التبكير إلى الجمعة
إعداد
سلطان فهد الطبيشي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله يقول: (من غسل واغتسل يوم الجمعية، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، فدنا من الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها).
رواه ابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن ماجه ، وابن حبان ، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، والبغوي (1) كلهم من طريق ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان عن أبي الأشعث عن أوس به .
وتابع أبا الأشعث الصنعاني : عبادة بن نسي (2) ، والحسن البصري (3) ، ومحمد بن سعيد الأسدي، وهو المصلوب (4) . والمصلوب لم يدرك أوس بل في رواية الطبراني بينه وبين أوس عبادة بن نسي .
وقد روى الطبراني عن منصور بن أبي مزاحم ثنا يزيد بن يوسف عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أبي أسماء الرحبي عن أوس بن أوس رضي الله عنه به (5) .
وقد تابع حسان بن عطية ستة هم :
__________
(1) ... انظر أحمد في مسنده 4/9+10+104، وابن أبي شيبة 2/93، وأبو داود 345، وابن ماجه 1087،وابن حبان 2781، والطبراني في معجمه الكبير 585، والحاكم 1/282، والبيهقي 3/229، والبغوي في شرح السنة 1060.
(2) أبو داود 346 ، والطبراني في الكبير 588 وفي اسناد الطبراني المصلوب .
(3) الطبراني في الأوسط 1475.
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5566 ، و الطيالسي في مسنده 1114 ، وأحمد في مسنده 4/8، والطبراني في الكبير 587، وفيه محمد بن سعيد هو : المصلوب، قال ابن حجر : كذبوه .
(5) ... المعجم الكبير 586 ، وفي سند ه يزيد بن وسف وهو ضعيف .(1/1)
1- ويحيى بن الحارث الذماري (1)
2- وعبدالرحمن بن يزيد بن جابر (2)
3- سليمان بن موسى (3)
4- وأبي قلابة (4)
5- وراشد بن داود الصنعاني (5)
6- وعبدالرحمن الدمشقي (6)
وتابع ابن المبارك : محمد بن مصعب القرقساني، والهقل بن زياد (7) .
وبعد أن اخرج الطبراني طريق عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال : قال ابن جابر فحدثت بهذا الحديث يحيى بن الحارث الذماري فقال أنا سمعت أبا الأشعث يحدث به عن أوس بن أوس عن رسول الله قال له : بكل قدم عمل سنة صيامها وقيامها . قال ابن جابر فحفظ يحيى ونسيت، قال الوليد فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي فقال : ثبت الحديث أن له بكل قدم عمل سنة .
والحديث صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم ، وحسنه الترمذي، والبغوي، والنووي (8) ، والعراقي (9) ، والزبيدي (10) .
وقال العقيلي في كلامه على متن هذا الحديث: (وقد روي هذا الكلام عن النبي من غير هذا الوجه، رواه أوس بن أوس الثقفي، وغيره بإسناد صالح) (11) .
__________
(1) ... انظر أحمد 4/10، وابن سعد 5/511 ، والدارمي 1547، والترمذي 496، والنسائي 3/95+102، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/369 ، وابن خزيمة 1767، والطبراني في معجمه الكبير 582+583، وفي مسند الشاميين 900+901+902، والحاكم 1/281، والبغوي في شرح السنة 1059.
(2) ... انظر أحمد 4/9+104، والنسائي 3/97، وابن خزيمة 1758، والطبراني في معجمه الكبير 584، والحاكم 1/281، والبيهقي في سننه الكبرى 3/227.
(3) الطبراني في الأوسط 1774.
(4) أخرجه عبد الرزاق 5570، والطبراني في معجمه الكبير 581.
(5) أحمد 4/10.
(6) أحمد 4/10
(7) أخرجه من طريقهما أبو نعيم في معرفة الصحابة 2/ 352.
(8) المجموع للنووي 4/542.
(9) نيل الأوطار 1/277، ولم اجده في مظانه في كتب العراقي ولعله في شرحه لجامع الترمذي .
(10) اتحاف السادة المتقين 3/241.
(11) الضعفاء الكبير للعقيلي 2/211.(1/2)
وقال ابن حجر في ترجمة أوس بن أوس :(روى له أصحاب السنن الأربعة أحاديث صحيحة من رواية الشاميين عنه) (1) . انتهى . وله في السنن أربعة أحاديث هذا منها .
ويشهد له حديث ابن عباس (2) ، وشداد بن أوس (3) ، وأنس (4) ، وأبي أمامة (5) ، وأبي طلحة (6) .
وقد علل الحديث بعلل لا تقدح في صحته وهي:
1- أنه قد روي عن أوس بن أوس عن أبي بكر ، وصوب الدارقطني أنه من حديث أوس عن النبي (7) .
2- أنه روي عن أوس بن أوس عن عبدالله بن عمرو العاص ورجح الحاكم حديث أوس عن النبي حيث قال بعد أن أخرجه من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال قال رسول الله وذكره : رواه يحيى بن الحارث الذماري وحسان بن عطية عن أبي الأشعث . ثم اخرجه من يحيى بن الحارث الذماري وحسان بن عطية ثم قال : قد صح هذا الحديث بهذه الأسانيد على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأظنه لحديث واه لا يعلل مثل هذه الأسانيد بمثله . ثم أخرجه من طريق عثمان الشيباني أنه سمع أبا الأشعث الصنعاني يحدث عن أوس بن أوس الثقفي عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله نحوه . ثم قال : هذا لا يعلل الأحاديث الثابتة الصحيحة من أوجه :
__________
(1) الإصابة 1/92.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط 4411، وفيه عطاء بن عجلان الحنفي، قال ابن حجر فيه متروك، وقد قيل أنه كذاب.
(3) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 7134، وفيه عبد الوهاب بن الضحاك، قال ابن حجر فيه متروك، كذبه أبو حاتم.
(4) أخرجه الخطيب البغدادي 6/200، وفي سنده : إبراهيم بن هدية . نقل الذهبي في الميزان 1/71 عن أبي حاتم وغيره أنه قال عنه : كذاب.
(5) أخرجه الطبراني في الكبير 7689 وفيه عفير بن معدان، قال ابن حجر: ضعيف.
(6) أخرجه الطبراني في الكبير 4726، وفيه إبراهيم بن محمد بن جناح، قال الهيثمي في المجمع 2/178: لم أ جد من ذكره.
(7) علل الدارقطني 1/246.(1/3)
أولها : أن حسان بن عطية قد ذكر سماع أوس بن أوس من النبي .وثانيها :أن ثور بن يزيد دون أولئك في الاحتجاج به. وثالثها : أن عثمان الشيباني مجهول (1) .
وقال البيهقي بعد أن اخرجه من طريق ثور بن يزيد عن عثمان الشامي أنه سمع أبا الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي به: هكذا رواه جماعة عن ثور بن يزيد ، والوهم في إسناده ومتنه من عثمان الشامي هذا ، والصحيح رواية الجماعة عن الأشعث عن أوس عن النبي (2) .
قال السخاوي فائدة : وهي أنه قال لا أعلم حديثا كثير الثواب مع قلة العمل أصح من حديث من بكر وابتكر، وغسل واغتسل ودنا وأنصت كان له بكل خطوة يمشيها كفارة سنة الحديث سمع ذلك شيخنا – ابن حجر - من شيخه المصنف – العراقي - وحدثنا به كذلك غير مرة (3) .
وقال المباركفوري: قال بعض الأئمة: لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب (4) .
فالحديث صحيح بمجموع طرقه، والله أعلم .
أما شرح الحديث فأقول وبالله التوفيق:
(من غَسَّل واغْتَسل).
