البَطَر في عدم قبول الحق في حديث
(( الجمع بين الصَّلاتين في الحضر من غير خوف ولا مطر ))
(رسالة إلى أحد الإخوان)
كتبها
أبو العباس بلال بن عبد الغني بن أبي هلال السالمي الأثري
غفر الله له
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه؛ وبعد:
من أبي العباس السالمي الأثري عفا الله عنه إلى الأخ الكريم ....... حفظه الله.
بعد السؤال عن صحتكم الغالية، فإني أحمد الله إليكم على أسلوبك الطيب في عرض المسائل الخلافية، في المجالس العامة، وكأنك تسترشد بلطف وأدب، وهذا من شيم طلاب العلم النجباء، ومن هدي السلف الصالح رضي الله عنهم..
ومن ذلك مسألة (الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير مرض ولا سفر) كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولقد قلت في المجلس - وإن ضم بعض المبتدئين، عفا الله عنك -، قلت: إن الحديث ذكره ابن رجب في شرح العلل وهو من الأحاديث التي انعقد الإجماع على عدم العمل بها، فرابني ذلك، وهرعت لبحث المسألة - ليس لعدم الثقة في نقلك؛ حاشاك، فأنت عندي أجل من ذلك- وإنما لحاجتي الماسة إلى الراجح في المسألة، وكما لا يخفاك أنني لا أخرج للصلاة للإصابة التي في رجلي - وهذا عذر آخر- نسأل الله لنا ولكم العافية من كل سوء.
فدونك أخي الحبيب، مختصر البحث:(1/1)
قال الإمام مسلم في (صحيحه)[1/705]: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشج واللفظ لأبي كريب قالا حدثنا وكيع كلاهما عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلمبين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر)) في حديث وكيع قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته، وفي حديث أبي معاوية، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته ))، والحديث أخرجه أبو داود في (السنن) [2/1211]، والترمذي في (السنن) [1/رقم:187]، وغيرهم
وأخرجه أيضاً البخاري في (صحيحه) [1/518]قال: حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد هو بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن بن عباس: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء )) فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى.
وقال في [1/1120] من (صحيحه) حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو قال سمعت أبا الشعثاء جابراً قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر؛ وعجل العشاء وأخر المغرب؛ قال: وأنا أظنه.
قلت:(1/2)
أولاً: لم أقف على ذكر الترمذي رحمه الله أن الإجماع انعقد على عدم العمل به، وإنما الذي في كتابه العلل مع شرح ابن رجب: (( جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين: ثم ذكر الحديثين، ومنهم حديث ابن عباس)) الذي هو مدار بحثنا، فقد يكون - أخي الحبيب- سبق لسان منك؛ أو فهم لكلام الترمذي بالمعنى - وإن كان بعيداً -، ولربما التبس عليك هذا الكلام بكلام ابن عبد البر في (التمهيد) [12/213] حيث قال: (( وقد تقدم القول في جمع الصلاتين في السفر، وأما في الحضر فأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر على حال ألبتة إلا طائفة شذت سنورد ما إليه ذهبت إن شاء الله )).
وإن كان ذلك كذلك فإجماع منخرم، قال النووي في (شرحه على صحيح مسلم) [5/218]: (( وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال....)). قلت: سيأتي بيان ذلك.
ثانياً: إن المتأمل المدقق المحقق في كلام الترمذي، يجده أعطى لنفسه فسحةً في إطلاق الكلام، وهذا من علامات إخلاصه رحمه الله، فلا يطلق الكلام على عواهنه.
فتأمل قوله من جديد، وخاصة: ((وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين: ))، إذاً لا يدعي أن كلَّ ما في الكتاب متفق على العمل به، وهكذا العالم لا يرى نفسه شيئاً.
وأقول: ومفهوم كلامه: (( أن البعض الآخر من أهل العلم لم يأخذ بكل ما في الكتاب، وقد أخذ بالحديثين الذي استثناهما))، وهذا لا يعيب من عمل الترمذي، ولا ينقص من قدر الكتاب - كما لا يخفاك - فأبى اللهُ العصمةَ إلا لكتابه.
