَاصَ , لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النَّفْسِ , وَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الْإِذْنِ , وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ , وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُثْقَلٍ فَلَا قِصَاصَ لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ الثَّانِي : 14 - أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَتْلُ عَمْدٍ , وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الِانْتِحَارِ , وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ . وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ , لِأَنَّ عِصْمَةَ النُّفُوسِ مِمَّا لَا(1/336)
تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ , وَإِذْنُهُ لَا يُعْتَبَرُ , لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِوَارِثِهِ لَا لَهُ , وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا قَبْلَ وُجُوبِهِ . الثَّالِثُ : 15 - أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَهُ حُكْمُ الِانْتِحَارِ , فَلَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَلَا دِيَةَ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ , وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَصَحَّحَهُ الْقُدُورِيُّ , وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِلْإِذْنِ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالْجِنَايَةِ , وَلِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُورِثُ شُبْهَةً , وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ . وَأَمَّا سُقُوطُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَإِذْنِهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ , كَمَا لَوْ قَالَ : اُقْتُلْ دَابَّتِي فَفَعَلَ فَلَا ضَمَانَ إجْمَاعًا , فَصَحَّ الْأَمْرُ , وَلِأَنَّ الْمُورَثَ أَسْقَطَ الدِّيَةَ أَيْضًا فَلَا تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ . وَإِذَا كَانَ الْآمِرُ أَوْ الْآذِنُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَلَا يُسْقِطُ إذْنُهُ شَيْئًا مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا الدِّيَةِ , لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِمَا . 16 - لَوْ قَالَ : اقْطَعْ يَدِي , فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ كَمَا إذَا وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ اتِّفَاقًا . وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ , وَلَوْ قَطَعَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَمُتْ مِنْ الْقَطْعِ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ , فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ , كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ . وَقَالَ(1/337)
الْمَالِكِيَّةُ : إنْ قَالَ لَهُ : اقْطَعْ يَدِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْك , فَلَهُ الْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَطْعِ , مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ , فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ . 17 - وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا , وَمَاتَ مِنْهَا , فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) . وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ : فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ , لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ , فَكَذَا الْأَمْرُ : بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ , وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ , إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ , فَتَجِبُ الدِّيَةُ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا , وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ . أَمَّا لَوْ عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ , وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ بِهِ إلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ , لِأَنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ مِنْ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ , فَلَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ , وَلِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ , فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ . وَلِأَنَّ الْأَصَحَّ ثُبُوتُ الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً ,(1/338)
وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ . وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ .
أَمْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ :
18 - إذَا أَمَرَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ - أَمْرًا لَمْ يَصِلْ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ - بِقَتْلِ نَفْسِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ , فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ , وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ , لِأَنَّ الْمَأْمُورَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَمُجَرَّدُ الْأَمْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا فِي الرِّضَى , مَا لَمْ يَصِلْ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
الْإِكْرَاهُ عَلَى الِانْتِحَارِ :(1/339)
19 - الْإِكْرَاهُ هُوَ : حَمْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ . وَهُوَ نَوْعَانِ : مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ . فَالْمُلْجِئُ : هُوَ الْإِكْرَاهُ الْكَامِلُ , وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ . وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَى , وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ , وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ : هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ , وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَى وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . 20 - إذَا أَكْرَهَ إنْسَانٌ غَيْرَهُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْمُكْرَهَ , بِأَنْ قَالَ لَهُ : اُقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُك , فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِانْتِحَارِ , حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ ( بِفَتْحِ الرَّاءِ ) كَالْآلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ ( الْمُلْجِئِ ) فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ , فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ , كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ , وَلِأَنَّ إذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , فَكَيْفَ إذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ ؟ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ , لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُبَاحُ بِالْإِذْنِ , إلَّا أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ . وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ , وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ(1/340)
بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُولُ بِالْقَتْلِ . 21 - إذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْغَيْرُ نَفْسَهُ , بِأَنْ قَالَ لَهُ : اُقْتُلْ نَفْسَك وَإِلَّا قَتَلْتُك , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ , وَإِلَّا يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا , لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِهِ , فَكِلَاهُمَا قَتْلٌ , فَلَأَنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرَهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُلَ هُوَ نَفْسَهُ . وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ الْقَتْلِ بِتَرَاجُعِ الْمُكْرَهِ , أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , لِانْتِفَاءِ كَوْنِهِ إكْرَاهًا حَقِيقَةً , لِاتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ , فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْلَ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ , لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ , وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْلَ نَفْسِهِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ , إذَا قَتَلَ الْمُكْرِهُ نَفْسَهُ , كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ . وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إنْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ , كَانَ إكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ , وَمَالَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ , وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ . وَفَصَّلَ(1/341)
الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا : لَوْ قَالَ لَتُلْقِيَن نَفْسَك فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ , فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ الْجَبَلِ , فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ , لِأَنَّهُ قَتَلَ بِالْمُثْقَلِ , فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ , لِأَنَّهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ . أَمَّا إذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ , فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . هَذَا , وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَانْظُرْ ( إكْرَاهٌ ) .
اشْتِرَاكُ الْمُنْتَحِرِ مَعَ غَيْرِهِ :(1/342)
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ , ثُمَّ جَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ مِنْهُمَا , فَهَلْ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ ؟ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الصُّوَرِ : أ - فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً , كَأَنْ أَرَادَ ضَرْبَ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِجُرْحٍ فَأَصَابَ نَفْسَهُ , أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ , ثُمَّ جَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ خَطَأً , فَمَاتَ مِنْهُمَا , فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُخْطِئِ بِالْإِجْمَاعِ , وَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ , كَمَا لَوْ قَتَلَهُ اثْنَانِ خَطَأً . ب - أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ خَطَأً , وَجَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ عَمْدًا , فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ) بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُولُ : لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَالْمُخْطِئِ وَالصَّغِيرِ , وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ , إذْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ مَاتَ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ : يُقْتَصُّ مِنْ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ , لِأَنَّهُ قَصَدَ الْقَتْلَ , وَخَطَأُ شَرِيكِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَصْدِهِ . ج - وَإِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا , وَجَرَحَهُ آخَرُ عَمْدًا , وَمَاتَ مِنْهُمَا , يُقْتَصُّ مِنْ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ , لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ , فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى(1/343)
الشَّرِيكِ فِيهِ كَشَرِيكِ الْأَبِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ قَاتِلِ نَفْسِهِ , وَإِنْ كَانَ جُرْحَاهُمَا عَمْدًا , لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ شَرِيكِ الْمُخْطِئِ , كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ , وَلِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ , فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ , كَشَرِيكِ الْمُخْطِئِ , وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ , كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ . وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ , وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَسَامَةُ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا : أَنَّ الْجَارِحَ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا كَذَلِكَ 23 - وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْسَمُ عَلَى مَنْ اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ , وَعَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ , فَإِذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الشَّرِيكِ وَلَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ , يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ , وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إنْ مَاتَ شَخْصٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ زَيْدٍ وَأَسَدٍ وَحَيَّةٍ ضَمِنَ زَيْدٌ ثُلُثَ الدِّيَةِ , لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ هَدَرٌ فِي الدَّارَيْنِ , وَفِعْلُ زَيْدٍ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّارَيْنِ , وَفِعْلُ نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا لَا الْعُقْبَى , حَتَّى يَأْثَمَ بِالْإِجْمَاعِ . 24 - وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَهَمِّيَّتُهَا فِي اشْتِرَاكِ الشَّخْصِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ ,(1/344)
وَهِيَ مُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالسُّمِّ الْمُهْلِكِ . فَإِنْ جَرَحَهُ إنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَقْتُلُ فِي الْحَالِ , فَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ , وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ , فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى جَارِحِهِ فِي النَّفْسِ , وَيُنْظَرُ فِي الْجُرْحِ , فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ , وَإِلَّا فَلِوَلِيِّهِ الْأَرْشُ وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ , أَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ , أَوْ قَدْ يَقْتُلُ بِفِعْلِ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهِ , فَالْقَتْلُ شَبَهُ عَمْدٍ , وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ . وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ . وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُلُ غَالِبًا , وَعُلِمَ حَالُهُ , فَحُكْمُهُ كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ , فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , أَوْ هُوَ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ , وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْجَارِحِ بِحَالٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ عَمْدًا أَمْ كَانَ خَطَأً , لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ . كَذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا إذَا تَدَاوَى الْمَقْتُولُ بِالسُّمِّ خَطَأً , بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ " لَا يُقْتَلُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي(1/345)
شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ
الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الِانْتِحَارِ :
أَوَّلًا : إيمَانُ أَوْ كُفْرُ الْمُنْتَحِرِ : 25 - وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى خُلُودِ قَاتِلِ نَفْسِهِ فِي النَّارِ وَحِرْمَانِهِ مِنْ الْجَنَّةِ . مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارٍ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا , وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا } وَمِنْهَا حَدِيثُ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ , فَقَالَ اللَّهُ : بِدَرَنِي عَبْدِي نَفْسَهُ , حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ , لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَالْحِرْمَانَ مِنْ الْجَنَّةِ جَزَاءُ الْكُفَّارِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِكُفْرِ الْمُنْتَحِرِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْإِنْكَارُ وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ - غَيْرَ الشِّرْكِ - لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَقَدْ صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ . بَلْ قَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ(1/346)
عَنْ الْإِسْلَامِ , وَلِهَذَا قَالُوا بِغُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي , وَالْكَافِرُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إجْمَاعًا . ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ : الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ , كَمَا وَصَفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ كَسَائِرِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ نُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ . وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ خُلُودِ الْمُنْتَحِرِ فِي النَّارِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ بِالِانْتِحَارِ , وَاسْتَحَلَّهُ , فَإِنَّهُ بِاسْتِحْلَالِهِ يَصِيرُ كَافِرًا , لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَالْكَافِرُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِلَا رَيْبٍ , وَقِيلَ : وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ . وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ : الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي بَلْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا , وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا . وَلَعَلَّ . الْمُرَادُ مَا إذَا تَابَ حَالَةَ الْيَأْسِ , كَمَا إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا لَا يَعِيشُ مَعَهُ عَادَةٌ , كَجُرْحٍ مُزْهِقٍ فِي سَاعَتِهِ , وَإِلْقَائِهِ نَفْسَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ فَتَابَ . أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَبَقِيَ حَيًّا أَيَّامًا مَثَلًا ثُمَّ تَابَ وَمَاتَ , فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ(1/347)
تَحْتَ الْمَشِيئَةِ , وَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ , حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ { لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو , وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ , فَمَرِضَ فَجَزِعَ , فَأَخَذَ مَشَاقِصَ , فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ , فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ , وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ , فَقَالَ لَهُ : مَا صَنَعَ بِك رَبُّك ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَالِي أَرَاك مُغَطِّيًا يَدَيْك ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْك مَا أَفْسَدْت , فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ } وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا , لَكِنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَيُسَمِّي فَاسِقًا .
ثَانِيًا : جَزَاءُ الْمُنْتَحِرِ :(1/348)
26 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمُتْ مَنْ حَاوَلَ الِانْتِحَارَ عُوقِبَ عَلَى مُحَاوِلَتِهِ الِانْتِحَارَ , لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنْ الْكَبَائِرِ . كَذَلِكَ لَا دِيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الِانْتِحَارُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْحَنَابِلَةِ ) لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ , وَلِأَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ , فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا , وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ , وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي وَتَخْفِيفًا عَنْهُ , وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ , فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُنْتَحِرِ خَطَأً دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ , لِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ , فَكَانَ عَقْلُهَا ( دِيَتُهَا ) عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ . فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ , لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ , وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ , وَلَهُ مَا بَقِيَ إنْ . كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِنْ(1/349)
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ 27 - اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ , فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ - وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ - تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ مِنْ سِوَى الْحَرْبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَمْ لَا , بِقَتْلِ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنْ مُسْلِمٍ - وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَذِمِّيٍّ وَجَنِينٍ وَعَبْدٍ وَنَفْسِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً . هَكَذَا عَمَّمُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ , وَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُنْتَحِرِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ . وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ خَطَأً , فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَمْدِ , لِسُقُوطِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ بِمَوْتِهِ , كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : هَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَإِنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِكَفَّارَةٍ . وقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إذَا قَتَلَ غَيْرَهُ , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَقَاتِلُ نَفْسِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ . كَذَلِكَ رَدَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } مُخْرِجٌ قَاتِلَ نَفْسِهِ ,(1/350)
لِامْتِنَاعِ تَصَوُّرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ الْكَفَّارَةِ , وَإِذَا بَطَلَ الْجُزْءُ بَطَلَ الْكُلُّ .
ثَالِثًا : غُسْلُ الْمُنْتَحِرِ :
28 - مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً , كَأَنْ صَوَّبَ سَيْفَهُ إلَى عَدُوِّهِ لِيَضْرِبَهُ بِهِ فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ نَفْسَهُ وَمَاتَ , غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ , كَمَا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ . وَكَذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ عَمْدًا , لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ , وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ غُسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَادَّعَى الرَّمْلِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : وَغُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ وَدَفْنُهُ فُرُوضُ كِفَايَةٍ إجْمَاعًا , لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ , سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ .
رَابِعًا : الصَّلَاةُ عَلَى الْمُنْتَحِرِ :(1/351)
29 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ) أَنَّ الْمُنْتَحِرَ يُصَلَّى عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ , وَلِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَلِأَنَّ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ غُسْلُهُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ , وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ - وَهُوَ رَأْيٌ أَبِي يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ - لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ , لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : { أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ } وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ رَجُلًا انْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ قَدْ مَاتَ قَالَ : وَمَا يُدْرِيك ؟ قَالَ : رَأَيْته يَنْحَرُ نَفْسَهُ , قَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ . إذَنْ لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ } . وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا تَوْبَةَ لَهُ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا , وَيُصَلِّي عَلَيْهِ سَائِرُ النَّاسِ . أَمَّا عَدَمُ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ فَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْإِمَامُ , فَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ(1/352)
مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَمَّا صَلَاةُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِ , فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حِينَ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ صَلَاةِ غَيْرِهِ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ , وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ . كَمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ } وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَدَمَ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ , لَكِنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ . فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْإِقْنَاعِ : وَلَا يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَإِمَامِ كُلِّ قَرْيَةٍ - وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ - الصَّلَاةُ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ عَمْدًا , وَلَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ .
خَامِسًا : تَكْفِينُ الْمُنْتَحِرِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ :
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَدَفْنِهِ , وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغَسْلِهِ , وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ , لِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِارْتِكَابِهِ قَتْلَ نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ .
*************
الباب الرابع - فصل في مسألة التترس(1/353)
لما كان الإقدام على العدو والانغماس فيه حاسراً ، نوع من التسبب الممحمود بقتل النفس ، كانت مسألة العمليات الاستشهادية نوعاً محموداً آخر إذا خلصت النية ، لأن التسبب بالقتل كالقتل على رأي الجمهور ، كما سنبينه إن شاء الله .
ومسألة التترس التي أجازها العلماء ، هي مسألة شبيهة بمسألة العمليات الاستشهادية إلا أن بينهما فارقاً سنبينه فيما بعد ، لأن من أجاز قتل المسلمين المتترس بهم لا شك أنه يجيز قتل النفس بالعمليات الاستشهادية إذا كان في ذلك مصلحة للدين ، فحرمة إزهاق نفس المسلم كحرمة إزهاق نفسه بل أعظم وهي من الكبائر ، قال القرطبي في تفسيره 10/183 أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره ، أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ، ولايحل له أن يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .
فمن أجاز قتل المسلم للمصلحة ، لا بد له من أن يجيز قتل النفس للمصلحة طرداً لأصله ، إلا أن الفقهاء لم يبحثوا العمليات الاستشهادية بوضعها الحالي التي عرفناها في أول البحث ، لأن الوسائل تغييرت وأساليب الحرب تطورت .(1/354)
والفارق الذي لا بد أن يؤخذ بالاعتبار ويفهم به كلام السلف الذين أجازوا قتل المتترس بهم ، هو أن السلف أجازوا قتل المتترس بهم حال الضرورة ، أما العمليات الاستشهادية فلا يقتضي جوازها إلى ضرورة ملحة كمسألة التترس ، فإن المسألتين متشابهتان من وجه مختلفتان من وجه آخر ، لأن قتل الغير لم ترد به نصوص تجيزه أبداً ، ولكن غلبت المصلحة العامة على الخاصة للضرورة ، والقاعدة تقول الضرورات تبيح المحضورات ، والقاعدة الأخرى تقول إذا تعارضت مفسدتان ارتكب أدناهما ، ولكن في العمليات الاستشهادية لا نحتاج إلى إجازتها بالقواعد كتعارض المفاسد أو إجازتها حال الضرورة ، لأن عندنا نصوصاً تحث على الإقدام على العدو وتثني على من اقتحم على العدو رغم تيقنه الموت فيها ، بشرط أن تكون نيته خالصة لإعلاء كلمة الله ، فهنا الفارق بين المسألتين الأولى على المنع وأجيزت للضرورة والثانية ليس فيها منع بل فيها حث على الإقدام ، ومن قال بجواز أمر محرم ولم تأت النصوص بجوازه مطلقاً وهو قتل المسلم ، فلا شك أنه سيجيز نظيره وهو أقل حرمة في الأصل ، وجاءت النصوص على إباحته والأمر به والحث عليه ومدح فاعله ، فتنبه أخي الكريم للفرق ، فما يباح للضرورة غير ما يباح للمصلحة ، والقول بجواز قتل الترس أصعب من القول بجواز قتل النفس وقد تواردت الأدلة على جواز الثانية
ووجه الشبه بين المسألتين ، أنه في كلا الحالتين تم إزهاق نفس مسلمة لمصلحة الدين ، فمن أخرج قتل المسلم في مسألة التترس عن أصلها من الحرمة فأجازه لسبب ما ، فلا شك أيضاً أن الاقتحام على العدو والعمليات الاستشهادية لها اعتبارات شرعية تخرجها عن أصل حرمة قتل النفس وتجعلها ممدوحة مثني على فاعلها و موصوف بالشهادة ، هذا لو سلمنا أنه لا يوجد أدلة تحث على فعله .(1/355)
أما تعريف التترس : فقد جاء في مختار الصحاح 63 قال : التترس هو التستر بالترس ، وفي المصباح المنير (1) قال : الترس معروف .. تترس بالشيء جعله كالترس ، وتستر به .
والمراد بالترس في هذا الفصل هو أن يتخذ العدو طائفة من الناس بمثابة الترس يحمي بهم نفسه ، لأنه يعرف أن خصمه بسبب محافظته على أرواح هذه الطائفة المُتترس بها لن يقدم على ضربه أو الهجوم عليه .
ومن الصور التي تستخدم في هذا العصر لهذا الغرض ، ما يسمى بالدروع البشرية أو يطلق عليه رهائن الحرب ، فتعمد الدولة التي أسرت رعايا خصومها إلى سجنهم في المرافق الحيوية ، والمقار الاستراتيجية والوزارات وغيرها ، لتتفادى بهم ضربة الخصوم ، فيحجم الخصم عن ضرب مرافقها الحيوية حفاظاً على أرواح رعاياه .
وبالنسبة لامتناع جيش المسلمين عن قتل من تترس بهم ، فإنه لا يلزم أن يكون الدرع البشري أو المتترس بهم من المسلمين فقط ، بل إن الجيش الإسلامي مأمور باتقاء قتل معصومي الدم حتى من الكفار أمثال النساء والصبيان والشيوخ ، فلو تترس الكفار برعاياهم من المعصومين أمثال النساء والأطفال والشيوخ وأهل الذمة ، فإن الجيش الإسلامي مأمور بالكف عنهم إلا إذا حدث من الكف ضرر على المسلمين فالمصلحة تبيحه ، وإذا كان الدرع البشري من المسلمين فالمنع أشد ولا يجوز الإقدام على ضرب العدو مع وجود الدرع من المسلمين إلا لضرورة ، فخرج لنا تفصيل وهو أن الدرع إذا كان من المعصومين من الكفار لا يجوز رميهم إلا لمصلحة ، وإذا كان الدرع من المسلمين فلا يجوز رميهم إلا لضرورة .
__________
(1) - 43(1/356)
والتفريق بين الأمرين ظاهر بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم قال مر بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودان وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال ( هم منهم ) ، ورأي الجمهور أن نساء الكفار وذراريهم لا يقتلون قصداً ولكن إذا لم يتوصل إلى قتل الأباء إلا بإصابة هؤلاء جاز ذلك ، وعندما أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك للصحابة لم يضع له ضوابط أخرى تفيد أنه لا يجيزه إلا لضرورة ، بل حاجة المسلمين في الإغارة على الكفار بالليل تجيز ذلك رغم أنه صلى الله عليه وسلم في حروبه يبيت القوم حتى يطلع الفجر فإذا سمع آذانا وإلا أغار ، فعلم من ذلك أنه بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم الامتناع عن الإغارة بالليل لما فيها من قتل النساء والصبيان ، وجعل الهجوم بالنهار ، إلا أن المصلحة تبيح ذلك .
أما لو كان المتترس بهم من المسلمين فلا يجوز ذلك بحال إلا إذا أفضى الامتناع إلى تضرر عموم المسلمين والمجاهدين بترك قتال الكفار حتى لو زهقت أرواح المسلمين ، فالمسلم مأجور على فعله والمقتول يبعثه الله على نيته .
والضرورة المقصودة التي تجيز استهداف الكافرين حتى لو تترسوا بالمسلمين : هي أن يهجم العدو على المسلمين فيقتل منهم أكثر ممن تترس بهم ، أو يستبيح أرض المسلمين ويدخل ديارهم أو أن يخشى على المسلمين أن يحاط بهم أو يستأصلوا أو يهزموا ، إذا امتنعوا وكفوا عن القتال لأجل المتترس بهم ، والضرورة يقدرها أمير المسلمين في وقته ومن له السلطان في بدء الحرب وإيقافها فهو يرى ويعرف مالا يعرفه آحاد الناس أو البعيدين وليس الخبر كالمعاينة .(1/357)
قال الشوكاني (1)447 والدسوقي (2) وصاحب مغني المحتاج (3) وابن قدامة في المغني (4)كل هؤلاء نقلوا عن الجمهور قولهم بوجوب قتال العدو إذا دعت الضرورة إلى ذلك حتى لو أدى ذلك إلى هلاك الدرع الذي يحتمي به العدو ، وذكر صاحب مغني المحتاج لذلك شرطين:
1- أن يتحاشى المجاهدون ضرب الدرع ما أمكنهم ، إلا إذا حدث هذا الضرب بحكم الخطأ أو بحكم الاضطرار
2- عدم وجود قصد قلبي إلى ضرب أفراد هذا الدرع ، وإن وجد القصد الحسي اضطراراً .
قال ابن النحاس(5): لو تترس الكفار في قلعتهم بأسرى المسلمين وأطفالهم ، فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم ، تركناهم صيانة للمسلمين ، وإلا فإن دعت ضرورة بأن تترسوا بهم في حال التحام الحرب ، وكان بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا ، أو كثرت نكايتهم ، أو تعذر أخذ قلعتهم ، جاز رميهم في الأصح ، ويُتوقى المسلم بحسب الإمكان هذا مذهب الشافعي وأحمد وأجاز أبو حنيفة رميهم مطلقاً – أي بلا ضرورة – بالمنجنيق والنبل وغير ذلك ، بشرط توقي المسلم مهما أمكن ، وعلى هذا لو تترسوا في مركب ونحوه بالمسلمين والله أعلم .
قال شيخ الإسلام (6): لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم ، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة المصائب ، كما قيل في بعضهم القاتل مجاهد والمقتول شهيد .
__________
(1) - في فتح القدير 5/447
(2) - 2/178
(3) - 4/244
(4) - 10/505
(5) - في مشارع الأشواق 2/1029
(6) - في مجموع الفتاوى 10/376(1/358)
وقد توسع جمهور الأحناف والمالكية والإمام الثوري كما جاء في فتح القدير (1) وأحكام القرآن للجصاص (2) ومنح الجليل (3)فأجازوا قتال العدو إذا تترس بالمسلمين حتى لو أدى ذلك إلى قتل المسلمين ، سواءً علموا أنهم إذا كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم ينهزموا ، حدث بالكف ضرر أو لم يحدث ، وحجتهم في ذلك أن المسلمين لو كفوا عن كل من يتترس بالمسلمين لتعطل الجهاد .
وهذا القول ظاهر الضعف فحرمة دم المسلم أعظم من أن تنتهك لمثل هذه الجحة غير المسلمة لهم ، ولا يلزم أن يتعطل الجهاد بسبب تترس الكفار بالمسلمين ، بل أساليب الجهاد كثيرة ، ولا يمكن أن يمنعها الكفار بعملية التترس فقط ، علماً أن التترس لن يكون في كل مكان من جبهات العدو ونقاطه ومرافقه الحيوية .
أما لو تترس العدو بنساء الكفار وصبيانهم وشيوخهم ومن هو معصوم الدم ولا يقصد بالقتل ، فقال صاحب السير الكبير (4) وصاحب مغني المحتاج (5)وابن قدامة في المغني (6)، بأن جمهور الأحناف والشافعية والحنابلة يجيزون قتلهم حتى لو لم تدع ضرورة لقتالهم ، وحتى لو لم يحصل ضرر على المسلمين بتوقف القتال .
وخالف في ذلك المالكية كما جاء في الشرح الكبير للدردير (7) ومنح الجليل (8)، رغم أنهم يجيزون قتال الكفار إذا تترسوا بالمسلمين حتى لو لم تدع لذلك ضرورة وأفضى ذلك إلى قتل من تترسوا بهم من المسلمين ، وهذا تباين عجيب ، ولهم في ذلك تعليل لا نطيل بنقله .
****************
الباب الخامس - أحكام الشهيد في الفقه الإسلامي
وفي الموسوعة الفقهية (9):
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ تَطْهِيرُ الْآبَارِ وَحُكْمُ تَغْوِيرِهَا
__________
(1) - 5/448
(2) - 5/273
(3) - 3/151
(4) - 4/1554
(5) - 4/224
(6) - 10/504
(7) - 2/178
(8) - 3/150
(9) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 15)(1/359)
21 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ طَرِيقُ تَطْهِيرِهِ عِنْدَ تَنَجُّسِهَا إذَا زَالَ التَّغَيُّرُ . وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ , أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ . وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ طُرُقًا أُخْرَى , إذْ يَقُولُونَ : إذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا يَطْهُرُ بِالنَّزْحِ , أَوْ بِزَوَالِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ . بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا زَالَتْ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهَا طَهُرَ . وَقَالُوا فِي بِئْرِ الدَّارِ الْمُنْتِنَةِ : طَهُورُ مَائِهَا بِنَزْحِ مَا يُذْهِبُ نَتْنَهُ . 22 - وَيَقْصُرُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْهِيرَ عَلَى التَّكْثِيرِ فَقَطْ إذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا ( دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ) , إمَّا بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ , أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ عَلَيْهِ لِيَكْثُرَ , وَلَا يَعْتَبِرُونَ النَّزْحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ , لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا كَمَا تَتَنَجَّسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ . وَقَالُوا : فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ شَيْءٌ نَجِسٌ , كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا , فَإِنَّ الْمَاءَ يُنْزَحُ لَا لِتَطْهِيرِ الْمَاءِ , وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخَلُّصِ مِنْ الشَّعْرِ . 23 - وَيُفَصِّلُ الْحَنَابِلَةُ فِي التَّطْهِيرِ بِالتَّكْثِيرِ , إذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ قَلِيلًا , أَوْ كَثِيرًا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ وَيَخُصُّونَ ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِغَيْرِ بَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ . وَيَكُونُ(1/360)
التَّكْثِيرُ بِإِضَافَةِ مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ , حَتَّى يَعُودَ الْكُلُّ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ . أَمَّا إذَا كَانَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْحُ مَائِهَا , فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ , سَوَاءٌ بِنَزْحِ مَا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ , أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إلَيْهِ , أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ . عَلَى أَنَّ النَّزْحَ إذَا زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْ الْمَاءِ كَثِيرًا ( قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ ) يُعْتَبَرُ مُطَهِّرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . 24 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقْصُرُونَ التَّطْهِيرَ عَلَى النَّزْحِ فَقَطْ , لِكُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ , أَوْ عَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنْ الدِّلَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ . وَإِذَا كَانَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اعْتَبَرُوا النَّزْحَ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّدُوا مِقْدَارًا مِنْ الدِّلَاءِ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ النَّازِحِ . وَمِنْ أَجْلِ هَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ هُمْ الَّذِينَ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِي النَّزْحِ , وَهُمْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى آلَةِ النَّزْحِ , وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجْمُهَا . 25 - فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ , وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا . لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَصْلًا , لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ , لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ . الثَّانِي : لَا تَنْجَسُ , إذْ يَسْقُطُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ , لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ أَوْ التَّطْهِيرِ . وَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَيْنِ(1/361)
الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ , وَضَرْبٍ مِنْ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ وَقَالُوا : إنَّ مَسَائِلَ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ . أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ } وَفِي رِوَايَةٍ { يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ دَلْوًا } . وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : يُنْزَحُ عِشْرُونَ . وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ : يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ . وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ . وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا سَائِلًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا . وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ , وَهُوَ يَنْجَسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوِرَةِ النَّجَسِ , حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ , يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ , لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ , فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدَهَا . 26 - وَقَالُوا : لَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ , وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ , وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ , وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ , طَهُرَ . وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ , وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ , وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ(1/362)
فِيهِ , لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ . وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ . وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَسَ انْفَصَلَ مِنْ الطَّاهِرِ , فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا , بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا , وَمَا يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنْ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ . وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجَسِ عَنْهَا , وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ , وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إلَّا بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ , لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ . وَاعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ , وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ , بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ . 27 - وَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إنْ أَمْكَنَ , ثُمَّ يُنْزَحَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ , وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ , أَوْ ثَلَثُمِائَةِ دَلْوٍ . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُحْفَرُ بِجَانِبِهَا حُفْرَةٌ مِقْدَارُ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحُفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ فَإِذَا امْتَلَأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ , وَفِي رِوَايَةٍ : يُرْسَلُ فِيهَا(1/363)
قَصَبَةٌ , وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ , ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا , ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ , فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ , وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا إذَا كَانَ دُورُ الْبِئْرِ مِنْ أَوَّلِ حَدِّ الْمَاءِ إلَى مَقَرِّ الْبِئْرِ مُتَسَاوِيًا , وَإِلَّا لَا يَلْزَمُ إذَا نَقَصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ عَشْرِ دِلَاءٍ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ أَنْ يَنْقُصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ مِثْلِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ . وَالْأَوْفَقُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا , لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ . 28 - وَالْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّا يَرَوْنَ أَنَّ النَّزْحَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّطْهِيرِ . وَلَمْ يُحَدِّدُوا قَدْرًا لِلنَّزْحِ , وَقَالُوا : إنَّهُ يُتْرَكُ مِقْدَارُ النَّزْحِ لِظَنِّ النَّازِحِ . قَالُوا : وَيَنْبَغِي لِلتَّطْهِيرِ أَنْ تُرْفَعَ الدِّلَاءُ نَاقِصَةً , لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَوَادُّ دُهْنِيَّةٌ , وَشَأْنُ الدُّهْنِ أَنْ يَطْفُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ , فَإِذَا امْتَلَأَ الدَّلْوُ خُشِيَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْبِئْرِ . وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا : لَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ بِئْرٍ نُزِحَتْ , ضَيِّقَةً كَانَتْ أَوْ وَاسِعَةً , وَلَا غَسْلُ أَرْضِهَا , بِخِلَافِ رَأْسِهَا . وَقِيلَ يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ . وَقِيلَ إنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبِئْرِ الْوَاسِعَةِ . أَمَّا الضَّيِّقَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَرَوْنَ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ . آلَةُ النَّزْحِ : 29 - مَنْهَجُ الْحَنَفِيَّةِ , الْقَائِلُ بِمِقْدَارٍ(1/364)
مُعَيَّنٍ مِنْ الدِّلَاءِ لِلتَّطْهِيرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ , يَتَطَلَّبُ بَيَانَ حَجْمِ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ . فَقَالَ الْبَعْضُ : الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا , صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ . وَقِيلَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ . وَلَوْ نُزِحَ بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ . وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ , لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدَّلْوِ يَصِيرُ كَالْمَاءِ الْجَارِي . وَبِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَيَدُ الْمُسْتَقِي . رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ , فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا , نَفْيًا لِلْحَرَجِ . وَقِيلَ : لَا تَطْهُرُ الدَّلْوُ فِي حَقِّ بِئْرٍ أُخْرَى , كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ . 30 - وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى - عَلَى مَا نَعْلَمُ - لِمِقْدَارِ آلَةِ النَّزْحِ . وَكُلُّ مَا قَالُوهُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إذَا كَانَ قَلِيلًا , وَتَنَجَّسَ , فَإِنَّ الدَّلْوَ إذَا مَا غُرِفَ بِهِ مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ الْقَلِيلِ تَنَجَّسَ مِنْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ , وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ , وَغُرِفَ بِالدَّلْوِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ , وَلَمْ تُغْرَفْ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ فِي الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ , وَظَاهِرُهُ نَجِسٌ , لِأَنَّهُ بَعْدَ غَرْفِ الدَّلْوِ يَكُونُ الْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْبِئْرِ وَاَلَّذِي اُحْتُكَّ(1/365)
بِهِ ظَاهِرُ الدَّلْوِ قَلِيلًا نَجِسًا . وَاسْتَظْهَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ بِعَدَمِ غَسْلِ جَوَانِبِ الْبِئْرِ لِلْمَشَقَّةِ وَوُجُوبِ غَسْلِ رَأْسِهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ , وُجُوبُ غَسْلِ آلَةِ النَّضْحِ إلْحَاقًا لَهَا بِرَأْسِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ مَشَقَّةِ الْغَسْلِ . وَقَالَ : إنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ : الْمَنْزُوحُ طَهُورٌ أَنَّ الْآلَةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ لِلْحَرَجِ . تَغْوِيرُ الْآبَارِ : 31 - كُتُبُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَخْرِيبٍ وَإِتْلَافِ بَعْضِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَتَغْوِيرِ الْآبَارِ لِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ جَازَ ذَلِكَ . بِدَلِيلِ { فِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ } .
إزَالَةٌ التَّعْرِيفُ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية(1/366)
1 - مِنْ مَعَانِي الْإِزَالَةِ فِي اللُّغَةِ : التَّنْحِيَةُ , وَالْإِذْهَابُ وَالِاضْمِحْلَالُ . وَهِيَ مَصْدَرُ أَزَلْتُهُ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الْإِزَالَةَ وَالْإِذْهَابَ وَالْإِبْطَالَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ قَدْ يَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي شَيْءٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْهَا , كَمَا يُقَالُ لِمَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي شَيْءٍ : أَذْهَبَ مَالَهُ فِي كَذَا , وَلَا يُقَالُ أَبْطَلَهُ , وَلَا أَزَالَهُ , وَيُقَالُ لِمَنْ نَقَلَ شَيْئًا مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ : أَزَالَهُ , وَلَا يُقَالُ أَبْطَلَهُ , وَلَا أَذْهَبَهُ , وَيُقَالُ لِمَنْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ : أَبْطَلَهَا , وَلَا يُقَالُ أَذْهَبَهَا , وَلَا أَزَالَهَا . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 2 - الْإِزَالَةُ قَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنْ الشَّارِعِ عَلَى سَبِيلِ الْفِعْلِ , وَقَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً عَلَى سَبِيلِ التَّرْكِ . وَالْإِزَالَةُ قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ أَحْيَانًا كَمَا فِي إزَالَةِ الْجَنَابَةِ , عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَقَدْ تَحْصُلُ بِلَا نِيَّةٍ كَمَا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ . وَمِنْ الْإِزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْفِعْلِ : إزَالَةُ الضَّرَرِ , وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ : " الضَّرَرُ يُزَالُ " ; لِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } لَكِنْ لَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ , وَيُدْفَعُ الضَّرَرُ الْأَشَدُّ بِالْأَخَفِّ . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ , فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ , وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ ,(1/367)
وَالشُّفْعَةُ , فَإِنَّ فِيهَا دَفْعَ ضَرَرِ الْقِسْمَةِ . 3 - وَمِنْ الْإِزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا : إزَالَةُ الْمُنْكَرِ , وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ; لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } . إذْ لَمْ يَقُلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ . وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ : ( الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ) ( وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ) 4 - وَالْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ يَجِبُ عَلَيْهَا إزَالَةُ الطِّيبِ تَفَجُّعًا عَلَى الزَّوْجِ , وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْدَادٌ ) . وَيُنْدَبُ كَذَلِكَ إزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ , وَمَا تَحْتَ الْإِبِطِ وَنَحْوِهِمَا , وَفَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ , مَسَائِلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . كَذَلِكَ مِنْ الْإِزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ , وَلِذَلِكَ بَابٌ خَاصٌّ يُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ أَحْكَامَهَا . 5 - وَمِنْ الْإِزَالَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا : إزَالَةُ دَمِ الشَّهِيدِ , وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { زَمِّلُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ , فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إلَّا أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ يُدْمِي لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ , وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ } . وَفِي الْإِحْرَامِ تَحْرُمُ إزَالَةُ شَعْرِ الْبَدَنِ وَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ دُونَ عُذْرٍ , وَيَجِبُ فِي إزَالَتِهِ جَزَاءٌ . وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ , وَفِي الدِّمَاءِ(1/368)
الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ . بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا تَقَدَّمَ بِنَوْعَيْهِ , تَأْتِي الْإِزَالَةُ فِي أَبْوَابٍ وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا : إزَالَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ , وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمِيَاهِ , وَمِنْهَا : إزَالَةُ الْأَقْذَارِ , وَإِزَالَةُ الْوَشْمِ , وَمِنْهَا : إزَالَةُ التَّعَدِّي , وَيُذْكَرُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَفِي الْغَصْبِ , وَمِنْهَا : مَا يُذْكَرُ فِي الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ وَقْفُ مُسْتَحِقِّ الْإِزَالَةِ , وَمِنْ حَيْثُ مَنْعُ إزَالَةِ الْإِرْصَادِ , وَمِنْهَا : الْبَكَارَةُ , وَيُبَيِّنُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهَا فِي النِّكَاحِ ( تَعْرِيفُ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ) , وَفِي الْجِنَايَاتِ ( الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ) وَمِنْهَا : إزَالَةُ الْعِصْمَةِ , وَتُذْكَرُ فِي الطَّلَاقِ , وَمِنْهَا : إزَالَةُ شُبْهَةِ الْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ .
خَامِسَ عَشَرَ : دَفْنُ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ :(1/369)
22 - يُنْزَعُ عَنْ الْمَيِّتِ قَبْلَ دَفْنِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحِلْيَةِ مِنْ خَاتَمٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ دَفْنَهُ مَعَ الْمَيِّتِ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ , وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . أَمَّا الشَّهِيدُ فَقَدْ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا , وَالْخَاتَمُ مِثْلُ هَذِهِ بَلْ أَوْلَى ; لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ } وَلِأَنَّ مَا يُتْرَكُ عَلَى الشَّهِيدِ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا , وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ , وَالْخَاتَمُ لَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ فَيُنْزَعُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : نُدِبَ دَفْنُ الشَّهِيدِ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ قَلَّ ثَمَنُهَا , وَبِخَاتَمٍ قَلَّ فَصُّهُ أَيْ قِيمَتُهُ , فَلَا يُنْزَعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَفِيسَ الْفَصِّ .
هَذَا , وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ عَامَّةً فِي التَّعَارُضِ , وَهِيَ إنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إلَى الْأُصُولِ مِنْهَا إلَى الْفِقْهِ , إلَّا أَنَّهُ رُتِّبَتْ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ يُسَوَّغُ ذِكْرُهَا هُنَا . تَعَارُضُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4357)(1/370)
16 - مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الزَّرْكَشِيّ : أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ يُقَدَّمُ الْحَظْرُ . وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَوَلَّدَ الْحَيَوَانُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ , حَرُمَ أَكْلُهُ , وَإِذَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ . وَمِنْهَا : لَوْ تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ , يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ , كَمَا إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ , وَجَبَ غَسْلُ الْجَمِيعِ , وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الشُّهَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ لَا يُغَسَّلُ , وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , إلَّا أَنَّهُ يُنْوَى الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا . وَلَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا , وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا وَحْدَهَا فِي الْأَصْلِ حَرَامًا . وَيُعْذَرُ الْمُصَلِّي فِي التَّنَحْنُحِ إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ .
17 - وَمِنْ الْقَوَاعِدِ : مَا لَوْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ , قُدِّمَ آكَدُهُمَا , فَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْعَيْنِ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ . فَالطَّائِفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ لَا يَقْطَعُ الطَّوَافَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ . وَلَوْ اجْتَمَعَتْ جِنَازَةٌ وَجُمُعَةٌ وَضَاقَ الْوَقْتُ , قُدِّمَتْ الْجُمُعَةُ . وَمِنْ هَذَا لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ , بِخِلَافِ الْجِهَادِ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُمَا , لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ , وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ , وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ .(1/371)
18 - وَلَوْ تَعَارَضَتْ فَضِيلَتَانِ , يُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمَا , فَلَوْ تَعَارَضَ الْبُكُورُ إلَى الْجُمُعَةِ بِلَا غُسْلٍ وَتَأْخِيرُهُ مَعَ الْغُسْلِ , فَالظَّاهِرُ : أَنَّ تَحْصِيلَ الْغُسْلِ أَوْلَى لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِهِ . وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ .
19 - وَمِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ : مَا إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ , وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ , قُدِّمَ التَّحْرِيمُ . وَعَلَّلَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَقْدِيمِ النَّسْخِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمُبِيحُ لَلَزِمَ تَكْرَارُ النَّسْخِ , لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ , فَلَوْ جُعِلَ الْمُبِيحُ مُتَأَخِّرًا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ , ثُمَّ يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْمُبِيحِ , وَلَوْ جُعِلَ الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا كَانَ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ , وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا لِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ , وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ - أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ , وَالتَّحْرِيمُ أَحَبُّ إلَيْنَا . قَالُوا : وَإِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ أَحَبَّ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ مُبَاحٍ , لَا اجْتِنَابَ مُحَرَّمٍ , وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ .(1/372)
20 - وَمِنْ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ : أَنْ يَتَعَارَضَ أَصْلَانِ , فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِالْأَرْجَحِ مِنْهُمَا , لِاعْتِضَادِهِ بِمَا يُرَجِّحُهُ . وَمِنْ صُوَرِهِ : مَا إذَا جَاءَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ بِمُشْرِكٍ , فَادَّعَى الْمُشْرِكُ : أَنَّ الْمُسْلِمَ أَمَّنَهُ , وَأَنْكَرَ , فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ فِي إنْكَارِ الْأَمَانِ , لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَمَانِ . وَالثَّانِيَةُ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْرِكِ , لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّمَاءِ الْحَظْرُ إلَّا بِيَقِينِ الْإِبَاحَةِ , وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ هُنَا فِيهَا . وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدُلُّ الْحَالَ عَلَى صِدْقِهِ مِنْهُمَا , تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ بِالظَّاهِرِ الْمُوَافِقِ لَهُ . وَلَوْ تَعَارَضَ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ فِي يَمِينٍ , قُدِّمَ الْحِنْثُ عَلَى الْبِرِّ , فَمَنْ حَلَفَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ وُجُودِهِ فَهُوَ عَلَى حِنْثٍ , حَتَّى يَقَعَ الْفِعْلُ فَيَبَرُّ . وَالْحِنْثُ يَدْخُلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَقَلِّ الْوُجُوهِ , وَالْبِرُّ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَكْمَلِ الْوُجُوهِ , فَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ رَغِيفًا لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِأَكْلِ الرَّغِيفِ كُلِّهِ , وَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَهُ حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِهِ . قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى : وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ : إلَى أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ يَتَعَارَضَانِ وَيَتَدَافَعَانِ , فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ سَابِقًا , وَقَدْ وَرَدَ الْعَامُّ بَعْدَهُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ , فَنُسِخَ الْخَاصُّ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ سَابِقًا وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ , ثُمَّ نُسِخَ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بَعْدَهُ(1/373)
. فَعُمُومُ الرَّقَبَةِ مَثَلًا يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ مَهْمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ , وَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ , فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ . وَإِذَا أَمْكَنَ النَّسْخُ وَالْبَيَانُ جَمِيعًا فَلَمْ يَتَحَكَّمْ بِحَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ دُونَ النَّسْخِ ؟ وَلَمْ يُقْطَعْ بِالْحُكْمِ عَلَى الْعَامِّ بِالْخَاصِّ ؟ وَلَعَلَّ الْعَامَّ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ , وَيُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي , وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا : تَقْدِيمُ الْخَاصِّ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُمْكِنًا , وَلَكِنَّ تَقْدِيرَ النَّسْخِ مُحْتَاجٌ إلَى الْحُكْمِ بِدُخُولِ الْكَافِرَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ , ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْهُ , فَهُوَ إثْبَاتُ وَضْعٍ , وَرَفْعٌ بِالتَّوَهُّمِ , وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ غَالِبٌ مُعْتَادٌ , بَلْ هُوَ الْأَكْثَرُ , وَالنَّسْخُ كَالنَّادِرِ , فَلَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيرِهِ بِالتَّوَهُّمِ , وَيَكَادُ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِيَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَثِيرٌ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْحُكْمِ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ , وَمَا اشْتَغَلُوا بِطَلَبِ التَّارِيخِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ . وَقِيلَ عَلَى الشُّذُوذِ : إنَّهُ يُخَصَّصُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ , فَإِنَّ الرِّجَالَ يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ قَتْلَ غَيْرِهِمْ , فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا , وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ تَخُصُّهُ فِي مُتَعَلِّقِهِ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وقوله تعالى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } - فَيَضْطَرُّ الْمُحْرِمُ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ , فَعِنْدَ(1/374)
مَالِكٍ : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَيَتْرُكُ الصَّيْدَ ; لِأَنَّ كِلَيْهِمَا - وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا - إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْإِحْرَامِ , وَمَفْسَدَتُهُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّهْيُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِحْرَامِ , وَأَمَّا مَفْسَدَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَذَلِكَ أَمْرٌ عَامٌّ , لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِخُصُوصِ الْإِحْرَامِ , وَالْمُنَاسِبُ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ عَامٍّ - وَهُوَ كَوْنُهَا مَيْتَةً - لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْإِحْرَامِ مُنَافَاةٌ وَلَا تَعَلُّقٌ , وَالْمُنَافِي الْأَخَصُّ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ : إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُصَلِّي ثَوْبًا يَسْتُرُهُ إلَّا حَرِيرًا أَوْ نَجِسًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيَتْرُكَ النَّجِسَ ; لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّجَاسَةِ خَاصَّةٌ بِالصَّلَاةِ , بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْحَرِيرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ , وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ , يُرْجَعُ إلَيْهَا فِي الْأُصُولِ وَأَبْوَابِ الْفِقْهِ .
مَنْ يُغَسَّلُ مِنْ الْمَوْتَى وَمَنْ لَا يُغَسَّلُ :(1/375)
أ - تَغْسِيلُ الشَّهِيدِ : 20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ , لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ : ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ } وَيَرَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَغْسِيلَ الشَّهِيدِ . وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَقَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ . وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ , كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ثُمَّ تَسْتَشْهِدُ فَهِيَ كَالْجُنُبِ . وَأَمَّا قَبْلَ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يَجِبُ الْغُسْلُ كَالْجُنُبِ وَالْأُخْرَى لَا يَجِبُ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ - إلَى أَنَّ الشَّهِيدَ الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ فِي تَغْسِيلِ مَنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ , وَالْمُرْتَثُّ ( وَهُوَ مَنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ ) , وَمَنْ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ فَقَتَلَهُ , وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ , وَمَنْ قُتِلَ ظُلْمًا , أَوْ دُونَ مَالِهِ أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ , وَهُوَ أَنَّ(1/376)
هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ هَلْ يُعْتَبَرُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَمْ لَا ؟ فَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيلِ إلَى مُصْطَلَحِ ( شَهِيدٌ ) .
ب - تَغْسِيلُ الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَصَاحِبِ الْهَدْمِ وَأَمْثَالِهِمْ :
21 - لَا خِلَافَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ بِغَيْرِ قَتْلٍ كَالْمَبْطُونِ , وَالْمَطْعُونِ , وَمِنْهُ الْغَرِيقُ , وَصَاحِبُ الْهَدْمِ , وَالنُّفَسَاءُ , وَنَحْوُهُمْ يُغَسَّلُونَ , وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ لَفْظُ الشَّهَادَةِ .
تَكْفِينُ الشَّهِيدِ :(1/377)
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ - الَّذِي قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ , أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا , أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ - يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ } وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ , وَعَنْ عَمَّارٍ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا . . الْحَدِيثَ , غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجُلُودُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : تُنْزَعُ عَنْهُ الْعِمَامَةُ وَالْخُفَّانِ وَالْقَلَنْسُوَةُ , وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ { : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ , } وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ , وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ , وَلِأَنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلَاحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ . وَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي أَكْفَانِهِمْ أَوْ يُنْقَصُ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ كَفَنِ السُّنَّةِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ { حَمْزَةَ رضي الله عنه لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ إذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ(1/378)
قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ } . وَذَاكَ زِيَادَةٌ , وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ بِالْوَرَثَةِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يُدْفَنُ بِثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وُجُوبًا إنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَإِلَّا فَلَا يُدْفَنُ بِهَا , وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَسْتُرَهُ كُلَّهُ فَتُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا , فَإِنْ لَمْ تَسْتُرْهُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهُ , فَإِنْ وُجِدَ عُرْيَانًا سُتِرَ جَمِيعُ جَسَدِهِ . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : مَنْ عَرَّاهُ الْعَدُوُّ فَلَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ تَكْفِينِهِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ثِيَابِهِ إذَا كَانَ فِيهَا مَا يُجْزِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهَا , وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ نَزْعُ ثِيَابِهِ وَتَكْفِينُهُ بِغَيْرِهَا . وَيُنْدَبُ دَفْنُهُ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ ( مَا يُحْتَزَمُ بِهِ فِي وَسَطِهِ ) إنْ قَلَّ ثَمَنُهَا وَخَاتَمٌ قَلَّ ثَمَنُهُ , وَلَا يُدْفَنُ الشَّهِيدُ بِآلَةِ حَرْبٍ قُتِلَ وَهِيَ مَعَهُ كَدِرْعٍ وَسِلَاحٍ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يَجِبُ دَفْنُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ حَرِيرًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ . وَيُنْزَعُ السِّلَاحُ وَالْجُلُودُ وَالْفَرْوُ وَالْخُفُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه السَّابِقِ , وَلَا يُزَادُ فِي ثِيَابِ الشَّهِيدِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا , وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَسْنُونُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ(1/379)
زِيَادَتِهَا . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِمَا , وَجَاءَ فِي الْمُبْدِعِ : فَإِنْ سُلِبَ مَا عَلَى الشَّهِيدِ مِنْ الثِّيَابِ , كُفِّنَ بِغَيْرِهَا وُجُوبًا كَغَيْرِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يُكَفَّنُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ نَدْبًا فِي ثِيَابِهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ { : رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمِ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ قَالَ : وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم } وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتَادَ لُبْسَهَا غَالِبًا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ , وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِشْهَادِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ سَابِغًا أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ تَمَّمَ وُجُوبًا , لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ , وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ , وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ . وَأَمَّا شُهَدَاءُ غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ فَيُكَفَّنُ كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ .
إعْدَادُ الْكَفَنِ مُقَدَّمًا :(1/380)
15 - فِي الْبُخَارِيِّ : عَنْ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه { : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا . . . فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ : أَكْسِنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا . قَالَ الْقَوْمُ : مَا أَحْسَنْتَ , لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إلَيْهَا , ثُمَّ سَأَلْتَهُ , وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ , قَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهَا , إنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي , قَالَ سَهْلٌ : فَكَانَتْ كَفَنَهُ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ , لِعَدَمِ إنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ . وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ تَهْيِئَةُ الْكَفَنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مُتَحَقِّقَةٌ غَالِبًا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا يُنْدَبُ أَنْ يَعُدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلَّا يُحَاسَبَ عَلَى اتِّخَاذِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ حَلٍّ أَوْ أَثَرٍ مِنْ ذِي صَلَاحٍ فَحَسُنَ إعْدَادُهُ , لَكِنْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ , بَلْ لِلْوَارِثِ إبْدَالُهُ . وَلِهَذَا لَوْ نُزِعَتْ الثِّيَابُ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ عَنْ الشَّهِيدِ وَكُفِّنَ فِي غَيْرِهَا جَازَ مَعَ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْعِبَادَةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالشَّهَادَةِ , فَهَذَا أَوْلَى .
حُكْمُ جَرِيحِ الْمَعْرَكَةِ :(1/381)
7 - الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهِيدَ - وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ - لَا يُغَسَّلُ , أَمَّا إذَا جُرِحَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَرُفِعَ مِنْ الْمُعْتَرَكِ حَيًّا , فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَامَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا أَوْ تَدَاوَى , أَوْ ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِ الْحَيَاةِ , ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ , فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) إلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الشَّهَادَةُ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ { تَغْسِيلُهُ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ } وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ , وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ ; وَلِأَنَّ بِالِارْتِفَاقِ خَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ بِجِرَاحَةٍ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا , وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ وَلَهُمْ فِي غَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ شَهِيدٍ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( شَهِيدٌ , جَنَائِزُ , غُسْلٌ , ارْتِثَاثٌ ) .
عَاشِرًا - نَزْعُ الْمَلَابِسِ الْجِلْدِيَّةِ لِلشَّهِيدِ :(1/382)
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْ الشَّهِيدِ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ , وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ , وَالْحَشْوُ , وَالْخُفُّ , وَالْمِنْطَقَةُ , وَالْقَلَنْسُوَةُ , وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ } . وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( شَهِيدٌ ) .
فَضْلُ الْجِهَادِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5582)(1/383)
6 - فَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ , وَحَاصِلُهُ بَذْلُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَلَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } وقوله تعالى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . وقوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } . وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَأَفْضَلُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ الْجِهَادُ , وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ(1/384)
بْنُ حَنْبَلٍ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ , وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . قَالَ أَحْمَدُ : الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ هُمْ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ , فَأَيُّ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْهُ ؟ النَّاسُ آمِنُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ , قَدْ بَذَلُوا مُهَجَ أَنْفُسِهِمْ . وَالْأَحَادِيثُ مُتَظَاهِرَةٌ بِذَلِكَ : فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ , قَالَ : لَا أَجِدُهُ , ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَك فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ , وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ } ؟ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ , وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ , بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا , وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ , فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى } . وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ(1/385)
جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا , وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تَتَضَافَرُ عَلَى بَيَانِ فَضْلِ الْجِهَادِ . وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ : بِأَنَّ الْجِهَادَ فِي الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ فِي الْبَرِّ , { لِحَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ عِنْدَهَا , ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ , قَالَتْ : فَقُلْت : مَا أَضْحَكَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ } . وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً , فَإِنَّهُ بَيْنَ الْعَدُوِّ , وَفِيهِ خَطَرُ الْغَرَقِ , وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِرَارِ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ , فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الْقِتَالُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينٍ , وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أُمِّ خَلَّادٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { ابْنُك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ , قَالَتْ : وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ } .(1/386)
وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِلَ . لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ } . وَأَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَدِيدُ وَالسِّلَاحُ , وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ خُفَّاهُ , وَقَلَنْسُوَتُهُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ } . وَدَفْنُ الشَّهِيدِ بِثِيَابِهِ حَتْمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ , وَأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ , وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( شَهِيدٌ ) ( وَتَكْفِينٌ ) .
نَزْعُ السِّلَاحِ عَنْ الشَّهِيدِ :
5 - يُنْزَعُ السِّلَاحُ عَنْ الشَّهِيدِ , لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ } . قَالَ الْبَغَوِيّ : هَذَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّهِيدِ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ الْأَسْلِحَةُ وَالْجُلُودُ وَالْخِفَافُ وَالْفِرَاءُ , وَيُدْفَنَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ الْعَامَّةِ ; وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَمَرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ ; وَلِأَنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلَاحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ , وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .(1/387)
00000000000000000000
شَهِيد (1)
التّعريف :
1 - الشّهيد لغةً : الحاضر . والشّاهد ، العالم الّذي يبيّن ما علمه ، ومنه قوله تعالى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ } .
والشّهيد من أسماء اللّه تعالى ، ومعناه الأمين في شهادته والحاضر .
والشّهيد المقتول في سبيل اللّه ، والجمع شهداء .
قال ابن الأنباريّ سمّي الشّهيد شهيداً لأنّ اللّه وملائكته شهدوا له بالجنّة . وقيل : لأنّه يكون شهيداً على النّاس بأعمالهم .
والشّهيد في اصطلاح الفقهاء : من مات من المسلمين في قتال الكفّار وبسببه .
ويلحق به في أمور الآخرة أنواع يأتي بيانها .
منزلة الشّهيد :
2 - الشّهيد له منزلة عالية عند اللّه - سبحانه وتعالى - يشهد بها القرآن الكريم في عدد من الآيات منها : قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } . وقوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
ويشهد بهذه المنزلة الأحاديث الصّحيحة منها : ما روى أنس بن مالك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : * ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشّهيد يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرّات لما يرى من الكرامة * .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9356)(1/388)
وما روى أبو الدّرداء - رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : * يشفع الشّهيد في سبعين من أهل بيته * .
وفي حديث آخر : * للشّهيد عند اللّه ستّ خصال ، يغفر له في أوّل دفعة ، ويرى مقعده من الجنّة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها ، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور ، ويشفع في سبعين من أقاربه * .
أقسام الشّهيد :
3 - الشّهيد على ثلاثة أقسام :
الأوّل شهيد الدّنيا والآخرة ، والثّاني شهيد الدّنيا ، والثّالث شهيد الآخرة .
فشهيد الدّنيا والآخرة هو الّذي يقتل في قتال مع الكفّار ، مقبلاً غير مدبر ، لتكون كلمة اللّه هي العليا ، وكلمة الّذين كفروا هي السّفلى ، دون غرض من أغراض الدّنيا .
ففي الحديث عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : * إنّ رجلاً أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً : الرّجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل للذّكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل اللّه ؟ قال عليه الصلاة والسلام : من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا ، فهو في سبيل اللّه * .
أمّا شهيد الدّنيا : فهو من قتل في قتال مع الكفّار وقد غلّ في الغنيمة ، أو قاتل رياءً ، أو لغرض من أغراض الدّنيا .
وأمّا شهيد الآخرة : فهو المقتول ظلماً من غير قتال ، وكالميّت بداء البطن ، أو بالطّاعون ، أو بالغرق ، وكالميّت في الغربة ، وكطالب العلم إذا مات في طلبه ، والنّفساء الّتي تموت في طلقها، ونحو ذلك .
واستثني من الغريب العاصي بغربته ، ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السّلامة ، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي ، ومن الطّلق الحامل بزنىً .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : * الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغرق ، وصاحب الهدم ، والشّهيد في سبيل اللّه * .(1/389)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : * الطّاعون شهادة لكلّ مسلم*
وفي حديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : * من قتل دون ماله فهو شهيد * .
غسل الشّهيد والصّلاة عليه :
4 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ شهيد المعترك لا يغسّل ، خلافاً لما ذهب إليه الحسن البصريّ ، وسعيد بن المسيّب ، إذ قالا بغسله .
أمّا الصّلاة عليه فيرى الحنفيّة وجوبها وهو ما قال به الخلال والثّوريّ ، وروي عن أحمد بن حنبل القول باستحبابها .
ويستدلّ الحنفيّة للزوم الصّلاة بما روى ابن عبّاس وابن الزّبير : * أنّه عليه الصلاة والسلام صلّى على شهداء أحد ، وكان يؤتى بتسعة تسعة ، وحمزة عاشرهم ، فيصلّي عليهم . وقالوا : إنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على غيرهم * .(1/390)
وعن شدّاد بن الهاد : * أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فآمن به واتّبعه ثمّ قال : أهاجر معك . فأوصى به النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلمّا كانت غزوة ، غنم النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم . فلمّا جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ؟ قال : قسمته لك ، قال: ما على هذا اتّبعتك ، ولكنّي اتّبعتك على أن أرمى إلى ههنا ، وأشار إلى حلقه ، بسهم فأموت فأدخل الجنّة . فقال : إن تصدق اللّه يصدقك . فلبثوا قليلاً ثمّ نهضوا في قتال العدوّ فأتي به النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أهو هو ؟ قالوا : نعم ، قال : صدق اللّه فصدقه . ثمّ كفّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جبّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قدّمه فصلّى عليه فكان فيما ظهر من صلاته : اللّهمّ هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً ، أنا شهيد على ذلك * .
وبما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : * إنّه عليه السلام خرج يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت ثمّ انصرف إلى المنبر * .
وقالوا : إنّ الصّلاة على الميّت شرعت إكراماً له ، والطّاهر من الذّنب لا يستغني عنها ، كالنّبيّ والصّبيّ .
أمّا المالكيّة فيرون عدم غسله والصّلاة عليه ، ونصّ بعضهم على تحريمهما .
قال الشّافعيّة : يحرم غسل الشّهيد والصّلاة عليه لأنّه حيّ بنصّ القرآن ، ولما ورد عن جابر : * أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم ، ولم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم * . وجاء من وجوه متواترة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليهم وقال في قتلى أحد : * زمّلوهم بدمائهم * .(1/391)
ولعلّ ترك الغسل والصّلاة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا اللّه جلّ وعزّ بكلومهم لما جاء فيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : * أنّ ريح الكلم ريح المسك واللّون لون الدّم * واستغنوا بكرامة اللّه جلّ وعزّ عن الصّلاة لهم مع التّخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل بالزّحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدوّ ورجاء طلبهم وهمّهم بأهليهم وهمّ أهليهم بهم .
والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشّهادة عليهم والتّعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم .
وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : * ليس شيء أحبّ إلى اللّه من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية اللّه ، وقطرة دم تهراق في سبيل اللّه ، أمّا الأثران فأثر في سبيل اللّه، وأثر في فريضة من فرائض اللّه * .
وجمهور الحنابلة يرون حرمة غسله ، وهي رواية عن الإمام أحمد ، غير أنّ منهم من يرى كراهته ، أمّا الصّلاة فلا يصلّى عليه في أصحّ الرّوايتين لديهم . وفي رواية عندهم تجب الصّلاة عليه ، ومال إلى هذا بعض علمائهم منهم الخلال ، وأبو الخطّاب وأبو بكر بن عبد العزيز في التّنبيه .
ضابط الشّهيد الّذي لا يغسّل ولا يصلّى عليه :(1/392)
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ : من قتله المشركون في القتال ، أو وجد ميّتاً في مكان المعركة وبه أثر جراحة أو دم ، لا يغسّل لقوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد : * زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسّلوهم * ، ولم ينقل خلاف في هذا إلاّ ما روي عن الحسن ، وسعيد بن المسيّب . واختلفوا في غير من ذكر ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى : أنّ كلّ مسلم مات بسبب قتال الكفّار حال قيام القتال لا يغسّل ، سواء قتله كافر ، أو أصابه سلاح مسلم خطأً ، أو عاد إليه سلاحه ، أو سقط عن دابّته ، أو رمحته دابّة فمات ، أو وجد قتيلاً بعد المعركة ولم يعلم سبب موته ، سواء كان عليه أثر دم أم لا ، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة ، والحرّ والعبد ، والبالغ والصّبيّ .
وقال الحنفيّة : يغسّل كلّ مسلم قتل بالحديد ظلماً وهو طاهر بالغ ، ولم يجب عوض ماليّ في قتله، فإن كان جنباً أو صبيّاً ، أو وجب في قتله قصاص ، فإنّه يغسّل ، وإن وجد قتيلاً في مكان المعركة ، فإن ظهر فيه أثر لجراحة ، أو دم في موضع غير معتاد كالعين فلا يغسّل .
ولو خرج الدّم من موضع يخرج الدّم عادةً منه بغير آفة في الغالب كالأنف ، والدّبر والذّكر فيغسّل .
والأصل عندهم في غسل الشّهيد : أنّ كلّ من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة ، أو قطّاع الطّريق ، بمعنىً مضاف إلى العدوّ كان شهيداً ، سواء بالمباشرة أو التّسبّب ، وكلّ من صار مقتولاً بمعنىً غير مضاف إلى العدوّ لا يكون شهيداً . فإن سقط من دابّته من غير تنفير من العدوّ أو انفلتت دابّة مشرك وليس عليها أحد فوطئت مسلماً ، أو رمى مسلم إلى العدوّ فأصاب مسلماً ، أو هرب المسلمون فألجأهم العدوّ إلى خندق ، أو نار ، أو جعل المسلمون الحسك حولهم، فمشوا عليها ، في فرارهم ، أو هجومهم على الكفّار فماتوا يغسّلون ، وكذا إن صعد مسلم حصناً للعدوّ ليفتح الباب للمسلمين ، فزلّت رجله فمات ، يغسّل .(1/393)
وقال الحنابلة : لا يغسّل الشّهيد سواء كان مكلّفاً أو غيره إلاّ إن كان جنباً أو امرأةً حائضاً أو نفساء طهرت من حيضها ، أو نفاسها ، وإن سقط من دابّته أو وجد ميّتاً ولا أثر به ، أو سقط من شاهق في القتال أو رفسته دابّة فمات منها ، أو عاد إليه سهمه فيها ، فالصّحيح في المذهب في ذلك كلّه أنّه : يغسّل ، إذا لم يكن ذلك من فعل العدوّ ، ومن قتل مظلوماً ، بأيّ سلاح قتل ، كقتيل اللّصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة ، فلا يغسّل في أصحّ الرّوايتين عن أحمد .
وقال الشّافعيّة ، والمالكيّة : يغسّل من قتله اللّصوص أو البغاة . أمّا من مات في غير ما ذكر من الّذين ورد فيهم أنّهم شهداء : كالغريق ، والمبطون ، والمرأة الّتي ماتت في الولادة ، وغير ذلك فإنّهم شهداء في الآخرة ، ولكنّهم يغسّلون باتّفاق الفقهاء .
إزالة النّجاسة عن الشّهيد (1)
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه إذا كان على الشّهيد نجاسة غير دم الشّهادة تغسل عنه ، وإن أدّى ذلك إلى إزالة دم الشّهادة ، لأنّها ليست من أثر العبادة ، وفي قول عند الشّافعيّة ، ولا تغسل النّجاسة إذا كانت تؤدّي إلى إزالة دم الشّهادة .
وسبق أنّ النّجاسة تغسل عن الشّهيد عند الحنفيّة .
موت الشّهيد بجراحه في المعركة :
7 - المُرْتَثُّ : وهو من جرح في القتال ، وقد بقيت فيه حياة مستقرّة ثمّ مات يغسّل وإن قطع أنّ جراحته ستؤدّي إلى موته .
وينظر التّفصيل في : ( ارتثاث 3 /9 ) .
تكفين الشّهيد :
8 - شهيد القتال مع الكفّار لا يكفّن كسائر الموتى بل يدفن في ثيابه الّتي كانت عليه في المعركة بعد نزع آلة الحرب عنه .
لحديث : * زمّلوهم بدمائهم * ، وفي رواية : * في ثيابهم * .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تكفين ف 14 ) .
دفن الشّهيد :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9361)(1/394)
9 - من السّنّة أن يدفن الشّهداء في مصارعهم ، ولا ينقلون إلى مكان آخر ، فإنّ قوماً من الصّحابة نقلوا قتلاهم في واقعة أحد إلى المدينة ، فنادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأمر بردّ القتلى إلى مصارعهم .
فقد قال جابر : * فبينما أنا في النّظّارين إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح ، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا ، إذ لحق رجل ينادي ، ألا إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت : فرجعنا بهما فدفنّاهما حيث قتلا .. * .
دفن أكثر من شهيد في قبر واحد :
10 - يجوز دفن الرّجلين أو الثّلاثة في القبر الواحد ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في قبر واحد ، ثمّ يقول : * أيّهم أكثر أخذًا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يصلّ عليهم ولم يغسّلهم * .
ودفن عبد اللّه بن عمرو بن حرام وعمرو بن جموح في قبر واحد ، لما كان بينهما من المحبّة ، إذ قال عليه الصلاة والسلام : * ادفنوا هذين المتحابّين في الدّنيا في قبر واحد * .
أَجْرُ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ :(1/395)
6 - جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رَفْعَهُ { يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفُّونَ بِالطَّاعُونِ , فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ : نَحْنُ الشُّهَدَاءُ , فَيُقَالُ : اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ , فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ } . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ { عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ , فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ } . وَيُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُصُولَ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَلِي : أ - أَنْ يَمْكُثَ صَابِرًا غَيْرَ مُنْزَعِجٍ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّاعُونُ فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ . ب - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ . فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِقٌ أَوْ نَادِمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا , وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَعُ بِهِ , فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ , هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ , كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّهُ مَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ(1/396)
الْمَذْكُورَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ . وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشَّهِيدِ , وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ : مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ , أَوْ بِوَجَعِ الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُهُ مِنْ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ , لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَقِ : تَتَعَلَّقُ بِالْغَرَقِ أَحْكَامٌ , مِنْهَا :
أ - اعْتِبَارُ الْغَرَقِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ : 3 - الْغَرَقُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ , فَمَنْ مَاتَ غَرَقًا نَالَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ فِي الْآخِرَةِ , إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ , جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ , وَالْمَبْطُونُ , وَالْغَرِقُ , وَصَاحِبُ الْهَدْمِ , وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَالْغَرِيقُ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَنَالُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ فِي الْآخِرَةِ , وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّهِيدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ , فَيُغَسَّلُ الْغَرِيقُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , بِخِلَافِ الشَّهِيدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( شَهِيدٍ ف 3 , 4 )
الثَّالِثُ - الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ :(1/397)
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ , وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ . وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي الْحَيْضِ قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } أَيْ إذَا اغْتَسَلْنَ , فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا , فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : { إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ , وَإِذَا أَدْبَرْت فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي } . وَدَلِيلُ وُجُوبِهِ فِي النِّفَاسِ الْإِجْمَاعُ - حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ والمرغيناني مِنْ الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ - وَلِأَنَّهُ حَيْضٌ مُجْتَمِعٌ ; وَلِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الصَّوْمَ وَالْوَطْءَ وَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ , فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ . 19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ , هَلْ هُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ انْقِطَاعُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ وُجُودُ الْحَيْضِ لَا انْقِطَاعُهُ , وَالِانْقِطَاعُ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْغُسْلِ . وَمِثْلُ الْمَالِكِيَّةِ الْحَنَابِلَةُ , قَالَ الْبُهُوتِيُّ : يَجِبُ بِالْخُرُوجِ , وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْخُرُوجِ إنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِسَبَبِهِ , وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ , وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ وَهُوَ ظَاهِرُ(1/398)
الْأَحَادِيثِ . وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : الْحَيْضُ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إرَادَةُ فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَدَمِ ضِيقِ الْوَقْتِ , أَوْ عِنْدَ وُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ مَعَهُ وَذَلِكَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشَّافِعِيَّةِ , فَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ مُوجِبَهُ الِانْقِطَاعُ , وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : الْخُرُوجُ مُوجِبٌ وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ , وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ : وَيُعْتَبَرُ مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا - الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ - وَانْقِطَاعِهِ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَالتَّحْقِيقِ , وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ : وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ , وَقَالَ النَّوَوِيُّ : فَائِدَتُهُ أَنَّ الْحَائِضَ إذَا أَجْنَبَتْ وَقُلْنَا : لَا يَجِبُ غُسْلُ الْحَيْضِ إلَّا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ , وَقُلْنَا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ إنَّ الْحَائِضَ لَا تُمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ , فَلَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عَنْ الْجَنَابَةِ لِاسْتِبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ فَائِدَةً أُخْرَى قَالَ : لَوْ اُسْتُشْهِدَتْ الْحَائِضُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا , فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ لَمْ تَغْسِلْ . وَإِنْ قُلْنَا بِالْخُرُوجِ فَهَلْ تَغْسِلُ ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي غُسْلِ الْجُنُبِ الشَّهِيدِ . وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا الْبُهُوتِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ . وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَائِدَةً ثَالِثَةً , وَهِيَ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ وَجَبَ(1/399)
عَلَيْك . غُسْلٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ .
د - غسل الميّت وتكفينه والصّلاة عليه وتشييعه ودفنه :
13 - غسل الميّت غير الشّهيد واجب على الكفاية عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي سقط عن بعيره فمات : « اغسلوه بماء وسدرٍ » .
والتّفصيل في : ( تغسيل الميّت ف 2 ) .
وأمّا تكفين الميّت غير الشّهيد ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي سقط عن بعيره : « اغسلوه بماء وسدرٍ وكفّنوه في ثوبين ولا تمسوه طيباً ولا تخمّروا رأسه فإنّ اللّه يبعثه يوم القيامة ملبّياً » .
والتّفصيل في : ( تكفين ف 2 , 3 ) .
وأمّا الصّلاة على الميّت ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والمشهور عند المالكيّة , لقوله صلى الله عليه وسلم : « صلوا على من قال لا إله إلا اللّه » .
والتّفصيل في : ( جنائز ف 20 ) .
وأمّا تشييع الجنازة ففرض كفايةٍ باتّفاق الفقهاء , لحديث : « حق المسلم على المسلم ستّ . . وإذا مات فاتبعه » .
والتّفصيل في : ( جنائز ف 14 ) .
وأمّا دفن الميّت فمن فروض الكفايات باتّفاق الفقهاء , لقوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } . والتّفصيل في : ( دفن ف 2 ) .
0000000000000000
مَبْطُون (1)
1 - المبطون في اللغة : هو عليل البطن ، من البطَن بفتح الطّاء يقال : بطِن - بكسر الطّاء - بطناً إذا أصابه مرض البطن ، ويقال بُطِنَ بصيغة البناء للمفعول : اعتلّ بطنه فهو مبطون .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13133)(1/400)
وفي الاصطلاح : قال النّووي : المبطون صاحب داء البطن وهو الإسهال وقيل : هو الّذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن وقيل : هو الّذي يشتكي بطنه وقيل : هو الّذي يموت بداء بطنه مطلقاً ، أي شاملاً لجميع أمراض البطن ، وقال ابن عبد البرّ : قيل هو صاحب الإسهال ، وقيل : إنّه صاحب القولنج والبطين : العظيم البطن .
الحكم الإجمالي :
2 - المبطون مريض ومعذور فتجري عليه أحكام المرضى وأصحاب الأعذار .
وتفصيل ذلك في مصطلحات : ( مرض وتيسير ف 32 ) .
وقد نصّ الفقهاء على عدّ المبطون شهيداً إذا مات في بطنته لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشّهيد في سبيل اللّه عزّ وجلّ » .
وقسّموا الشهداء إلى أقسامٍ ثلاثةٍ :
الأوّل : شهيد الدنيا والآخرة .
والثّاني : شهيد الدنيا .
والثّالث : شهيد الآخرة .
واتّفقوا على أنّ المبطون من شهداء الآخرة .
واتّفقوا على تغسيل المبطون مع عدّه شهيداً .
والتّفصيل في مصطلح : ( شهيد ف 3 ،5 وتغسيل الميّت ف 21 ) .
الولادة (1)
2 - الولادة وضع الوالدة ولدها .
والمخاض يسبق الولادة .
الأحكام المتعلّقة بالمخاض :
أ - الموت في المخاض :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13377)(1/401)
3 - قال الفقهاء : الميّتة في المخاض شهيدة في الآخرة بمعنى أنّ لها أجر الشهداء في الآخرة لحديث راشد بن حبيشٍ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل على عبادة بن الصّامت يعوده في مرضه , فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتعلمون من الشّهيد في أمّتي ؟ فأرم القوم , فقال عبادة : ساندوني فأسندوه , فقال : يا رسول اللّه , الصّبّار المحتسب ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ شهداء أمّتي إذاً لقليل , القتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ شهادة , والطّاعون شهادة , والغرق شهادة , والبطن شهادة , والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنّة » ولكنّها تغسّل وتكفّن ويصلّى عليها , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّى على امرأةٍ ماتت في النّفاس فقام وسطها » .
ب - تبرع المرأة في المخاض :
4 - لا ينفذ تبرع المرأة في مخاضها , أو بعد الولادة قبل انفصال المشيمة إلا في الثلث . لخطر الولادة , فأعطيت حكم المريض مرض الموت فيوقف ما زاد على الثلث , فإن انفصلت المشيمة ولم يحصل بالولادة جرح أو ضربان شديد أو ورم , نفذ تبرعها .
3 - ومن المسائل الّتي ذكرها المالكيّة في طهارة الماء ونجاسته قولهم :
قل للفقيه إمام العصر قد مُزجت ثلاثة بإناء واحدٍ نسبوا
لها الطّهارة حيث البعض قُدِّم أو إن قُدِّم البعض فالتّنجيس ما السّبب ؟
والمقصود بالثّلاثة : الماء , السكّر أو العجين - أو أيّ مادّةٍ أخرى - النّجاسة القليلة . وتوضيح المسألة لأنّ الماء إذا حلّت فيه نجاسة قليلة قبل إضافة السكّر أو العجين أو غيرهما ثمّ أضيف السكّر أو العجين فإنّه لا يكون نجساً إلا إذا تغيّر أحد أوصافه فهنا قدّمت النّجاسة فحلّت في الماء قبل إضافة المادّة الأخرى فالماء طاهر .
أمّا إذا أضيفت مادّة السكّر أو العجين إلى الماء ثمّ حلّت فيه نجاسة قليلة فإنّه يكون نجساً فهنا قدّم السكّر أو العجين على النّجاسة الّتي حلّت .(1/402)
ومن المسائل الّتي ذكرها المالكيّة أيضاً في صلاة الجماعة قولهم : أخبرني عن إمامٍ صلّى بقوم وحصل لهم فضل الجماعة وله أن يعيد في جماعةٍ أخرى ؟ وأصل المسألة أنّ فضل الجماعة عند الأكثر من فقهاء المالكيّة لا يحصل للإمام إلا بنيّة الإمامة ولو في أثناء الصّلاة فلو صلّى شخص منفرداً ثمّ جاء من ائتمّ به ولم يشعر هو بذلك فإنّ فضل الجماعة يحصل للمأموم دون الإمام وعلى ذلك فله أن يعيد في جماعةٍ أخرى للحصول على فضل الجماعة .
4 - ومن المسائل الّتي ذكرها الشّافعيّة في الصّلاة قولهم : لنا شخص عاد لسنة لزمه فرض ، وتوضيح المسألة أنّ سجود السّهو سنّة ومحله قبل السّلام , فإن سلّم المصلّي ساهياً وقصر الفصل عرفاً فله السجود بعد قصد العود إلى الصّلاة ويتبيّن بذلك أنّه لم يخرج من الصّلاة فلو شكّ في ترك ركنٍ حينئذٍ وجب عليه تداركه قبل السجود ولذلك يلغز فيقال : عاد لسنة فلزمه فرض .
5 - ومن الأمثلة الّتي ذكرها الحنابلة في الطّهارة قالوا : ممّا يعايى به : يستحب بقاء الدّم على جسم الإنسان ، وتوضيح ذلك أنّه من المعلوم أنّ الدّم نجس ويجب إزالته لكنّهم قالوا : إنّ دم الشّهيد مختلف في طهارته ونجاسته وعلى كلا القولين يستحب بقاء الدّم عليه ولا يزال .
****************
وفي المدونة :فِي الشَّهِيدِ وَكَفَنِهِ وَدَفْنِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَالَ (1):
__________
(1) - المدونة - (ج 1 / ص 463)(1/403)
وَقَالَ مَالِكٌ : مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُكَفَّنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَيُدْفَنُ بِثِيَابِهِ قَالَ : وَرَأَيْتُهُ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُتْرَكَ عَلَيْهِ خُفَّاهُ وَقَلَنْسُوَتُهُ , قَالَ : وَمَنْ عَاشَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ عَاشَ حَيَاةً بَيِّنَةً لَيْسَ كَحَالِ مَنْ بِهِ رَمَقٌ وَهُوَ فِي غَمْرَةِ الْمَوْتِ , فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تُصِيبُهُ الْجِرَاحُ فَيَعِيشُ أَيَّامًا وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ وَيَشْتَرِي وَيَبِيعُ ثُمَّ يَمُوتُ فَهُوَ وَذَلِكَ سَوَاءٌ . قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ : مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُزَادُ فِي كَفَنِ الشَّهِيدِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ شَيْئًا . قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُنْزَعُ مِنْ الشَّهِيدِ الْفَرْوُ , وَقَالَ وَمَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِمَّا عَلَيْهِ شَيْءٌ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : تَفْسِيرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ مَعَهُ السِّلَاحُ لَا سَيْفُهُ وَلَا رُمْحُهُ وَلَا دِرْعُهُ , وَلَا شَيْءٌ مِنْ السِّلَاحِ وَإِنْ كَانَ لِلدِّرْعِ لَابِسًا . قُلْتُ : فَهَلْ يُحَنَّطُ الشَّهِيدُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : قَوْلُ مَالِكٍ مَنْ لَا يُغَسَّلُ لَا يُحَنَّطُ أَلَا تَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ مَنْ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا أَوْ خَنَقُوهُ خَنْقًا حَتَّى مَاتَ , أَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ مِنْ تَرْكِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ ؟ قَالَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ : أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَقَدْ تُقْتَلُ النَّاسُ بِالْأَلْوَانِ مِنْ الْقَتْلِ , فَكُلُّهُمْ شَهِيدٌ فَكُلُّ مَنْ قَتَلَهُ الْعَدُوُّ أَيُّ قِتْلَةٍ(1/404)
كَانَتْ صَبْرًا أَوْ غَيْرَهُ فِي مَعْرَكَةٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرَكَةٍ فَأَرَاهُ مِثْلَ الشَّهِيدِ فِي الْمَعْرَكَةِ . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَغَارُوا عَلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَدَفَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقُتِلُوا , أَيُصْنَعُ بِهِمْ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ , { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ , ثُمَّ يَقُولُ : أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ : أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا } . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , قَالَ : صَلَّى عَلَى ثَابِتِ بْنِ شِمَاسِ بْنِ عُثْمَانَ يَوْم أُحُدٌ بَعْدَ أَنْ عَاشَ يَوْمًا وَلَيْلَةً
شَهِيدُ اللُّصُوصِ قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ (1):
__________
(1) - المدونة - (ج 1 / ص 465)(1/405)
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا أَوْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ فِي الْمَعْرَكَةِ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ , يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ كُلُّ مَقْتُولٍ أَوْ غَرِيقٍ أَوْ مَهْدُومٍ عَلَيْهِ إلَّا الشَّهِيدَ وَحْدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُصْنَعُ بِهَذَا وَحْدَهُ مَا يُصْنَعُ بِالشُّهَدَاءِ , لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُكَفَّنُونَ إلَّا بِثِيَابِهِمْ وَلَا يُحَنَّطُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ يُدْفَنُونَ . قُلْتُ : وَيُصْنَعُ بِقُبُورِهِمْ مَا يُصْنَعُ بِقُبُورِ الْمَوْتَى مِنْ الْحَفْرِ وَاللَّحْدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَهُوَ رَأْيِي . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَهَذِهِ قُبُورُ الشُّهَدَاءِ بِالْمَدِينَةِ قَدْ حُفِرَ لَهُمْ وَدُفِنُوا . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إنْ بَغَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادُوا حَرِيمَهُمْ فَدَافَعُوهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقُتِلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ , أَتَرَى فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يُصْنَعَ بِهِمْ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ ؟ قَالَ : لَا أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا , وَلَا أَرَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ .
وفي الأم :بَابُ الشَّهِيدِ وَمَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ (1):
__________
(1) - مختصر المزني - (ج 1 / ص 43)(1/406)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : رحمه الله وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ عَاشُوا وَأَكَلُوا الطَّعَامَ , أَوْ بَقُوا مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَرْبُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَوْتَى وَاَلَّذِينَ قَتَلَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُعْتَرَكِ يُكَفَّنُونَ بِثِيَابِهِمْ الَّتِي قُتِلُوا بِهَا إنْ شَاءَ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَتُنْزَعُ عَنْهُمْ الْخِفَافُ وَالْفِرَاءُ وَالْجُلُودُ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَامِّ لِبَاسِ النَّاسِ وَلَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ } ( قَالَ ) وَعُمَرُ شَهِيدٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْ فِي الْمُعْتَرَكِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَالْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ سُنَّةٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
وفي مشكل الآثار : بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مِنْ قَوْلِهِ إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )(1) .
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 1 / ص 257)(1/407)
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْطَارِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَسَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ : هَلْ يُخَالِفُ هَذَا مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا قَدْ ذَكَرْتُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ فِيمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً وَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ وَفِيمَا قَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَعْنِي . مَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ { قَوْمًا أَتَوْا النَّبِيَّ عليه السلام مِنْ الْأَعْرَابِ مُجْتَابِي النِّمَارِ فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ وَكَأَنَّهُمْ أَبْطَئُوا بِهَا حَتَّى رَأَوْا ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِقِطْعَةِ تِبْرٍ فَأَلْقَاهَا فَتَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ(1/408)
بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شَيْبَانُ يَعْنِي النَّحْوِيَّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ وَمُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ الْأَعْرَابِ فَأَبْصَرَ عَلَيْهَا الْخَصَاصَةَ وَالْجَهْدَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا فَأَبْطَئُوا حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِقَبْضَةٍ مِنْ وَرِقٍ فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ , ثُمَّ جَاءَ آخَرُ , ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ بِالصَّدَقَةِ حَتَّى رُئِيَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً } , ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلَهُ . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَّافُ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام بِصُرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ فَقَالَ يَا(1/409)
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى , ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَأَعْطَى , ثُمَّ قَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَعْطَوْا فَأَشْرَقَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْنَا الْفَرَحَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً } , ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ { مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ } . وَرَوَى حُذَيْفَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فِي ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قَدْ حَدَّثَنَا بَكَّارَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ ثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { قَامَ قَائِلٌ فَسَأَلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ , ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ أَعْطَى وَأَعْطَى الْقَوْمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِنْ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُوءًا فَاسْتُنَّ بِهِ فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِنْ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهَذَا أَشْبَهُ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَنَا بِالْحَقِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ; لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مَعَهُ الْعَمَلُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ فَعَمَلُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ(1/410)
انْقَطَعَ فَمَعْقُولٌ عِنْدَنَا أَنَّ مَعَ الْمُقْتَدِي فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا مَعَ الْمُبْتَدِي وَكَذَلِكَ يَكُونُ أَجْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ جَوَابُنَا فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ ; لِأَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ السُّنَّةِ الْمُسْتَنَّةِ فَهِيَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ وَسَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ : هَلْ يُخَالِفُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتَهُ مَا قَدْ رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مَا حَدَّثَنَا يُونُسُ وَعِيسَى الْغَافِقِيُّ قَالَا : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ هَارُونَ الْأَزْدِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ ثنا حَيْوَةُ وَابْنُ لَهِيعَةَ قَالَا ثنا أَبُو هَانِئٍ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجَنْبِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْمُزَنِيّ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مِثْلَهُ وَزَادَ { وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا } قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَذَكَرَ هَذَا السَّائِلُ مَعَ(1/411)
ذَلِكَ . مَا قَدْ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ ثنا النَّبِيلُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام ؟ قَالَ نَعَمْ } . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ حَتَّى قَطَعَهُ مَوْتُهُ عَنْهُ فَبَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى نِيَّتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا وَكُتِبَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثَّوَابِ مَا كَانَ يُكْتَبُ لَهُ لَوْ لَمْ يَمُتْ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ فِي إحْرَامِهِ . كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ ثنا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِخَبَرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ يَقُولُ { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام فِي سَفَرٍ فَخَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ , وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَادْفِنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُهِلُّ } . قَالَ لَنَا يُونُسُ : قَالَ لَنَا سُفْيَانُ وَزَادَ فِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا } . وَكَمَا قَدْ حَدَّثَنَا الْمُزَنِيّ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ(1/412)
وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُهِلُّ أَوْ يُلَبِّي } . وَمِثْلَهُ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي الشَّهِيدِ كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنْبَأَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الزُّهْرِيِّ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقَتْلَى أُحُدٍ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَوَجَدُوهُمْ قَدْ مُثِّلَ بِهِمْ فَقَالَ زَمِّلُوهُمْ بِجِرَاحِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلْمٍ كُلِمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ } فَهَذَا أَعْنِي حَدِيثَ فَضَالَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِيهَا ذِكْرُ أَحْوَالِ مَنْ كَانَ عَمِلَ فِي طَاعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَطَعَهُ عَنْهُ مَوْتُهُ وَذِكْرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي يُبْعَثُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِيهِ ذِكْرُ أَعْمَالٍ مُسْتَأْنَفَاتٍ بَعْدَ مَوْتِ ذَوِي الْعِلْمِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ ثَوَابُهَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ مُنْضَافًا إلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِمْ .
بَابٌ ( بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا هَاجَرَا إلَيْهِ فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَعَاشَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ فَفُضِّلَ صَاحِبُهُ الْمُسْتَشْهَدُ قَبْلَهُ )(1) .
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 5 / ص 283)(1/413)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَمَّامٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ جَدِّي , عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ , عَنْ أَبِيهِ . وَحَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ , قَالَ : سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه { أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ وَهُوَ حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ قُتِلَ أَحَدُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأُخِّرَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً , ثُمَّ مَاتَ قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ الْجَنَّةَ فُتِحَتْ فَرَأَيْتُ الْآخَرَ مِنْ الرَّجُلَيْنِ دَاخِلَ الْجَنَّةِ قَبْلَ الْأَوَّلِ فَتَعَجَّبْت فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فَبَلَغْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَيْسَ قَدْ صَامَ رَمَضَانَ بَعْدَهُ وَصَلَّى بَعْدَهُ سِتَّةَ أَلْفِ رَكْعَةٍ , وَكَذَا وَكَذَا رَكْعَةً لِصَلَاةِ سَنَتِهِ } حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ { أَسْلَمَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ(1/414)
بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إسْلَامُهُمَا جَمِيعًا , وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ الْآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ وَمَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ , فَقَالَ طَلْحَةُ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إذْ أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اُسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَكَ , فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدَخَلَ الْآخَرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ ؟ , قَالَ أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ بَعْدَهُ سَنَةً ؟ قَالُوا : بَلَى , قَالَ وَأَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ ؟ قَالُوا : بَلَى , قَالَ : وَصَلَّى كَذَا , وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَفَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالُوا : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ ثُمَّ ذَكَرَا بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ ثنا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ(1/415)
خَالِدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا قُلْتُمْ ؟ قَالُوا : دَعَوْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ , وَيَرْحَمَهُ , وَيُلْحِقَهُ بِصَاحِبِهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ , وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ وَصِيَامُهُ بَعْدَ صِيَامِهِ لَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ ثنا سُوَيْد بْنُ نَصْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي : ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ ثنا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ السُّلَمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ جَدُّ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً , وَقَدْ خُولِفَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ , وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ حَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ ثنا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ السُّلَمِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَهْزِيِّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ(1/416)
رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا , وَعَاشَ الْآخَرُ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ مَاتَ فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ لَهُ وَكَانَ مُنْتَهَى دُعَائِهِمْ لَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَخِيهِ الَّذِي قُتِلَ قَبْلَهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّهُمَا تَقُولُونَ أَفْضَلُ ؟ قَالُوا : الَّذِي قُتِلَ قَبْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , قَالَ : أَمَا تَجْعَلُونَ لِصَلَاةِ هَذَا وَلِصِيَامِهِ بَعْدَهُ وَلِصَدَقَتِهِ وَلِعَمَلِهِ فَضْلًا ؟ , لَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِنْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَضْلُ الَّذِي مَاتَ بَعْدَ الَّذِي مَاتَ قَبْلُ } . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَسَأَلَ سَائِلٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الْمَيِّتُ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْتَشْهَدِ قَبْلَهُ وَلِصَاحِبِهِ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ عَنْ سَلْمَانَ الْخَيْرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ , وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا جَرَى لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ , وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ثنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيِّ(1/417)
عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُؤَمَّنُ فَتَّانِي الْقَبْرِ } قَالَ فَفِي هَذِهِ الْآثَارِ مَا فِيهَا مِنْ فَضْلِ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وَمَنْ نَمَا عَمَلُهُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ قُتِلَ مُرَابِطًا كَانَ فَوْقَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي الْمَنْزِلَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ مَاتَ غَيْرَ مُرَابِطٍ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي : الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ { مَنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ عِلْمٍ بَثَّهُ , وَمِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ , وَمِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ - بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ - أَنَّ مَا اُحْتُجَّ بِهِ عَلَيْنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا اُحْتُجَّ بِهِ عَلَيْنَا فِيهِ مِمَّا قَدْ رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يُعْطَاهُ الْمَيِّتُ فِي رِبَاطِهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا يَنْقَطِعُ عَمَلُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ يَنْمُو لَهُ إلَى(1/418)
يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِعَيْنِهِ لَا عَمَلَ سِوَاهُ يَلْحَقُ بِهِ , وَكَانَ الرَّجُلَانِ الْمُهَاجِرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا هَاجَرَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعًا فَتَسَاوَيَا فِي ذَلِكَ , وَأَقَامَا عِنْدَهُ بَاذِلَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا فِيمَا يَصْرِفُهُمَا فِيهِ مِنْ جِهَادٍ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُصْرَفُ الْمَقْتُولُ مِنْهُمَا فِي الْجِهَادِ حَتَّى قُتِلَ فِيهِ , وَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا بِتَصْرِيفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ فِيهِ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ كَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فَسَاوَاهُ فِيهِ وَزَادَ الْآخَرُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ الَّتِي قَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِمِثْلِهَا فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشَّهِيدِ وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ بِفَضْلِهِ فِيمَا حَلَّ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ قَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ ثُمَّ عَاشَ بَعْدَهُ حَوْلًا فِي هِجْرَتِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ إنْفَاقُ مَالِهِ فَتَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُصَلِّيًا صَلَوَاتِ مُدَّتِهِ تِلْكَ وَصَائِمًا شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ فِيهَا وَلِذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُنْكِرَ تَجَاوُزَهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْمَنْزِلَةِ فِي الثَّوَابِ عَلَيْهَا وَفِي اسْتِحْقَاقِ سَبْقِهِ إيَّاهُ إلَى الْجَنَّةِ , وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْ هُوَ دُونَ مِثْلِهِ . مَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ(1/419)
بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الشَّهَادَةَ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ , وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ } قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَحْوَالُ الرَّجُلِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي هِجْرَتِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَلَبُّثِهِ مَعَهُ لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا يَصْرِفُهُ فِيهِ وَإِعْمَالِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ , وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ لِأَسْبَابِ الشَّهَادَةِ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ .
وفي معاني الآثار :بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ (1)
__________
(1) - شرح معاني الآثار - (ج 2 / ص 382)(1/420)
حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ ابْنِ شِهَابٍ , حَدَّثَهُ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ , أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ بِدِمَائِهِمْ , وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ , وَلَمْ يُغَسَّلُوا } . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالُوا : لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ الشُّهَدَاءِ فِي الْمَعْرَكَةِ , وَلَا عَلَى مَنْ جُرِحَ مِنْهُمْ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحْمَلَ مِنْ مَكَانِهِ , كَمَا لَا يُغَسَّلُ , وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ . وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ , فَقَالُوا : بَلْ يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ . وَكَانَ مِنْ الْحُجَّةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى مُخَالِفِهِمْ , أَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إنَّمَا هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ . فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ ذَلِكَ , لِأَنَّ سُنَّتَهُمْ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ , كَمَا كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمْ أَنْ لَا يُغَسَّلُوا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ , وَصَلَّى عَلَيْهِمْ غَيْرُهُ , لِمَا كَانَ بِهِ حِينَئِذٍ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ , وَكَسْرِ الرُّبَاعِيَّةِ , وَمَا أَصَابَهُ يَوْمئِذٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ , وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ , عَنْ أَبِي حَازِمٍ . قَالَ سَعِيدٌ فِي حَدِيثِهِ : سَمِعْت سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ { عَنْ سَهْلٍ إنَّهُ سُئِلَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم(1/421)
يَوْمَ أُحُدٍ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ ؟ قَالَ سَهْلٌ : كُسِرَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ , وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَتُهُ , وَجُرِحَ وَجْهُهُ , فَكَانَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها تَغْسِلُهُ , وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ . فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها , أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إلَّا كَثْرَةً , أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ , فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ } . يَخْتَلِفُ لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ , وَسَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ , عَنْ هِشَامٍ , عَنْ أَبِي حَازِمٍ , عَنْ سَهْلٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي وَجْهِهِ فَجُرِحَ , وَأَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها ابْنَتَهُ , أَحْرَقَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ , فَجَعَلَتْهُ رَمَادًا وَأَلْصَقَتْهُ عَلَى وَجْهِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ , أَدْمُوا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ } . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد , قَالَ : ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ , قَالَ : أَنَا أَبُو غَسَّانَ , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ , عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ , قَالَ : { هَشَّتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ , وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَتُهُ , وَجُرِحَ وَجْهُهُ } . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد , قَالَ : ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ , قَالَ : أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ أَدْمُوا وَجْهَ(1/422)
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } وَكَانُوا أَدْمُوا وَجْهَهُ يَوْمَئِذٍ , وَهَشَّمُوا عَلَيْهِ الْبَيْضَةَ , وَكَسَرُوا رُبَاعِيَتَهُ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُشَيْش , قَالَ : ثنا الْقَعْنَبِيُّ , قَالَ : ثنا حَمَّادٌ , عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ , عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رُبَاعِيَتُهُ , يَوْمَ أُحُدٍ , وَشُجَّ وَجْهُهُ , فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ , وَيَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ , وَكَسَرُوا رُبَاعِيَتَهُ , وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } } . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم تَخَلَّفَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ لِأَلَمِ مَا نَزَلَ بِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِمْ غَيْرُهُ . وَقَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ : ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ , لَمْ يُغَسَّلُوا , وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ , وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ غَيْرِهِ . فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ , كَيْفَ هُوَ ؟ وَهَلْ زِيدَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ فِيهِ شَيْءٌ ؟ فَإِذَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَدْ حَدَّثَنَا , قَالَ : ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ , قَالَ : أَنَا أُسَامَةُ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ بِحَمْزَةَ , وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنْ تَجْزَعَ(1/423)
صَفِيَّةُ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَحْشُرَهُ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ . فَكَفَّنَهُ فِي نَمِرَةٍ , إذَا خَمَّرَ رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ , وَإِذَا خَمَّرَ رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ , فَخَمَّرَ رَأْسَهُ , وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرَهُ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , لَمْ يُصَلِّ يَوْمَئِذٍ , عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ حَمْزَةَ , فَإِنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ , وَهُوَ أَفْضَلُ شُهَدَاءِ ( أُحُدٍ ) . فَلَوْ كَانَ مِنْ سُنَّةِ الشُّهَدَاءِ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ , لَمَا صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ , كَمَا لَمْ يُغَسِّلْهُ , إذْ كَانَ مِنْ سُنَّةِ الشُّهَدَاءِ أَنْ لَا يُغَسَّلُوا . وَصَارَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ , وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى غَيْرِهِ . فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَيْرِهِ , لِشِدَّةِ مَا بِهِ مِمَّا ذَكَرْنَا , وَصَلَّى عَلَيْهِمْ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ . وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَئِذٍ , عَلَى حَمْزَةَ , وَعَلَى سَائِرِ الشُّهَدَاءِ . حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد , قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ , قَالَ : ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ , عَنْ مِقْسَمٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ عَشَرَةٌ فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ , وَعَلَى حَمْزَةَ , ثُمَّ يُرْفَعُ الْعَشَرَةُ , وَحَمْزَةُ مَوْضُوعٌ , ثُمَّ يُوضَعُ عَشَرَةٌ , فَيُصَلِّي(1/424)
عَلَيْهِمْ , وَعَلَى حَمْزَةَ مَعَهُمْ } . حَدَّثَنَا فَهْدٌ , قَالَ : ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ , قَالَ : ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ , عَنْ مِقْسَمٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ بِالْقَتْلَى , فَجَعَلَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ , فَيُوضَعُ تِسْعَةٌ وَحَمْزَةُ , فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ , ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ , ثُمَّ يُجَاءُ بِتِسْعَةٍ , فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعًا حَتَّى فَرَغَ عَنْهُمْ } . حَدَّثَنَا فَهْدٌ , قَالَ : ثنا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ , قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ , عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ , قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ , عَنْ أَبِيهِ , يَعْنِي ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بِحَمْزَةَ فَسُجِّيَ بِبُرْدِهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ , فَكَبَّرَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ , ثُمَّ أُتِيَ بِالْقَتْلَى يُصَفُّونَ , وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ مَعَهُمْ } . فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ , وَابْنُ الزُّبَيْرِ , قَدْ خَالَفَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ قَبْلَ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ . حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ إدْرِيسَ , قَالَ : ثنا آدَم بْنُ إيَاسٍ , قَالَ : ثنا شُعْبَةُ , عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , قَالَ : سَمِعْت أَبَا مَالِكٍ الْغِفَارِيَّ , قَالَ : { كَانَ قَتْلَى أُحُدٍ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ وَعَاشِرُهُمْ حَمْزَةُ , فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ يُحْمَلُونَ ,(1/425)
ثُمَّ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ , فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ , حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ , بَعْدَ مَقْتَلِهِمْ بِثَمَانِ سِنِينَ } . حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ : أَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي عَمْرٌو , وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ : { إنَّ آخِرَ مَا خَطَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ , ثُمَّ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ , فَحَمِدَ اللَّهَ , وَأَثْنَى عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ إنِّي لَكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ } . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ , قَالَ : ثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ , قَالَ : ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الْخَيْرِ , عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا , فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ , صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ } . فَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ , بَعْدَ مَقْتَلِهِمْ بِثَمَانِ سِنِينَ } , فَلَا يَخْلُو صَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّتُهُمْ كَانَتْ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدُ , بِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . أَوْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا , وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ وَالْإِيجَابِ . أَوْ يَكُونَ مِنْ(1/426)
سُنَّتِهِمْ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ بِحَضْرَةِ الدَّفْنِ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ . لَا يَخْلُو فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ . فَاعْتَبَرْنَا ذَلِكَ , فَوَجَدْنَا أَمْرَ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْمَوْتَى , هُوَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ قَبْلَ دَفْنِهِمْ . ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي التَّطَوُّعِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنُوا , وَبَعْدَمَا يُدْفَنُونَ , فَجَوَّزَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ . فَأَمْرُ السُّنَّةِ فِيهِ أَوْكَدُ مِنْ التَّطَوُّعِ لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّطَوُّعِ . فَإِنْ كَانَ قَتْلَى أُحُدٍ مِمَّنْ تَطَوَّعَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ كَانَ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ ثُبُوتُ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَوَانِ وَقْتِ التَّطَوُّعِ بِهَا عَلَيْهِمْ وَكُلُّ تَطَوُّعٍ , فَلَهُ أَصْلٌ فِي الْفَرْضِ . فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَطَوُّعًا تَطَوَّعَ بِهِ , فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ سُنَّةٌ , كَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ عَلَيْهِمْ , لِعِلَّةِ نَسْخِ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ , وَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّ صَلَاتَهُ هَذِهِ عَلَيْهِمْ , تُوجِبُ أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ , وَأَنَّ تَرْكَهُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دَفْنِهِمْ مَنْسُوخٌ . وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ , إنَّمَا كَانَتْ لِأَنَّ هَكَذَا سُنَّتَهُمْ , أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ , وَأَنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ , فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ , أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ(1/427)
إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الشُّهَدَاءِ يُعَجَّلُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ شُهَدَاءِ أُحُدٍ , فَإِنَّ سُنَّتَهُمْ كَانَتْ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِكُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِمْ ثُبُوتَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إمَّا بَعْدَ حِينٍ وَإِمَّا قَبْلَ الدَّفْنِ . ثُمَّ كَانَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي وَقْتِنَا هَذَا , إنَّمَا هُوَ فِي إثْبَاتِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الدَّفْنِ , أَوْ فِي تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ . فَلَمَّا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الدَّفْنِ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الدَّفْنِ أَحْرَى وَأَوْلَى . ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ , أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ . فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد , قَالَ : ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ , قَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ , قَالَ : أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ ابْنَ أَبِي عَمَّارٍ , أَخْبَرَهُ , عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ , { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَقَالَ : أُهَاجِرُ مَعَك فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ . فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ , غَنِمَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْيَاءَ , فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرَى ظَهْرَهُمْ . فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قِسْمٌ قَسَمَهُ لَك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله(1/428)
عليه وسلم فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَسَمْتُهُ لَك . قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُك , وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُك أَنْ أُرْمَى هَاهُنَا - وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ وَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ . فَقَالَ : إنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْك . فَلَبِثُوا قَلِيلًا , ثُمَّ نَهَضُوا إلَى الْعَدُوِّ , فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ , قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ . فَقَالَ النَّبِيُّ : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ وَكَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ . فَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا عَبْدُك , خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِك , فَقُتِلَ شَهِيدًا , أَنَا شَهِيدٌ عَلَيْهِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ , إثْبَاتُ الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَا يُغَسَّلُونَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ , لَمْ يُغَسِّلْ الرَّجُلَ وَصَلَّى عَلَيْهِ . فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كَذَلِكَ حُكْمَ الشَّهِيدِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْمَعْرَكَةِ , يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ . فَهَذَا حُكْمُ هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ تَصْحِيحِ مَعَانِي الْآثَارِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ , يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَرَأَيْنَاهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُغَسَّلْ , كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . فَكَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مُضْمَنَةً بِالْغُسْلِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهَا . فَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ قَدْ كَانَ , جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُسْلٌ , لَمْ(1/429)
تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ . ثُمَّ رَأَيْنَا الشَّهِيدَ قَدْ سَقَطَ أَنْ يُغَسَّلَ , فَالنَّظَرُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَسْقُطَ مَا هُوَ مُضْمَنٌ بِحُكْمِ الْغُسْلِ . فَفِي هَذَا مَا يُوجِبُ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ مَعْنًى , وَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا غَيْرَ الشَّهِيدِ يُغَسَّلُ , لِيُطَهَّرَ , وَهُوَ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الطَّاهِرِ , لَا يَنْبَغِي الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَلَا دَفْنُهُ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ , حَتَّى يُنْقَلَ عَنْهَا بِالْغُسْلِ . ثُمَّ رَأَيْنَا الشَّهِيدَ لَا بَأْسَ بِدَفْنِهِ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ , وَهُوَ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَوْتَى الَّذِينَ قَدْ غُسِّلُوا . فَالنَّظَرُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَوْتَى الَّذِينَ قَدْ غُسِّلُوا . هَذَا هُوَ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ مَا قَدْ شَهِدَ لَهُ مِنْ الْآثَارِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى . وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد , قَالَ : ثنا الْخَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ الْفَوْزِيُّ , قَالَ : ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْت مَكْحُولًا يَسْأَلُ عُبَادَةَ بْنِ أَوْفَى النُّمَيْرِيَّ عَنْ الشُّهَدَاءِ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ , فَقَالَ عُبَادَةَ : نَعَمْ . فَهَذَا عُبَادَةَ بْنُ أَوْفَى يَقُولُ هَذَا وَمَغَازِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ جُلُّهَا هُنَاكَ نَحْوَ الشَّامِ , فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى أَهْلِهِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِشُهَدَائِهِمْ مِنْ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ(1/430)
وفي المحلى : . 180 - مَسْأَلَةٌ : وَغُسْلُ كُلِّ مَيِّتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ وَلَا بُدَّ (1),
فَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ غُسْلٍ أُخْرِجَ وَلَا بُدَّ , مَا دَامَ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ شَيْءٌ وَيُغَسَّلُ إلَّا الشَّهِيدَ الَّذِي قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَمَاتَ فِيهَا , فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ غُسْلُهُ . بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا الْفَرَبْرِيُّ ثنا الْبُخَارِيُّ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ - حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِنَّ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ } فَأَمَرَ عليه السلام بِالْغُسْلِ ثَلَاثًا , وَأَمْرُهُ فَرْضٌ وَخَيْرٌ فِي أَكْثَرَ عَلَى الْوِتْرِ , وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَمَذْكُورٌ فِي الْجَنَائِزِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
590 - مَسْأَلَةٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ كَانَ حَاجًّا , أَوْ أَنْ يُتِمَّ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ , إنْ كَانَ مُعْتَمِرًا - : فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ فَقَطْ - إنْ وُجِدَ السِّدْرُ - . وَلَا يُمَسُّ بِكَافُورٍ وَلَا بِطَيِّبٍ , وَلَا يُغَطَّى وَجْهُهُ , وَلَا رَأْسُهُ ؟ (2)
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 1 / ص 507) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 325)
(2) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 3 / ص 332) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 1525)(1/431)
وَلَا يُكَفَّنُ إلَّا فِي ثِيَابِ إحْرَامِهِ فَقَطْ , أَوْ فِي ثَوْبَيْنِ غَيْرَ ثِيَابِ إحْرَامِهِ . وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَكَذَلِكَ , إلَّا أَنَّ رَأْسَهَا تُغَطَّى وَيُكْشَفُ وَجْهُهَا , وَلَوْ أُسْدِلَ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَلَا بَأْسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَنَّعَ ؟ فَمَنْ مَاتَ مِنْ مُحْرِمٍ , أَوْ مُحْرِمَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَسَائِرِ الْمَوْتَى , رَمَى الْجِمَارَ أَوْ لَمْ يَرْمِهَا ؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : هُمَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي كُلِّ ذَلِكَ - : بُرْهَانُ قَوْلِنَا - : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ نا شُعْبَةُ سَمِعْت أَبَا بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ , خَارِجَ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ , فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي } وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الْحَفْرِيُّ - عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { مَاتَ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثِيَابِهِ , وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ , فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي } . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا قُتَيْبَةُ نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ(1/432)
عَبَّاسٍ قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ , إذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ , وَلَا تُحَنِّطُوهُ , وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ , فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ - نا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ , وَلَا تَمَسُّوهُ طِيبًا , وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا } . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ - عَنْ مَنْصُورٍ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ - عَنْ الْحَكَمِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ , فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا , فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ } . فَهَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ , لِأَنَّهُ كَالشَّمْسِ صِحَّةً , رَوَاهُ شُعْبَةُ , وَسُفْيَانُ , وَأَبُو عَوَانَةَ , وَمَنْصُورٌ , وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ . وَرَوَاهُ قَبْلَهُمْ أَبُو بِشْرٍ , وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ , وَالْحَكَمُ , وَأَيُّوبُ , وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ , عَنْ(1/433)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ شَهِدَ الْقِصَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , آخِرَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْخَبَرِ كُلُّهَا , فَلَا يَحِلُّ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا , وَأَمَرَ عليه السلام بِذَلِكَ فِي مُحْرِمٍ سُئِلَ عَنْهُ , وَالْمُحْرِمُ يَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ , وَالْبَعْثُ وَالتَّلْبِيَةُ يَجْمَعُهُمَا , وَبِهِمَا جَاءَ الْأَثَرُ , وَالسَّبَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّكُمْ تُجِيزُونَ لِلْمُحْرِمِ الْحَقَّ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ , وَتَمْنَعُونَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ , وَلَا يَحِلُّ الِاعْتِرَاضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْمُرْ الْمُحْرِمَ الْحَيَّ بِكَشْفِ وَجْهِهِ , وَأَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ , فَوَقَفْنَا عِنْدَ أَمْرِهِ عليه السلام , { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ لَا يُفَرِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ حُكْمِ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ وَالْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ ؟ أَمْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ وَجَدُوا ذَلِكَ أَمْ فِي أَيِّ دَلِيلِ عَقْلٍ ؟ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ قَائِلِينَ بِهَذَا نَفْسِهِ , فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ حُكْمِ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ وَالْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ , وَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا : خُصُوصٌ لِذَلِكَ الْمُحْرِمِ . فَقُلْنَا : هَذَا الْكَذِبُ مِنْكُمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَفْتَى بِذَلِكَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ إذْ سُئِلَ عَنْهُ , كَمَا أَفْتَى فِي الْمُسْتَحَاضَةِ , وَكَمَا أَفْتَى(1/434)
أُمَّ سَلَمَةَ فِي أَنْ لَا تَحِلَّ ضَفْرَ رَأْسِهَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَسَائِرِ مَا اُسْتُفْتِيَ فِيهِ عليه السلام ؟ فَأَفْتَى فِيهِ فَكَانَ عُمُومًا ؟ . وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَتَوْا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام { فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّدًا } " وَيُلَبِّي " " وَيُهِلُّ " فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ , وَأَوْقَفُوهُ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ , وَأَتَوْا إلَى مَا خَصَّهُ عليه السلام مِنْ الْبُرِّ , وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ , وَالْمِلْحِ , وَالذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ - : فَتَعَدَّوْا بِحُكْمِهَا إلَى مَا لَمْ يَحْكُمْ عليه السلام قَطُّ بِهَذَا الْحُكْمِ فِيهِ فَإِنَّمَا أَوْلَعُوا بِمُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ , وَابْنِ عُمَرَ : تَحْنِيطُ الْمُحْرِمِ إذَا مَاتَ , وَتَطْيِيبُهُ , وَتَخْمِيرُ رَأْسِهِ ؟ قُلْنَا : وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ , وَغَيْرِهِ خِلَافُ ذَلِكَ - : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ مُعْتَمِرًا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ , فَمَاتَ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ , فَلَمْ يُغَيِّبْ عُثْمَانُ رَأْسَهُ , وَلَمْ يُمْسِسْهُ طِيبًا , فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ - : وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نا أَبِي قَالَ : تُوُفِّيَ عُبَيْدُ بْنُ يَزِيدَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمْ يُغَيِّبْ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ رَأْسَهُ فِي النَّعْشِ - : وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ , يُغْسَلُ رَأْسُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ , وَلَا(1/435)
يُغَطَّى رَأْسُهُ , وَلَا يَمَسُّ طِيبًا ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ وَالْعَجَبُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ : فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ , وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا كَدَعْوَاهُمْ فِي الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ : ثَمَانِينَ , وَغَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ , فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا ؟ قُلْنَا : وَقَدْ خَالَفَ : عُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ , وَالْحَسَنُ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ : فِي حَدِّ الْخَمْرِ بَعْدَ عُمَرَ , فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا ؟ وَإِذَا تَنَازَعَ السَّلَفُ فَالْفَرْضُ عَلَيْنَا رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَا إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُمَا ؟ وَمِنْ طَرَائِفِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { خَمِّرُوا وُجُوهَهُمْ , وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } . وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ - : أَوَّلُهَا - أَنَّهُ مُرْسَلٌ , وَلَا حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ ؟ وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا دَلِيلٌ - لَوْ صَحَّ - عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُحْرِمِ أَصْلًا , بَلْ كَانَ يَكُونُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى ؟ وَثَالِثُهَا - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ عليه السلام أَصْلًا ; لِأَنَّهُ عليه السلام لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ , وَالْيَهُودُ لَا تَكْشِفُ وُجُوهَ مَوْتَاهَا . فَصَحَّ أَنَّهُ بَاطِلٌ , سَمِعَهُ عَطَاءٌ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ أَوْ مِمَّنْ وَهَمَ وَالرَّابِعُ - : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مُسْنَدًا فِي الْمُحْرِمِينَ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ خَبَرَ(1/436)
ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْآخَرُ بِلَا شَكٍّ , وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ عليه السلام فِي أَمْرٍ أَمَرَ بِهِ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ , ثُمَّ يَأْمُرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ , لَا تَشَبُّهًا بِهِمْ كَمَا قَالَ عليه السلام فِي قَوْلِ الْيَهُودِيَّةِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ , ثُمَّ أَتَاهُ الْوَحْيُ بِصِحَّةِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ { إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ , وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ , وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } . وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ , وَهَكَذَا نَقُولُ , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَمَلُ غَيْرِهِ فِيهِ , بَلْ غَيْرُهُ مَأْمُورٌ فِيهِ بِأَعْمَالٍ مُفْتَرَضَةٍ , مِنْ غُسْلٍ , وَصَلَاةٍ , وَدَفْنٍ , وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ هُوَ عَمَلُ الْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ , إنَّمَا هُوَ عَمَلُ الْأَحْيَاءِ - فَظَهَرَ تَخْلِيطُهُمْ وَتَمْوِيهُهُمْ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَهَذِهِ إحَالَةٌ مِنْهُمْ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ , وَلَمْ نَقُلْ قَطُّ : إنَّ هَذَا مِنْ سَعْيِ الْمَيِّتِ , وَلَكِنَّهُ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمَيِّتِ كَمَا أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نُغَسِّلَ الشَّهِيدَ وَلَا نُكَفِّنَهُ , وَأَنْ نَدْفِنَهُ فِي ثِيَابِهِ , وَلَيْسَ هُوَ عَمَلُ الشَّهِيدِ وَلَا سَعْيُهُ , لَكِنَّهُ عَمَلُنَا فِيهِ وَسَعْيُنَا لِأَنْفُسِنَا الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ وَلَا فَرْقَ ؟ وَالْقَوْلُ(1/437)
مُتَحَكِّمُونَ بِالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَلَا مَزِيدَ إلَّا إنْ كَانُوا يَحُومُونَ حَوْلَ أَنْ يَعْتَرِضُوا بِهَذَا كُلِّهِ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّدًا } " يُلَبِّي " " وَيُهِلُّ " فَهَذَا رِدَّةٌ ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام { إنَّ الْمُحْرِمَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي وَيُهِلُّ وَمُلَبِّدًا } وَبَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام { إنَّ مَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَثْعَبُ دَمًا , اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ , وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } . وَكُلُّ هَذِهِ فَضَائِلُ لَا تُنْسَخُ وَلَا تُرَدُّ , وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ , فَهَلَّا قَالُوا : الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَالْمَيِّتُ مُحْرِمًا : كِلَاهُمَا مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى , وَحُكْمُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ حُكْمِ الْمَوْتَى , فَكَذَلِكَ الْآخَرُ ؟ وَلَكِنَّهُمْ لَا النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ , وَلَا الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ , وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الشَّبَهَ بَيْنَ الْجِهَادِ , وَالْحَجِّ أَقْرَبُ مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَ السَّرِقَةِ , وَالنِّكَاحِ
وَعَنْ مَكْحُولٍ فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ إذَا هَالَ الْبَحْرُ . وَرُوِيَ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ -(1) :
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 8 / ص 418) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4700) والمحلى لابن حزم - (ج 5 / ص 268)(1/438)
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ : أَنَّ امْرَأَةً رَأَتْ فِي مَنَامِهَا فِيمَا يَرَى النَّائِمُ : أَنَّهَا تَمُوتُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَقْبَلَتْ عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَتَعَلَّمَتْهُ , وَشَذَّبَتْ مَالَهَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَخَلَتْ عَلَى جَارَاتِهَا فَجَعَلَتْ تَقُولُ : يَا فُلَانَةُ اسْتَوْدَعْتُك اللَّهَ وَأَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ فَجَعَلْنَ يَقُلْنَ لَهَا : لَا تَمُوتِينَ الْيَوْمَ , لَا تَمُوتِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ فَسَأَلَ زَوْجُهَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى : أَيُّ امْرَأَةٍ كَانَتْ امْرَأَتُك ؟ قَالَ : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحْرَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْهَا إلَّا الشَّهِيدَ , وَلَكِنَّهَا فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : هِيَ كَمَا تَقُولُ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ؟ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَبُو مُوسَى . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ , وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ : أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ : أَنَّهُ يَمُوتُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , فَطَلَّقَ نِسَاءَهُ تَطْلِيقَةً تَطْلِيقَةً , وَقَسَّمَ مَالَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : أَجَاءَك الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِك فَأَخْبَرَك أَنَّك تَمُوتُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , فَطَلَّقْت نِسَاءَك وَقَسَمْت مَالَك رُدَّهُ وَلَوْ مِتّ لَرَجَمْت قَبْرَك كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالَ ؟ فَرَدَّ مَالَهُ وَنِسَاءَهُ , وَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَرَاك تَلْبَثُ إلَّا يَسِيرًا ؟ قَالَ :(1/439)
فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ نا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِلَّهِ فِي مَرَضِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ ؟ قَالَ مَسْرُوقٌ : أُجِيزُهُ , شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى , لَا أَرُدُّهُ , وَقَالَ شُرَيْحٌ : أُجِيزُ ثُلُثَهُ وَاسْتَسْعِيهِ فِي ثُلُثَيْهِ , قَالَ الشَّعْبِيُّ : قَوْلُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْفُتْيَا , وَقَوْلُ شُرَيْحٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْقَضَاءِ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الرَّجُلِ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ قَالَ إذَا وَضَعَهُ فِي حَقٍّ فَلَا أَحَدَ أَحَقَّ بِمَالِهِ مِنْهُ , وَإِذَا أَعْطَى الْوَرَثَةَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ طَعَنَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ قَالَ : إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا مِنْ صَدَاقِهَا فَهُوَ جَائِزٌ , وَقَالَ سُفْيَانُ : لَا يَجُوزُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يُجِيزُ فِعْلَ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَهُوَ فِي أَشَدِّ حَالٍ مِنْ الْمَرِيضِ - هِيَ أَيْضًا ذَاتُ زَوْجٍ غَيْرِ رَاضٍ بِمَا فَعَلَتْ فِي مَالِهَا كُلِّهِ . وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَدَّ فِعْلَ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يُجِزْ مِثْلَهُ لَا ثُلُثًا وَلَا غَيْرَهُ - وَهَذَا مَسْرُوقٌ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ يُنَفِّذُ مَا فَعَلَهُ الْمَرِيضُ فِي مَالِهِ كُلِّهِ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَالَ إلَيْهِ(1/440)
الشَّعْبِيُّ فِي الْفُتْيَا . وَعَنْ إبْرَاهِيمَ جَوَازُ فِعْلِ الْمَرِيضِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ . وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ - : فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ غُرَمَاءَهُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ - وَأَمَّا مُحَابَاتُهُ فِي الْبَيْعِ , وَهِبَتُهُ , وَصَدَقَتُهُ , وَعِتْقُهُ - كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَقَ يُسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ , قَالَ : فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ : جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إذَا ضَرَبَهَا وَجَعُ الطَّلْقِ وَمَا لَمْ يَضْرِبْهَا : فَكَالصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهَا , وَالْوَاقِفُ فِي الصَّفِّ فَكَالصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ قُتِلَ أَوْ عَاشَ , قَالَ : وَاَلَّذِي يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ فِي زِنًى كَالْمَرِيضِ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ إلَّا فِي الثُّلُثِ - قَالَ : فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ؟ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ وَوَرِثَهُ , وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ لَمْ يَرِثْهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : بَلْ يَرِثُهُ إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى فِيمَا يَقَعُ مِنْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ فَيَأْخُذُونَهُ . وَقَالُوا كُلُّهُمْ : إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ الْمُخِيفِ , كَحُمَّى الصَّالِبِ , وَالْبِرْسَامِ , وَالْبَطْنِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَأَمَّا الْجُذَامُ , وَحُمَّى الرُّبْعِ , وَالسُّلُّ , وَمَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي مَرَضِهِ فَأَفْعَالُهُ كَالصَّحِيحِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ . قَالُوا : وَالْحَامِلُ مَا لَمْ تَتِمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَكَالصَّحِيحِ , فَإِذَا أَتَمَّتْهَا , فَأَفْعَالُهَا(1/441)
فِي مَالِهَا مِنْ الثُّلُثِ - وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ . قَالَ : وَالْمَرِيضُ , وَالزَّاحِفُ فِي الْقِتَالِ - صَدَقَتُهُمَا , وَمُحَابَاتُهُمَا فِي الْبَيْعِ وَهِبَتُهُمَا , وَعِتْقُهُمَا فِي الثُّلُثِ - وَقَالَ فِيمَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي صِفَةِ الْمَرَضِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءً سَوَاءً . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ غُرَمَاءَهُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ . وَقَالَا جَمِيعًا فِي الْحَامِلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , وَالثَّوْرِيُّ , وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَفْعَالِ الْمَرِيضِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَكَذَلِكَ فِي صِفَةِ الْمَرِيضِ . وَقَالَ فِي الْأَسِيرِ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ , وَالْمُقْتَحِمِ فِي الْقِتَالِ , وَمَنْ كَانَ فِي أَيْدِي قَوْمٍ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى مَرَّةً أَنَّهُمْ كَالْمَرِيضِ , وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُمْ كَالصَّحِيحِ , إذْ قَدْ يَسْلَمُونَ مِنْ الْقَتْلِ . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ , وَالثَّوْرِيُّ : إذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ فَأَفْعَالُهُمْ كَالْمَرِيضِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ , وَأَحْمَدُ , وَإِسْحَاقُ : أَفْعَالُ الْمَرِيضِ فِي مَالِهِ مِنْ الثُّلُثِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : أَفْعَالُ الْمَرِيضِ كُلُّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَالصَّحِيحِ , وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ , وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا - حَاشَ عِتْقِ الْمَرِيضِ وَحْدَهُ - فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ أَفَاقَ أَوْ مَاتَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ : فِيمَنْ يَشْتَرِي ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَوْلٌ لَا نَعْلَمُهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَهُمَا , بَلْ قَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ :(1/442)
إنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ مَالِ أَبِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَيَرِثُ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ - وَإِنَّ فِي قَوْلِهِمَا هَذَا لَأُعْجُوبَةً , لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شِرَاؤُهُ لِابْنِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ لَا يَكُونَ وَصِيَّةً , فَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً فَلَا يَجِبُ أَنْ يَرِثَ أَصْلًا حَمَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ ; لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ , وَإِنْ كَانَ لَيْسَ وَصِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ وَلَا فَرْقَ , وَإِنَّ قَوْلَهُمَا هَاهُنَا لَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ , وَاللَّيْثِ - فِي الْحَامِلِ فَقَوْلٌ أَيْضًا لَا نَعْلَمُهُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } . فَقُلْنَا : يَا هَؤُلَاءِ , وَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّ الْإِثْقَالَ هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ . ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّهُ إثْقَالٌ , لَا مَا قَبْلَهُ , فَكَانَ مَاذَا ؟ وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَنْعُهَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَالِهَا إذَا أَثْقَلَتْ ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَمْرَاضِ , فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ صَاحِبٍ وَلَا تَابِعٍ أَصْلًا , وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ , فَحَصَلَ قَوْلُهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُ أَصْلًا لَا مِنْ قُرْآنٍ , وَلَا مِنْ سُنَّةٍ , وَلَا رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٍ , وَلَا نَظَرٍ , وَلَوْ أَنَّ امْرَأً ادَّعَى عَلَيْهِمْ خِلَافَ إجْمَاعِ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الصِّدْقِ مِنْ دَعْوَاهُمْ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ فِيمَا قَدْ صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ , كَمَا أَوْرَدْنَا عَنْ(1/443)
مَسْرُوقٍ , وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلًا , إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : نَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ . فَقُلْنَا : الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ الصَّحِيحِ , وَالْمَرِيضِ سَوَاءٌ : لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الثُّلُثِ , فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ سَوَاءً , فَهَذَا قِيَاسٌ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِمْ . وَقَالُوا : نَتَّهِمُهُ بِالْفِرَارِ بِمَالِهِ عَنْ الْوَرَثَةِ . فَقُلْنَا : الظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ , وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ الْوَارِثُ قَبْلَهُ فَيَرِثُهُ الْمَرِيضُ فَهَذَا مُمْكِنٌ - وَأَيْضًا : فَإِذْ لَيْسَ إلَّا التُّهْمَةُ فَامْنَعُوا الصَّحِيحَ أَيْضًا مِنْ أَكْثَرِ ثُلُثِ مَالِهِ , وَاتَّهِمُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَفِرُّ بِمَالِهِ عَنْ وَرَثَتِهِ , فَجَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ وَيَرِثُوهُ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَرِيضِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ الْوَارِثُ فَيَرِثَهُ الْمَرِيضُ كَمَا يَرِثُهُ الصَّحِيحُ وَلَا فَرْقَ , وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ يَمُوتُ قَبْلَ مَرِيضٍ . وَأَيْضًا : فَاتَّهِمُوا الشَّيْخَ الَّذِي قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَامْنَعُوهُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ لِئَلَّا يَفِرَّ بِمَالِهِ عَنْ وَرَثَتِهِ . فَإِنْ قُلْتُمْ : قَدْ يَعِيشُ أَعْوَامًا ؟ قُلْنَا : وَقَدْ يَبْرَأُ الْمَرِيضُ فَيَعِيشُ عَشَرَاتِ أَعْوَامٍ , وَإِذْ لَيْسَ إلَّا التُّهْمَةُ , فَلَا تَتَّهِمُوا مَنْ يَرِثُهُ وَلَدُهُ فَاجْعَلُوا فِعْلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ , وَاتَّهِمُوا مَنْ يَرِثُهُ عَصَبَتُهُ فَلَا تُطْلِقُوا لَهُ الثُّلُثَ . فَإِنْ قَالُوا : هَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؟ قُلْنَا : وَفِعْلُكُمْ خِلَافُ النَّصِّ فِي(1/444)
التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُحِبُّهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالِهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } . وَالْمَرِيضُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَى ذَلِكَ . { وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ ؟ فَقَالَ : جُهْدُ الْمُقِلِّ } . فَإِنْ قَالُوا : قَدْ { سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى لَا أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ : لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا , أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ؟ } . قُلْنَا : نَعَمْ , هَذَا حَقٌّ صَحِيحٌ , وَإِنَّمَا فِيهِ تَفَاضُلُ الصَّدَقَةِ فَقَطْ , وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ مَرَضٍ , وَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ أَصْلًا , لَا بِنَصٍّ , وَلَا بِدَلِيلٍ , وَلَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَنْ مَالِ الْمَرِيضِ لِمَنْ أَلَهُ أَمْ لِلْوَرَثَةِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : بَلْ لَهُ كَمَا هُوَ لِلصَّحِيحِ . قُلْنَا : فَلِمَ تَمْنَعُونَهُ مَالَهُ دُونَ أَنْ تَمْنَعُوا الصَّحِيحَ , وَهَذَا ظُلْمٌ ظَاهِرٌ . وَلَوْ قَالُوا : بَلْ هُوَ لِلْوَرَثَةِ . لَقَالُوا الْبَاطِلَ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا لَقُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّهِ , وَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْمَرِيضِ لَحُدَّ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا حَلَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَرَثَةِ . وَلَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَطْلَقُوا لِلْمَرِيضِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ , وَيَلْبَسَ مَا(1/445)
شَاءَ ; وَيُنْفِقَ عَلَى مَنْ إلَيْهِ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ . وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ , وَمَنَعُوهُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ . إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لَا نَظِيرَ لَهُ ؟ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً وَتَعَرِّيهِ عَنْ أَنْ يُوجَدَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَإِنَّمَا وُجِدَ عَنْ نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ مُخْتَلِفِينَ , وَقَدْ خَالَفُوا بَعْضَهُمْ فِي قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ , كَخِلَافِهِمْ لِلشَّعْبِيِّ فِي فِعْلِ الْمُسَافِرِ فِي مَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , عَلَى أَنَّ الشَّعْبِيَّ أَقْوَى حُجَّةً مِنْهُمْ , لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ } . وَرُوِيَ أَيْضًا { الْمُسَافِرُ وَرَحْلُهُ عَلَى قَلَتٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ } . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَوَجَدْنَاهُمْ يُشَنِّعُونَ بِآثَارٍ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى - : مِنْهَا - الْأَثَرُ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا بِأَوْرَاقٍ فِي بَابِ تَبْدِئَةِ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ { لَا أَعْرِفَنَّ أَحَدًا بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ يُدَغْدِغُ مَالَهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا } ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْحَقِّ فِي الْمَالِ . وَمِنْهَا : مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ(1/446)
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَوْتِكُمْ رَحْمَةً لَكُمْ وَزِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ وَحَسَنَاتِكُمْ } . نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نا ابْنُ وَضَّاحٍ نا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ نا وَكِيعٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِالثُّلُثِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ } . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ : سَمِعْت " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { جَعَلْتُ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى : جَعَلْتُ لَكَ طَائِفَةً مِنْ مَالِكَ عِنْدَ مَوْتِكَ أَرْحَمُكَ بِهِ } " . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كُلُّهُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَصْلًا - : أَمَّا خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ : فَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الشَّامِيِّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ .
وفي المبسوط :بَابُ الشَّهِيدِ ( قَالَ ) (1):
__________
(1) - المبسوط - (ج 2 / ص 395)(1/447)
وَإِذَا قُتِلَ الشَّهِيدُ فِي مَعْرَكَةٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رضي الله تعالى عنه : يُغَسَّلُ وَيُصْلَى عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله تعالى عنه : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَمَّا الْحَسَنُ فَقَالَ : الْغُسْلُ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ آدَمَ لَمَّا مَاتَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا : هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } وَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ تَطْهِيرٌ لَهُ حَتَّى تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ وَإِنَّمَا لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ فَشَتْ فِي الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَمْلُ الْمَاءِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَغُسْلُهُمْ لِأَنَّ عَامَّةَ جِرَاحَاتِهِمْ كَانَتْ فِي الْأَيْدِي فَعُذْرُهُمْ لِذَلِكَ . ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ : زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ التَّأْوِيلِ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّيَمُّمِ وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْغُسْلِ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانٍ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْذِرْهُمْ فِي تَرْكِ الدَّفْنِ وَكَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي حَفْرِ الْقُبُورِ لِلدَّفْنِ أَظْهَرَ مِنْهَا(1/448)
فِي الْغُسْلِ وَكَمَا لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ كَمَا رَوَاهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تَكُنْ يَوْمئِذٍ وَكَذَلِكَ لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ فَظَهَرَ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله تعالى عنه : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله تعالى عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ } وَلِأَنَّهُمْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ تَطَهَّرُوا مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام { : السَّيْفُ مَحَّاءُ الذُّنُوبِ } وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ شَفَاعَةٌ لَهُ وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا اسْتَغْنَى عَنْ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَقَالَ { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى الْحَيِّ . ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ } حَتَّى رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ رضي الله تعالى عنه سَبْعِينَ صَلَاةً } وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُؤْتَى بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَقَالَ : صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً وَحَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله تعالى عنه لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا فَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى(1/449)
الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُ حَاضِرًا حِينَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا رُوِيَ مَا رُوِيَ وَمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَمِعَ جَابِرٌ رضي الله عنه مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْفَنَ الْمَوْتَى فِي مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فِيهَا } وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ } وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَالْعَبْدُ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ الذُّنُوبِ فَلَا تَبْلُغُ دَرَجَتُهُ دَرَجَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الدُّعَاءِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا إشْكَالَ أَنَّ دَرَجَتَهُ فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَالشَّهِيدُ حَيٌّ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَيِّتٌ يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ وَتَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَفَرِيضَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ فِيهِ مَيِّتًا يُصَلَّى عَلَيْهِ
( قَالَ ) : وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ (1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 2 / ص 398)(1/450)
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَكُلُومِهِمْ } وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ لَمَا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَ : لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنَى ثَوْبًا فَإِنَى رَجُلٌ مِحْجَاجٌ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَنِي وَلَمَّا اُسْتُشْهِدَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ قَالَ : لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةَ بِالْجَادَّةِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ وَالْجِلْدُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْقَلَنْسُوَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَبِسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِدَفْعِ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ
( قَالَ ) : وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الثَّلَاثِ فِي الْكَفَنِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَيَخِيطُونَهُ إنْ شَاءُوا كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى إنَّمَا لَا يُزَالُ عَنْهُ أَثَرُ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى
( قَالَ ) وَإِنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِي بَيْتِهِ أَوْ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ غُسِّلَ لِأَنَّهُ صَارَ مُرْتَثًّا
__________
(1) - المبسوط - (ج 2 / ص 399) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 3 / ص 370)(1/451)
وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِغُسْلِ الْمُرْتَثِّ وَمَعْنَاهُ مِنْ خَلَقَ أَمْرُهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ يُقَالُ : ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ . وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ غُسِّلَ وَكَانَ شَهِيدًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حُمِلَ حَيًّا بَعْدَ مَا طُعِنَ ثُمَّ غُسِّلَ وَكَانَ شَهِيدًا فَأَمَّا عُثْمَانُ رضي الله عنه فَأُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ وَلَمْ يُغَسَّلْ فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ مَنْ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ دُونَ مَنْ حُمِلَ حَيًّا وَهَذَا إذَا حُمِلَ لِيُمَرَّضَ فِي خَيْمَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ وَأَمَّا إذَا جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ هَذَا مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ رَاحَةِ الدُّنْيَا بَعْدَ صِفَةِ الشَّهَادَةِ فَتَحَقَّقَ بَذْلُ نَفْسِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بِحَسَبِ مَا مَرِضَ قَدْ نَالَ رَاحَةَ الدُّنْيَا بَعْدُ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ يُغَسَّلُونَ وَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
( قَالَ ) وَمَا قُتِلَ بِهِ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ لَا يُغَسَّلُ(1/452)
لِأَنَّ الْأَصْلَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ وَفِيهِمْ مَنْ دُمِغَ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ وَفِيهِمْ مِنْ قُتِلَ بِالْعَصَا ثُمَّ عَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ الشَّهِيدَ بَاذِلٌ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } وَفِي هَذَا الْمَعْنَى السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ
( قَالَ ) : وَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَعْرَكَةِ مَيِّتًا لَيْسَ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ(1/453)
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ يُفَارِقُ الْمَيِّتَ بِالْأَثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ انْزِهَاقُ رُوحِهِ بِقَتْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ فَمَاتَ وَالْجَبَانُ مُبْتَلًى بِهَذَا وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرٌ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِذَلِكَ الْجُرْحِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَدُوِّ فَاجْتِمَاعُ الصَّفَّيْنِ كَانَ لِهَذَا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ مَخَارِقِهِ نَظَّرَ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ غُسِّلَ وَذَلِكَ كَالْأَنْفِ وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ فَقَدْ يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ وَقَدْ يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وَقَدْ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ رَأْسِهِ غُسِّلَ وَجُرْحُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ وَمِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَ يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَعْلُو مِنْ الْجَوْفِ إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِلَوْنِ الدَّمِ
( قَالَ ) وَمَنْ صَارَ مَقْتُولًا مِنْ جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُغَسَّلْ أَيْضًا(1/454)
لِأَنَّهُ قُتِلَ دَافِعًا عَنْ مَالِهِ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } فَلِهَذَا لَا يُغَسَّلُ
( قَالَ ) : وَمَنْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ ظُلْمًا لَمْ يُغَسَّلْ أَيْضًا عِنْدَنَا
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه : يُغَسَّلُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ كَالْخَطَأِ فَإِذَا وَجَبَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ غُسِّلَ وَعِنْدَنَا الْعَمْدُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَالِ فَهَذَا مَقْتُولٌ ظُلْمًا لَمْ يَجِبْ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا وَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ لَيْسَ بِبَدَلٍ مَحْضٍ بَلْ هُوَ عُقُوبَةٌ زَاجِرَةٌ فَلَا يَخِلُّ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله تعالى عنه فَقَدْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ وَكَانَ شَهِيدًا وَلَمْ يُغَسَّلْ وَإِنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ غُسِّلَ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَطَأِ حَتَّى يَجِبَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا كَبِيرٍ فَهُوَ عِنْدَهُمَا وَالْقَتْلُ بِالسِّلَاحِ سَوَاءٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه يُغَسَّلُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِهَذِهِ الْآلَةِ
( قَالَ ) : وَلَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ غُسِّلَ(1/455)
لِمَا رُوِيَ أَنَّ { مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ جَاءَ عَمُّهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : قُتِلَ مَاعِزٌ كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ : لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الشَّهِيدَ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْتُولِ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ غُسِّلَ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ مَنْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ غُسِّلَ لِأَنَّ الظَّالِمَ غَيْرُ بَاذِلٍ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي حُكْمِ الْغُسْلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى
( قَالَ ) : وَمَنْ قَتَلَهُ السَّبُعُ أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ غُسِّلَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى
لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ وَالْمَيِّتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي مَحَلَّةٍ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ غُسِّلَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ
( قَالَ ) : وَيُصْنَعُ بِالْمُحْرِمِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ يَعْنِي يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ بِالْكَفَنِ عِنْدَنَا(1/456)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه : لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ جِرْزَانٍ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا أَوْ قَالَ : مُلَبَّدًا } وَلِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِعِبَادَةٍ لَهَا أَثَرٌ فَيَبْقَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ كَالْغَازِي إذَا اُسْتُشْهِدَ . ( وَلَنَا ) حَدِيثُ عَطَاءٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ : خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَلَا تُشْبِهُوهُ بِالْيَهُودِ } وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ وَاقِدٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ كَفَّنَهُ وَعَمَّمَهُ وَحَنَّكَهُ وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ لَحَنَّطْنَاك يَا وَاقِدُ وَلِأَنَّ إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ } وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْهَا فَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لَا يَبْنِي الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ عَلَى إحْرَامِهِ وَالْتَحَقَ بِالْحَلَالِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يُخَمَّرَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ بِاللَّبَنِ وَالتُّرَابِ فَكَذَلِكَ بِالْكَفَنِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ خُصُوصِيَّتَهُ بِبَقَاءِ إحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَشْيَاءَ .(1/457)
( قَالَ ) وَمِنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهُوَ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ
لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَعَهُمْ مَأْمُورٌ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } فَالْمَقْتُولُ فِي هَذِهِ الْمُحَارَبَةِ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ كَالْمَقْتُولِ فِي مُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَلَمَّا قَاتَلَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه أَهْلَ النَّهْرَوَانِ لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِ . وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله تعالى عنه : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الْآيَةُ وَلَكِنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ رَجْمًا أَوْ فِي قِصَاصٍ . ( وَلَنَا ) حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ : أَكَفَّارٌ هُمْ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ
( قَالَ ) : وَإِذَا أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ النِّسَاءُ كَمَا لَا يُغَسَّلُ الرِّجَالُ(1/458)
لِأَنَّهُنَّ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ فَأَمَّا الصِّبْيَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فَيُغَسَّلُونَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَسَّلُونَ قَالَ لِأَنَّ حَالَ الصِّبْيَانِ فِي الطَّهَارَةِ فَوْقَ حَالِ الْبَالِغِينَ فَإِذَا لَمْ يُغَسَّلْ الْبَالِغُ إذَا اُسْتُشْهِدَ لِأَنَّهُ قَدْ تَطَهَّرَ فَالصَّبِيُّ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى قَالَ : لَيْسَ لِلصَّبِيِّ ذَنْبٌ يَمْحُوهُ السَّيْفُ فَالْقَتْلُ فِي حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ فَيُغَسَّلُ ثُمَّ الصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا يُخَاصِمُ بِنَفْسِهِ فِي حُقُوقِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا الْخَصْمُ فِي حُقُوقِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الشُّهُودِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
( قَالَ ) : وَإِذَا وُجِدَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْآدَمِيِّ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يُدْفَنُ .(1/459)
لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ بَدَنِهِ لَا عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْعُضْوِ حَيٌّ وَلَا يُصَلَّ عَلَى الْحَيِّ وَلَوْ قُلْنَا يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ إذَا وُجِدَ لَكَانَ يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ آخَرَ إذَا وُجِدَ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه : يُغَسَّلُ مَا وُجِدَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِنَّ لِأَطْرَافِ الْآدَمِيِّ حُرْمَةٌ كَمَا لِنَفْسِهِ وَعِنْدَهُ لَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ وُجِدَ النِّصْفُ مِنْ بَدَنِهِ مَشْقُوقًا طُولًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَكَانَ يُصَلَّى عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ إذَا وُجِدَ فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ
( قَالَ ) وَإِذَا وُجِدَ مَيِّتٌ لَا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ(1/460)
وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسِيمَا الْمُسْلِمِينَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلَيْسَ السَّوَادُ وَمَا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَلَامَةُ وَالسِّيمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } وَقَالَ { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً }
( قَالَ ) : وَإِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ غُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ(1/461)
إلَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ كَافِرٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَلَبَةِ وَالْمَغْلُوبُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ مَعَ الْغَالِبِ وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إلَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ بِالسِّيمَا فَإِذَا اسْتَوَيَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكُفَّارِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَيَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { : مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلَالِ } وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ تَرْجِيحًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَنْوِي مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا فَعَلَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ مُيِّزَ بِالنِّيَّةِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه يَسْتَعْمِلُ التَّحَرِّيَ فَيُصَلِّي عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّحَرِّي وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَيَّ مَوْضِعٍ يُدْفَنُونَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إذَا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ دُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي نَصْرَانِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ أَنَّهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُدْفَنُ فَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ جَانِبَ الْوَلَدِ وَقَالَ : تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضُهُمْ جَانِبَهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ وَقَالَ : تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رحمه الله تعالى(1/462)
تُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ
( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ إذَا مَاتَ وَيَدْفِنَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مَعَ كُفْرِهِ مِنْهُمْ
وَالْوَلَدُ الْمُسْلِمُ مَنْدُوبٌ إلَى بِرِّ وَالِدِهِ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَالِدُ الْمُشْرِكُ بِدَلِيلِ قوله تعالى { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي } الْآيَةَ وَمِنْ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ فِي حَقِّهِ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ { وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَقَالَ اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثْ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي فَلَمَّا رَجَعْت إلَيْهِ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ } . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَقَالَ : إنَّ أُمِّيَ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ : غَسِّلْهَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا وَإِنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَاتَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ كَمَا تُغْسَلُ النَّجَاسَاتُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَلَا يُوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَتَوَضَّأُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا كَانَ خَلَّى(1/463)
الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الِابْنَ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ هَلْ يُمَكَّنُ أَبُوهُ الْكَافِرُ مِنْ الْقِيَامِ بِغُسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ { الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : لُوا أَخَاكُمْ وَلَمْ يُخِلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ } وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ ابْنِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُ يَنْزِلُ فِيهِ السَّخَطُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ عَلَى سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ عِنْدَ وَضْعِهِ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . .
( قَالَ ) : وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ شَهِيدًا وَهُوَ جُنُبٌ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَلَمْ يُغَسَّلْ عِنْدَهُمَا(1/464)
قَالَا : صِفَةُ الشَّهَادَةِ تَتَحَقَّقُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ غُسْلِهِ لِإِبْقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَامِرٍ إنَّمَا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عليهم السلام إكْرَامًا لَهُ وَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَى بَنِي آدَمَ لَمْ يَكْتَفِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُ وَحَيْثُ اكْتَفَى دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه حَدِيثُ { حَنْظَلَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ : أَصَابَ مِنِّي فَسَمِعَ الْهَيْعَةَ فَأَعْجَلَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ جُنُبٌ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : هُوَ ذَاكَ } . { وَلَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رحمه الله تعالى قَالَ عليه الصلاة والسلام : بَادِرُوا بِغُسْلِ سَعْدٍ لَا تُبَادِرْنَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ كَمَا بَادَرُونَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ } فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَنْظَلَةَ لَوْ لَمْ تُغَسِّلْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَغَسَّلَهُ وَإِنَّمَا لَمْ يُعِدْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَأَدَّى بِفِعْلِ { الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ غَسَّلُوا آدَمَ ثُمَّ قَالُوا : هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَلَمْ يُعِدْ أَوْلَادُهُ غُسْلَهُ } ثُمَّ صِفَةُ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالْمَوْتِ وَلَا تُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبِ الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ تُغْسَلُ تِلْكَ النَّجَاسَةُ وَلَا يُغْسَلُ الدَّمُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا فِي حَقِّ الطَّاهِرِ الْغُسْلُ يَجِبُ بِالْمَوْتِ فَصِفَةُ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ مِنْهُ(1/465)
وَفِي حَقِّ الْجُنُبِ الْغُسْلُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ ثُمَّ اُسْتُشْهِدَتْ فَإِنْ اُسْتُشْهِدَتْ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله تعالى عنه : إحْدَاهُمَا أَنَّهَا لَا تُغَسَّلُ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تُغَسَّلُ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قَدْ حَصَلَ بِالْمَوْتِ وَالدَّمُ السَّائِلُ مُوجِبٌ لِلِاغْتِسَالِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( قَالَ ) : وَلِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرِهِ(1/466)
وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لِلصَّائِمِ السِّوَاكَ آخِرَ النَّهَارِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } وَالسِّوَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ وَمَا هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشَّهِيدِ ( وَلَنَا ) قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } وَقَالَ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ } ثُمَّ هُوَ تَطْهِيرٌ لِلْفَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالسِّوَاكُ لَا يُزِيلُ الْخُلُوفَ بَلْ يَزِيدُ فِيهِ إنَّمَا يُزِيلُ النَّكْهَةَ الْكَرِيهَةَ وَمُرَادُهُ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ دَرَجَةِ الصَّائِمِ لَا عَيْنُ الْخُلُوفِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُ الرَّوَائِحُ , وَدَمُ الشَّهِيدِ يَبْقَى عَلَيْهِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنِ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّاهِدِ , وَالسِّوَاكِ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ الْأَخْضَرِ وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَبُلَّهُ بِالْمَاءِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا فَهُوَ نَظِيرُ الذَّوْقِ , وَإِدْخَالِ الْمَاءِ فِي فَمِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . ( وَلَنَا ) حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ , وَهُوَ صَائِمٌ }(1/467)
وفي شرح السير (1): { قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَلْ ذَاكَ مُكَفِّرٌ عَنْهُ خَطَايَاهُ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : نَعَمْ . إذَا قُتِلَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ , إلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ , كَمَا زَعَمَ جِبْرِيلُ عليه السلام } .