اختلف أهل العلم بمعنى غَسَّل على أقوال لخصها ابن الأثير في النهاية (5) ، وهي:
1- ذهب كثير من الناس أن "غَسَّل" أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة، لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريق . ذهب إلى هذا القول وكيع ، والإمام أحمد.
__________
(1) مستدرك الحاكم 1/282.
(2) ... السنن الكبرى 3/227.
(3) فتح المغيث للسخاوي 3 / 189.
(4) تحفة الأحوذي 3/5.
(5) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/367.(1/4)
قال ابن رجب: وهو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف (1) ، وعبدالرحمن بن الأسود، وغيرهما ، روي عن عبدالرحمن بن الأسود (2) قال: كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة ؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا وأن يغسلوا ، وهو قول طائفة من الشافعية (3) . انتهى.
وقد أخرج البيهقي من طريق : أبو عتبة ثنا بقية ثنا يزيد بن سنان عن بكير بن فيروز عن ابي هريرة قال قال رسول الله : أيعجز احدكم ان يجامع أهله في كل جمعة فإن له أجرين اثنين أجر غسله وأجر غسل امرأته . ثم قال البيهقي رضي الله عنه : ففي روايات بقية نظر فإن صح ففيه المعنى المنقول في الخبر ، وأيضا فإنه إذا فعل ذلك كان أغض للبصر حال الرواح الى الجمعة ففي القديم كن النساء يحضرن الجمعة .والله اعلم (4) .
2- وقيل: أراد غَسّل غيره واغتسل هو ؛ لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلى الغسل. هذا قول ذكره ابن خزيمة ولم ينسبه لأحد، وكذا ابن الأثير.
3- وقيل: أراد بغَسّل غَسْلَ أعضائه للوضوء، ثم يغتسل للجمعة. ذكره ابن الأثير ولم ينسبه لأحد.
4- وقيل: هما بمعنى واحد وكرره للتأكيد . قال الخطابي هو قول الأثرم صاحب الإمام أحمد.
__________
(1) هلال بن يساف الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة، من الثالثة (التقريب 576).
(2) عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه في ذلك الزمان، فعد لذلك من الصحابة. قال العجلي: من كبار التابعين (التقريب 336).
(3) فتح الباري لابن رجب 8/90.
(4) شعب الايمان 6/250، وفي سنده أبو عتبة هو : أحمد بن الفرج الحجازي ضعفه محمد بن عوف الطائي قال ابن عدي لا يحتج به هو وسط وقال ابن أبي حاتم محله الصدق .ميزان الاعتدال 1/272 .(1/5)
5- لم يذكره ابن الاثير وهو: أن (غَسَّل) معناه: غَسَلَ رأسه خاصة، لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها مؤونة، فأفردها بالذكر، (واغتسل) يعني: سائر الجسد. وهو قول : مكحول، وسعيد بن عبدالعزيز التنوخي، وابن المبارك، وأبو عبيدة ، وابن حبان، والبيهقي، والنووي. وذكر الطيبي أن الامام أحمد رجع إلى هذا القول وترك القول الأول (1) .
واستدلوا بما يلي :
أ بحديث أبي هريرة عن النبي قال: (إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه.... الحديث) رواه ابن خزيمة (2) بإسناد صحيح كما قال الألباني.
ب عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي قال: ( اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم... الحديث) رواه البخاري في صحيحه (3) .
ت ما جاء في بعض طرق هذا الحديث، وهي رواية عبادة بن نسي عن أوس الثقفي عن رسول الله أنه قال: (من غسل رأسه واغتسل... الحديث) رواه أبو داود (4) .
قال البيهقي: لأنهم كانوا يجعلون في رؤسهم الخمطي (5) أو غيره، فكانوا أولاً يغسلون رؤسهم ثم يغتسلون (6) .
6- لم يذكره ابن الاثير وهو: أنه غَسَل ثيابه واغتسل لجسده . وهذا قول الغزالي، والعراقي كما ذكر الشوكاني (7) .
ولعل القول الخامس الأكثر قوة للأدلة عليه .والله أعلم .
مسألة : ما حكم غسل الجمعة ؟
اختلف أهل العلم في غسل الجمعة على ثلاثة أقوال:
__________
(1) انظر : صحيح ابن حبان 7/20، والسنن الكبرى للبيهقي 3 /227 ، وشرح السنة للبغوي 2/570، والمجموع للنووي 4/463، وشرح الطيبي على المشكاة 4/1276.
(2) صحيح ابن خزيمة 3/152 رقم 1803.
(3) صحيح البخاري مع الفتح 2/431، رقم 884.
(4) سنن ابي داود 2/247، رقم 346.
(5) ... قال في لسان العرب 4/220 : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل ...وقال الفراء الخمط ثمر الأراك ...و الخمط شجر مثل السدر وحمله كالتوت .
(6) ... السنن الكبرى 3/227.
(7) نيل الأوطار 1/277.(1/6)
الأول: أنه واجب، قال النووي: فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة، وبه قال أهل الظاهر.
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار وغيرها وعن مالك . وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك.وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع من الصحابة ومن بعدهم ، وحكاه شارح الغنية لابن سريج قولاً للشافعي ، وهو رواية في مذهب أحمد لمن تلزمه الجمعة، وهو من المفردات لكن لا يشترط لصحة الصلاة اتفاقاً (1) .
واستدلوا بأدلة كثيرة منها:
1- عن ابن عمر قال: قال رسول الله : (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) رواه الجماعة (2) إلا أبا داود.
2- وعن أبي سعيد أن النبي قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم). متفق عليه (3)
3- وعن أبي هريرة عن النبي قال: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أياماً يوماً يغسل فيه رأسه وجسده) متفق عليه (4) . وغير ذلك من الأدلة.
الثاني: ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه مستحب. قال القاضي عياض: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه ، وقد حكى الخطابي وغيره الاجماع على أن الغسل ليس شرطاً في صحة الصلاة وأنها تصح بدونه (5) .
واستدلوا بعدة أدلة منها:
__________
(1) انظر : الأوسط لابن المنذر 4/39-40 ،ومعالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري 1/213، والمجموع للنووي 2/231،ونيل الأوطار 1/272، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 5/268.
(2) البخاري رقم 877، ومسلم 844، 845، والترمذي 492، والنسائي 105، 106، وابن ماجه 1088 .
(3) البخاري 879، ومسلم 846، وأبو داود 341.
(4) البخاري 897، ومسلم 849.
(5) انظر: الأوسط لابن المنذر 4/39-40 ، والمجموع للنووي 2/231، ومعالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري 1/212،ونيل الأوطار 1/272.(1/7)
1- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، واستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام). رواه مسلم وأبو داود والترمذي (1) .قال ابن حجر: إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة (2) .
2- وعن سمرة قال: قال رسول الله : (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل). رواه النسائي والترمذي وأبو داود (3) .
3- قصة عمر عندما دخل عثمان المسجد وهو قائم على المنبر يوم الجمعة، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شغلت فلم أنقل إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، قال والوضوء أيضاً وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل.متفق عليه (4) ، وغير ذلك من الأدلة.
القول الثالث: وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أنه واجب على من له عرق أو ريح يتأذى به الناس، وهو من المفردات عند الحنابلة (5) .
والأقرب والله أعلم أنه مستحب .
مسألة: متى وقت الغسل في يوم الجمعة؟
اختلف أهل العلم على ثلاثة أقوال:
الأول: اشتراط الاتصال بين الغسل والرواح - إليه ذهب مالك .
واستدل مالك بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله : (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل). ونحوه من الأحاديث.
والثاني: عدم الاشتراط لكن لا يجزي فعله بعد صلاة الجمعة ويستحب تأخيره إلى الذهاب وإليه ذهب الجمهور.