وبناءً على ذلك؛ فقد انتخبت بعض الفوائد حول هذا الحديث من كتب علمائنا، محلاة بالعزو إلى مصادرها، فدونك:
1- الحديث عند مسلم وفيه التصريح بـ ((غير خوف ولا مطر))، وتكلم بعض أهل العلم في أحد رجال إسناده وهو: (حبيب بن أبي ثابت) حتى قال الإمام الخطابي: (( إسناده جيد )) اهـ (معالم السنن) [1/265].(1/3)
قلت: حبيب بن أبي ثابت: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال، كما في التقريب، وتوبع حبيب بن أبي ثابت، تابعه أبو الزبير (غير لفظة في المتن، فتأمل) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك فقال سألت بن عباس كما سألتني فقال أراد أن لا يحرج أحداً من أمته )).رواه مسلم في (صحيحه) [1/ رقم: 705] من طريق مالك، وهو في (الموطإِ) [1/ رقم:330].
2- هذه اللفظة: ((من غير خوف ولا سفر))؛ قال الإمام مالك عقب إخراجه للحديث: ((أرى ذلك كان في مطر)) (الموطأ)[ص: 144].
3- وتعقب مالكاً ابنُ المنذر فقال: ((فإن تكلم متكلم في حديث حبيب وقال لا يصح يعني المطر قيل قد ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله لما قيل له: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما فلمَّا لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته دل على أن جمعه كان في غير حال المطر وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك )) اهـ (الأوسط) [2/432].(1/4)
4- والمتأمل أيضاً في كلام الترمذي يجده، لم يذكر علةً حديثية لحديث ابن عباس، اللهم إلا أنه أردفه في (السنن) بحديث يعارضه فقال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر )) قال أبو عيسى: وحنش هذا؛ هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة، ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض؛ وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم يجمع بين الصلاتين في المطر؛ وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين )) اهـ (السنن) [1/ رقم:188].
5- قلت: الحمد لله؛ هو نفسه ضعف الحديث بـ(حنش) وأما قوله: (والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة)، فأقول: هذا هو الراجح عنده، أما غيره فلا...(1/5)
6- قال ابن المنذر: (( ...وقالت طائفة الجمع بين الصلاتين في الحضر مباح وإن لم تكن علة، قال: لأن الأخبار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينهما في المطر، ولو كان ذلك في حال المطر لأُدي إلينا ذلك، كما أُدي إلينا جمعه بين الصلاتين، بل قد ثبت عن ابن عباس الراوي بحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر؛ لما سئل لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته، ثم قد روينا مع ذلك عن ابن عباس في العلة التي توهمها بعض الناس؛...(1/6)
ثم ذكر حديث حبيب بن أبي ثابت سالف الذِّكر، وأردفه بحديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير أيضاً، ثم قال: قال أبو بكر: فإن تكلم متكلم في حديث حبيب، وقال لا يصح يعني المطر، قيل: قد ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله لما قيل له: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته، ولو كان ثَمَّ مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما، فلمَّا لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته؛ دلَّ على أنَّ جمعَه كان في غير حال المطر، وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك، فإن قال قائل: فإنَّ ابن عمر وغيره ممن ذكرنا، قد جمعوا في حال المطر، قيل: إذا ثبتت الرخصة في الجمع بين الصلاتين جمع بينهما للمطر والريح والظلمة ولغير ذلك من الأمراض وسائر العلل، وأحق الناس بأن يقبل ما قاله ابن عباس بغير شك؛ مَنْ جعل قول ابن عباس لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يقبض، فقال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله، حجةً بنى عليها المسائل، فمن استعمل شك ابن عباس وبنى عليه المسائل وامتنع أن يقبل يقينه لما خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته بعيد من الإنصاف، وقد روينا عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة )) (الأوسط) [2/432](1/7)
7- وقال النووي: (( وللعلماء فيها – أي في أحاديث الصلاة في الحضر- تأويلات ومذاهب، وقد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر، هو كما قاله، فهو حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال: منهم: من تأوله على أنه جمع بعذر المطر وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف بالرواية الأخرى من غير خوف ولا مطر؛ ومنهم: من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وهذا أيضاً باطل؛ لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء، ومنهم: من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها فصارت صلاته صورة جمع، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفةً لا تَحْتَمِل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره، صريح في ردِّ هذا التأويل، ومنهم: من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار، وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا، واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة، ولأن المشقة فيه أشد من المطر )) اهـ (شرح مسلم) [5/218، 219].
