الحج
أحكامه وصفته
تأليف
عبدالله بن عبدالرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فهذا هو الأثر الثاني من آثار شيخنا الشيخ / أبي عبد الرحمن عبدالله بن عبدالرحمن السعد ، وهو بعنوان « الحج أحكامه وصفته » (1) .
وأصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها فضيلة شيخنا قبل عدة سنوات بعنوان « الحج رواية ودراية » ألقيت في سنة (1413) تقريبا ، وكان المقصود من المحاضرة ذكر صفة الحج باختصار دون التوسع في الكلام على المسائل والأحكام الأخرى المتعلقة بالحج ، وقد تم تفريغ هذه المحاضرة ، وإعدادها للنشر مع توثيق ما فيها من نقول , وأضيف إليها جملة من المسائل والأحكام من شرح قديم لفضيلة الشيخ على كتاب « بلوغ المرام » للحافظ ابن حجر ، ألقي في سنة ( 1411 ) تقريباً .
ثم بعد ذلك عُرض الكتاب على فضيلة الشيخ فقام بمراجعته وتعديل ما يحتاج إلى تعديل مع إضافات كثيرة ، وقدّم له بمقدمة مهمة في التنبيه على أهمية التوحيد والتحذير من الشرك وصوره ووسائله .
وخروج هذا الأثر إنما كان بفضل الله جل وعلا أولا وأخيرا ، ثم بالتعاون المثمر بين الإخوة في المكتب العلمي بـ«دار المحدِّث» , وأخص منهم أخي الشيخ / سامي بن جادالله ، والإخوة القائمين على «ملتقى أهل الحديث» وأخص منهم أخي الشيخ / عبدالرحمن الفقيه ، وأخي الشيخ / خليل بن محمد ، فجزى الله خيرًا كل من ساهم في خروج هذا العمل ، والشكر والدعاء موصول للإخوة المشايخ / عبد الرحمن الزغيبي , وعادل الزرقي , وعبدالله الدهيشي , وعبدالرحيم الشهري , ووائل النايل , وكلهم من طلبة الشيخ وتلاميذه وفقهم الله جميعا لما يحبه ويرضاه .
__________
(1) والأول هو «بحوث ومسائل علمية» , وسوف يطبع قريبا - إن شاء الله تعالى - , وإنما قدم هذا لأجل الاستفادة منه في موسوم حج هذا العام , والله الموفق .(1/1)
وأخيراً نسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا العمل ، وأن يوفق لإخراج بقية آثار شيخنا الفاضل ، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته ، والله ولي التوفيق .
... ... ... ... ... د . علي بن عبد الله الصياح
... ... ... ... ... 16/11/1426
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
ثبت في « الصحيحين » من حديث حنظلة بن أبي سفيان ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ? : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان » (1) .
دل هذا الحديث على أن الإسلام مبني على خمسة أركان , أولها وأعظمها هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد , ومعناها : لا معبود بحق إلا الله .
وتوحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة ، وإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله ? من نعوت الجلال وصفات الكمال ، ومحبة أوليائه ومعادات أعدائه والبراءة منهم ومن أفعالهم ؛ هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه ؛ قال الله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] .
وقد بعث الله تعالى بذلك أنبياءه ؛ قال الله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] .
وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] .
وقال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ]
__________
(1) أخرجه البخاري ( 8 ) ومسلم ( 16 ) .(1/2)
ولذلك كان كل رسول يقول لقومه : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ، كما قال تعالى عن نوح عليه السلام : { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] ، إلى آخرهم وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقال : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله } [ الأعراف : 158 ] .
فعلى هذا لا بد من تعلم التوحيد والعمل به ، ومعرفة ما يضاده وتركه والبراءة منه ؛ حتى يقوم الإنسان بدين الإسلام الذي كلفه الله تعالى به .
وقد قال الله تعالى لأفضل الرسل وخاتمهم وسيد ولد آدم نبينا محمد ? : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك للمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم } [ محمد : 19 ] .
وهذه الآية الكريمة ينبغي لكل مسلم أن يقف عندها ويتدبرها ؛ فإذا كان الرسول ? وهو من هو يأمره ربه عز وجل بالعلم بأن لا إله إلا الله إذن ما بالك بغيره ؟!
ومن المعلوم أن هذه الآية ليست هي أول ما نزل ، بل سبقتها آيات وسور قبلها ؛ لأن «سورة محمد ?» التي فيها هذه الآية مدنية ، والآيات التي سبقتها فيها الإعلام بأنه لا إله إلا الله تعالى , وفيها الأمر لرسوله ? أن يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له , وبقي على هذا مدة طويلة , ومع ذلك كله يقول له تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } .
وقد أمر ربنا عز وجل نبيه ? في آيات كثيرة بتوحيد الله عز وجل ؛ قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وقال تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصا له ديني } [ الزمر : 11 ـ 14 ] .(1/3)
وقال تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر } [ الكوثر : 1 ، 2 ] .
وقال تعالى : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] .
إلى غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر للرسول ? بتوحيد الله تعالى وعبادته .
وقال تعالى محذرا نبيه ? والأنبياء صلى الله عليهم وسلم من قبله من الوقوع في الشرك - مع أن الله تعالى قد عصمه وإخوانه الأنبياء من الوقوع في ذلك - : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين . بل الله فاعبد وكن من الشاكرين }[ الزمر : 65 ، 66 ] .
قال أبو جعفر ابن جرير في « تفسيره » ( 24 /24 ) عند تفسير هذه الآية : ( يقول تعالى ذكره : ولقد أوحى إليك ـ يامحمد ـ ربك وإلى الذين من قبلك من الرسل { لئن أشركت ليحبطن عملك } يقول : لئن أشركت بالله شيئا يا محمد ليبطلن عملك ولا تنال به ثوابا ً ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله .. { وإلى الذين من قبلك } من الرسل من ذلك مثل الذي أوحي إليك منه ؛ فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك ) اهـ .
وقد خاف خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام أن يقع في الشرك ؛ قال الله تعالى عنه : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 35 ، 36 ] .
مع أن إبراهيم عليه السلام هو الذي كسّر الأصنام بيده ، وهو الذي أراد أن يذبح ابنه طاعة لربه ، ومع ذلك خاف أن يقع في عبادة الأصنام ، فكيف بغيره ؟ ولذلك قال مغيرة ـ وهو ابن مقسم الضبي ـ : كان إبراهيم التيمي يقص ويقول في قصصه : من يأمن البلاء بعد خليل الله إبراهيم ؟!(1/4)
وقد خاف نبينا محمد ? على أمته الوقوع في الشرك وحذّرهم منه ؛ قال الإمام أحمد في « مسنده » ( 4/403 ) وابن أبي شيبة في « مصنفه » ( 10/37 ) : ثنا ابن نمير ثنا عبد الملك ـ يعني ابن أبي سليمان ـ العرزمي عن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل . فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت ، أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون . قال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول الله ? ذات يوم فقال : « أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل » . فقال له من شاء الله أن يقول : وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ فقال : قولوا : « اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك به شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلم » وهذا سياق أحمد (1) .
__________
(1) وأخرجه البخاري في « الكنى » ( ص : 58 ) والطبراني في « الأوسط » ( 3503 ) كلاهما من طريق ابن نمير ، وقال الطبراني : لم يروه عن عبد الملك إلا ابن نمير ، ولا يروى عن أبي موسى إلا من هذا الوجه ا.هـ . وأخرجه في « الكبير » كما في « المجمع » ( 10/223 ) .
قلت : وهذا إسناد لا بأس به ، وهو غريب ، وابن نمير ثقة ثبت خرّج له الجماعة .
وعبد الملك ثقة حافظ له بعض الأوهام القليلة ، خرّج له مسلم وبقية أصحاب السنن .
وأبو علي الكاهلي ليس بالمشهور ؛ ذكره البخاري في « الكنى » ( ص : 52 ، 58 ) وابن أبي حاتم ( 9/409 ) وسكتا عنه ، ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه سمع أبا موسى وسمع منه عبد الملك ، وذكره ابن حبان في « الثقات » ( 5/562 ) .
وقال المنذري في « الترغيب » ( 1/58 ) : رواه أحمد والطبراني ، ورواته إلى أبي علي محتج بهم في « الصحيح » ، وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحداً جرحه ا.هـ .
وقال الهيثمي ( 10/224 ) : رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي ووثقه ابن حبان اهـ .
وله شاهد بنحوه أخرجه البخاري في « الأدب المفرد » ( 716 ) : ثنا عباس النرسي ثنا عبد الواحد ثنا ليث أخبرني رجل من أهل البصرة قال : سمعت معقل بن يسار يقول : انطلقت مع أبي بكر الصديق إلى النبي ? فقال : يا أبا بكر ... فذكره بنحوه .
وهذا إسناد ضعيف ؛ ليث هو ابن أبي سليم لا يحتج به وقد اختلط ، وقد اختلف عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وفيه الرجل الذي لم يسم .
وأخرجه أبو بكر الأموي في « مسند الصديق » ( 18 ) : ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن ليث عن شيخ من عنزة عن معقل به ، وفيه زيادة أنه يقول هذا الدعاء ثلاث مرات .
وأخرجه أيضاً ( 17 ) : ثنا إسحق بن إسرائيل ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج قال : أخبرني ليث عن أبي محمد عن حذيفة عن أبي بكر ؛ إما حضر ذلك حذيفة من النبي ? مع أبي بكر وإما حدثه إياه أبو بكر عن النبي ? .
وأخرجه أبو يعلى ( 58 ) : ثنا إسحق بن إبراهيم ثنا هشام بن يوسف به ؛ وإسحق بن إبراهيم هو ابن أبي إسرائيل .
وأخرجه أيضاً ( 60 ، 61 ) من طرق عن عبد العزيز بن مسلم عن ليث عن أبي محمد عن معقل : شهدت النبي ? مع أبي بكر أو حدثني أبو بكر .
وأخرجه أيضاً ( 59 ) من طريق عبد العزيز وفيه : « حدثني أبو بكر » بدون تردد . ولكن هذا الإسناد ضعيف فيه شيخ أبي يعلى عمرو بن الحصين وهو متروك .
وأخرجه ابن السني في « عمل اليوم والليلة » ( 287 ) من طريق هشام بن يوسف به .
قلت : وهذا الاضطراب الظاهر أنه من ليث لضعفه ، لكن روايته لهذا الخبر عن رجل من أهل البصرة ـ وفي رواية من عنزة ، وفي رواية سماه أبا محمد ـ عن معقل بن يسار به أرجح من غيرها ؛ لأن ثلاثة من أصحابه اتفقوا عليها وهم : عبد الواحد وهو ابن زياد ، وجرير وهو ابن عبد الحميد ، وعبد العزيز بن مسلم ؛ وكلهم عراقيون مثل ليث بخلاف ابن جريج فلعله سمعه منه في الحج ، ولا شك أن ما حدَّث به الراوي في بلده أثبت مما حدّث به في غير بلده .
وقد تابعهم أبو جعفر الرازي كما أخرجه ابن بطة ( 981 ) في « الإبانة » وأبو إسحق ـ وهو الفزازي ـ عند ابن بطة أيضاً ( 982 ) ، وعبد الوارث بن سعيد ؛ فقد رواه عن ليث : ثني صاحب لي عن معقل عن أبي بكر ، كما في « العلل » للدارقطني ( 1/192 ) .
وجاء في رواية عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون عن ليث تسمية شيخه فقال : عن عثمان بن رفيع عن معقل عن أبي بكر ، كما في « العلل » للدارقطني ( 1/191 ) .
وجاء من أوجه أخرى :
فقد أخرجه هناد بن السري في « الزهد » : ثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن ليث عن مجاهد قال : قال رسول الله ? لأبي بكر فذكره . وهذا مخالف لكل ما تقدم من الروايات .
ورواه ابن الجوزي في « العلل المتناهية » ( 1379 ) من طريق هناد به .
وجاء من طريق آخر عن أبي بكر رضي الله عنه : فرواه يحي بن كثير أبو النضر عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد الكوفي عن قيس عن أبي بكر به .
وأخرجه ابن حبان في « المجروحين » ( 3/130 ) ، وابن عدي في « الكامل » ( 7/2695 ) ، وأبو نعيم في « الحلية » ( 7/112 ) كلهم من طريق شيبان بن فروخ عن يحي به .
وهذا إسناد باطل ؛ قال ابن عدي : وهذا عن الثوري ليس يرويه غير يحي بن كثير ا.هـ . ومثله قال أبو نعيم .
وقال الدارقطني في « العلل » ( 1/193 ) : ولا يصح عن إسماعيل ولا عن الثوري ا.هـ .
قلت : وجاء من طرق أخرى ، ولا يصح منها شيء ؛ انظر : «الضعفاء» للعقيلي ( 3/60 ) « والحلية » لأبي نعيم ( 3/36 ) و ( 8/368 ) و«المستدرك» للحاكم ( 2/291 ) .
وحديث ليث وإن كان لا يصح ولكنه يقوّي حديث أبي موسى السابق في الجملة ، وليث ضعيف ولكن يكتب حديثه ، قال ابن معين في رواية معاوية بن صالح : ضعيف إلا أنه يكتب حديثه . وقال ابن عدي : له أحاديث صالحة ، وقد روى عنه شعبة والثوري ، ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه . وقال الدارقطني : صاحب سنة يخرّج حديثه ، ثم قال : إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسب . وقال البزار : كان أحد العباد إلا أنه أصابه اختلاط فاضطرب حديثه ، وإنما تكلم فيه أهل العلم بهذا وإلا فلا نعلم أحداً ترك حديثه ا.هـ . فمثله يعتبر بحديثه ، وشيخه لا يعرف كما تقدم .(1/5)
وخاف عليه الصلاة والسلام على أمته أيضاً شرك السرائر وحذّر أمته من ذلك :
فأخرج أحمد ( 5/428 ، 429 ) وأبو محمد الضراب في « ذم الرياء » ( 31 ) والبيهقي في « الشعب » ( 6412 ) كلهم من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن رسول الله ? قال : « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : « الرياء ؛ إن الله تبارك وتعالى يقول يوم يجازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً » وإسناده جيد (1) .
وما خافه ? على أمته وحذّرهم منه يجب عليهم أن يحذروا منه ويخافوا من الوقوع فيه ؛ وذلك بتعلّم التوحيد ومعرفة ما يضاده والعمل بذلك .
__________
(1) وأخرج الطبراني في « الكبير » ( 4301 ) من حديث محمود بن لبيد عن رافع بن خديج به . ولا يصح ذكر رافع بن خديج لأن في إسناده من هو متروك .
وأخرجه ابن خزيمة ( 937 ) من طريق سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن عاصم بن عمر به ؛ ولفظه « إياكم وشرك السرائر . قالوا : وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ؛ فذلك شرك السرائر » .
وأخرجه البيهقي في « الكبرى » ( 2/290 ) بنفس الطريق السابق ، ولكن وقع عنده : محمود بن لبيد عن جابر به ، والأوّل أصح .(1/6)
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من أمته من سيقع في الشرك ويعبد الأوثان ؛ أخرج أحمد ( 5/278 ، 284 ) وأبو داود ( 4252 ) وابن ماجه ( 3952 ) والحاكم ( 4/449 ) وأبو نعيم في « دلائل النبوة » ( ص : 469 ) وفي « الحلية » ( 2/289 ) والبيهقي ( 9/181 ) من طرق عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال : قال رسول الله ? : « زُويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ... ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ... » (1) .
وقال البخاري في « صحيحه » (7166) في كتاب الفتن :
باب تغيّر الزمان حتى تعبد الأوثان
ثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري قال : قال سعيد بن المسيب : أخبرني أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ? قال : « لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة » (2) .
وذو الخلصة : طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية .
وقد بوّب عليه ابن حبان بقوله : ذكر الأخبار عن ظهور أمارات أهل الجاهلية في المسلمين .
وقد وقع بعض الصحابة ـ وبعضهم كان حديث عهد بالإسلام ـ في شيء من الشرك ، وعند ما بيّن لهم رسول الله ? أن هذا من الشرك رجعوا .
__________
(1) وهو حديث صحيح صححه الحاكم ، وقال أبو نعيم في « الحلية » : هذا حديث ثابت ، وقد أخرجه مسلم ( 2889 ) من نفس الطريق ولكن ليس فيه موضع الشاهد .
(2) وأخرجه مسلم ( 2906 ) وابن حبان ( 6749 ) كلاهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به ، وعند ابن حبان : قال معمر : إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً . ا.هـ .
وقول معمر هذا مصداقا لما جاء في الحديث فهو من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام .(1/7)
كما جاء من طريق محمد بن شهاب الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله ? قِبَل حنين فمررنا بالسدرة فقلنا : أي رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ـ وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ـ قال النبي ? : ( الله أكبر ! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ) (1) .