واستدل الجمهور بالأحاديث التي أطلق فيها يوم الجمعة ، لكن استدل الجمهور على عدم الاجتزاء به بعد الصلاة بأن الغسل لإزالة الروائح الكريهة (6) . انتهى.
__________
(1) مسلم 857، وأبو داود 343، والترمذي 498.
(2) تلخيص الحبير 2/135.
(3) أبو داود 354، والترمذي 497، والنسائي 3/94.
(4) البخاري 878، ومسلم 845.
(5) الفتاوى 21/308، والإنصاف مع المقنع والشرح 2/117، 5/268.
(6) نيل الأوطار 1/274، وانظر فتح الباري 2/417.(1/8)
والثالث: أنه لا يشترط تقد يم الغسل على صلاة الجمعة، بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه ، وإليه ذهب داود ونصره ابن حزم، واستبعده ابن دقيق العيد وقال: يكاد يجزم ببطلانه .
ولا شك أنه إذا كان الغسل متصل بالذهاب إلى الجمعة فهو أولى وأحسن للأحاديث للأدلة الآتية :
1- حديث ابن عمر عن النبي :(من جاء منكم الجمعة فليغتسل).متفق عليه (1) .
2- حديث أبي هريرة عن النبي : (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح..) الحديث متفق عليه (2) .
3- حديث سلمان قال: قال رسول الله : (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج..) الحديث رواه البخاري (3) والنسائي وغير ذلك من الأحاديث .
وأخذ ابن رجب من حديث أبي هريرة: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح...) قال: يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله من طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يأت بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة (4) .
وقال أيضاً: وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل، نص عليه أحمد وغيره (5) .
وهذا الأخير هو الأفضل والأرجح في نظري، والله أعلم.
قوله (وبكّر وابتكر).
قال ابن فارس: الباء والكاف والراء أصل واحد يرجع إليه فرعان هما منه، فالأول أوّل الشيء وبدؤه، فالبُكرة وهي الغداة، والجمع البُكر، والتبكير، والبكور، والابتكار، المعني في ذلك الوقت.
وقال الخليل: غيث باكور: وهو المبكِّر في أول الوسمي.
ويقال: بكرت الأمطار تبكيراً، وبكرت بكوراً: إذا تقدمت (6) .
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الجزء (بكر وابتكر) على أقوال:
__________
(1) البخاري 877، ومسلم 844.
(2) البخاري 881، ومسلم 850.
(3) البخاري 883، والنسائي 3/104.
(4) فتح الباري لابن رجب 8/89.
(5) فتح الباري لابن رجب 8/93.
(6) معجم مقاييس اللغة 1/287.(1/9)
1- بكَّر: أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.
وأما ابتكر فمعناه: أدرك أول الخطبة، وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل: إذا أكل باكورة الفواكه. وهو قول أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزمخشري (1) ، وأهل اللغة (2) ، والعراقي ، وذكره ابن الأثير (3) .ورجحه الطيبي حيث قال : أرى نقل أبي عبيدة أولى بالتقديم ؛ لمطابقة أصول اللغة ، ويشهد بصحته تنسيق الكلام ، فإنه حث على التبكير ، ثم على الابتكار ، فإن الانسان يعدو إلى المسجد أولاً ثم يستمع الخطبة ثانياً (4) .
وقال ابن قتيبة :وأما قوله : ( بَكَّر ) فإن العوام تذهب في هذا إلى أنه الغدو إلى المسجد الجامع ، وليس كذلك إنما التبكير ها هنا إتيان الصلاة لأول وقتها وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه , ولذلك يقال: بكروا بصلا ة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص ويقال لأول شيء يأتي من الفواكه باكورة لأنه جاء في أول الوقت . وحدثني أبي قال حدثني أبو وائل عن شاذ بن فياض عن الحارث بن شبل عن أم النعمان الكندية عن عائشة قالت قال النبي : لا تزال أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب .
وأما قوله (وابتكر ) فإنه أراد أدرك الخطبة من أولها وأولها بكورتها كما يقال ابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفاكهة وابتكر إذا نكح بكرا أو تزوج بكرا , ومن الدليل على هذا التأويل حديث ... فذكر حديث أوس الثقفي (5) .انتهى.
ويشهد لهذا القول رواية عبادة بن نسي : (من هجر على المسجد وابتكر).
__________
(1) الفائق في غريب الحديث 3/67.
(2) انظر : القاموس المحيط 1/ 452 ، والمصباح المنير ص 58 ، ولسان العرب 4/76 ، ومختار الصحاح ص 25 ، والمغرب 1/84 .
(3) النهاية في غريب الحديث 1/148.
(4) شرح الطيبي على المشكاة 4/1277.
(5) غريب الحديث 1/ 291 .(1/10)
ويشهد له أيضاً الرواية الأخرى في هذا الحديث التي وقعت من رواية يحيى بن الحارث وعبدالرحمن بن زيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني – كما سبق ( غدا، وابتكر).
2- (بكَّر) أي: في بكرة النهار، وهي أوله. وابتكر: بالغ في التبكير – أي:جاء في أول البكرة. فهو للمبالغة والتوكيد. وهو قول الأثرم صاحب الإمام أحمد (1) ، ودليله تمام الحديث: (ومشى ولم يركب) ومعناهما واحد. وجزم به ابن العربي (2) .
3- قول ابن الأنباري ، وتابعه الخطابي : (بكّر): تصدق قبل خروجه ، واستدلا بحديث (باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها) (3) . وهذا حديث ضعيف (4)
4- (بكَّر): راح في الساعة الأولى، (وابتكر): فعل فعل المبتكرين من الصلاة والقراءة وسائر وجوه الطاعة.ذكره النووي وحكاه عن الغزالي ، والقاضي أبو الطيب (5) .
مسألة: اختلف أهل العلم في أفضل وقت الذهاب إلى الجمعة؟ على قولين:
1- لا يستحب التبكير قبل الزوال، وهو قول مالك .
واستدل بعدة أدلة:
أ قال الرسول : (من راح إلى الجمعة). والرواح بعد الزوال، وعمل أهل المدينة أنهم كانوا لا يذهبون إلا بعد الزوال .
ب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله : لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (6) . فالغدوة بالغداة ، والرواح بعد الزوال .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 2/147، ومعالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري 1/213.
(2) عارضة الأحوذي 2/279 .
(3) غريب الحديث للخطابي 1/120 ، و شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 4/1276 .
(4) رواه الطبراني في الأوسط (563 9) عن علي، وفي سنده عيسى بن عبدالله قال الهيثمي في المجمع 1/110: ضعيف، كذا قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص232) ويشهد له حديث أنس عند البيهقي في الشعب (3082)، وبإسناد ضعيف جداً، وقال في السنن الكبرى 4/189: أنه موقوف، وكذا قال المنذري.
(5) المجموع 4/543.
(6) البخاري ( 2639) ، ومسلم ( 1880) .(1/11)
ت عن الاسود بن قيس عن أبيه قال : أبصر عمر بن الخطاب رجلا عليه أهبة السفر فقال الرجل إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك لخرجت فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافراً فاخرج ما لم يحن الرواح (1) .
2- أفضل وقت من أول النهار، فكلما كان أبكر كان أولى وأفضل .وهذا مذهب الأوزاعي، وأبو حنيفة ، والشافعي، وأحمد، وابن المنذر (2) .
واستدلوا بعدة أدلة:
أ حديث أبي هريرة أن النبي قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً اقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر). رواه البخاري ومسلم (3) .
وفي رواية لهما : قال رسول الله : إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر ومثل المهجر كمثل الذي يهدي البدنة ثم كالذي يهدي بقرة ثم كالذي يهدي الكبش ثم كالذي يهدي الدجاجة ثم كالذي يهدي البيضة .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5537 .
