( فقال ) : يقال : ما قيمة ما على هذا المكاتب من هذه النجوم على محلها بالعاجل من العروض ثم يقال : ما قيمة هذه العروض بالنقد ؛ لأن ما على المكاتب لا يصلح أن يباع إلا بالعرض ، إذا كان دنانير أو دراهم فينظر إلى قيمة المكاتب الآن بعد التقويم ، فيجعل دينه فيه ؛ لأنه مال له لو شاء أن يتعجله تعجله ، وذلك أنه لو شاء أن يبيع ما على المكاتب بما وصفت لك فعل ، فإذا جعل دينه في قيمة ما على المكاتب زكى ما في يديه من الناض إن كانت قيمة ما على المكاتب مثل الدين الذي عليه . ( قال ) : وكانت الدنانير التي في يديه هذه الناضة تجب فيها الزكاة ، فإن كانت قيمة ما على المكاتب أقل مما عليه من الدين جعل فضل دينه فيما في يديه من الناض ، ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك ، فإن كان ذلك مما تجب فيه الزكاة زكاه ، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة لم يكن عليه فيها شيء .
( قلت ) : وهذا قول مالك في هذه المسألة في المكاتب .
( فقال ) : لم أسمع منه هذا كله ، ولكن قال مالك : لو أن رجلا كانت له مائة دينار في يديه ، وعليه دين مائة دينار ، وله مائة دينار دينا ، رأيت أن يزكي المائة الناضة التي في يديه ، ورأيت ما عليه من الدين في الدين الذي له إن كان دينا يرتجيه وهو على مليء .
( قلت ) : فإن لم يكن يرتجيه ؟
( قال ) : لا يزكيه فمسألة المكاتب عندي على مثل هذا ؛ لأن كتابة المكاتب في قول مالك لو أراد أن يبيع ذلك بعرض مخالف لما عليه كان
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 369)
ذلك له وهو مال للسيد كأنه عرض في يديه لو شاء أن يبيعه باعه . ( قلت ) : أرأيت إن كان عليه دين وله عبيد قد أبقوا وفي يديه مال ناض ، أيقوم العبيد الأباق فيجعل الدين فيهم ؟ قال : لا .
( قلت ) : لم ؟ قال : لأن الأباق لا يصلح بيعهم ولا يكون دينه فيهم . ( قلت ) : أتحفظ هذا عن مالك ؟ قال : لا ، ولكن هذا رأيي .(7/42)
( قلت ) : فما فرق ما بين الماشية والثمار والحبوب والدنانير في الزكاة ؟
( فقال ) : لأن السنة إنما جاءت في الضمار ، وهو المال المحبوس في العين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون الخراص في وقت الثمار فيخرصون على الناس لإحصاء الزكاة ، ولما للناس في ذلك من تعجيل منافعهم بثمارهم الأكل والبيع وغير ذلك ، ولا يؤمرون فيه بقضاء ما عليهم من دين ليحصل أموالهم ، وكذلك السعاة يبعثونهم فيأخذون من الناس مما وجدوا في أيديهم ولا يسألونهم عن شيء من الدين ، وقد قال أبو الزناد : كان من أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهي إلى قولهم ، منهم : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل ، وربما اختلفوا في الشيء فأخذ يقول أكثرهم أنهم كانوا يقولون : لا يصدق المصدق إلا ما أتى عليه ، لا ينظر إلى غير ذلك .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 370)
( وقال ) أبو الزناد : وهي السنة . قال أبو الزناد : وإن عمر بن عبد العزيز ومن قبله من الفقهاء يقولون ذلك .
( قال ) ابن وهب : وقد كان عثمان بن عفان يصيح في الناس : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة . فكان الرجل يحصي دينه ثم يؤدي مما بقي في يديه إن كان ما بقي تجب فيه الزكاة .(7/43)
( قال ) ابن مهدي : عن أبي عبد الرحمن عن طلحة بن النضر قال : سمعت محمد بن سيرين يقول : كانوا لا يرصدون الثمار في الدين وينبغي للعين أن ترصد في الدين . ( قال ) ابن مهدي : عن حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين قال : كان المصدق يجيء فأينما رأى زرعا أو إبلا قائمة أو غنما قائمة أخذ منها الصدقة . ( قلت ) : أرأيت لو أن رجلا كانت في يديه مائة دينار ناضة فحال عليها الحول وعليه مائة دينار مهر لامرأته أيكون عليه فيما في يديه الزكاة ؛ فقال : لا .
( قلت ) : وهو قول مالك . فقال : قال لي مالك : إذا أفلس زوجها حاصت الغرماء ، فإن مات زوجها حاصت الغرماء فهو دين ، وهذا مثله .
( قلت ) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده مائة دينار فحال عليها الحول وعليه زكاة قد كان فرط فيها لم يؤدها من زكاة المال والماشية وما أنبتت الأرض ، أيكون عليه فيما في يديه الزكاة ؟
( فقال ) : لا يكون عليه فيما في يديه الزكاة إلا أن يبقى في يديه بعد أن يؤدي ما كان فرط فيه من الزكاة ما تجب فيه الزكاة عشرون دينارا فصاعدا ، فإن بقي في يديه عشرون دينارا فصاعدا زكاه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 371)
( قلت ) : وهذا قول مالك . فقال : هذا رأيي ؛ وذلك ؛ لأن مالكا قال لي في الزكاة : إذا فرط فيها الرجل ضمنها ، وإن أحاطت بماله فهذا عندي مثله .
( قلت ) : أرأيت رجلا له عشرون دينارا قد حال عليها الحول وعليه عشرة دراهم لامرأته نفقة شهر قد كان فرضها عليه القاضي قبل أن يحول الحول بشهر .
( فقال ) : يجعل نفقة المرأة في هذه العشرين الدينار ، فإذا انحطت فلا زكاة عليه فيها .
( قلت ) : أرأيت إن لم يكن فرض لها القاضي ولكنها أنفقت على نفسها شهرا قبل الحول ثم تبعته بنفقة الشهر وعند الزوج هذه العشرون الدينار . فقال : تأخذ نفقتها ولا يكون على الزوج فيها زكاة .
( قلت ) : ويلزم الزوج ما أنفقت من مالها وإن لم يفرض لها القاضي .(7/44)
( فقال ) : نعم ، إذا كان الزوج موسرا ، فإن كان غير موسر فلا يضمن لها ما أنفقت ، فمسألتك أنها أنفقت وعند الزوج عشرون دينارا ، فالزوج يتبع بما أنفقت يقضى لها عليه بما أنفقت من مالها فإذا قضى لها بذلك عليه حطت العشرون الدينار إلى ما لا زكاة فيها فلا يكون عليه زكاة .
( قلت ) : وهذا قول مالك .
( قال ) : قال مالك : أيما امرأة أنفقت على نفسها وزوجها في حضر أو في سفر وهو موسر ، فما أنفقت فهو في مال الزوج إن اتبعته على ما أحب أو كره الزوج مضمونا عليه . فلما اتبعته به كان ذلك دينا عليه ، فجعلته في هذه العشرين فبطلت الزكاة عنه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 372)
( قلت ) : أرأيت إن كانت هذه النفقة التي على هذا الزوج الذي وصفت لك إنما هي نفقة والدين أو ولد . فقال : لا تكون نفقة الوالدين والولد دينا أبطل به الزكاة عن الرجل ؛ لأن الوالدين والولد إنما تلزم النفقة لهم إذا ابتغوا ذلك ، وإن أنفقوا ثم طلبوه بما أنفقوا لم يلزمه ما أنفقوا وإن كان موسرا ، والمرأة تلزمه ما أنفقت قبل أن تطلبه بالنفقة إن كان موسرا .
( قلت ) : فإن كان القاضي قد فرض للأبوين نفقة معلومة فلم يعطهما ذلك شهرا وحال الحول عليها عند هذا الرجل بعد هذا الشهر ، أتجعل نفقة الأبوين ههنا دينا فيما في يديه إذا قضى به القاضي . قال : لا .
( قال ) أشهب : أحط عنه به الزكاة وألزمه ذلك إذا قضى به القاضي عليه في الأبوين ؛ لأن النفقة لهما إنما تكون إذا طلبا ذلك ، ولا يشبهان الولد ، ويرجع على الأب بما تداين به الولد ، أو أنفق عليه إذا كان موسرا ، ويحط بذلك عنه الزكاة ، كانت بفريضة من القاضي أو لم تكن ؛ لأن الولد لم تسقط نفقتهم عن الوالد إذا كان له مال من أول ما كانوا حتى يبلغوا ، والوالدين قد كانت نفقتهما ساقطة فإنما ترجع نفقتهما بالقضية ، والحكم من السلطان . والله أعلم .(7/45)
( قلت ) لابن القاسم : أرأيت رجلا كانت عنده دنانير قد حال عليها الحول تجب فيها الزكاة وعليه إجارة أجراء قد عملوا عنده قبل أن يحول على ما عنده الحول ، أو كراء إبل أو دواب ، أيجعل ذلك الكراء والإجارة فيما في يديه من الناض ثم يزكي ما بقي ؟
( فقال ) : نعم إذا لم يكن له عروض .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 373)
( قلت ) : وهذا قول مالك ؟ قال : نعم .