__________
(1) أخرجه ابن إسحق في « السيرة » ـ كما في « سيرة ابن هشام » ( 4/70 ) ـ ومعمر في « جامعه » ( 20763 ) المطبوع مع « مصنف » عبد الرزاق ، والحميدي ( 848 ) والطيالسي ( 1346 ) وأحمد ( 5/218 ) ، وابن أبي شيبة ( 15/101 ) ، والترمذي ( 2180 ) ، والنسائي في « الكبرى » ( 11185 ) ، وابن أبي عاصم في « السنة » ( 76 ) ، وابن نصر في « السنة » ( 37 ، 38 ، 39 ، 40 ) ، وأبو يعلى ( 14541 ) ، وابن جرير في « تفسيره » ( 15055 ـ 15058 ) ، وابن حبان ( 6702 ) ، والطبراني في « الكبير » ( 3290 ـ 3294 ) ، والبيهقي في « معرفة السنن والآثار » ( 329 ) ، وفي « الدلائل » ( 5/124 ، 125 ) ، والبغوي في « تفسيره » ( 2/194 ) ، وعزاه السيوطي في « الدر » ( 3/533 ) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ .
وهو حديث صحيح ؛ سنان بن أبي سنان ثقة خرّج له الشيخان وروى عنه اثنان من أئمة التابعين : الزهري ـ كما تقدم ـ وزيد بن أسلم ، وقد نقل أبو عمر ابن عبد البر عن ابن معين أنه قال : حسبك برواية ابن شهاب عنه ؛ قال هذا في رواية الزهري عن ابن أكيمة الليثي كما في « التمهيد » ( 11/22 ) .
وقد قال العجلي عن سنان : ثقة . وذكره ابن حبان في « الثقات » ، وصحح هذا الحديث الترمذي وابن حبان ، وقد صرّح ابن شهاب بسماعه من سنان ، وسنان من أبي واقد الليثي كما في بعض الروايات .
ووقع في « سيرة » ابن هشام المطبوعة خطأ في الإسناد في سياق سند ابن إسحاق لهذه القصة .
وفي رواية عند ابن جرير سقط من الإسناد سنان بن أبي سنان .
وقد جاءت هذه القصة من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده ؛ أخرجه ابن أبي حاتم في « التفسير » ( 8910 ) وعزاه السيوطي في « الدر » ( 3/534 ) إلى : ابن مردويه والطبراني ، وهذا إسناده ضعيف جداً ، وكثير حاله معروفة .(1/8)
وجاء من حديث عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل أخي عائشة قال : قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين : نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . فسمع النبي ? فقال : ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء محمد ) (1) .
وأخرج البخاري ( 6646 ) من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ? أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ؛ فقال : ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) .
وفي طريق آخر عنده ( 6647 ) من حديث سالم عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول : « فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي ? ذاكراً ولا آثراً » ، وأخرج الحديث مسلم ( 1646 ) ، وفي الباب أحاديث أخرى .
فإذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم مع علوّ مكانتهم ورفيع درجتهم ووفور علمهم قد وقع منهم شيء من الشرك ، إذن فكيف بغيرهم ؟!
__________
(1) أخرجه أحمد ( 5/72 ) وابن أبي شيبة في « مسنده » (652) وابن أبي عاصم في « الآحاد والمثاني » (2743) والطبراني في « الكبير » ( 8214 ) وأبو نعيم في « معرفة الصحابة » ( 954 و 3955 ) ، كلهم من حديث حماد بن سلمة .
وأخرجه أحمد ( 5/399 ) والبخاري في « تاريخه » ( 4/363 ) والدارمي ( 2/295 ) والطبراني في « الكبير » ( 8214 ) وأبو يعلى ( 4655 ) كلهم من حديث شعبة .
وأخرجه ابن ماجه ( 2118 ) من حديث أبي عوانة .
وأخرجه الطبراني في « الكبير » ( 8215 ) من حديث زيد بن أبي أنيسة كلهم عن عبد الملك بن عمير به .
وهذا اللفظ لفظ الدارمي , وهذا حديث صحيح ، وقد جاء معنى هذا الحديث في غير ما حديث ، وقد وقع فيه بعض الاختلاف الذي لا يضر .
ينظر : « تاريخ البخاري الكبير » مع كلام محققه ، و « المسند » للبزار ( 7/253 ) و « الفتح » ( 11/540 ) .(1/9)
فالواجب على كل مسلم الاعتناء بهذا الأمر غاية الاعتناء كيف لا والشرك بالله تعالى أكبر الذنوب وأعظمها وأشدها خطراً على دين المرء ؟! قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وقال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
وفي «الصحيحين» (1) من طريق أبي وائل عن عمر بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله ? : أي الذنب أعظم عند الله قال : « أن تجعل لله ندا وهو خلقك .. » الحديث .
وهو من أكثر الذنوب انتشاراً ، قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
والشرك أبوابه كثيرة وصوره عديدة أخرج عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه « السنة » (2) من طريق مسروق وعبد الرحمن بن يزيد كلاهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : الربا بضع وسبعون باباً ، والشرك نحو ذلك .
ويكون العلم بالتوحيد ومعرفته والحذر من الشرك وتركه بتدبر كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ? ، ثم بمطالعة ما كتبه أهل العلم في ذلك .
* * *
وهذه أمثلة من صور الشرك :
أولا : دعاء غير الله تعالى .
مع الأسف الشديد أن كثيرا من الناس في حالة الشدة والضيق يلجأون إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله , فيلجأون إلى المخلوقين في تفريج كربتهم وإزالة مصيبتهم , وهذا – والعياذ بالله - من الشرك الأكبر .
قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [الأحقاف:5].
__________
(1) أخرجه البخاري ( 4477 ، 4761 ، 6001 ، 6811 ، 6861 ، 7520 ، 7532 ) ، ومسلم ( 86 ) .
(2) 791 ، 792 ) وإسناده صحيح ، وأخرجه البزار ( 1935 ) مرفوعاً ولكنه معلول ، والموقوف قد يقال له حكم الرفع .(1/10)
وقال تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون:117] .
وقال تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } [الرعد:14] .
أمر الله تعالى لخلقه بدعائه :
قال تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}[لأعراف:29] .
وقال تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين } [ الأعراف: 55- 56 ] .
وقال تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [لأعراف:180] .
وقال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] .
وقال تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] .
وقال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] .(1/11)
وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] .
ووعد الله تعالى من دعاه بأنه يستجيب له ، وأخبر سبحانه أنه قريب من عباده ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
وقال تعالى : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [النساء: 32] .
دعاء الأنبياء والرسل والملائكة والصالحين لله :
وكان الأنبياء والرسل وأولهم نبينا محمد ? يلجأون إلى الله تعالى في حالة الشدة .
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً } [ الإسراء:80 ] .
وقال أيضًا : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه:114 ] .
وقال له أيضًا : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون: 97- 98 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ الفلق:1- 5 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } [الناس:1- 6 ].(1/12)
وقال تعالى عن آدم عليه السلام وزوجه : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [لأعراف:23] .
وقد استجاب الله تعالى لهما – فقال عز وجل : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [ طه:122] .
وقال عن نوح عليه السلام : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [لأعراف:151] .
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم:35] .
قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة:127- 128] .
وقال أيضًا : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء 83–87 ] .
وقال عن موسى عليه السلام : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [لأعراف:151] .(1/13)
وقال أيضًا : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّر لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 25- 36 ] .
وقال أيضًا : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] .
وقال عز وجل مخبرًا عن الملائكة في دعائها لربها تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [غافر:7- 8 ] .(1/14)
وكذلك أهل الإيمان والصلاح يلجأون إلى الله ويدعونه في غفران ذنوبهم وتفريج كروبهم وقضاء حاجاتهم كما قال الله تعالى عنهم : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة:285- 286 ] .
وقال تعالى : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ آل عمران:9 ] .
وقال تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [ آل عمران:195] .(1/15)
وقال تعالى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } [ الكهف:10] .
وقال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [ المؤمنون:109] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان:65] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان:74 ] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
بل هذا ما علمناه إياه ربنا عز وجل أن ندعوه وحده لا شريك له وبين لنا ذلك في كتابه فقال في أعظم سورة في القرآن الكريم وهي سورة الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة:5- 7 ] .
وقد أمرنا الله عز وجل بالدعاء للوالدين وبين أن هذا من البر بهما والإحسان إليهما فقال : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء:24] .(1/16)
ثم يقال لهؤلاء الذين يدعون المخلوقين من دون الله تعالى إن الذين تدعونهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم قال تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [ الأعراف : 191- 198 ] .
ثانيا : الذبح لغير الله :
الذبح لله عز وجل من أعظم العبادات , ولهذا قرنه الله عز وجل بالصلاة في مواضع من كتابه , قال تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، وقال تعالى : ( فصل لربك وانحر ) .
وإذا كان الذبح من العبادات فلا يجوز صرفه لغير الله , وثبت في «صحيح مسلم» من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله ? بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله , لعن الله من لعن والديه , لعن الله من آوى محدثا , لعن الله من غير منار الأرض » .(1/17)
وقد جاء من طريق طارق بن شهاب عن سلمان قال : دخل رجل الجنة في ذباب , ودخل النار رجل في ذباب . قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا , فقالوا لأحدهما : قرب . قال : ليس عندي شيء . فقالوا له : قرب ولو ذبابا . فقرب ذبابا فخلوا سبيله . قال : فدخل النار , وقالوا للآخر : قرب ولو ذبابا . قال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل . قال : فضربوا عقه . قال : فدخل الجنة (1) .
هذا في ذباب فكيف بمن يذبح لغير الله تعالى؟! مع أن الناظر في حال الناس اليوم يجد الكثير ممن ينتسب للإسلام يذبحون لغير الله عز وجل , فمنهم من يذبح للجن , ومنهم من يذبح للنبي ? أو لعلي أو للحسين رضي الله عنهما , ومنهم من يذبح للأولياء والصالحين .
وأيضا من الناس من يذكر غير اسم الله عز وجل على الذبيحة , وهذا من الشرك أيضا , وقد قال تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }[البقرة: 173] , وقال تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [المائدة: 3] .
ثالثا : ادعاء علم الغيب :
من أبواب الشرك ادعاء علم الغيب ، وقد أخبر الله عز وجل أن الغيب له وحده لا شريك له ، قال تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } .
وقال تعالى : {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } .
وقد بين الله تعالى في كتابه أنه يخبر رسله من الملائكة أو البشر ببعض الغيب حتى يكون دليلاً على صحة رسالتهم وصدق نبوتهم وهذا بالنسبة للرسول البشري .
__________
(1) أخرجه أحمد في «الزهد» (84) وابن أبي شيبة في «المصنف» ( ) .(1/18)
قال تعالى : {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ... }.
وقال تعالى : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }.
وكما دلّ الشرع على هذا دلّ العقل على أن الإنسان لا يعلم الغيب فمن زعم لأحد بعلم الغيب سوى الله تعالى فقد خالف الشرع وناقض العقل وكفر بالله العظيم .
أخرج الإمام أحمد ( 2/429 ) وإسحاق بن راهويه ( 1/434 ) في «مسنديهما» والحاكم ( 1/8 ) وعنه البيهقي ( 8/135 ) وغيره من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ? : « من أتى عرّافاً أو كاهناً فسأله فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ? » (1) .
ففي هذا الحديث حكم عليه الصلاة والسلام بكفر من أتى إلى العرافين والكهان وصدقهم بما يقولون .
قال الطيبي : لم يكتف بكفره بل ضم إليه بما أنزل على محمد ? . (2) ا . هـ .
وقال أبو بكر بن العربي في « أحكام القرآن » ( 2/739 ) ونقله عنه القرطبي في « تفسيره » ( 7/2 ) : وأما من ادّعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصَّلة فيما يكون قبل أن يكون فلا ريبة في كفره أيضاً . ا . هـ .
__________
(1) حديث صحيح جاء من طرق عن أبي هريرة ، وجاء من حديث جابر وعمران بن حصين ومن حديث الحسن البصري مرسلاً وجاء أيضاً موقوفا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعاً .
(2) « فيض القدير » ( 6/253 ) .(1/19)
وقد أخبر النبي ? أن ادعاء معرفة الغيب عن طريق النجوم شعبة من شعب السحر أخرج ابن أبي شيبة ( 8/414 ) وأحمد ( 1/227 , 311 ) وأبو داود ( 3905 ) وابن ماجه ( 3726 ) والطبراني في « الكبير » ( 11278 ) وغيرهم كلهم من طريق عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف ابن ماهك (1) عن ابن عباس قال : قال رسول الله ? : « من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » .
والسحر معلوم حكمه وأخرج معمر في « جامعه » المطبوع في نهاية « مصنف عبد الرزاق » ( 19805 ) عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : « إن قوما يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق » (2) .
وقد كثر ادعاء علم الغيب وكثر تصديق الناس بهم ، ومن ذلك قراءة الفنجان , وقراءة الكف , وضرب الودع , والخط في الأرض , فالواجب على أهل العلم والدعاة تحذير الناس من ذلك ودعوتهم إلى التزام العقيدة السلفية التي جاءت في الكتاب والسنة .
قلت : هذه بعض الأمثلة على صور الشرك , وهي كثيرة كما تقدم , فلا بد من الرجوع إلى كتب أهل العلم لمعرفة صور الشرك وأنواعه وأقسامه حتى يحذر منه العبد , وبالله التوفيق .
* * *
واعلم وفقك الله تعالى أن الشارع الحكيم كما حرم الشرك بجميع صوره وأنواعه فقد سدّ جميع طرق الشرك ، وحرّم وسائله ، وأغلق أبوابه ، تحقيقاً للتوحيد وحماية لجنابه .
__________
(1) وهذا إسناد حسن وقد نص البخاري في ترجمة يوسف بن ماهك في « التاريخ الكبير » ( 8/375 ) على سماعه من ابن عباس وقد صحح هذا الحديث جمع من أهل العلم .
(2) وأخرجه البيهقي ( 8/139 ) وغيره وإسناده صحيح .(1/20)
قال الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 22-23] .
قال أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي تعليقاً على هذه الآية : « وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها ، قطعاً يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله ولياً فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه ، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك ، فإن لم يكن شريكاً له ، كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده ، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه ، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه...» اهـ .
ومن وسائل الشرك التي سدّها الشارع تتبع (1)
__________
(1) وأما الأماكن التي قصدها عليه الصلاة والسلام بالعبادة ودعى أمته إلى قصدها والصلاة فيها فلا شك أن قصدها بالعبادة أمر مطلوب والإتيان إليها أمر مشروع وهو إما واجب أو مستحب ، مع شد الرحل - كما هو بالنسبة إلى المساجد الثلاثة دون غيرها وهي المسجد الحرام ومسجد الرسول ? ومسجد بيت المقدس - ، أو بدون شد رحل ? كالإتيان إلى مسجد قباء .
فليس حديثي عن هذا وإنما حديثي عن الإتيان إلى الأماكن التي لم يقصدها عليه الصلاة والسلام ولم يدع أُمته إلى الذهاب إليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وبالله تعالى التوفيق .(1/21)
آثار الصالحين وتقديسها ، بالصلاة فيها، والدعاء عندها، والتمسح بها .
فقد حذّر الرسول الكريم ? من هذا الفعل غاية التحذير ، وأنكر على من فعل هذا أشد الإنكار .
فقد أخرج البخاري (427) ومسلم (528) كلاهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي ? ، فقال: « أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجداً ، وصوّروا فيه تلك الصور ، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ».
وأخرج البخاري (437) ومسلم( 530) كلاهما من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله ? قال: « قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».
واتخاذها مساجد يكون بالصلاة عندها ، أو بناء المساجد عليها ، فهذا في من فعل هذا بقبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون من شرار الخلق ، ويكون ممن لعنه الله - والعياذ بالله - فكيف فيمن فعل هذا مع غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! فلاشك أن الأمر سيكون أعظم وأشد.
وأخرج مسلم(532) من طريق عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث النجراني ثني جندب قال : سمعت النبي ? قبل أن يموت بخمس وهو يقول : « إنني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك » .(1/22)
في هذا الحديث حذّر عليه الصلاة والسلام من هذا الفعل قبل موته بخمسة أيام ، بل وحذّر منه عليه الصلاة والسلام وهو في سياق الموت ، كما أخرج البخاري (435) و(436) ومسلم (531) كلاهما من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن عائشة وعبدالله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله ? طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا .
وقد سار على هذا المنهج القويم والمسلك المستقيم خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم فقد أخرج ابن وضاح في « البدع » ( ص : 41 ) من حديث الأعمش عن المعرور بن سويد قال : خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه ، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله ? ، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً ، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل ، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض (1) .
وفي رواية أخرى أخرجها ابن وضاح (ص41): أنه رضي الله عنه عندما صلّى الغداة رأى الناس يذهبون مذهباً ، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلّى فيه رسول الله ? هم يأتون يصلون فيه. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا ، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ، ومن لا فليمض ولا يتعمدها .
فقد أنكر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذا الفعل وهو التبرك بالأماكن التي صلّى فيها رسول الله ? وبيّن أن بهذا الفعل هلكت الأمم السابقة.
__________
(1) وأخرجه عبد الرزاق (2734) وابن أبي شيبة (2/276) وسعيد بن منصور في «سننه» - كما في اقتضاء الصراط المستقيم (2/744) - كلهم من طريق الأعمش به ، وهو صحيح ، حكم أبو الفضل ابن حجر بثبوت هذا الأثر كما في «الفتح» (1/569) .(1/23)
وقد أمر عمر رضي الله عنه بقطع (1) الشجرة التي زُعم أن الرسول ? بايع تحتها الناس ، مع أن الله تعالى أنسى صحابة رسوله ? مكان هذه الشجرة التي بايعوا عندها رسول الله ? رحمة بهم وبمن أتى من بعدهم.
فقد أخرج البخاري (2958) في «صحيحه» من حديث نافع عن ابن عمر قال : رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها ، كانت رحمة من الله.
وأخرج البخاري (4163) ومسلم (1859) من حديث سعيد بن المسيب قال : ثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ? تحت الشجرة . قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها . فقال سعيد: إن أصحاب محمد ? لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم !!
قال أبو الفضل ابن حجر في «الفتح» (6/118) تعليقاً على هذا الحديث : « وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أُمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: «كانت رحمة من الله» أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى » اهـ.
قلت : ومع ما تقدم من كون الصحابة أنسوا مكانها ولم يعرفوه حتى جاء مِنْ بعدهم مَنْ ْزعمَ أنه يَعرف مكانها كما وقع ذلك في عهد عمر رضي الله عنه فعند إذن أمر عمر رضي الله عنه بقطع هذه الشجرة التي يزعم أنها بويع تحتها رسول الله ? ، ثم بعد عهد عمر جاء من يزعم معرفته بهذه الشجرة ، فقد أخرج البخاري (4163) في «صحيحه» من حديث طارق بن عبدالرحمن قال : انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون ، قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله ? بيعة الرضوان .
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/100) ، وابن وضاح في البدع (ص 42) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (2/375) .(1/24)
قلت : وهذا بعد عهد عمر لأن طارق بن عبدالرحمن من صغار التابعين ومَنْ كان مثله لم يدرك عهد عمر رضي الله عنه، وإنما ولدوا بعد عهد عمر رضي الله عنه .
وقد سار السلف الصالح على هذا النهج ، فقد كانوا لا يأتون إلى مثل هذه الأماكن ، بل وينكرون على من فعله .
قال أبو عبد الله بن وضاح القرطبي في كتابه «البدع» (ص 43) : « وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي ? ما عدا قبا وأحداً .
قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان.
قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه ، ومتقرب إليه بما يبعده منه ، وكل بدعة عليها زينة وبهجة » ا.هـ
وهذا الذي ذكره ابن وضاح أمر معلوم وظاهر . ولذلك قال أبو العباس أحمد بن عبدالحليم : « وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول ? ، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ، ولم يأمر ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا غير قبر نبي ، ولا على مقام نبي ، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام - لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب - مسجد مبني على قبر ، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلاً ، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء ، عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي ? ولا عند قبر غيره من الأنبياء ، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ? وعلى صاحبيه » ا.هـ من «اقتضاء الصراط » (ص 753) .(1/25)
فتبين مما تقدم أن تتبع آثار الأولياء والصالحين المكانية من البدع الشيطانية ، ومن طريقة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الجاهلية .
وقد أخرج معمر في «جامعه» - المطبوع مع «مصنف عبدالرزاق» (20763) - عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله ? قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : أي رسول الله ، اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط - وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها - فقال النبي ? : « الله أكبر ، هذه كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ».
وأخرجه ابن إسحاق في «السيرة» - كما في «سيرة ابن هشام» - (4/70) وأبو داود الطيالسي (1346) والحميدي (848) وأحمد (5/218) والترمذي (2180) وغيرهم من طريق الزهري به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وأخرج البخاري في «صحيحه» (4859) من طريق أبو الأشهب عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما - في قوله تعالى : { واللات والعزى } - قال: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج .
وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في «الفتح» (8/612) - من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء به ، ولفظه : كان يلت السويق على الحجر فما يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه .
فهذا الفعل وهو العكوف عند قبور الأولياء والصالحين والتبرك بالأحجار والأشجار طريقة أهل الجاهلية ، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
قال أبو بكر الطرطوشي في كتابه « الحوادث والبدع » ( ص 38 ) - بعد أن ذكر حديث أبي واقد الليثي السابق - : « فانظروا رحمكم الله أيضاً أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، ويعظمون من شأنها ، ويرجون البرء والشفاء من قبلها ، وينوطون بها المسامير والخرق ، فهي ذات أنواط فاقطعوها » ا.هـ(1/26)
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 24) : « ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبيناني رحمه الله تعالى - أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة - ، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبدالله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى : عين العافية ، كانت العامة قد افتتنوا بها ، يأتونها من الآفاق ، من تعذر عليها نكاح أو ولد ، قالت : امضوا بي إلى العافية فتعرف بها الفتنة ، قال أبو عبدالله : فإنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها ، وأذن الصبح عليها ، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأساً. قال : فما رفع لها رأس إلى الآن » ا.هـ
قلت : ومع الأسف وقع كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام بما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام فتراهم يقصدون هذه الآثار ، كالذهاب إلى غار حراء مع أن الرسول ? إنما كان يتعبد فيه قبل البعثة ، وأما بعدها فلم يأت إليه ولا دعى أمته إلى الذهاب إليه ، ومع ذلك تجد كثيراً من الجهال يذهبون إليه .
ومن ذلك المكان الذي يُزعم أن الرسول ? ولد فيه - ومع أن هذا لم يثبت - فهل الرسول ? أرشد أمته إلى الإتيان إلى هذا المكان ، أو فعل ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أو السلف الصالح ؟! وإنما أَحْدَثَ هذا من ضل سواء السبيل ، وخالف الحق المبين .
بل وصل الأمر إلى الإتيان إلى مكان يُزعم أن امنة بنت وهب أم الرسول ? دفنت فيه ، فيُفعل في هذا المكان من الشركيات والقبائح ما الله به عليم ، من دعاء آمنة بنت وهب من دون الله تعالى ، والاستغاثة بها ، وصب الطيب في هذا المكان المزعوم أنه قبر آمنة بنت وهب مع أنها ماتت على الشرك ، لأن الرسول ? عندما استأذن ربه أن يستغفر لها لم يأذن له ، كما أخرجه مسلم في «صحيحه» (976) من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ? فذكره .(1/27)
وقد قال الله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
قال النووي في « شرح مسلم » (7/45) على الحديث السابق : « وفيه النهي عن الاستغفار للكفار » ا.هـ
وقال أيضاً على الحديث الذي أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: « في النار » فلما قفّى دعاه فقال: « إن أبي وأباك في النار ».
قال النووي على هذا الحديث (3/79) : « فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين ، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار ، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة ، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم » ا.هـ
وقد حكى القرافي في «شرح التنقيح» الإجماع على تعذيب موتى الجاهلية في النار ، وعلى كفرهم.
وللشيخ محمد الغزالي (المتوفى سنة : ) رحمه الله تعالى كلام جميل حول التوحيد , فقال في كتابه «عقيدة المسلم» (60-69) :
( مقَارَنات بَين الشّرَكَاء وَالعَبيد
أراد الله عز وجل أن يُعرِّف سفهاء المشركين بأقدار الآلهة التي عبدوها من دون الله ، فردَّد هذه المعبودات المظلومة بين صنفين :
إما أن تكون من جمادات ، فالعبيد أوسع قدرة من هذه الآلهة ، لأن لهم جوارح يستخدمونها فيما يشاؤون ، أما هذه الأصنام المعبودة فماذا لها ؟
{ ألهم أرجلٌ يمشون بها ؟ أم لهم أيدٍ يبطشون بها ؟ أم لهم أعينٌ يُبْصرُون بها ؟ أم لهم آذانٌ يسمعون بها } .
ليس لها من ذلك شيء ..
وإما أن تكون هذه الآلهة المزعومة تملك ما ذكر من أدوات ومشاعر ، فماذا يمنحها ذلك من فضل ؟
سيكون الآلهة والعبيد سواء في القوى الذاتية والمنزلة الكونية ، فأي ألوهية تلك ؟
{(1/28)
إنَّ الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم ، فادْعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } .
وليست طبيعة الإنسان أن يقف حاسراً قاصراً أما ألوهية هي دونه أو هو فوقها ، فإذا دعاها كانت بين أمرين ، إما ألا تسمع وإما ألا تجيب .
{ إن تدعوهم لا يسمعوا دُعاءكُم ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ويوم القيامة يكفُرُون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } .
ولذلك فإن النقائص أن تتعلق النفس البشرية بهذه الأوهام والأباطيل .
***
لقد كثُر في القرآن الكريم ضرب الأمثال ، وسوق الأدلة واستشارة الانتباه ، واستنهاض الكرامة الآدمية حتى تقوم من هذه الوهدة التي تذل فيها لمن هو دونها أو لمن هو مثلها .
وأفاض القرآن في استقصائه للمعاني التي تصون الوجه من دنس الشرك ، وفي مخاطبة العاطفة الإنسانية بأسلوب رائع في رقته ، واضح في غايته .
{ أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ } .
{ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ، ورجلاً سلماً لرجل ، هل يستويان مثلاً ؟ الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون } .
والحق أن التوحيد روح الإسلام وجوهر عقيدته ومحور عباداته المنوعة ، ومبدأ التوحيد يسري في تعاليمه كافة سريان الماء في النبات أو الأعصاب في البدن .
وقد وضح القرآن الكريم حقيقته وبسط فكرته ، وناقش ما قد يعرض له أو يعارضه ، حتى ليعتبر التوحيد الإسلامي أصرح وأكمل ما أسسه دين في قلوب بنيه ، ودمغ البشر جميعاً بطابع العبودية لله وحده ، وانتزع كل شعور يتجه بالمرء إلى تقديس كائن ما هنا أو هناك .
كل ذلك من عناوين الإسلام الأولى وليس من إشاراته الثانوية أبداً .
{ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } .
والله ـ وحده ـ هو الضار النافع ، والخافض الرافع ، الذي يخذل أو ينصر ، ويعطي أو يمنع .
وليس لأحد بعده تعقيب على حكمه ، وليس من شأن مَلَكٍ في السماء أو نبي في الأرض التدخل في مشيئة الله .
....(1/29)
ولذلك فإن من إخلاص التوحيد أن نكل ما فوق قدرتنا وإرادتنا إلى الله وحده ، وأن نربط خوفنا ورجاءنا به .
{ أليس الله بكافٍ عبده } .
{ قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ؟ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } .
للمؤمن قبلة واحدة يوليها وجهه ، ويهب لها فؤاده ، ويبثها نجواه وشكواه ، ويعرف على أشعتها طريقه في ظلمات الحياة .
للمؤمن صلة عليا بالله ، يحدد على أساسها علاقاته بالناس .
وله عواطف تجيش بالأمن والقلق ، والسخط والرضا ، والحب والبغض والوحشة والأنس .
ومهما اضطربت في نفسه هذه المشاعر المعتادة ، فإن ضوابط اليقين تحكمها ، وعرفانه بربه هو الذي ينقضها أو يبرمها .
وقد كان إمام الأنبياء يغرس هذه المعاني في قلوب المؤمنين حين كان يدعو في تهجده : « اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت » .
هذه الضراعة الحارَّة النابضة هي آية التوحيد الكامل .
إذا مشت عصارتها في القلوب هزَّتها بالحياة والنماء ، وإذا فرغت الأنفس منها زوت ، والتوت ، وخطبت في عماء ما بعده عماء .
ونحن ـ في الدنيا ـ نمرُّ بتجارب شتى تكشف عن معادننا وخصائصنا كما تكشف التجارب في معامل الكيمياء عن ميزان الغازات والسوائل المختلفة ...
ما يُعرف الإيمان والكفر ، وما يتكشف الإخلاص والنفاق ، وما يتميز الخبيث والطيب إلا في هدى هذه التجارب التي تكفل القدر بإجرائها :
{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } .
***(1/30)
وإذا رأيت المرء يحب غير الله أكثر مما يحب الله ، ويخاف العبد أكثر مما يخاف الرب ، ويتعلق قلبه بالناس أكثر مما يتعلق برب الناس ، ويصدر عمله ابتغاء رضاهم أكثر مما يطلب ثواب الآخرة ، فإذا نزلت به نكبة كان تفكيره في فلان قبل تفكيره في الله ، وإذا أصابه خير كان حمده لفلان أسبق من شكره لله ... فاعلم أن هذا الشخص قد أشرك ، ولئن كان بعض العلماء يقول : إن الشرك في العمل غير الشرك في الاعتقاد ، وإن هذا شرك أصغر وذلك شرك أكبر (1) .
الحقيقة أن المسألة أصعب مما يتصورون وذاك شرك أكبر .
فالشرك عين حمئة قذرة ، إذا انفجرت في قلب وبدأت تسيل قطرات راشحة توشك أن تتحول سيلاً كاسحاً ، ويومئذ لا يبقى في القلب إيمان حق ، ويتحول ما يسمونه شركاً أصغر إلى عين الشرك الذي يعدُّه الإسلام أقبح الكبائر .
إنَّ الأمور صغيرها ... مما يهيج له العظيم
والإسلام يوم حارب اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، لم يحاربها لذواتها ، ولم يكن بينه وبينها عداوة شخصية ؛ إنما حاربها لأنها احتلَّت من قلوب الملتفين بها مكانة السيد المتصرف من عبيده الأذلّين .
فكل ما يصرف القلوب ، مثلها ، عن الله فهو صنم .
وكل من تكون في قلبه منزلة لشيء ما غير الله ، مثل منزلة هذه الأصنام في قلوب المشركين القدامى ، فهو ـ ولا كرامة ـ مثلها ، يحسب منهم ويحشر معهم .
ولا عجب فالخمر لم تحرم لعينها ، وإنما حرم المسكر من كل شراب .
والإيمان بالله لا تتفاوت حقيقته ، وإن اختلفت نواقضه على توالي الأيام .
تَوحيد العَامَّة وَمَا يَعلوُه مِنْ غبَار
ينبغي لهذه الأمة أن تكون مثلاً عالياً في إسلام الوجه لله وإفراده بالنية والعمل .
__________
(1) قلت : هذا الكلام ليس بصحيح , بل هناك من شرك العمل ما هو شرك أكبر كما تدل على ذلك نصوص الكتاب والسنة , والشيخ الغزالي سوف يرد على هذا القول في كلامه التالي .(1/31)
بيد أننا نلحظ ـ آسفين ـ أنَّ هناك مسالك شائعة بين الجماهير الغفيرة من المسلمين ، لها دلالتها الخطرة على فساد التفكير وضلال الاتجاه واضطراب المقصد .
ولا نحب أن نوارب في الكشف عن هذه العلة ، فإن أي خلل في دعائم التوحيد معناه الخبل الذي يدرك موطن القيادة الفكرية في هذا الدين الحنيف .
إذ التوحيد في الإسلام حقيقة وعنوان ، وساحة وأركان ، وباعث وهدف ، ومبدأ ونهاية .
ولسنا ـ كذلك ـ ممن يحب تصيُّد التهم للناس ، ورميهم بالشرك جزافاً ، واستباحة حقوقهم ظلماً وعدواناً .
ولكننا أمام تصرفات توجب علينا النظر الطويل ، والنصح الخالص ، والمصارحة بتعاليم الكتاب والسنَّة كلما وُجِدَ عنها أدنى انحراف .
لقد اهتمت حكومة إنجلترا ـ في سبيل مكافحة الشيوعية ـ بالحالة الدينية في مصر !
فكان مما طمأنها على إيمان المصريين (!) أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا هذا العام .
والذين زاروا الضريح ليسوا مجهولين لديّ ، فطالما أُوفدتُ رسمياً لوعظهم ، فكنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر الكلام ، وكثرتهم الساحقة لا تعرف عن فضائل الإسلام وأنظمته وآدابه شيئاً .