(2) الأوسط لابن المنذر 4/ 51-52 ، والتمهيد لابن عبدالبر 22/22 ، والمجموع للنووي 4/459-461 .
(3) البخاري في الجمعة ( 881) ومسلم في الجمعة( 850) .(1/12)
ب وروى علقمة قال: خرجت مع عبدالله بن مسعود إلى الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، إني سمعت رسول الله ( أن الناس يجلسون من الله عز وجل يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة). رواه ابن ماجه (1) .
وقال العراقي :تعلق المالكية من هذا الحديث – حديث أبي هريرة السابق- بأمرين :
أحدهما قوله فيه ( يكتبون الأول فالأول ) فأتى بالفاء المقتضية للترتيب بلا مهملة، فاقتضى
تعقيب الثاني للأول، وكذا من بعده، ولو كان كما يقوله الجمهور من اعتبار أول النهار وتقسيمه إلى ست ساعات في النصف الأول من النهار، لم يكن الآتي في أول ساعة يعقبه الآتي في أول التي تليها.
والجواب عنه: أنه لا نزاع في أنهم يكتبون من جاء أولاً ومن جاء عقبه ... وهكذا، وهو إنما أتى بالفاء في كتابة الآتين، وأما مقدار الثواب فلم يأت فيه بالفاء .
(ثانيهما) قوله ( المهجر ) والتهجير إنما يكون في الهاجرة، وهي شدة الحر، وذلك لا يكون في أول النهار. والجواب عنه من وجهين :
(1) أن كون التهجير معناه الإتيان في الهجير، وهو شدة الحر، قول محكي عن الفراء وغيره. والذي قاله الخليل بن أحمد وغيره من أهل اللغة: أن التهجير: التبكير، فإن ثبت اشتراك اللفظ بين المعنيين فالحمل على هذا المعنى الثاني أولى ليوافق غيره من الأحاديث.
__________
(1) رواه ابن ماجه (1094) والبزار (1525)، والطبراني 10/96 (10013)، وابن أبي عاصم في السنة (620)، والعقيلي 4/204، والعلل لابن أبي حاتم 1/211، والعلل الدراقطني (773)، ورجح الدارقطني طريق عبد المجيد بن أبي رواد ، عن مروان بن سالم ، ومروان بن سالم، وهو متروك، والله أعلم.(1/13)
(2) أن المراد بالمهجر: من هجر منزله وتركه في أي وقت كان ... قاله بعض أصحابنا الشافعية، وقال القاضي عياض: وأقوى معتمد مالك في كراهية البكور إليها عمل أهل المدينة المتصل بترك ذلك وسعيهم إليها قرب صلاتها، وهذا نقل معلوم غير منكر عندهم، ولا معمول بغيره، وما كان أهل عصر النبي ومن بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره ويتمالؤن على العمل بأقل الدرجات. وذكر ابن عبد البر أيضاً أن عمل أهل المدينة يشهد له .انتهى .
وما أدري أين العمل الذي يشهد له وعمر ينكر على عثمان رضي الله عنه التخلف، والنبي يندب إلى التبكير في أحاديث كثيرة، منها: أحاديث أوس بن أوس (من بكر وابتكر.. وفي آخره كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها) وهو في السنن الأربعة وصحيحي ابن حبان والحاكم، وقد أنكر غير واحد من الأئمة على مالك رحمه الله في هذه المسألة، فقال الأثرم: قيل لأحمد كان مالك يقول: لا ينبغي التهجير يوم الجمعة، فقال هذا خلاف حديث رسول الله وقال: سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي يقول: (كالمهدي جزوراً) .
وأنكر على مالك أيضاً ابن حبيب (1) إنكاراً بليغاً، فقال: هذا تحريف في تأويل الحديث، ومحال من وجوه؛ لأنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة، فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن وضعه، وشرح بالخلف من القول وزهد فيما رغب فيه رسول الله من التهجير في أول النهار، وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس ، حكاه عنه ابن عبد البر وقال هذا منه تحامل على مالك (2) .
__________
(1) الإمام العلامة فقيه الأندلس أبو مروان عبدالملك بن حبيب بن سليمان الأندلسي القرطبي المالكي أحد الأعلام ، ولد في حياة الإمام مالك بعد السبعين ومئة ، ومات سنة 238 هـ . (انظر سير أعلام النبلاء 12 / 102- 107) .
(2) طرح التثريب 3/172- 173 ، وانظر التمهيد لابن عبدالبر 22/ 22 وما بعدها .(1/14)
وهذا القول هو الأقرب في نظري لما سبق، وقد أنكر ابن القيم على الامام مالك عمل أهل المدينة فقال : وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أول النهار فهذا غاية عملهم في زمان مالك رحمه الله وهذا ليس بحجة ولا عند من يقول إجماع أهل المدينة حجة فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار وهذا جائز بالضرورة وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار (1) .
قال أبو عمر بن عبدالبر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات فقالت طائفة منهم أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء بل كلهم يستحب البكور إليها ،قال الشافعي رحمه الله ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسناً (2) .
وقال الشافعي: من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام.وقال البيهقي: هذا موجود في الأحاديث الصحيحة، وهو أنه رغب في التبكير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام (3) .
__________
(1) زاد المعاد 1/406 .
(2) الاستذكار 2/6 .
(3) انظر زاد المعاد 1/380 ، ونيل الأوطار 3 / 312.(1/15)
وقال ابن حجر: "وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول: "راح" في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في "الغريبين" نحوه. قلت: وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي أول النهار بوجه، وحيث قال إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمى، وقد رواه ابن جريج عن سمى بلفظ "غداً" ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ (المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة... الحديث) وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة (ضرب رسول الله مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة... الحديث)، أخرجه ابن ماجه، ولأبي دواد من حديث علي مرفوعاً (إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين... الحديث)، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحاً وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجاً. ... واحتج بعض المالكية أيضاً بقوله في رواية الزهري (مثل المهجر) لأنه مشتق من التهجر وهو السير في وقت الهاجرة. وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت، وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقاً من الهجير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف لأن مصدره الهجر لا التهجير.(1/16)
وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك (1) .
واختلف أصحاب القول الثاني متى يكون التهجير على قولين:
1- أول التبكير من طلوع الشمس . وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة، والبوشنجي، ورجحه الخطابي وغيره، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر، ورجح هذا القول عبدالملك بن حبيب المالكي، وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم (2) .
2- من طلوع الفجر وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وأحمد.
وقال ابن حجر في تعقيبه على أصحاب القول الثاني: وفيه نظر إذا يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر.
وقال العراقي في تعقيبه على القول الثان ي: الأصح عند الشافعية من طلوع الفجر، وقال والدي -رحمه الله- ولكن ليس العمل عليه في أمصار الإسلام قديما وحديثاً أن يبكر للجمعة من طلوع الفجر وفيه طول يؤدي إلى انتقاص الطهارة وتخطي الرقاب.
وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل (3) .
وقد أخرج الدارقطني عن سهل بن سعد قال: كنا نبكر إلى الجمعة مع النبي ثم نرجع فنتغدى ونقيل (4) ، وأصله في البخاري ولفظه : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلاّ بعد الجمعة .
وقد روى الأثرم عن عبدالله بن رواحة أنه كان يبكر إلى الجمعة ويخلع نعليه ويمشي حافياً ويقصد في مشيه (5) .
__________
(1) فتح الباري 2/429 ، وانظر كلام النووي في المجموع 4/ 461-462 ، و ابن القيم في زاد المعاد 1/ 398-407 .
(2) فتح الباري لابن رجب 8/95-96.
(3) فتح الباري (جـ2/رقم 940).
(4) سنن الدارقطني (2/20) وإسناده حسن.