__________
(1) = السير الكبير - (ج 1 / ص 24) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 29)(1/468)
فِيهِ بَيَانُ عُلُوِّ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَالشَّهَادَةِ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ [ الشَّهَادَةَ ] سَبَبًا لِتَمْحِيصِ الْخَطَايَا . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَوَّلُ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ تُغْفَرُ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ , وَبِالْقَطْرَةِ الثَّانِيَةِ يُكْسَى حُلَّةَ الْكَرَامَةِ , وَبِالْقَطْرَةِ الثَّالِثَةِ يُزَوَّجُ الْحُورَ الْعِينَ } . وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ إلَّا الدَّيْنَ } وَمِنْ عُلُوِّ حَالِ الشُّهَدَاءِ مَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يَوْمَ أُحُدٍ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ أَرْوَاحَ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ إخْوَانِكُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ , وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا , ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ . فَلَمَّا أَصَابُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ قَالُوا : ( 19 أ ) لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِدُّونَ فِي الْجِهَادِ . فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي مُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ } . وَهُوَ تَأْوِيلُ قوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } . ثُمَّ هَذِهِ الدَّرَجَةُ لِلشَّهِيدِ إذَا كَانَ رَاغِبًا فِيهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا مُقْبِلًا . ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ شِدَّةِ الْأَمْرِ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ . فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِلشَّهِيدِ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالدَّيْنِ , وَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ فَإِنَّهُ قَالَ : { كَمَا زَعَمَ جِبْرِيلُ عليه السلام } لِيُعْلِمَ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ رِضَا الْخَصْمِ .(1/469)
وَقِيلَ : هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَنْ الِاسْتِدَانَةِ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ قَضَائِهِ . وَلِهَذَا كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ مَدْيُونٍ لَمْ يَخْلُفْ مَا لَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ , ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه السلام : { مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ , وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَهُوَ عَلَيَّ } . وَقَدْ وَرَدَ نَظِيرُ هَذَا فِي الْحَجِّ , { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام دَعَا لِأُمَّتِهِ بِعَرَفَاتٍ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا الْمَظَالِمَ فِيمَا بَيْنَهُمْ . ثُمَّ دَعَا بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ , فَاسْتُجِيبَ لَهُ حَتَّى الْمَظَالِمَ . وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْ بَعْضِهِمْ حَقَّ بَعْضٍ } . فَلَا يَبْعُدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ الْمَدْيُونِ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ دَخَلَ فِيهِ بَعْضُ الْيُسْرِ .(1/470)
17 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ عليه السلام فَقَالَ : رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَهُوَ يُرِيدُ عَرَضَ الدُّنْيَا . فَقَالَ عليه السلام : لَا أَجْرَ لَهُ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ , فَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ لَعَلَّكَ لَمْ تُفْقِهْهُ , أَيْ لَمْ تُفْهِمْهُ . فَقَالَ : رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا . فَقَالَ : لَا أَجْرَ لَهُ ثُمَّ أَعَادَ ثَالِثًا , فَقَالَ : لَا أَجْرَ لَهُ } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلسَّائِلِ أَنْ يُكَرِّرَ السُّؤَالَ , وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ أَنْ يَضْجَرَ مِنْ ذَلِكَ , فَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَكْرَارَ السُّؤَالِ , وَالصَّحَابَةُ أَمَرُوهُ بِالْإِعَادَةِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَظِّمِينَ لَهُ , وَكَانُوا لَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا فِي تَرْكِ تَعْظِيمِهِ , فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي إعَادَةِ السُّؤَالِ تَرْكُ التَّعْظِيمِ . ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَرَى الْخَارِجُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْجِهَادَ وَمُرَادُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إصَابَةُ الْمَالِ . فَهَذَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , وَهَذَا لَا أَجْرَ لَهُ . أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ وَيَكُونُ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ تَحْصِيلَ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا , لَا نَيْلَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ . وَفِي حَالِ مِثْلِهِ قَالَ عليه السلام : { وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . { وَقَالَ لِلَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَى(1/471)
الْجِهَادِ بِدِينَارَيْنِ : إنَّمَا لَك دِينَارَاكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } . فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ الْجِهَادَ وَهُوَ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( 19 ب ) : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ . فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَحْرُمُ ثَوَابُ الْحَجِّ فَهَاهُنَا لَا يَحْرُمُ ثَوَابُ الْجِهَادِ .(1/472)
18 - وَقَالَ : وَعَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ : أَتَيْت أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه فَقُلْت : رَجُلٌ أَوْصَى إلَيَّ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ وَصِيَّتَهُ حَيْثُ تَأْمُرُنِي . فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَكُنْت أَضَعُهَا فِي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَضَعَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَإِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي إذَا شَبِعَ . فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ صَحِيحَةٌ بِأَنْ تَقُولَ لِلْوَصِيِّ : ضَعْ ثُلُثَ مَالِي حَيْثُ أَحْبَبْت أَوْ حَيْثُ أَحَبَّهُ فُلَانٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى فُقَرَاءِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ . لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْجِهَادَ بِالْمَالِ , وَإِيصَالَ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ بِقُوَّتِهِ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَنَالُ هَذَا الْمُوصِي [ مِنْ الثَّوَابِ ] مَا كَانَ يَنَالُهُ إنْ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ . لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يُنْفِقُ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى : مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ , وَقَدْ زَالَتْ حَاجَتُهُ بِمَوْتِهِ . فَهُوَ كَاَلَّذِي يُهْدِي إذَا شَبِعَ . وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عليه السلام : { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ , تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ , لَا حَتَّى إذَا بَلَغْت هَذِهِ - وَأَشَارَ إلَى التَّرَاقِي - قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا . لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ } .(1/473)
19 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ أَوْ لَمْ يُعِنْ مُجَاهِدًا أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ , أَصَابَتْهُ قَارِعَةٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْقَارِعَةُ هِيَ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُهَا الْمَرْءُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } الْآيَةَ . وَفِي هَذَا بَيَانُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ , وَنَيْلِ الثَّوَابِ بِالْإِعَانَةِ لِلْمُجَاهِدِ , وَعِظَمِ وِزْرِ مَنْ خَانَ الْمُجَاهِدَ فِي أَهْلِهِ . وَكَأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَةَ يَعْنِي تَرْكَ الْجِهَادِ , وَتَرْكَ إعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ , وَالْخِيَانَةَ لِلْمُجَاهِدِ فِي أَهْلِهِ , وَلَا تَجْتَمِعُ إلَّا فِي مُنَافِقٍ . وَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ لَائِقٌ بِحَقِّ الْمُنَافِقِينَ .(1/474)
20 - قَالَ : وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ رضي الله عنه قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ رَبُّكُمْ : مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي فَأَنَا عَلَيْهِ ضَامِنٌ أَوْ هُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ , إنْ قَبَضْتُهُ أَدْخَلْته الْجَنَّةَ , وَإِنْ رَجَعْتُهُ رَجَعْته بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } . وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا , وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ . وَلَفْظُ الضَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْمَوْعُودِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ , وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ ( 20 آ ) تَعَالَى ضَمَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ , فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّوَسُّعِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ , فَيُقَالُ : إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ , أَوْ يُقَالُ : رِزْقُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ وَعَدَ لَهُمْ ذَلِكَ , وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .(1/475)
21 - قَالَ : وَذَكَر عَنْ الْحَسَنِ , قَالَ : { أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : ضَعُفْت عَنْ الْجِهَادِ , وَلِي مَالٌ , فَمُرْنِي بِعَمَلٍ إذَا عَمِلْته كُنْت بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ . قَالَ : مُرْ بِالْمَعْرُوفِ , وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَأَعِنْ الضَّعِيفَ , وَأَرْشِدْ الْأَخْرَقَ , فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ كُنْت بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ } . فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عُلُوِّ دَرَجَةِ الْمُرَابِطِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنْ يُرْشِدَهُ إلَى مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُرَابِطِ فِي الثَّوَابِ . وَقَدْ أَرْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إلَى ذَلِكَ فِيمَا قَالَ , لِأَنَّ الْجِهَادَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الشِّرْكُ , وَإِعَانَةُ الضَّعِيفِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ , وَإِرْشَادُ الْأَخْرَقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُ . فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ .(1/476)
22 - قَالَ : وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيَنِ , وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ , وَكَرِهْتُمْ الْجِهَادَ , ذَلَلْتُمْ حَتَّى يَطْمَعَ فِيكُمْ عَدُوُّكُمْ . الْعِيَنُ جَمْعُ عِينَةٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ أَحْدَثَهُ الْبُخَلَاءُ مِنْ أَكَلَةِ الرِّبَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مَحْضِ الرِّبَا . وَقَدْ بَيَّنَّا صُورَتَهُ فِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْبُخْلِ وَتَرْكَ الِانْتِدَابِ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ مِنْ إقْرَاضِ الْمُحْتَاجِ . وَقَوْلُهُ : " وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ " , أَيْ اشْتَغَلْتُمْ بِالزِّرَاعَةِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ أَصْلًا . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِطَمَعِ الْعَدُوِّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَرَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ فَيَذِلُّونَ بِذَلِكَ .
23 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ ضَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ : { أَعْظَمُ الْقَوْمِ أَجْرًا خَادِمُهُمْ } . وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَتَعَهُّدِ دَوَابِّهِمْ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ اسْتِحْقَاقِ صِفَةِ السِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا . قَالَ عليه السلام : { سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ } . هَذَا لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِلْجِهَادِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَطْبُخُ وَيَرْبِطُ دَابَّتُهُ , فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ فَيَتَقَاعَدَ عَنْ الْجِهَادِ , فَكَانَ الْخَادِمُ سَبَبًا لِلْجِهَادِ .(1/477)
24 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : أَرَدْت الْجِهَادَ فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ بِرِكَابِي . فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَتَكْرَهُ لِي الْأَجْرَ ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنْ خَادِمَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ .
25 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ , عَنْ تُبَيْعٍ وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ كَعْبٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ : إذَا ( 20 ب ) وَضَعَ الرَّجُلُ رِجْلَهُ فِي السَّفِينَةِ خَرَجَ مِنْ خَطَايَاهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ . الْمَائِدُ فِيهِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَالْغَرِيقُ فِيهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدَيْنِ , وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالْمَلِكِ عَلَى رَأْسَهُ التَّاجُ . قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله : وَبِهِ نَأْخُذُ , فَنَقُولُ : لَا بَأْسَ بِغَزْوِ الْبَحْرَ وَهُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ غَيْرِهِ . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ مُرَادَ كَعْبٍ إذَا رَكِبَ السَّفِينَةَ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ . وَمَا يَقُولُهُ كَعْبٌ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَهُ مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ فِي شَرِيعَتِنَا , أَوْ يَقُولَهُ سَمَاعًا مِمَّنْ رُوِيَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ ثُمَّ ] رُكُوبُ السَّفِينَةِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ إنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ وَأَخْوَفُ , وَفِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ . فَيَنَالُ بِهِ دَرَجَةَ الشَّهِيدِ فِي تَمْحِيصِ الْخَطَايَا . وَقَوْلُهُ : " الْمَائِدُ فِيهِ " يَعْنِي الْمَائِلُ لِمِيلِ السَّفِينَةِ عَنْ تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ , فَهَذَا كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ بَعْدَ مَا اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , لِأَنَّهُ مُعَايِنٌ سَبَبَ الْهَلَاكِ , آيِسٌ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى(1/478)
هَذِهِ الْحَالَةِ . وَالْغَرِيقُ فِيهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدَيْنِ . لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ : حِينَ رَكِبَ السَّفِينَةَ وَحِينَ غَرِقَتْ , وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ . وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالْمَلِكِ عَلَى رَأْسَهُ التَّاجُ : يَعْنِي إذَا لَمْ يَنْدَمْ عَلَى مَا صَنَعَ مَعَ مَا عَايَنَ مِنْ سَبَبِ الْغَرَقِ , فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَالْمَلِكِ , وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْمَلِكِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَنَالُ بَعْضَ شَهَوَاتِهِ وَالشَّهِيدَ فِي الْجَنَّةِ يَنَالُ كُلَّ شَهَوَاتِهِ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } . وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رُكُوبِ السَّفِينَةِ لِلْجِهَادِ ثَبَتَ جَوَازُ رُكُوبِهَا لِلْحَجِّ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى , لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَقْوَى . وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِرُكُوبِهَا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ , وَهُوَ لَا يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَلْزَمُهُ فِيمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمَالِ .(1/479)
26 - قَالَ : وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا { عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ : غَزَوْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي وَلَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ - وَالصَّائِفَةُ اسْمٌ لِلْجَيْشِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي الصَّيْفِ , ثُمَّ يَغْزُونَ إذَا دَخَلَ الْخَرِيفُ وَطَابَ الْهَوَاءُ - قَالَ : فَنَزَلْنَا عَلَى حِصْنِ سِنَانٍ , فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ . فَقَالَ رَجُلٌ : إنِّي غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ كَذَا . فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا فِي النَّاسِ : أَلَا مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ } . مَعْنَى تَضْيِيقِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ نُزُولِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ الْمَرْبِطُ وَالْمَطْبَخُ وَمَوْضِعُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ , لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِمَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ عَلَى مَا قَالَ عليه السلام : { مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } . فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا بِمَا حَوْلَهُ مِنْ مَوَاضِعِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرِيمًا لِمَنْزِلِهِ , وَكَمَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَرَافِقَ مَنْزِلِهِ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ . وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْمَمَرِّ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَارَّةُ ( 21 آ ) . ثُمَّ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزَّجْرِ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فِي الْوَعِيدِ مَا قَالَ إنَّهُ لَا(1/480)
جِهَادَ لَهُ . أَيْ لَا يَنَالُ مِنْ ثَوَابِ الْمُجَاهِدِينَ مَا يَنَالُهُ مَنْ يَتَحَرَّز عَنْ ذَلِكَ , وَهَذَا لِأَنَّ الْجِهَادَ شَرْعٌ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا الْحَالُ مُؤْذٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ .
27 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْكُلَاعِيِّينَ , اسْمُ قَبِيلَةٍ , مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : إيَّاكُمْ وَهَذِهِ السَّرَايَا , فَإِنَّهُمْ يَجْبُنُونَ وَيَغُلُّونَ . وَعَلَيْكُمْ بِفُسْطَاطِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ . السَّرِيَّةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ يَدْخُلُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ , سُمُّوا سَرِيَّةً لِأَنَّهُمْ يَسْرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ . فَكُرِهَ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ فِي الْجِهَادِ , وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَجْبُنُونَ فَيَفِرُّونَ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ , وَيَغُلُّونَ إذَا أَصَابُوا شَيْئًا , لِأَنَّهُمْ لَا يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِ أَمِيرِ مُطَاعٍ فِيهِمْ . وَهَذَا مَرْوًى { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَنْزِلَنَّ فِي الْخَيْلِ النَّفَلُ , يُرْوَى مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا , فَإِنَّهُمْ إنْ يَغْنَمُوا يَغُلُّوا وَإِنْ يُقَاتِلُوا يَفِرُّوا } . وَالْمُرَادُ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُتَلَصِّصِينَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْأَمِيرِ . سَمَّاهُمْ نَفْلًا ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ النَّفَلُ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ , أَوْ لِأَنَّهُمْ يَتَنَفَّلُونَ فِي الْخُرُوجِ , فَإِنَّ الْخُرُوجَ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ بِأَمْرِ الْإِمَامِ . وَأَمَّا الْفُسْطَاطُ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ . سُمِّيَ فُسْطَاطًا وَعَسْكَرًا لِكَثْرَةِ مَا يَسْتَصْحِبُونَهُ مِنْ الْفَسَاطِيطِ . وَفِيهِ(1/481)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يَخْتَارَ الْخُرُوجَ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا مَعَ أَصْحَابِ السَّرَايَا , لِقَوْلِهِ عليه السلام : { يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ } . 28 - وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ وَبَيَانِ دَرَجَةِ الْخَارِجِ لِلْمُبَارِزَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ .(1/482)
29 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنْ أُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا , فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا , فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا } . كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ : أَشْهَدُ لِلَّهِ أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثًا . أَشْهَدُ لِلَّهِ , أَيْ بِاَللَّهِ فِيهِ بَيَانُ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ , وَتَمَنَّى تَكْرَارَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الدَّرَجَاتِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ فَيَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إلَى الدُّنْيَا . وَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا إلَّا الشَّهِيدَ } فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ لِيَسْتَشْهِد ثَانِيًا مِنْ عِظَمِ مَا يَنَالُ مِنْ الدَّرَجَةِ . < وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : { رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهْتَمًّا فَقَالَ : ( 21 ب ) مَا لَكَ ؟ فَقُلْت : اُسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا . فَقَالَ : أَلَا أُبَشِّرُك يَا جَابِرُ , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ أَبَاك كِفَاحًا . أَيْ شِفَاهًا فَقَالَ : تَمَنَّ يَا عَبْدَ اللَّهِ . فَقَالَ : أَتَمَنَّى أَنْ أَحْيَا لِأُقَاتِلَ فِي سَبِيلِك ثَانِيًا فَأُقْتَلَ . فَقَالَ : قَدْ سَبَقَ مِنِّي الْقَضَاءُ بِأَنَّهُمْ إلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ . وَلَكِنِّي أُبَلِّغُك الدَّرَجَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَتَمَنَّى مَا تَتَمَنَّى } .(1/483)
30 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ رحمه الله { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا وَفِيهِمْ ابْنُ رَوَاحَةَ . فَغَدَا الْجَيْشُ وَأَقَامَ ابْنُ رَوَاحَةَ لِيَشْهَدَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ رَآهُ فَقَالَ : يَا ابْنَ رَوَاحَةَ أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجَيْشِ ؟ قَالَ : بَلَى . وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَنْ أَشْهَدَ مَعَك الصَّلَاةَ . وَقَدْ عَلِمْت مَنْزِلَهُمْ فَأَرُوحُ فَأُدْرِكُهُمْ . فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْت فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ } . وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّبْكِيرِ لِلْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ , وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ فِي حَقِّ ابْنِ رَوَاحَةَ مَا قَالَ , مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ أَفْضَلُ . وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } . فَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا .(1/484)
31 - وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَخْطُبُ فَقَالَ : يَا خَيْرَ النَّاسِ فَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ رضي الله عنه ذَلِكَ . فَقَالَ : مَا تَقُولُ ؟ فَقَالُوا لَهُ : يَقُولُ : يَا خَيْرَ النَّاسِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَدْنُ إلَيَّ , لَسْتُ بِخَيْرِ النَّاسِ . أَلَا أُنَبِّئُك بِخَيْرِ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ صَاحِبُ صِرْمَةِ إبِلٍ أَوْ غَنَمٍ , قَدِمَ بِإِبِلِهِ أَوْ غَنَمِهِ إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَبَاعَهَا ثُمَّ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَكَانَ مَسْلَحَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ . فَذَاكَ خَيْرُ النَّاسِ . وَالصِّرْمَةُ هِيَ الْقِطْعَةُ . وَالْمَسْلَحَةُ هِيَ الثَّغْرُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ السِّلَاحُ أَوْ مَنْ يَحْمِلُ السِّلَاحَ , وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي يَحْمِلُ السِّلَاحَ بَيْنَ يَدَيْ السُّلْطَانِ : مَسْلَحَةً . وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ : " لَسْت بِخَيْرِ النَّاسِ , إظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ , فَقَدْ كَانَ هُوَ خَيْرَ النَّاسِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه . وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَالِ خِلَافَتِهِ : أَقِيلُونِي فَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ . وَقَدْ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَإِنَّمَا جَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه صَاحِبَ الصِّرْمَةِ خَيْرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ نَفَعَ النَّاسَ . وَقَدْ قَالَ عليه السلام : { خَيْرُ(1/485)
النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ ( 22 آ ) فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا } . ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ , وَإِنِّي أَجْفُو عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْعِلْمِ , فَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك رَسُولُ اللَّهِ : فَقَالَ عُمَرُ : أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : عَلَيْك بِالْعَلَانِيَةِ وَإِيَّاكَ وَالسِّرَّ . عَلَيْك بِكُلِّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك لَمْ يَفْضَحْك , وَإِيَّاكَ وَكُلَّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك شَانَكَ وَفَضَحَك . قَوْلُهُ : " أَجْفُو عَنْ أَشْيَاءَ ; أَيْ أَجْهَلُ - وَلِهَذَا سُمِّيَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالْمَفَاوِزَ أَهْلَ الْجَفَاءِ ; لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ . فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِمَّا ذَكَرَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَلَيْسَ بِجَاهِلٍ ] . فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ قوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ } وَالْمُرَادُ الْمُومِنُونَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " عَلَيْك بِالْعَلَانِيَةِ " , أَيْ بِسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ , وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ , وَالتَّجَنُّبِ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام : { عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ } . وَالسِّرُّ : مَا لَا يَعْرِفُهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَلَيْك فِي الصُّحْبَةِ مَعَ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْعَلَانِيَةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَك مِنْ حَالِهِمْ ,(1/486)
وَعَلَيْك فِي مُعَامَلَةِ نَفْسِك بِكُلِّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك لَمْ يُشِنْكَ , يَعْنِي لَا تَكُونُ سَرِيرَتُك مُخَالِفَةً لِعَلَانِيَتِك , وَمَا كُنْت تَمْتَنِعُ مِنْهُ إذَا كُنْت مَعَ النَّاسِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ فَامْتَنَعَ مِنْهُ إذْ خَلَوْت اسْتِحْيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى . وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ شَانَهُ اللَّهُ وَفَضَحَهُ .
32 - خَتَمَ مُحَمَّدٌ رحمه الله الْبَابَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ شَهِيدًا } . يَعْنِي لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مَا لِلشَّهِيدِ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى , صَابِرًا عَلَى الْمُرَابَطَةِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ . وَاَللَّهُ الْمُعِينُ .
15 - بَابُ مَنْ قَاتَلَ فَأَصَابَ نَفْسَهُ (1)
__________
(1) - السير الكبير - (ج 1 / ص 102) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 112)(1/487)
95 - وَذَكَرَ عَنْ مَكْحُولٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ لِيَضْرِبَهُ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ رِجْلَهُ فَنَزَفَ حَتَّى مَاتَ . فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَصْحَابُهُ رضي الله عنهم : أَشَهِيدٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ } . وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَهِيدٌ فِيمَا تَنَاوَلَ مِنْ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ . فَأَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذَا فِي الدُّنْيَا يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , لِأَنَّ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ مَنْ يَصِيرُ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ . وَهَذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَصَدَ الْعَدُوَّ لَا نَفْسَهُ , فَيَكُونُ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ , وَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ فِي الدُّنْيَا . وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ , وَالنُّفَسَاءُ شَهِيدٌ , وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَمُوتُ بِجُمْعٍ لَمْ تُطْمَثْ شَهِيدٌ } . يَعْنِي فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , ثُمَّ اخْتَلَفَتْ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِحَدِيدَةٍ أَنَّهُ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فِي حَقِّ الَّذِي أَخْطَأَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا نَفْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا , وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ(1/488)
مَوْضِعٍ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا , وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَمَاتَ فَهُوَ يَشْرَبُهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا } . قَالَ رضي الله عنه : وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَأَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ إنْ كَانَ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لقوله تعالى { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } . وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فِيمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ , لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } . قَالَ رضي الله عنه : وَسَمِعْت الْقَاضِيَ الْإِمَامَ ( 35 ب ) عَلِيًّا السُّغْدِيَّ يَقُولُ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , لَا لِأَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ , وَلَكِنْ لِأَنَّهُ بَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ , وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبَاغِي . 96 - وَذَكَرَ عَنْ { سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَنَّ عَامِرَ بْنَ سِنَانِ بْنَ الْأَكْوَعِ حَبِطَ عَمَلُهُ , وَكَانَ ضَرَبَ يَهُودِيًّا فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَرَجَعَ السَّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَعَقَرَهُ فَمَاتَ مِنْهَا . فَقَالَ : كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ . إنَّهُ جَاهِدٌ مُجَاهِدٌ وَإِنَّهُ لَيَعُومُ فِي الْجَنَّةِ عَوْمَ الدُّعْمُوصِ } . وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ مَعْذُورٌ فِيمَا أُصِيبَ بِهِ , مُثَابٌ عَلَى مَا صَنَعَ . فَإِنَّهُ جَاهِدٌ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ مُبَالِغٌ فِي ذَلِكَ , مُصَابٌ حِينَ رَجَعَ إلَيْهِ السَّيْفُ فَعَقَرَهُ , وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ مَاتَ , فَهُوَ جَاهِدٌ صَابِرٌ , و : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى(1/489)
الله عليه وسلم : { إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ } .
97 - قَالَ : وَإِذَا الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ لَيْلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَرَى أَنَّ صَاحِبَتَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاقْتَتَلُوا فَأَجْلَوْا عَنْ قَتْلَى ثُمَّ عَلِمُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ السَّرِيَّتَيْنِ بَاشَرَتْ دَفْعًا مُبَاحًا , فَقَدْ قَصَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ إلَى الْأُخْرَى , وَإِنَّمَا قَتَلَتْهَا الْأُخْرَى دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ . وَذَلِكَ دَفْعٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً . 98 - وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجَتْ طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخَنْدَقِ لَيْلًا فَالْتَقَتَا تَحْتَ اللَّيْلِ وَلَا يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ , وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ الْعَدُوُّ . فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَاتٌ وَقَتْلَى . ثُمَّ تَنَادَوْا بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ . وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : جِرَاحَاتُكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ } .
99 - وَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ . فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا , ظَنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ , أَوْ رَمَى إلَى مُشْرِكٍ فَرَجَعَ السَّهْمُ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هَذَا صُورَةُ الْخَطَأِ . وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ .(1/490)
100 - وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رُوِيَ { أَنَّ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَتَلُوهُ . فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الدِّيَةَ , فَوَهَبَهَا لَهُمْ حُذَيْفَةُ } . وَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ الْمَقْتُولَ هَا هُنَا مَا كَانَ قَاصِدًا قَتْلَ صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ , وَكَانَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ بَاقِيَةً فِي نَفْسِهِ , فَيَجِبُ الدِّيَةُ صِيَانَةً لِدَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ . وَفِي الْأَوَّلِ الْمَقْتُولُ كَانَ قَاصِدًا إلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ , وَذَلِكَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ , فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِدَفْعِ مُبَاحٍ .
16 - بَابُ قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ(1/491)
101 - قَالَ : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَبْتَدِئُ بِهِ , إلَّا الْوَالِدَ خَاصَّةً , فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ وَالِدَهُ بِذَلِكَ , وَكَذَلِكَ جَدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ( 36 آ ) أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَإِنْ بَعُدَ , إلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ . لقوله تعالى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَالْمُرَادُ الْأَبَوَانِ إذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَإِنْ جَاهَدَاك } الْآيَةَ , وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْبِدَايَةُ بِالْقَتْلِ . وَأَمَّا إذَا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ , وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِنَفْسِهِ فِي الْإِحْسَانِ إلَيْهَا وَدَفْعِ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْهَا أَبْلَغَ جِهَاتِ الْإِحْسَانِ . ثُمَّ الْأَبُ كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِ الْوَلَدِ , فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ سَبَبَ إعْدَامِهِ بِالْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ , إلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ , فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَبُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ لِذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ , عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَلْجَأَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلْمُلْجِئِ . وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ الْأَبُ بِدَيْنِ الْوَلَدِ وَيُحْبَسُ بِنَفَقَتِهِ , لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ نَفَقَتَهُ فَقَدْ قَصَدَ إتْلَافَهُ . ثُمَّ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْكِتَابِ بِمَا رُوِيَ : 102 - { أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رضي الله عنهما اسْتَأْذَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ أَبَوَيْهِمَا فَنَهَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ } .(1/492)
وَعَنْ عُمَيْرٍ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَقِيت أَبِي فِي الْعَدُوِّ , فَسَمِعْت مِنْهُ مَقَالَةً لَك سَيِّئَةً فَقَتَلْته فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْئًا إذَا قَتَلَهُ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ . وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ . وَأَوَّلُ الْوُجُوهِ أَنْ لَا يَقْصِدَهُ بِالْقَتْلِ , وَلَا يُمَكِّنَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِي الصَّفِّ , وَلَكِنَّهُ يُلْجِئُهُ إلَى مَوْضِعٍ وَيَسْتَمْسِكُ بِهِ حَتَّى يَجِيءَ غَيْرُهُ فَيَقْتُلَهُ . رُوِيَ فِي الْكِتَابِ حَدِيثًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ : فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا . فَأَمَّا إبَاحَةُ قَتْلِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
17 - بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْقَتْلَى(1/493)
103 - رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمْ يَنْدُبُونَ قَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ . فَقَالَ : لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ . قَالَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَوَتْ : فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَدَبْنَا حَمْزَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ , حَتَّى سَمِعْنَا نَشِيجَهُ فِي الْبَيْتِ . فَأَرْسَلَ إلَيْنَا أَنْ قَدْ أَصَبْتُمْ , أَوْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ } . وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ حَمْزَةَ كَانَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَئِذٍ , لَكِنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بِالْمَدِينَةِ فَنَدَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ . وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي { أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رضي الله عنه لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ نِسَاءَ قَوْمِهِ , وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ , وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . فَجَاءَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى بَابِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْدُبُونَ حَمْزَةَ رضي الله عنه فَاسْتَأْنَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبُكَائِهِمْ ( 36 ب ) حَتَّى نَامَ } . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ جَرَى الرَّسْمُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ يَبْدَءُونَ بِالْبُكَاءِ لِحَمْزَةَ رضي الله عنه . وَالرِّجَالُ فِي تَعْزِيَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَقُولُونَ : مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ . 104 - ثُمَّ أَعَادَ الْحَدِيثَ بِطَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَزَادَ فِي آخِرِهِ : { فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ يَبْكِينَ . فَقَالَ : يَا وَيْحَهنَّ إنَّهُنَّ لَهَا هُنَا مُنْذُ الْيَوْمِ(1/494)
. فَلْيَرْجِعْنَ وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ } . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ : هَذِهِ رُخْصَةٌ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ , وَقَدْ انْتَسَخَتْ بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ . وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ قَدْ انْتَسَخَ وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ , عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { النَّائِحَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ مُسْتَمِعِيهَا عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَأَمَّا الْبُكَاءُ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا بَأْسَ بِهِ ; لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه : أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتنَا عَنْ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ , وَأَمَّا هَذِهِ رَحْمَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الرُّحَمَاءِ . الْعَيْنُ تَدْمَعُ , وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ , وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبُّ } . وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه { أَنَّهُ سَمِعَ امْرَأَةً وَهِيَ تَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَاهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : دَعْهَا يَا عُمَرُ , فَإِنَّ الْقَلْبَ حَزِينٌ , وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ , وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ } . وَلَكِنْ مَعَ هَذَا ; الصَّبْرُ أَفْضَلُ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } .(1/495)
18 - بَابُ حَمْلِ الرُّءُوسِ إلَى الْوُلَاةِ (1)
105 - وَذَكَرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِرَأْسِ يَنَاقَ الْبِطْرِيقِ . فَأَنْكَرَ ذَلِكَ . فَقِيلَ لَهُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا . قَالَ فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسٍ وَالرُّومِ ؟ لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ , إنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُمْ : لَقَدْ بَغَيْتُمْ . أَيْ تَجَاوَزْتُمْ الْحَدَّ . وَفِي رِوَايَةٍ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ : لَا تَبْعَثُوا إلَيَّ بِرَأْسٍ , وَلَكِنْ يَكْفِينِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ . فَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ , وَقَالَ : لَا يَحِلُّ حَمْلُ الرُّءُوسِ إلَى الْوُلَاةِ لِأَنَّهَا جِيفَةٌ . فَالسَّبِيلُ دَفْنُهَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى , وَلِأَنَّ إبَانَةَ الرَّأْسِ مُثْلَةٌ , { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } . وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ . وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رحمهم الله عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَبْتٌ وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْ فَرَاغُ قَلْبٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ قُوَّادِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عُظَمَاءِ الْمُبَارِزِينَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . أَلَا تَرَى { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَقَالَ : هَذَا
__________
(1) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 37) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 120)(1/496)
رَأْسُ عَدُوِّك أَبِي جَهْلٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي . وَكَانَ شَرُّهُ ( 37 آ ) عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي أَعْظَمَ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى وَأُمَّتِهِ } . وَمَا مَنَعَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ . 106 - وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ رحمه الله قَالَ : { لَمْ يُحْمَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسٌ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ } . وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَنْكَرَهُ . وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه . { وَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَضَرَبْت عُنُقَهُ وَأَخَذْت بِرَأْسِهِ فَصَعِدْت إلَى جَبَلٍ فَاخْتَبَأْت فِيهِ . حَتَّى إذَا رَجَعَ الطَّلَبُ وُجِّهْت بِرَأْسِهِ حَتَّى جِئْت بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم } . { وَحِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ , جَاءَ بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ } , فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
40 - بَابُ الشَّهِيدِ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ (1)
__________
(1) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 75) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 238) و السير الكبير - (ج 1 / ص 230)(1/497)
291 - قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله : الشَّهِيدُ إذَا قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ لَمْ يُغَسَّلْ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ . وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله سَلَكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِلتَّرْجِيحِ طَرِيقًا سِوَى مَا ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ ( 61 آ ) , وَهُوَ أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْحِجَازِ , فَرَجَحَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ وَأَخَذَ بِهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ . وَهَذَا خِلَافُ مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الظَّاهِرُ لِأَصْحَابِنَا فِي التَّرْجِيحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ . وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ قوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ , وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِينَ } . وَوَجْهُ مَا اعْتَبَرَهُ هَاهُنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اشْتِبَاهِ الْأَثَرِ فِيمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَغَازِي وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا . فَتُهْمَةُ الْغَلَطِ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ يَكُونُ أَظْهَرُ مِنْ تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . 292 - فَإِنَّ جَابِرًا رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ } . وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَرْوُونَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ . حَتَّى رَوَوْا { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى(1/498)
حَمْزَةَ رضي الله عنه سَبْعِينَ صَلَاةً , كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا أَتَى رَجُلٌ صَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى حَمْزَةَ مَعَهُ } . وَكَانَ جَابِرٌ رضي الله عنه يَوْمَئِذٍ قُتِلَ أَبُوهُ وَخَالُهُ . فَكَانَ مَشْغُولًا بِهِمَا , لَمْ يَشْهَدْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الشُّهَدَاءِ , عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ حَمَلَهُمَا إلَى الْمَدِينَةِ { فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَضَاجِعِهِمْ } . فَرَدَّهُمَا . وَلَا شَكَّ أَنَّ تَوَهُّمَ الْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ أَظْهَرُ . 293 - ثُمَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ , وَالشَّهِيدُ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ , وَنَحْنُ نَقُولُ : الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَرَامَةً لَهُ , وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ . وَلَا إشْكَالَ أَنَّ دَرَجَةَ الشَّهِيدِ دُونَ دَرَجَةِ مَنْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ , وَالنَّاسُ يَقُولُونَ : وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ فِي الصَّلَاةِ , فَعَلِمَنَا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الشَّهِيدُ دَرَجَةً يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ اسْتِغْفَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ لَهُ . وَمَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ إنَّ الشَّهِيدَ حَيٌّ بِالنَّصِّ وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْحَيِّ فَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا , لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَيِّتٌ فِي حَقِّنَا , يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ , وَيَجُوزُ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ(1/499)
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ مَا عَلَيْهِ شَاهِدًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . 294 - قَالَ عليه السلام فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ : { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا , اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } . وَلِهَذَا لَا يُنْزَعُ عَنْهُ جَمِيعُ ثِيَابِهِ , عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي الله عنه كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ , وَلَكِنْ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ لِأَنَّهُ كَانَ لَبِسَهُ لِدَفْعِ الْبَأْسِ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ . وَلِأَنَّ دَفْنَ الْقَتْلَى ( 61 ب ) مَعَ الْأَسْلِحَةِ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَا لُبِسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْمِنْطَقَةِ وَالْخَاتَمِ وَالْخُفِّ . هَكَذَا ذُكِرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ . وَلِأَهْلِهِ أَنْ يَزِيدُوا فِي أَكْفَانِهِ مَا أَحَبُّوا . وَبِهَذَا اللَّفْظِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ بِثَوْبَيْنِ فِي كَفَنِ الرِّجَالِ غَيْرُ لَازِمٍ . 295 - وَإِنْ صَارَ مُرْتَثًّا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلَكِنْ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ . وَالْمُرْتَثُّ مَنْ يَصِيرُ خَلَقًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ , مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ . 296 - فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ . لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ .(1/500)
فَأَمَّا إذَا جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنِ صَفَّيْنِ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ . لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مَصْرَعِهِ لَمْ يَكُنْ لِإِيصَالِ الرَّاحَةِ إلَيْهِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ بِذَلِكَ . 297 - قَالَ : وَذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ قَالَ : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا إلَّا الْخُفَّيْنِ , وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا , وَارْمُسُونِي فِي الْأَرْضِ رَمْسًا , فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَنِي . فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْزَعُ عَنْ الشَّهِيدِ مِنْ ثِيَابِهِ إلَّا مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ , وَأَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ شَاهِدًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . 298 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ بِالْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ : إنَّا لَاقُونَ غَدًا فَمُسْتَشْهِدُونَ . فَلَا تَغْسِلُوا عَنَّا دَمًا , وَلَا تُكَفِّنُونَا فِي ثَوْبٍ إلَّا مَا عَلَيْنَا . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا , وَكَأَنَّهُ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا يَرْجِعُ إلَى الزِّينَةِ فِي كَفَنِهِ , لَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَحِلُّ . 299 - وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ : أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ . ثُمَّ قَالَ : أَيُّ هَؤُلَاءِ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ . وَكَانَ يَدْفِنُ فِي الْقَبْرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ } . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِدَفْنِ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ . {(2/1)
فَالْأَنْصَارُ يَوْمَئِذٍ أَصَابَهُمْ قَرْحٌ وَجَهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : إنَّ الْحَفْرَ عَلَيْنَا لِكُلِّ إنْسَانٍ شَدِيدٍ . فَقَالَ : أَعْمِقُوا وَأَوْسِعُوا وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ } . 300 - وَلَكِنْ يَنْبَغِي عِنْدَ الْحَاجَةِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَيِّتَيْنِ حَاجِزًا مِنْ التُّرَابِ كَيْ يَصِيرَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا بَأْسَ بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ , عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ , وَيُقَدَّمُ إلَى جَانِبِ الْقِبْلَةِ أَفْضَلُهُمَا وَهُوَ الرَّجُلُ . فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَ أَفْضَلُهُمَا أَيْضًا عَلَى مَا قَالَ عليه السلام : { قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ } . فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ كَانَ أَفْضَلُهُمْ يَوْمَئِذٍ . لِأَنَّهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ بِأَحْكَامِهِ . 301 - ثُمَّ رُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ { أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَادَى يَوْمَئِذٍ : ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَضَاجِعِهِمْ } وَهَذَا حَسَنٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَرِهَ الْمَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْلِ مَعَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَرْحِ . 302 - وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : اُسْتُعْمِلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جَيْشٍ , فَكَرِهَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْخُرُوجَ مَعَهُ , ثُمَّ نَدِمَ نَدَامَةً شَدِيدَةً فَغَزَا مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ , فَحَضَرَ , فَأَتَاهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَعُودُهُ فَقَالَ : أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . إذَا أَنَا مِتُّ فَاغْسِلُونِي وَكَفِّنُونِي ثُمَّ احْمِلُونِي حَتَّى(2/2)
تَأْتُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ تَأْمُرُهُمْ فَيَدْفِنُونِي . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَحَبَّهُ إمَّا لِيَكُونَ أَقْرَبَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَيَنَالَ ثَوَابَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا , أَوْ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الشُّهْرَةِ بِكَثْرَةِ الزِّيَارَةِ . فَقَدْ قَالَ عليه السلام : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَعْبَدًا } . وَقَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ وَدَفَنُوهُ لَيْلًا , فَصَعِدَ مِنْ قَبْرِهِ نُورٌ إلَى السَّمَاءِ , وَرَأَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . فَجَاءَ رَسُولُهُمْ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ : مَنْ كَانَ هَذَا الْمَيِّتُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : صَاحِبٌ لِنَبِيِّنَا . فَأَسْلَمُوا لَمَّا رَأَوْا .(2/3)
303 - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشِيِّ فَنُقِلَ مِنْهُ وَدُفِنَ بِمَكَّةَ . فَجَاءَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها حَاجَةً أَوْ مُعْتَمِرَةً فَزَارَتْ قَبْرَهُ وَقَالَتْ : وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا أَنَا وَاَللَّهِ لَوْ شَهِدْتُك مَا زُرْتُك , وَلَوْ شَهِدْتُك مَا دَفَنْتُك إلَّا فِي مَكَانِك الَّذِي مِتَّ فِيهِ . وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَيْهِ حِينَ مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ , وَلِإِظْهَارِ عُذْرِهَا فِي زِيَارَتِهِ . فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه السلام : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } يَمْنَعُ النِّسَاءَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَالْحَدِيث وَإِنْ كَانَ مُؤَوَّلًا فَلِحِكْمَةٍ ظَاهِرَةٍ قَالَتْ مَا قَالَتْ . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُدْفَنَ الْقَتِيلُ وَالْمَيِّتُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فِي مَقَابِرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها دُفِنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؟ 304 - قَالَ : وَلَوْ نُقِلَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ . وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ النَّقْلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدِ مَكْرُوهٌ , لِأَنَّهُ قَدْرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي لَا يُكْرَهُ النَّقْلُ فِيهَا بِمِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ . وَهَذَا لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ ( 62 ب ) فَالْأَرْضُ كُلُّهَا كِفَاتٌ لِلْمَيِّتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } . إلَّا أَنَّ(2/4)
الْحَيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ , وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ إلَّا تَأْخِيرُ دَفْنِهِ أَيَّامًا كَانَ كَافِيًا فِي الْكَرَاهَةِ .
305 - وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إذَا وُجِدَ مَا يَلِي صَدْرَ الْقَتِيلِ إلَى رَأْسِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ . يَعْنِي إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُ الْبَدَنِ مَعَهُ الرَّأْسُ , وَبِهِ نَأْخُذُ . فَإِنَّهُ لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ . فَلَوْ صَلَّى عَلَى النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يُوجَدَ النِّصْفُ الْبَاقِي . وَهَذَا لَا يَكُونُ فِيمَا إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ . 306 - فَأَمَّا الْقَتِيلُ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَسَّلْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ غُسِّلَ . لِأَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ , إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ لِمَقْصُودٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ . فَمَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ وَجَبَ غُسْلُهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَوْتَى .(2/5)
307 - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ . ثُمَّ انْسَلَّ قِيَادُ فَرَسِهِ مِنْ يَدِهِ . فَمَضَى الْفَرَسُ عَلَى الْقِبْلَةِ وَتَبِعْهُ أَبُو بَرْزَةَ حَتَّى أَخَذَ بِقِيَادِ فَرَسِهِ . ثُمَّ رَجَعَ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : مَا لِهَذَا الشَّيْخِ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ فَانْصَرَفَ أَبُو بَرْزَةَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا الشَّاتِمُ لِي آنِفًا ؟ إنَّا صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْنَا مِنْ يُسْرِهِ . وَلَوْ كُنْت تَرَكْت فَرَسِي حَتَّى تَبَاعَدَ ثُمَّ طَلَبْته شَقَّ عَلَيَّ . فَقَالَ الْقَوْمُ لِلرَّجُلِ : مَا كَانَ يَنْتَهِي بِك خُبْثُك حَتَّى تَتَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسُبُّهُ . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَأْخُذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي الصَّلَاةِ . لِأَنَّهُ يَبْتَلِي بِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ سَائِسٌ . وَإِنْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ يَسِيرًا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَبَّرَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَكَعَ وَدَبَّ رَاكِعًا حَتَّى الْتَحَقَ بِالصَّفِّ . وَلَوْ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فِي مَشْيِهِ حَتَّى جَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ لَا لِمَشْيِهِ بَلْ لِتَفْوِيتِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ . وَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَعْظَمَ مَشْيَهُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْفَرَسِ فَنَالَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ , فَاسْتَعْظَمَ فِعْلَهُ . ثُمَّ بَيَّنَ أَبُو بَرْزَةَ أَنَّهُ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى(2/6)
الله عليه وسلم وَرَأَى مِنْ يُسْرِهِ , يُرِيدُ مِنْ تَيْسِيرِهِ عَلَى النَّاسِ فِعْلًا وَقَوْلًا عَلَى مَا قَالَ عليه السلام : { خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ } فَبَيَّنَ عُذْرَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِمُكَافَأَةِ مَنْ نَالَ مِنْهُ , فَفَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْمُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْهُ . وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَحْمُودُ فِي الْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ .
308 - قَالَ : وَلَا بَأْسَ لِلْغُزَاةِ ( 63 آ ) وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى دَوَابِّهِمْ حَيْثُ مَا كَانَتْ وُجُوهُهُمْ تَطَوُّعًا يُومُونَ إيمَاءً .(1)
وَهَذَا لِأَنَّ التَّطَوُّعَ مُسْتَدَامٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي النُّزُولِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ , فَذَلِكَ يُشْبِهُ الْعُذْرَ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ لَهُ إذَا أَرَادَ اسْتِدَامَةَ الصَّلَاةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما { قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ } , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَصْنَعُ ذَلِكَ أَيْضًا . وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ { رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ أَبْوَاءَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ . وَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إلَى خَيْبَرَ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا } . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
__________
(1) - السير الكبير - (ج 1 / ص 238) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 247)(2/7)
309 - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ لَا ثِيَابَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا وُحْدَانًا كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ يُومُونَ إيمَاءً . وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم . 310 - قَالَ : وَلَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً , فَإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً قَعَدَ الْإِمَامُ فِي وَسَطِ الصَّفِّ لِكَيْ لَا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ كَمَا هُوَ السُّنَّة فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ بِالْجَمَاعَةِ .
311 - ثُمَّ ذَكَرَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِعْلًا لَا وَقْتًا
, بِأَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ . هَكَذَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا إذَا جَهِدَ بِهِ السَّيْرُ . وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . 41
2897 - وَمَنْ قَتَلَ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ الْحَرِيرُ أَوْ الدِّيبَاجُ قَدْ كَانَ لَبِسَهُ لِلْقِتَالِ , عَلَى قَوْلِ مَنْ يُرَخِّصُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ
, وَلَا يُتْرَكَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي كَفَنِهِ . لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهِيدَ يُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ , وَلَكِنْ يُنْزَعُ السِّلَاحُ , وَهَذَا إنَّمَا لَبِسَهُ لِيَكُونَ سِلَاحًا لَهُ , فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي لُبْسِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السِّلَاحِ , فَكَمَا يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ بَعْدَ مَا يَسْتَشْهِدُ فَكَذَلِكَ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .(2/8)
148 - بَابُ مَا يَحِلُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (1)
. 2898 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُمْ بِأَيِّ وَجْهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْغَدْرِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُدَلِّسَ لَهُمْ الْعَيْبَ فِيمَا يَبِيعُهُ مِنْهُمْ , مِمَّا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يَجُوزُ . لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْغُرُورِ . وَلَا بَأْسَ لِلْأَسِيرِ وَالْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يُدَلِّسَ لَهُمْ الْعَيْبَ فِيمَا يَبِيعُهُ مِنْهُمْ . لِأَنَّ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ طِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ . 2899 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِيهِمْ بَاعَهُمْ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ إلَى سَنَةٍ , ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ أَوْ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَأَخَذَ الدَّرَاهِمَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ . لِأَنَّ حَالَهُمَا بَعْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ . 2900 - وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ فِي دَارِنَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ . لِأَنَّ أَصْلَ الْمُعَامَلَةِ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِنَا . وَاَلَّذِي خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يَلْتَزِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا , فَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً ثُمَّ اخْتَصَمَا أَبْطَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ الْبَيْعَ , وَأَمَرَ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ . لِأَنَّ إسْلَامَهُ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ,
__________
(1) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 470) وشرح السير الكبير - (ج 4 / ص 190)(2/9)
بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يَبِيعُ الْخَمْرَ لِلذِّمِّيِّ فِي دَارِنَا ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ . أَوْ الْمُسْلِمُ يَبِيعُ الْمُسْلِمَ عَصِيرًا فَيَتَخَمَّرُ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ يَجِبُ تَرْكُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . 2902 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْلِمُ مَا شَرَطَ لَهُ الْحَرْبِيُّ . لِأَنَّ الْبُقْعَةَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدِ الرِّبَا , فَيُجْعَلُ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ سَوَاءً بِخِلَافِ خُرُوجِهَا إلَى دَارِنَا فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ , بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ فِيهَا فَيَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ فِيمَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم , قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : أَلَا إنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ , وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ هُوَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } . وَإِنَّمَا بَدَأَ بِعَمِّهِ لِيُتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَامِرَهُ لَيْسَتْ عَلَى نَهْجِ أَوَامِرِ الْمُلُوكِ , فَإِنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ وَيُخَاطِبُونَ الْأَجَانِبَ , وَهُوَ بَدَأَ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ , وَهُوَ عَمُّهُ , فَمَنَعَهُ مِنْ قَبْضِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ , وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا قَبَضَهُ بِشَيْءٍ . 2903 - وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي(2/10)
وَقْتِ إسْلَامِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه , فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُخِذَ أَسِيرًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَسْلَمَ , ثُمَّ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ فَأَذِنَ لَهُ , فَكَانَ يُرْبِي بِمَكَّةَ إلَى زَمَنِ الْفَتْحِ . وَقَدْ نَزَلَتْ حُرْمَةُ الرِّبَا قَبْلَ ذَلِكَ . أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم , قَالَ لِلسَّعِيدَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ : أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا } . وقوله تعالى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } . نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ , وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبْطِلْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , يَوْمَ الْفَتْحِ شَيْئًا مِنْ مُعَامَلَاتِهِ , إلَّا مَا لَمْ يَتِمَّ بِالْقَبْضِ , فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنَّ الْبُقْعَةَ إذَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ .
وفي المغني :( 1628 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَالشَّهِيدُ إذَا مَاتَ فِي مَوْضِعِهِ , لَمْ يُغَسَّلْ , وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) (1)
__________
(1) - مختصر الخرقي - (ج 1 / ص 34) والمغني - (ج 5 / ص 11)(2/11)
يَعْنِي إذَا مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ , فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ , رِوَايَةً وَاحِدَةً , وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا , إلَّا عَنْ الْحَسَنِ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَا : يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ , مَا مَاتَ مَيِّتٌ إلَّا جُنُبًا . وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى . فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ , فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَإِسْحَاقَ . وَعَنْ أَحْمَدَ , رِوَايَةٌ أُخْرَى , أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ . اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ . وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ . إلَّا أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مُسْتَحَبَّةٌ , غَيْرُ وَاجِبَةٍ . قَالَ فِي مَوْضِعٍ : إنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ . وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ , قَالَ : يُصَلَّى , وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ , وَمَا تَضُرُّهُ الصَّلَاةُ , لَا بَأْسَ بِهِ . وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ , فَقَالَ : الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَجْوَدُ , وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَجْزَأَ . فَكَأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ , لَا فِي وُجُوبِهَا , إحْدَاهُمَا يُسْتَحَبُّ ; لِمَا رَوَى عُقْبَةُ , أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا , فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ , ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ } . وَلَنَا , مَا رَوَى جَابِرٌ , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ(2/12)
فِي دِمَائِهِمْ , وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ , وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ مَعَ إمْكَانِ غُسْلِهِ , فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ , كَسَائِرِ مَنْ لَمْ يُغَسَّلْ , وَحَدِيثُ عُقْبَةَ مَخْصُوصٌ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ , فَإِنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ , وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْقَبْرِ أَصْلًا , وَنَحْنُ لَا نُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ , وَهُوَ ضَعِيفٌ , وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ شُعْبَةُ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ . وَقَالَ : إنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ يُكَلِّمُنِي فِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمْ فِي الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ , وَكَيْفَ لَا أَتَكَلَّمُ فِيهِ وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ . إذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْغُسْلُ مِنْ إزَالَةِ أَثَرِ الْعِبَادَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ شَرْعًا , فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ , إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَاللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ , وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ . } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ : أَمَّا الْأَثَرَانِ , فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى . } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْحَدِيثِ , فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ(2/13)
ثَعْلَبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ , فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى , لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ , وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ . } رَوَاهُ النَّسَائِيّ . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ , إلَّا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا فِعْلَ لَهُ , فَأُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لِنُصَلِّيَ عَلَيْهِ , فَمَنْ لَمْ تَجِبْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ , كَالْحَيِّ . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي الْمَعْرَكَةِ يَكْثُرُونَ , فَيَشُقُّ غُسْلُهُمْ , وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ الْجِرَاحُ فَيَتَضَرَّرُونَ , فَعُفِيَ عَنْ غُسْلِهِمْ لِذَلِكَ . وَأَمَّا سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ , فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ كَوْنَهُمْ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ , وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمَوْتَى . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ لِغِنَاهُمْ عَنْ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ , فَإِنَّ الشَّهِيدَ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ , فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَفِيعٍ , وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلشَّفَاعَةِ .
( 1629 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا غُسِّلَ , وَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهَدَاءِ .(2/14)
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُغَسَّلُ ; لِعُمُومِ الْخَبَرِ . وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ . وَلَنَا , مَا رُوِيَ { أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَا شَأْنُ حَنْظَلَةَ ؟ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ . فَقَالُوا : إنَّهُ جَامَعَ , ثُمَّ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَخَرَجَ إلَى الْقِتَالِ . } رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ , فِي " الْمَغَازِي " . وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الْمَوْتِ , فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ . وَحَدِيثُهُمْ لَا عُمُومَ لَهُ , فَإِنَّهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ وَرَدَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ , وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ فِي حَنْظَلَةَ , وَهُوَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ , فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَمَنْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ , كَالْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ , ثُمَّ تُقْتَلُ , فَهِيَ كَالْجُنُبِ ; لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا . وَلَوْ قُتِلَتْ فِي حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا , لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ ; لِأَنَّ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطٌ فِي الْغُسْلِ , أَوْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ , فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ . فَأَمَّا إنْ أَسْلَمَ , ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ , فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَسْلَمَ يَوْمَ أُحُدٍ , ثُمَّ قُتِلَ , فَلَمْ يُؤْمَرْ بِغُسْلِهِ .
( 1630 ) فَصْلٌ : وَالْبَالِغُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ .(2/15)
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٌ , وَأَبُو ثَوْرٍ , وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ . وَلَنَا , أَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِهِمْ , أَشْبَهَ الْبَالِغَ , وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْبَالِغَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْغُسْلِ إذَا لَمْ يَقْتُلْهُ الْمُشْرِكُونَ , فَيُشْبِهُهُ فِي سُقُوطِ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّهَادَةِ , وَقَدْ كَانَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ , وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ , وَهُمَا صَغِيرَانِ , وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ . وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالنِّسَاءِ .
( 1631 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَدُفِنَ فِي ثِيَابِهِ , وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُلُودِ وَالسِّلَاحِ نُحِّيَ عَنْهُ )(2/16)
أَمَّا دَفْنُهُ بِثِيَابِهِ , فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا , وَهُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ , بِدِمَائِهِمْ . } وَلَيْسَ هَذَا بِحَتْمٍ , لَكِنَّهُ الْأَوْلَى . وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ , وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ ; لِظَاهِرِ الْخَبَرِ . وَلَنَا , مَا رُوِيَ , { أَنَّ صَفِيَّةَ أَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ ; لِيُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ , فَكَفَّنَهُ فِي أَحَدِهِمَا , وَكَفَّنَ فِي الْآخَرِ رَجُلًا آخَرَ . } رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ , وَقَالَ : هُوَ صَالِحُ الْإِسْنَادِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ . وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَإِنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ مِنْ لِبَاسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَامَّةِ لِبَاسِ النَّاسِ , مِنْ الْجُلُودِ وَالْفِرَاءِ وَالْحَدِيدِ . قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ فَرْوٌ , وَلَا خُفٌّ , وَلَا جِلْدٌ . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُنْزَعُ عَنْهُ فَرْوٌ وَلَا خُفٌّ وَلَا مَحْشُوٌّ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ . } وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكُلِّ , وَمَا رَوَيْنَاهُ أَخَصُّ , فَكَانَ أَوْلَى .
( 1632 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَإِنْ حُمِلَ وَبِهِ رَمَقٌ غُسِّلَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ )(2/17)
مَعْنَى قَوْلِهِ : " رَمَقٌ " أَيْ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ . فَهَذَا يُغَسَّلُ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { غَسَّلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ , وَصَلَّى عَلَيْهِ , وَكَانَ شَهِيدًا , رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِسَهْمٍ , فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ , فَحُمِلَ إلَى الْمَسْجِدِ , فَلَبِثَ فِيهِ أَيَّامًا , حَتَّى حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ , ثُمَّ انْفَتَحَ جُرْحُهُ فَمَاتَ . } وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ مَتَى طَالَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ حَمْلِهِ غُسِّلَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ , وَإِنْ مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ , أَوْ عَقِبَ حَمْلِهِ , لَمْ يُغَسَّلْ , وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , قَالَ : إنْ أَكَلَ , أَوْ شَرِبَ , أَوْ بَقِيَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً , غُسِّلَ . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ : إنْ تَكَلَّمَ , أَوْ أَكَلَ , أَوْ شَرِبَ , صُلِّيَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا . وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَجْرُوحِ إذَا بَقِيَ فِي الْمُعْتَرَكِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ , ثُمَّ مَاتَ , فَرَأَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ مَاتَ حَالَ الْحَرْبِ , لَمْ يُغَسَّلْ , وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَلَا . وَالصَّحِيحُ : التَّحْدِيدُ بِطُولِ الْفَصْلِ , أَوْ الْأَكْلِ ; لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ , وَطُولُ الْفَصْلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِع . وَأَمَّا الْكَلَامُ وَالشُّرْبُ , وَحَالَةُ الْحَرْبِ , فَلَا يَصِحُّ التَّحْدِيدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ يُرْوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ(2/18)
أُحُدٍ : مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا , بِهِ رَمَقٌ , فَقَالَ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ ؟ قَالَ : فَأَنَا فِي الْأَمْوَاتِ , فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِّي السَّلَامَ . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ , قَالَ : ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ أَنْ مَاتَ . } وَرُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وُجِدَ صَرِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ , فَقِيلَ لَهُ : مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ : أَسْلَمْت , ثُمَّ جِئْت . وَهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ , دَخَلَا فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ } . وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ , وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ , وَقَدْ تَكَلَّمَا , وَمَاتَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ . وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ , أَنَّهُ طَافَ فِي الْقَتْلَى , فَوَجَدَ أَبَا عَقِيلٍ الْأُنَيْفِيَّ قَالَ : فَسَقَيْته مَاءً , وَبِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا , كُلُّهَا قَدْ خَلَصَ إلَى مَقْتَلٍ , فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْ جِرَاحَاتِهِ كُلِّهَا , فَلَمْ يُغَسَّل . . وَفِي فُتُوحِ الشَّامِ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : أَخَذْت مَاءً لِعَلِيٍّ أَسْقِي ابْنَ عَمِّي إنْ وَجَدْت بِهِ حَيَاةً , فَوَجَدْت الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ فَأَرَدْت أَنْ أَسْقِيَهُ , فَإِذَا رَجُلٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ , فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ , فَذَهَبْت إلَيْهِ لِأَسْقِيَهُ , فَإِذَا آخَرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ , فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ , فَلَمْ أَصِلْ إلَيْهِ حَتَّى مَاتُوا كُلُّهُمْ , وَلَمْ يُفْرَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِغُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ ,(2/19)
وَقَدْ مَاتُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ .
( 1633 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ فَقَتَلَهُ , فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ بِأَيْدِي الْعَدُوِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُغَسَّلُ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَاتَ بِغَيْرِ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ , أَشْبَهَ مَا لَوْ أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ . وَلَنَا , مَا رَوَى أَبُو دَاوُد , عَنْ { رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أَغَرْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ , فَطَلَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ , فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ , فَأَصَابَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ , فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ , فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ , وَصَلَّى عَلَيْهِ , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَشَهِيدٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ . } وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ , فَذَهَبَ يُسْفِلُ لَهُ , فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ , فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ . فَلَمْ يُفْرَدْ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِحُكْمٍ . وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ , وَبِهَذَا فَارَقَ , مَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ , فَأَمَّا إنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ , أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ , فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ , وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ : { ادْفِنُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ } . فَإِذَا كَانَ بِهِ كَلْمٌ لَمْ يُغَسَّلْ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الَّذِي يُوجَدُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُغَسَّلُ بِحَالٍ(2/20)
; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ . وَلَنَا , أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْغُسْلِ , فَلَا يَسْقُطُ بِالِاحْتِمَالِ , وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مَقْرُونٌ بِمَنْ كُلِمَ , فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ .
( 1634 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ , فَحُكْمُهُ فِي الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ , حُكْمُ مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ(2/21)
; لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ , وَعَمَّارٌ أَوْصَى أَنْ لَا يُغَسَّلَ , وَقَالَ : ادْفِنُونِي فِي ثِيَابِي , فَإِنِّي مُخَاصِمٌ . قَالَ أَحْمَدُ : قَدْ أَوْصَى أَصْحَابُ الْجَمَلِ : إنَّا مُسْتَشْهِدُونَ غَدًا , فَلَا تَنْزِعُوا عَنَّا ثَوْبًا , وَلَا تَغْسِلُوا عَنَّا دَمًا . وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ , أَشْبَهَ قَتِيلَ الْكُفَّارِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يُغَسَّلُونَ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ , فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا , وَلَيْسَ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ . وَأَمَّا الْبَاغِي , فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ , غُسِّلَ , وَكُفِّنَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ . وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِأَهْلِ الْعَدْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا غُسْلُ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , وَلِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الْمُعْتَرَكِ , فَيَشُقُّ غُسْلُهُمْ , فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْعَدْلِ . فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ , فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّنَا شَبَّهْنَاهُمْ بِشُهَدَاءِ مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغُسْلِ , فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه صَلَّى عَلَيْهِمْ .
( 1635 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا , أَوْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ , أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ , فَفِيهِ رِوَايَتَانِ :(2/22)
إحْدَاهُمَا , يُغَسَّلُ . اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ , وَمَالِكٍ ; لِأَنَّ رُتْبَتَهُ دُونَ رُتْبَةِ الشَّهِيدِ فِي الْمُعْتَرَكِ , فَأَشْبَهَ الْمَبْطُونَ ; وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَكْثُرُ الْقَتْلُ فِيهِ , فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِشُهَدَاءِ الْمُعْتَرَكِ . وَالثَّانِيَةُ , لَا يُغَسَّلُ , وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَإِسْحَاقَ فِي الْغُسْلِ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا , أَشْبَهَ شَهِيدَ الْمُعْتَرَكِ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . }
( 1636 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّهِيدُ بِغَيْرِ قَتْلٍ , كَالْمَبْطُونِ , وَالْمَطْعُونِ , وَالْغَرِقِ , وَصَاحِبِ الْهَدْمِ , وَالنُّفَسَاءِ , فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا(2/23)
, إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْحَسَنِ : لَا يُصَلَّى عَلَى النُّفَسَاءِ ; لِأَنَّهَا شَهِيدَةٌ . وَلَنَا , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا , فَقَامَ وَسَطَهَا . } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . { وَصَلَّى عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ , وَهُوَ شَهِيدٌ . } وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما , وَهُمَا شَهِيدَانِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ , وَالْمَبْطُونُ , وَالْغَرِقُ , وَصَاحِبُ الْهَدْمِ , وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ . } وَزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ : " صَاحِبُ الْحَرِيقِ , وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ , وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدَةٌ " . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ غُسْلَ الشَّهِيدِ فِي الْمَعْرَكَةِ ; لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إزَالَةِ الدَّمِ الْمُسْتَطَابِ شَرْعًا , أَوْ لِمَشَقَّةِ غُسْلِهِمْ , لِكَثْرَتِهِمْ , أَوْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجِرَاحِ , وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا .
( 1637 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ , فَلَمْ يُمَيَّزُوا , صَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ يَنْوِي الْمُسْلِمِينَ .(2/24)
قَالَ أَحْمَدُ : وَيَجْعَلُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ , ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ , صَلَّى عَلَيْهِمْ , وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَكْثَرِ , بِدَلِيلِ أَنَّ دَارَ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ ; لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا , وَعَكْسُهَا دَارُ الْحَرْبِ , لِكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنْ الْكُفَّارِ . وَلَنَا , أَنَّهُ أَمْكَنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ , فَوَجَبَ , كَمَا لَوْ كَانُوا أَكْثَرَ , وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْصِدَ بِصَلَاتِهِ وَدُعَائِهِ الْأَكْثَرَ , جَازَ قَصْدُ الْأَقَلِّ , وَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ بِمَا إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ , أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتٍ , ثَبَتَ الْحُكْمُ لِلْأَقَلِّ , دُونَ الْأَكْثَرِ .
( 1638 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتٌ , فَلَمْ يُعْلَمْ أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ , نُظِرَ إلَى الْعَلَامَاتِ , مِنْ الْخِتَانِ , وَالثِّيَابِ , وَالْخِضَابِ
, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ , وَكَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , غُسِّلَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْكُفْرِ , لَمْ يُغَسَّلْ , وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ , فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا , يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ .
( 1639 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَالْمُحْرِمُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَلَا يُقَرَّبُ طِيبًا , وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْهِ , وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ , وَلَا رِجْلَاهُ )(2/25)
إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ إحْرَامِهِ بِمَوْتِهِ , فَلِذَلِكَ جُنِّبَ مَا يُجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الطِّيبِ , وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ , وَلُبْسِ الْمَخِيطِ , وَقَطْعِ الشَّعْرِ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ , وَالثَّوْرِيُّ , وَالشَّافِعِيُّ , وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ مَالِكٌ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ , وَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ , وَابْنِ عُمَرَ , وَطَاوُسٍ ; لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ , فَبَطَلَتْ بِالْمَوْتِ , كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَلَنَا , مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ , { أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ , وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ , وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا , وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبَّدًا . } وَفِي رِوَايَةٍ " مُلَبِّيًا " . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خَاصٌّ لَهُ ; لِأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . قُلْنَا : حُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَاحِدٍ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهِ , إلَّا أَنْ يَرِدَ تَخْصِيصُهُ , وَلِهَذَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي سَائِرِ الشُّهَدَاءِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ . } قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَمْسُ سُنَنٍ ; كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ , أَيْ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ . وَأَنْ(2/26)
يَكُونَ فِي الْغَسَلَاتِ كُلِّهَا سِدْرٌ , وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ , وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا , وَيَكُون الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ : يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا , وَلَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ . وَإِنَّمَا كُرِهَ عَرْكُ رَأْسِهِ , وَمَوَاضِعِ الشَّعْرِ , كَيْ لَا يَتَقَطَّعَ شَعْرُهُ . وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ , فَرَوَى حَنْبَلٌ عَنْهُ : لَا تُغَطَّى رِجْلَاهُ . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ . وَقَالَ الْخَلَّالُ : لَا أَعْرِفُ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ , وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ حَنْبَلٍ , وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ مِنْ حَنْبَلٍ , وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُغَطَّى جَمِيعُ الْمُحْرِمِ , إلَّا رَأْسَهُ , لِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ , وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ , فَكَذَلِكَ فِي مَمَاتِهِ . وَاخْتَلَفُوا عَنْ أَحْمَدَ فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ , فَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : لَا يُغَطَّى وَجْهُهُ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : { وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ } . وَنَقَلَ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ : لَا بَأْسَ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ ; لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ , وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهِ , وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمَنْعُ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ , وَلِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ , وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ فِي الْحَيَاةِ , فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى , وَلَمْ يَرَ أَنْ يُلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ بَعْدَ مَوْتِهِ , كَمَا لَا يَلْبَسهُ فِي حَيَاتِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً مُحْرِمَةً , أُلْبِسَتْ الْقَمِيصَ , وَخُمِّرَتْ , كَمَا تَفْعَلُ(2/27)
ذَلِكَ فِي حَيَاتِهَا , وَلَمْ تَقْرَبْ طِيبًا ; لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا , فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا .
( 1640 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَإِنْ سَقَطَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ غُسِّلَ , وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ )
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَانَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ , وَهُوَ مَوْجُودٌ , غُسِّلَ , وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ . قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ , وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ , أَنَّهَا غَسَّلَتْ ابْنَهَا , فَكَانَتْ تَنْزِعُهُ أَعْضَاءً , كُلَّمَا غَسَّلَتْ عُضْوًا طَيَّبَتْهُ , وَجَعَلَتْهُ فِي كَفَنِهِ . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ , وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا
( 1641 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بَعْضُ الْمَيِّتِ , فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ , وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .(2/28)
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجَوَارِحِ . قَالَ الْخَلَّالُ : وَلَعَلَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْأَعْضَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : إنْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ صُلِّيَ عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّهُ بَعْضٌ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ , فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ , كَاَلَّذِي بَانَ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ , كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ . وَلَنَا , إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَالَ أَحْمَدُ : صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ , وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ , وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ . رَوَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , بِإِسْنَادِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَلْقَى طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ , فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ , وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ , فَصَلَّى عَلَيْهَا أَهْلُ مَكَّةَ . وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ نَعْرِفْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ , وَلِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا , فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْأَكْثَرِ , وَفَارَقَ مَا بَانَ فِي الْحَيَاةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا , وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لَا حَيَاةَ فِيهِ ..
( 1642 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ الْجُزْءُ بَعْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ , غُسِّلَ , وَصُلِّيَ عَلَيْهِ , وَدُفِنَ إلَى جَانِبِ الْقَبْرِ , أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ ,(2/29)
وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ , لِأَنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ .
( 1643 ) فَصْلٌ : وَالْمَجْدُورُ , وَالْمُحْتَرِقُ , وَالْغَرِيقُ , إذَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ غُسِّلَ , وَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْغُسْلِ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا
, وَلَمْ يُمَسَّ , فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْمَاءِ لَمْ يُغَسَّلْ , وَيُيَمَّمُ إنْ أَمْكَنَ , كَالْحَيِّ الَّذِي يُؤْذِيه الْمَاءُ , وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لِعَدَمِ الْمَاءِ يُيَمَّمُ , وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ , غُسِّلَ مَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ , وَيُيَمَّمُ الْبَاقِي , كَالْحَيِّ سَوَاءً .
( 1644 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ فِي بِئْرٍ ذَاتِ نَفَسٍ , فَأَمْكَنَ مُعَالَجَةُ الْبِئْرِ بِالْأَكْسِيَةِ الْمَبْلُولَةِ تُدَارُ فِي الْبِئْرِ حَتَّى تَجْتَذِبَ بُخَارَهُ , ثُمَّ يَنْزِلُ مَنْ يُطْلِعُهُ , أَوْ أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ بِكَلَالِيبَ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ , لَزِمَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَمْكَنَ غُسْلُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ(2/30)
, فَلَزِمَ , كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ . وَإِذَا شُكَّ فِي زَوَالِ بُخَارِهِ , أُنْزِلَ إلَيْهِ سِرَاجٌ أَوْ نَحْوُهُ , فَإِنْ انْطَفَأَ فَالْبُخَارُ بَاقٍ , وَإِنْ لَمْ يَنْطَفِئْ فَقَدْ زَالَ , فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَا تَبْقَى النَّارُ إلَّا فِيمَا يَعِيشُ فِيهِ الْحَيَوَانُ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِمُثْلَةٍ , وَلَمْ يَكُنْ إلَى الْبِئْرِ حَاجَةٌ , طُمَّتْ عَلَيْهِ , فَكَانَتْ قَبْرَهُ . وَإِنْ كَانَ طَمُّهَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ , أُخْرِجَ بِالْكَلَالِيبِ , سَوَاءٌ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ أَوْ لَمْ يُفْضِ ; لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ ; نَفْعِ الْمَارَّةِ , وَغُسْلِ الْمَيِّتِ , وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُثْلَةُ فِي بَقَائِهِ أَعْظَمَ ; لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ وَيُنْتِنُ . فَإِنْ نَزَلَ عَلَى الْبِئْرِ قَوْمٌ , فَاحْتَاجُوا إلَى الْمَاءِ , وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ , فَلَهُمْ إخْرَاجُهُ , وَجْهًا وَاحِدًا , وَإِنْ حَصَلَتْ مُثْلَةٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ تَلَفِ نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ , وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْ السُّتْرَةِ إلَّا كَفَنَ الْمَيِّتِ , وَاضْطُرَّ الْحَيُّ إلَيْهِ , قُدِّمَ الْحَيُّ , وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ , وَحِفْظَ نَفْسِهِ , أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَيِّت عَنْ الْمُثْلَةِ . لِأَنَّ زَوَالَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ , وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ شُقَّ بَطْنُهُ لِحِفْظِ مَالِ الْحَيِّ , وَحِفْظُ النَّفْسِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَالِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1645 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ شَارِبُهُ طَوِيلًا أُخِذَ , وَجُعِلَ مَعَهُ )(2/31)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ طَوِيلًا اُسْتُحِبَّ قَصُّهُ . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ , وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَإِسْحَاقَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُسْتَحَبَّ , كَالْخِتَانِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَالْقَوْلَيْنِ . وَلَنَا , قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ . } وَالْعَرُوسُ يُحَسَّنُ , وَيُزَالُ عَنْهُ مَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ , وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ , فَشُرِعَتْ إزَالَتُهُ , كَفَتْحِ عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ شُرِعَ مَا يُزِيلُهُ , وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ , فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ , كَالِاغْتِسَالِ . وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِتَانُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ . فَإِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمَيِّتِ , فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ ; وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ ظُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُجْعَلُ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ كَذَلِكَ .
( 1646 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَظْفَارُ إذَا طَالَتْ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ :(2/32)
إحْدَاهُمَا , لَا تُقَلَّمُ . قَالَ أَحْمَدُ : لَا تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ , وَيُنَقَّى وَسَخُهَا . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ; لِقَوْلِهِ : وَالْخِلَالُ يُسْتَعْمَلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ . وَالْخِلَالُ يُزَالُ بِهِ مَا تَحْتَ الْأَظْفَارِ ; لِأَنَّ الظُّفْرَ لَا يَظْهَرُ كَظُهُورِ الشَّارِبِ , فَلَا حَاجَةَ إلَى قَصِّهِ . وَالثَّانِيَةُ , يُقَصُّ إذَا كَانَ فَاحِشًا . نَصَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ , وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ , فَيُشْرَعُ أَخْذُهُ كَالشَّارِبِ . وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فَاحِشَةً . وَأَمَّا الْعَانَةُ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ ; لِتَرْكِهِ ذِكْرَهَا . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ , وَمَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهَا إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ , وَلَمْسِهَا , وَهَتْكِ الْمَيِّتِ , وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يُفْعَلُ لِغَيْرِ وَاجِبٍ , وَلِأَنَّ الْعَوْرَةَ مَسْتُورَةٌ يُسْتَغْنَى بِسَتْرِهَا عَنْ إزَالَتِهَا . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَخْذَهَا مَسْنُونٌ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ , وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ , وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَزَّ عَانَةَ مَيِّتٍ . وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ إزَالَتُهُ مِنْ السُّنَّةِ , فَأَشْبَهَ الشَّارِبَ . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى . وَيُفَارِقُ الشَّارِبُ الْعَانَةَ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُتَفَاحَشُ لِرُؤْيَتِهِ , وَلَا يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا مَسِّهَا . فَإِذَا قُلْنَا بِأَخْذِهَا , فَإِنَّ حَنْبَلًا رَوَى أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ : تَرَى أَنْ تُسْتَعْمَلَ النُّورَةُ ؟ قَالَ : الْمُوسَى , أَوْ مِقْرَاضٌ يُؤْخَذُ بِهِ الشَّعْرُ مِنْ عَانَتِهِ .(2/33)
وَقَالَ الْقَاضِي : تُزَالُ بِالنُّورَةِ ; لِأَنَّهُ أَسْهَلُ , وَلَا يَمَسُّهَا . وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِعْلُ سَعْدٍ , وَالنُّورَةُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُتْلِفَ جِلْدَ الْمَيِّتِ .
( 1647 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ ; لِأَنَّهُ إبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ . حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَا يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْحَيَاةِ , وَإِنَّمَا يُرَادُ لِزِينَةِ أَوْ نُسُكٍ , وَلَا يُطْلَبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَاهُنَا .
( 1648 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جُبِرَ عَظْمُهُ بِعَظْمٍ فَجَبَرَ , ثُمَّ مَاتَ , لَمْ يُنْزَعْ إنْ كَانَ طَاهِرًا .
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَأَمْكَنَ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ أُزِيلَ ; لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ مَقْدُورٌ عَلَى إزَالَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ . وَإِنْ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ لَمْ يُقْلَعْ , وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ , كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا . وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ جَبِيرَةٌ يُفْضِي نَزْعُهَا إلَى مُثْلَةٍ , مُسِحَتْ كَمَسْحِ جَبِيرَةِ الْحَيِّ . وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى مُثْلَةٍ , نُزِعَتْ فَغُسِلَ مَا تَحْتَهَا . قَالَ أَحْمَدُ , فِي الْمَيِّتِ تَكُونُ أَسْنَانُهُ مَرْبُوطَةً بِذَهَبٍ : إنْ قَدَرَ عَلَى نَزْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ نَزَعَهُ , وَإِنْ خَافَ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُهَا تَرَكَهُ .
( 1649 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ مُشَنَّجًا , أَوْ بِهِ حُدْبٌ , أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ , فَأَمْكَنَ تَمْدِيدُهُ بِالتَّلْيِينِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ , فُعِلَ ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِعُنْفٍ , تَرَكَهُ بِحَالِهِ .(2/34)
فَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ عَلَى النَّعْشِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَشْتَهِرُ بِالْمُثْلَةِ , تُرِكَ فِي تَابُوتٍ , أَوْ تَحْتَ مُكِبَّةٍ , مِثْلُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُ , وَأَسْتَرُ لِحَالِهِ .
( 1650 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتْرَكَ فَوْقَ سَرِيرِ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ الْجَرِيدِ ,
مِثْلُ الْقُبَّةِ , يُتْرَكُ فَوْقَهُ ثَوْبٌ ; لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ رضي الله عنها أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ لَهَا ذَلِكَ بِأَمْرِهَا .
وفي قواعد الأحكام :إنْ قِيلَ : مَا ضَابِطُ الْفِعْلِ الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ ؟(1)
__________
(1) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 49)(2/35)
قُلْت : إذَا اتَّحَدَ الْفِعْلَانِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ , وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ , وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ , إذْ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ , لِأَنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلَا تَوْقِيرًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لِأَجْلِهِ , وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ ; فَإِنَّ أَجْرَهُمَا سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ , وَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ , فَلَيْسَ التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْغُسْلَيْنِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِيمَا لَزِمَ عَنْهُمَا . وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ , وَآخَرَ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ , فَإِنَّ ثَوَابَيْهِمَا يَتَفَاوَتَانِ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ , وَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا . فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إلَى الطَّاعَاتِ كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ , مَعَ تَفَاوُتِ(2/36)
أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ . وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إلَى إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ , وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إلَيْهَا , وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إلَى الْجِهَادِ - بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْمَخْمَصَةِ وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَبِالْوَطْءِ الْغَائِظِ لِلْكُفَّارِ - أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ , فَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ النَّاشِئَةِ عَنْ الْعِبَادَةِ أَوْ عَنْ وَسَائِلِ الْعِبَادَةِ , وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا . فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مُسْنَدًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْت فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي مِنْهُ ثُمَّ الْحَقِينَا عِنْدَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ : غَدًا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِك أَوْ قَالَ نَفَقَتِك } . قُلْت : هَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ قَالَ قَدْرُ نَصَبِك أَوْ قَالَ قَدْرُ نَفَقَتِك ؟ فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ قَوْلَهُ : عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُنْفَقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ , وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ قَوْلَهُ : عَلَى قَدْرِ نَصَبِك فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى قَدْرِ تَحَمُّلِ نَصَبِك لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَقَدْ قِيلَ : إنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : بِعَيْنِي مَا يَتَحَمَّلُ(2/37)
الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي . وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ أَنَّ مَطْلُوبَ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ , وَلَيْسَتْ الْمَشَقَّةُ مَصْلَحَةً . بَلْ الْأَمْرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَشَقَّةَ بِمَثَابَةِ أَمْرِ الطَّبِيبِ الْمَرِيضَ بِاسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ إلَّا الشِّفَاءَ , وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَانَ غَرَضُ الطَّبِيبِ أَنْ يُوجِدَهُ مَشَقَّةُ أَلَمِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ , لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ فِيمَنْ يَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ . وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ يَقْطَعُ مِنْ وَلَدِهِ الْيَدَ الْمُتَآكِلَةَ حِفْظًا لِمُهْجَتِهِ لَيْسَ غَرَضُهُ إيجَادَهُ أَلَمَ الْقَطْعِ , وَإِنَّمَا غَرَضُهُ حِفْظُ مُهْجَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُتَوَجِّعًا مُتَأَلِّمًا لِقَطْعِ يَدِهِ . وَقَدْ قَالَ عليه السلام فِيمَا حَكَاهُ { عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَشَاقَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَشَاقٌّ تَسُوءُ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَهُ , وَإِنَّمَا يَهُونُ أَمْرُهَا لِمَا يُبْتَنَى عَلَى تَحَمُّلِهَا مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ , وَيَكُونُ قَلِيلُ الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرِهِ , وَخَفِيفُهُ أَفْضَلَ مِنْ ثَقِيلِهِ , كَتَفْضِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ , وَكَتَفْضِيلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَعَ نَقْصِ رَكَعَاتِهَا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ مَنْ رَآهَا الصَّلَاةَ الْوُسْطَى , مَعَ أَنَّهَا أُقْصَرُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ , وَاَللَّهُ(2/38)
تَعَالَى يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ , وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ مُطْلَقًا , لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , وَلَمَا فَضُلَتْ رَكْعَةُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ , وَلَمَا فَضُلَتْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ الرَّوَاتِبِ . وَأَمَّا الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ , فَإِنَّ الْمَشْيَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ , فَقُدِّمَ الْخُشُوعُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهِ فِي الرُّتْبَةِ , وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرَ بِالْمَشْيِ إلَى الْجَمَاعَةِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ النِّدَاءِ وَتَكْمِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ , لِأَنَّهُ لَوْ أَسْرَعَ لَانْزَعَجَ وَذَهَبَ خُشُوعُهُ ; فَقَدَّمَ الشَّرْعُ رِعَايَةَ الْخُشُوعِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَعَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ , وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ بِكُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ كَإِفْرَاطِ الظَّمَأِ وَالْجُوعِ , وَكَذَلِكَ يُؤَخِّرُهَا الْحَاقِنُ وَالْحَاقِبُ , وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ بِكُلِّ مُشَوِّشٍ يُؤَخِّرُ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِمِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ إلَى آخَرِ الْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْمَاءِ فِي أَوَاخِرِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْجَمَاعَاتِ , وَإِنَّمَا فَضُلَتْ لِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّرْعِ بِشَرَائِط الْعِبَادَاتِ أَعْظَمُ مِنْ(2/39)
اهْتِمَامِهِ بِالسُّنَنِ الْمُكَمِّلَاتِ , وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَاءِ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ , وَالْقَادِرُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى الْجَمَاعَاتِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُبَادَرَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالِانْفِرَادِ , وَلَوْ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَرَةِ كَمَصْلَحَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَتَعَيَّنَتْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَمَا يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ , وَإِنَّمَا تَحَمَّلَ الصَّائِمُ مَشَقَّةَ رَائِحَةِ الْخُلُوفِ , فَقَدْ فَضَّلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى إزَالَةِ الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ , مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ ثَوَابَهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ , وَلَمْ يُوَافِقْ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ ثَوَابِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ , لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَضِيلَةِ حُصُولُ الرُّجْحَانِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْوِتْرَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ , مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام : { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَكَمْ مِنْ عِبَادَةٍ قَدْ أَثْنَى الشَّرْعُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ فَضِيلَتَهَا مَعَ أَنَّ غَيْرَهَا أَفْضَلُ مِنْهَا , وَهَذَا مِنْ بَابِ تَزَاحُمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; فَإِنَّ السِّوَاكَ نَوْعٌ مِنْ التَّطَهُّرِ الْمَشْرُوعِ لِإِجْلَالِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْعُظَمَاءِ مَعَ طَهَارَةِ الْأَفْوَاهِ تَعْظِيمٌ لَا شَكَّ فِيهِ , وَلِأَجْلِهِ شُرِعَ السِّوَاكُ وَلَيْسَ فِي الْخُلُوفِ تَعْظِيمٌ وَلَا إجْلَالٌ , فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ فَضِيلَةَ الْخُلُوفِ(2/40)
تَرْبُو عَلَى تَعْظِيمِ ذِي الْجَلَالِ بِتَطْيِيبِ الْأَفْوَاهِ ؟ , وَيَدُلُّ أَنَّ مَصْلَحَةَ السِّوَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخُلُوفِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } , وَلَوْلَا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَتَمُّ مِنْ مَصْلَحَةِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخُلُوفِ لَمَا أُسْقِطَ إيجَابُهُ لِمَشَقَّتِهِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ انْتَهَتْ إلَى رُتَبِ الْإِيجَابِ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِقَوْلِهِ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ الْمُعَارِضِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى دَمِ الشَّهِيدِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَاكَ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ , فَشُرِعَ لَهُ تَطْهِيرُ فَمِهِ بِالسِّوَاكِ , وَجَسَدُ الْمَيِّتِ قَدْ صَارَ جِيفَةً غَيْرَ مُنَاجِيَةٍ , فَلَا يَصِحُّ - مَعَ ذَلِكَ - الْإِلْحَاقُ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَمْوَاتِ لِافْتِقَارِهِمْ إلَى رَفْعِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إلَّا الْأَطْفَالَ لَا يُدْعَى لَهُمْ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ (1)
__________
(1) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 303)(2/41)
, لَكِنْ يُدْعَى لَهُمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِافْتِقَارِهِمْ إلَيْهَا , وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَدْعُو لِصَبِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ : أَنْ يُعِيذَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَلَى فِي قَبْرِهِ كَمَا يُبْتَلَى فِي الدُّنْيَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رَأْيًا مِنْ أَنَسٍ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ ذَاكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَلَا يُصَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُمْ قَدْ غُفِرَتْ لَهُمْ الزَّلَّاتُ لِأَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ يُكَفَّرُ بِهَا كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا صُلِّيَ عَلَى الْأَطْفَالِ ؟ قُلْنَا : لَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُمْ قَدْ اسْتَغْنَوْا عَنْ الشَّفَاعَاتِ , فَتُرِكَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْجِهَادِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ مَعَ افْتِقَارِهِ إلَيْهَا قُلْنَا ؟ تَرَكَهَا تَنْفِيرًا مِنْ الدُّيُونِ , لِمَا فِي الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهَا مِنْ مَضَرَّةِ أَرْبَابِهَا , وَلِأَنَّ الْمَدِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَقَدْ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَثْرَةِ اسْتِعَاذَتِهِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ } . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟(2/42)
قُلْنَا : كَمَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أُمِرُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الدُّعَاءُ شَفَاعَةٌ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ فَكَيْفَ يُشَفَّعُ ؟ قُلْنَا لَيْسَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ شَفَاعَةً لَهُ , وَلَكِنْ قَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ نُكَافِئَ مَنْ أَسْدَى إلَيْنَا الْمَعْرُوفَ وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ مُكَافَأَتِهِ أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بَدَلًا مِنْ مُكَافَأَتِهِ , وَلَا مَعْرُوفَ أَكْمَلَ مِمَّا أَسَدَاهُ إلَيْنَا صلى الله عليه وسلم فَنَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكَافِئَهُ عَنَّا لِعَجْزِنَا عَنْ مُكَافَأَتِهِ .
وفي المجموع (1): قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى : ( وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَالِهِمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ)
__________
(1) - المهذب للشيرازي - (ج 1 / ص 289) والمجموع شرح المهذب - (ج 5 / ص 260)(2/43)
لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا } وَإِنْ جُرِحَ فِي الْحَرْبِ وَمَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ , وَمَنْ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ جُنُبٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُغَسَّلُ , لِمَا رُوِيَ " { أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ حَنْظَلَةَ ؟ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ , فَقَالُوا : جَامَعَ فَسَمِعَ الْهَيْعَةَ فَخَرَجَ إلَى الْقِتَالِ } " فَلَوْ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ لَمَا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ . وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : لَا يُغَسَّلُ ; لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَسَقَطَ حُكْمُهَا بِالشَّهَادَةِ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ , وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَمْ يَسْقُطْ غُسْلُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ , كَمَنْ قُتِلَ فِي الزِّنَا وَالْقِصَاصِ , وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي حَرْبِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي غَيْرِ حَرْبِ الْكُفَّارِ , فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ . ( وَالثَّانِي ) : أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي حَرْبٍ هُوَ فِيهِ عَلَى الْحَقِّ وَقَاتِلُهُ عَلَى الْبَاطِلِ , فَأَشْبَهَ الْمَقْتُولَ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ , وَمَنْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ(2/44)
أَهْلِ الْقَافِلَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ( وَالثَّانِي ) : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ ) .
( الشَّرْحُ ) حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله , وَأَمَّا حَدِيثُ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلَتْهُ لَمَّا كَانَ جُنُبًا وَاسْتُشْهِدَ , فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مُتَّصِلًا , وَرَوَاهُ مُرْسَلًا مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ , لِهَذَا يَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ سَنَتَيْنِ فَقَطْ , وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ بِأُحُدٍ , وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَوْجُهٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَابِ السِّوَاكِ . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه " وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ " هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ . قَوْلُهُ : " سَمِعَ هَيْعَةً " بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ , وَهِيَ الصَّوْتُ الَّذِي يُفْزَعُ مِنْهُ . قَوْلُهُ " طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَسَقَطَ حُكْمُهَا بِالشَّهَادَةِ " احْتِرَازٌ مِنْ طَهَارَةِ النَّجَسِ , فَإِنَّهُ يَجِبُ إزَالَتُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَوْلُهُ " ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَمْ يَسْقُطْ غُسْلُهُ , فِيهِ احْتِرَازٌ مِمَّنْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ فَهُوَ شَهِيدٌ . قَوْلُهُ : " قَتَلَهُ اللُّصُوصُ " هُوَ بِضَمِّ اللَّامِ , جَمْعُ لِصٍّ بِكَسْرِهَا كَحِمْلٍ وَحُمُولٍ . ( أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ ) فَفِيهِ(2/45)
مَسَائِلُ : ( إحْدَاهَا ) : الشَّهِيدُ لَا يَجُوزُ غُسْلُهُ وَلَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْمُزَنِيّ رحمه الله يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَلَا تَجِبُ وَلَا يُغَسَّلُ . وَقَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله : الْغَسْلُ إنْ أَدَّى إلَى إزَالَةِ الدَّمِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ , وَإِلَّا فَحَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَقِيلَ فِي تَحْرِيمِهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ , , وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ مِنْ الْجَزْمِ بِتَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا , وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ( الثَّانِيَةُ ) يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّالِحِ وَالْفَاسِقِ .(2/46)
( الثَّالِثَةُ ) : الشَّهِيدُ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِ قِتَالِ الْكُفَّارِ حَالَ قِيَامِ الْقِتَالِ , سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ , أَوْ أَصَابَهُ سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً أَوْ عَادَ إلَيْهِ سِلَاحُ نَفْسِهِ أَوْ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ أَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ أَوْ وَطِئَتْهُ دَوَابُّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ لَا يُعْرَفُ هَلْ رَمَى بِهِ مُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ , أَوْ وُجِدَ قَتِيلًا عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ مَوْتِهِ , سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَالِ أَمْ بَقِيَ زَمَنًا ثُمَّ مَاتَ بِذَلِكَ السَّبَبِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ , وَسَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَصَّى أَمْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا , نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ , وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا وَجْهًا شَاذًّا مَرْدُودًا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَيْهِ سِلَاحُهُ أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ مُسْلِمٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ حَالَ الْقِتَالِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِشَهِيدٍ , بَلْ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ . أَمَّا إذَا مَاتَ فِي مُعْتَرَكِ الْكُفَّارِ لَا بِسَبَبِ قِتَالِهِمْ , بَلْ فَجْأَةً أَوْ بِمَرَضٍ فَطَرِيقَانِ : الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ , وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ وَالثَّانِي فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : شَهِيدٌ وَأَصَحُّهُمَا لَيْسَ بِشَهِيدٍ , حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ , قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ . رحمهم الله :(2/47)
وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَمَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ , فَإِنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَبَقِيَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) : لَيْسَ بِشَهِيدٍ , سَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَلَ وَشَرِبَ وَصَلَّى وَتَكَلَّمَ أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ أَمْ لَا , هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ , وَقِيلَ : إنْ مَاتَ عَنْ قُرْبٍ فَقَوْلَانِ , وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا , أَمَّا إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ فَهُوَ شَهِيدٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ , وَإِنْ انْقَضَتْ وَهُوَ مُتَوَقَّعُ الْحَيَاةِ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ بِلَا خِلَافٍ .
( الرَّابِعَةُ ) إذَا قَتَلَ أَهْلُ الْعَدْلِ إنْسَانًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَالِ الْقِتَالِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ , وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَادِلًا فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ , أَصَحُّهُمَا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَعَكْسِهِ , قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ : هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ( وَالثَّانِي ) : نَصَّ عَلَيْهِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي حَرْبِ مُبْطِلِينَ فَأَشْبَهَ الْكُفَّارَ .
( الْخَامِسَةُ ) : مَنْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فِيهِ طَرِيقَانِ :(1)
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 5 / ص 261)(2/48)
حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ وَأَحَدُهُمَا : لَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا , وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ ( وَأَصَحُّهُمَا ) : وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَصَحُّهُمَا ) : بِاتِّفَاقِهِمْ لَيْسَ بِشَهِيدٍ ( وَالثَّانِي ) : شَهِيدٌ أَمَّا مَنْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ : أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ لَيْسَ بِشَهِيدٍ قَطْعًا . ( وَالثَّانِي ) : أَنَّهُ كَمَنْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ فِيهِ الطَّرِيقَانِ .
وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَتَلَ مُسْلِمًا اغْتِيَالًا فَوَجْهَانِ ,
حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ ( الصَّحِيحُ ) : بِاتِّفَاقِهِمْ لَيْسَ بِشَهِيدٍ .