ولو دُعُوا لواجب ديني صحيح لَفَرُّوا نافرين ، وإن كانوا أسرع إلى الخرافة من الفراش إلى النار !
وحسبك من معرفة حالهم : أنهم جاؤوا الضريح المذكور للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء !
ولمن النذور ؟ ولمن الدعاء ؟
إنه أول الأمر للسيد .
فإذا جادلت القوم قالوا : إنه لله عن طريق السيد البدوي .
وأكثر أولئك المغفَّلين لغطاً يقول لك : نحن نعرف الله جيداً ، ونعرف أن أولياءه عبيده ، وإنما نتقرب بهم إليه ، فهم أطهر منا نفساً وأعلى درجةً .
وهذا الكلام ـ على فرض مطابقته لواقع القوم ـ غلط في الإسلام .
فإن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا أن نجيء معنا بالآخرين ليحملوا عنا حسناتنا ، أو ليستغفروا لنا زلاتنا .
{(1/32)
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ } .
بل المعروف من بديهيات الإسلام الأولى أن الطلب ووسيلته جميعاً يجب أن يكونا من الله .
{ إياك نعبد وإياك نستعين } .
« إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » .
أليس من المضحك أن نستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة ، وأن نتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيراً أو يستدفع شراً ؟ .
{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه } .
إن المسلمين لما طال عليهم الأمد نسوا الحق .
والمرء قد يعذر إذا ذهل عن شأن تافه ، أو فاته استصحاب شيء هيِّن ، أما أن يذهل عن كيانه وإيمانه فهنا الطامة .
وأحسب أن القرآن الكريم يقصد إلى التنديد بهذا اللون من إفساد التوحيد عندما قال :
{ ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله ، فيقول : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ؟ أم هم ضلوا السبيل ؟ قالوا : سُبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بُوراً ... } .
أجل ! لقد نسوا الذكر ، وما قام عليه الذكر من توحيد شامل .
وليس يغني في الدفاع عن أولئك الجهلة من العوام أنهم يعرفون الله ، ويعرفون أنه وحده مجيب كل سؤال ، وباعث كل فضل ، وأن من دونه لا يملكون من ذلك شيئاً .
فإن هذه المعرفة لا تصلح ولا تقبل إلاّ إذا صحبها إفراد الله بالدعاء والتوجيه والإخلاص ، فإن المشركين القدماء كانوا يعرفون الله كذلك .
{ قل من يرزقكم من السماء والأرض ؟ أمن يملك السمع والأبصار ؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ؟ ومن يدبر الأمر ؟ فسيقولون الله } .
ومع أنهم يقولون « الله » بصراحة وجلاء فلم يُحسبوا بهذا القول مؤمنين ، لأن الإيمان ـ إذا عرفت الله حقاً ـ ألاّ تعرف غيره فيما هو من شؤونه .
ولذلك يستطرد القرآن في مخاطبة هؤلاء :
{ ...(1/33)
فقل أفلا تتقون ؟ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ؟ كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } .
إن العامة عندما يشدُّون الرِّحال إلى قبور تضم رفات بعض الناس ، وعندما يهرعون بالنذور والحاجات والأدعية إلى من يظنونهم أبواباً لله ، إنما يرتكبون في حق الإسلام مآثم شنيعة .
ومهما قلبنا عملهم هذا من جميع وجوهه فلن نجد فيه ما يطمئن إليه ضمير المؤمن أبداً .
ومحبة الصالحين وبغض الفاسدين من شعائر الإسلام حقاً .
ومظاهر الحب والبغض معروفة ... هي مصادقة للأحياء أو منافرة ، واستغفار للموتى أو لعنة .
وأين من عواطف الحب والبغض هذا الذي يصطنعه المسلمون اليوم ؟
إن الواحد منهم قد يصادق أفسق الناس ، وقد يقطع والديه ـ وهما أحياء ـ ثم تراه مُشَمِّراً مُجِداً في الذهاب إلى قبر من قبور الصالحين ، لا ليدعوا له ويطلب من الله أن يرحم ساكن هذا القبر ، بل ليسأل صاحب القبر من حاجات الدنيا والآخرة ما هو مضطر إليه .
وذلك ضلال مبين ! .
***
وبناء المعابد على قبور الصالحين تقليد قديم ، وقد ذكر القرآن ما يدل على شيوعه في الأمم السابقة .
وفي قصة أهل الكهف تسمع قوله عز وجل :
{ فقالوا ابنوا عليهم بُنْيَاناً . ربُّهُمْ أعلهم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } ....
....غير أن البشر سَفِهُوا أنفسهم ، فالأحجار التي نحتوها للعظماء عبدوها ، أو ـ على حد تعبيرهم ـ اتخذوها إلى الله زلفى .
والمعابد التي أقاموها على قبور الصالحين قدَّسوها وسلكوها مسلك الأصنام في الشرك .
فلما جاء الإسلام أعلن على هذين المظهرين من مظاهر الوثنية حرباً شعواء ، وشدد تشديداً ظاهراً في محق هذه المساخر المنافقة .
وقد رأينا كيف أن النبي ? أرسل علي بن أبي طالب وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر وأن يهدم كل صنم ، فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في الضلالة .(1/34)
وقال النبي ? ـ في البيان عن سفاهة القدامى وفي التحذير من متابعتهم ـ : « لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد » ، « ألا لا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن هذا » .
وكان يرفع الخُمْرة عن وجهه في مرض الموت ويكرر هذا المعنى ، وكأنه توجس شراً مما يقع به فدعا الله :
« اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يعبد » .
ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور ، أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين . وتنافسوا في تشييد الأضرحة ، حتى أصبحت تبنى على أسماء لا مسميات لها ، بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات .
ومع ذلك فهي مزارات مشهورة معمورة ، تُقْصَدُ لتفريج الكرب ، وشفاء المرضى ، وتهوين الصعاب !
***
....
وجماهير العامة الآن ينبغي أن تساق سوقاً رفيقاً إلى حقائق الإسلام ، حتى تنصرف ـ في هدوء ـ عن التوجه إلى هذه الأضرحة وشدّ الرحال إلى ما بها من جثث .
وإخلاص المعلّم وأسلوبه في الدعوة ، عليهما معول كبير في تمحيص العقيدة مما عَلِقَ بها من شوائب وعلل .
وقد تكون لدى البعض شبه في معنى التوسل .
فلْنُفهِم أولئك القاصرين أن التوسل في دين الله ، إنما هو بالإيمان الحق والعمل الصالح ، وقد جاء في السنّة .
« اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلاّ هو ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد » .
فهذا توسل بالإيمان بذات الله .
وجاء ـ كذلك ـ توسل بالعمل الصالح في حديث الثلاثة الذين آواهم الغار .
وجاء توسل بمعنى دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب ، ودعاء المسلم للمسلم مطلوب على أية حال .(1/35)
ولا نعرف في كتاب الله ولا في سنة رسوله توسلاً بالأشخاص مهما علت منزلتهم ـ سواء كانوا أحياء أو أمواتاً ـ على هذا النحو الذي أطبق عليه العامة وحسبوه من صميم الدين ، ودافعوا عنه بحرارة وعنف ضد المنكرين والمستغربين ) ا.هـ كلام الشيخ الغزالي , وإنما نقلناه لموافقته للكتاب والسنة ولما فيه من إقناع لمن أراد الحق .
وقد قدمت بهذه المقدمة بين يدي هذا الكتاب , لأهمية هذا الموضوع وشدة الحاجة إليه , ولأن سائر الأعمال لا تصح ولا تقبل إلا من أهل التوحيد , وإذا وقع الإنسان في شيء من الشرك , فإن ذلك يكون سببا لحبوط عمل العبد وبطلانه , كما سبق ذكر الأدلة على ذلك ، والله ولي التوفيق .
صفة الحج
تعريف الحج لغة وشرعا:
الحج لغة : هو القصد .
وشرعاً : هو القصد إلى بيت الله الحرام ، في وقت معلوم ، لأداء أمور معلومة ، شَرَعَهَا الله عز وجل لعباده .
حكم الحج :
قد أوجب الله على عباده الحج إلى بيته المُحَرَّم ، قال تعالى : { ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ] .
وسبق ماجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ? : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان » (1) .
فالحج فريضة من الفرائض التي أمر الله عز وجل عباده بها ، وهو ركن من أركان الإسلام ، والإسلام مبني على خمسة أركان ومنها الحج .
* * *
المواقيت
__________
(1) أخرجه البخاري ( 8 ) ومسلم ( 16 ) .(1/36)
ثبت في « الصحيحين » من حديث عبد الله بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن النبي ? وَقَّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلمم ، قال : « هُنَّ لهن ، ولمن أتى عليهن ، من غيرهن ، ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة » (1) .
ففي هذا الحديث بَيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أربعة من مواقيت الحج ، وهذه المواقيت هي التي وَقَّتها الرسول ? للإحرام من عندها .
وجاء في حديث ابن عمر الذي في « صحيح البخاري » أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذكر ميقاتاً خامساً وهو ذات عرق وهو لأهل العراق ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فُتِحَ هذان المصران (2) أتوا عمر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله ? حَدَّ لأهل نجد قرناً ، وهو جَوْرٌ عن طريقنا ، وإنَّا إن أردنا قرناً شَقَّ علينا ، قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحَدَّ لهم ذات عرق (3) .
فهذه المواقيت يجب على من أراد الحج ومر بها أن يحرم منها .
* * *
محظورات الإحرام
... 1_ إزالة شعر الرأس بحلق أو غيره ، لقوله تعلى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ، وألحق جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى شعر بقية الجسم بشعر الرأس ، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يُزيل أي شعر كان من بدنه .
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى فدية حلق الرأس بقوله : { فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1524 ) ، ومسلم ( 1181 ) .
(2) أي : البصرة والكوفة .
(3) أخرجه البخاري ( 1531 ) .(1/37)
وأوضح النبي ? أن الصيام مقداره ثلاثة أيام ، وإن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وأن النسك شاة ، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي ، وتكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء ، كما ثبت «الصحيحين» عن كعب بن عجرة أنه قال : حملت إلى رسول الله ? والقمل يتناثر على وجهي , فقال : « ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى , أتجد شاة ؟ » . قلت : لا . قال : « فصم ثلاثة أيام , أو أطعم ستة مساكين , لكل مسكين نصف صاع » (1).
2_ تقليم الأظافر قياسا على حلق الشعر على المشهور عند أهل العلم ،ولا فرق بين أظفار اليدين والرجلين ، لكن لو انكسر ظُفُرهُ وتأذى به فلا بأسَ أن يقص القدر المؤذي منه ، ولا فدية عليه ، كما روى ابن أبي شيبة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال : إذا انكسر ظفر المحرم فليقصه (2).
3_ تغطية الرأس : لا يجوز للرجل أن يغطي رأسه ، والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ? سئل : ما يلبس المحرم من الثياب , قال : « لا يلبس القميص , ولا العمائم ... » الحديث (3).
ولكن إذا حمل الإنسان على رأسه شيئا فهذا ليس من التغطية ، وثبت في «مسند الشافعي» أن عمر رضي الله عنه قال لابن عباس : تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفسا ، قال : ونحن محرمون(4). والماء فيه نوع من التغطية فهذا أيضا غير داخل في النهي ، وإنما المقصود هو أن يتعمد الإنسان تغطية رأسه بشيء .
4_ لبس المخيط : والمقصود بالمخيط الثياب التي تكون على قدر البدن أو عضو من أعضائه ، وهي الثياب العادية ، فلا يجوز للمحرم أن يلبس شيئا من ذلك .
__________
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/132) والدارقطني (2/232) والبيهقي (5/62) .
(3) أخرجه البخاري (5805) ومسلم (1177) .
(4) مسند الشافعي (117) .(1/38)
والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ? سئل : ما يلبس المحرم من الثياب , قال : « لا يلبس القميص , ولا العمائم , ولا السراويلات , ولا البرانس , ولا الخفاف , إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا الورس » (1).
وجاء في بعض روايات الحديث زيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين » (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (5805) ومسلم (1177) .
(2) روى هذه الزيادة البخاري في «صحيحه» (1838) من طريق الليث عن نافع عن عبدالله بن عمر , وقال بعدها : ( تابعه موسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وابن إسحاق في النقاب والقفازين , وقال عبيد الله : ولا ورس , وكان يقول : لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين , وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : لا تتنقب المحرمة , وتابعه ليث بن أبي سليم ) .
... وشرح الحافظ ابن حجر في «الفتح» كلام البخاري هذا , وملخص كلامه أن هذه الزيادة فيها أربعة أوجه :
... الأول : من روى هذه الزيادة ضمن الحديث المرفوع , ورواه على هذا الوجه : الليث وموسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية .
... الثاني : من روى هذه الزيادة مرفوعة ولكن جعلها في أول الخبر , ورواه على هذا الوجه : ابن إسحاق .
... الثالث : من روى هذه الزيادة لوحدها موقوفة , ورواه على هذا الوجه : الإمام مالك وفضيل بن غزوان وليث بن أبي سليم .
... الرابع : من روى الحديث فجعل أول الخبر مرفوعا , ووقف هذه الزيادة على ابن عمر , ورواه على هذا الوجه : عبيد الله بن عمر العمري .
... قال الحافظ ابن حجر : ( الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان حافظا ولا سيما إن كان أحفظ , والأمر هنا كذلك فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه , وقد فصل المرفوع من الموقوف , وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه فقد شذ بذلك وهو ضعيف , وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى , وكأنه رأى أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده , ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى , أشار إلى ذلك شيخنا في «شرح الترمذي» ) ا.هـ .
... قلت : هذه الزيادة إن كانت ثابتة مرفوعة فلا كلام , وإن كانت موقوفة فمثل هذا قد لا يقال بالرأي , ويؤيد ذلك ما سيأتي ذكره عن عائشة والحسن وعطاء .(1/39)
ويدل هذا الحديث على أن الإنسان إذا لم يجد نعلين يحرم فيهما , فإنه يلبس الخفين ، وكذلك إذا لم يجد الإزار فإنه يلبس السراويل .
وثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن النبي ? خطب بعرفة وقال : « من لم يجد النعلين فليلبس الخفين » (1) ولم يذكر القطع .
وحديث ابن عمر كان بالمدينة ، وحديث ابن عباس بعده ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ومعلوم أن الذين شهدوا خطبة يوم عرفة بعضهم لم يشهد خطبة النبي ? في المدينة ، فلو كان القطع واجباً لبينه الرسول ? ، فالأقرب أن الأمر بالقطع منسوخ ، والله أعلم.
ويدل حديث ابن عمر السابق على أن المرأة المحرمة تمنع من لبس النقاب والقفازين , ولكن يجب عليه إذا كانت بحضرة رجال أجانب أن تستر وجهها ولا يجوز لها أن تكشفه ، كما ثبت عن أسماء وعائشة رضي الله عنهما , فقد روى الإمام مالك في «موطئه» عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات , ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق (2) .
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة قالت : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله ? محرمات , فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها , فإذا جاوزنا كشفناه (3).
وذكر ابن حزم في «المحلى» عن وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت : سئلت عائشة أم المؤمنين : ما تلبس المحرمة؟ فقالت : لا تنتقب ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (1841) ومسلم (1178) .
(2) «الموطأ» (919) .
(3) أخرجه أبو داود (1833) وابن ماجه (2935) , وفي إسناده يزيد بن أبي زياد , وهو ضعيف .
(4) «المحلى» (7/91) .(1/40)
وقال سعيد بن منصور – كما في «الفتح» لابن حجر (3/406) - : حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها (1) .
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن وعطاء قالا : لا تلبس القفازين والسراويل ، ولا تبرقع ولا تلثم (2) .
5_ قتل الصيد: من الأشياء المحرمة على المحرم الصيد ، كما ذكر ذلك الله عز وجل في كتابه فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ ] ، فالمحرم لا يجوز له أن يصيد من حين يدخل في الإحرام .
وأما إذا كان الإنسان في مكة فلا يجوز له أن يصيد أبداً سواء كان محرماً أو حلالاً ، لأن مكة محرمة ، وكذلك المدينة محرمة ، والأدلة على ذلك كثيرة , منها ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن النبي ? قال: « إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي , ولا تحل لأحد بعدي , وإنما أحلت لي ساعة من نهار , لا لمعرف » وقال العباس : يا رسول الله , إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا . فقال : « إلا الإذخر » (3).
وثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابر قال : قال النبي ? : « إن إبراهيم حرم مكة , وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها , لا يقطع عضاهها , ولا يصاد صيدها » .
مسألة : هل يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد أم لا ؟
هذه المسألة فيها تفصيل وهو : أن الصيد إذا صيد من أجل هذا المحرم فلا يجوز له الأكل ، أما إذا لم يصد من أجله فإنه يجوز له الأكل .