(5) انظر المغني لابن قدامة 2/ 73.(1/17)
وقال ابن سعد أخبرنا عفان بن مسلم قال أخبرنا حماد بن سلمة قال أخبرنا علي بن زيد بن جدعان أن عبيد الله بن نوفل وسعيد بن نوفل والمغيرة بن نوفل كانوا من قراء قريش وكانوا يبكرون إلى الجمعة إذا طلعت الشمس يريدون بذلك الساعة التي ترجى (1) .
وروى الجريري قال حدثني عبدالعزيز وكان من خيار أهل البصرة قال: كنت أبكر يوم الجمعة إلى المسجد، فكنت أنام وأنا قاعد، قال: فرأيت النبي في منامي فقلت: أني أبكر يوم الجمعة إلى المسجد فأنام وأنا قاعد فهل علي من وضوء؟ فقال: (لا إنما الوضوء على من اضطجع فنام) (2) .
وروي عن أبي التياح قال: كان مطرف بن عبدالله يبدو (3) فإذا كان ليلة الجمعة أدلج (4) على فرسه فربما نورله سوطه قال: فأدلج ليلة حتى إذا كان عند القبور هوم على فرسه قال: فرأيت أهل القبور صاحب كل قبر جالس على قبره، فلما رأوني قالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة، قال: قلت: أتعلمون عندكم يوم الجمعة، قالوا: نعم، نعلم ما تقول الطير فيه، قلت: وما تقول الطير؟ قالوا: تقول سلام سلام من يوم صالح (5) .
وروى معاوية بن قرة قال أدركت ثلاثين من أصحاب النبي إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا ولبسوا من صالح ثيابهم ومسوا من طيب نسائهم ثم أتوا الجمعة فصلوا ركعتين ثم جعلوا يبثون العلم والسنة حتى يخرج الإمام .
__________
(1) الطبقات الكبرى 5/22.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في المنامات (رقم 264) والمروزي في الجمعة وفضها (رقم 41) وإسناد حسن.
(3) يريد أن يخرج إلى البادية.
(4) أدلج: أي سار أول الليل.
(5) رواه أبو نعيم في الحلية 2/205، والمروزي في الجمعة (43) وسنده حسن.(1/18)
وكان محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة ولو قيل له إن القيامة تقوم غدا ما كان فيه مزيد من الاجتهاد ... وكان يصوم يوما ويفطر يوما ثم سرد الصوم وكان شديد الحال يتعشى الخبر والزيت وله قميص وطيلسان يشتو فيه ويصيف قال وكان من رجال الناس صرامة وقولا بالحق وكان يحفظ حديثه لم يكن له كتاب وكان يروح إلى الجمعة باكرا فيصلي إلى أن يخرج الإمام (1) .
وقال الوليد بن مسلم : قلت لسعيد بن عبد العزيز من أدركت من التابعين كان يبكر إلى الجمعة ؟ قال ما رأيت أبا عمرو – أي الأوزاعي - قلت : بلى ، قال : فإنه قد كفا من قبله فاقتد به فلنعم المقتدى (2) .
وسئلت جارية لأبي حنيفة عن أبي حنيفة وعن أخلاقه في منزله فقالت ما رأيت وما سمعت مثله ما رأيته نام على فرش منذ دخلت إليه ولا رأيته اغتسل في ليل ولا نهار من جنابة ولقد كان يوم الجمعة يخرج فيصلي صلاة الصبح ثم يدخل إلى منزله فيصلي صلاة الضحى صلاة خفيفة وذلك أنه
كان يبكر إلى الجامع فيغتسل غسل الجمعة ويمس شيئا من دهن ثم يمضي إلى الصلاة (3) .
وذكر الخلال في جامعه: أن الإمام أحمد كان يبكر إلى الجمعة وينصرف أول الناس (4) .
قال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله كان يُرى في القرن الأول في السحر وبعد الفجر الطرقات مملوءة من الناس يمشون في السرج ويزدحمون بها إلى الجامع كأيام العيد، حتى اندرس ذلك ، وكثير من السلف كان يصلي الغداة يوم الجمعة في الجامع ويقعد ينتظر صلاة الجمعة لأجل البكور ليستوعب فضل الساعة الأولى، ولأجل ختم القرآن، وعامة المؤمنين كانوا ينحرفون من صلاة الغداة من مساجدهم فيتوجهون إلى جوامعهم.وقيل: أول بدعة حدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجامع إلى الجمعة .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 /141.
(2) سير أعلام النبلاء 7 /132.
(3) أخبار أبي حنيفة للصيمري ص 50.
(4) فتح الباري لابن رجب 8/ 340.(1/19)
وقال الغزالي رحمه الله: وكيف لا يستحي المسلمون من اليهود والنصارى وهم يبكرون إلى البيع والكنائس يوم السبت والأحد! وطلاب الدنيا كيف يبكرون إلى رحاب الأسواق للبيع والربح، فلماذا لا يسابقهم طالب الآخرة! (1) .
وقال الامام احمد في ذكره لأصناف الناس في الصلاة : وأعجب من ذلك أقوام يسبقون إلى الفضل ويبكرون إلى الجمعة طلباً للفضل في التبكير ومنافسة فيه فربما صلى أحدهم الفجر بالمسجد الجامع حرصاً على الفضل وطلباً له ، فلا يزال مصليا وراكعاً وساجداً وقائماً وقاعداً وتالياً للقرآن وداعياً لله عز وجل وراغباً وراهباً وهذه حاله إلى العصر ويدعو إلى المغرب (2) .
وروى الآجرى وابن بطة مرفوعا من حديث ابن عباس وفيه : واقربهم منه مجلسا اسرعهم اليه يوم الجمعة وابكرهم غدوا (3) .
وروى أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن عبدالله بن مسعود قال ( سارعوا الى الجمعة فان الله عز وجل يبرز لاهل الجنة فى كل يوم جمعة فى كثيب من كافور ابيض فيكونون فى الدنو منه على مقدار مسارعتهم فى الدنيا الى الجمعة فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه فيما خلا قال وكان عبدالله بن مسعود لا يسبقه احد الى الجمعة قال فجاء يوما وقد سبقه رجلان فقال رجلان وانا الثالث ان الله يبارك فى الثالث (4) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 1/162.
(2) طبقات الحنابلة 1 / 372.
(3) الشريعة للآجري 2/ 1022 ، والابانة لابن بطة 3/42 . وحكم على سنده بانه صحيح شيخ الاسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 6/417 )
(4) الدارقطني في كتاب الرؤية ص 269 . وحكم على سنده بانه صحيح شيخ الاسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 6/402 ) مع ان في سنده انقطاع بين أبو عبيدة وأبيه ابن مسعود .(1/20)
روى عمرو بن قيس عن ابن مسعود قال : إن الله تعالى يبرز لأهل جنته في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيحدث لهم من الكرامة ما لم يروا مثله ويكونون في الدنو منه كمسارعتهم إلى الجمع (1) . قال الذهبي : أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى بإسناد جيد (2) .
والناظر في عصرنا هذا يرى التقصير في هذا الأمر، فيكاد لا ترى الناس يحضرون إلى الجمعة إلا قبل ساعة واحدة... والله المستعان.
وقد ذكر لي شيخنا الشيخ صالح الفوزان إنهم عندما كانوا صغاراً ويذهبون مبكرين كان
يقرأ أحدهم قريباً من نصف القرآن .
قول (ومشى ولم يركب).
حكي عن الأثرم في قوله (مشى ولم يركب) للتأكيد، وانهما بمعنى واحد. واختار النووي أنه هذا احتراز من شيئين:
1- نفي توهم حمل المشي على المضي والذهاب، وإن كان راكباً.
2- نفي الركوب بالكلية لأنه لو اقتصر على المشي لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي ولو في بعض الطريق ، فنفى ذلك الاحتمال وبين أن المراد مشي جميع الطريق ولم يركب في شيء منها (3) .