( قال ) : وسألت مالكا عن العامل إذا عمل بالمال قراضا سنة فربح ربحا وعلى العامل المقارض دين فاقتسماه بعد الحول ، وأخذ العامل ربحه ، هل ترى على العامل في حظه زكاة وعليه دين ؟
( فقال ) : لا إلا أن تكون له عروض فيها وفاء بدينه ، فيكون دينه في العروض ويكون في ربحه هذا الزكاة . قال : فإن لم تكن له عروض فلا زكاة عليه في ربحه إذا كان الدين يحيط بربحه كله ، وقال غيره : فيه الزكاة .
( قال ) ابن وهب وسفيان بن عيينة : إن ابن شهاب حدثهما عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة .
( قال ) أشهب : عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان بن عفان على المنبر وهو يقول : هذا شهر زكاتكم الذي تؤدون فيه زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض في دينه ، فإن فضل عنده ما تجب فيه الزكاة فليؤد زكاته ، ثم ليس عليه شيء حتى يحول عليه الحول .
( قال ) ابن القاسم وابن وهب وأشهب : عن مالك أن يزيد بن خصيفة حدثه أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة ؟ قال : لا .
( قال ) ابن وهب : وأخبرني غير واحد عن ابن شهاب ونافع مثل قول سليمان بن يسار .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 374)(7/46)
( قال ) ابن مهدي : عن أبي الحسن عن عمرو بن حزم قال : سئل جابر بن يزيد عن الرجل يصيب الدراهم وعليه دين أكثر منها . فقال : لا زكاة عليه حتى يقضي دينه المدونة ، ومعها ( المقدمات ) ( 1 / 234 ) . .
ب- قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة ( في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة ) : والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام :
قسم منها يسقط الزكاة ، وهو دين الزكاة ، كانت له عروض تفي به أو لم تكن ، مرت به سنة من يوم استدانه : مثل : أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول ، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه : مثل : أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحول حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى .
وقسم منها يسقط الزكاة ، مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر ، إلا أن تكون له عروض تفي به يجعل الدين فيها ، وهو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة .
وقسم يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه ، كانت له
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 375)
عروض أو لم تكن ، ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه ، إلا أن تكون له عروض يجعله فيها ، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة ، كان الدين من سلف أو مبايعة .(7/47)
فكونه من سلف : هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا ، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف ، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها ، وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها . وكونه من مبايعة : هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة ، فتجر بالعشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم ، ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم .
وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة ، فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين . وقد قيل : إن الدين يسقط الزكاة العين على كل مال وفي كل دين ، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 376)
عثمان بن عفان المذكور ، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره ، ولا شرط عدمه للعروض . وبالله التوفيق المقدمات ، ومعها [ المدونة ] ( 1 / 219 ) وما بعدها . .
وقال أيضا تحت عنوان : ( زكاة الديون ) : الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة .(7/48)
والدليل على ذلك : أن الله تبارك وتعالى قال : سورة التوبة الآية 103 خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وقال : سورة الأنعام الآية 141 كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال ، والعموم محتمل للخصوص ، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك ، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس : يا أيها الناس ، هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى يحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة . وبقي ما سوى ذلك على العموم ، فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية ، وكذلك زكاة الفطر عن العبد على الصحيح من الأقوال ، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة ، ونص ما في كتاب ابن المواز .
وقد فرق أيضا بين العين وغيرها في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض ، وقد يحتمل أن يكون حذر عنها
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 377)
الإجماع . وبالله التوفيق [ المقدمات ] ومعها [ المدونة ] ( 1 / 306- 310 ) . .
ج- قال ابن رشد الحفيد : وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال قوم : لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون ، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكي وإلا فلا .
وبه قال الثوري وأبو ثور وابن المبارك وجماعة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها .
وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع ، وقال قوم بمقابل القول الأول ، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا . والسبب في اختلافهم : اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين ؟(7/49)
فمن رأى أنها حق لهم قال : لا زكاة في مال من عليه الدين ؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين ، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي بيده . ومن قال : هي عبادة ، قال : تجب على من بيده مال ؛ لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف ، سواء كان عليه دين أو لم يكن ، وأيضا فإنه قد تعارض هناك حقان : حق لله وحق للآدمي ، وحق الله أحق أن يقضى ، والأشبه بغرض
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 378)
الشرع إسقاط الزكاة عن المديان ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : صحيح البخاري الزكاة (1331),صحيح مسلم الإيمان (19),سنن الترمذي الزكاة (625),سنن النسائي الزكاة (2435),سنن أبو داود الزكاة (1584),سنن ابن ماجه الزكاة (1783),مسند أحمد بن حنبل (1/233),سنن الدارمي الزكاة (1614). فيها صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم . والمدين ليس بغني .
وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة ، وقد كان أبو عبيد يقول : إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق ، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه . وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة ، وإنما هو خلاف لمن يقول يصدق في الدين كما يصدق في المال [ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ] ( 1 / 236 ) . .(7/50)
د- جاء في [ أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ] وشرحه الصغير : ( ولا يسقط الدين ) ولو عينا ( زكاة حرث وماشية ومعدن ) لتعلق الزكاة بعينها ( بخلاف العين ) الذهب والفضة ( فيسقطها ) الدين ( ولو ) كان الدين ( مؤجلا أو ) كان ( مهرا ، عليه لامرأته أو مؤخرا ( أو ) مقدما أو كان ( نفقة كزوجة ) أو أب أو ابن ( تجمدت ) عليه ( أو ) كان ( دين زكاة ) وانكسرت عليه ، ( لا ) دين ( كفارة ) ليمين أو غيره كظهار ، وصوم ، ( و ) لا دين ( هدي ) وجب عليه في حج أو عمرة فلا يسقطان زكاة العين ( إلا أن يكون له ) أي : لرب العين المدين ( من العروض ما ) أي : شيء ( يفي به ) أي : بدينه فإنه يجعله في نظير الدين الذي عليه ويزكي ما عنده من العين . ولا تسقط عنه الزكاة بشرطين : أشار لأولهما بقوله : ( إن حال حوله ) أي : العرض ( عنده ) ، وللثاني بقول : ( وبيع ) ذلك العرض : أي : وكان مما يباع ( على المفلس ) كثياب ونحاس وماشية ، ولو دابة ركوب أو ثياب
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 379)
جمعة أو كتب فقه ، لا ثوب جسده أو دار سكناه ، إلا أن يكون فيها فضل عن ضرورته .
فإن كان عنده من العرض ما يفي ببعض ما عليه نظر للباقي ، فإن كان فيه الزكاة زكاه ، كما لو كان عنده أربعون دينارا وعليه مثلها وعنده عرض يفي بعشرين زكى العشرين .
( والقيمة ) لذلك العرض تعتبر ( وقت الوجوب ) أي : وجوب الزكاة آخر الحول ( أو ) يكون ( له دين مرجو ولو مؤجلا ) فإنه يجعله فيما عليه ويزكي ما عنده من العين ( لا غير مرجو ) كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام ، ( ولا ) إن كان له ( آبق ) فلا يجعل في نظير الدين الذي عليه ( ولو رجي ) تحصيله ؛ لعدم جواز بيعه بحال .(7/51)
( فلو وهب الدين له ) أي : لمن هو عليه - بأن أبرأه ربه منه ولم يحل حوله من يوم الهبة - فلا زكاة في العين التي عنده ؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده ، فلا تجب الزكاة فيه ، إلا إذا استقبل حولا من يوم الهبة ( أو ) وهب له ( ما ) أي : شيء من العرض أو غيره ، أي : وهب له إنسان ما : أي : شيئا ( يجعل فيه ) أي : في نظير الدين ، ( ولو لم يحل حوله ) أي : حول الشيء الموهوب عند رب العين ( فلا زكاة ) في العين التي عنده حتى يحول الحول ؟ لما تقدم في الذي قبله ، وهذا التصريح بمفهوم قوله : ( إن حال حوله ) [ أقرب المسالك ] وشرحه [ الشرح الصغير ] ( 1 / 647 ) . .(7/52)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 380)
3 - النقل عن الشافعية :
أ- جاء في [ الأم ] تحت ترجمة ( باب الدين مع الصدقة ) : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد : أن عثمان بن عفان كان يقول : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة .
( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وحديث عثمان يشبه والله تعالى أعلم أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال في قوله : هذا شهر زكاتكم ، يجوز أن يقول : هذا الشهر الذي إذا مضى حلت زكاتكم ، كما يقال : شهر ذي الحجة وإنما الحجة بعد مضي أيام منه .
( قال الشافعي ) : فإذا كانت لرجل مائتا درهم وعليه دين مائتا درهم فقضى من المائتين شيئا قبل حلول المائتين ، أو استعدى عليه السلطان قبل محل حول المائتين فقضاها فلا زكاة عليه ؛ لأن الحول حال وليست مائتين .
( قال ) : وإن لم يقض عليه بالمائتين إلا بعد حولها فعليه أن يخرج منها خمسة دراهم ، ثم يقضي عليه السلطان بما بقي منها .
( قال الشافعي ) : وهكذا لو استعدى عليه السلطان قبل الحول فوقف ماله ولم يقض عليه بالدين حتى يحول عليه الحول - كان عليه أن يخرج زكاتها ثم يدفع إلى غرمائه ما بقي .
( قال الشافعي ) : ولو قضى عليه السلطان بالدين قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه فيه زكاة ؛ لأن المال صار للغرماء دونه قبل الحول . وفيه قول ثان : أن عليه فيه الزكاة من قبل أنه لو
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 381)
تلف كان منه ، ومن قبل أنه لو طرأ له مال غير هذا كان له أن يحبس هذا المال وأن يقضي الغرماء من غيره .
( قال الشافعي ) : وإذا أوجب الله عز وجل عليه الزكاة في ماله فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له فلا يجوز عندي - والله أعلم - إلا أن يكون كمال كان في يده فاستحق بعضه فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له .(7/53)
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في الذهب والورق والزرع والثمرة والماشية كلها لا يجوز أن يخالف بينها بحال ؛ لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في كله إذا بلغ ما وصف صلى الله عليه وسلم الصدقة .
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في صدقة الإبل التي صدقتها منها ، والتي فيها الغنم وغيرها ، كالمرتهن بالشيء ، فيكون لصاحب الرهن ما فيه ، ولغرماء صاحب المال ما فضل عنه ، وفي أكثر من حال المرتهن وما وجب في مال فيه الصدقة من إجارة أجير وغيرها أعطي قبل الحول .
( قال الشافعي ) : ولو استأجر الرجل على أن يرعى غنمه بشاة منها بعينها فهي ملك للمستأجر ، فإن قبضها قبل الحول فهي له ، ولا زكاة على الرجل في ماشيته ، إلا أن يكون ما تجب فيه الصدقة بعد شاة الأجير ، وإن لم يقبض الأجير الشاة حتى حال الحول ففي غنمه الصدقة على الشاة حصتها من الصدقة ؛ لأنه خليط بالشاة .
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في الرجل يستأجر بتمر نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف إذا لم يقبض الإجارة .
( قال الشافعي ) : فإن استؤجر بشيء من الزرع قائم بعينه لم تجز
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 382)
الإجارة به ؛ لأنه مجهول ، كما لا يجوز بيعه ، إلا أن يكون مضى خبر لازم بجواز بيعه ؛ فتجوز الإجارة عليه ، ويكون كالشاة بعينها وتمر النخلة والنخلات بأعيانهن .
( قال الشافعي ) : وإن كان استأجره بشاة بصفة ، أو تمر بصفة ، أو باع غنما ، فعليه الصدقة في غنمه وتمره وزرعه ، ويؤخذ بأن يؤدي إلى الأجير والمشتري منه الصفة التي وجبت له من ماله الذي أخذت منه الزكاة أو غيره .
( قال الشافعي ) : وسواء كانت له عروض كثيرة تحمل دينه أو لم يكن له شيء غير المال الذي وجبت فيه الزكاة .(7/54)
( قال الشافعي ) : ولو كانت لرجل مائتا درهم فقام عليه غرماؤه فقال : قد حال عليها الحول ، وقال الغرماء : لم يحل عليها الحول ، فالقول قوله ، ويخرج منها الزكاة ويدفع ما بقي منها إلى غرمائه إذا كان لهم عليه مثل ما بقي منها أو أكثر .
( قال الشافعي ) : ولو كان له أكثر من مائتي درهم فقال : قد حالت عليها أحوال ولم أخرج منها الزكاة ، وكذبه غرماؤه ، كان القول قوله ويخرج منها زكاة الأحوال ، ثم يأخذ غرماؤه ما بقي منها بعد الزكاة أبدا أولى بها من مال الغرماء ؛ لأنها أولى بها من ملك مالكها .
( قال الشافعي ) : ولو رهن رجل رجلا ألف درهم بألف درهم أو ألفي درهم بمائة دينار فسواء ، وإذا حال الحول على الدراهم المرهونة قبل أن يحل دين المرتهن أو بعده فسواء ، ويخرج منها الزكاة قبل دين المرتهن .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 383)
( قال الشافعي ) : وهكذا كل مال رهن وجبت فيه الزكاة [ الأم ] ( 2 / 42 ) وما بعدها . .
ب- وجاء في [ الأم ] أيضا تحت هذه الترجمة ( باب الدين في الماشية ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى : وإذا كانت لرجل ماشية فاستأجر عليها أجيرا في مصلحتها بسن موصوفة أو ببعير منها لم يسمه فحال عليها حول ولم يدفع منها في إجارتها شيء ففيها الصدقة ، وكذلك إن كان عليه دين أخذت الصدقة وقضي دينه منها ومما بقي من ماله . ولو استأجر رجل رجلا ببعير منها أو أبعرة منها بأعيانها فالأبعرة للمستأجر ، فإن أخرجها منه فكانت فيها زكاة زكاها ، وإن لم يخرجها منه فهي إبله ، وهو خليط بها يصدق مع رب المال الذي فيها وفي الحرث والورق والذهب سواء ، وكذلك الصدقة فيها كلها سواء [ الأم ] ( 2 / 22 ) . .
ج- قال الشيرازي : فإن كان ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان ، ( قال في القديم ) : لا تجب الزكاة فيه ؛ لأن ملكه غير مستقر ؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء .(7/55)
( وقال في الجديد ) : تجب الزكاة فيه ؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين ، والدين يتعلق بالذمة ؛ فلا يمنع أحدهما الآخر ، كالدين وأرش الجناية .
وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق :
أحدها : إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة ؛ لأنه قد حصل له
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 384)
نماؤه ، وإن كان غيرها فقيل : قولان كالمغصوب .
والثاني : تجب الزكاة فيه قولا واحدا ؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون .
والثالث : وهو الصحيح : أنه على قولين كالمغصوب ؛ لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب .
وأما قول الأول : أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح ؛ لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ويحول دونه . وقول الثاني : لا يصح ؛ لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف ؛ لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف ، وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا .
د- وقال النووي : الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال :
أصحها : عند الأصحاب ، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة : تجب . والثاني : لا تجب ، وهو نصه في القديم ، وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة ، وذكر المصنف دليل القولين . الثالث : حكاه الخراسانيون : أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة ، وهي : الذهب والفضة وعروض التجارة ، ولا يمنعها في الظاهرة ، وهي : الزروع والثمار والمواشي والمعادن ، والفرق : أن الظاهرة نامية بنفسها . وبهذا القول قال مالك .
قال أصحابنا : وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وسواء كان من جنس المال أو من غيره ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور .
وقال جماعة من الخراسانيين : القولان إذا كان ماله من جنس الدين ، فإن خالفه وجبت قطعا ، وليس بشيء .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 385)
فالحاصل : أن المذهب وجوب الزكاة ، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا ، من جنس الدين أم غيره .(7/56)
قال أصحابنا : سواء دين الآدمي ودين الله عز وجل ، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر وغيرها .
وأما مسألة الحجر الذي ذكرها المصنف قال أصحابنا : إذا قلنا : الدين يمنع وجوب الزكاة ، فأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي - فله ثلاثة أحوال :
أحدها : يحجر ويفرق ماله بين الفرق الغرماء فيزول ملكه ، ولا زكاة .
الثاني : أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ، ويمكنهم من أخذه ، فحال الحول قبل أخذه ، فالمذهب : أنه لا زكاة أيضا ، وبه قطع الجمهور ؛ لضعف ملكه .
وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وآخرون من الخراسانيين وجها : أن وجوب الزكاة فيه يخرج على الخلاف في المغصوب ؛ لأنه حيل بينه وبينه . وقال القفال : يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية ؛ لأنهم تسلطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط في السنة الثانية بخلاف المغصوب .
والصحيح : ما سبق عن الجمهور .