__________
(1) وعلقه البخاري في «صحيحه» (1545) مجزوما به .
(2) «مصنف ابن أبي شيبة» (3/283) .
(3) أخرجه البخاري (1833) ومسلم (1353) ، وهذا لفظ البخاري .(1/41)
والدليل على هذا التفصيل حديث أبي قتادة المخرج في «الصحيحين» أنه صاد حمارا وحشيا وهو غير محرم , فقال رسول الله ? لأصحابه وكانوا محرمين : « هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ » قالوا: لا . قال: « فكلوا ما بقي من لحمه » (1) .
وثبت في «الصحيحين» أيضا من حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله ? حمارا وحشيا , وهو بالأبواء ، أو بودان , فرده عليه , فلما رأى ما في وجهه قال : « إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم » (2).
وثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ? : « خمس من الدواب كلهن فواسق , يقتلن في الحل والحرم : العقرب , والحدأة , والغراب , والفأرة , والكلب العقور » (3).
هذا الحديث يدل على أن هذه الخمسة تقتل في الحل والحرم ، وذلك لأنها معروفة بالفساد والاعتداء ، فأجاز الشارع قتلها في الحل والحرم ، ويلحق بها أيضاً الحية كما ورد في نصوص أخرى , منها ما رواه مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن عائشة أن النبي ? قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ... » الحديث (4).
وكذلك الوزغ يقتل في الحل والحرم - فيما يظهر والله أعلم - لأن النبي ? أمر بقتله ، كما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله ? أمر بقتل الوزغ , وقال : « كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام »(5).
6_ مس الطيب : والدليل عليه ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ? قال في حق المحرم : « ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس » (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري (1824) ومسلم (1196) .
(2) أخرجه البخاري (2573) ومسلم (1193) .
(3) أخرجه البخاري (1829) ومسلم (1198) .
(4) أخرجه مسلم (2/857) .
(5) أخرجه البخاري (3359) .
(6) أخرجه البخاري (5805) ومسلم (1177) .(1/42)
وثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقصت برجل محرم ناقته فقتلته, فأتي به رسول الله ? فقال: « اغسلوه وكفنوه ، ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا , فإنه يبعث يهل » (1).
7_ عقد النكاح: من الأشياء الممنوع منها المحرم عقد النكاح والخطبة ، لما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عثمان بن عفان أن رسول الله ? قال : « لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب » (2).
ومما يدل على ذلك عموم النصوص التي تنهى عن النكاح ودواعيه ، قال تعالى : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } [ ] .
8_المباشرةُ لشهوة : بتقبيل أو لمسِّ أو ضمِّ أو نحوه لقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } .
ويدخل في الرّفث مقدمات الجماع كالتقبيل والغمز والمداعبة لشهوة.
فلا يحل للمحرم أن يُقبل زوجَته لشهوة ، أو يمسها لشهوة أو يغمزها لشهوة ، أو يداعبها لشهوة .
ولا يحلُّ لها أن تمكنه من ذلك وهي مُحرمة .
9_ الجماع : لقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } ، والرفث الجماع ومقدماته ، وهو أعظم المحظورات وأشدها أثرا .
* * *
الإحرام
أول ما يبدأ به الحاج فيما يتعلق بأعمال النسك هو الإحرام من الميقات ، فالمسلم عندما يأتي إلى المواقيت التي سبق ذكرها عليه أن يحرم منها إذا كان مريداً للحج والعمرة .
والإحرام : هو نية الدخول في النسك .
وبعض الناس يظن أن الإحرام يكون بلبس ملابس الإحرام وهذا ليس بصحيح , فالإنسان وإن كان لابسا لملابس الإحرام فهو ليس بمحرم حتى ينوي الدخول في النسك .
ومن السنة لمن أراد الإحرام ما يلي :
__________
(1) أخرجه البخاري (1839) ومسلم (1206) .
(2) أخرجه مسلم (1409) .(1/43)
1- أن يغتسل ، فقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن الرسول ? أمر أسماء بنت عُمَيْس بأن تغتسل (1) .
وجاء في « جامع الترمذي » من حديث زيد بن ثابت أنه رأى النبي ? تَجَرَّدَ لإهلاله واغتسل (2) .
وأيضاً ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1218 ) .
(2) أخرجه الترمذي ( 830 ) ، وفي إسناده عبد الله بن يعقوب المدني وهو مجهول لا يعرف ، وإن كانت الجهالة ليست بعلة دائما , ولكن فيها تفصيل ، وقد ضعف كبار الحفاظ هذا الخبر ، وممن ضعفه الترمذي والعقيلي .
وتابع عبدَ الله محمدُ بن موسى بن مسكين أبو غزية المدني ، ومحمد بن موسى ضعفه العقيلي ، وقال : عنده مناكير .
وله إسناد آخر رواه الطبراني () فيه خالد بن إلياس ، وهو متروك .
وله إسناد آخر عند الحاكم ( ) ، وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح ، وهو لا يحتج به .
وجاء من حديث ابن عباس عند الدارقطني (2/219-220) .
وفي الباب ما خرجه البزار ( ) قال : حدثنا إسماعيل بن الحارث حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله ? إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطم وأشنان ودهنه بشيء من زيت . قال الهيثمي في «المجمع» ( ) : إسناده حسن .
قلت : في إسناده ابن عقيل وهو لا يحتج به ، وهو مع ضعفه تفرد به عن عروة ، وتفرده بهذا عنه مما يدل على ضعفه ، لكنه مع ذلك يستأنس به .
فالحديث مع ضعفه إلا أن له شواهد تشهد له .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» ( ) بإسناد جيد ، وقد رواه الحاكم وصححه (1/447)، ورواه البزار ( ) ، وقال الهيثمي في «المجمع»( ) : رجاله كلهم ثقات . وأخرجه الطبراني في «الكبير» ( ) والدارقطني (2/220) والبيهقي ( ) .(1/44)
وهنا مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي أن بعض الناس يأخذ من أظفاره عندما يصل إلى الميقات ويأخذ أيضاً من شعر عانته وإبطه ، ويظن أن هذا من السنة ، وهذا ليس من السنة ، وإنما هذه الأشياء يأخذ الإنسان منها إذا كان محتاجاً ، كأن يكون شعر عانته أو إبطه طويلا ، فهنا يستحب له ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » من حديث أبي عِمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : وُقِّتَ لنا في قَصِّ الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (1) . وأما إذا لم يكن محتاجاً فلا يأخذ من هذه الأشياء .
2- أن يَتَطَيَّب قبل أن يدخل في نية النسك ، فقد ثبت من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كنت أطيب رسول الله ? لإحرامه حين يحرم, ولحله قبل أن يطوف بالبيت(2) .
وفي حديث الأسود ، عن عائشة قالت : كأني أنظر إلى وَبِيص المسك في مفرق رسول الله ? وهو محرم (3) .
ويجب عليه أن يَتَجَرَّد من المخيط ، ويحرم بإزار ورداء ، كما ثبت في « الصحيحين » من حديث ابن عمر عن النبي ? أن رجلاً سأله ما يلبس المحرم ؟ فقال : « لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا ثوباً مَسَّه الورس أو الزعفران ... » (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 258 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 1538 ) ، ومسلم ( 1189 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 281 ) ، ومسلم ( 1190 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 134 ) ، ومسلم ( 1177 ) .(1/45)
ولا يجوز له أن يُطَيِّب الإزار والرداء ، كما دل عليه حديث ابن عمر هذا وغيره من الأحاديث ، وإنما الطيب يكون في البدن ولا يكون في الثوب ، وإذا أصاب الطيب الثوب وجب عليه غسله ، كما دل على ذلك ما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث صفوان بن يعلى أن يعلى قال لعمر : أرني النبي ? حين يوحى إليه . قال : فبينما النبي ? بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله , كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو مُتَضَمِّخ بطيب ؟ فسكت النبي ? ساعة , فجاءه الوحي فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله ? ثوب قد أظل به , فأدخل رأسه , فإذا رسول الله ? محمرُّ الوجه وهو يغطُّ ثم سري عنه , فقال : « أين الذي سأل عن العمرة ؟ » فأتي برجل , فقال : « اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات , وانزع عنك الجبة , واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك » (1).
وبعد أن يلبس ثياب الإحرام يستحب له إذا ركب راحلته أن يستقبل القبلة ، كما ثبت في « صحيح البخاري » من حديث أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ، ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائماً ، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ثم يُمسك (2) .
وفي « صحيح البخاري » من حديث أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : صَلَّى رسول الله ? - ونحن معه - بالمدينة الظهر أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء ، حمدَ الله ، وسبح وكبر ، ثم أهَلَّ بحج وعمرة ، وأهلّ الناس بهما (3) .
والذي يبدو أن هذا التسبيح والتكبير والتهليل إنما هو الدعاء الذي يقال عند ركوب الدابة .
__________
(1) أخرجه البخاري (1563) ومسلم (1180) .
(2) أخرجه البخاري ( 1553 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 1551 ) .(1/46)
والسنة للمحرم أن يتلفظ بما أهل به من نسك ، فإذا كان يريد العمرة يقول : لبيك اللهم عمرة ، وإذا كان يريد الحج يقول : لبيك اللهم حَجَّاً ، فقد ثبت في « صحيح البخاري » من حديث عكرمة ، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول : سمعت النبي ? بوادي العقيق يقول : « أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة » (1) .
وفي « صحيح مسلم » من حديث هشيم ، عن عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن أبي إسحاق ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ? يلبي بالحج والعمرة جميعاً ، يقول : « لبيك عمرة وحَجَّاً ، لبيك عمرة وحَجَّاً » (2) .
والمتمتع يقول عند إهلاله بالإحرام: لبيك اللهم عمرة ، أو يقول : لبيك اللهم عمرة متمتعا بها إلى الحج .
وأما قول الإنسان : نويت أن أفعل كذا فهذا بدعة ومحدث .
* * *
أنواع النسك
الأنساكُ ثلاثة : إما تمتع ، وإما إفراد ، وإما قِرَان .
والمستحب للحاج أن يتمتع ، بل إن النبي ? أمر من لم يسق الهدي من الصحابة أن يتمتع ، ويجعل طوافه بالبيت وسعيه عمرة ، فقد ثبت من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن النبي ? عندما انتهى من السعي وقف على المروة ، وقال : « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة » ، فقام سُرَاَقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله ? أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : « دخلت العمرة في الحج » مرتين ، « لا ، بل لأبد أبد » (3) . فأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة ، فيكون بذلك متمتعاً .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1534 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1251 ) ، وأبو داود ( 1795 ) ، والنسائي ( 1/150 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 1218 ) .(1/47)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إيجاب التمتع على من لم يسق الهدي ، وممن ذهب إلى هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو محمد ابن حزم ، ورَجَّح هذا ونَصَره الإمام ابن القيم وذلك في كتابه « زاد المعاد » (1) .
وأكثر أهل العلم يقولون بالتخيير بين التمتع والقِرَان والإفراد ، لكن لا شك أن المستحب والمتأكد في حَقِّ الحاج إذا لم يسق الهدي أن يتمتع ، كما أمر بذلك الرسول ? .
والتمتع : هو أداء الحج والعمرة في سفرة واحدة في سنة واحدة ، كما ذهب إلى هذا الجمهور ، وتكون هذه العمرة في أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة ، كما ثبت ذلك عن ابن عباس (2).
فمن أحرم بالعمرة في أول يوم من شوال ، وأدى العمرة في اليوم الثاني من شوال ، وتحلل ، وعندما جاء اليوم الثامن أحرم ، فهذا متمتع ، فالتمتع الذي اتفق عليه أهل العلم هو أداء الحج والعمرة في أشهر الحج (3).
__________
(1) « زاد المعاد » ( 2/178ـ 223 ).
(3) وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يشترط أن لا يسافر بينهما .
القول الثاني : أنه يشترط أن لا يسافر إلى بلده .
القول الثالث : أنه يصح التمتع ولو سافر بينهما , وممن ذهب إلى هذا الحسن البصري , وذكر شمس الدين ابن مفلح في «الفروع» (3/232) أن هذا القول هو معنى ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
قلت : ويدل على هذا القول ظاهر الآية الكريمة : { فمن تمتع بالعمر إلى الحج فما استيسر من الهدي } ولم يذكر سبحانه اشتراط عدم السفر بينهما , فمن أدى العمرة في أشهر الحج وحج أيضا من عامه فهذا يكون متمتعا ، وليس هناك دليل واضح لاشتراط عدم السفر , والأولى للإنسان أن لا يسافر بينهما إذا أراد التمتع احتياطا لدينه وخروجا من الخلاف .(1/48)
وأما القران : فهو أن يحرم الإنسان بالحج والعمرة معا , فإذا قدم إلى البيت طاف به سبعا , وهذا يسمى طواف القدوم وهو سنة في حق القارن والمفرد , ثم يسعى بين الصفا والمروة , ويكون السعي في حقه هو سعي الحج , ثم يبقى على إحرامه إلى أن يأتي اليوم الثامن فيذهب إلى منى ويبيت بها , ويفعل باقي أعمال الحج إلى أن يتحلل في يوم العيد , وهذا يكون في حق من ساق الهدي , فمن ساق الهدي فعليه أن يقرن كما فعل الرسول ? , وقد قال عندما سألته حفصة : يا رسول الله ؛ ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : « إني لَبَّدتُ رأسي ، وقَلَّدتُ هديي ، فلا أحل حتى أنحر » (1) .
وأما الإفراد : فهو أن يحرم الإنسان بالحج وحده , وهو مثل القران من حيث الصفة , ولكن الفرق بينهما أن المفرد ليس عليه هدي .
* * *
التلبية
ثم بعد أن يهل الحاج بنسكه يشرع بالتلبية ، فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .
كما ثبت في « الصحيحين » من حديث مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (2) .
وثبت أيضاً في «صحيح مسلم» من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله (3) .
وثبت هذا أيضا في « صحيح البخاري » من حديث عائشة رضي الله عنها (4) .
ومعنى التلبية : يا رب أنا مقيم على طاعتك مَرَّةً بعد مرة ، فالتلبية الإقامة على طاعة الله عز وجل ، وإعلان القصد ، والإخلاص لله سبحانه وتعالى في أداء هذا العمل .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1566 ) ، ومسلم ( 1229 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 1549 ) ، مسلم ( 1184 ) .
(3) « صحيح مسلم » ( 1218 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 1550 ) .(1/49)
وجاء أن النبي ? زاد على هذه التلبية ، كما جاء عند النسائي وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة قال : كان من تلبية النبي ? : لبيك إله الحق (1).
فهذه زيادة قوية , والله تعالى أعلم .
وكذلك هناك زيادة على هذه التلبية ، وهي عند الإمام الشافعي - كما في المسند المجموع للشافعي - أن النبي ? كان يلبي ثم رأى ما يعجبه ، فقال : « لبيك إنما العيش عيش الآخرة » (2).
وهذه ثابتة أيضاً .
ومعلوم أن الصحابة كانوا يزيدون على هذه التلبية ، ولكن هذا هو الثابت من المرفوع إلى النبي ? .
والتلبية سنة وليست بواجبة على الصحيح ، وهو مذهب الجمهور .
ويستحب للحاج أن يرفع صوته بالتلبية ، فقد ثبت في «السنن» من حديث عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن خلاد بن السائب بن خلاد ، عن أبيه قال : قال رسول الله ? : « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية » (3) .
__________
(1) أخرجه النسائي (2752) وابن ماجه (2920) وابن خزيمة (2623) وابن حبان (3800) والحاكم (1/449-450) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ا.هـ .
وقال النسائي : لا أعلم أحدا أسند هذا عن عبد الله بن الفضل إلا عبد العزيز , رواه إسماعيل بن أمية عنه مرسلا .
(2) «مسند الشافعي» (122) من مرسل مجاهد ، والإسناد إليه حسن , وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (470) والطبراني في «الأوسط» ( ) , وصححه ابن خزيمة (2831) والحاكم (1/465) وحسن إسناده الهيثمي في «المجمع» (3/223) .
قلت : وفي إسناده محبوب بن الحسن مختلف فيه , والأرجح أنه ليس بالقوي كما قال أبو حاتم .
(3) أخرجه أبو داود ( 1814) ، والترمذي ( 829 ) ، والنسائي ( 5/462 ) ، وابن ماجه ( 2922 ) .