وقد روي عن عبدالله بن رواحة بسند صحيح أنه كان يأتي الجمعة ماشياً، فإذا رجع كيف شاء: إن شاء ماشياً، وإن شاء راكباً.
وكان أبو هريرة يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الركوب إلى الجمعة والعيدين (4) .
والحديث فيه دليل على فضل المشي إلى الجمعة، ويدل على ذلك الأجر المترتب على كل خطوة يخطوها إلى الجمعة ( أجر سنة صيامها وقيامها ) .
وذكر ابن رجب كلاماً جميلاً عن المشي إلى الصلوات، فقال رحمه الله:
__________
(1) الابانة لابن بطة 3/47.
(2) العلو للعلي الغفار للذهبي ص 95.
(3) المجموع للنووي 4/ 463-464.
(4) المصنف لابن أبي شيبة 2/163.(1/21)
وكلما بعد المكان الذي يمشي منه إلى المسجد كان أفضل لكثرة الخطى ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كانت دارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله وقال: (إن لكم بكل خطوة حسنة) (1) .
وفي صحيح البخاري عن أنس أن النبي قال: (يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم) (2) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم) (3) .
ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل، ففي المسند عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: (فضل الدار القريبة من المسجد على الدار البعيدة الشاسعة ، كفضل الغازي على القاعد)، وإسناده منقطع (4) .
والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب كما تقدم في حديث أوس في الجمعة، ولهذا جاء في حديث معاذ رضي الله عنه ذكر المشي على الأقدام، وكان النبي لا يخرج إلى الصلاة إلا ماشياً حتى العيد يخرج إلى المصلى ماشياً، فإن الآتي للمسجد زائراً لله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل
وفي البخاري عن أبي هريرة ري الله عنه عن النبي قال: (من غدا إلى المسجد – أو راح - أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا – أو راح-) (5) . والنزل: هو ما يعد للزائر عند قدومه.
وفي الطبراني من حديث سلمان مرفوعاً (من توضأ في بيته، فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، فهو زائر لله تعالى، وحق على المزور أن يكرم الزائر) (6) .
__________
(1) مسلم في المساجد (664).
(2) صحيح البخاري مع الفتح 4/84 في فضائل المدينة.
(3) صحيح البخاري مع الفتح 2/116، ومسلم في المساجد (662).
(4) مسند أحمد 5/387.
(5) هو في صحيح مسلم (669).
(6) الطبراني في الكبير 6/253 رقم 6139، قال الهيثمي: وأحد أسناديه رجاله رجال الصحيح.(1/22)
وفي صحيح مسلم عن أبيّ بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له – أو قلت له -: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلمات وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله : (قد جمع الله له ذلك كله) (1) .
وكلما شق عليه المشي إلى المساجد كان أفضل، ولهذا فضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله، كما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي قال: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قال الليل كله) (2) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : (أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما ف يهما لأتوهما ولو حبواً) (3) .
وإنما ثقلت هاتان الصلاتان على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، لأن المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس، كما قال الله تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) [النساء: 142]. وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمة فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلص يكتفى برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.
وثواب المشي إلى المساجد في الظلم النور التام في ظلم القيامة، كما في سنن أبي داود والترمذي عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد (4) .
__________
(1) صحيح مسلم في المساجد رقم (663).
(2) صحيح مسلم في المساجد رقم ( 656).
(3) صحيح البخاري مع الفتح 2/104 في صلاة الجماعة، ومسلم في صحيحه في المساجد رقم 651.
(4) سنن أبي داود رقم (561)، وسنن الترمذي رقم ( 223)، وسنن ابن ماجه رقم (780)، وهو حديث صحيح بشواهده.(1/23)
وقد يروى من وجوه كثيرة، وفي بعضها زيادة (يفزع الناس ولا يفزعون).
قال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة، يعني توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن، قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فيقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟ فيناديهم مناد أن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد، كما أن مواضع السجود من عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار فكذلك الأقدام التي تمشي إلى المساجد في الظلم لا تتقيد في النار. ولا يستوي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه (1) . انتهى كلامه.
ومما يكفر الله به الذنوب والخطايا كثرة الخطا إلى المساجد ، روى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال :إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط (2) .
قوله (فدنا من الإمام فاستمع ولم يلغ)
(ودنا): أي من الإمام ، واستمع إلى الخطبة .
والدنو لا يتأتى غالباً إلا لمن حضر مبكر إلى المسجد، فقرب من الإمام واشتغل بالصلاة والقراءة للقرآن والذكر، وفي هذا مدعاة للخشوع والتدبر والاستماع والانصات لكلام الإمام.
والاستماع للخطبة يعني الانصات للخطيب حال الخطبة ، وجاء في حديث سلمان في البخاري (ثم ينصت إذا تكلم الإمام) (3) .
وفي حديث نبيشة الهذلي (فاستمع وانصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه) (4) .
وزاد في رواية الترمذي (ودنا واستمع وانصت).
وجاء في حديث أبي هريرة عنه، ومسلم والترمذي كذلك (5) .
__________
(1) اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب 33-37.
(2) صحيح مسلم ( 251 ).
(3) صحيح البخاري مع الفتح 2/431 في الجمعة رقم 883.
(4) أحمد في مسنده.
(5) صحيح مسلم رقم (857) في الجمعة، والترمذي في الصلاة رقم (498).(1/24)
مسألة : حكم الكلام حال الخطبة :
قال النووي: هما شيئان متمايزان وقد يجتمعان، فالاستماع الإصغاء، والانصات السكوت، لهذا قال تعالى: (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وانصتوا) (1) . انتهى.
وقوله (ولم يلغ) معناه ولم يتكلم؛ لأن الكلام حال الخطبة لغو.
وقال الأزهري: معناه: استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها. انتهى (2)
قوله : (كان له بكل خطوة يخطوها عمل سنة أجر صيامها وقيامها).
فقوله : (كان له بكل خطوة) هي بالضم بعد ما بين القدمين في المشي، وبالفتح: المرة، وجمعها خطا خطوات بسكون طاء وضمها وفتحها.
وقال في القاموس: والخطوة ويفتح ما بين القدمين جمعه خطى وخطوات، وبالفتح: المرة جمعه خطوات.
وقوله (عمل سنة) أي أجر عمل سنة ثم أبدل منه توضيحاً.
(أجر صيامها) أي: السنة (وقيامها) أي أجر قيام السنة في لياليها بالصلاة (3) .
وقال العلامة العظيم آبادي: وفي هذا الحديث ترغيب عظيم لغسل يوم الجمعة والترغيب لا ينافي الوجوب، وحث على التبكير والمشي والدنو من الإمام والاستماع وترك اللغو، وأن الجمع بين هذه الأمور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل (4) .
وقال المباركفوري في التحفة: قال بعض الأئمة لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب. انتهى
__________
(1) تحفة الأحوذي 3/8.
(2) المجموع للنووي 4/544.
(3) بذل المجهود 3/82-83.
(4) غاية المقصود في شرح سنن أبي داود 3/260.(1/25)
فانظر رحمك الله لهذا الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله لمن اغتسل وبكر ودنا واستمع، ولكن غالب أهل زماننا زهدوا في هذا الأجر، واكتفوا بالبيضة أو الدجاجة إن بكروا، وقد حرص سلف هذه الأمة على التبكير إلى الجمعة، فمنهم من كان يواصل جلوسه في المسجد بعد صلاة الفجر إلى انتهاء صلاة الجمعة، ومنهم من يحضر إليها مع شروق الشمس.. فأحرص أيها المسلم على هذا الأجر، وعوّد نفسك في الذهاب مبكراً، واستعن بإخوانك بأن تخصصوا كتاباً من كتب العلم تقرؤونه أو تتلون القرآن أو غير ذلك.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة الذي روى نحو هذا الحديث قال رسول الله : (من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم صلى معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) (1) . وزاد ابن ماجه: (ما لم يغش الكبائر).