والفرق : أن تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط ؛ لأنهم أصحاب حق على المالك ولأنهم مسلطون بحكم حاكم ، فكان تسليطهم مسنده ثبوت المال في ذمة المالك ، وهو أقوى ، بدليل : أنهم إذا قبضوه لم يرجع فيه المفلس بوجه ما ، بخلاف الملتقط ، فإن للمالك إذا رجع أن
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 386)
يرجع في عين اللقطة على أحد الوجهين .
( الحال الثاني ) : كذا في الأصل . ولعل الصواب : ( الحال الثالث ) . أن لا يفرق ماله ولا يعين لأحد شيئا ، ويحول الحول في دوام الحجر . وهذه هي الصورة التي أرادها المصنف . وفي وجوب الزكاة هنا ثلاثة طرق ذكرها المصنف بدلائلها :
أصحها : أنه على الخلاف في المغصوب .
والثاني : القطع بالوجوب . والثالث : القطع بالوجوب في الماشية ، وفي الباقي الخلاف كالمغصوب . والله أعلم .(7/57)
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه في [ المختصر ] : ولو قضى عليه بالدين وجعل لهم ماله حيثما وجدوه قبل الحول ثم جاء الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه زكاة ؛ لأنه صار لهم دونه قبل الحول . فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى ، ومنهم من حمله على الثانية .
وقال الشافعي في الحالة الثانية : وللغرماء أن يأخذوا الأعيان التي عينها لهم الحاكم حيث وجدوها .
فاعترض الكرخي عليه ، وقال : أباح الشافعي لهم نهب ماله .
فأجاب أصحابنا عنه فقالوا : هذا الذي توهمه الكرخي خطأ منه ؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا جاز له أخذها حيث وجدها ؛ لأنه يأخذها بحق . والله أعلم .
( فرع ) : قال صاحب [ الحاوي ] وآخرون من الأصحاب : إذا أقر قبل
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 387)
الحجر بوجوب الزكاة عليه فإن صدقه الغرماء ثبتت ، وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه ؛ لأنه أمين .
وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان ؟
فيه الأقوال الثلاثة المشهورة في اجتماع حق الله تعالى ، ودين الآدمي . وإن أقر بالزكاة بعد الحجر ففيه القولان المشهوران في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر ، هل يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء أم يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته ؟
( فرع ) إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة فقد ذكرنا أنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي ، قال أصحابنا : فلو ملك نصابا من الدراهم أو الماشية أو غيرهما فنذر التصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق - فطريقان :
أصحهما : القطع بمنع الزكاة لتعلق النذر بعين المال .
والثاني : أنه على الخلاف في الدين . ولو قال : جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة ، وقلنا : يتعين التضحية بهذه الصيغة ، فالمذهب : أنه لا زكاة قطعا ، وطرد إمام الحرمين وبعضهم فيه الخلاف .(7/58)
قال الإمام : والظاهر : أنه لا زكاة ؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى فيه حقيقة ملك ، بخلاف الصورة السابقة ، فإنه لم يتصدق ، وإنما التزم التصدق ، ولو نذر التصدق بأربعين شاة أو بمائتي درهم ولم يضف إلى دراهمه وشياهه - فهذا دين نذر . فإن قلنا : دين الآدمي لا يمنع ، فهذا أولى ، وإلا فوجهان : أصحهما عند إمام الحرمين : لا يمنع ؛ لأن هذا
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 388)
الدين لا مطالبة به في الحال ، فهو أضعف ، ولأن النذر يشبه التبرعات ، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره ، فالوجوب به أضعف .
ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه . قال إمام الحرمين والغزالي : فيه الخلاف المذكور في مسألة النذر قبله . والله أعلم .
( فرع ) : إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، ففي علته وجهان : أصحهما وأشهرهما : - وبه قطع كثيرون أو الأكثرون - ضعف الملك لتسلط المستحق .
والثاني : أن مستحق الدين تلزمه الزكاة . فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد [ المهذب ] و [ المجموع ] ( 5 / 317 ) وما بعدها . .(7/59)
4 - النقل عن الحنابلة :
أ- قال الخرقي : وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه .
ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : وجملة ذلك : أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة ، وهي الأثمان وعروض التجارة ، وبه قال عطاء ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والحسن ، والنخعي ، والليث ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وقال ربيعة ، وحماد بن أبي سليمان ، والشافعي في جديد قوليه : لا يمنع الزكاة ؛ لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا ، فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 389)
ولنا : ما روى أبو عبيد في [ الأموال ] : حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : ( هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ) . وفي رواية : ( فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله ) . قال ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكروه ؟ فدل على اتفاقهم عليه .
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه وهذا نص ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم .(7/60)
فدل على أنها إنما تجب على الأغنياء ، ولا تدفع إلا إلى الفقراء ، وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة ؛ لأنها لا تجب إلا على الأغنياء ؟ للخبر ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : صحيح البخاري النفقات (5040),سنن النسائي الزكاة (2534),سنن أبو داود الزكاة (1676),مسند أحمد بن حنبل (2/230),سنن الدارمي الزكاة (1651). لا صدقة إلا عن ظهر غنى ، ويخالف من لا دين له عليه فإنه غني يملك نصابا ، يحقق هذا : أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء ، وشكرا لنعمة الغنى ، والمدين يحتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد ، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالإخراج ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الزكاة (997),سنن النسائي البيوع (4652),سنن أبو داود العتق (3957),مسند أحمد بن حنبل (3/305). ابدأ بنفسك ثم بمن تعول .
( فصل ) : فأما الأموال الظاهرة ، وهي : السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد : أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها ؟ لما ذكرناه في الأموال الباطنة .
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : يبتدئ بالدين فيقضيه ، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة ، فيزكي ما بقي ، ولا يكون على أحد
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 390)
دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة .
وهذا قول عطاء ، والحسن ، وسليمان ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والليث ، وإسحاق ؛ لعموم ما ذكرنا .
وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها .
وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي .
وروي عن أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر وابن عباس . فقال ابن عمر : يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي .
وقال الآخر : يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي .(7/61)
وإليه أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي ؛ لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين ، وليس المال هكذا .
فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليه خاصة .
وهذا ظاهر قول الخرقي ؛ لأنه قال في الخراج : يخرجه ثم يزكي ما بقي . جعله كالدين على الزرع .
وقال في الماشية المرهونة : يؤدي منها إذا لم يكن له مال يؤدي عنها ، فأوجب الزكاة فيها مع الدين .
وقال أبو حنيفة : الدين الذي تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار . بناء منه على أن الواجب فيها ليس صدقة . والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة الظاهرة آكد ؛ لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 391)
ولهذا يشرع إرسال من يأخذ صدقتها من أربابها ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة من أربابها ، وكذلك الخلفاء بعده .
وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولم يأت عنه أنهم استكرهوا أحدا على صدقة الصامت ، ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا ، ولأن السعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون عما على صاحبها من الدين ؛ فدل على أنه لا يمنع زكاتها .
ولأن تعلق أطماع الفقراء بها أكثر والحاجة إلى حفظها أوفر فتكون الزكاة فيها أوكد .(7/62)
( فصل ) : وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب ، أو ما لا يستغني عنه ، مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به ، ولا يجد له قضاء من غير النصاب ، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين ، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه ، وإن كان عليه خمسة فعليه زكاة خمسة وعشرين ، ولو كان له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين ، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه ؛ لأنه ينقص النصاب ، وإن كان له ما لأن من جنسين وعليه دين جعله في مقابلة ما يقضي منه ، فلو كان له خمس من الإبل ومائتا درهم ، فإن كانت عليه سلما أو دية ونحو ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها ، ووجبت عليه زكاة الدراهم ، وإن كان أتلفها أو غصبها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم ؛ لأنها تقضى منها ، وإن كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 392)
فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر ، وإذا جعلناها في مقابلة الآخر لم يفضل منها شيء كرجل له خمس من الإبل ومائتا درهم وعليه ست من الإبل قيمتها مائتا درهم فإذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شيء ينقص نصاب السائمة ، وإذا جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم ، أو كانت بالعكس .(7/63)
مثل : أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي الدين ، أو تفضل عليه جعلنا الدين في مقابلة الإبل هاهنا ، وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى ؛ لأن له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب ، وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الإبل ، فإذا جعلناها في مقابلة الإبل لم ينقص نصابها ؛ لكون الأربع الزائدة عنه تساوي المائة وأكثر منها ، وإن جعلناه في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الإبل كما ذكرنا في التي قبلها ، ولأن ذلك أحظ للفقراء .
وذكر القاضي نحو هذا فإنه قال : إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته ، وإن كان من غير جنس الدين .
فإن كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين ، فقال القاضي : يجعل الدين في مقابلة العروض . وهذا مذهب مالك وأبي عبيد .