وَلَوْ أَسَرَ الْكُفَّارُ مُسْلِمًا ثُمَّ قَتَلُوهُ صَبْرًا فَفِي كَوْنِهِ شَهِيدًا
فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ أَصَحُّهُمَا لَيْسَ بِشَهِيدٍ
( السَّادِسَةُ ) : الْمَرْجُومُ فِي الزِّنَا وَالْمَقْتُولُ قِصَاصًا وَالصَّائِلُ وَوَلَدُ الزِّنَا وَالْغَالُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا لَمْ يَحْضُرْ الْقِتَالَ وَنَحْوُهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا ,
وَفِي بَعْضِهِمْ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ سَنَذْكُرُهُ فِي فُرُوعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( السَّابِعَةُ ) : لَوْ اُسْتُشْهِدَ جُنُبٌ فَوَجْهَانِ :(2/49)
( أَصَحُّهُمَا ) : بِاتِّفَاقِ الْمُصَنِّفِينَ يَحْرُمُ غُسْلُهُ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ ; لِأَنَّهَا طَهَارَةُ حَدَثٍ فَلَمْ يَجُزْ كَغُسْلِ الْمَوْتِ ( وَالثَّانِي ) : وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَجِبُ غُسْلُهُ بِسَبَبِ شَهَادَةِ الْجَنَابَةِ , وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي غُسْلِهِ عَنْ الْجَنَابَةِ , وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ بِنِيَّةِ غُسْلِ الْمَوْتِ , قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَخَلَائِقُ مِنْ الْأَصْحَابِ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ غَسَّلْنَاهُ ( قُلْت : ) وَقَدْ سَبَقَ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ شَهِيدٍ , فَيَجِيءُ هُنَا , مَا إذَا اُسْتُشْهِدَتْ مُنْقَطِعَةُ الْحَيْضِ قَبْلَ اغْتِسَالِهَا فَهِيَ كَالْجُنُبِ , وَإِنْ اُسْتُشْهِدَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضِ - فَإِنْ قُلْنَا الْجُنُبُ لَا يُغَسَّلُ - فَهِيَ أَوْلَى , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَحْرِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْحَائِضِ يَجِبُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ أَمْ بِانْقِطَاعِهِ أَمْ بِهِمَا ؟ وَفِيهِ أَوْجُهٌ : سَبَقَتْ فِي بَابِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ . فَإِنْ قُلْنَا بِرُؤْيَتِهِ فَهِيَ كَالْجُنُبِ وَإِلَّا فَلَا تُغَسَّلُ قَطْعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ , وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ إلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهَا لَا تُغَسَّلُ بِالِاتِّفَاقِ وَجَعَلَاهُ إلْزَامًا لِابْنِ سُرَيْجٍ .(2/50)
( فَرْعٌ ) لَوْ أَصَابَتْ الشَّهِيدَ نَجَاسَةٌ لَا بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْخُرَاسَانِيُّونَ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ ( أَصَحُّهُمَا ) : بِاتِّفَاقِهِمْ , وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْجُرْجَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ يَجِبُ غَسْلُهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ آثَارِ الشَّهَادَةِ ( وَالثَّانِي ) : لَا يَجُوزُ ( وَالثَّالِثُ ) : إنْ أَدَّى غَسْلُهَا إلَى إزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُغَسَّلْ وَإِلَّا غُسِّلَتْ , وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الثَّالِثَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ .(2/51)
( فَرْعٌ ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ وَغُسْلَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ حِينَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا , وَذَكَرْنَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ , قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله : وَلَوْ ثَبَتَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْغُسْلَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا سَقَطَ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ وَلَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغُسْلِهِ , وَلِهَذَا احْتَجَّ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرْكِ الْغُسْلِ , وَهَذَا الْجَوَابُ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ رَدًّا لِهَذَا الْجَوَابِ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ تَكْفِينُهُ لَوْ كَفَّنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّنْدُسِ , قَالَ الْقَاضِي : وَالْجَوَابُ أَنَّا لَوْ شَاهَدْنَا تَكْفِينَهُ وَسَتْرَ عَوْرَتِهِ لَمْ نَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَتْرُهُ وَقَدْ حَصَلَ , وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَعَبُّدُ الْآدَمِيِّ بِهِ , وَذَكَرَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ نَحْوَ هَذَا , وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : لَوْ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ كَفَّنَتْهُ فِي السُّنْدُسِ لَمْ يُكْتَفَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله يُنْزَعُ عَنْ الشَّهِيدِ مَا لَيْسَ مِنْ غَالِبِ لِبَاسِ النَّاسِ كَالْجُلُودِ وَالْفِرَاءِ وَالْخِفَافِ وَالدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ وَالْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا ,(2/52)
وَأَمَّا بَاقِي الثِّيَابِ الْمُعْتَادِ لُبْسُهَا الَّتِي قُتِلَ فِيهَا فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَزَعَهَا وَكَفَّنَهُ بِغَيْرِهَا , وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ فِيهَا , وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ , قَالُوا : وَالدَّفْنُ فِيهَا أَفْضَلُ وَالثِّيَابُ الْمُلَطَّخَةُ بِدَمِ الشَّهَادَةِ أَفْضَلُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ كَافِيًا لِلْكَفَنِ الْوَاجِبِ وَجَبَ إتْمَامُهُ , وَدَلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ , وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله يُضَعِّفُ أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ { رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ , وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلَّا بُرْدَةٌ , وَقُتِلَ حَمْزَةُ رضي الله عنه فَلَمْ يُوجَدْ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلَّا بُرْدَةٌ .(2/53)
( التَّاسِعَةُ ) : الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَمُوتُوا بِسَبَبِ حَرْبِ الْكُفَّارِ كَالْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَالْغَرِيقِ وَصَاحِبِ الْهَدْمِ وَالْغَرِيبِ وَالْمَيِّتَةِ فِي الطَّلْقِ وَمَنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ وَشِبْهِهِمْ , فَهَؤُلَاءِ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ بِلَا خِلَافٍ
, قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله : وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ لَا فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( أَحَدُهَا ) : شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا , وَهُوَ تَرْكُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ , وَفِي حُكْمِ الْآخِرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ ثَوَابًا خَاصًّا , وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ ( وَالثَّانِي ) : شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا , وَهُوَ الْمَبْطُونُ وَالْمَطْعُونُ وَالْغَرِيقُ وَأَشْبَاهُهُمْ ( وَالثَّالِثُ ) : شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ , وَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ , وَقَدْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ , أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا , أَوْ قَاتَلَ رِيَاءً , وَنَحْوُهُ فَلَهُ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ , وَالدَّلِيلُ , لِلْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم غُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) : فِي حِكْمَةِ تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ .(2/54)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : لَعَلَّ تَرْكَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ لَأَنْ يَلْقَوْا اللَّهَ بِكُلُومِهِمْ , لِمَا جَاءَ أَنَّ رِيحَ دَمِهِمْ رِيحُ الْمِسْكِ ; وَاسْتَغْنَوْا بِإِكْرَامِ اللَّهِ لَهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ , مَعَ التَّخْفِيفِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا يَكُونُ فِيمَنْ قَاتَلَ فِي الزَّحْفِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ , وَخَوْفِ عَوْدَةِ الْعَدُوِّ , وَرَجَاءِ طَلَبِهِمْ وَهَمِّهِمْ بِأَهْلِهِمْ , وَهَمِّ أَهْلِيهِمْ بِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( فَرْعٌ ) ( فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ )(2/55)
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا تَحْرِيمُهَا , وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَالْحَاكِمِ وَحَمَّادٍ وَاللَّيْثِ وَمَالِكٍ وَتَابِعِيهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ : يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ . وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ , وَصَلَّى عَلَى حَمْزَةَ صَلَوَاتٍ } . ( وَمِنْهَا ) رِوَايَةُ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ : عَشَرَةً عَشَرَةً فِي كُلِّ عَشَرَةٍ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ . وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ , وَفِيهِ أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ , وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَصَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ صَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ . وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ(2/56)
بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ : لَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَنْ : أَنَسٍ { أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ . ( وَأَمَّا ) الْأَحَادِيثُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ فِي الصَّلَاةِ فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ضَعْفِهَا كُلِّهَا إلَّا حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , وَالضَّعْفُ فِيهَا بَيِّنٌ , قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَقْرَبُ مَا رُوِيَ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ , وَهُوَ مُرْسَلٌ , وَكَذَا حَدِيثُ شَدَّادٍ مُرْسَلٌ أَيْضًا فَإِنَّهُمَا تَابِعَانِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّلَاةِ هُنَا الدُّعَاءُ . ( وَقَوْلُهُ ) : صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ . أَيْ : دَعَا لَهُمْ كَدُعَاءِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ , وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ , وَلَيْسَ الْمُرَادُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ الْمَعْرُوفَةَ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا فَعَلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَعْدَ دَفْنِهِمْ بِثَمَانِ سِنِينَ , وَلَوْ كَانَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ الْمَعْرُوفَةَ لَمَا أَخَّرَهَا ثَمَانِ سِنِينَ , وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ , وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ(2/57)
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , فَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ ; وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , , وَهَذَا مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَإِنْ قِيلَ ) : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ وَشَهَادَةُ النَّفْيِ مَرْدُودَةٌ مَعَ مَا عَارَضَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ ( فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا ) بِأَنَّ شَهَادَةَ النَّفْيِ إنَّمَا تُرَدُّ إذَا لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُ الشَّاهِدِ , وَلَمْ تَكُنْ مَحْصُورَةً ( أَمَّا ) مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وَكَانَ مَحْصُورًا فَيُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ , وَهَذِهِ قِصَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَحَاطَ بِهَا جَابِرٌ وَغَيْرُهُ عِلْمًا , وَأَمَّا رِوَايَةُ الْإِثْبَاتِ فَضَعِيفَةٌ فَوُجُودُهَا كَالْعَدَمِ إلَّا حَدِيثَ عُقْبَةَ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ , وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَتَشْنِيعُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُ : يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ , مُحْتَجًّا بِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ حَمْزَةَ رضي الله عنه صُلِّيَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ صَلَاةً , وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ مِنْ الْقَتْلَى وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ فَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ , ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ , ثُمَّ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ آخَرِينَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَعَلَى حَمْزَةَ حَتَّى صُلِّيَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ صَلَاةً " . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ شَهِيدًا فَإِذَا صَلَّى عَلَيْهِمْ عَشَرَةً فَالصَّوَابُ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ صَلَوَاتٍ أَوْ ثَمَانٍ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى عَلَى كُلِّ تِسْعَةٍ مَعَ حَمْزَةَ صَلَاةً , فَهَذِهِ سَبْعٌ فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ سَبْعُونَ صَلَاةً ؟ وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ كَبَّرَ(2/58)
سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً فَنَحْنُ وَهُمْ نَقُولُ : التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ فَهِيَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : يَنْبَغِي لِمَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَارِضَ بِهِ الْأَحَادِيثَ فَقَدْ جَاءَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ " هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله . وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ : مُعْتَمَدُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ , وَلَمْ يُغَسَّلُوا . ( وَأَمَّا ) مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَخَطَأٌ لَمْ يُصَحِّحْهُ الْأَئِمَّةُ ; لِأَنَّهُمْ رَوَوْا أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ وَحَمْزَةُ أَحَدُهُمْ فَصَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً , وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ سَبْعُونَ , وَإِنَّمَا يَخُصُّ حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً لَوْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ , ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى , وَبِالِاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْهُ , فَإِنَّ مِنْ صَلَّى مَرَّةً لَا يُصَلِّي هُوَ ثَانِيَةً ; وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ , وَهُوَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الشُّهَدَاءِ , فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَى الشَّهِيدِ بِلَا غُسْلٍ . ( فَإِنْ قَالُوا ) سَبَبُ تَرْكِ الْغُسْلِ بَقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ " فَظَهَرَ سَبَبُ تَرْكِ الْغُسْلِ وَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ مَشْرُوعَةً كَمَا كَانَتْ ((2/59)
فَالْجَوَابُ ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ بَقَاءَ الدَّمِ لَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ مِنْ قُتِلَ فِي الْمُعْتَرَكِ خَنْقًا أَوْ بِمُثَقَّلٍ , وَلَمْ يَظْهَرْ دَمٌ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بَقَاءَ الدَّمِ لَيُمِّمَ , قَالَ : وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ تَرْكَ الْغُسْلِ بِسَبَبٍ , وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْغُسْلَ مُتَعَيِّنٌ لِإِزَالَةِ الْأَذَى , فَقَالَ صلى الله عليه وسلم { : زَمِّلُوهُمْ وَادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تَهْتَمُّوا بِإِزَالَتِهَا عَنْهُمْ , فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِمْ الدِّمَاءُ } قَالَ : وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ أَنَّ الدِّمَاءَ الَّتِي يُدْفَنُونَ بِهَا تَبْقَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ : إنْ تُرِكَ الْغُسْلُ لِلدَّمِ , فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ الشَّهَادَةُ تَطْهِيرٌ لِلْمَقْتُولِ عَنْ الذُّنُوبِ فَيُغْنِي عَنْ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ , وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْكَ الصَّلَاةِ أَيْضًا , فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَطْهِيرِهِ بِشَفَاعَةِ الْمُصَلِّينَ . ( فَإِنْ قِيلَ : ) الصَّبِيُّ طَاهِرٌ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ( قُلْنَا ) : الشَّهَادَةُ أَمْرٌ طَارِئٌ يَقْتَضِي رُتْبَةً عَظِيمَةً وَتَمْحِيصًا , فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُغْنٍ عَنْ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ , وَالصَّبِيُّ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا - فَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي مَرْتَبَةً , وَالطَّرِيقَةُ السَّدِيدَةُ عِنْدَنَا فِي تَرْكِ الْغُسْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ ; لِأَنَّا أَبْطَلْنَا عَلَيْهِمْ , وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّطْهِيرِ رُبَّمَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى السَّيْرِ كَمَا يَنْبَغِي ,(2/60)
فَنَقُولُ إذَا امْتَنَعَ الْغُسْلُ وَبَدَلُهُ فَهُوَ كَحَيٍّ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا , فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَرْعٌ ) فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الصَّبِيِّ إذَا اُسْتُشْهِدَ مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . دَلِيلُنَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ بِسَبَبِ قِتَالِهِمْ فَأَشْبَهَ الْبَالِغَ وَالْمَرْأَةَ . وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ . قُلْنَا : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الذَّنْبِ . ( فَرْعٌ ) إذَا رَفَسَتْهُ دَابَّةٌ فِي حَرْبِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ حَالَ مُطَارِدَتِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ عَلَيْهِ , وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ . فَرْعٌ ) فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي كَفَنِ الشَّهِيدِ مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُزَالُ مَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيدٍ وَجُلُودٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَكُلُّ مَا لَيْسَ فِي عَامِّ لِبَاسِ النَّاسِ : ثُمَّ وَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ كَفَّنَهُ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ , مِمَّا هُوَ مِنْ عَامِّ لِبَاسِ النَّاسِ , وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ وَكَفَّنَهُ بِغَيْرِهِ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ كَمَا(2/61)
سَبَقَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : لَا يُنْزَعُ عَنْهُ فَرْوٌ وَلَا خُفٌّ وَلَا مَحْشُوٌّ وَلَا يُخَيَّرُ وَلِيُّهُ فِي نَزْعِ شَيْءٍ , وَلِأَصْحَابِ دَاوُد خِلَافٌ كَالْمَذْهَبَيْنِ , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيدَ وَالْجُلُودَ يُنْزَعُ عَنْهُ , وَسَبَقَ دَلِيلُنَا وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ
( فَرْعٌ ) الْمَقْتُولُ ظُلْمًا فِي الْبَلَدِ بِحَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ , يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا ,
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : إذَا قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُغَسَّلْ . دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْقَتْلِ بِمُثَقَّلٍ , فَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَسَبَقَ دَلِيلُ الْجَمِيعِ .
( فَرْعٌ ) إذَا انْكَشَفَتْ الْحَرْبُ عَنْ قَتِيلٍ مُسْلِمٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ بِهِ أَثَرٌ أَمْ لَا
, وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : إنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ .
( فَرْعٌ ) مَذْهَبُنَا الصَّلَاة عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ الْبُغَاةِ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ وَأَهْلُ الْفَضْلِ .
( فَرْعٌ ) إذَا قَتَلَتْ الْبُغَاةُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجِبُ غُسْلُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .(2/62)
( فَرْعٌ ) الْقَتِيلُ بِحَقٍّ فِي حَدِّ زِنًا أَوْ قِصَاصٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ ,
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ , وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُصَلَّى عَلَى الْمَقْتُولِ قِصَاصًا دُونَ الْمَرْجُومِ , وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله : لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الرَّعِيَّةُ . ( فَرْعٌ ) مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَةِ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَدَاوُد , وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ وَتُصَلِّي بَقِيَّةُ النَّاسِ . ( فَرْعٌ ) مَذْهَبُنَا وُجُوبُ غُسْلِ وَلَدِ الزِّنَا وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ , وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , قَالَ : وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ , وَقَالَ قَتَادَةُ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . ( فَرْعٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ ) ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَبُرَيْدَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى الْمَرْجُومَةِ فِي الزِّنَا } وَثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ رضي الله عنه { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى مَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ رَجَمَهُ } وَفِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم(2/63)
} وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } قَالَا : هَذَا مُنْقَطِعٌ , فَلَمْ يُدْرِكْ مَكْحُولٌ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَدْ رُوِيَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ , وَعَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ غَايَةَ الضَّعْفِ , قَالَ : وَأَصَحُّ مَا فِيهِ هَذَا الْمُرْسَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَرْعٌ ) فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ
( إحْدَاهَا ) : إذَا قَتَلْنَا تَارِكَ الصَّلَاةِ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَرُفِعَ قَبْرُهُ كَغَيْرِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ .
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ , وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُكَفَّنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَيُطْمَسُ قَبْرُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ , وَتَحْذِيرًا مِنْ حَالِهِ , وَهَذَا ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ فَيُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى صِفَةِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ , وَفِيهِ قَوْلَانِ :(2/64)
مَشْهُورَانِ فِي بَابِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ , الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْتَلُ , ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , ثُمَّ يُصْلَبُ مُكَفَّنًا ( وَالثَّانِي ) : يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُقْتَلُ , وَهَلْ يُنْزَلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَمْ يَبْقَى حَتَّى يَتَهَرَّى ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : , إنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ , أُنْزِلَ فَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ , وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَكَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْتَلَ مَصْلُوبًا , وَيُنْزَلَ وَيُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُرَدَّ وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ رحمه الله : لَوْ صُلِّيَ عَلَى الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ وَغُسِّلُوا فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ وَلَا يُعْرَفُ عَدَدُهُمْ جَازَ
( قُلْت : ) لَا حَاجَةَ إلَى التَّخْصِيصِ بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ , بَلْ لَوْ صُلِّيَ عَلَى أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي يَوْمِهِ مِمَّنْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَازَ وَكَانَ حَسَنًا مُسْتَحَبًّا ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا , وَمَعْرِفَةُ أَعْيَانِ الْمَوْتَى وَأَعْدَادِهِمْ لَيْسَتْ شَرْطًا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) : تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقُبُورِ .(2/65)
هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ : وَبِهِ أَقُولُ , وَلَمْ يُكْرِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَعَنْ مَالِكٍ , رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وفي أنوار البروق (1):( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ ; أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ . ( وَثَانِيهَا )
__________
(1) - تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 2 / ص 344) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 4 / ص 267- 269)(2/66)
تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ , وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ , كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمْ الرَّسَائِلَ وَالرُّسُلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَظَّمُوا الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ فَحَصَلَ لَهُمْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْيِيزِ بِحِلِّ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ لِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ , وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا تَخْفِيفَ الْعَذَابِ أَمَّا فِي تَرْكِ الْخُلُودِ فَلَا . ( وَثَالِثُهَا ) تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَقِيلَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى(2/67)
اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ ( وَرَابِعُهَا ) تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ; لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ . ( وَخَامِسُهَا ) تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ } وَفِي حَدِيثٍ { لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى } بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ : اللَّهُ , وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ . ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ : ( أَحَدُهَا ) الْإِيمَانُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصُ مِنْ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ . ( وَثَانِيهَا ) صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً . ( وَثَالِثُهَا ) الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ . ( وَرَابِعُهَا ) صَلَاةُ الْقَصْرِ(2/68)
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ , وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ ) . قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهَا , وَفِي الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْقَصْرِ فَإِنَّ فَضِيلَتَهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَذْهَبِ .(2/69)
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ بِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ , وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَدَمَ الْخُلُودِ , وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ , وَجَحْدِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الرَّسَائِلَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ وَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ تَعْظِيمًا وَتَمْيِيزًا بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ اهْتِضَامًا لَهُمْ . وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ فَعِبَادَتُهُ تَجْرِي عَلَى التَّوَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ فَسُمِّيَ وَلِيًّا وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ فَلَمْ يَكِلْهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ لَحْظَةً عَلَى آحَادِ(2/70)
الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصَرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ . وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ . وَخَامِسُهَا تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ , وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم { مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ } . ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا الْإِيمَانُ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ مِنْ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصِ مِنْ النِّيرَانِ وَمِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ . وَثَانِيهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ(2/71)
وَعِشْرِينَ صَلَاةً . وَثَالِثُهَا الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ قَالَ الْبَاجِيَّ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْمَسْجِدَيْنِ مُخَالَفَةُ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَتْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ ا هـ . نَقَلَهُ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ لَكِنْ فِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَاسْتُدِلَّ أَيْ لِتَفْضِيلِ مَسْجِدِ مَكَّةَ بِحَدِيثِ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَهُوَ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ صَرِيحٌ بِدَفْعِ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدُونِ أَلْفٍ , أَوْ بِتَسَاوِيهِمَا وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ . وَرَابِعُهَا صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِنَا خَاصَّةً مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ , وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا .(2/72)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1): لما سُئِلَ : عَنْ الْأَحْيَاءِ إذَا زَارُوا الْأَمْوَاتَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِهِمْ ؟ وَهَلْ يَعْلَمُونَ بِالْمَيِّتِ إذَا مَاتَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ , أَوْ غَيْرِهِ ؟
الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , نَعَمْ قَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِتَلَاقِيهِمْ , وَتَسَاؤُلِهِمْ , وَعَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَمْوَاتِ . كَمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ : قَالَ : { إذَا قُبِضَتْ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ تَلْقَاهَا الرَّحْمَةُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ , كَمَا يَتَلَقَّوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا , فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ , فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : اُنْظُرُوا أَخَاكُمْ يَسْتَرِيحُ , فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ . قَالَ : فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ , وَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَمَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ , هَلْ تَزَوَّجَتْ } الْحَدِيثَ . وَأَمَّا عِلْمُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ إذَا زَارَهُ , وَسَلَّمَ عَلَيْهِ , فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ , إلَّا عَرَفَهُ , وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ . وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الشَّهِيدِ , وَرِزْقِهِ , وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ دُخُولِ أَرْوَاحِهِمْ الْجَنَّةَ , فَذَهَبَ طَوَائِفُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ دُونَ الصِّدِّيقِينَ , وَغَيْرِهِمْ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 24 / ص 331) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 5 / ص 477)(2/73)
. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ , وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْحَيَاةَ , وَالرِّزْقَ , وَدُخُولَ الْأَرْوَاحِ الْجَنَّةَ , لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالشَّهِيدِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الثَّابِتَةُ , وَيَخْتَصُّ الشَّهِيدُ بِالذِّكْرِ , لِكَوْنِ الظَّانِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ , فَيَنْكُلُ عَنْ الْجِهَادِ , فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ لِيَزُولَ الْمَانِعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ , وَالشَّهَادَةِ . كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ . وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ .
وَتَرْكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلَ الشَّهِيدِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ,(2/74)
أَمَّا اسْتِحْبَابُ التَّرْكِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَلَوْ لِأَجْلِ أَهْلِهِ فَقَطْ إحْسَانًا إلَيْهِمْ لِتَأَلُّفِهِمْ أَوْ مُكَافَأَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { الْمَيِّتُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ , وَحَمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى أَنَّ الثِّيَابَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا الْعَبْدُ هِيَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا أَوْ سَيِّئًا ; وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ { يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ } رَوَاهُ حَاتِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَقَالَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُرَاةً , وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ , وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إزَالَتِهِ تَبِعَهَا عَلَى الصَّحِيحِ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَنْكَرَ بِحَسَبِهِ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ وَلَوْ بِالْقِرَاءَةِ اتِّفَاقًا وَضَرْبُ النِّسَاءِ بِالدُّفِّ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَنْ بَنَى فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَحْرُمُ الْإِسْرَاجُ عَلَى الْقُبُورِ وَاِتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا وَبَيْنَهَا وَيَتَعَيَّنُ إزَالَتُهَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ(2/75)
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ إلَى الْمَسْجِدِ إلَّا عَلَى الْجَنَابَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُ الْمَسْجِدَ , وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَاقِفًا قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ . وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { كَانَ يَقِفُ فَيَدْعُو } وَلِأَنَّهُ مُعْتَادٌ بِدَلِيلٍ قوله تعالى فِي الْمُنَافِقِينَ { وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَتَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ : الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ , وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ يُمْتَحَنُ وَيُسْأَلُ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَالَهُ أَبُو حَكِيمٍ وَغَيْرُهُ وَيُكْرَهُ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ . وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا } فَسَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَبْرَ بِأَنَّهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُكْرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا(2/76)
مَعْنَاهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ الدَّفْنِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ , كَمَا يُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ بِلَا عُذْرٍ . فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الدَّفْنُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِلَا تَعَمُّدٍ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَالْعَبْدُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَمُوتُ . وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ الِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ , فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ رَحْمَةً لَهُ وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْفَرَحِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى بِنَوْحِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا يُهَيِّجُ الْمُصِيبَةَ مِنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْوَعْظِ فَمِنْ النَّائِحَةِ وَفِي الْفُنُونِ لِابْنِ عَقِيلٍ مَا يُوَافِقُهُ وَيَحْرُمُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَنَقَلَ أَحْمَدُ كَرَاهَةَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ .(2/77)
وفي السياسة الشرعية :الْفَصْلُ الثَّامِنُ جِهَادُ الْكُفَّارِ الْقِتَالُ الْفَاصِلُ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُقُوبَةُ الْمُقَدَّرِ عَلَيْهِ , مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ , كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالٍ فَاصِلٍ ,(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 349) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 395) والسياسة الشرعية - (ج 1 / ص 111)(2/78)
هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ , فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَكَانَ اللَّهُ - لَمَّا بَعَثَ نَبِيَّهُ , وَأَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلَفِ إلَى دِينِهِ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ , حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ , فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ , وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ , وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ , وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ , فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ , وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ , وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ , فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ(2/79)
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ , وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ , وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ , فِي سُورَةِ الصَّفِّ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ(2/80)
سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وقوله تعالى : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَذِكْرُ مَا يُوَلِّدُهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ , وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ , وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ , وَذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ , وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ , وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ(2/81)
وَالْعُمْرَةِ , وَمِنْ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ , وَالصَّوْمِ التَّطَوُّعِ , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ , وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ , وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ } . وَقَالَ { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ , مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ , كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ , أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَالَ { : مَنْ اغْبَرَّ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ , خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ . وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ , وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ , وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي السُّنَنِ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ , وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ { حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا , وَيُصَامُ نَهَارُهَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي . قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ , وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَذَلِكَ(2/82)
الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةً , وَسِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ , لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا , مِثْلُ مَا وَرَدَ فِيهِ , فَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ , فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا , وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ , فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى , وَالْإِخْلَاصِ لَهُ , وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ , وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ , وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ , وَذِكْرِ اللَّهِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ , عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ . وَالْقَائِمُ بِهِ مِنْ الشَّخْصِ وَالْأَمَةِ بَيْنَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا , إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ , وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ , ثُمَّ إنَّ الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ , فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أَوْ نَقْصُهُمَا , فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا , مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا , فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ عَمَلٍ شَدِيدٍ , وَقَدْ يَرْغَبُ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ , فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ , وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَيْتَاتِ .
وفي المدخل (1):ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَعْضِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ .
__________
(1) - المدخل - (ج 3 / ص 51)(2/83)
فَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله تعالى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ , وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ , وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ الصَّفْقَتَيْنِ جَمِيعًا . بَيَانُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ رضي الله عنه : أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا , وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا , وَمَعَ ذَلِكَ أَقُولُ أَيْضًا هُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْمُجَاهِدِ فِي قُدْرَتِهِ , وَعَزْمِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ , وَرَغْبَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلُهُ , وَنِعْمَتُهُ , وَمِنَّتُهُ قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ , وَتَعَالَى يُسْدِي عَلَى أَيْدِينَا الْخَيْرَ , وَيَمْنَحُ عَنْ أَيَادِيهِ الْجَزَاءَ , وَرُوِيَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ { الْأَنْصَارَ رضي الله عنهم حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِطْ لِرَبِّك , وَلِنَفْسِك مَا شِئْت قَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالُوا : رَبِحَ الْبَيْعُ قَالُوا لَا نَقِيلُ , وَلَا نَسْتَقِيلُ } . وَمَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه(2/84)
وسلم أَعْرَابِيٌّ , وَهُوَ يَقْرَأُ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ , وَأَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ كَلَامُ مَنْ ؟ قَالَ : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : بَيْعٌ , وَاَللَّهِ صَرِيحٌ لَا نَقِيلُهُ , وَلَا نَسْتَقِيلُهُ فَخَرَجَ إلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ رحمه الله تعالى . فَقَوْلُهُ تَعَالَى { , وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } قَالَ هَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ , وَعْدٌ ثَابِتٌ , وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ , وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ . وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ رحمه الله تعالى نَاهِيك مِنْ صَفْقَةٍ الْبَائِعُ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ , وَالثَّمَنُ جَنَّةُ الْمَأْوَى , وَالْوَاسِطَةُ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم , وَفِي ذَلِكَ قِيلَ أَكْرِمْ بِهَا صَفْقَةً فَالرَّبُّ عَاقِدُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُضَرِ أَثْمَانُهَا جَنَّةٌ نَاهِيك مِنْ نُزُلٍ دَارٌ بِهَا نِعَمٌ تَخْفَى عَنْ الْبَشَرِ أَنْوَاعُ مَطْعَمِهَا مِنْ كُلِّ شَهْوَتِنَا شَرَابُهَا عَسَلٌ صَافٍ مِنْ الْكَدَرِ مِنْ كُلِّ مَا لَذَّةٍ طَابَتْ مَوَارِدُهَا , وَحُورُهَا دُرَرٌ تَزْهُو عَلَى الْقَمَرِ أَنَّى لَهَا ثَمَنٌ دُنْيَا بِهَا مِحَنٌ لَمْ يَصْفُ مَشْرَبُهَا يَوْمًا لِمُعْتَبِرِ ثُمَّ قَالَ { , وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ } ; لِأَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ إنَّمَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَوْ مَجْمُوعِهَا , وَذَلِكَ : لِبُخْلٍ أَوْ شُحٍّ خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ مَحَبَّةَ الِازْدِيَادِ مِنْ الشَّهَوَاتِ أَوْ لِعَجْزٍ أَوْ لِنِسْيَانٍ , وَذُهُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ , وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ(2/85)
عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ . فَهَذِهِ الْآيَةُ إذَا فُهِمَتْ مَعَانِيهَا , وَحَضَرْتَ بِخُلُوِّ الْقَلْبِ , وَشُرُوطِ الِاسْتِمَاعِ لَتَالِيهَا لَا تَطْلَبُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ زِيَادَةً عَلَيْهَا , وَلَا انْضِمَامَ شَيْءٍ مِنْ الْمُؤَكَّدَاتِ إلَيْهَا , وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاةٍ , وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ } , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { , وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فَهَذَا وَعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ إذْ أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ أَوْ الْمَوْتَ مُقْتَرِنٌ بِهِمَا الْمَغْفِرَةُ , وَالرَّحْمَةُ , وَخَبَرُهُ تَعَالَى , وَوَعْدُهُ حَقٌّ , وَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ , وَتَحْقِيقٌ لِفَضْلِهِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ . أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي , وَإِيمَانًا بِي , وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إنْ مَاتَ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ(2/86)
لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ , وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا , وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ , وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ } قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي , وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فِي هَذَا حَضٌّ عَلَى النِّيَّةِ , وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا , وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ , وَعُلُوُّ الْمُسْتَمْسِكِ بِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا عَلَا بِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ , وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السُّفْلَى فَيَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ هَذَا مُخْلِصًا , وَيَبِيعُ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ ابْتِغَاءَ الْجَنَّةِ , وَعُلُوَّ الْكَلِمَتَيْنِ فَإِذَا صَحَّ قَصْدُهُ نَالَ مِنْ اللَّهِ مَا وَعَدَهُ . وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ قِيلَ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ . وَقَوْلُهُ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ , وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ أَجْرٍ , وَغَنِيمَةٍ . , وَالْكَلْمُ الْجُرْحُ , وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله(2/87)
عليه وسلم قَالَ { لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ , وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى النِّيَّةِ . وَمِنْهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا , وَمَا فِيهَا } , وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ { خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ . } الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ إلَى الزَّوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً , وَالرَّوْحَةُ السَّيْرُ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ مَرَّةً وَاحِدَةً . فَالْمَعْنَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْغَدْوَةِ , وَالرَّوْحَةِ الْوَاحِدَةِ , وَفَضْلَهَا , وَنَعِيمَهَا عَلَى قِلَّتِهَا , وَيَسَارَتِهَا , وَخِفَّتِهَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ , وَنِعَمَ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ نَالَهَا مَلِكٌ بِأَسْرِهَا , وَأَنْفَقَهَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ , وَأَجْرِهَا لَكَانَ جَزَاءُ هَذِهِ الْغَدْوَةِ , وَالرَّوْحَةِ أَكْثَرَ , وَفَضْلُهَا أَعْظَمَ , وَأَكْبَرَ . وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِم مُتَّصِلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( يَا أَبَا سَعِيدٍ { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا , وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ , وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ(2/88)
دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ , وَالْأَرْضِ قَالَ , وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الدَّرَجَاتُ : الْمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ , وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى { لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ } , وَمِنْهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ : مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ , وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ , وَقَالَ آخَرُ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه , وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَهُوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَلَكِنْ إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ دَخَلْت لِأَسْتَفْتِيَهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ , وَجَلَّ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ , وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ , وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ , وَنَفْسِهِ قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ , وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ } ,(2/89)
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ , وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ , وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إلَّا فِي خَيْرٍ } ) فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْجِهَادِ , وَشَرَفُهُ , وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ , وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ خَيْرُ كَسْبٍ إذَا خُمِّسَ الْمَغْنَمُ , وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَى الْغَازِينَ بِشَيْءٍ إلَّا مَا الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ , وَالشَّرَابِ , وَشِبْهِهِمَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ , وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ . , وَالْهَيْعَةُ الصَّوْتُ الْمُفْزِعُ . وَالطَّيَرَانُ هُوَ إغَاثَةُ الْمُسْتَغِيثِ بِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْرِعِ , وَالشَّعَفُ رُءُوسُ الْجِبَالِ . وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الِانْزِوَاءِ عَنْ النَّاسِ , وَالِاعْتِزَالِ ; لِمَا فِي الْمُخَالَطَةِ مِنْ آفَاتِ الْقِيلِ , وَالْقَالِ , وَهَذَا الِانْزِوَاءُ , وَالِاعْتِزَالُ إنَّمَا يُحْمَدُ إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُ الْجِهَادِ , وَالْقِتَالِ أَوْ فَرْضٌ مِنْ الْفُرُوضِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ . مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبِي , وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ(2/90)
ظِلَالِ السُّيُوفِ فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا قَالَ : نَعَمْ , قَالَ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ , وَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ , وَحُضُورَ الْمَعَارِكِ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا , وَمُقَرِّبٌ إلَيْهَا , وَيَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ , وَجِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْهُ تُنْقَلُ رُوحُ الشَّهِيدِ حِينَ الشَّهَادَةِ , وَتُدْخَلُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ , وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ . وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا قَالَ فَشَقَّ عَلَيْهِ قَالَ : أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُيِّبْت عَنْهُ , وَلَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا قَالَ , وَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ ؟ قَالَ , وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ , وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ , وَطَعْنَةٍ , وَرَمْيَةٍ قَالَ : وَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ , وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { رِجَالٌ(2/91)
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ , وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } قَالَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ , وَفِي أَصْحَابِهِ . قَوْلُهُ , وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ , وَحُنَيْنٍ , وَشَوْقٍ إلَى الْجَنَّةِ , وَتَمَنٍّ لَا جَرَمَ لَمَّا صَدَقَ أُعْطِيَ سُؤْلَهُ , وَبَلَغَ مِمَّا تَمَنَّى مَأْمُولَهُ , وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ , وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ , وَتَكْرِمَةٌ لِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ . وَمِنْ مُسْنَدِ النَّسَائِيّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { أَنَا زَعِيمٌ , وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ لِمَنْ آمَنَ , وَأَسْلَمَ , وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ , وَبِبَيْتٍ فِي , وَسَطِ الْجَنَّةِ , وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لَهُ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا , وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ يَمُوتُ } . وَمِنْ مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ : إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . , وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ } , وَمِنْهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ(2/92)
فَقَدْ غَزَا , وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا } , وَمِنْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : لَحِقَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ , وَأَنَا مَاشٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاك هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعْت أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ } انْتَهَى كَلَامُ الصَّدَفِيِّ رحمه الله قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَبُو عَبْسٍ هَذَا اسْمُهُ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ , وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ رَجُلٌ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ , وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ غَيْرَ وَاحِدٍ . ثُمَّ قَالَ الصَّدَفِيُّ رحمه الله , وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ , وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَدُخَانُ جَهَنَّمَ }
فَصْلٌ فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ (1)
__________
(1) - المدخل - (ج 3 / ص 65)(2/93)
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ { , وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قَالَ : أَمَّا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ } , وَمِنْهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا , وَإِنَّ لَهُ بِهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرَ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ ; لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ ) , وَفِي رِوَايَةٍ ; لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ . وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ , وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا } . وَمِنْ الْمُوَطَّأِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : الْغَزْوُ غَزْوَانِ : فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ , وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ , وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ , وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ , وَغَزْوٌ لَا تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ , وَلَا يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ , وَلَا يُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ , وَلَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافًا . وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ , وَرَسُولِهِ , وَأَقَامَ الصَّلَاةَ , وَآتَى الزَّكَاةَ , وَصَامَ(2/94)
رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ : إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ , وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ , وَسَطُ الْجَنَّةِ , وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } . وَمِنْ صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ فِي أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ , وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ , وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا , وَمَا فِيهَا , وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ , وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ , وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ } قَالَ : أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ . وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْت عَنْ النَّاسِ فَأَقَمْت فِي هَذَا الشِّعْبِ , وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ , فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ(2/95)
عَامًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ , وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اُغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ , وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } , وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ , وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ , وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى , وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ } , وَمِنْهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ( { الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا , وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ قَالَ : فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ طَلْحٍ مِنْ الْجُبْنِ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ , وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا , وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ , وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَقِيَ الْعَدُوَّ صَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ } , وَفَضِيلَةُ الْجِهَادِ قَدْ جَاءَ فِيهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا . وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَى الْمَرْءِ وَحْدَهُ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ(2/96)
مِنْ جَمَاعَةٍ , وَإِمَامٍ تَنْعَقِدُ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ , وَلَا يُخَالِفُونَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله ,جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله .(1)
فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ الْبِدْعَةُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا , لَكِنْ بَقِيَتْ شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ , وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا . فَشُرُوطُهَا سَبْعَةٌ وَهِيَ : طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَتَرْكُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَالنِّيَّةُ . وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ : أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَالدُّعَاءُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْقِيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ . وَسُنَنُهَا سِتَّةٌ : الْأُولَى : رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى , وَالثَّانِيَةُ : الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَالثَّالِثَةُ : الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ , وَالرَّابِعَةُ : التَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ وَالْخَامِسَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ , وَالسَّادِسَةُ : أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي , وَرَأْسُهُ إلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ , وَمَوْضِعُ قِيَامِ الْمُصَلِّي فِي وَسَطِ الرَّجُلِ , وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ إنْ قَامَ فِي وَسَطِهَا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِذَلِكَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ , أَوْ مَا تُنَزَّهُ الصَّلَاةُ عَنْهُ , وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ
__________
(1) - المدخل - (ج 3 / ص 406)(2/97)
يُغْسَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَوْتَى لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ : أَوَّلُهُمْ : الشَّهِيدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي نُصْرَةِ التَّوْحِيدِ . وَالثَّانِي : السِّقْطُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا , وَلَا حُكْمَ لِحَرَكَتِهِ . وَالثَّالِثُ : الْكَافِرُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ , وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ جُمْلَةً , وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رحمه الله غَالِبَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ , اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ . اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ اللَّهُمَّ قِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ , وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا(2/98)
مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ , اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ , اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ , اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ , اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ) . تَقُولُ هَذَا بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ , وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُتَقَلَّبَنَا وَمَثْوَانَا وَلِوَالِدِينَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ , اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَسْعِدْنَا بِلِقَائِك وَطَيِّبْنَا لِلْمَوْتِ وَطَيِّبْهُ لَنَا وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا ) ثُمَّ تُسَلِّمُ , فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قُلْت : ( اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك ) ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ : وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا , وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ بِهِمْ بَدَلًا , وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ , وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ , فَإِنْ كَانَ طِفْلًا(2/99)
فَتُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ تَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ , اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ) تَقُولُ ذَلِكَ بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ , اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ) ثُمَّ تُسَلِّمُ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , وَيَلِيَ الْإِمَامَ الرِّجَالُ إنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ , وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ , وَجُعِلَ مِنْ دُونِهِ الصِّبْيَانُ , وَالنِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلَى الْقِبْلَةِ . فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا وَلَا يَعْرِفُ مَا هُوَ الْمَيِّتُ أَوَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ , أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى , أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا , فَإِنَّهُ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ إمَامُهُ , ثُمَّ يَدْعُوَ(2/100)
بِالدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , فَإِذَا أُخْرِجَ الْمَيِّتُ مِنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِهِ عَلَى السُّنَّةِ , وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا , وَهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَصِلُوا بِهَا إلَى مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنْ الْأَسْوَاقِ يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ , فَإِذَا وَصَلُوا إلَيْهِ قَطَعُوا كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ , ثُمَّ يَفْعَلُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا أَفْعَالًا مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ . فَمِنْهَا : أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّعْشَ هُنَاكَ , وَيَقِفُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ بِمَوْضِعٍ , وَالْمُدِيرُ يُنَادِي أَمَامَهُ فِي النَّاسِ أَنْ يَأْتُوا إلَى التَّعْزِيَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مُحْتَوِيَةٍ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَأْتُونَهُ لِلتَّعْزِيَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ , وَالْمُدِيرُ يُزَكِّي وَيُثْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النِّيَّةَ النَّافِعَةَ هِيَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ النَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ أَوْ تَبْغَضُهُ وَتَقْلِيهِ (1)
__________
(1) - المدخل - (ج 5 / ص 10)(2/101)
فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِاتِّبَاعِهَا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَنَّهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا لَا حَاكِمَةٌ مَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ . فَإِنْ صَادَفَ الِامْتِثَالُ غَرَضَهَا وَاخْتِيَارَهَا وَشَهْوَتَهَا لَمْ يَضُرَّ الْعَامِلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ , فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } فَإِذَا تَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَالْمُمْتَثِلُ فِي أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ } فَقَدْ سَوَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاكِحِ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي إعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { يُؤْجَرُ أَحَدُكُمْ حَتَّى فِي بُضْعِهِ لِامْرَأَتِهِ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ مَأْجُورًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ مَأْثُومًا . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ مَأْجُورًا } أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام .(2/102)
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ شَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْعَمَلِ بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُظُوظُ النَّفْسِ وَشَهَوَاتُهَا تَابِعَةً لِلنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَتَكُونَ النِّيَّةُ جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَائِمًا وَرَأَى مِنْ إحْدَى جَوَارِيهِ بِالنَّهَارِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْهُنَّ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ مَعَ أَنَّهُ رضي الله عنه كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ يُعْتِقُ رَقَبَةً فَلَوْلَا الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْوَطْءِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَمَا فَعَلَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا بِطَبْعِهِ لَا تَقْدَحُ فِي نِيَّتِهِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْتِي بِعَمَلٍ إلَّا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ دَوَاعِي النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا لَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا . وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى { لَا(2/103)
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رحمه الله عَنْ أَبِي مُوسَى { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إلَّا مُقَاتِلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ طَبِيعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رحمه الله فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرَّهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِالْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ رحمه الله , وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَقَالَ إذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاجْعَلْ لِي(2/104)
لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ : لَأَنْ تَكُونَ قُلْتهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا إذْ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي مَثَّلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْهَا فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي هِيَ النَّخْلَةُ . قَالَ مَالِكٌ رحمه الله فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إلَّا أَمْرٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلُهُ عَنْ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤْيِسُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعْ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَيُجَرِّدْ النِّيَّةَ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ } وَيُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ . فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ بَطْرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ . فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ إذَا كَانَتْ تَابِعَةً لِلِامْتِثَالِ كَانَ صَاحِبُهَا مُمْتَثِلًا .(2/105)
وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ إنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ مَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ وَغَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ . وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَرُدُّهُ وَلِمَعْنًى آخَرَ , وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قِيلَ بِهِ جَاءَ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْقُنُوطُ وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمِنْ عَمَلٍ يَتَخَلَّصُ لِلْعَبْدِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { لَوْ كُنْت مُعَجِّلًا عُقُوبَةً لَعَجَّلْتهَا عَلَى الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي } فَيَدْخُلُ الْمُكَلَّفُ فِي الْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ تَخْلِيصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيهِ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ . أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ . وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ كُلٌّ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَ عِبَادَتِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا } وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدَّيْنَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ { قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى(2/106)
الله عليه وسلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } . فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلِامْتِثَالِ فَرَجَعَتْ شَهَوَاتُهُ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مَتْبُوعَةً لَهُ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رحمه الله فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ , وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ وَالْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ . وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ ضَرُورِيَّةً وَالْعَمَلُ اخْتِيَارِيًّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحٌ(2/107)
وفي فتاوى السبكي : ( سُؤَالٌ ) مِنْ الشَّيْخِ الصَّالِحِ فَرَجٍ الْمُقِيمِ بِقَرْيَةِ السَّاهِلِيَّةِ مِنْ الْغَوْرِ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ فِي سَنَةِ الطَّاعُونِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْئِلَةٍ : السُّؤَالُ فِي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا حَقِيقَتُهَا (1).
( أَجَابَ ) رحمه الله مَا نَصُّهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَوَابُ أَنَّهَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ وَنَتِيجَةٌ عُرِفَتْ مِنْ نَصِّ الشَّارِعِ عَلَى مَحَالِّهَا وَآثَارِهَا وَاسْتُنْبِطَ مِنْ ذَلِكَ عِلَلَهَا الْمُوجِبَةِ لِضَبْطِهَا وَأَسْبَابَهَا وَشُرُوطَهَا , وَبَيَانُ ذَلِكَ بِصُوَرٍ : ( الصُّورَةُ الْأُولَى ) وَهِيَ أَعْلَاهَا الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى فِي قَتْلَى بَدْرٍ { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قَتْلَى أُحُدٍ { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 126)(2/108)
وَقَالَ تَعَالَى { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } وَقَالَ تَعَالَى { وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَا عَبْدٌ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى } وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , ثُمَّ أُحْيَا , ثُمَّ أُقْتَلُ , ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِمِنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ دَمٌ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ } , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { مَا أَحَدٌ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ إلَّا الشَّهِيدَ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةِ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ(2/109)
رِزْقُهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ . وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى خَيْبَرَ { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ } فَرَأَيْنَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هِدَايَةُ الْخَلْقِ وَدُعَاؤُهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِأَعْقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ . وَمِنْ هُنَا نَأْخُذُ أَنَّ مِدَادَ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْقِتَالِ قَاتَلْنَا إلَى إحْدَى ثَلَاثِ غَايَاتٍ إمَّا هِدَايَتُهُمْ وَهِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا وَإِمَّا أَنْ نُسْتَشْهَدَ دُونَهُمْ وَهِيَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ فِي الْمَقْصُودِ وَلَكِنَّهَا شَرِيفَةٌ لِبَذْلِ النَّفْسِ فَهِيَ مِنْ حَيْثُ بَذْلُ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَسِيلَةٌ لَا مَقْصُودٌ مَفْضُولَةٌ وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَإِمَّا قَتْلُ الْكَافِرِ وَهِيَ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً ; لِأَنَّهَا تَفْوِيتُ نَفْسٍ يُتَرَجَّى أَنْ تُؤْمِنَ وَأَنْ تُخْرِجَ مِنْ صُلْبِهَا مَنْ يُؤْمِنُ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمَّا بَذَلَ الشَّهِيدُ نَفْسَهُ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ(2/110)
إلَيْهِ وَبَاعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَاقْتَطَعَ دُونَهَا وَيُعِينُهُ تَعَالَى مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الشَّهِيدُ جَازَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ بِمَا تَقْصُرُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْهُ . وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى أَشْهَدَهُ مَا لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْعَقْلُ وَالطَّرْفُ تَفْصِيلَهَا فَيَرَى بِعَيْنِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ شَهِيدًا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَقِيلَ : إنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ أَوْ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهُرُ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهِيَ حَالَةٌ تَحْصُلُ لَهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي حَدِّ حَقِيقَتِهَا : إنَّهَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَلَوْ جَزَمْنَا بِأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ , قُلْنَا فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ شُهُودَهُ لِلْكَرَامَةِ حَالَةٌ تَحْصُلُ مِنْهُ فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ , وَلَكِنَّا قُلْنَا لَهُ يَصِحُّ عَلَى كَلَا الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ شُهُودَ مَلَائِكَةِ الرِّضَا لَهُ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ لِأَجْلِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ لِمَا فِيهِ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْبَهْجَةِ النُّورَانِيَّةِ وَفِي الْبَصَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَنَّةِ وَكَأَنَّهُ أَوَّلُ قَبْضِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ الشَّهِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَصَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا(2/111)
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ يُشَجِّعُ غَيْرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِثْلِهِ وَيَخْذُلُ الْكُفَّارُ وَيُضْعِفُ نُفُوسَهُمْ وَرُبَّمَا يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ وَتَحَقُّقِهِ لِذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا فَإِنَّ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا يَيْأَسُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إمَّا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَجْأَةً أَوْ بِأَمْرَاضٍ يُتَرَجَّى مَعَهَا الْعَافِيَةُ أَوْ يَغِيبُ عَقْلُهُ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ , وَالشَّهِيدُ قَدْ تَذَرَّعَ أَسْبَابَ الْمَوْتِ فِي حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى , وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَضْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى مَا بَعْدَهَا ; لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الشُّهَدَاءِ قَدْ لَا يُشَارِكُهُ إلَّا فِي الْأَلَمِ فَأَنَّى يَكُونُ مِثْلَهُ وَإِنْ سَاوَاهُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهِيدِ وَالِاسْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَدْنَاهَا فَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمْ كَوَاحِدٍ وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ : أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً وَنَارٍ تُوقِدُ بِاللَّيْلِ نَارًا وَلَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ قَدْ يَرْفَعُ الصَّغِيرَ إلَى دَرَجَةِ الْكَبِيرِ أَوْ يُدْنِيهِ مِنْهُ تَفَضُّلًا فَالشُّهَدَاءُ كُلُّهُمْ هَذَا وَاَلَّذِينَ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي رُؤْيَةِ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي حُضُورِ مَلَائِكَةِ الرِّضَا لَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْأَلَمِ وَالْيَأْسِ مِنْ الْحَيَاةِ لَوَارِدٍ عَلَى النَّفْسِ مُمَلَّكٌ لَهَا فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِيقَتِهَا لِيَكُونَ(2/112)
مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَمِيعِ فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَاحِدٌ وَالصُّورَةُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا كَثِيرًا أَعْلَى وَأَدْنَى وَأَوْسَطَ . وَأَمَّا قوله تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الْآيَةَ . فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ لَا فِي الْجِهَادِ , وَالثَّانِي أَنَّهُ فِيهِ وُقُوعُ الْأَجْرِ لَا الِاسْمِ . وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ شَخْصًا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِقَصْدِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا فِي الْمُهَاجِرِ وَهَلْ هُوَ كَالْمُجَاهِدِ حَقِيقَةً أَوْ دُونَهُ ؟ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهِ , وَلَكِنْ نَقُولُ فِيهِ إنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا وَلَا أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِلشَّهِيدِ مِنْ شُهُودِهِ الْكَرَامَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَنَحْوَهَا ; لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَرِدْ فِيهِ أَوْ تُسَمَّى سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ , وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا لِلْمَقْتُولِ ظُلْمًا وَالْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَلِوُرُودِ النَّصِّ بِإِطْلَاقِ الِاسْمِ , وَدَعْ يَكُونُ الْمَيِّتُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ أَكْثَرَ أَجْرًا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَخَوَاصُّ الشَّهِيدِ لَا نُثْبِتُهَا إلَّا لِمَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِهَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْثَرَ أَجْرًا أَمْ لَا . وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي رُتْبَتِهَا فَالْمُجَاهِدُ الَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ اسْمُ الشَّهِيدِ وَالْخَاصَّةُ الْحَاصِلَةُ لَهُ(2/113)
مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَجْرُ الْحَاصِلُ فِي الْآخِرَةِ , وَاَلَّذِي خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهَا يُشَارِكُهُ فِي أَصْلِ أَجْرِ الْجِهَادِ وَفَضْلِ الشَّهَادَةِ بِلَا شَكٍّ بِالْقِيَاسِ وَبِالْأَوَّلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ , وَأَمَّا مُسَاوَاتُهُ لَهُ فِي الْأَجْرِ فَفِيهِ نَظَرٌ قَدْ يُقَالُ : وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ وَلَا نَجْزِمُ بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ , وَأَمَّا وُقُوعُ اسْمِ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ وَأَمَّا ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ لَهُ فَالْأَمْرُ فِيهَا مُحْتَمَلٌ مِنْ بَابِ الْأَجْرِ الْمُرَتَّبِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ اسْمُ سَبَبِهَا . وَالْكَلَامُ فِيمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقًا كَالْكَلَامِ فِي ذَلِكَ , وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ سَأَلَ وَتَعَاطَى بَعْضَ السَّبَبِ أَعْلَى مِمَّنْ سَأَلَ فَقَطْ وَعُمَرُ حَصَلَ لَهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا سُؤَالُهُ الشَّهَادَةِ الْعُلْيَا وَالثَّانِي حُصُولُ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً فَلَهُ أَجْرُ الثَّانِيَةِ حَقِيقَةً عَلَيْهَا وَلَهُ أَجْرُ الْأُولَى بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالسُّؤَالِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ سَأَلَ الشَّهَادَةَ الْعُلْيَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْأَكْمَلَ لَكِنْ اكْتَفَى فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ بِحُصُولِ الِاسْمِ وَسَأَلَ الْمَوْتَ فِي بَلَدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ شَيْءٌ ثَالِثٌ لِيَكُونَ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا , وَفِيهِ أَمْرٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ بَلْ عَلَى الدِّينِ فَهُوَ كَقَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فِي(2/114)
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَيْسَ كَمَنْ قَتَلَهُ عَدُوٌّ لَهُ ظُلْمًا عَلَى عَدَاوَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بَيْنَهُمَا وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الشَّهِيدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَعُمَرَ رضي الله عنه اشْتَرَكَا فِي أَنَّهُمَا إنَّمَا قُتِلَا لِقَصْدِهِمَا إعْلَاءَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارَ الدِّينِ وَقَاتِلُهُمَا قَصَدَ ضِدَّ ذَلِكَ وَإِخْفَاءَ دِينِ اللَّهِ فَهُوَ صَادٌّ عَلَى اللَّهِ . وَهَذَا مَعْنَى آخَرُ لَمْ نَذْكُرْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيُتَنَبَّهُ لَهُ فِي الشَّهِيدِ , وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْنَاهُ فِي طَرِيقٍ اسْتَعْمَلَهُ اللَّهُ فِيهَا نُصْرَةً لِدِينِهِ فَهُوَ عَبْدٌ سَارَ فِي طَرِيقِ سَيِّدِهِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ حَتَّى غَلَبَهُ عَدُوُّ سَيِّدِهِ لَا لِدَخَلٍ بَيْنَهُمَا بَلْ عَدَاوَةٌ لِلسَّيِّدِ أَلَيْسَ السَّيِّدُ يَغَارُ لَهُ وَاَللَّهُ أَشَدُّ غَيْرَةً وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقًا , ثُمَّ مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ } وَقَالَ أَيْضًا { مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ } .
إذَا عَرَفْت حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا أَسْبَابًا أَحَدُهَا :(2/115)
الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ , الثَّانِي - أَسْبَابٌ أُخَرُ وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَوَجَدْنَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ أُمُورًا لَيْسَتْ فِيهَا فَلَمَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ أَثْبَتَ اسْمَ الشَّهَادَةِ لِلْكُلِّ وَجَبَ عَلَيْنَا اسْتِنْبَاطُ أَمْرٍ عَامٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْجَمِيعِ وَهُوَ الْأَلَمُ بِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ خَارِجٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَرَاتِبُ وَانْضَمَّ إلَى بَعْضِهَا أُمُورٌ أُخَرُ . وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَأُمُورٌ : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ قِتَالُهُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . وَاَلَّذِي قَاتَلَ شَجَاعَةً أَوْ رِيَاءً أَوْ حَمِيَّةً لَيْسَ قِتَالُهُ لِلَّهِ فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا ; لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي مَعْنَى اسْمِ الشَّهِيدِ لَيْسَا فِيهِ وَالنَّصُّ لَمْ يَرِدْ بِتَسْمِيَتِهِ وَإِنَّمَا نَحْنُ نَظُنُّهُ فِي الظَّاهِرِ شَهِيدًا لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ فَحِينَئِذٍ الشَّهِيدُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه : أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ . لَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِكَ تَقْيِيدًا بَلْ إيضَاحًا وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ يُسَمَّى شَهِيدًا وَحِينَئِذٍ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ وَيَكُونُ ذِكْرُ السَّبِيلِ تَقْيِيدًا لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا , وَقَدْ(2/116)
قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الشُّهَدَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَعَكْسُهُ , وَذَكَرُوا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الْمُقَاتِلَ رِيَاءً وَالْمُدْبِرَ وَالْغَالَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ , فَأَمَّا الْمُقَاتِلُ رِيَاءً فَلَيْسَ قِتَالُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ وَإِنْ حَكَمْنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ الشَّهِيدِ , وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ شَهِيدٌ وَلَا أَجْرَ لَهُ . وَأَمَّا الْمُدْبِرُ وَالْغَالُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِبَ نِيَّتَهُمَا فِي طَلَبِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَرَضَ لَهُمَا الْإِدْبَارُ وَالْغُلُولُ وَهُمَا مِنْ الْمَعَاصِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَجْرُ الشَّهِيدِ وَعَلَيْهِمَا وِزْرُ الْإِدْبَارِ وَالْغُلُولِ وَسَنُعِيدُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالشَّهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا غَيْرَ غَالٍّ فَحُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الشُّهَدَاءِ لَا يُغَسَّلُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَفِي الْآخِرَةِ لَهُ أَجْرُ الشُّهَدَاءِ , وَالشَّهِيدُ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا : الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا سَيَأْتِي يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ فِي الْآخِرَةِ لَهُمْ أَجْرَ الشُّهَدَاءِ , الشَّرْطُ الثَّانِي عَدَمُ الْغُلُولِ قَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَشَرْنَا إلَى التَّوَقُّفِ فِي أَنَّهُ شَرْطٌ لِلشَّهَادَةِ(2/117)
أَوْ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْكَامِلِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قِيلَ : فِي التَّفْسِيرِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ . وَقَالَ تَعَالَى { أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } قِيلَ : فِي التَّفْسِيرِ أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ الْغُلُولِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ بِالْكُفْرِ أَوْ بِالْغُلُولِ أَوْ بِالتَّوَلِّي عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَفِرَارِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْحَرْبِ . رَوَى الْبُخَارِيُّ رحمه الله مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ } الْحَدِيثَ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِ قَالَ { كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا } . وَعَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ فَيَقْسِمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَالَ أَسَمِعْتَ بِلَالًا قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاعْتَذَرَ , فَقَالَ(2/118)
كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْك } . صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ . وَخَبَرُ مِدْعَمٍ فِي خَيْبَرَ مَشْهُورٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا } . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ { رَجُلًا تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صَلُّوا عَلَيْهِ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ : إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ } , وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ } فَوُجِدَ فِي مَتَاعِ غَالٍّ مُصْحَفٌ فَقَالَ سَالِمٌ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ , وَقِيلَ : إنَّ الْخُلَفَاءَ مَنَعُوا الْغَالَّ سَهْمَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْغُلُولُ عَظِيمٌ ; لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ عِنْدَهُ فِي قوله تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } فَمَنْ غَلَّ فَقَدْ عَانَدَ اللَّهَ , وَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ تَقْوَى نُفُوسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالثَّبَاتِ فِي مَوَاقِفِهِمْ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا غُلَّ مِنْهَا خَافُوا أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهَا نَصِيبُهُمْ فَيَفِرُّونَ إلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْذِيلًا لِلْمُسْلِمِينَ وَسَبَبًا لِانْهِزَامِهِمْ كَمَا جَرَى لَمَّا ظَنُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَلِذَلِكَ عَظُمَ قَدْرُ الْغُلُولِ , وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ(2/119)
وَسُمِّيَ غُلُولًا ; لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِيهِ مَغْلُولَةٌ ; وَلِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي خِفْيَةٍ وَأَصْلُهُ الْغَلَلُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي تَحْتَ الشَّجَرِ لِخَفَائِهِ وَمِنْهُ غِلُّ الصَّدْرِ . انْتَهَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ . وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِحْبَاطِهِ جِهَادَهُ وَمَنْعِهِ مِنْ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ بِدَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ . وَالْفُقَهَاءُ جَعَلُوهُ شَهِيدًا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا مَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ وَكَانَ خَفِيًّا فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مَا قَالُوهُ . وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَمُ مِنْ النَّارِ فَصَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِهِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ بَعْدَ أَخْذِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَذَابِ فَفِيهِ نَظَرٌ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ صَادِقَةً إلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ يَقْتَضِي إخْرَاجَهُ , وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } نَصًّا ضَابِطًا فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ لَا فَلَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ غَيْرَ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ شَهِيدًا غَلَّ أَوْ لَمْ يَغُلَّ صَبَرَ أَوْ لَمْ يَصْبِرْ احْتَسَبَ أَوْ لَمْ يَحْتَسِبْ . هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَإِنْ كَانَ الصَّابِرُ الْمُحْتَسِبُ غَيْرُ الْغَالِّ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ أَجْرًا . وَعَنْ(2/120)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا : تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ فُلَانٌ قُتِلَ شَهِيدًا وَلَعَلَّهُ قَدْ أَوْقَرَ دَابَّتَهُ غُلُولًا لَا تَقُولُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ قُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ , وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ عُمَرَ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُبَالِغُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : إنَّمَا الشَّهِيدُ الَّذِي لَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَعْنِي الَّذِي يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ مَغْفُورًا لَهُ . وَهَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه شَدِيدٌ . وَأَمَّا الَّذِي قِيلَ فِيهِ : مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ قَوْلَ فُلَانٍ , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ { أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ } وَقَتَلَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى حَالِهِ بِنِفَاقٍ أَوْ سُوءِ خَاتِمَةٍ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلِذَلِكَ قَالَ إنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ يَشْعُرُ بِالْخُلُودِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مِدْعَمٍ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا لَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَةٌ اخْتَصَّ عَذَابُهَا بِسَائِرِ الْبَدَنِ . ( الشَّرْطُ الثَّانِي ) الصَّبْرُ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَيْفَ قُلْتَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ(2/121)
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام } . هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ فِيهِ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَطَايَاكَ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ } وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ مَالِكٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاشْتِرَاطِ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرِوَايَةِ مَالِكٍ فَلَا إشْكَالَ . وَإِنْ أَخَذْنَا بِرِوَايَةِ اللَّيْثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } مَنْطُوقٌ وَالْمَنْطُوقُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَاَلَّذِي يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا لَهُ غَيْرُ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي(2/122)
جَمَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ , وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : جَوَابٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ وَلَكِنْ لَا ضَرُورَةَ إلَى هَذَا , وَقَوْلُهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ فَهَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إدْبَارٌ أَصْلًا . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَنْصُوبَتَانِ عَلَى الْحَالِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ كَوْنُهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ حَالَ الْقَتْلِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ , وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرُ الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ بِمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إمَّا بِأَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ وَنِيَّتِهِ لَا يَكُونُ لَهُ الْتِفَاتٌ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ أَوْ يَكُونُ تَأْكِيدًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الصَّبْرَ مَعَهُمَا . الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْإِقْبَالِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَإِنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَدُوِّ بِصُورَتِهِ وَفِي قَصْدِهِ أَنْ يَنْهَزِمَ فَلَا يَكُونُ صَابِرًا وَلَوْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ شَهِيدًا وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَتَى كَانَ مُقْبِلًا بِصُورَتِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ صَابِرٌ وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَجِدَ أَلَمًا فِي قَلْبِهِ أَوْ كَرَاهِيَةً لِلْمَوْتِ وَفِرَاقِ الْأَهْلِ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَلَهُ هُنَاكَ وَجْهٌ وَأَمَّا هُنَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَالصَّبْرُ عَلَى(2/123)
فِعْلِهَا بِشُرُوطِهَا كَالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَحَسُنَ ذِكْرُهُ فِي الْجِهَادِ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَحْضُرُ الصَّفَّ وَفِي قَصْدِهِ الْفِرَارُ فَلَيْسَ صَابِرًا نَفْسَهُ فَالصَّبْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ وَبِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ . ( الشَّرْطُ الثَّالِثُ ) الِاحْتِسَابُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَيَعْتَدّهُ وَسِيلَةً لِثَوَابِ اللَّهِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ ; لِأَنَّ هُنَاكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَالْمُرَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا صُورَةً وَمَعْنًى وَهُنَا مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَقْصِدُ بِهِ صُورَةَ السَّبِيلِ , وَكُلُّ مَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الصُّورَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ لِيَكُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صُورَةٌ وَمَعْنًى . ( الشَّرْطُ الرَّابِعُ ) أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ وَلِنُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ هُنَا مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ دَائِرٌ مَعَ كَوْنِ الْقِتَالِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءٌ رَجَعَ الْمُقَاتِلُ إلَى بَيْتِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ سَالِمًا أَمْ لَا(2/124)
سَوَاءٌ اُسْتُشْهِدَ أَوْ لَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا فَقَدْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ . وَهَلْ يَخْرُجُ قِتَالُهُ الْمَاضِي عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ يَنْبَنِي عَلَى إحْبَاطِ الْعَمَلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِحُكْمِ الْقِتَالِ . الْمَقَامُ الثَّانِي كَوْنُ الْمَقْتُولِ شَهِيدًا تُكَفَّرُ خَطَايَاهُ , وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا لِذَلِكَ فَأَفْهَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ عَلَيْكَ , وَقَدْ يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَى الْقَتْلِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَقَدْ لَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ . وَقَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَهِيدٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ فَهُوَ شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا . وَقَدْ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ قِتَالٌ بَلْ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا لَهُ فَكَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونُ فِي الصَّفِّ فَهَذَا شَهِيدٌ مَحْمُودٌ وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاتَلَ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْقُوَّةِ وَالشَّهَادَةُ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَفِي الْمَعْنَى الْبَاطِنِ هِيَ شَهَادَتُهُ بِقَلْبِهِ وَبَصَرِهِ(2/125)
كَرَامَةُ اللَّهِ لَهُ وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِحُضُورِهِمْ عِنْدَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْإِكْرَامِ وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِالْخَيْرِ وَإِكْرَامِهِ لَهُ كَمَا حَصَلَ لِبَعْضِ الشُّهَدَاءِ مِنْ تَظْلِيلِهِ بِأَجْنِحَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى رُفِعَ وَشَهَادَةُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَتَأَهَّلَ لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ بِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِنُصْرَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَخِذْلَانِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَجَرُّؤُ عَدُوِّ اللَّهِ عَلَيْهِ تَجَرُّؤٌ عَلَى اللَّهِ وَصَدًّا لَهُ عَنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقَطْعًا لِسَبِيلِهِ , وَالْجِنَايَةِ عَلَى عَبِيدِهِ فَجَازَاهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمِيتَةِ بِحَيَاةِ الْأَبَدِ وَجَعَلَهُ حَيًّا بَاقِيًا مَرْزُوقًا فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا آمِنًا . وَاخْتِصَارُ هَذَا الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْفَتْوَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقِيقَتُهَا مَوْتُ الْمُسْلِمِ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَالِهِمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ , وَيُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ قَاصِدًا إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَفَهَا لِبَذْلِ نَفْسِهِ لِلَّهِ فِي إعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَقَتْلِ عَدُوٍّ لِلَّهِ لَهُ دُونَ الْوُصُولِ دُونَ ذَلِكَ ; وَأَمَّا بَقِيَّةُ الصُّوَرِ فَشَارَكَتْ هَذِهِ الصُّوَرَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ . وَأَمَّا النَّتِيجَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهَا فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {(2/126)
يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ } وَفِيهِ أَيْضًا { الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ } وَفِيهِ { أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ , ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ } وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَأَمَّا الدَّيْنُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " إلَّا الدَّيْنَ " فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا تُكَفَّرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " نَعَمْ " , ثُمَّ قَالَ " إلَّا الدَّيْنَ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ فِي الْحَالِ هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ رحمه الله . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : إنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لَا يُكَفِّرُ تَبَاعَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ مِنْ حُقُوقِ بَنَى آدَمَ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَتْبَعُهُ بِمَظْلِمَةٍ } وَذَكَرَ أَحَادِيثًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى , ثُمَّ قَالَ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَهُ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ . ثُمَّ قَالَ : هَذَا كُلُّهُ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّيْنِ قَبْلَ(2/127)
أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَاتِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ { بَرَاءَةٌ } وَفِيهَا الزَّكَاةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ { مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ عِيَالًا فَعَلَيَّ } فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَقَدْ أُدَانَ دَيْنًا فِي مُبَاحٍ وَلَمْ يَقْدِرْ إلَى أَدَائِهِ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ أَوْ مِنْ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا إنْ جَوَّزَ وَضْعَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ , وَمِنْ الْفَيْءِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { وَعَلَيَّ قَضَاؤُهَا } يُحْتَمَلُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْلِمَ كَانَ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ حُقُوقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ دَيْنَهُ وَيُخْلِصَ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْغَرِيمُ أَوْ السُّلْطَانُ وَقَعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُحْبَسْ عَنْ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ لَهُ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى غَرِيمٍ جَحَدَ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى الْغَرِيمِ وَلَمْ تَفِ بِذَلِكَ حَسَنَاتُهُ فَيُحْبَسُ عَنْ الدَّيْنِ بِسَبَبِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يُحْبَسَ عَنْ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَسَنٌ فِيمَنْ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَظِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ كَذَلِكَ وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى(2/128)
الله عليه وسلم حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ , وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَنْبِيهٌ حَسَنٌ فِيمَنْ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ , وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ الْأَئِمَّةُ الْعَادِلُونَ لِذَلِكَ بَلْ وَالْقُضَاةُ الَّذِينَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ الزَّكَاةُ وَمِنْهَا سَهْمُ الْغَارِمِينَ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : هَذَا فِيمَنْ لَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَأَتْلَفَهُ عَلَى رَبِّهِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ذِمَّةٍ وَمَلَّاهُ وَاسْتَدَانَهُ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ وَتَحْذِيرٍ أَوْ فَسَدَ بِهِ الْمَرْءُ فَسَارِعْ فِي إتْلَافِ مَالٍ بِهَذَا الْوَجْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَوْلِهِ { مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ } . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَذِكْرُهُ الدَّيْنَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّبَاعَاتِ لَكِنْ هَذَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ مَعَ تَمَكُّنِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ سَبِيلًا فَالْمَرْجُوُّ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا صَدَقَ فِي قَصْدِهِ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ أَنْ يُرْضِيَ اللَّهُ تَعَالَى خُصُومَهُ عَنْهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الدُّنْيَوِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُنْسَخُ وَالْحَدِيثُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَضَى دَيْنَ مَنْ مَاتَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الدَّيْنِ كُلَّهَا مَنْسُوخَةٌ إلَّا مَنْ أَدَانَ(2/129)
فِي سَرَفٍ أَوْ فَسَادٍ , وَذُكِرَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ { قِيلَ : لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : فَمَنْ لَنَا بَعْدَك قَالَ يَأْخُذُ اللَّهُ الْوُلَاةَ لَكُمْ بِمِثْلِ مَا يَأْخُذُكُمْ بِهِ } . هَذَا كَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا قَضَاءَ دَيْنِ مَنْ مَاتَ قَادِرًا وَإِنَّمَا ذَكَرُوا قَضَاءَ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ : كَانَ يَقْضِيهِ تَكَرُّمًا لَا وُجُوبًا , وَهَلْ عَلَى الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُعْسِرِينَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ الْمَالِكِيَّةَ , وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِرْضَاءُ بِالْحَسَنَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقْتَضِي تَارَةً تَأَخُّرَ دُخُولِ الشَّهِيدِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرْضَى خَصْمُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَنْعَمَ رُوحُهُ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , نَعَمْ إذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ دُخُولَ النَّارِ , هَلْ نَقُولُ إنَّهُ يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَرْضَ صَاحِبُهُ إلَّا بِالدَّيْنِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ ؟ اللَّهُ أَعْلَمُ . وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرْضِي خَصْمَهُ بِمَا شَاءَ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ هَكَذَا حُكْمُ تَبِعَاتِ الْآدَمِيِّينَ . أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُغْفَرُ كُلُّهَا بِالشَّهَادَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَالْمُعْتَقَدُ ذَلِكَ لَكِنَّا لَانْقَطَعَ بِعَدَمِ دُخُولِهِ النَّارَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ(2/130)
الْعُمُومِ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ قَوِيٌّ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ كَقَوْلِهِ { مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ فَقَدْ تُعَارِضُ كَبَائِرُ أُخْرَى عَظِيمَةٌ تَمْنَعُ الْبِدَارَ إلَى ذَلِكَ هَذَا بِدُونِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ أَمَّا مَعَ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَظَنُّ النَّجَاةِ مِنْ النَّارِ أَضْعَفُ وَإِنْ كَانَ يَقْوَى فِيهِ أَيْضًا بَعْدَ إرْضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خُصُومَ الشَّهِيدِ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَعِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِآدَمِيٍّ . ( فَرْعٌ ) جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ تَمَنِّي هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ } وَفِيهِ أَيْضًا { مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ } وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ لِقَصْدِهِ وَسُؤَالِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلِلْمَرْءِ فِيمَا يَنْوِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٌ : أَحَدُهَا أَنْ يُمْكِنَهُ الْفِعْلُ فَيُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ أَجْرًا دُونَ أَجْرِ الْفِعْلِ . الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُ عَادَةٌ بِهِ فَكُتِبَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا }(2/131)
وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ . الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَصِلَ قُدْرَتُهُ إلَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا فَقَدْ فَعَلَ مَا فِي وُسْعِهِ فَإِذَا قُطِعَ عَنْهُ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ سِعَةِ فَضْلِهِ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا فِي الْعُرْفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَتَّى لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ لَيُصَلِّيَنَّ عَلَى شَهِيدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ بَرَّ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي { أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِلْحَاقُهَا بِهَا إنَّمَا هُوَ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَلَا بِمَعْنًى جَامِعٍ غَيْرِ الِاشْتِرَاكِ النِّيَّةِ , وَنِيَّةُ الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ . وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَوَفَاةً بِبَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم . كَذَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ فِي مَدِينَةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا وَقَعَ وَالْأَوَّلُ لَا يَقْتَضِي فِي الْمَدِينَةِ إلَّا الْوَفَاةَ وَقَدْ تَتَقَدَّم الشَّهَادَةُ فِي غَيْرِهَا وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ الشَّهَادَةَ فِي الْجِهَادِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ طَعْنَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَائِمًا مَقَامَهَا , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ فَحَصَلَ مَا سَأَلَهُ(2/132)
بِحَقِيقَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَهِيدٌ حَقِيقَةً فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { فَمَا عَلَيْكَ إلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ } وَالْمُرَادُ بِالشَّهِيدِ عُمَرُ رضي الله عنه وَفِي رِوَايَةٍ شَهِيدَانِ وَالْمُرَادُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَشَهَادَتُهُ رضي الله عنه حَقِيقِيَّةٌ بِطَعْنِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَاتِ تَالِيَةً لِشَهَادَةِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا فَإِنَّ أَبَا لُؤْلُؤَةَ كَافِرٌ مَجُوسِيٌّ إنَّمَا قَتَلَ عُمَرًا لِقِيَامِ عُمَرَ فِي دِينِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ قِيَامِ الْمُجَاهِدِينَ فَكَانَ فِي مَعْنَى الصُّورَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَجْرُ سُؤَالِهِ الشَّهَادَةِ وَمَعَ ذَلِكَ غُسِّلَ وَصُلِّي عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ . وَبَقِيَ هُنَا بَحْثَانِ ( أَحَدُهُمَا ) اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ سُؤَالَ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَتْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ وَقَتْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَحْصُلُ فِي الْحَرْبِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ غَيْرِ تَعَمُّدِ الْكَافِرِ أَوْ قَتْلِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَهَا جِهَتَانِ : إحْدَاهُمَا حُصُولُ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْمَسْئُولَةُ وَالثَّانِيَةُ قَتْلُ الْكَافِرِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَقْتُولٌ مِنْهُ فِي حِينِ جَاءَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ . ( الْبَحْثُ الثَّانِي ) التَّمَنِّي بِمِثْلِ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قَدَّمْنَا تَمَنِّي الشَّهِيدِ فِي(2/133)
الْآخِرَةِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَهُوَ دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّمَنِّي فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَفِي الْأَحْكَامِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَلَوْلَا أَنَّ التَّمَنِّي حَرَامٌ لَتَمَنَّيْنَا هَذَا هَكَذَا يَعْنِي فِي أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَرِقُونَ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَنَّى أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ يُحَرَّمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . ( الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ ) الطَّاعُونُ نَسْأَلُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ . رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ } وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَخِي أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } . وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ الْمُسْتَدْرَكِ { إنَّمَا وَخْزٌ مِنْ الشَّيْطَانِ } وَالْوَخْزُ طَعْنٌ لَيْسَ بِنَافِذٍ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ مُشَارَكَتُهُ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ قَتْلٌ مِنْ كَافِرِ لِمُسْلِمٍ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَالشَّيْطَانُ إنَّمَا يُعَادِي الْمُسْلِمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى طَعْنِ(2/134)
أَبِي لُؤْلُؤَةَ لِعُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ فِي حُكْمِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ تِلْكَ الْحَالَةُ الشَّرِيفَةُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا . وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ وَإِنَّمَا وَرُتْبَةُ الْقَتْلِ فِي الْجِهَادِ , نَعَمْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا { يَغْفِرُ اللَّهُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ } وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اسْمِ الشَّهِيدِ وَهُوَ شَهِيدٌ فَدَخَلَ الْخَمْسَةُ فِي الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْمُعْتَقِدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ تُشْعِرُ بِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الِاحْتِمَالَ نَفْيًا لِلْقَطْعِ وَإِذَا كُنَّا لَا نَقْطَعُ فِي شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فَفِي هَذَا أَوْلَى . وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي الطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ تَأْيِيدٌ لِمَا قُلْنَاهُ فِي جَوَابِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ , وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْعُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتَ أَرْجُلِهِمْ . وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ { الطَّاعُونَ وَخْزٌ } ; وَوَقَعَ لِلسَّلَفِ خِلَافٌ فَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ أَنَّهُ وَخْزٌ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ : إنَّهُ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ . وَأَمَّا أَنَّهُ(2/135)
هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمَطْعُونِ الرِّضَا أَوْ الصَّبْرُ
- - - - - - - - - - - -
الباب السادس – االفتاوى المعاصرة حول الشهيد
الموت في الحوادث يعتبر موت فجأة
تاريخ الفتوى : ... 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
توفي والدى العام الماضي في حادث سيارة. عن عمر يناهز 74عاما. وكان وقت حدوث الحادثة يعبر الطريق راجعا من عمله. فهل يعتبر والدي شهيداً. مع التفضل بذكر درجات الشهادة ومنازلها في الجنة.
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ فقالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. فقال إن شهداء أمتي إذاً لقليل قالوا فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات في البطن فهو شهيد" قال ابن مقسم: "أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد" وفي رواية في المسند وغيره" والمرأة تموت بجمع". وأما والدك -نسأل الله له الرحمة والغفران- فموته موت فجأة، وهذا الموت راحة للمؤمن كما في المسند وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة فقال: "راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر" حسنه السيوطي.
وأما درجات الشهادة فأعلاها ما جاء في الحديث المذكور أولا ومنازلها بأعلى المنازل في الجنة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الفرق بين شهيد المعركة وغيره من الشهداء
تاريخ الفتوى : ... 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال(2/136)
هل للشهداء المذكورين في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كالغريق والمبطون وغيرهم نفس الأحكام الأخروية التي ينالها شهيد المعركة من الإجارة من عذاب القبر وغفران الذنوب ورؤية مقعده في الجنة وما إلى ذلك؟ ثم هل المرأة التي تموت أثناء الطلق لها نفس أحكام شهيد المعركة الأخروية؟ وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تواترت الأخبار عن نبيا محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق لفظ الشهادة على الذي مات غريقاً، أو حريقاً، أو مات بداء البطن، أو مات في مرض الطاعون، وعلى المرأة التي ماتت في فترة النفاس.
ولفظ الشهادة الوارد في هذه الأحاديث، المراد به أنهم شهداء في ثواب الآخرة، لا في ترك الغسل والصلاة عليهم في الدنيا، أي أنهم يشتركون مع شهيد المعركة في بعض الأحكام لا كلها.
قال ابن قدامة في المغني 2/405.
(فأما الشهيد بغير قتل كالمبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم والنفساء، فإنهم يغسلون ويصلى عليهم، لا نعلم فيه خلافاً).(2/137)
وأما أمن فتنة القبر وعذابه ومغفرة الذنوب بما أصابهم.. فهذه أمور غيبية لا يجوز فيها القياس وإعمال العقل، وقد صحت أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يأمن عذاب القبر وفتنته تراجع في كتب التوحيد، وكتاب الروح لابن القيم، وكتاب شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور للإمام السيوطي باب (من لا يسأل في قبره) وخلاصة ما ذكره هؤلاء العلماء فيمن يأمن فتنة القبر وعذابه أنهم أصناف سبعة، وهم الشهيد، والصدِّيق، ومن قتله بطنه، والمطعون، ومن قرأ سورة الملك كل ليلة، ومن مات يوم الجمعة وليلتها واختلف العلماء في تحسين الحديث الوارد فيه (أي حديث من مات يوم الجمعة)، فمنهم من ضعفه كالحافظ ابن الحجر، وأما رؤية المقعد في الجنة فإنها عامة لكل مؤمن، كما جاء ذلك في سياق ما يجري للمؤمن، والكافر و المنافق عند الاحتضار، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. والله تعالى أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
شروط الجهاد في سبيل الله و من يسقط عنهم الجهاد
تاريخ الفتوى : ... 29 محرم 1422 / 23-04-2001
السؤال
ما هي شروط الجهاد في سبيل الله؟ ومتى تسقط فرضيةالجهاد في سبيل الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالجهاد في سبيل الله فرض، لقوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) [البقرة: 216]، وقوله سبحانه: (انفروا خفافا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) [التوبة: 41].
وهو فرض كفاية: إذا جاهد بعض المسلمين وكان عددهم كافياً لملاقاة العدو، فيسقط الإثم عن الباقين، قال تعالى: (فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى..) [النساء: 95].
وقال عز وجل: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة..) [التوبة: 122].
وقد يصير الجهاد فرض عين على كل مسلم رجلاً كان أو امرأة، بالغاً أم صبياً، وذلك في الحالتين الآتيتين:(2/138)
1/ إذا هجم العدو على بقعة من بلاد المسلمين مهما صغرت، وجب على أهل تلك البقعة دفعه وإزالته، فإن لم يستطيعوا وجب على من بقربهم وهكذا، حتى يعمَّ الواجب جميع المسلمين، ولا نعني بالبلد، أو البقعة النطاق الجغرافي الرسمي لكل بلد، فبلد الإسلام من شرقه إلى غربه بلد واحد، وأمة الإسلام أمة واحدة، فلو قدر أن بلداً في دولة إسلامية تعرض لغزو وكان محاذياً لبلد في دولة أخرى، لكان الوجوب أسرع إلى البلدة المحاذية منه إلى المدن الأخرى البعيدة. .
2/ إذا أعلن الإمام (الحاكم) النفير العام لزمهم النفير معه، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض..) [التوبة: 38].
وقال صلى الله عليه وسلم: ".. وإذا استنفرتم فانفروا" متفق عليه.
ويصير الجهاد فرض عين كذلك على من حضر المعركة، والتقى الصفان أو الجيشان، فإنه من أكبر الكبائر هروب المسلم من ساحة المعركة.
قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات.. وعدّ منها "التولي يوم الزحف" رواه البخاري.
أما شروط وجوب الجهاد فهي:
1/ الإسلام: فلا يصح الجهاد في سبيل الله من كافر، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فتبعه رجل من المشركين، فقال له: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: لا. قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك" رواه مسلم.
2/ العقل: لأن المجنون غير مكلف، قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" رواه أبو داود والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.(2/139)
3/ البلوغ: فلا يجب الجهاد على من هو دون البلوغ، قال عبد الله بن عمر: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يُجزني في المُقاتلة" متفق عليه، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ يوم بدر: أسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، فجعلهم حرساً للذراري والنساء.
4/ الذكورة: فلا يجب الجهاد على النساء، قالت عائشة: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال: "جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة. كما لا يجب الجهاد على خنثى مشكل، لأنه لا يُعلم كونه ذكراً.
5/ القدرة على مؤنة الجهاد: من تحصيل السلاح، ونفقة المجاهد وعياله وغيرها، قال تعالى: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج...) [التوبة: 91]. وقال تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع...) [التوبة: 92].
6/ السلامة من الضرر: فلا يجب الجهاد على العاجز غير المستطيع بسبب علة في بدنه تمنعه من الركوب أو القتال، قال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) [الفتح: 17].
وقال سبحانه: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى.. حرج) [التوبة: 92].
وأما عن سقوط فريضة الجهاد: فقد قال صلى الله عليه وسلم: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل" رواه أبو داود.
وهذا الحديث وإن قيل في سنده ما قيل، فإن معناه صحيح متفق عليه عند أهل السنة، فقد بوب البخاري في صحيحه فقال: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، أورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم".
وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة".(2/140)
وأخرج أيضاً عن جابر بن سمره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة".
فالجهاد لا انقطاع له، ولا يستطيع أحد تعطيل الجهاد ولا توقيفه فهو ماض إلى يوم القيامة، وفريضته لا تسقط عن المكلفين، وأما غير المكلفين ممن ذكروا في شروط وجوب الجهاد فليس الجهاد عليهم بمفروض.
ويضاف إلى من يسقط عنهم الجهاد في حال فرض الكفاية:
1/ من لم يأذن له والداه بالجهاد، فقد استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: "أحي والداك؟ قال: نعم، قال: " ففيهما فجاهد" رواه البخاري ومسلم.
2/ إذن الدائن لمدينه بالجهاد، فيما إذا كان كفائيا، فقد ورد في أحاديث رواها البخاري ومسلم: أن الشهيد لا يغفر له الدين غير المقضي عنه.
3/ وصرح الشافعية والحنابلة أنه يكره الغزو من غير إذن الإمام أو من ولاّه الإمام. ولنعلم أن الجهاد مصدر عز المسلمين وتمكينهم، فقد أخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" .
ولتمام الفائدة يراجع الجواب برقم 5954
==================
هل يصلى على الشهيد صلاة الغائب ؟
تاريخ الفتوى : ... 14 صفر 1422 / 08-05-2001
السؤال
على من تصلى صلاة الغائب، وهل تصلى علي الشهيد؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الصلاة على الغائب (أي: المسلم الذي مات في بلد آخر) جائزة، فقد روى الشيخان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه على النجاشي لما مات في الحبشة.
وتصلى صلاة الغائب على كل مَن تُصلى عليه صلاة الجنازة، وهو: كل مسلم مات: ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، باتفاق الفقهاء.(2/141)
ولا يُصلى على الشهيد (الذي قتله الكفار في المعركة) صلاة الجنازة، ولا صلاة الغائب عند بعض الفقهاء، لما رواه البخاري وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الصلاة على الشهيد، لما روى البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت بعد ثمانِ سنين، كالمودع للأحياء والأموات.
ولما رواه البيهقي مرسلاً أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد قبل دفنهم.
ولعل ما ذهب إليه الإمام ابن حزم من جواز الصلاة على الشهيد وجواز تركها، إعمالاً للنصوص الواردة في ذلك قول حسن وجيه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
العلة في الاستعاذة بالله من الهدم والغرق وأشباه ذلك
تاريخ الفتوى : ... 27 ربيع الثاني 1422 / 19-07-2001
السؤال
هناك بعض الأدعية التي يستعاذ فيها من الغرق والهدم مع أن هذه الأشياء إن حصلت للمسلم ومات بها يعتبر شهيدا فكيف أستعيذ من أشياء تأتي من خلالها الشهادة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن العلة في الاستعاذة بالله تعالى من الهدم والغرق والتردي، وما في معناها مع أنها من أسباب الشهادة هو: أن الموت بها يأتي للإنسان فجأة، وقد يكون غير مستعد بالتوبة، وغير مقيَّد لما يجب له أو عليه من الوصية فيما تجب فيه الوصية، والإقرار بما عليه من الحقوق من ديون وغيرها، والإنسان يسأل عن حقوق الناس، ولو كان شهيداً، ففي صحيح مسلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فلذلك شرع التعوذ من الموت المفاجئ.
كما أن في موت الفجأة من فجيعة ذوي الميت أضعاف ما يصيبهم لو مات بمقدمات تهون عليهم وقع الفراق.
والله تعالى أعلم.
==============
ما يؤهل المؤمن للمكافأة بالحور العين
تاريخ الفتوى : ... 29 رجب 1422 / 17-10-2001
السؤال(2/142)
ما هي الأعمال الصالحة التي تمكن المؤمن من الزواج بفتاة من الحور في الجنة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ثبت في السنة الصحيحة أن لكل رجل في الجنة زوجتين من الحور العين، ومنهم من يزوج بسبعين من الحور العين وهم الشهداء، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حُلة يُرى مخ ساقها من وراء الثياب".
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة…" الحديث.
وفيه: "ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك".
وأما الشهيد، فقد جاء في ثوابه ما رواه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه".
ومن الأعمال التي يكافأ صاحبها بالزواج من الحور العين: كظم الغيظ.
ففي سنن الترمذي: "من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء".
فمن رام الوصول إلى الحور العين فليجتهد في تحصيل الأسباب التي تنال بها الجنة، من الإيمان والعمل الصالح والجهاد والاستشهاد والتخلق بالأخلاق الحسنة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
تاريخ الفتوى : ... 06 شوال 1422 / 22-12-2001
السؤال
1-هل يدخل بعض المؤمنين الجنة بعد وفاتهم؟
الفتوى(2/143)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ثبت أن بعض المؤمنين وهم الشهداء أحياء ينعمون في الجنة بعد وفاتهم.
جاء ذلك في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن الكتاب قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)[آل عمران:169]
ومن السنة ما ثبت في صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن معنى هذه الآية (يعني الآية المتقدمة) فقال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أيَّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
قال القرطبي: ولا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة، حكاه ابن العربي.
وأما غير الشهيد فإنما يعرض عليه مقعده في الجنة؛ إن كان من أهلها، حتى يبعث يوم القيامة.
ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة.
والله أعلم.
=============
الميت بحادث سيارة هل يأخذ حكم الشهيد
تاريخ الفتوى : ... 28 محرم 1423 / 11-04-2002
السؤال
ورد في إجابتكم على أحد الأسئلة أن الوفاة في حادث سيارة يعد موت فجأة وليس من درجات الشهادة، ولكن ألا تعد مثل هذه الحوادث قتل خطأ وألا يعد ضحاياها من الشهداء كالمقتول ظلما؟ جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/144)
فقد روى مالك و أبو داود و النسائي و ابن ماجه من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه قال: " الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد " وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن من صدمته سيارة أو انقلبت به سيارته ثم تحطمت عليه فمات أنه ملحق بشهيد الهدم المذكور في الحديث، وكذلك من احترقت به سيارته، أو غرق بها في نهر ونحوه. لكنهم لا يأخذون حكم شهيد المعركة في الدنيا، فيجب أن يغسلوا وأن يكفنوا ويصلى عليهم.
والله أعلم.
===============
لا ترابط بين الشهادة وعدم تغير الجثة
تاريخ الفتوى : ... 23 صفر 1423 / 06-05-2002
السؤال
السلام عليكم
هل جثة الشهيد محرمة على دود الأرض ؟
وإذا كانت كذلك لماذا تتحلل جثث الشهداء في فلسطين ؟
وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا لا نعلم نصاً من كتاب الله ولا من سنة رسوله فيه الإخبار عن تحريم جثث الشهداء على الأرض، ولكن ورد الحديث بتحريم أجساد الأنبياء على الأرض، كما رواه النسائي و أبو داود وغيرهما.
وقد وردت الآيات والأحاديث تثبت أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. ولكن هذا لا يعني أن أجسادهم لا تبلى، فحياة البرزخ لا تقاس بحياة الدنيا. وقد تبقى أجساد بعض الشهداء كرامة من الله عز وجل لهم كما حصل لشهداء أحد، وقد صحت بذلك الأخبار.(2/145)
ومما ينبغي التنبه له أن الشهادة حكم غيبي لا نعلمه على الحقيقة، فربما قتل المسلم في المعركة فنعده نحن شهيداً، وليس هو بشهيد لسبب لم نطلع عليه، وغاية ما في الأمر أننا نحكم على شخص قتل في المعركة بأنه شهيد في ظاهر الأمر، ونعطيه أحكام الشهيد، ولكننا لا نعلم هل هو عند الله شهيد أم لا؟ فقد يكون قاتل رياءً، وقد يكون قاتل ليقال: فلان شجاع، وقد يكون قاتل لغرض من أغراض الدنيا... وهكذا، فعلم بواطن الأمور مرجعه إلى الله وحده، ونعود فنؤكد أنه لا ترابط -شرعاً- بين الشهادة وعدم تغير الجثة، فقد يكون الشخص شهيداً وتتغير جثته.
والله أعلم.
==============
لا ارتباط بين الشهادة وبين تغير الجثة
تاريخ الفتوى : ... 03 ربيع الأول 1423 / 15-05-2002
السؤال
نعلم أن جثة الشهيد لا تتعفن ولا تخرج منها رائحة ونحن نقول عن كل من يموت في العدوان الإسرائيلي على فلسطين إنه شهيد فلماذا تخرج روائح من مخيم جنين؟؟ وهل محمد الدرة شهيد مع أنه خرج مع أبيه لشراء سيارة وقد هربوا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
مما لا شك فيه أن من مات من المسلمين بسبب العدوان الإسرائيلي على المسلمين في فلسطين نحسبه شهيداً ولا نزكي على الله أحداً.
وأما كون جثة الشهيد لا تتعفن فهذا أمر لا نعلم عليه دليلاً لا من الكتاب ولا السنة ولا من أقوال الصحابة؛ بل ولا من كلام أحد من الأئمة المعتبرين.(2/146)
فإذا لم يثبت هذا الأصل لا يثبت ما تفرع عنه، فقد تخرج رائحة من جثة الشهيد، ويكون مع ذلك هو مكرم عند الله تعالى، كما قال سبحانه(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:169-170].
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال "إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلُقُ في شجر الجنة" رواه الترمذي بسند صحيح.
والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "والذي نفسي بيده، لا يكلم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة اللون لون دم والريح ريح المسك" رواه البخاري وأصحاب السنن.
ولكن هذا كله لا يمنع أن يكرم الله من شاء من عباده في هذه الدنيا فتظل جثته كما هي إلى ما شاء الله، كما شوهد أكثر من مرة، فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير.
والله أعلم.
================
كون أجساد الشهداء لا تتغير لم يرد به دليل
تاريخ الفتوى : ... 28 صفر 1423 / 11-05-2002
السؤال
كنا دائما نسمع أن الأرض لا تأكل جسد الشهداء وأن رائحتهم تكون كرائحة المسك، ولكن في مخيم جنين كانت تخرج من الجثث المتحللة روائح نتنة جداً، أريد توضيحا لهذه المسألة لو تكرمتم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/147)
فإن الصحيح والثابت هو أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فضلوا وميزوا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون، وغيرهم من المؤمنين منعم بما دون ذلك. فتلك هي ميزة الشهداء وخاصتهم من جهة حياتهم في قبورهم، أما كون أجسادهم لا تتغير فهذا لم يرد به دليل تقوم به حجة حسب علمنا. وكون رائحة الشهيد رائحة المسك هذا أيضاً ثابت لكنه يكون يوم القيامة إظهارا لفضيلة الشهيد وتنويها به بين أهل الموقف، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْك" واللفظ للبخاري . ولهذه الحكمة ترك غسل شهيد المعركة.
وبهذا يعلم السائل الكريم وغيره أن تحلل جثث المسلمين الذين قتلوا في مخيم جنين -ظلماً- وهم يدافعون عن أنفسهم ودينهم وأموالهم وأعراضهم وأرضهم ليس فيه دليل أبداً على كونهم غير شهداء، بل الصحيح الذي لا مرية فيه هو أن من قتل دون ماله أو دمه أو أهله من المسلمين فهو شهيد، تغيرت رائحته أم لم تتغير، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه الترمذي والأدلة على هذا كثيرة جداً.
والله أعلم.
===============
لا يقضي الله للمؤمن أمراً إلا كان خيراً له
تاريخ الفتوى : ... 15 ربيع الأول 1423 / 27-05-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
توفيت والدتي بمرض السرطان عافانا وعافاكم الله حيث إنها أصيبت أول ما أصيبت به في ثديها ثم انتشر الى العظم ثم إلى الكبد ثم إلى الرئة ثم توفيت وهي تتصارع وهذا المرض حوالي سنتين سؤالي جزاكم الله خيرا هل يعتبر الموت بمرض السرطان شهادة أي أن المتوفى في حكم الشهيد.(2/148)
وبارك الله فيكم وجزاكم الله عنا كل خير
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأما أصناف الشهداء فمذكورة في الفتوى رقم :
3397، والمسلم مأجور على كل ما يصيبه إن احتسب ذلك بالنية الصالحة. ودليل ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له! وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له! وفي مسند أحمد من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجباً للمؤمن! لايقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له . وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد و أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته .
فنسأل الله لوالدتك ولنا وللمسلمين الرحمة والمغفرة.
والله أعلم.
==============
شهداء ولكن ماتوا على فرشهم
تاريخ الفتوى : ... 21 ربيع الأول 1423 / 02-06-2002
السؤال
هل صحيح أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه، وإذا كان كذلك فإني سمعت من أحد المشايخ أن الشخص يعتبر شهيدا بشرط أن يكون ملتزما بأوامر الله ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه يكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمَّن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر، ويحلَّى حلة الإيمان. رواه أحمد من حديث قيس الجذامي .(2/149)
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء؛ وإن مات على فراشه.
وقد وردت آثار تدل على أن المؤمن بفعله للصالحات وتركه للمحرمات يكون شهيداً، منها: ما أخرجه ابن جرير عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ. ومنها ما أخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد. ثم تلا :وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال يوماً وهم عنده: كلكم صديق وشهيد! قيل له: ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال اقرأوا: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد مثل ذلك عن مجاهد رحمه الله، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن ميمون الجهني قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فمَّمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من مات وفيه تسع فهو شهيد. ويقصد بالتسع ما في قوله تعالى:التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] .(2/150)
ولا شك أن من جمع إلى هذه الأعمال الصالحة الجهاد في سبيل الله ومقارعة الخطوب وبذل النفس لله فهو أعظم أجراً وأرفع درجة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف. رواه الترمذي .
وفي الصحيحين وسنن أبي دواد من حديث عبد الله بن أبي أوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
والله أعلم.
===============
يجوز قول فلان شهيد على طريق الإجمال
تاريخ الفتوى : ... 13 ربيع الثاني 1423 / 24-06-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دار بيني وبين صديق لي حوار أزعجني جدا. ادعى صديقي أن الشهداء في فلسطين ليسوا شهداء وأنه لا يجوز أن نطلق كلمة شهيد على أي إنسان بداية... ثم مصادفة قرأت فتوى في موقع سلفي لابن عثيمين -رحمة الله عليه- يؤكد هذا التوجه... أما حجة صديقي في الأولى أنه كيف أن الموتى -على حد تعبيره- في فلسطين شهداء مع الرائحة الكريهة التي فاحت منهم وتحلل أجسامهم... ومعروف أن جسد الشهيد لا تتحلل بل وتفوح منها رائحة المسك؟ الرجاء إجابتي على السؤال مع الدليل جزاكم الله كل خير ووفقكم إلى طريق الحق والصواب. وشكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/151)
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: التقى هو المشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار! فقال رجل من القوم: أنا صاحبه. قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه. قال: فجرح الرجل جرحا شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار! فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة.
وقد وضع الإمام البخاري هذا الحديث تحت باب : لا يقال فلا ن شهيد. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيداً ولعله قد يكون قد أوقر راحلته. ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد. وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين ، ثم قال: فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد، بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال.(2/152)
والحديث فيه دليل على جواز إطلاق لفظ الشهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة ذلك بل أقرهم حيث كانوا يقولون: فلان شهيد وفلان شهيد. كما في لفظ مسلم حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إني رأيته في النار...
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق لفظ الشهادة على الغال لملابسة خاصة به.
وعموماً فالشهادة والإيمان من موجبات دخول الجنة، فإذا قيل فلان مؤمن أو فلان شهيد فلا مانع من ذلك، وهو حكم بالظاهر وليس على سبيل القطع، وانظر ما كتبناه بخصوص المسلمين الذين قتلوا في مخيم جنين على أيدي اليهود المعتدين برقم:
16377 والفتوى رقم: 16554 ليتضح لك منه أن حجة صاحبك واهية.
والله أعلم.
===============
شهيد المعركة أكثر ثواباً من باقي أصناف الشهداء
تاريخ الفتوى : ... 20 ربيع الثاني 1423 / 01-07-2002
السؤال
هل الإنسان الذي استشهد في البحر أجره نفس المستشهد بالنفس مثل إخواننا في فلسطين؟ عدد لي أنواع الشهادة؟ وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالغريق شهيد، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه، ولكن الشهادة درجات ومنازل، فسيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه، فقتله.
ولا شك أن الشهيد في أرض المعركة الذي بذل نفسه لنصرة دين الله، والذب عن الدين، والعرض وحماية بيضة المسلمين أعظم من غيره من الشهداء كالمبطون والغريق، وهذا الذي أشرنا إليه في الفتوى رقم: 17168.
وانظر الفتوى رقم: 6753، والفتوى رقم: 5278.
والله أعلم.
===============
الغريق شهيد
تاريخ الفتوى : ... 06 ذو الحجة 1424 / 29-01-2004
السؤال
هل يعتبر الغريق الذي ذهب ليتنزه شهيداً؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/153)
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ فقالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله، فهو شهيد، فقال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، قال ابن مقسم: أشهد على أبيك أنه قال: والغريق شهيد".
وفي رواية في المسند وغيره: "والمرأة تموت بجمع".
فالغريق شهيد بإذن الله، سواء ذهب للنزهة أو لغير ذلك.
والله أعلم.
=============
الأمر الذي لا يغفر للشهيد
تاريخ الفتوى : ... 16 جمادي الثانية 1423 / 25-08-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله
ما الذي يحبس الشهيد عن مرتبة الفردوس من أعمال الدنيا ؟ وبارك الله فيكم......
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالذي يحبس الشهيد عن دخول الجنة الدين، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك.
والله أعلم.
==============
حكم منحة لشهيد كتبت باسم أمه المتوفاة قبله
تاريخ الفتوى : ... 18 جمادي الثانية 1423 / 27-08-2002
السؤال
لي أخ استشهد في الحرب وقد منحت الدولة قطعة أرض باسم أم الشهيد والتي قد سبق وأن توفيت قبله فمن هو الوارث لهذه المنحة مع العلم بأن الشهيد له والده مازال حيا ولديه إخوان وأخوات أشقاء ومن أبيه أيضا ( غير أشقاء ) وجزاكم الله خيراً.......
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/154)
فإذا تم الحصول على هذه الأرض مع علم الدولة بوفاة أم المتوفى، فإنه يجوز للورثة تملكها، إذ لا عبرة بكتابة هذه الأرض باسم الأم المتوفاة، لأن الميت ليس أهلاً للتملك بعد موته، فهي عطية صادفت المعطى ميتاً فلم تصح، ولأن الظاهر من قرائن الأحوال أن الدولة تعطي هذه الأرض لورثة الشهيد، لكن تكتبها باسم الأم لاعتبارات أخرى، وبناء على ذلك فإنها تقسم على ورثة الشهيد بحسب ما تراه الدولة، لأنها لم تكن ملكاً للمتوفى في حياته، فلا تأخذ حكم الميراث.
أما إذا كانت هذه الأرض لا تمنح إلا للأم، ولكن الورثة تحايلوا على الدولة بطرق غير مشروعة للحصول على هذه الأرض فإنه يجب عليهم، ردها إلى الدولة، لأن ذلك من الغش والتدليس المحرمين.
والله أعلم.
============
المعونات لأسر الشهداء...هبة أم ميراث
تاريخ الفتوى : ... 04 رجب 1423 / 11-09-2002
السؤال
هل تعتبر المعونات الممنوحة لأسر شهداء الانتفاضة بمثابة إرث شرعي أم دية توزع حسب الشرع للورثة جميعا أم من المستفيد منها؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمنح التي تعطى لأسر الشهداء، تملك لهم على أنها هبة من الجهة التي منحتها، لا على أنها ميراث الشهيد، لأن الميت ليس أهلاً للتملك.
وعلى هذا يكون تقسيمها على من يستحقونها بحسب ما تحدده الجهة المانحة، لأن مرجع تقسيم الهبة هو الواهب، وراجع في هذا الفتوى رقم:
21603 والفتوى رقم:
18770.
والله أعلم.
=============
الشهيد قد يحفظ جسده وقد يبلى
تاريخ الفتوى : ... 08 رجب 1423 / 15-09-2002
السؤال
قال الرسول صلعم أجساد الشهداء لا تصبح عظاما . لماذا أجساد شهداء الجزائر كانت كذلك
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/155)
فلم نقف على حديث ينص على أن أجساد الشهداء لا تبلى أو لا تصير عظاماً، والشهيد قد يبلى جسده، وقد يظل محفوظاً إكراماً من الله تعالى له، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم 16275 .