8- وقال السيوطي: ((واختاره بعد النووي السبكي والإسنوي والبلقيني وهو الذي أختاره وأعتمده )) اهـ (الديباج) [2/ص:335].(1/8)
9- وقال النووي: (( وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال، والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم )) (شرح مسلم) [5/218، 219].
10- قال الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله: (( وهذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، وأما التأويل بالمرض أو العذر أو غيره؛ فإنه تكلف لا دليل عليه، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أُناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين، ويتأثمون من ذلك ويتحرجون، ففي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة، ما لم يتخذه عادة، كما قال ابن سيرين )) اهـ (هامش سنن الترمذي) [1/358، 359].
11- قال أبو العباس السَّالمي عفا الله عنه: (( وبه أعمل وأقول ))، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب أن رجلاً شكى إليه غلبة النوم قبل العشاء فأمره أن يصلي العشاء قبل وقتها وينام )) انتهى من (الديباج) [2/ص:335] قلت: لم أقف عليه؛ وفي مصنف عبد الرزاق [2/رقم:4418]، قال عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء: (( قوم ليسوا في حج ولا عمرة ولا غزوة يجمعون بين الصلاتين؟ قال: نعم سبحان الله أنا أطوف ها هنا السبع ثم أصلي العشاء أو السبعين)).
فتاوى كبار العلماء متعلقة بالبحث:
(1) سئل الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى:
س: ما حكم الله ورسوله في قوم يجمعون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء دائما وهم مقيمون؟(1/9)
ج: قد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله أن الواجب أن تصلي الصلوات الخمس في أوقاتها الخمسة، وأنه لا يجوز أن يجمع بين الظهر والعصر ولا بين المغرب والعشاء إلا لعذر كالمرض والسفر والمطر ونحوها مما يشق معه المجيء إلى المساجد لكل صلاة في وقتها من الصلوات الأربع المذكورة، وقد وقت الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم في أوقاتها الخمسة جبرائيل عليه السلام فصلى به في وقت كل واحدة في أوله وآخره في يومين، ثم قال له عليه الصلاة والسلام بعد ما صلى به الظهر في وقتها والعصر في وقتها: الصلاة بين هذين الوقتين، وهكذا لما صلى به المغرب في وقتها والعشاء في وقتها قال: الصلاة بين هذين الوقتين.(1/10)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فأجاب السائل بالفعل، فصلى الصلوات الخمس في اليوم الأول بعد السؤال في أول وقتها وصلى في اليوم الثاني الصلوات الخمس في آخر وقتها ثم قال: (( الصلاة فيما بين هذين الوقتين)) وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثماناً جميعاً وسبعاً جميعاً )) وجاء في رواية مسلم في صحيحه أن المراد بذلك: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. وقال في روايته: (( من غير خوف ولا مطر)) وفي لفظ آخر: (( من غير خوف ولا سفر))فالجواب أن يقال: قد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال: لئلا يحرج أمته، قال أهل العلم: معنى ذلك لئلا يوقعهم في الحرج. وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة لسبب يقتضي رفع الحرج والمشقة عن الصحابة في ذلك اليوم، إما لمرض عام، وإما لدحض وإما لغير ذلك من الأعذار التي يحصل بها المشقة على الصحابة ذلك اليوم، وقال بعضهم إنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، وأخر المغرب إلى آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها. وقد روى ذلك النسائي عن ابن عباس راوي الحديث كما قاله الشوكاني في ( النيل ) وهو محتمل ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث أن هذا العمل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم بل ظاهره أنه إنما وقع منه مرة واحدة، قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما معناه: إنه ليس في كتابه- يعني الجامع- حديث أجمع العلماء على ترك العمل به سوى هذا الحديث، وحديث آخر في قتل شارب المسكر في الرابعة، ومراده أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع إلا بعذر شرعي.(1/11)
وأنهم قد أجمعوا على أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في هذا الحديث محمول على أنه وقع لعذر جمعا بينه وبين بقية الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي كل صلاة في وقتها ولا يجمع بين الصلاتين إلا لعذر وهكذا خلفاؤه الراشدون وأصحابه جميعا رضي الله عنهم والعلماء بعدهم ساروا على هذا السبيل ومنعوا من الجمع إلا من عذر، سوى جماعة نقل عنهم صاحب النيل جواز الجمع إذا لم يتخذ خلقا ولا عادة وهو قول مردود للأدلة السابقة وبإجماع من قبلهم.