قال أصحاب الشافعي : وهو مقتضى قوله ؛ لأنه مالك لمائتين زائدة
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 393)
عن مبلغ دينه ؟ فوجبت عليه زكاتها ، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا .
وظاهر كلام أحمد رحمه الله : أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه ، فإنه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف : إن كانت العروض للتجارة زكاها ، وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شيء .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، ويحكى عن الليث بن سعد ؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح ، فجعل الدين في مقابلته أولى ، كما لو كان النصابان زكويين .(7/64)
ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية ، ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين ؛ لأن الحاجة أهم ، ولذلك لم تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال ، ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته وهذا أحسن ؛ لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته ، وقضاء دينه ، فلزمته زكاته كما لو لم يكن عليه دين .
فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما - فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته .
( فصل ) : فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان :
أحدهما : يمنع الزكاة كدين الآدمي ؛ لأنه دين يجب قضاؤه ، فهو كدين الآدمي ، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصوم (1852),صحيح مسلم الصيام (1148),سنن الترمذي الصوم (716),سنن النسائي الأيمان والنذور (3816),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310),سنن ابن ماجه الصيام (1758),مسند أحمد بن حنبل (1/362),سنن الدارمي الصوم (1768). دين الله أحق أن يقضى .
والآخر : لا يمنع ؛ لأن الزكاة أكد منه لتعلقها بالعين ، فهو كأرش
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 394)
الجناية ، ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به . فإن نذر الصدقة بمعين فقال : لله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم إذا حال الحول . فقال ابن عقيل : يخرجها في النذر ولا زكاة عليه ؛ لأن النذر آكد لتعلقه بالعين ، والزكاة مختلف فيها ، ويحتمل أن تلزمه زكاتها ، وتجزئه الصدقة بها ، إلا أن ينوي الزكاة بقدرها ، ويكون ذلك صدقة تجزئه عن الزكاة ؛ لكون الزكاة صدقة ، وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة ، وإن نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذا الاحتمال يخرج النذور وينوي الزكاة بقدرها منه .(7/65)
وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه ؛ لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب ، لكون المحل متسعا لهما جميعا . وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين ، وفي الآخر يجب إخراجهما جميعا .
( فصل ) : إذا قلنا : لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ، فحجر الحاكم عليه بعد وجوب الزكاة لم يملك إخراجها ؛ لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقر بها بعد الحجر لم يقبل إقراره ، وكانت عليه في ذمته كدين الآدمي ، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل إمكان أدائها كما لو تلف ماله . فإن أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة ، أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه - وجب إخراجها من المال ، فإن لم
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 395)
يخرجوها فعليهم إثمها .
( فصل ) : وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرشها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان ينقص النصاب ؛ لأنه دين ، وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش [ المغني ] ، ومعه الشرح الكبير ( 2 / 635 ) وما بعدها . .
ج- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن كان على مالك الزرع والثمار دين فهل تسقط الزكاة ؛ فيه ثلاثة أقوال :
قيل : لا تسقط بحال . وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، ورواية عن أحمد .
وقيل : يسقطها . وهو قول عطاء ، والحسن ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والليث ، والثوري ، وإسحاق . وكذلك في الماشية : الإبل ، والبقر ، والغنم .
وقيل : يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه ، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله . وقيل : يسقطها هذا وهذا . الأول قول ابن عباس . اختاره أحمد بن حنبل وغيره . والثاني قول ابن عمر [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ( 25 / 27 ) . .(7/66)
وقال شيخ الإسلام أيضا : والدين يسقط زكاة العين : عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وأحد قولي الشافعي ، وهو قول عطاء ، والحسن ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبي ثور .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 396)
واحتجوا بما رواه مالك في [ الموطأ ] ، عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان رضي الله عنه يقول : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة . وعند مالك إن كان عنده عروض توفي الدين ترك العين وجعلها في مقابلة الدين ، وهي التي يبيعها الحاكم في الدين ما يفضل عن ضرورته . وإن كان له دين على مليء ثقة جعله في مقابلة دينه أيضا ، وزكى العين . فإن لم يكن إلا ما بيده سقطت الزكاة [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ص ( 19 ) . .
د- قال ابن مفلح : تجب الزكاة في عين المال ، نقله واختاره الجماعة ، قال الجمهور : هذا ظاهر المذهب ، حكاه أبو المعالي وغيره ( و هـ م ق ) . في الطبعة الأولى ( وهـ م ق ش ) . ، وعنه : تجب في الذمة ، اختاره الخرقي وأبو الخطاب وصاحب [ التلخيص ] ، قال ابن عقيل : هو الأشبه بمذهبنا ( وهـ ق ) . فعلى الأول : لو لم يزك نصابا حولين فأكثر لزمه زكاة واحدة ( وهـ ق ) في الطبعة الأولى ( وهـ ش ) . ولو تعدى بالتأخير ، وعلى الثانية يزكي لكل حول . أطلقه أحمد وبعض الأصحاب .
قال ابن عقيل وغيره : لو قلنا : إن الدين يمنع وجوب الزكاة لم تسقط هنا ؛ لأن الشيء لا يسقط نفسه ، وقد يسقط غيره . واختار جماعة منهم صاحب [ المحرر ] : إن سقطت الزكاة بدين الله تعالى ، وليس له سوى النصاب فلا زكاة للحول الثاني ، لأجل الدين ، لا للتعلق بالعين .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 397)(7/67)
زاد صاحب [ المستوعب ] : متى قلنا : يمنع الدين فلا زكاة للعام الثاني ، تعلقت بالعين أو بالذمة ، وإن أحمد حيث لم يوجب زكاة العام الثاني فإنه بنى على رواية منع الدين ؛ لأن زكاة العام الأول صارت دينا على رب المال ، والعكس بالعكس ، جعل فوائد الروايتين إخراج الراهن الموسر من الرهن بلا إذن إن علقت بالعين ، واختاره في سقوطها بالتلف وتقديمها على الدين ، وقال غيره خلافه ، وإنه إن كان فوق نصاب ، فإن وجبت في العين نقص من زكاته لكل حول بقدر نقصه بها ، فإذا نقص بذلك عن نصاب فلا زكاة لما بعد ذلك ، وإن وجبت في الذمة زكاه جميعه لكل حول ، ما لم تفن الزكاة المال . وقال ابن تميم : إن قلنا : تجب في العين فهل تكرر الزكاة بتكرر الأحوال ؟ فيه وجهان ، والشاة في الإبل تتكرر بتكرر الأحوال إن قلنا : دين الزكاة لا يمنع ، كذا قال ، وكذا عند زفر تتعلق بالعين وتتكرر ، كما لو كانت دينا فأتلف نصابا وجبت فيه ، ثم حال عنده حول على نصاب آخر فالمنع ورد على رواية في مخطوط الدار : كما لو كان دينا بأن أتلف نصابا . . . آخر ورد بالمنع على رواية . ثم التعلق بالعين أقوى ؛ ولهذا يمنع النذر المتعلق بالعين ، ولا يمنع إذا كان في الذمة على رواية ، فعلى المذهب : في مائتين وواحدة من الغنم خمس ، ثلاث للأول ، واثنتان للثاني ( وق ) في الطبعة الأولى : وهو قول ( ش ) . ، وعلى الثاني ست لحولين ، ولو لم يزك خمسين من الغنم اثني عشر حولا زكى إحدى عشرة شاة وفي الثانية عشرة الخلاف ، أما لو كان الواجب من غير الجنس
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 398)(7/68)
كالإبل المزكاة في الطبعة الأولى : الزكاة . بالغنم ، فنص أحمد أن الواجب فيه في الذمة ، وأن الزكاة تتكرر ، فرق بينه وبين الواجب من الجنس ( و م ش ) ؛ لأن الواجب هنا في الطبعة الأولى : لأن الواجب هذا ليس بجزء من النصاب ، وظاهر كلام أبي الخطاب واختاره صاحب [ المستوعب ] و [ المحرر ] أنه كالواجب من الجنس ( و هـ ش ) على ما سبق من العين والذمة ؛ لأن تعلق الزكاة كتعلق الأرش بالجاني والدين بالرهن ، فلا فرق إذا ، فعلى النص : لو لم يكن له سوى خمس من الإبل ففي امتناع زكاة الحول الثاني لكونها دينا الخلاف .