قلت : وهذا الحديث حديث صحيح ، وقد تلقاه أهل الحديث بالقبول والتصحيح ، فصححه الترمذي وابن خزيمة (2625) وابن حبان (3802) والحاكم (1/619) ورواه النسائي في «سننه» ، فمن تكلم في هذا الحديث من أجل جهالة خلاد بن السائب فقد أخطأ ، والراجح أن خلاد لا بأس به , فقد صحح له من تقدم ذكره من الحفاظ حديثه هذا , ووثقه الحافظ ابن حجر , وقد ذكرت الكلام على مسألة الجهالة في التقديم لكتاب «دراسة حديثية لحديث أم سلمة في الحج» .(1/50)
وثبت في «جامع الترمذي» من حديث عمارة بن غزية عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي ? قال « ما من ملب يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا » (1).
وجاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أهل مهل قط إلا بشر , ولا كبر مكبر قط إلا بشر " قيل : يا رسول الله , بالجنة ؟ قال : " نعم " (2).
وثبت عن الصحابة أنهم كانوا يلبون حتى تبح أصواتهم (3) .
وثبت عن ابن عمر أنه لبى حتى أسمع ما بين الجبلين (4) .
ويستمر بالتلبية ولا يقطعها حتى يصل إلى منطقة الحرم ، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث نافع قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل , ويحدث أن النبي ? كان يفعل ذلك (5) .
والمقصود بأدنى الحرم : منطقة الحرم .
وثبت ـ أيضاً ـ في حديث عبيد بن حنين عن عبد الله بن عمر أنه إذا أهلَّ فدخل العُرُش (6) قطع التلبية ، وقال : « خرجت مع رسول الله ? ، فلما دخل العرش قطع التلبية ، فلا تزال تلبيتي حتى أموت » (7) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (828) ، وهو حديث حسن .
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5454 , 7779) بإسنادين أحدهما حسن .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » ( 3/372 ، 373 ) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » ( 3/372 ) .
(5) أخرجه البخاري ( 1573 ) ، ومسلم ( 1259 ) .
(6) قال النووي في « شرح مسلم » : « أما العرش فبضم العين والراء ، وهي بيوت مكة كما فسره في الرواية ، قال أبو عبيد : سُميت بيوت مكة عرشاً لأنها عيدان تنصب وتظلل ، قال : ويقال لها ـ أيضاً ـ عروش بالراء ، وواحدها عرش ، كفلس وفلوس » .
(7) أخرجه ابن خزيمة في « صحيحه » ( 4/206 ) .(1/51)
وعن هلال بن يسار قال: حججت مع أنس بن مالك فرأيته يقطع التلبية حين هبط من الثنية حين رأى بيوت مكة (1).
* * *
الدخول إلى مكة
إذا أراد الشخص أن يدخل مكة فإنه يستحب له أن يغتسل ، وهذا ثابت في حديث عبد الله بن عمر السابق أنه كان يغتسل قبل دخوله إلى مكة ويحدث أن الرسول ? فعل ذلك (2).
فإذا دخل مكة فالسنة أن يدخل من الأعلى ويخرج من الأسفل ، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة أن النبي ? لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها , وخرج من أسفلها (3).
ثم يذهب إلى البيت الحرام ، ويسن له أن يدخل من باب بني شيبة ، ولم يثبت هذا صريحاً في حَجَّة الوداع ، وإنما ثبت في قصة بناء الكعبة عند وضع الحجر الأسود ، فعن علي رضي الله عنه قال : لما أن هُدِم البيت بعد جُرْهُم بنته قريش ، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا ، من يضعه ، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب ، فدخل رسول الله ? من باب بني شيبة ، فأمر بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل فخذ أن يأخذ بطائفة من الثوب فيرفعوه ، وأخذه رسول الله ? فوضعه (4) .
وكذلك أيضاً جاء في مرسل عطاء أنه قال : يدخل المحرم من حيث شاء , ودخل النبي ? من باب بني شيبة ، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا (5).
وباب بني شيبة لا وجود له الآن , ولكن ذكروا أن من دخل من باب السلام ومشى إلى الكعبة فإنه يمر بالمكان الذي كان فيه باب بني شيبة .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (1/242) وحسن الهيثمي إسناده في المجمع (3/228) .
(3) أخرجه البخاري (1577) ومسلم (1258) .
(4) أخرجه الحاكم في « المستدرك » ( 1/629 ) ، البيهقي في « السنن الكبرى » ( 5/72 ) .
قلت : وهذا الحديث لا بأس بإسناده , وقد جاء من حديث ابن عباس أيضا عند البيهقي ( ) وصححه النووي في «المجموع» (8/10) .
(5) أخرجه البيهقي (5/72) ، وقال : هذا مرسل جيد .(1/52)
وليس هناك دعاء خاص يُقال عند الدخول إلى المسجد الحرام ، وإنما يُقال الدعاء الذي يذكر عند الدخول إلى سائر المساجد ، وهو ما جاء في « صحيح مسلم » عن أبي حميد أو عن أبي أسيد قال : قال رسول الله ? : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك » (1) .
وروى أبو داود أيضا من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ? كان يقول إذا دخل المسجد « أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم » (2).
فهذا أيضاً ثابت ، ولا أعرف دعاء يثبت فيما يقال عند الدخول إلى المسجد غيرهما .
ثم بعد ذلك ينفذ إلى الكعبة ، وليس هناك دعاء ثابت عن النبي ? يقال عند رؤية الكعبة ، وإنما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رواية سعيد بن المسيب عنه أنه كان إذا دخل البيت قال : « اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام » (3) .
* * *
الطواف
وبعد ذلك يأتي إلى الحجر ويكبر ، وليس هناك دعاء يقال عند افتتاح الطواف إلا التكبير ، وما جاء عن النبي ? أنه كان يقول : « اللهم إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاء بعهدك » (4) فهذا لم يثبت ، وإن قال هذا على سبيل الدعاء فلا بأس ، لكن الذي ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام هو التكبير فقط، كما جاء في «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله ? طاف بالبيت وهو على بعير ، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكَبَّر (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 713 ) .
(2) أخرجه أبو داود (466) , وإسناده لا بأس به , وإن كان فيه غرابة .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » ( 6/81 ) والبيهقي في « السنن الكبرى » ( 5/73 ) .
(4) أخرجه أحمد ( ) والطبراني في « الأوسط » ( 1/157 ) البيهقي في « الكبرى » ( 5/79 ) ، وفي إسناده الحارث بن عبد الله الأعوار ، ولا يحتج به .
(5) أخرجه البخاري ( 1613 ) .(1/53)
وأما زيادة البسملة فثبتت عن ابن عمر من قوله أنه كان إذا استلم الركن قال : بسم الله والله أكبر (1) .
ويشرع له أن يستلم الحجر ويُقَبِّلَه ، كما ثبت في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قبّل الحجر وقال : لولا أني رأيت رسول الله ? يقبلك ما قبلتك (2).
فإن لم يستطع تقبيله فإنه يستلمه بيده ويقبل يده , كما ثبت في صحيح مسلم من حديث نافع أنه قال : رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده , ثم قبّل يده , وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله (3).
وروى البيهقي من طريق ابن جريج عن عطاء أنه قال : رأيت جابر بن عبد الله وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهم إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم . قال ابن جريج : وابن عباس ؟ قال : وابن عباس . حسبت : كثيرا (4).
فإن لم يستطع وكان معه شيء بيده فيستلمه به ويقبله ، كما ثبت في « صحيح مسلم » من حديث أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله ? يطوف بالبيت ، ويستلم الركن بمحجن معه ، ويُقَبِّل المحجن (5) .
والاستلام : هو وضع اليد عليه .
وإذا لم يستطع أن يفعل شيئا من ذلك فيشير بيده اليمنى ويقول : الله أكبر .
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أنه يشير بكلتا يديه ، وهذا خلاف السنة ، وكذلك بعض الناس يكبر ثلاث مرات ، وهذا أيضا خلاف السنة ، وإنما السنة أن يكبر مرة واحدة .
__________
(1) أخرجه الطبراني في « الدعاء » ( 862 ) ، وعبد الرزاق في « المصنف » ( 5/33 ) ، وإسناده صحيح .
(2) أخرجه البخاري (1610) ومسلم (1270) .
(3) أخرجه مسلم (1267) .
(4) أخرجه البيهقي (5/75) ، وعزاه الحافظ في «الفتح» () إلى «سنن سعيد بن منصور» أيضا .
(5) أخرجه مسلم ( 1275 ) .(1/54)
وإذا كان الشخص بعيداً عن الحجر فإنه إذا وجد بنظر عينه أنه قد استقبل الحجر فهنا يشير إليه ويشرع بالطواف ، وليس من المشروع أن يتعمد وضع قدميه على الخط الموضوع الآن ، ولا شك أن هذا الخط الموضوع الآن حدث بسببه عدة مفاسد , من اعتقادات فاسدة فيه , ومن زحام , وغير ذلك (1).
ثم يجعل الكعبة عن يساره ، ويستحب له قبل أن يشرع بالطواف أن يضطبع ، كما ثبت في حديث ابن عباس ، أن النبي ? اضْطَبَعَ ، فاستلم وكبر (2) .
والاضطباع : هو كشف المنكب الأيمن ، ووضع الرداء على منكبه الأيسر .
ثم يطوف سبعة أشواط ، ويستحب له في الأشواط الثلاثة الأولى أن يَرْمل .
والرَّمَل : هو مُقاربة الخُطَا مع سرعة المشي .
والسنة في حَقِّهِ أن يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر ، فقد ثبت من حديث ابن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع رَمَل من الحَجَر إلى الحَجَر ثلاثا ومشى أربعا(3) .
وثبت من حديث جابر أنه قال : رأيت رسول الله ? رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف (4).
وعندما يطوف بالبيت ويتجاوز الركن اليماني يقول : « ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار » ، ثبت ذلك في « سنن أبي داود » من حديث ابن جريج ، عن يحيي بن عبيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن السائب قال : سمعت رسول الله ? يقول ما بين الركنين : « ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار » (5) .
__________
(1) وقد أزيل هذا الخط في هذه السنة (1426) والحمد لله .
(2) أخرجه أبو داود ( 1889 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 1262 ) .
(4) أخرجه مسلم (1263) .
(5) أخرجه أبو داود ( 1892 ) ، وهو حديث صحيح , صححه ابن خزيمة ( 4/215 ) وابن حبان ( 3829 ) والحاكم (1/455) وغيرهم من أهل العلم.(1/55)
وليس هناك ذكر معين ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام غير ما ذكرناه ، فيدعو الحاج في طوافه بما أحب ، وإن سَبَّح وكبَّر أو هَلَّل أو قرأ القرآن أثناء الطواف بالبيت فهذا حَسَنٌ ولا بأس به .
وكذلك أيضاً عند الركن اليماني ليس هناك دعاء ثابت ، فالسنة في الركن اليماني أن تستلمه فقط ولا تقل عنده شيئاً ، من تكبير أو غيره , وإذا لم تستطع استلامه فإنك لا تشير إليه ولا تقل عنده شيئا .
والرواية التي فيها ذكر التكبير عند استلام الركن اليماني شاذة ولا تصح (1).
وأما ما يذكر في بعض الكتب من دعاء الشوط الأول والثاني والثالث إلى السابع فهذا باطل وليس بصحيح ، وينبغي للشخص أن يتجنب هذه الكتب التي فيها أشياء ليست بصحيحة ولم تثبت في سُنَّة الرسول ? .
وأيضا ليس هناك شيء يقبل إلا الحجر ، وليس هناك شيء يستلم إلا ثلاثة أشياء : الحجر والركن اليماني والملتزم ، فاستلام الحجر والركن ثابت عن النبي ? وأما الملتزم – وهو ما بين الحَجَر والباب - فثبت عن الصحابة أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسافروا من مكة أنهم كانوا يضعون أيديهم وجباههم على الملتزم (2).
وأما التمسح بجدران الكعبة فهذا غير مشروع , وإذا كان هذا التمسح بقصد البركة فهذا شرك .
__________
(1) أخرجها الطبراني في ( ) .
(2) ينظر : المصنف لعبد الرزاق (5/75-76) , والمصنف لابن أبي شيبة (3/236) , وسنن البيهقي (5/164) .(1/56)
وإذا حاذى الحجر الأسود في نهاية الشوط السابع فإنه يكون قد انتهى من طوافه فينصرف بدون إشارة إليه ولا تكبير لأن ذلك إنما يكون في بداية الشوط , ويذهب إلى مقام إبراهيم ويتلو ما جاء في قوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ ] ، ثم يجعل المقام بينه وبين الكعبة ، ثم يصلي ركعتين ، وقد جاء أنه يقرأ في هاتين الركعتين : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ، كما جاء ذلك في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر الذي رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم (1) ، ولكن هذه اللفظة مُدرجه من يحيي بن سعيد القطَّان (2) ، فهي لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما هي من فعل بعض رواة الحديث .
وبعد أن ينتهي من صلاة الركعتين يرجع إلى الحَجَر ويستلمه ثم يخرج إلى الصفا كما ثبت ذلك في حديث جابر عند مسلم (3) ، وفي رواية عند الإمام أحمد قال: ثم عاد إلى الحجر , ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه , ثم رجع فاستلم الركن (4), وهذا من السنن وليس بواجب.
أنواع الطواف:
الطواف الذي يقع من الحجاج ثلاثة أنواع :
الأول : طواف القدوم , وهو سنة في حق القارن والمفرد ، والدليل على ذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر « الحج عرفة »(5) فهذا يدل على أن بداية الحج عرفة .
وفي حديث عروة بن مضرس الديلي أن النبي ? قال : « من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك »(6) . فهذا أيضا يدل على أن بداية الحج عرفة وما قبله ليس بواجب (7).
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1218 ) ، وأبو داود ( 1905 ) ، ابن ماجه ( 3074 ) .
(2) وقد بين ذلك الخطيب البغدادي في كتابه «الفصل للوصل المدرج في النقل» (2/671) .
(3) أخرجه مسلم ( 1218 ) .
(4) أخرجه أحمد (3/394) .
(7) يستثنى من ذلك الإحرام وما يتعلق به فهذا واجب , ولكن يشترك فيه المعتمر والحاج , وأما أول الأعمال الواجبة الخاصة بالحاج هو الوقوف بعرفة .(1/57)
وأما المتمتع فإنه قدم عمرته قبل الحج , وطواف العمرة ركن من أركانها ، فيكون في حقه واجب .
الثاني : طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج ولا يتم الحج إلا به باتفاق العلماء ، وهو من أعمال يوم النحر , وسيأتي الكلام عليه هناك .
الثالث : طواف الوداع , وسيأتي الكلام عليه أيضا .
تنبيه: الرمل والإضطباع لا يشرعان إلا في الطواف الأول .
فضل الطواف:
جاء من حديث حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن رجلا قال : يا أبا عبد الرحمن – وهو ابن عمر - , ما أراك تستلم إلا هذين الركنين ؟ قال : إني سمعت رسول الله ? يقول : « إن مسحهما (1)يحطان الخطيئة » وسمعته يقول : « من طاف سبعا فهو كعدل رقبة » (2).
وعند الطبراني عن المنكدر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من طاف حول البيت أسبوعا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة يعتقها (3).
* * *
السعي
ثم يذهب إلى الصفا والمروة ، وعند الوصول والصعود إلى الصفا يتلو أيضاً قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ ] ، ثم يقول : « أبدأ بما بدأ الله » ، وهذا إنما يقال في أول السعي فقط ولا يكرر عند كل شوط.
ثم يصعد قليلاً ويستقبل الكعبة ثم يكبر ثلاثاً : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، يقول ذلك ثلاث مرات ، ويدعو بين ذلك ، كما ثبت ذلك في حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره (4) .
__________
(1) يعني عندما يطوف بالبيت ويستلمهما .
(2) أخرجه الترمذي (959) والنسائي (5/221) والإمام أحمد (2/95) وإسناده جيد .
(3) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (20/360) ، وإسناده صحيح إلى المنكدر , وهو من كبار التابعين .
(4) أخرجه مسلم ( 1218 ) ، وأبو داود ( 1905 ) ، ابن ماجه ( 3074 ) .(1/58)
والذي يبدو ـ والله أعلم ـ أن التكبير والتهليل يكون ثلاث مرات ، والدعاء يكون مرتين ، لأنه قال : « بين ذلك » ، فيفتتح بالتكبير والتهليل ، ويختتم أيضاً بالتكبير والتهليل .
وعند الدعاء يرفع يديه ، كما ثبت ذلك في « صحيح مسلم » أن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما صعد على الصفا رفع يديه ودَعَا (1) .
ثم بعد ذلك ينحدر من الصفا إلى بطن الوادي حتى ينفذ إلى المروة ، وعندما يصل إلى الميل الأول فعليه أن يهرول حتى يصل إلى الميل الثاني ، كما ثبت ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام (2) , ويوجد الآن ضوء أخضر لتحديد الميل الأول والميل الثاني .