وننبه إلى أنه لا يشرع أن يكتب الإنسان ( صلعم) اختصاراً لجملة صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم 7334
والله أعلم.
================
الانتحار خوف الاغتصاب...رؤية شرعية
تاريخ الفتوى : ... 12 رجب 1423 / 19-09-2002
السؤال
ماحكم المرأة التي تقتل نفسها خوفا من الاغتصاب ؟ ... هل تعتبر منتحرة أم شهيدة علما بأنها قد ترمي نفسها من علو أو قد تستخدم سكينا أو خنجرا وهل هناك اختلاف في طريقة إهلاك النفس؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن يقتل نفسه بحال من الأحوال مهما عظم عليه البلاء واشتد عليه الخوف، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سما فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
فكل من قتل نفسه متعمداً يتناوله هذا الحكم بأي وسيلة نفذ القتل، والانتحار ليس حلاً لمشكلة، وإنما يأس وقنوط من رحمة الله تعالى، والمرأة المكرهة على جريمة الزنا لا إثم عليها، ولا عار، ولا حدّ، لأنها مكرهة، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة مصرحة بنفي الإثم والعار والحد عن المكره.(2/156)
ومن المعلوم أن أعظم الذنوب هو الشرك بالله تعالى، وقد نفى الله تعالى الإثم عن من أكره على التلفظ بكلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
والحاصل أن الذي يقتل نفسه قد ارتكب إثماً عظيماً فهو معذب بما قتل به نفسه مخلد في نار جهنم، وشتان ما بينه وبين الشهيد، وأنه لا إثم ولا حرج على المكره.
والله أعلم.
============
الشفاعة...معناها...ثبوتها...أنواعها
تاريخ الفتوى : ... 18 رجب 1423 / 25-09-2002
السؤال
كم أنواع الشفاعة وما أعظمها ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالشفاعة لغة: الوسيلة والطلب. وعرفاً: سؤال الخير للغير. وقيل: إنها مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له.
والشفاعة ثابتة للأنبياء والرسل والملائكة والشهداء والصالحين على اختلاف مراتبهم عند الله تعالى، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: ما في مسند الإمام أحمد ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين أو مثل أحد الحيين: ربيعة ومضر. وهذا القدر من هذا الحديث قال عنه شعيب الأرناؤوط: صحيح بطرقه وشواهده.
ومنها: ما ثبت في مسند الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من أن الشهيد يشفع في سبعين ألفا من أقاربه. والشفاعة أنواع.. ومن أهمها وهي أعظمها على الإطلاق: شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف لفصل القضاء، وهي المقام المحمود الذي وعده الله تعالى يوم القيامة. قال سبحانه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79].
ومنها: الشفاعة لتخفيف العذاب عن بعض الكفار، وهذه أيضاً خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.(2/157)
ومنها: الشفاعة فيمن استوجبوا النار بأعمالهم فلم يدخلوها بسبب الشفاعة.
ومنها: الشفاعة في رفع درجات المشفوع لهم.
والله أعلم.
=============
من مناقب سعد بن معاذ
تاريخ الفتوى : ... 14 شعبان 1423 / 21-10-2002
السؤال
من هو الصحابي الجليل الذي اهتز عرش الرحمن لوفاته
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الصحابي المسؤول عنه هو سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وقد اهتز عرش الرحمن لموته رضي الله عنه، وقد تواتر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عبد البر وغيره.
وقال الذهبي في السير: وقد تواتر قول النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم " إن العرش اهتز لموت سعد فرحاً به "
ومناقب سعد لا تعد، فهو كما قال الذهبي: السيد الكبير الشهيد أحد السابقين أبو عمرو الأنصاري البدري، اهتز لموته عرش الرحمن، ومناقبه مشهورة في الصحاح وفي السير.
وفي السير أن قريشاً سمعت هاتفاً على جبل أبي قبيس يقول:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ===== بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فقال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر.. سعد تميم ؟ فسمعوا في الليل الهاتف يقول:
يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ==== ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ==== على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ===== جنان من الفردوس ذات رفارف
فقال أبو سفيان : هو والله سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.
أسلم سعد على يد مصعب بن عمير فلما أسلم وقف على قومه، وقال لهم: إن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فأسلموا جميعاً.(2/158)
وكان على رأس المستقبلين للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة. وشهد معه بدراً وغيرها من المشاهد حتى أصيب يوم الأحزاب بسهم قطع أكحله فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي الشهادة ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة.
فلم يمت رضي الله عنه حتى حكم في بني قريظة حكمه العادل.
توفي رضي الله عنه شهيداً سنة خمس من الهجرة، وهو يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن في البقيع.
والله أعلم.
=============
النصوص صحيحة صريحة في شفاعة الشهيد يوم القيامة
تاريخ الفتوى : ... 11 رمضان 1423 / 16-11-2002
السؤال
ما حكم شفاعة الشهيد يوم القيامة ؟ نرجو الإفادة
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد وردت في شفاعة الشهداء أحاديث صحيحة صريحة كلٌ حسب رتبته ومقامه عند ربه، من هذه الأحاديث ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته. صحيح الجامع الصغير.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في المسند: يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفعوا فيشفعون... إلى آخر الحديث . والحديث حسنه الأرناؤوط.
والله أعلم.
===============
الشهادة.. أنواعها والفروقات بينها
تاريخ الفتوى : ... 21 شوال 1423 / 26-12-2002
السؤال
ما الفرق بين شهيد الدنيا، شهيد الآخرة، وشهيد الدنيا والآخرة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/159)
فإن شهيد الدنيا والآخرة: هو الذي يقتل في الجهاد في سبيل الله مقبلاً غير مدبر لا لغرض من أغراض الدنيا ، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهما: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. رواه البخاري.
أما شهيد الدنيا: فهو من قتل في الجهاد لكن قتاله كان رياء أو لغرض من أغراض الدنيا.. أي لم يكن في سبيل الله، فهو في الدنيا يعامل معاملة الشهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه، وينتظره في الآخرة ما يستحق من عقوبة جزاء سوء قصده وخبث طويته.
أما شهيد الآخرة: فهو من يُعطى يوم القيامة أجر الشهيد ولكنه لا يعامل معاملته في الدنيا؛ بل يغسل ويصلى عليه.. ومن هؤلاء: المقتول ظلماً من غير قتال، والميت بداء البطن أو بالطاعون أو بالغرق، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله. متفق عليه.
وكذلك حديث أنس: الطاعون شهادة لكل مسلم. متفق عليه، والحديث الآخر: من قتل دون ماله فهو شهيد. متفق عليه.
والله أعلم.
=============
الميت بداء البطن من شهداء الآخرة
تاريخ الفتوى : ... 08 ذو الحجة 1423 / 10-02-2003
السؤال
هل الذي يتوفى مبطوناً، أي بمرض في بطنه يعتبر شهيداً عند الله، حيث أن والدي عنده السرطان وانتشر في معدته عن طريق الكبد والبنكرياس، أفيدوني؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ورد في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله.(2/160)
والمراد أنهم شهداء في ثواب الآخرة لا في ترك الغسل والصلاة عليهم. قال ابن قدامة في المغني: فأما الشهيد بغير قتل كالمبطون والغريق وصاحب الهدم والنفساء فإنهم يغسلون ويصلى عليهم، لا نعلم فيه خلافاً. انتهى.
والمبطون -كما قال النووي رحمه الله في شرح مسلم- هو: صاحب داء البطن وهو الإسهال، قال القاضي: وقيل هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً. انتهى
والله أعلم.
===============
الشهادة في سبيل الله.. تعريفها..مراتبها..وثمراتها
تاريخ الفتوى : ... 06 ربيع الأول 1424 / 08-05-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: الشهداء سبع ، سوى القتل في سبيل الله عز وجل: المطعون شهيد، والغريق شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، و صاحب الحريق شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد" 1- فماذا إذا كان هذا الإنسان فاسقاً ؟ هل يعد شهيداً؟ 2- إذا كان الشهيد في سبيل الله لا تقبل شهادته إن كان مديوناً فما بال هؤلاء؟ 3- هل تجري على الشهداء السبعة المذكورين في الحديث ما يجري على الشهداء في سبيل الله من عدم غسلهم والخ... ؟ وجزاكم الله خيراً سلفاً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالشهادة كما يقول الإمام السبكي: حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة.
وأعلى صور الشهادة القتل في سبيل الله عز وجل، وفيها يقول الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه)(آل عمران: 169-170).
وثمة مراتب أدنى من هذه المرتبة بمن فيهم المذكورون في السؤال، والشهداء كلهم يشتركون في رؤية كرامة الله لهم عند الموت، ولذا سموا شهداء، على المختار من سبب التسمية.(2/161)
ونتيجة الشهادة هي مغفرة الذنوب لحديث: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين.
وفي ذكر الدين تنبيه على حقوق الآدميين الأخرى، أما حقوق الله فظاهر الحديث أنها تغفر كلها بالشهادة بما فيها الكبائر، وبهذا يعلم جواب الفقرة الأولى من سؤالك، وأما جواب الفقرة الثانية فليس صحيحاً أن المدين لا تقبل شهادته إذا مات ولم يسدد دينه، لكنه يحبس عن الجنة حتى يقضى عنه، فإن لم يقض عنه فالمرجو من الله أن يُرضِّيَ الخصوم (أصحاب الدين) حتى يرضوا، وأما الشهداء السبعة المذكورون فإنهم شهداء في الآخرة لا في أحكام الدنيا، فيغسلون ويصلى عليهم، وانظر للمزيد الفتوى رقم:8223 ورقم: 5278
والله أعلم.
==============
عدة زوجة الشهيد
تاريخ الفتوى : ... 11 ربيع الأول 1424 / 13-05-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الزوجة إذا استشهد زوجها هل لها عدة شرعية؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالزوجة إذا استشهد زوجها أو مات وجب عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً خرجت من العدة بمجرد وضع الحمل ولو كان الوضع بعد الموت بلحظة.
ولا فرق في ذلك بين زوجة الشهيد وغيره.
علماً بأنه لا يجوز أن نقطع لمسلم بالشهادة إلا بنص من الشارع إنما يقال: نرجو له الشهادة أو نحسبه شهيداً، والله حسيبه، ولهذا قال البخاري في صحيحه "باب: لا يقول فلان شهيد"، قال ابن حجر رحمه الله: أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم فلان شهيد ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات في سبيل الله فهو شهيد. وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما، وانظري للأهمية الفتوى رقم: 21440.
والله أعلم.
=============
الشهيد لا يسأل في قبره(2/162)
تاريخ الفتوى : ... 22 ربيع الأول 1424 / 24-05-2003
السؤال
هل يأتي منكر ونكير للشهيد في القبر على نفس الصورة التي يأتيان بها للمسلم أو للكافر أفيدوني؟ بارك الله فيكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أنما جعل السؤال في القبر لامتحان المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق، ولا حاجة إلى سؤال الشهيد لامتحانه لأن شهادته أدل دليل على صدقه، وإلى هذا يشير جواب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة. رواه النسائي وسنده صحيح.
وجاء في جامع الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده في الجنة ويجار من عذاب القبر...
وروى الترمذي أيضاً، من حديث فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه لينمى له عمله ويأمن فتنة القبر.
وفي مسلم: رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأمن الفتّان.
وفي رواية أبي داود: اومن من فتاني القبر. قال في شرح الترمذي: وقي فتنة القبر-أي مما يفتن المقبور به من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب. وفي شرح أبي داود قال العلقمي: يحتمل أن يكون المراد أن الملكين لا يجيئان إليه ولا يختبرانه بل يكفي موته مرابطاً في سبيل الله شاهداً على صحة إيمانه، ويحتمل أنهما يجيئان إليه لكن لا يضرانه ولا يحصل بسبب مجيئهما فتنة. انتهى.
فإذا كان المرابط -وهو أقل مرتبة من الشهيد- لا يسأل فالشهيد أولى، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية هل يسأل الشيهد، فأجابه بقوله: لا، كما صرح به جماعة... انتهى.
وجاء في رد المحتار: مطلب: المرابط لا يسأل في القبر كالشهيد.(2/163)
وجاء في شرح النيل تعليقاً على حديث: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، قال: والحديث دليل على أن الشهيد لا يسأل في قبره. انتهى.
والله أعلم.
=============
مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله
تاريخ الفتوى : ... 25 ربيع الأول 1424 / 27-05-2003
السؤال
منزلة الشهيد عند الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الشهيد في سبيل الله تعالى بمنزلة عظيمة لأنه قدم أغلى ما يملك ابتغاء ثواب الله تعالى، واختار الحياة الأخروية الخالدة على الحياة الدنيوية القصيرة الفانية، ويعسر أن نحصي النصوص الشرعية المفصلة لثواب الشهيد في سبيل الله، ولعلنا نقتصر منها على الأمثلة التالية:
فقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن.(2/164)
وأخرج أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الشهادة، ولا ينكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، وأنزل الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وقال صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه. رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه.
وقال صلى الله عليه وسلم: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. رواه مسلم وأبو داود وابن حبان.
والله أعلم.
==============
حكم ظهور المعتدة على شاشات التلفزة
تاريخ الفتوى : ... 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
هل على زوجة الشهيد "عدة"؟ هل يمكنها الظهور على شاشات التلفاز أو غير مسموح لها ذلك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/165)
فإن المرأة إذا توفي زوجها شهيدا في سبيل الله فإنها تجب عليها العدة كغيرها من النساء اللائي توفي أزواجهن، وعدتها إن كانت حاملا وضع حملها كله، قال تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن [الطلاق:4]
وإن كانت غير حامل فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا [البقرة:234].
وإن كانت لا تحيض لصغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر، قال تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْن [الطلاق:4].
أما ظهورها على شاشة التلفاز فلا يجوز داخل العدة ولا خارجها، وذلك نظرا لعدة أمور:
- أن هذا فيه التبرج الذي نهى الله تعالى عنه في قوله: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].
- أنها تكون سببا لفتنة الرجال وخاصة في هذا الزمان الذي يكثر فيه الفساد والاختلاط، فهي مطالبة بستر جميع جسدها عند مقابلة الرجال الأجانب.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. وهو حديث صحيح قال في مشكاة المصابيح، رواه أبو داود ولابن ماجه معناه.
- أن المعتدة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ضرورية لا بد منها.
-أن ظهورها على شاشة التلفاز يعسر معه أن تكون خالية من الزينة وهي مُحرَّمة عليها أثناء العدة.
وللتعرف على ما يلزم في الإحداد مدة العدة يُرجع إلى الفتوى رقم: 5554.
والله أعلم.
=============
الشهيد الذي يقتل في المعركة لا يغسل
تاريخ الفتوى : ... 02 رجب 1424 / 30-08-2003
السؤال
السلام عليكم أرجو من حضرتكم إبلاغي هل المقتول يغسل قبل الدفن أو لا؟. وشكرا(2/166)
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن مات من المسلمين يجب تغسيله على الأحياء وجوباً كفائياً، بحيث إذا قام به البعض سقط الوجوب عن البقية الآخرين.
قال النووي في المجموع: وغسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين.
واستثنى العلماء الشهيد الذي يموت في ساحة المعركة في قتاله مع الكفار، وذلك لحديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر في قتلى أحد بدفنهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. رواه البخاري.
وبهذا تعلم حكم غسل الميت.
والله أعلم.
==============
كرامات الشهداء ومنزلتهم
تاريخ الفتوى : ... 12 رجب 1424 / 09-09-2003
السؤال
ما هي كرامات الشهداء ومنزلتهم؟ وهل هناك من درجة أعظم من الشهادة يستطيع الإنسان أن يقوم بها إن لم يستطيع الجهاد؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن كان مقصود السائل بقوله "كرامات الشهداء" ما يحصل لهم بعد موتهم من العلامات الدالة على صدقهم وقبول الله لهم، فإن هذا كثير لا يمكن حصره، فمنهم من تُشَمُّ منه رائحة المسك، ومنهم من يموت وهو يبتسم، ومنهم من يرى على وجهه الانشراح والنور.
وإن كان مقصوده ما أعد الله لهم، فقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث تَتْرى في بيان فضل الشهداء.
فمنها قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].(2/167)
وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة، وفي رواية: لما يرى من فضل الشهادة . رواه الشيخان عن أنس .
وقول السائل هل هناك درجة أعظم من الشهادة.. الخ الجواب عليه هو نعم، فدرجة الصديق أعلى من درجة الشهيد.
قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وقال تعالى:أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد: 19].
قال ابن كثير رحمه الله: ولا شك أن الصديق أعلى مقاما من الشهيد كما رواه مالك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم.
قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رحال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين . اهـ والحديث رواه الشيخان أيضا. والله أعلم
=============
لا يجزم بالشهادة لمن مات في حادث سيارة
تاريخ الفتوى : ... 08 ذو القعدة 1424 / 01-01-2004
السؤال
أخي ذهب للعمل في غانا، وتوفي نتيجة حادث سيارة وهو من مصر، وهو صغير في السن (30عاما) ذهب إلى هناك ليكسب ما يقيه السؤال، وكان هناك بعيدا عن أهله. هل نحتسبه عند الله من الشهداء؟ وهل لو كان شهيدا ينطبق عليه حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه يشفع لسبعين من أهله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/168)
فمن مات في حادث سيارة، يرجى أن يكون شهيدا ولا يجزم له بالشهادة، لعدم ثبوت نص بضابط من يموت شهيدا، وإنما عد النبي صلى الله عليه وسلم أصنافا ممن يموتون ميتة فيها شدة وألم، كالغريق، والحريق، والمطعون، والمبطون، والنفساء تموت بسبب ولدها، وكذا صاحب الهدم، وإنما قلنا ترجى له الشهادة، لأن موته فيه شدة وألم تشابه أو تفوق ما ورد في النصوص، ولذا ألحقه بعض العلماء بصاحب الهدم، أي الذي يتهدم عليه منزل فيموت.
أما كونه يشفع في سبعين من أهل بيته، فلا ينطبق عليه، لأن هذا الفضل في حق شهيد الدنيا والآخرة، الذي يقتل في سبيل الله، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، ولا يقاس عليه غيره لعدم التماثل، كما قال ابن قدامة في "المغني": وإن قُتل العادل كان شهيدا، لأنه قُتل في قتال أمر الله به بقوله: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: 9]. وهل يغسّل ويصلى عليه؟ فيه روايتان إحداهما: لا يغسّل ولا يصلى عليه، لأنه شهيد معركة أُمر بالقتال فيها، فأشبه شهيد معركة الكفار، والثانية: يغسّل ويصلى عليه، وهو قول الأوزاعي وابن المنذر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على من قال: لا إله إلا الله، واستثنى قتيل الكفار في المعركة، ففيما عداه يبقى على الأصل، ولأن شهيد معركة الكفار أجره أعظم، وفضله أكثر، وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته، وهذا لا يلحق به في فضله، فلا يثبت فيه مثل حكمه، فإن الشيء إنما يقاس على مثله. انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" في معرض كلامه عن فضل الشهادة : وبعض هذه الخصال يكون لسائر الشهداء كالأخيرة، (يعني أنهم أحياء عند ربهم يرزقون) كما نقله القرطبي عن العلماء، وكوقاية فتنة القبر، كما ذكر الجلال السيوطي .. الخ وقد ذكر قبلها قريبا كون الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته، ولم يعدّها من الخصال التي تشمل جميع أنواع الشهداء سوى شهيد المعركة.(2/169)
ولمزيد من الفائدة انظر الفتاوى: 3397، 15027، 34588.
والله أعلم.
===============
جواز إطلاق لفظ الشهيد على سبيل الرجاء لا الجزم
تاريخ الفتوى : ... 06 صفر 1425 / 28-03-2004
السؤال
ظهرت في الآونة الأخيرة من يشهدون لمعين بالجنة، والشهادة، في وسائل الإعلام وبين الشباب، فهل ثبت شيء من ذلك في قول أهل السنة، أرجو أن تعطونا أقوال أهل العلم، لا سيما ابن تيمية تلميذه والأدلة على ذلك لنثبته، وهل الذي شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة كالمبطون وغيرهم متوقف على صلاح العبد وتقواه، أم لا بأس وإن كان كافراً أو فاسقاً من المسلمين؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن منهج أهل السنة والجماعة ألا يحكموا لأحد من أهل القبلة بعينه بجنة ولا نار إلا ما ورد النص بتعينه، ولكنهم يرجون للمحسنين الجنة، ويخشون على المسيئين من النار، ويعتقدون أن من مات من المسلمين لا يشرك بالله شيئاً لا يخلد في النار مهما عظمت ذنوبه، ويطلقون وصف الشهادة على من قتل مجاهداً في سبيل الله -حسب الظاهر- ومن قتل دون نفسه دفاعا عنها أو دفاعا عن أهله وماله....
وقد وردت الأدلة الصريحة الصحيحة على جواز إطلاق الشهادة على هذا النوع، فقد قال الصحابة رضوان الله عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم: كلا، إني رأيته في النار في عباءة غلها أو بردة غلها.... والحديث أخرجه مسلم وغيره.(2/170)
وفيه دليل على جواز إطلاق الشهادة على من قتل شهيداً حسبما يبدو لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة ذلك، والذي لا ينبغي أن يقال ذلك على سبيل الجزم والقطع وذلك لا يعرف ولا يكون إلا عن طريق الوحي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم العلاء الأنصارية رضي الله عنها عندما قالت لعثمان بن مظعون بعد وفاته: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال لها صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا. رواه البخاري وغيره.
والحاصل أنه لا مانع من أن يقال فلان شهيد، أو يطلق ذلك على سبيل الإجمال لأنه حكم بالظاهر، وأما من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة كالمبطون.. فيشترط فيه أن يكون مسلماً، والمسلمون فيهم الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، وأما الكافر فلا يدخل في هذا قطعاً، وبإمكانك أن تطلع على المزيد من الفائدة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18137، 26390، 4625.
والله أعلم.
=================
الدعاء بالرحمة للشهيد وغيره مشروع
تاريخ الفتوى : ... 10 صفر 1425 / 01-04-2004
السؤال
هل يجوز أن أقول للشهيد الله يرحمه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجوز الدعاء لكل من مات على التوحيد من المسلمين لعموم الأدلة الدالة على ذلك، والشهيد وهو من قتل في سبيل الله يجوز الدعاء له والترحم عليه من باب أولى، وإنما اختلف الفقهاء في جواز تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، لما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم لذلك مع الشهداء من الصحابة، وإنما كان ذلك لفضل الشهيد لأنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك.
والله أعلم.
============(2/171)
للشهيدة في الجنة نعيم مقيم
تاريخ الفتوى : ... 23 صفر 1425 / 14-04-2004
السؤال
أفيدوني جزاكم الله عنا كل خير ، للشهيد في الجنة 70-72 حورية، لا أعلم كم بالضبط ، فكيف هو الحال للشهيدة مع تبيان الأسباب لطفا لأنني سمعت بأن الشهيدة لها شخص واحد لا أدري إن جاز لنا القول بحوري مع ثقتي التامة بأن كل شيء له حكمته ولكنني أتعرض لهذا النوع من الأسئلة ولا أملك الحجة للرد على الناس مع العلم بأنني أعيش في ألمانيا لذلك أتعرض لمثل تلك الأسئلة من الألمان . فما هو الرد على ذلك . جزاكم الله عنا كل خير . إيمان
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن للشهيد وللشهيدة عند الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والأصل أنه لا فرق بين ثواب الشهيد وثواب الشهيدة إلا فيما ورد دليل يخصصه، ومما ورد فيه دليل مخصص ما ذكر في السؤال، وقد ورد
أن الله تعالى يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين. رواه مسلم.
وفي سنن ابن ماجه: للشهيد عند الله تعالى ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه.
وفي رواية الترمذي: ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين.
فالخصال المذكورة ينالها الشهيد سواء كان رجلاً أو أمرأة إلا أن المرأة في الآخرة لا تريد غير زوجها من الإنس، ولا تحب غيره، ونعيم الجنة متوفر لكل أهلها حسب ما يشتهون كما قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(الزخرف: من الآية71)، ونساء الجنة قاصرات الطرف على أزواجهن لا يبغين بهم بدلاً فبذلك كمال متعتهن وتمام نعيمهن وأعظم سعادة لهن.(2/172)
ونحن نعتقد جازمين أن أهل الجنة جميعاً رجالاً ونساء سينالون من النعيم المقيم الأبدي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكلهم ينال بغيته ومشتهاه هناك حسب رغبته.. وينبغي أن تعلمي أن أمور الآخرة لا تقاس بالأمور الدنيوية فما في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء.
كما ننصحك ألا تضيعي وقتك وتشغلي نفسك بما يثيره أعداء الإسلام من الشبه والتشكيك للنيل من الإسلام العظيم وخاصة ما يتعلق بالمرأة، فإن الإسلام دين شامل ونظام كامل أعطى كل ذي حق حقه، وخاصة المرأة التي كرمها أماً وبنتا وزوجة وأختا... فلا يوجد في الإسلام صراع بين الرجل والمرأة لأن الرجل جزء من المرأة والمرأة جزء من الرجل، يكمل بعضهما بعضاً، مع احتفاظ كل منهما بخصائصه التي فطره الله تعالى عليها.
قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ(آل عمران: من الآية195)، ولمزيد من الفائدة نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 16675.
والله أعلم.
===========
محاسبة الأنبياء والشهداء
تاريخ الفتوى : ... 05 ربيع الثاني 1425 / 25-05-2004
السؤال
هل يحاسب الرسول صلى الله عليه وسلم وهل يحاسب الشهيد؟ جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي محاسبة الله تعالى للأنبياء والرسل خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف هو ماجاء في قوله تعالى: [فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين](لأعراف:6) فإن هذه الآية تدل على أن الله تعالى يحاسب جميع البشر ، الرسل والمرسل إليهم وهذا هو ما يذهب إليه بعض العلماء،(2/173)
قال الرازي في إثبات أن السؤال يقع على الأنبياء والأمم أيضاً: الذي أرسل إليهم هم الأمة، والمرسلون هم الرسل فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين قال: ونظير هذه الآية قوله : [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ](البقرة: 134)
ويذكر ابن كثير أن الله تعالى يسأل الأنبياء عن تبليغ أقوامهم رسالة الله تعالى فقال: فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل عن إبلاغ رسالاته. ثم نقل عن ابن عباس في تفسير الآية: أن الله يسأل الرسل عما بلغوا .ويذكر الشوكاني في معنى الآية: [وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين] أن السؤال للأنبياء الذين بعثهم الله : أي نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم،ومن أطاع منهم ومن عصى.
وقال السفاريني عن مسألة حسابهم: والجواب أنه لاحساب على الأنبيناء عليهم السلام على سبيل المناقشة والتقريع.
ويقول النسفي فيما ينقله عنه السفاريني: الأنبياء لا حساب عليهم، وكذلك أطفال المؤمنين، وكذلك العشرة المبشرون بالجنة، هذا في حساب المناقشة، وعموم الأيات الكريمة مخصوص بأحاديث من يدخل الجنة بغيرحساب. أ.هـ . وعلى القول بأنهم يسألون ـ ومعلوم أنه لا ذنوب لهم ليحاسبوا عليهاـ فما المقصود من وقوع السؤال عليهم.
أجاب الرازي عن ذلك بقوله: فإن قيل فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة ؟ قلنا: لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير البتة، التحق التقصير بكليته بالأمة، فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم .أهـ(2/174)
فالذي يظهر أن إطلاق القول بأن الأنبياء يسألون، أن المقصود به مساء لتهم عن تبلغيهم الدعوة إلى أقوامهم، وهو مجرد مساءلة لزيادة إقامة الحجة على العصاة، وليس مساءلة مناقشة وتقريع كما ظهر مما سبق، وأما إطلاق القول بأنهم لا يسألون، فالمرادبه ما تقدم من أنهم لا يسألون سؤال مناقشة واستظهار ، وإذا كان قد ثبت أن طائفة من أتباع الانبياء يدخلون الجنة بغير حساب فكيف بالأنبياء الذين لهم المزية الأولى في التكريم ؟
قال الشيخ الشنقيطي في مسألة الأنبياء وسؤال الله للرسل (ماذا أجبتم ) لتوبيخ الذي كذبوهم ، كسؤال المؤودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها.أ.هـ
باختصار من كتاب الحياة الآخرة، د/ غالب عواجي
أما الشهيد فقد وردت أحاديث كثيرة في فضله ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : عندما سئل: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة. رواه النسائي . وجاء في جامع الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب قال: قال صلى الله عليه وسلم للشهيد عند الله ست خصال : يغفرله في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه. رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه.
فهذه الأحاديث وإن دلت على أن الشهيد لا يفتن في قبره وأنه يغفر له وأنه يأمن من الفزع الأكبر، غير أنها لاتدل على أن الشهيد لا يحاسب ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين ، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك.(2/175)
ففيه دلاله على أن الشهيد على الرغم من علو درجته وعظيم منزلته إلا أنه لا يغفر له الدين أي أنه يحاسب عليه ولكن الحساب كما قال الله عن المؤمنين الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم: [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً] (الانشقاق:8) وهو العرض
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة أليس يقول الله تعالى: فسوف يحاسب حساباً يسيراً، قال ذلك العرض. رواه البخاري عن عائشة، قال ابن حجر : الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة. انتهى،
والله أعلم
=============
لمن تكون الزوجة في الآخرة إذا تزوجت من أكثر من زوج
تاريخ الفتوى : ... 01 جمادي الأولى 1425 / 19-06-2004
السؤال
أنا زوجة شهيد أعيش أنا وأولادي الثلاثة أكبرهم 7 سنوات رفضت مبدأ الزواج بعد زوجي نهائياً ولكني تعرضت لمشاكل مع إخوان زوجي وكما تعلمون مشاكل الناس وكلامهم مما جعلني أتزوج من أخيه والآن أريد الانفصال لأنه لا يستطيع العدل بين بيتي وبيته الثاني، فأريد أن أسأل هذه الأسئلة وأتمنى من الله أن تجيبوا عليها من الكتاب والسنة وبارك الله فيكم.
أولاً: أريد أن أسأل عن زوجة الشهيد لو تزوجت مع من تكون في الآخرة علما بأنها تحب الشهيد جداً، وعلما أن آراء قالت مع آخر أزواجها فكيف لو كان من أهل النار وهي من أهل الجنة.
ثانياً: هل يجوز التصرف في مال الأيتام بشراء الحاجات والأكل لهم ولبيتهم.
ثالثاً: هل لو انفصلت عن هذا الرجل ما علاقتي معه في الآخرة، علماً بأنني ما جاء إلى بيتنا إلا يومين.
رابعاً: الآن يفارق بيتي ما يقارب الشهرين ولا يسأل ولا يأتي فيجوز لي الخروج وهل أحاسب على ما أفعل.(2/176)
خامساً: هل الشهيد يطلب زوجته يوم القيامة، هل يجوز التفكير في الزوج الذي أنجبت منه وهو الشهيد والمرأة متزوجة، علما بأنها لن تحب الزوج الثاني.
سادساً: يوم القيامة التقي بزوجي الشهيد وأكون زوجته وأكون سيدة الحور العين إن شاء الله؟ أتمنى الإسراع في الإجابة أن ترسلوها إلينا بأقرب وقت ممكن، وجزاكم الله عنا كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن دخلت الجنة وقد تزوجت بأكثر من زوج في الدنيا ودخل جميعهم الجنة، فإنها تخير بينهم فتختار أحسنهم أخلاقاً، كما في الحديث عند
الطبراني وقد ذكرنا ذلك في الفتوى رقم: 35117.
وأما بشأن أموال اليتامى، فلك أن تنفقي منها عليهم، وعليك إن كنت محتاجة بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير، وانظري الفتوى رقم: 32551، والفتوى رقم: 37220.
وأما بشأن الخروج من البيت، فإن كان لتقصير زوجك في توفير حاجيات البيت، أو لضرورة من طلب رزق لك بسبب تفريط زوجك في الإنفاق عليك أو لأولادك، فلا مانع منه في هذه الحالة وإلا فلا يجوز لك الخروج إلا بإذنه فاتقي الله وأطيعيه. قال الشربيني في مغني المحتاج: والنشوز هو الخروج من المنزل بغير إذن الزوج. ا.هـ
أي أن المرأة بالخروج من بيتها بدون إذن زوجها تكون ناشزاً لا تستحق النفقة، ثم استثنى الشربيني رحمه الله تعالى صوراً يجوز للزوجة أن تخرج ولو لم يأذن الزوج فقال: لا إلى القاضي لطلب الحق منه، ولا إلى اكتسابها النفقة إذا أعسر بها الزوج ولا إلى استفتاء إذا لم يكن زوجها فقيها ولم يستفت لها. ا.هـ
وانظري الفتوى رقم: 29827.
ونذكر هذا الزوج بوجوب العدل بين نسائه، ويمكنك إطلاعه على الفتوى رقم: 3604 والفتوى رقم:28707، وأما وصيتنا لك فالصبر، وأن لا تتعجلي في طلب الطلاق لعل الله يصلح الأمر بينكما.(2/177)
وأما التفكير في زوجك الأول، فإن كان بإرادة منك فلا ينبغي، لأن ذلك يجر إلى التضجر والنفرة من زوجك الحالي وسوء العشرة معه، وكل ذلك لا يجوز. وإن كان التفكير رغماً عنك فلست آثمة، لأن ذلك أمر خارج عن قدرتك واستطاعتك.
والله أعلم.
============
القائد الشهيد: نور الدين محمود زنكي
تاريخ الفتوى : ... 08 شعبان 1425 / 23-09-2004
السؤال
استاذنا الجليل: أريد معرفة سيرة القائد نور الدين محمود وما هي السمات التي كانت تميزه، وما هو الهدف الذي كان يسعى لتحقيقه في حياته؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال الحافظ الذهبي عن القائد نور الدين محمود زنكي الكردي الشهيد -كما في السير-: صاحب الشام الملك العادل نور الدين ناصر، أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام أبو القاسم محمد. انتهى
ولد في شوال سنة 511هـ. قال ابن الأثير: طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحرياً منه للعدل. انتهى
ومن سيرته أنه:
- أظهر السنة بحلب وقمع الرافضة.
- بنى المدارس والجوامع والمساجد بحلب وحمص ودمشق وبعلبك ودار الحديث وأنشأ المارستان.
- وأبطل المكوس.
- وبنى دار العدل وأنصف الرعية، وكان يعقد في دار العدل في الجمعة أربعة أيام، ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين.
- وجاهد الكفار والأرمن وكسر الفرنج مرات ودوخهم وأذلهم، وكسرهم يوم حارم وكانوا ثلاثين ألفاً، فقل من نجا، وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً.
- وجهز جيشاً مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهر دولتهم الرافضية، وصفت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العبيديين واستأصلهم.(2/178)
- وكان يتعرض للشهادة، وسمعه كاتبه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها. قال الحافظ الذهبي معقباً: قلت: قد أدركها على فراشه!! وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد. اهـ
- ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، ووقف كتباً كثيرة مثمنة.
- وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج عين بأحد كان قد دفنها السيل.
- وكان زاهداً عابداً متمسكاً بالشرع، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان يلازم السجادة والمصحف.
- وكان لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق.
- وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالأخيار.
- وكان كثير المطالعة، وروى الحديث وأسمعه بالإجازة، وراسل بعض العلماء كابن الجوزي.
- وكان لا يأكل ولا يلبس إلا من عمل يده!! ينسخ تارة، ويعمل أغلافاً تارة، وكان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر، فيبعنها له سراً ويفطر على ثمنها، وكان له ملك قد اشتراه من سهمه من الغنيمة يتصرف منه، ولقد طلبت زوجته منه فأعطاها ثلاثة دكاكين فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين.
- وكان يتهجد كثيراً، وله أوراد في الليل والنهار، وكان كثير الصوم، وكان ذا خوف وورع، ويصلي في جماعة ويتلو ويسبح.
هذا، وسيرة نور الدين عظيمة وواسعة، وهي جديرة بالاطلاع عليها، وتجدها مبسوطة في كتب التواريخ مثل: (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي، و(البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير، و(الكامل) لابن الأثير، وغير ذلك.
ومما سبق من سيرته نستخلص بعض سماته التي كانت تميزه، ومنها:
لزوم السنة، وهجر البدع والمبتدعة، والعدل مع الرعية، وحب الجهاد والتعرض للشهادة، الورع الشديد والأكل من عمل يده، وكثرة التعبد والتهجد والصوم.
وأما سماته الشخصية:(2/179)
فقد كان حسن الصورة مليح الوجه، أسمر، واسع الجبهة، له لحية في حنكه، ولا شعر في وجهه سواه، حلو العينين، وكان طويلاً، وكان مهيباً وافر الهيبة، مع تواضعه ولطافته، وما تبسم إلا نادراً، وكان من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه، وكان حسن الرمي، وكان مليح الخط.
وأما الهدف الذي كان يسعى لتحقيقه في حياته فهو: حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، وتعبيد الناس لله، وأطرهم على الحق أطرأ، ودفع الكفار عن بلاد المسلمين، وقمع أهل البدع من الرافضة وغيرهم.
والله أعلم.
=============
حكم الحج عن الشهيد
تاريخ الفتوى : ... 18 رمضان 1425 / 01-11-2004
السؤال
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: تقبل الله منكم ومنا صيام وقيام رمضان بمزيد من الأجر والثواب، السؤال هو: هل يحج عن الشهيد؟ وبارك الله فيكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحج عن الغير جائز لمن كان قد حج عن نفسه، ويمكن أن تراجع في ذلك فتوانا رقم: 7019.
وقد فضل الله الشهيد وبين ذلك في كتابه حيث قال جل من قائل: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {آل عمران:169-170}.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين. ومع هذا الفضل فإن الشهيد كسائر الناس يحتاج إلى زيادة الأجور والدرجات في الآخرة فلا بأس بالحج عنه.
والله أعلم.
==============
السقوط من سطح محجر
تاريخ الفتوى : ... 19 ذو الحجة 1425 / 30-01-2005
السؤال(2/180)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بات فوق بيت ليس به آجار فوقع فمات، برئت منه الذمة)، ما معنى برئت منه الذمة؟ وهل من وقع ومات من سطح محجر له حكم الشهيد؟ أو أنه يؤجر على ما أصابه من أذى؟ ومن وقع ومات من سطح غير محجر لا يؤجر على ما أصابه من أذى؟ وإن مات فهو في حكم قاتل نفسه؟ أفتونا مأجورين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المشار إليه رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وصححه غير واحد من أهل العلم، فقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد
رواه أحمد مرفوعاً وموقوفاً وكلاهما رجاله رجال الصحيح، كما صححه الألباني في الصحيحة وحسنه في صحيح الترغيب والترهيب.
والذمة في اللغة العهد والضمان والأمانة.
ولعل معناها هنا أن من اقتحم نهي النبي صلى الله عليه وسلم لا ذمة له لاقتحامه نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في عون المعبود على شرح سنن أبي داود عند شرحه لكلمة: فقد برئت منه الذمة: قال في فتح الودود يريد أنه إذا مات لا يؤخذ بدمه. انتهى وقيل: إن لكل من الناس عهداً من الله تعالى بالحفظ والكلاءة، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة انقطع عنه.
وأما من سقط من سطح محجر فنرجو له الشهادة لما رواه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صرع عن دابته فهو شهيد.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قلنا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والمتردي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد، والسل شهيد، والحريق شهيد، والغريب شهيد. رواه الطبراني في الكبير.
وأما من تعمد النوم فوق سطح غير محجر وسقط فمات فلا يتناوله هذا الحكم بالطبع، لأنه فعل ما لا يجوز له واقتحم نهي النبي صلى الله عليه وسلم وعرض نفسه للتهلكة.
والله أعلم.
=============(2/181)
الميت اختناقا بسبب الحريق له أجر الشهيد
تاريخ الفتوى : ... 23 ذو الحجة 1425 / 03-02-2005
السؤال
توفي والدي وهو مختنق بالحريق ولم تمسسه نار إطلاقا .. وكان ذلك دفاعا عن بيته وأهله .. فهل يعتبر شهيدا؟؟ وإن كان كذلك نرجو تبيان ذلك بالدليل القرآني أو من السنة النبوية ..
وجزاكم الله ألف خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من الشهداء غير شهيد المعركة، جاء ذلك في أحاديث صحيحة منها ما رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغِرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد.
قال في عون المعبود: من قاتل الصائل على ماله حيوانا كان أو غيره فقتل في المدافعة فهو شهيد، أي في حكم الشهيد في الآخرة لا في الدنيا، أي له ثواب شهيد.
وعلى هذا، فوالدكم له أجر الشهيد إن شاء الله تعالى لما يظهر من الأحاديث ، مع العلم أن الشهداء غير شهيد المعركة يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم، ولمزيد من الفائدة نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 8223.
والله أعلم.
============
أرواح الشهداء وسائر الارواح
تاريخ الفتوى : ... 24 صفر 1426 / 04-04-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
هل صحيح أن روح الشهيد يقبضها الله عز و جل تكريما له عن بقية الخلق والأنبياء
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لا نعلم دليلا على هذا ولا مخصصا لعموم قوله تعالى:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ {السجدة: 11} إلا حديثا موضوعا في شهيد البحر كما قال الألباني في صحيح الجامع.(2/182)
ومن المعلوم أن ملك الموت يقبض الأرواح بمشيئة الله، وأن له أعوانا من الملائكة، وقد أسند الله التوفي في آية لنفسه فقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا {الزمر: 42} وأسنده في آخرى إلى الملائكة فقال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا {الأنعام: 61} وأسند الآية السابقة لملك الموت، ووفق بينها بأن ملك الموت هو المباشر بإذن الله وله أعوان آخرون كما قال الشيخ الشنقيطي، وراجع في كرامات الشهداء في الفتوى رقم: 37026.
والله أعلم.
=============
شفاعة الشهيد لأقاربه
تاريخ الفتوى : ... 10 ربيع الأول 1426 / 19-04-2005
السؤال
من خلال قراءتتي للأحاديث مر معي حديث مكتوب فيه أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله.السؤال :هل هناك تحديد لمن يشفع هذا الشهيد من أهله, وإذا كان من أهله من يقوم بالكبائر وغير مصل فهل يشفع له أيضا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن تحديد ما يحصل في الآخرة لا بد فيه من دليل لأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا يعلم إلا بدليل. وانطلاقا من دلالة كلمة أهل في القرآن والسنة واللغة ورواية أخرى للحديث يعلم أن قرابته وزوجه يدخلون في عموم الأهل فقد نقل صاحب اللسان عن ابن سيده: أهل الرجل عشيرته وذوو قرباه، وقد أطلقت كلمة أهل في القرآن والسنة على الزوج والولد وأولياء المعني. قال الله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ {النساء: 25}(2/183)
. ا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا{النساء: 35}. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا{النساء: 92}. وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {هود:45}. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندهها ثلاثا وقال إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي. فالمقصود بالأهل في الآيات الأولى القرابة وفي آية نوح الولد وفي آية موسى الزوجة وفي حديث مسلم الزوج. وثبت في في الحديث شفاعة الشهيد في قرابته كما في حديث: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوته منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه. رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه. ولا بد للمشفوع فيهم أن تتوفر شروط الشفاعة، فللشفاعة شروط ثلاثة: رضاء الله عن الشافع ورضاه عن المشفوع له، وإذن الله للشافع أن يشفع. قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى{لنجم:26}. وقال: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً{ طه:109}. وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ{البقرة: 255}. والكبائر لا تمنع من الشفاعة، فمن معتقد أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر من هذه الأمة لا يخلدون في نار جهنم، وأن من استحق منهم النار(2/184)
ودخلها سيخرج منها بعد أن ينال نصيبه من العذاب، أو يشفع فيه أحد الشافعين. ويدل لكونهم لايمنعون الشفاعة ما في الحديث: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح. وإنما يمنع الشفاعة الكفر لقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ{المدثر:48}. مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ {غافر: 18}. وأما تارك الصلاة كسلا فيدخل في عموم المشفوع فيهم عند الجمهور القائلين بعدم كفره ولا يدخل عند من كفره بتركها، وأما تاركها المنكر وجوبها فهو كافر عند الجميع ولا تنفعه الشفاعة، وراجع في تفصيل كلام العلماء وبيان أدلتهم في تارك الصلاة بعض الفتاوى السابقة فيها فابحث عن كلمة تارك الصلاة لتطلع عليها.
والله أعلم.
==============
من الأعمال التي تحرم فاعلها على النار
تاريخ الفتوى : ... 19 جمادي الثانية 1426 / 26-07-2005
السؤال
ما الأفعال التي لا تمسنا نار جهنم إذا فعلناها ؟ مثل بكاء العين من خشية الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(2/185)
فإن أعظم الأعمال التي تحرم الناس على النار هو تحقيق التوحيد والإخلاص لرب العالمين والموت على ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. رواه البخاري ومسلم. ثم إن هناك أعمالاً كثيرة وعد الله من أداها بعدم دخول النار، وبالفوز بالجنة، وأسعد الناس بذلك هو الشهيد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: للشيهد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي والألباني. ومن ذلك أيضاً البكاء من خشية الله والحراسة والرباط وحماية الثغور من غزو الأعداء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله. رواه الترمذي وحسنه. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. رواه مسلم. ويعني صلاة الفجر وصلاة العصر. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قدم ثلاثة من ولده لن يلج النار إلا تحلة القسم. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تروى في فضائل الأعمال، ولمزيد من هذه الأحاديث نحيلك على كتاب " الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري خصوصاً الطبعة التي خرَّجها الشيخ الألباني، وكذلك كتاب" المتجر الرابح" للدمياطي.
والله أعلم.
===============
لا غضاضة على الفتاة أن تتزوج بعد استشهاد زوجها
تاريخ الفتوى : ... 17 شعبان 1426 / 21-09-2005
السؤال(2/186)
لقد فقدت زوجي قبل زفافي بعدة أشهر وقد كان وقع الصدمة كبيرا علي فقد كان أحد شهداء حادث اغتيال وذكر خبر استشهاده في جميع الأوساط الإعلامية وقد شاهدته على شاشات التلفزة وألسنة النار تحرق جسده فتمزق قلبي حزنا وألما على فراقه وأحسست وكأن كل شيء قد توقف بالنسبة إلي: المنزل الذي كنا نجهزه للعيش فيه بعد حفل الزفاف، فستان زفافي، الأسرة التي كنا ننوي أن نكونها، أحلامنا المشتركة....برغم الدموع التي لم تفارق عيوني والحزن الساكن في قلبي، كنت دائما صابرة ومحتسبة وراضية بقضاء الله وقدره، دائما أسأل الله أن يقويني وأن يجمعني معه في الجنة، ودائما أقول وأدعو الله "اللهم اجرني في مصيبتي وأبدلني خيراً منها" و "يا موضع كل شكوى, ويا سامع كل نجوى, ويا شاهد كل بلوى: أدعوك دعاء من اشتدت فاقته, و ضعفت حركته, وقلت حيلته .. دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". كنا قد عقدنا القران قبل ستة أشهر، ولكن لم يحدث دخول ، فهل يعتبر أنه كان زوجي وأنني سوف أكون له في الجنة إن شاء الله؟(2/187)
كما أن هناك موضوعا يقلقني، فأنا أبلغ 23 من العمر، والآن و بعد مرور 7 أشهر على استشهاده هناك من يود أن يتقدم لي للزواج ولكني مازلت أبكي وأتألم على فراقه ولا أستطيع أن أتخيل أني لأحد سواه وأهلي قلقون على شبابي وأنا أعرف في قرارة نفسي أنه ربما سوف يأتي يوم وأتزوج من جديد ولكني قلقية إذا تزوجت أن لا يكون زوجي الشهيد من نصيبي في الحياة الآخرة حيث أعرف حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزوجة هي لآخر أزواجها في الجنة، وأنا أسأل الله في كل صلاة أن أكون له في الجنة ويحقق لنا كل ما لم نقدر أن نحققه في الدنيا...فكيف أبدد قلقي وهل المقصود أن الزوجة لا تكون لزوجها في الجنة إلا إذا دخل عليها؟ مع العلم أني مسجلة في الدوائر الرسمية أرملة الآن وأني قضيت أيام العدة بعد استشهاده وهي أربعة أشهر و10 أيام.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا في الفتوى رقم: 2207 أن المرأة تكون في الجنة لزوجها في الدنيا، وأنها إذا تزوجت أكثر من زوج فإنها تكون لآخر أزواجها على الراجح، وقيل تكون لأحسنهم خلقاً، والحديث عن المسائل الغيبية يحتاج إلى نص من الشارع به، وما لم يرد في شأنه نص لا يمكن الحكم به، ولا ينبغي للمسلم أن يشغل نفسه بالحديث في ذلك أو التفكير فيه لأنه لا يصل إلى نتيجة من وراء ذلك.
وعدم دخول الزوج بزوجته لا يؤثر، فالعبرة بحصول العقد إذ تصبح زوجته، عليها العدة أربعة أشهر وعشراً، ولها الميراث؛ كما بينا في الفتوى رقم: 28173 ويشملها الحديث الوارد في ذلك، فلك أن لا تتزوجي لتحظي بزوجك في الآخرة إن كنت لا تشتهين الرجال ولا ترغبين فيهم، وإلا فالأولى لك إعفاف نفسك عن الحرام، والزواج متى ما وجدت كفؤا ذا خلق ودين، وانظري الفتوى رقم: 38909.(2/188)
واعلمي أنه لا غضاضة على المرأة أن تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها، وليس فيه عدم وفاء لزوجها الأول، فقد تزوج كثير من الصحابيات ونساء السلف بعد استشهاد أزواجهن أو موتهم ولم يعب عليهن أحد ذلك.
والله أعلم.
=============
اختلاف الأحوال عند خروج روح المسلم
تاريخ الفتوى : ... 02 محرم 1427 / 01-02-2006
السؤال
نعلم أن الإنسان المؤمن عند خروج روحه تخرج بسهولة عكس الإنسان الكافر، ولكن هل خروج الروح متشابهة لجميع المسلمين على اختلاف درجة إيمانهم وصلتهم بالله تعالى؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتخفيف على المؤمن عند خروج الروح لا ينافي أنه قد يشدد عليه عند الاحتضار أو بطريقة الموت نفسها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم أجمعين كان يقول عند موته: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. رواه البخاري عن عائشة.
وفي رواية في الصحيح أنها كانت تقول: فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال في تحفة الأحوذي: ..... لما رأت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفى، وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات. انتهى.
وقال الحافظ: وفي الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته. انتهى.
وقد وردت أدلة على أن خروج الروح وما يترتب عليه من الألم يتفاوت بين المسلمين، فقد ثبت أنه خفيف جداً على الشهيد، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة. قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
والله أعلم.
================
قسمة المنح التي تعطى لأسر الشهداء
تاريخ الفتوى : ... 14 محرم 1427 / 13-02-2006
السؤال
نرجو منكم إفتائي بالتالي:(2/189)