قال القاضي في الخلاف : هذه المسألة لا تلزمه ؛ لأن أحمد علل في المال ( بما ) إذا أدى منه نقص ، فاقتضى ذلك إذا أدى من الغنم ما يحصل عليه به دين لم يلزمه ؛ لأن الدين يمنع وجوب الزكاة ، وحمل كلام أحمد على أنه عنده من الغنم ما يقابل الحولين ، فعلى النص في خمس وعشرين بعيرا في ثلاثة أحوال : حول في مخطوط الدار : لأول حول بنت مخاض '' لكن ناقل التصحيح لم يذكرها بالهامش '' . بنت مخاض ، ثم ثمان شياه لكل حول ، وعلى كلام أبي الخطاب أنها تجب في العين مطلقا كذلك لأول حول ثم الثاني ، ثم إن نقص النصاب بذلك من عشرين بعيرا إذا قومناها فللثالث ثلاث شياه ، وإلا أربع ، وهل يمنع التعلق بالعين انعقاد الحول الثاني قبل الإخراج ؟ يأتي في الفصل الثالث من الخلطة [ الفروع ] ، ( 2 / 343 ) وما بعدها . .
هـ- جاء في [ المقنع ] وشرحه [ الإنصاف ] : قوله : ( ولا زكاة في مال
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 399)
من عليه دين ينقص النصاب ) .
هذا المذهب ، إلا ما استثني . وعليه أكثر الأصحاب . وعنه : لا يمنع الدين الزكاة مطلقا ، وعنه : يمنع الدين الحال خاصة . جزم به في [ الإرشاد ] ، وغيره .
قوله : ( إلا في الحبوب والمواشي ) . في إحدى الروايتين . وقدمه في [ الفائق ] .(7/69)
والرواية الثانية : يمنع أيضا . وهي المذهب ، نص عليه . وعليه جماهير الأصحاب .
قال الزركشي : هذا اختيار أكثر الأصحاب .
قال ابن أبي موسى : هذا الصحيح من مذهب أحمد .
قلت : اختاره أبو بكر ، والقاضي ، وأصحابه ، والحلواني ، وابن الجوزي ، وصاحب [ الفائق ] ، وغيرهم ، وجزم به في [ العمدة ] ، وقدمه في [ المستوعب ] ، و [ الفروع ] ، وصححه في [ تصحيح المحرر ] ، وأطلقهما في [ الشرح ] ، و [ المحرر ] و [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] .
وعنه : يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك ، أو كان ثمنه . ولا يمنع ما استدانه لمؤنة نفسه ، أو أهله .
قال الزركشي : فعلى رواية عدم المنع : ما لزمه من مؤنة الزرع من أجرة حصاد وكراء أرض ونحوه يمنع . نص عليه . وذكره ابن أبي موسى وقال : رواية واحدة . وتبعه صاحب [ التلخيص ] .
وحكى أبو البركات رواية : أن الدين لا يمنع في الظاهر مطلقا .
قال الشيخ تقي الدين : لم أجد بها نصا عن أحمد . انتهى .
وعنه : يمنع ، خلا الماشية . وهو ظاهر كلام الخرقي .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 400)
فوائد :
الأولى : في الأموال : ظاهرة ، وباطنة :
فالظاهرة : ما ذكره المصنف من الحبوب والمواشي ، وكذا الثمار .
والباطنة : كالأثمان ، وقيمة عروض التجارة ، على الصحيح من المذهب . وعليه الأكثر .
وقال أبو الفرج الشيرازي : الأموال الباطنة : هي الذهب والفضة فقط . انتهى .
وهل المعدن من الأموال الظاهرة ، أو الباطنة ؛ فيه وجهان : وأطلقها في [ الفروع ] و [ ابن تميم ] و [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] :
أحدهما : هو من الأموال الظاهرة . وهو ظاهر كلام الشيرازي على ما تقدم .
الثاني : هو من الأموال الباطنة .
قلت : وهو الصواب ؛ لأنه أشبه بالأثمان ، وقيمة عروض التجارة . قال في [ المغني ] : الأموال الظاهرة : السائمة ، والحبوب ، والثمار .
قال في الفائق ، : ولمنع في المعدن كذا في الأصل . ولعله ( ويمنع ) . وقيل : لا .(7/70)
الثانية : لا يمنع الدين خمس الركاز ، بلا نزاع .
الثالثة : لو تعلق بعد تجارة أرش جناية ، منع الزكاة في قيمته ؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة ، بخلاف الزكاة . وجعله بعضهم كالدين . منهم صاحب [ الفروع ] ، في حواشيه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 401)
الرابعة : لو كان له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بما عليه من الدين، جعل في مقابلة ما عليه من الدين وزكى ما معه من المال، على إحدى الروايتين.
قال القاضي: هذا قياس المذهب.
ونصره أبو المعالي اعتبارا بما فيه الحظ للمساكين. وعنه: يفعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه. صححه ابن عقيل . وقدمه ابن تميم وصاحب [الحواشي]، و [الرعايتين]، و [الحاويين]، وأطلقهما في [ الفروع] ، و[شرح المجد]، و[الفائق].
وينبني على هذا الخلاف ما إذا كان بيده ألف، وله ألف دينار على مليء، وعليه مثلها، فإنه يزكي ما معه على الأولى لا الثانية. قاله في [الفروع] . وقدم في [الفائق]، و[الرعايتين]، و[الحاويين] هنا، جعل الدين مقابلا لما في يده، وقالوا: نص عليه، ثم قالوا: أو قيل: مقابلا للدين.
الخامسة : لو كان له عرض تجارة بقدر الدين الذي عليه، ومعه عين بقدر الدين الذي عليه، فالصحيح من المذهب: أنه يحمل الدين في مقابلة العرض، ويزكي ما معه من العين. نص عليه في رواية المروذي وأبي الحارث، وقدمه في [الفروع]، و[الحواشي]، و[ ابن تميم ].
وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الذي جعل في مقابلته، وحكاه ابن الزاغوني رواية، وتابعه في [الرعايتين]، و[الحاويين]، وغيرهم. وإلا اعتبر الأحظ . وأطلقهما في [الرعايتين]، و[الحاويين].
وقيل: يعتبر الأحظ للفقراء مطلقا. فمن له مائتا درهم وعشر (دنانير) قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه، وزكى ما معه. ومن له
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 402)
أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما، جعل قبالة دينه الغنم وزكى شاتين.(7/71)
السادسة : دين المضمون عنه، يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن. على الصحيح من المذهب، خلافا لأبي المعالي.
السابعة: لا تجب الزكاة في المال الذي حجر عليه القاضي للغرماء، كالمال المغصوب؛ تشبيها للمنع الشرعي بالمنع الحسي.
هذا الصحيح من المذهب. اختاره المصنف، والشارح، والقاضي، وقدمه في [الرعايتين].
وقال الأزجي في [النهاية]: هذا بعيد، بل إلحاقه بمال الديون أقرب. اختاره أبو المعالي . وظاهر الفروع: إطلاق الخلاف.
وقيل: إن كان المال سائمة زكاها لحصول النماء والنتاج من غير تصرف، بخلاف غيرها.
وقال أبو المعالي : إن قضى الحاكم ديونه من ماله، ولم يفضل شيء من ماله. فهو الذي ملك نصابا وعليه دين. قال: وإن سمى لكل غريم بعض أعيان ماله، فلا زكاة عليه مع بقاء ملكه؛ لضعفه بتسليط الحاكم لغريمه على أخذ حقه. انتهى.
وإن حجر عليه بعد وجوبها، لم تسقط الزكاة. على الصحيح من المذهب.
وقيل: تسقط إن كان قبل تمكنه من الإخراج.
قال في [الحواشي]، و[ ابن تميم ]: وهو بعيد. ولا يملك إخراجها من المال؛ لانقطاع تصرفه. قاله المصنف والشارح.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 403)
وقال ابن تميم : والأولى أن يملك ذلك كالراهن. وهما وجهان. وأطلقهما في [الفروع]. فإنه قال: لا يقبل إقراره بها. وجزم به بعضهم. ولا يقبل إقرار المحجور عليه بالزكاة. وتتعلق بذمته، كدين الآدمي . ذكره المصنف، والشارح، وأبو المعالي . وهو ظاهر ما قدمه في [الفروع] وعنه: يقبل كما لو صدقه الغريم.(7/72)
ويأتي زكاة المرهون في فوائد الخلاف الآتي آخر الباب. قوله: (والكفارة كالدين في أحد الوجهين) وحكاهما [أكثرهم] روايتين. وأطلقهما في [الهداية]، و[المغني]، و [الشرح] ، و[الحاويين] ، [والفائق] ، [والفروع] ، [والحواشي] ، [ وابن تميم ] ، [والمحرر] : إذا لم يمنع دين الآدمي الزكاة، فدين الله- من الكفارة والنذر المطلق، ودين الحج ونحوه- لا يمنع بطريق أولى. وإن منع الزكاة، فهل يمنع دين الله؛ فيه الخلاف.
أحدهما: هو كالدين (الذي) للآدمي. وهو الصحيح من المذهب. صححه المجد، وابن حمدان في [رعايته] . وهو قول القاضي وأتباعه. وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج. وقال: نص عليه. وهو الذي احتج به القاضي في الكفارة.