أمور تتعلق بالذهاب إلى الجمعة:
1- إن مما يعين على الذهاب مبكراً إلى الجمعة النوم مبكراً يوم الخميس ليلة الجمعة، وواقع الناس اليوم كثرة الحفلات والولائم والأعراس ليلة الجمعة، مما يعرضهم للسهر فيها مما يؤدي لتأخرهم عن الذهاب إلى صلاة الجمعة.
وكذا بعض الناس يخرجون إلى التنزه في البر ليلة الجمعة، فكأن ليلة الجمعة ويوم الجمعة وقت لإضاعة الوقت بالسهر واللهو وغير ذلك.
فللأسف! ليلة الجمعة صارت الآن وقت للسهر إلا من رحم الله، وصباح الجمعة أصبح وقت للنوم لغالب الناس.. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
2- الذهاب إلى الجمعة والى كل صلاة بسكينة ووقار . قال ابن حجر: السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات (2) .
3- لبس أحسن الثياب واستعمال السواك والطيب إن كان عنده طيب أو طيب أهله – كما جاء في الحديث.
__________
(1) رواه مسلم في الجمعة رقم (857).
(2) فتح الباري 2/139.(1/26)
4- من فوائد التبكير أنك لا تتخطى رقاب الناس ولا تمر بين أيدهم.
5- وإذا حضر متأخراً فليتخير مكان يكون فيه ستره حتى لا يمر الناس بين يديه، أو جدار يلتصق به حتى لا يمر أحد بين يديه.
6- عند دخول المسجد الأفضل الاشتغال بالصلاة، والملاحظ على الناس اليوم أن أحدهم يكتفي بتحية المسجد ثم يجلس يقرأ القرآن.. وهذا العمل طيب، ولكن الأفضل الاشتغال بالصلاة، ففي الصلاة قرآن وذكر وركوع وسجود.
فقد روى مسلم عن أبي هريرة كما سبق (ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له... الحديث).
وحديث سلمان عند البخاري وفيه: (ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له... الحديث) وقد تقدم.
وكان ابن عمر وابن مسعود (1) وعطاء يصلون قبل الجمعة اثنى عشرة ركعة، وقيل لعطاء: فما بلغك في ذلك، فقال: أخبرت أم حبيبة ابنة أبي سفيان أن النبي قال: (من ركع اثنتى عشرة ركعة...) (2) وروى مسلم حديث أم حبيبة (3) .
وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات (4) . وقال الترمذي : وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا ... وذهب سفيان الثوري وابن المبارك إلى قول بن مسعود (5) .
وروى أبو داود عن مسدد ثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة (6) .
وروي عن ابن عباس أنه كان يصلي قبل أن يأتي الجمعة ثمان ركعات ثم يجلس فلا يصلي شيئاً حتى ينصرف (7) .
وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه صلى قبل الجمعة عشر ركعات.. رواه ابن أبي شيبة (8) .
__________
(1) الأوسط لابن المنذر 4/97.
(2) المصنف لعبد الرزاق 3/246.
(3) مسلم في صحيحه في صلاة المسافرين رقم (728).
(4) الأوسط لابن المنذر 4/97.
(5) الجامع للترمذي (523).
(6) سنن أبي داود ( 1128) ، وانظر المصنف لابن أبي شيبة رقم 5361 .
(7) الأوسط لابن المنذر 4/97.
(8) المصنف لابن أبي شيبة 2/131.(1/27)
وتنقطع هذه الصلاة بخروج الإمام، إلا تحية المسجد.
7- ينبغي الإكثار والحرص على الصلاة على النبي في ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة) رواه البيهقي (1) .
8- إذا نعس الرجل والإمام يخطب فليغير مكانه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك) رواه أبو داود والترمذي (2) .
9- اختلف أهل العلم في كم يصلي المصلي بعد الجمعة، وسأنقل كلام جميل لابن رجب في هذه المسألة: عند شرح حديث ابن عمر وفيه (وكان النبي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، فقال ابن رجب:
وقد دل هذا الحديث على أن النبي كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئاً، وأنه كان ينصرف إلى بيته فيصلي ركعتين، فتضمن ذلك استحباب شيئين:
أحدهما: صلاة ركعتين بعد الجمعة.
والثاني: أن تكون في البيت.
وقد كان ابن عمر يفعله بالمدينة فيرجع إلى بيته فيصلي ركعتين، وكان ينه عن صلاتهما في المسجد، ويقول لمن يفعله: صلي الجمعة أربعاً. وكان إذا كان بمكة يتقدم من موضع صلاته فيصلي ركعتين، ثم ينتقل عنه فيصلي أربعاً (3) .
وفي صحيح مسلم (4) ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي قال: (من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 3/249، بإسناد حسن.
(2) أبو داود في الصلاة رقم (1119)، والترمذي في الصلاة رقم (526)، وأحمد في المسند 2/135، وهو حديث حسن.
(3) انظر سنن أبو داود (1130)، ومصنف عبد الرزاق (3/246-247)، ومصنف ابن أبي شيبة 2/132.
(4) (881/89).(1/28)
وفي رواية له (1) : قال سهيل: فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت.
وقد وقع في غير مسلمٍ هذا الكلام عن سهيل من قوله (2) .
وقد أختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة:
فقالت طائفة: هو مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعاً عملاً بكل واحدٍ من الحديثين، وهو قول أحمد في رواية عنه (3) .
وظاهره أنه لا فضل لأحدهما على الآخر، وروي عنه أنه قال: يصلي ركعتين ولا يعيب على من صلى أربعاً (342/م) لحديث أبي هريرة (4) ، وظاهره أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر، لأنه أثبت إسناداً.
وقالت طائفة: يجمع بينهما، فيصلي ستاً، نقله إبراهيم الحربي عن أحمد، وقال: يجمع بينهما على وجه بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
ونقل عنه ابن هانئ (5) قال: يصلي ستاً لأمر علي بن أبي طالب بذلك وهذا مأخذ آخر.
وقالت طائفة: يُجمع بينهما على وجهْ آخر، فإن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين.
وهو قول إسحاق واستدل – ايضاً – بقول عمر (6) ، وابن مسعود: ولا يصلي ركعتين بعد مكتوبة ملها، قال: فإذا صلى في المسجد ركعتين فقد صلى بعد المكتوبة مثلها فيصلي أربعاً، وأما إذا صلى في بيته ركعتين فإن المشي إلى بيته فاصل بين المكتوبة وغيرها.
__________
(1) (881)، وقال ابن عدي: "وأما حديث سهيل في الجمعة فهو مشهور عن سهيل" انتهى. من "الكامل" (6/233)، وانظر "العلل" للحافظ الدارقطني (8/191-193) مع كلام الحافظ ابن رجب – الآتي بعد قليل-: " وظاهره أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر لأنه أثبت إسناداً" ا.هـ.
(2) قال الإمام أحمد كما في "مسائل" ابن هانئ (2/209): "قال ابن إداريس:"يصلي ركعتين في بيته" هو من قول أبي صالح" انتهى.
(3) انظر "الأوسط" لابن المنذر (4/125).
(4) انظر "مسائل" عبدالله (ص:121)، وأبي داود ( ص:59).
(5) "مسائله" (1/89).
(6) كذا في "م" والصواب: "ابن عمر"، وانظر "الأوسط" لابن المنذر (4/125).(1/29)
وقال طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، وهو أن الإمام يصلي في بيته ركعتين والمأموم يصلي أربعاً في المسجد.