وليس هناك في السعي دعاء أو ذكر معين إلا ما سبق فيما يقال على الصفا والمروة ، وإذا قال : « رب اغفر وارحم ، وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز الأكرم » كما ثبت ذلك عن عبد الله بن مسعود (3) فلا بأس .
فإذا وصل إلى المروة يكون قد انتهى من الشوط الأول , فيصعد عليها ويستقبل الكعبة ، والآن لا يستطيع الإنسان إذا صعد على المروة أن يرى الكعبة ، فعليه أن يتجه إلى جهتها ، ويفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا ، ثم ينزل إلى الصفا , ويكون هذا هو الشوط الثاني في حقه , ويفعل في هذا الشوط وبقيه الأشواط مثل ما فعل في الشوط الأول , حتى يصل إلى الشوط السابع ، وتكون بدايته من الصفا فيكبر ويهلل ، ثم ينفذ إلى المروة ، وعندما يصل في الشوط الأخير إلى المروة فلا يسبح ولا يهلل ، لأن بداية الشوط السابع تكون عند الصفا ، فإذا وصل إلى المروة يخرج ويكون قد انتهى من السعي.
حكم السعي:
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1780 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1218 ) من حديث جابر .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » ( 3/420 ) .(1/59)
هذا السعي في حق المتمتع هو ركن العمرة , وأما القارن والمفرد فهذا السعي في حقهما هو ركن الحج ، وعليه فإذا أتى يوم النحر فالمفرد والقارن لا يسعيان مرة أخرى إذا كانا قد سعيا عند القدوم , بخلاف المتمتع فعليه أن يسعى مرة أخرى .
الحلق أو التقصير :
وبعد أن ينتهي من السعي عليه أن يُقَصِّرَ من شعره إذا كان متمتعا ، وذكر أهل العلم أن الشخص إذا كان بينه وبين الحج وقت قصير ـ كما هو الحاصل الآن فغالب الناس يذهبون إلى الحج في اليوم الخامس أو السادس أو السابع - فهنا يستحب له أن يُقَصِّر ، فإذا كان يوم النحر فهنا يحلق .
فإذا قصَّر أو حلق فإنه يكون قد تحلل من العمرة ، فيشرع له أن يخلع الإحرام ويلبس ثيابه ، هذا في حق المتمتع ، وأما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما .
ثم بعد ذلك يبقى المتمتع متحللاً إلى أن يأتي اليوم الثامن ، والسنة في حَقِّهِ أن يبقى في مكة ، مثل ما بقي الرسول ? فيها كما جاء في « الصحيح » (1) .
* * *
أعمال يوم الثامن (يوم التروية)
فإذا أتى ضحى اليوم الثامن فإنه يفعل كما فعل عند الميقات ، فيستحب له أن يغتسل ، وأن يتطيب ، وأن يلبس لباس الإحرام ، ثم يقول : لبيك اللهم حَجَّاً ، ويشرع في التلبية .
ويذهب إلى منى ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، كل صلاة في وقتها مقصورة ، كما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث جابر (2) وغيره من الأحاديث .
حكم المبيت بمنى في هذه الليلة:
المبيت بمنى هذه الليلة سنة وليس بواجب , قال ابن المنذر : صلى الزبير الظهر بمكة يوم التروية , وتأخرت عائشة يوم التروية حتى ذهب ثلث الليل . قال : وأجمعوا على أن من ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لا شيء عليه (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 166 ) ، ومسلم ( 1187 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1218 ) .
(3) نقله عنه النووي في المجموع (8/92) .(1/60)
ومما يدل على عدم وجوبه ما ذكر فيما تقدم من الأدلة على عدم وجوب طواف القدوم ، فيقول في المبيت بمنى هذه الليلة ما قيل في طواف القدوم في حق القارن والمفرد .
* * *
أعمال يوم التاسع (يوم عرفة)
الخروج من منى إلى عرفة:
ثم إذا صلى الفجر يبقى في منى حتى تطلع الشمس ، ثم يذهب إلى عرفة ، والسنة أن يلبي حتى يرمي الجمرة ، كما ثبت ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن أسامة رضي الله عنه كان ردف النبي ? من عرفة إلى مزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، قال : فكلاهما قال : لم يزل النبي ? يلبي حتى رمى جمرة العقبة (1) .
وإذا كبر فلا بأس به كما ثبت ذلك في « صحيح مسلم » من حديث ابن عمر قال : غدونا مع رسول الله ? من منى إلى عرفات ، مِنَّا الملبي ، ومِنَّا المكبر (2) .
وثبت في «الصحيحين» من حديث محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه وهما غاديان من منى إلى عرفة كيف يصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ? ؟ فقال : كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه , ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه (3).
لكن السنة أن يستمر بالتلبية .
وثبت في حديث ابن مسعود أن النبي ? استدام التلبية إلا أن يخلطها بتهليل (4).
أنواع الذكر الوارد في الحج :
الذكر الوارد في الحج أربعة أنواع :
الأول : التلبية ، وهذا هو شعار الحج ، وهذا هو الغالب من فعل النبي ? كما في حديث ابن عباس السابق وفيه أن النبي ? استمر على التلبية حتى رمى الجمرة .
الثاني : التكبير كما ثبت في حديث أنس ، وهذا كان عند ذهابهم إلى عرفة ، وكل أيام العشر أيام تكبير , وثبت في «الصحيحين» عن النبي ? أنه عندما أتى الجمرة كان يكبر مع كل حصاة يرميها (5)، فالتلبية تنقطع عند رمي الجمرة .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1543 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1284 ) .
(3) أخرجه البخاري (1659) ومسلم (1285) .
(4) أخرجه ابن خزيمة (4/250) .(1/61)
الثالث : التهليل كما سبق في حديث ابن مسعود أن الرسول ? استمر على التلبية إلا أن يخلطها بتهليل ، وينبغي أن يكون الغالب يوم عرفة هو التهليل كما سيأتي .
الرابع : الدعاء ، وأدعية الحج خاصة وعامة , فالخاصة هي ما وردت بصيغ معينة عن النبي ? كما سبق في الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود , وأما العامة فكالدعاء في بقية الطواف ، وعلى الصفا والمروة وبينهما , وعند المشعر الحرام , وبعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق , وآكد مواطن الدعاء للحاج هو يوم عرفة , وينبغي للحاج أن يكثر من الدعاء في جميع أحواله .
الغسل يوم عرفة:
الأقرب – والله أعلم – أنه يستحب للإنسان أن يغتسل يوم عرفة ، فقد ثبت ذلك عن اثنين من الصحابة ، وهما : علي وابن عمر ، رواه الإمام مالك في «الموطأ» (1)، وكذلك جاء في «صحيح البخاري» في قصة ابن عمر مع الحجاج وأنه قال له في يوم عرفة عندما زاغت الشمس : الرواح . فقال الحجاج : الآن؟ قال: نعم. قال: فأنظرني أفيض علي ماء (2). ونحن لا نحتج بفعل الحجاج ، ولكن بسكوت ابن عمر ، ونستدل بهذا على انتشار ذلك بين الصحابة .
وكذلك من جهة القياس دلت السنة على أن الأماكن التي يجتمع فيها الناس يسن للإنسان أن يغتسل لها ، ولا نقول بهذا على إطلاقه لكن يستأنس به .
الوقوف بعرفة:
__________
(1) 911) .
(2) أخرجه البخاري (1663)(1/62)
ومن السنة للحاج أن ينزل في نَمِرَة ، فيذهب من منى إلى أن يصل إلى نمرة ، ويبقى في نمرة إلى أن تزول الشمس ، وهذا ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، كما في حديث جابر أن الرسول ? أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبَت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ... ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول الله ? حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله ? ، وقد شنق للقصواء الزمام ... حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئاً (1) .
وعندما وقف النبي ? في موقفه بعرفة قال:« وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف » (2) .
وليس من السنة الوقوف على جبل إلال الذي تسميه العامة «جبل الرحمة» .
ويسن للحاج في يوم عرفة أن يكثر من قول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، كما جاء ذلك عند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي ? قال : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير » (3) ، فيكثر من هذا التهليل ، ويكثر أيضاً من الدعاء والاستغفار .
حكم الوقوف بعرفة:
اتفق المسلمون على أنه ركن من أركان الحج ، وأن الحج لا يتم إلا به ، وأن من فاته الوقوف بعرفة فليس له حج .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1218 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1218 ) عن جابر رضي الله عنه .
(3) أخرجه الترمذي ( 3585 ) وقال : . ولكن الحديث له شواهد تقويه فجاء من مرسل(1/63)
ودلت النصوص على هذا ففي حديث عبد الرحمن بن يعمر أن النبي ? قال : « الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر في يومين فلا إثم عليه » (1).
وفي حديث عروة بن مضرس الطائي أن النبي ? قال : « من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه » (2).
فهذه النصوص دلت على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ، بل على أنه هو الركن الأكبر من أركان الحج .
ويجب على الحاج أن يقف داخل حدود عرفة المحددة والمعروفة.
حكم من وقف بواد عرنة:
الذي دلت عليه النصوص أن من وقف بواد عرنة ليس له حج ، لأن واد عرنة ليس من عرفة وإنما هو مواز لها .
ما يتحقق به ركن الوقوف :
اتفق أهل العلم على أنه ليس هناك مقدار محدد للوقت الذي يتحقق به ركن الوقوف , فلو أنه بقي لحظات في عرفة من زوال الشمس من اليوم التاسع إلى أن يطلع الفجر من اليوم العاشر فيعدُّ واقفاً .
بداية وقت الوقوف:
دلت الأحاديث على أن النبي ? وقف بعرفة بعد زوال الشمس , فالسنة والاحتياط للإنسان أن يكون وقوفه بعرفه بعد الزوال .
فضل يوم عرفة:
دلت النصوص على أن يوم عرفة من أفضل الأيام عند الله سبحانه وتعالى ، وقد ورد في فضله عدة أحاديث منها ما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي قتادة أن النبي ? قال : صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889) والنسائي (3044) وابن ماجه (3015) وصححه ابن خزيمة (4/257) وابن حبان (3892) والحاكم (1/464) وغيرهم.
(2) أخرجه أبو داود (1950) والترمذي (891) والنسائي (5/263) وابن ماجه (3016) وصححه ابن خزيمة (4/256) وابن حبان (3851) .
(3) أخرجه مسلم (1162) .(1/64)
وثبت في «صحيح مسلم» من حديث عائشة أن النبي ? قال : « ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة , وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء ؟» (1).
وفي «صحيح ابن خزيمة» و«صحيح ابن حبان» من حديث أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله ? : « ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة, ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء , فيقول : انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين ، جاؤوا من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي ، فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة » (2).
الدفع من عرفة إلى مزدلفة:
السنة أن يبقى الحاج بعرفة إلى مغيب الشمس ، والأرجح أنه لا يجب البقاء بعرفة إلى المغيب وإنما ذلك من السنة ، ويدل على ذلك قوله في حديث عروة بن المضرس « وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً » . ولم يشترط البقاء إلى مغيب الشمس (3).
وبعد أن تغيب الشمس يذهب إلى مزدلفة ، ويستمر بالتلبية ، فإذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بأذانٍ واحدٍ وإقامتين ، كما ثبت ذلك في حديث جابر السابق .
وبعد ما صلى الرسول عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء نام عليه الصلاة والسلام إلى أن طلع الفجر ، ولم يصل بين المغرب والعشاء شيئا ، فالسنة للحاج إذا صلى المغرب والعشاء أن يضطجع وينام حتى يطلع الفجر ، كما جاء في حديث جابر السابق قال : ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر .
__________
(1) أخرجه مسلم (1348) .
(2) أخرجه ابن خزيمة (4/263) وابن حبان (3853) .
(3) وقد اختلف أهل العلم في حكم البقاء بعرفة إلى مغيب الشمس , فذهب بعضهم إلى وجوب ذلك , وذهب بعضهم إلى عدم الوجوب , وهو الأرجح .(1/65)
وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : جمع النبي ? بين المغرب والعشاء بجمع , كل واحدة منهما بإقامة , ولم يسبح بينهما ، ولا على إثر كل واحدة منهما (1).
فظاهر هذين النصين أنه لا وتر في ليلة العيد .
وقد ذكر ابن القيم (2)أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحي تلك الليلة , فلا يسن قيام الليل في هذه الليلة ، والحكمة في ذلك – والله أعلم - أن الناس يكونون متعبين بسبب الوقوف بعرفة ، وكذلك أيضاً سوف تأتيهم أعمال كثيرة بعد المبيت بمزدلفة ، فقيام هذه الليلة يكون فيه مشقة .
حكم المبيت بمزدلفة:
اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول: أن المبيت ركن ، وأن الحج لا يتم إلا به ، وذهب إلى هذا الشعبي والنخعي والحسن ، وقال به ابن خزيمة وابن حزم ، ومال إليه ابن المنذر وابن القيم .
القول الثاني: أن المبيت واجب ، وهذا مذهب الجمهور ، فمن تركه فإن حجه صحيح ويجبره بدم .
القول الثالث: أن المبيت سنة وليس بواجب ، وهذا منقول عن بعض أهل العلم ، وهو قول ضعيف جدا.
واستدل من قال بأنه ركن بظاهر النصوص ، كحديث عروة بن مضرس : « من شهد معنا صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه » . فقالوا : إذا من لم يبت بمزدلفة ولم يصل الفجر بها يكون حجه ليس بتام .
__________
(1) أخرجه البخاري (1673) ومسلم (703) .
(2) زاد المعاد (2/247) .(1/66)
وفي رواية عند النسائي لهذا الحديث فيها : « من شهد جمع مع الإمام والناس فقد تم حجه ، ومن لم يشهد جمع مع الإمام والناس فلم يتم حجه » (1)، وهذه الرواية صريحة في أن المبيت بمزدلفة ركن ، ولكن هذه الرواية ذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفها كالعقيلي وقد ألف جزءا في تضعيفها، والنسائي خرجها من طريق مطرف بن طريف ـ وهو ثقة على الراجح ـ عن الشعبي عن عروة بن مضرس ، وهذا الإسناد صحيح وقوي جدا، ولكن الشأن في أن الحديث مروي في السنن والمسانيد وليس فيه ذكر هذه الزيادة إلا عند النسائي ، ووقع عند أبي يعلى زيادة تؤيد هذه الزيادة ، وهي « من لم يدرك جمع فلا حج له » (2).
وكذلك استدلوا بقوله عز وجل : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } .
وأما من قال بأنه واجب فاستدل بهذه الأدلة أيضا ، وأجابوا عن قوله في حديث عروة بن مضرس : « من شهد صلاتنا هذه » بأن الأمة اتفقت على أن من لم يشهد الصلاة مع الإمام بمزدلفة أن حجه تام ، إلا ابن حزم فإنه ذهب إلى أن من لم يشهد الصلاة فإن حجه باطل ، وهذا فيه نظر بيّن .
وقالوا: ليس هناك نص صريح يفيد أن المبيت بمزدلفة ركن ، وكذلك قالوا إن النبي ? رخص للضعفة ، فهذا يدل على أنه ليس بركن .
وأما من قال أنه سنة فلا أعلم له دليلا على ما قال .
وأدلة القول الأول والقول الثاني تكاد تتكافأ ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) سنن النسائي (3040) .
(2) مسند أبي يعلى (2/245) .(1/67)
وهنا مسألة وهي أن من كان معه ضعفة في ليلة العيد فإن له أن يتعجل ، وهذا التعجل لا يكون إلا بعد مغيب القمر ، كما ثبت ذلك من حديث عبد الله مولى أسماء ، عن أسماء ، أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ، ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني إن رسول الله ? أذن للظعن (1) .
وفي رواية أنها قالت : كنا نصنع هذا على عهد رسول الله ? (2) .
فلا يشرع للشخص أن يتعجل عند منتصف الليل ، وإنما عند ما يغيب القمر ، وغياب القمر كما هو معلوم يختلف باختلاف الفصول ، فعلى الشخص أن ينتظر حتى يغيب القمر .
والآن أغلب الناس يتعجلون ، حتى الأقوياء منهم ، فالأولى لمن كان ضعيفاً أو معه نساء أن يبقى حتى يصلي الفجر ، وبعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس يذهب إلى منى ، ويبقى في منى حتى يخف الزحام ثم يأتي ويرمي الجمرة .
وهنا مسألة أخرى ينبغي التنبيه عليها ، وهي أن الضعفة إذا دفعوا من مزدلفة فإنهم يرمون إذا وصلوا إلى منى , وقد ثبت في حديث أسماء السابق الذكر ، وفي حديث عبد الله بن عمر أنه كان يقدم ضَعَفَة أهله ، فمنهم ممن يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة .. (3) . وهذا يدل على أنهم يرمون الجمرة قبل طلوع الفجر ، أي في الليل .