وبهذا يعلم السائل أن هذا الحديث ليس فيه ما يخالف الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي، بل هو محمول على ما يوافقها ولا يخالفها؛ لأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية يصدق بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا ويحمل مطلقها على مقيدها ويخص عامها بخاصها، وهكذا كتاب الله المبين يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا، قال الله سبحانه: ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) وقال عز وجل: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) الآية. والمعنى أنه مع إحكامه وتفصيله يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا، وهكذا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء كما تقدم. والله ولي التوفيق )). اهـ (مجموع الفتاوى) [12/ص:303، وما بعدها]
(2) وسئل شيخنا الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:
إذا دخلت الطالبة الحصة الدراسية مع دخول وقت الظهر وتستمر الحصة لمدة ساعتين فكيف تصنع ؟(1/12)
فأجاب بقوله: (( إن الساعتين لا يخرج بهما وقت الظهر فإن وقت الظهر يمتد من زوال الشمس إلى دخول وقت العصر، وهذا زمن يزيد على الساعتين فبالإمكان أن تصلي صلاة الظهر إذا انتهت الحصة لأنه سيبقى معها زمن، هذا إذا لم يتيسر أن تصلي أثناء وقت الحصة فإن تيسر فهو أحوط، وإذا قُدِّر أن الحصة لا تخرج إلا بدخول وقت العصر، وكان يلحقها ضرر أو مشقة في الخروج عن الدرس ففي هذه الحال يجوز لها أن تجمع بين الظهر والعصر فتؤخر الظهر إلى العصر لحديث بن عباس رضي الله عنهما قال: (( جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ))، فقيل له في ذلك؛ فقال رضي الله عنه: (( أراد – يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن لا يحرج أمته )). فدل هذا الكلام من ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما فيه حرج ومشقة على الإنسان يحل له أن يجمع الصلاتين اللتين يجمع بعضهما إلى بعض في وقت أحدهما، وهذا داخل في تيسير الله عز وجل لهذه الأمة دينه وأساس هذا قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )، وقوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) وقوله: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).(1/13)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الدين يسر )) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على يسر هذه الشريعة، ولكن هذه القاعدة العظيمة ليست تبعاً لهوى الإنسان ومزاجه، ولكنها تبع لما جاء به الشرع فليس كل ما يعتقده الإنسان سهلاً ويسراً يكون من الشريعة؛ لأن المتهاونين الذين لا يهتمون بدينهم كثيراً ربما يستصعبون ما هو سهل فيدعونه إلى ما تهواه نفوسهم بناء على هذه القاعدة، ولكن هذا فهم خاطئ، فالدين يسر في جميع تشريعاته وليس يسراً باعتبار أهواء الناس، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ )[المؤمنون: 71] )) اهـ (مجموع الفتاوى: 12/رقم السؤال:150].
انتهى البحث على وجه السرعة
والحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وآله وسلم.
وكتب
أبو العباس بلال بن عبد الغني بن أبي هلال السالمي الأثري
غفر الله له
مكة المكرمة
27/10/1426هـ(1/14)