وهذا قول أبي خيثمة زهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني، وتبويب النسائي (1) يدل عليه – ايضاً – وكان علي بن أبي طالب يأمر بصلاة ست ركعاتٍ بعد الجمعة، وكان ابن مسعودٍ يأمر بأربعٍ.
قال عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن السلمي: علمنا عبدالله ابن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعاً، ثم جاء علي بن أبي طالب فعلمنا أن نصلي ستاً (2) .
وكان عمران بن حصين يصلي بعد الجمعة أربعاً (3) .
وروي عن علي من وجه آخر منقطع، وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يصلي ستاً، وكان الحسن يصلي ركعتين ومسروق يصلي ركعتين ثم أربعاً (4) .
ونص الشافعي في "الأم" (5) أنه يصلي بعد الجمعة أربعاً.
وحكى الترمذي (6) عنه أنه يصلي ركعتين.
وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يصلي في بيته ركعتين وفي المسجد ستاً: ركعتين ثم أربعاً، يفصل بينهما.
__________
(1) "المجتبي" (3/113) وهو: "عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد".
(2) انظر "مصنف" عبد الرزاق (3/247)، ومصنف ابن أبي شيبة (2/132)، وقال ابن أبي حاتم في "مراسيله" (ص:106-107): "حدثنا أبي: نا معاوية بن صالح ابن أبي عبيد الله الاشعري: نا يحيى بن معين: نا حجاج، عن شعبة قال: لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، ولا من عبد الله بن مسعود، ولكنه قد سمع من علي- رضي الله عنه"، وانظر "تقدمة الجرح والتعديل" (1/131). وحديث أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان ع ند الإمام البخاري في "الصحيح" والمقام لا يحتمل تحرير هذه المسألة.
(3) المصدر السابق (3/248)، (2/132).
(4) انظر "الأوسط" لابن المنذر (4/125).
(5) (1/139).
(6) في "الجامع" عقب حديث (521).(1/30)
قال ابن عيينه: يصلي ركعتين يسلم فيهما، ثم يصلي أربعاً لا يسلم إلا في آخرهن (343/م). وقال أحمد في رواية عنه (1) : إن شاء صلى أربعاً، وإن شاء صلى ستاً ولا يُكره ترك الصلاة بعد الجمعة أحياناً، نص عليه أحمد، واستدل بأن عمران بن حصين تركها مرة حيث كان يصلي أربعاً بعد صلاة الجمعة خلف زياد، فقيل عنه: إنه لا يعتد بصلاته خلف زياد، فأنكر ذلك، ثم صلى الجمعة الثانية، ولم يصل شيئاً حتى صلى العصر.
وأما مكان الصلاة بعد الجمعة: فالأفضل أن يكون في البيت لمن له بيت يرجع إليه كما كان ابن عمر يفعله، ويأمر به.
فإن صلى في المسجد: فهل يكره أم لا ؟ ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكره؛ ولكن يؤمر بالفصل بينها وبين صلاة الجمعة (2) .
وقال شيخنا عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل: الأفضل أن يجمع بين ذلك، فيصلي أربعاً في المسجد وركعتين في البيت .
10- يستحب له أن يقلم أظفاره، ويقص شاربه في كل جمعة، فقد روي ابن وهب بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعة (3) .
وقال البيهقي : وروينا عن أبي جعفر مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يأخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة (4) .
وروى بإسناده معاوية بن قرة قال: كان لي عمَّان قد شهدا الشجرة يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة (5) .
__________
(1) انظر "مسائل" عبد الله (ص: 121).
(2) فتح الباري لابن رجب 8/321.
(3) ا لابن رجب 8/321.
(4) السنن الكبرى للبيهقي 3/244 بدون سند.
(5) رواه البيهقي في سننه الكبرى 3/244، وفيه نرجل مجهول.(1/31)
وقال ابن رجب: وقوله: (ويتطهر ما استطاع من طهر) أنه أراد به المبالغة في التنظف، وإزالة الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من قص الشعر، وحلق العانة، و نتف الإبط فإن ذلك كله طهارة، ويدل عليه ما خرّجه البزار من حديث أبي الدرداء، عن النبي قال: (الطهارات أربع: قص الشارب، وحلق (245/م) العانة، وتقليم الأظفار، والسواك) (1) .
وفي إسناده: معاوية بن يحيى، قال الزار: ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه من حيدث عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي قال: (أمرت يوم الأضحى عيداً لهذا الأمة) فقال رجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: (لا؛ ولكن تأخذ من شعرك، وتلقم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل) (2) .
وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها، وأنها من تمام النسك المشروع فيها، والجمعة من جملة الأعياد، وهي عيد الأسبوع كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام (3) .
وقد حُكى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر، واستدلا بحديث ابن عباس مرفوعا: (المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم لا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره حتى تنقضي الصلاة) (4) . وسنده ضعيف كما قال البيهقي ولم يعترض عليه ابن التركماني.
11- قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) [الجمعة: 10].
__________
(1) كشف الأستار 3/370.
(2) أحمد في مسنده (2/169)، وابو داود رقم (2789)، والنسائي (7/212) بإسناد صحيح.
(3) فتح الباري لابن رجب 8/113.
(4) السنن الكبرى للبيهقي 3/244، وذكره البيهقي بدون سند، ولكنه حكم عليه بالضعف.(1/32)
فقول تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) هنا الأمر للإباحة، فكأنه يقول ما فرغتم من الصلاة انتشروا في الأرض؛ سواء بالبيع والشراء والانتشار – أي: تفروقوا وانبثوا في الأرض لقضاء مصالحكم وتجارتكم.
(وابتغوا من فضل الله) أي: اطلبوا الرزق ممن بيده الرزق. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فأرزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.. رواه ابن أبي حاكم (1) .
وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول: (وابتغوا من فضل الله) هو طلب العلم، وقيل: التطوع. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز، وزيارة الأخ في الله تعالى (2) .
وروي عن أنس مرفوعاً بسند لا يصح (3) .
وقد روى البخاري، عن سهل بن سعد قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقاً، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدر، ثم تجل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه. وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك (4) .
وقال ابن رجب على هذا الحديث: وفي حديث سهلٍ: دليل عل ى زيارة الرجال للمرأة وإجابتهم لدعوتها، وعلى استحباب الضيافة يوم الجمعة خصوصاً لفقراء المسلمين، فإطعام الفقراء فيه حسن مرغب فيه.
وفيه: أن فرح الفقير بوجود ما يأكله وتمنيه لذلك غير قادحٍ في فقره ولا منافٍ لصبره؛ بل ولا لرضاه (5) .
قوله تعالى: (واذكروا الله كثيراً).
قال ابن كثير: أي في حال بيعكم وشرائك، وأخذكم وعطائكم، اذكروا الله ذكراً كثيراً، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة.
__________
(2) الدر المنثور 6/220، ونسبه لابن مردوين.
(3) رواه ابن جرير الطبري 28/67، وفي سنده أبو خلف الأعمى متروك.
(4) صحيح البخاري (938). ...
(5) فتح الباري لابن رجب 8/338.(1/33)
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً (1) .
ولما ذكر الذهبي حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من بكر يوم الجمعة وابتكر وغسل واغتسل ومشى ولم يركب فدنا من الامام واستمع وانصت ولم يلغ حتى يصلي الجمعة كفاه الله ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ) . قال : تفرد به أبو أمية وهو إسماعيل بن يعلى أحد الضعفاء وللمتن إسناد آخر صالح (2) . وقال في السير : أبو امية هو إسماعيل بن يعلى ضعيف وله اسناد آخر حسن (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 8/149.
(2) تذكرة الحفاظ 3 / 984 .
(3) سير أعلام النبلاء 16 / 324 .(1/34)