وأيضا هناك مسألة ثالثة وهي أن الضعفة إذا دفعوا من مزدلفة فإنهم لا يشرعون في طواف الإفاضة إلا بعد طلوع الشمس .
* * *
أعمال يوم العاشر (يوم النحر)
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1679 ) ، ومسلم ( 1291 ) .
(2) أخرجه أبو داود ( 1943 ) ، والنسائي ( 5/266 ) ، وابن خزيمة ( 4/280 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 1676 ) ، ومسلم ( 1295 ) .(1/68)
عندما طلع فجر هذا اليوم صلى الرسول ? صلاة الفجر في أول وقتها من حين طلع الفجر ، كما ثبت ذلك في « الصحيحين » (1) .
وبعد أن صلى الفجر عليه الصلاة والسلام ذهب إلى المشعر الحرام في مزدلفة فكبر وهلل وسبح ودعا ، فيستحب للشخص أن يكبر ويهلل ويدعو إلى قبيل طلوع الشمس ، وإن استطاع أن يذهب إلى المشعر الحرام فيسبح ويهلل ويكبر ويدعو فحسن ، وإن بقي في مكانه فحسن أيضاً ، وقد ثبت أن الرسول ? قال : « وقفت ها هنا وجمع ـ أي مزدلفة ـ كلها موقف » (2) .
ومكان المشعر الحرام الآن بني فيه مسجد معروف في مزدلفة ، والإتيان إليه سنة بالاتفاق وليس بواجب .
رمي جمرة العقبة:
وقبل أن تطلع الشمس يتجه الحاج إلى الجمرة ، ويستمر بالتلبية إلى أن يرمي الجمرة ، كما ثبت ذلك في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في كتابه « الصحيح » (3) ، وإذا مر بوادي محسر (وهو بين مزدلفة ومنى) فإنه يسن له أن يسرع ويستعجل (4).
تنبيه : وادي محسر من منى فإذا اضطر الإنسان إلى المبيت به في ليالي منى فله ذلك .
فإذا أتى إلى جمرة العقبة (وهي آخر الجمرات للمتجه من منى إلى مكة) فإنه يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ، ويستقبل الجمرة ، ويرميها بسبع حَصَيَات ، يكبر مع كل حصاة ، والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود رضي الله عنه حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها فرمى بسبع حصيات , يكبر مع كل حصاة , ثم قال : من هاهنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ? (5).
__________
(1) « صحيح البخاري » ( 1682 ) ، و « صحيح مسلم » ( 1289 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1218 ) عن جابر رضي الله عنه .
(3) « صحيح البخاري » ( 1686 ) .
(4) تنبيه : وادي محسر من منى فإذا اضطر الإنسان إلى المبيت به في ليالي منى فله ذلك .
(5) أخرجه البخاري (1750) ومسلم (1296) .(1/69)
وفي رواية للبخاري قال: فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة .
ومن أي مكان رَمَى الجمرة فلا بأس ، إلا من المكان المسدود الآن ، وهذا كان محل جبل فيما سبق ثم أزيل ، ثم سد مكانه من الحوض ، فهذا لا يجوز الرمي منه ، ولا بد أن تقع الحصاة في الحوض ، وليس من السنة أن يرمي الشاخص الذي في وسط الجمرة ، وإنما السنة أن تقع الحصاة في الحوض .
حكم رمي الجمرات:
رمي الجمرات واجب من واجبات الحج ، لأن النبي ? فعل هذا ، وثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن أنه رخص للرعاة أن يجمعوا رمي يومين في يوم (1).
والرخصة إنما تكون في مقابل العزيمة ، فهذا الحديث يدلّ على وجوب رمي الجمرات , وأن كل جمرة ترمى في يومها المعين لها ، وأنه يجوز للرعاة أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد .
والواجب رمي كل جمرة بسبع حصيات ، ولكن من رماها بست فلا شيء عليه ، ففي «مسند الإمام أحمد» من حديث ابن أبي نجيح قال: سألت طاوسا عن رجل رمى الجمرة بست حصيات , فقال : يتصدق بقبضة طعام . قال : فلقيت مجاهدا فسألته , فأخبرته بقول طاوس , فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن أما سمع قول سعد : رمينا الجمار في حجتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلسنا نتذاكر فمنا من قال : رميت بست , ومنا من قال : رميت بسبع , ومنا من قال : رميت بثمان , ومنا من قال : رميت بتسع , فلم يروا بذلك بأسا (2).
آخر وقت الرمي :
__________
(1) أخرجه أبو داود (1975) والترمذي (955) والنسائي (5/273) وابن ماجه (3036 , 3037) , وصححه ابن خزيمة (2977) وابن حبان (3888) والحاكم (1/478) .
(2) أخرجه أحمد (1/168 ، 219) من رواية مجاهد عن سعد , ولا يعرف لمجاهد سماع من سعد , فهو منقطع , ولكن مجاهد قد احتج به ، والإسناد إليه صحيح .(1/70)
آخر وقت رمي الجمرة عند مغيب الشمس ، لأنه جاء في مرسل عطاء بن أبي رياح (1)، وفي مرسل أبي سلمة بن عبدالرحمن (2)، بإسنادين صحيحين إليهما ، أن النبي ? رخص للرعاة أن يرموا ليلاً ، والرخصة إنما تكون في مقابل العزيمة .
فرمي الجمرة يجوز في كل النهار إلى أن تغيب الشمس .
ذبح الهدي والحلق أو التقصير:
وبعد أن يرمي الجمرة فالسنة في حَقِّهِ أن يذهب ويذبح هديه ، كما ثبت في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي ? قال : ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده , ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه , ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت , فأكلا من لحمها وشربا من مرقها (3).
والهدي إنما يجب على المتمتع والقارن , قال تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } .
ثم بعد ذلك يحلق أو يقصر من شعره , والحلق أفضل , لأن الله عز وجل قدمه في قوله : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وهو الذي فعله النبي ? كما ثبت في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما رمى رسول الله ? الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه , ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه , ثم ناوله الشق الأيسر , فقال : «احلق» فحلقه , فأعطاه أبا طلحة فقال : « اقسمه بين الناس » (4).
وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ? قال : « اللهم ارحم المحلقين » . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : « اللهم ارحم المحلقين ». قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : « والمقصرين » (5).
__________
(1) أخرجه مالك (409) وابن أبي شيبة (3/271) والبيهقي (5/151) .
(2) أخرجه البيهقي (5/151) .
(3) أخرجه مسلم (1218) .
(4) أخرجه البخاري (1727) ومسلم (1301) .
(5) أخرجه البخاري (1727) ومسلم (1301) .(1/71)
ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملا لجميع الرأس لقوله تعالى : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } .
وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أنملة فقط .
وبعد أن يحلق يتحلل ، هذه هي السنة ، فقد ثبت في حديث ابن عمر ، عن حفصة رضي الله عنهم ـ زوج النبي ? ـ أنها قالت : يا رسول الله ؛ ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : « إني لَبَّدتُ رأسي ، وقَلَّدتُ هديي ، فلا أحل حتى أنحر » (1) .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : طيبت رسول الله ? بيدي هاتين ، حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها (2) .
فعندما ذبح وحلق تحلل عليه الصلاة والسلام وتطيب ، ونزل إلى مكة ، وطاف طواف الإفاضة .
أنواع التحلل:
دلت السنة على أن التحلل على نوعين :
الأول : التحلل الأصغر : وهو أن يتحلل الشخص من جميع ما حرم عليه ما عدا النساء .
الثاني : التحلل الأكبر : وهو أن يتحلل من جميع الأشياء التي حرمت عليه حتى النساء ، وهذا لا يكون إلا بعد طواف الإفاضة ، كما ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : ثم لم يحلل – أي : النبي ? - من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر , وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه .
ودلت السنة على أن التحلل الأصغر يكون برمي الجمرة , كما جاء في حديث أم سلمة الذي رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم وغيرهم أن الرسول ? قال : « إن هذا يوم رخص لكم عليه إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا » .
وجاء في حديث ابن عباس الذي رواه الإمام أحمد وغيره أن ابن عباس قال : من رمى الجمرة فقد حل . فقال رجل : والطيب ؟ قال : أما إني رأيت رسول الله ? متضلخ بالطيب » ولكن الإسناد إلى ابن عباس فيه انقطاع ، ولكن يستأنس به ويصلح شاهدا لحديث أم سلمة .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1566 ) ، ومسلم ( 1229 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 1539 ) ، ومسلم ( 1189 ) .(1/72)
وجاء في «الصحيحين» من حديث حفصة أنها قالت للرسول ? : لماذا لم تحلل كما حل أصحابك ؟ قال : «إني قلدت هدي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر » .
فهذا الحديث يفيد في ظاهره أن التحلل لا يكون إلا عند الذبح لكن لا أعرف أحداً قال بهذا ، والله أعلم .
وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء والطيب (1).
وثبت عن عبد الله بن الزبير أنه قال : إذا رميتم الجمرة فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء (2).
طواف الإفاضة:
ثم يذهب إلى البيت ويطوف ، وهذا يسمى طواف الإفاضة ، قال جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي ? : ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر .
وهذا الطواف يسمى طواف الإفاضة وهو طواف الحج وأحد أركانه , قال تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق }
سعي الحج :
السعي ركن من أركان الحج , كما دل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : والله ما أتم الله حج رجل ولا عمرته لم يطف بهما (3).
والمتمتع يجب عليه سعيان , سعي لعمرته وسعي لحجه , كما ثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا , ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى , وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا (4).
وثبت في « صحيح البخاري » من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : ثم أمرنا – يعني رسول الله ? - عشية التروية أن نهل بالحج , فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة , وقد تم حجنا وعلينا الهدي (5).
وأما المفرد والقارن فإن كانا قد سعيا بعد طواف القدوم فليس عليهما سعي آخر , وإن كانا لم يسعيا وجب عليهما السعي في يوم النحر .
__________
(3) أخرجه مسلم (1277) وذكره البخاري تعليقا (1790) .
(4) أخرجه البخاري (1638) ومسلم (1211) .
(5) أخرجه البخاري (1572) .(1/73)
وبعد أن يطوف بالبيت يرجع إلى منى ، وإن بقي الشخص في مكة فلا بأس ، لكن يجب عليه أن يبيت بمنى , ومما يدل على ذلك ما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه أن رسول الله ? رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر , ثم يرمون من الغد , ومن بعد الغد بيومين , ويرمون يوم النفر (1).
والرخصة إنما تكون في مقابل العزيمة .
وثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي ? ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته , فأذن له (2).
التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر :
الأفضل للحاج أن يأتي بأعمال يوم النحر مرتبة - اقتداء بالنبي ? - على النحو التالي :
1- رمي جمرة العقبة .
2- ذبح الهدي .
3- الحلق أو التقصير .
4- طواف الإفاضة .
5- السعي .
فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج عليه في ذلك , والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي ? : زرت قبل أن أرمي ؟ قال : لا حرج . قال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : لا حرج . قال : ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : لا حرج (3).
وثبت في «الصحيحين» أيضا من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ? وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه , فقال رجل : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ؟ قال : « اذبح ولا حرج ». فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : « ارم ولا حرج » . فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : « افعل ولا حرج » (4).
* * *
أعمال أيام التشريق
__________
(1) أخرجه أبو داود (1975) والترمذي (955) والنسائي (5/273) وابن ماجه (3036 ، 3037) , وصححه الترمذي وابن خزيمة (2977 ، 2978) وابن حبان (3888) .
(2) أخرجه البخاري (1745) .
(3) أخرجه البخاري (1722) ومسلم (1307) .
(4) أخرجه البخاري (1736) ومسلم (1306) .(1/74)
أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر .
والواجب على الحاج في هذه الأيام هو رمي الجمرات الثلاث ، يبدأ بالجمرة الصغرى فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يتقدمها ويجعلها خلفه ، ثم بعد ذلك يدعو ويطيل الدعاء ، كما ثبت ذلك من حديث عطاء قال : كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة (1) . فقد كان من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطيل في الدعاء .
ثم بعد ذلك يذهب إلى الجمرة الوسطى ، فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ويأخذ ذات اليسار ويدعو ويطيل في الدعاء .
ثم يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ثم ينصرف ولا يدعو .
فالسنة أن الدعاء يكون عند الجمرة الصغرى والوسطى ، وأما الكبرى فليس فيها دعاء .
وقد ثبت في « صحيح البخاري » من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة , ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه , ثم يرمي الوسطى , ثم يأخذ ذات الشمال , فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا , ويدعو , ويرفع يديه , ويقوم طويلا , ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي , ولا يقف عندها , ثم ينصرف , فيقول : هكذا رأيت النبي ? يفعله (2).
والرمي في هذه الأيام يكون بعد زوال الشمس ، كما ثبت في «صحيح البخاري » من حديث وبرة قال : سألت ابن عمر رضي الله عنهما : متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمى إمامك فارمه . فأعدت عليه المسألة ، قال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا (3).
والرمي في أيام التشريق من واجبات الحج كما سبق .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » ( 3/294 ) .
(2) أخرجه البخاري (1751) .
(3) أخرجه البخاري (1746) .(1/75)
وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها وهي أن من كان معه نساء فلا يجوز له أن يأتي بالنساء وقت الزِّحام لرمي الجمرات ، وعليه أن يتحرى الأوقات التي لا يكون فيها زحام ، وإذا أتى ووجد زِحَاما فليتأخر حتى يخف الزحام .
ووقت الرمي في اليوم الأول يمتد إلى مغيب الشمس ، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي ? يُسأل يوم النحر بمنى فيقول : لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : اذبح ولا حرج ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ، فقال : لا حرج (1) .
فالوقت يمتد إلى مغيب الشمس ، فلا يستعجل ويأتي بنسائه في وقت الزِّحَام ، ولا يُوكل عنهن وهن قادرات على الرمي ، وإنما على الحاج أن يأتي بهن في الوقت الذي لا يكون فيه زحام .
فإذا غابت الشمس ولا يزال الزحام موجودا فإنه يرمي بالليل، لأنه معذور ، وقد سبق أنه جاء من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا من مرسل عطاء وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا ، ولا شك أن المرأة الآن محتاجة إلى أن ترمي في الليل من أجل الزحام .
فإما أن يتوكل في الرمي عنهن وهذا منقول عن السلف فإنهم أجازوا التوكل عن الأطفال ، والنساء مثل الأطفال ، وبهذا يفتي بعض أهل العلم من المعاصرين، وإما أن يأتي بهن في الليل وهذا هو الأحسن والأفضل لأن النساء أشد من الرعاة .
* * *
طواف الوداع
يجب على الحاج إذا أراد أن يرجع إلى بلده أن يطوف طواف الوداع قبل خروجه من مكة .
فإذا أراد الحاج أن يتعجل فإنه يرمي الجمرات في يوم الثاني عشر بعد الزوال ثم بعد ذلك يطوف طواف الوداع ، ويخرج من مكة ، وأما إذا أراد أن لا يتعجل فإنه يرمي أيضاً في اليوم الثالث عشر ، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يخرج فعليه أن يطوف طواف الوداع ، ثم يخرج ، وبذلك يكون قد انتهى من حَجَّتِهِ ، هذا الذي ثبت عن الرسول ? .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1735 )(1/76)
ولكن يجب عليه إذا أراد التعجل أن يخرج من منى قبل مغيب الشمس لقوله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } [ ] .
حكم طواف الوداع :
طواف الوداع واجب في حق الحاج ، لما ثبت في حديث ابن عباس أن النبي ? أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض (1).
وأما المعتمر فالأرجح أنه سنة في حقه وليس بواجب ، لأن الأحاديث لم تأتِ إلا بأمر الحاج ففي حديث ابن عمر المخرج عند ابن خزيمة قال : أمر الحاج (2). وكذلك في رواية ابن عباس عند الشافعي (3)، فتخصيصه بالحاج يدل على أن المعتمر على خلافه .
وكذلك أيضاً ثبت أن النبي ? اعتمر عدة مرات والصحابة معه ولم يأمرهم بطواف الوداع ، والأصل عدم وجوبه حتى يأتي دليل يدل على وجوبه ولا أعرف دليلاً صحيحا على ذلك .
واسأل الله عز وجل أن يوفقنا لاتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وأن يتقبل منا أعمالنا ، ويتجاوز عن تقصيرنا , وهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
* ... * ... *
__________
(1) أخرجه البخاري (1755) ومسلم (1328) .
(2) أخرجه ابن خزيمة (4/327) .
(3) مسند الشافعي (131) .(1/77)