الوجه الثاني: لا يمنع وجوب الزكاة.
فائدتان:
إحداهما : النذر المطلق، ودين الحج ونحوه كالكفارة، كما تقدم. وقال في [المحرر] : والخراج من دين الله ، وتابعه في [الرعايتين] ، [والحاويين] ، وغيرهم. قاله القاضي، وابن البنا، وغيرهما. ففيه الخلاف
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 404)
في إلحاقه بديون الآدميين.
وأما الإمام أحمد، فقدم الخراج على الزكاة.
وقال الشيخ تقي الدين : الخراج ملحق بديون الآدميين. ويأتي، لو كان الدين زكاة، هل يمنع؟ عند فوائد الخلاف (في الزكاة هل تجب) في العين أو في الذمة؟
الثانية: لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة فيه. على الصحيح من المذهب.
وقال ابن حامد : فيه الزكاة. فقال في قوله: (إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة) فشفي، ثم حال الحول قبل أن يتصدق بها: وجبت الزكاة.
وقال في [الرعاية]: إن نذر التضحية بنصاب معين.
وقيل: أو قال: جعلته ضحايا، فلا زكاة. ويحتمل وجوبها إذا تم حولها قبلها. انتهى.(7/73)
ولو قال: (علي لله أن أتصدق بهذا النصاب إذا حال الحول) وجبت الزكاة على الصحيح من المذهب. اختاره المجد في شرحه. وقيل: هي كالتي قبلها. اختاره ابن عقيل، وأطلقهما [ ابن تميم ]، و [الفروع].
فعلى الأول: تجزئه الزكاة (منه) على أصح الوجهين. ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا؛ لكون الزكاة صدقة. وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجهما، أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟
وقال ابن تميم : وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا. وقيل: يدخل
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 405)
النذر في الزكاة وينويهما معا. انتهى [الإنصاف] (3/ 24) وما بعدها. .(7/74)
خامسا: التعزير بالمال:
اختلف العلماء في التعزير بالمال.
وفيما يلي ذكر أقوالهم ومداركهم مع ما تيسر من مناقشات بعضهم لبعض:
1 - النقل عن المالكية :
أ- قال الشاطبي : إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك، حسبما ذكره الغزالي . على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأجمع العلماء على منعه.
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا يلائم تصرفات الشرع. مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما.
قال: فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله إحدى نعله وشطر عمامته.
قلنا: المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية، وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية, فيكون استرجاعا للحق، لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 406)
الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع. هذا ما قال. ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال، كما قال الغزالي.
وأما مذهب مالك : فإن العقوبة في المال عنده ضربان:
(أحدهما): كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح. على أن ابن العطار في [رقائقه] صغى إلى إجازة ذلك. فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال إليه ابن رشد . ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال: إن ذلك من باب العقوبة في المال، وذلك لا يجوز على حال.
(والثاني): أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه، فالعقوبة فيه عنده ثابتة، فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه: إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر.(7/75)
وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر، وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء.
ووجه ذلك: التأديب للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك.
ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 407)
فإنه يكسر على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه ما تقدم [الاعتصام] للشاطبي (2/ 123). .
ب- قال ابن فرحون في أثناء الكلام على التعزير: ومنها: إباحته صلى الله عليه وسلم بسلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
ومنها: أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما بتحريق الثوبين المعصفرين.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية، ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة.
ومنها: هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة.
ومنها: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة.
ومنها: أخذه شطر مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فلم يعرض له أحد.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر.(7/76)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 408)
ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره.
ومنها: مصادرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عماله بأخذ شطر أموالهم، فقسمها بينهم وبين المسلمين.
ومنها: أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة.
ومنها: أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة.
ومنها: أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش. وغير ذلك مما يكثر تعداده. وهذه قضايا صحيحة معروفة [تبصرة الحكام] على هامش [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك] (2/ 261). .(7/77)
2 - النقل عن الشافعية :
أ- قال الشيرازي : وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض، وعزره على المنع والغلول . وقال في القديم: يأخذ الزكاة وشطر ماله، ومضى توجيه القولين في أول الزكاة.
قال النووي في شرح ذلك: إذا لزمته زكاة فمنعها أو غلها- أي: كتمها - وخان فيها أخذ الإمام أو الساعي الفرض منه، والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله. وقال في القديم: يأخذه، وسبق شرح القولين بدليلهما وفروعها في أول كتاب الزكاة.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 409)
قال الشافعي في [المختصر] في آخر باب صدقة الغنم السائمة: ولو غل صدقته عزر إذا كان الإمام عادلا، إلا أن يدعي الجهالة، ولا يعزر إن لم يكن الإمام عادلا. هذا نصه.
قال أصحابنا: إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الإمام ثم اطلع عليه أخذ فرضه، فإن كان الإمام أو الساعي جائرا في الزيادة، بأن يأخذ فوق الواجب أو لا يصرفها مصارفها لم يعزره، لأنه معذور في كتمه، وإن كان عادلا فإن لم يدع المالك شبهة في الإخفاء عزره؛ لأنه عاص آثم بكتمانه، وإن ادعى شبهة بأن قال: لم أعلم تحريم كتمانها، أو قال: ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل أو نحو ذلك، فإن كان ذلك محتملا في حقه لقرب إسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره.
قال السرخسي : فإن اتهمه فيه حلفه، وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يقبل قوله وعزره [المهذب] وعليه [المجموع] (6/ 172، 173) . .
ب- قال ابن حجر : حديث: سنن النسائي الزكاة (2444),سنن أبو داود الزكاة (1575),مسند أحمد بن حنبل (5/4),سنن الدارمي الزكاة (1677). في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد قال يحيى بن معين في هذه الترجمة: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز ثقة.(7/78)
وقال أبو حاتم : هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 410)
وقال الشافعي : ليس بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به. وكان قال به في القديم.
وسئل عنه أحمد، فقال: ما أدري ما وجهه. فسئل عن إسناده، فقال: صالح الإسناد.
وقال ابن حبان : كان يخطئ كثيرا، ولولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه.
وقال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا.
وقال ابن الطلاع في [أوائل الأحكام]: بهز مجهول.
قال ابن حزم : غير مشهور بالعدالة. وهو خطأ منهما، فقد وثقه خلق من الأئمة، وقد استوفيت ذلك في [تلخيص التهذيب].
وقال البيهقي وغيره : حديث بهز هذا منسوخ. وتعقبه النووي بأن الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ.
والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فإنه قال في سياق هذا المتن: لفظة وهم فيها الراوي، وإنما هو: سنن النسائي الزكاة (2449),سنن أبو داود الزكاة (1575),سنن الدارمي الزكاة (1677). فإنا آخذوها من شطر ماله، أي: نجعل ماله شطرين، فيتخير عليه المصدق، ويأخذ الصدقة من خير الشطرين؛ عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا . نقله ابن الجوزي في [جامع المسانيد] عن الحربي . والله الموفق [تلخيص الحبير] (2/ 160, 161). .(7/79)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 411)
3 - النقل عن الحنابلة:
أ- قال ابن قدامة : وإن منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم. منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم. وكذلك إن غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه.
وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن عبد العزيز : يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: سنن النسائي الزكاة (2444),سنن أبو داود الزكاة (1575),مسند أحمد بن حنبل (5/4),سنن الدارمي الزكاة (1677). في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون، لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء .
وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن إسناده؟ فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي في سننهما.
ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي الزكاة (659),سنن ابن ماجه الزكاة (1789),سنن الدارمي الزكاة (1637). ليس في المال حق سوى الزكاة .
ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك.
واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر:
فقيل: كان في بدء الإسلام، حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه.
وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 412)
من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه، فيكون المراد بماله ها هنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2/ 435). .(7/80)
ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية : و( التعزير بالعقوبات المالية ) مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك. كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: لا، بل احرقهما ، وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن. فإنه صحيح البخاري الأدب (5796),صحيح مسلم الجهاد والسير (1802),سنن النسائي الجهاد (3150),سنن ابن ماجه الذبائح (3195),مسند أحمد بن حنبل (4/48). لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: " افعلوا .
فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة.
ومثل: هدمه لمسجد الضرار، ومثل: تحريق موسى للعجل المتخذ إلها، ومثل: تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل: ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير.
ومثل: أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 413)
الذي يباع فيه الخمر، ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل: تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما.(7/81)
ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل.
ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه. وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليس العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة.
وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 414)
لبعض النصوص لعله (إلا بعض نصوص) إلخ. توهمه ترك العمل إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ.
ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له؛ ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا. ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.
وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات، كالصلاة والزكاة والصوم. وعقوبات ؛ إما مقدرة، وإما مفوضة. وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني وإلى مالي، وإلى مركب منهما.
فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. والمالية: كالزكاة. والمركبة: كالحج.
والكفارات المالية: كالإطعام. والبدنية: كالصيام. والمركبة: كالهدي يذبح.(7/82)
والعقوبات البدنية: كالقتل والقطع. والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 415)
الكفار وأخذ أموالهم.
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير.
فالأول المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها مثل: الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها. فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي، مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد .
ومثل ذلك: أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها. والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه. وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم.
واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد. وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيد وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية. وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه. هذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؟ وذلك لما
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 416)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر .(7/83)
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات : مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها؛ ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير : أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير. وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر. وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش، وهو الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك- يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه.
وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع، فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه.
وعمر أتلفه؛ لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 417)
المدينة إما قليلا وإما معدومين.
ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه, ففي [المدونة] عن مالك بن أنس : أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه. وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم , ورأى أن يتصدق به, وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية, وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا. لكن الأول أشهر عنه, وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش, وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه, ونفع المساكين بإعطائهم إياه, ولا يهراق.(7/84)
قيل لمالك : فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك, إذا كان هو غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم : هذا في الشيء الخفيف منه, فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك, وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام, يريد في الصدقة بكثيره.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره , وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا, وذلك إذا كان هو الذي غشه.
وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو, وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه, فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان . قال في
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 418)
الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار, وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق, وقال: تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا. وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين.
فأنكر عليه ابن القطان , وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ : وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين. وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله.
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش, إما بإزالة الغش , وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب : قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب : فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق, وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب.(7/85)
قال عبد الملك بن حبيب : ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به, ويكسر الخبز إذا كثر ويسلم لصاحبه, ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله, ويبين له غشه, هكذا العمل فيما غش من التجارات.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 419)
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (28/ 109) وما بعدها. .
ج- قال ابن القيم : وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي .
وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع:
منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
ومثل: أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها, فأذن لهم, فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر.
ومثل: هدمه مسجد الضرار .
ومثل: تحريق متاع الغال.
ومثل: حرمان السلب الذي أساء على نائبه.
ومثل : إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر .
ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة.
ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة, عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومثل: أمره لابس خاتم الذهب بطرحه, فطرحه فلم يعرض له أحد.
ومثل: تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 420)
ومثل: قطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر.
ومثل: تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية.
وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها.(7/86)
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل ساغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك.
وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها.
والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها.
فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد. وإذا ارتفع عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضا. فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ.
قال ابن رشد في كتاب [البيان] له: ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك.
فقد قال مالك في [المدونة]. (إن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 421)
المغشوش في الأرض) أدبا لصاحبه.
وكره ذلك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به.
ومنع من ذلك في رواية أشهب، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإن قتل نفسا.
وذكر ابن الماجشون عن مالك - في الذي غش اللبن- مثل الذي تقدم في رواية أشهب.
قال ابن حبيب : فقلت لمطرف وابن الماجشون : فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يهراق ولا ينهب.
قال ابن حبيب : ولا يبدده الإمام، وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن أن لا يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ثم يسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، وهكذا العمل في كل ما غش من التجارات، وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم.(7/87)
وروي عن مالك : أن المستحسن عنده أن يتصدق به؟ إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه. ولا يهراق.
وقيل لمالك : فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو الذي غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم : هذا في الشيء الخفيف ثمنه، فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، تزيد
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 422)
في الصدقة بكثير.
قال ابن رشد : قال بعض الشيوخ: وسواء- على مذهب مالك - كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره.
وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه. فأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه.
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك، لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال، وذلك أمر كان في أول الإسلام.
ومن ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: سنن النسائي الزكاة (2449),سنن أبو داود الزكاة (1575),سنن الدارمي الزكاة (1677). إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا ، وروي عنه في جريبة النخل: سنن النسائي قطع السارق (4959). أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال ، وما روي عنه: صحيح مسلم الحج (1364),سنن أبو داود المناسك (2037),مسند أحمد بن حنبل (1/170). أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه .
ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله. والإجماع على أنه لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا. والقياس: أنه لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، انتهى كلامه.(7/88)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 423)
وقد عرفت أنه ليس مع من ادعى النسخ نص ولا إجماع.
والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر، ثم جعل قول ابن القاسم أولى، ونسخ النصوص بلا ناسخ . فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب، بل هو إجماع الصحابة. فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا، ولم ينكره منهم منكر، وعمر يفعله بحضرتهم، وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا: منسوخ ومتروك العمل به.
وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته. ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال: لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه، يؤدب فاعل ذلك بالإخراج من السوق.
وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال: هذا اضطراب في جوابه، وتناقض من قوله، لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها للمساكين، قال: وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله.
وفي [تفسير ابن مزين ]، قال عيسى : قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا: إنه يقام من السوق، فإنه أشق عليه. يريد: من أدبه بالضرب والحبس [الطرق الحكمية] ص (266) وما بعدها. .(7/89)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 424)
الخلاصة:
أولا: حق ولي الأمر في الجباية :
مما تقدم يتبين ما يأتي:
1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي: بهيمة الأنعام والحبوب والثمار. والأموال الباطنة هي: النقدان وعروض التجارة. أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة.
2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه؛ لحديث: صحيح البخاري الإيمان (25),صحيح مسلم الإيمان (22). أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها، مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له، وقتالهم معه، والمحافظة على حقوق مستحقيها، وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر.
3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل: يجب دفعها إلى عماله؛ لعموم آية: سورة التوبة الآية 103 خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 425)
وبالمصالح وبقدر الحاجات وبمن أخذ من قبل, ولأنه يقصد لها.
وقيل: يجوز لرب المال, أن يفرقها بنفسه أو وكيله , ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها.
4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه.
وقيل : الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام, وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة.(7/90)
والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه.
5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل : يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة , على ما تقدم , وبذلك تبرأ ذمة دافعيها, والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله , وقيل : لا يدفعها له, بل يحتال لإخفائها مه, ثم يخرجها بنفسه, أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية, وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله أنه ينبغي ألا يدفعها له, ويجب توزيعها على مستحقيها , فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته, وإن لم يطلبها لم تدفع له, وبل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية.
6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها, بل يتقبل من أربابها ما بينوه, وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به؛ لأنهم
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 426)
مؤتمنون على أموالهم, إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تحب فيه الزكاة من الأموال, فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.
ثانيا : زكاة عروض التجارة .
مما تقدم يتبين ما يأتي:
1 - العروض جمع عرض , فقيل: هو ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة.
وقيل : هو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه, من الثياب والحيوان والعقار وسائر المال, إذا قصد به التجارة.(7/91)
2 - ذهب أهل الظاهر إلى أن العروض لا زكاة فيها ؛ لحديث سنن الترمذي الزكاة (620),سنن النسائي الزكاة (2477),سنن أبو داود الزكاة (1574),سنن ابن ماجه الزكاة (1790),مسند أحمد بن حنبل (1/132),سنن الدارمي الزكاة (1629). عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولأن الزكاة عبادة من العبادات مبنية على التوقيف, والنص إنما ورد في الدراهم والدنانير والسوائم والحبوب والثمار, وبقي ما عدا ذلك على الأصل, ولا يثبت بالقياس؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا زكاة في العروض.
ويجاب : عن الأول بحمله على ما ليس للتجارة . ومعناه: لا زكاة في عينه, بخلاف الأنعام, وهذا التأويل متعين؛ ليجمع بينه وبين الأحاديث.
وعن الثاني بأنه ورد النص.
وعن الثالث بأنه قد ضعفه الشافعي والبيهقي وغيرهما, فلا حجة فيه. وعلى فرض صحته فهو محمول على عرض ليس للتجارة ؛
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 427)
جمعا بينه وبين الأحاديث وبين الرواية الأخرى عنه.
وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لعموم أدلة القرآن, ولدلالة السنة والأثر والمعنى , كما سبق في الإعداد ص : ( 36, 40, 45).
3 - اختلف القائلون بوجوب الزكاة في عروض التجارة. فمنهم من أوجبها في كل حول؛ لعموم أدلة وجوب الزكاة في المال إذا حال عليه الحول ولا مخصص لها.
وذهب الإمام مالك رحمة الله إلى أن التاجر ينقسم إلى قسمين :
مدير وغير مدير , فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله , فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك على ما عنده من الناض.
وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق, وكذلك من كسدت سلعته, فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى بيعها , وإن قامت أحوالا, فإذا باعها زكاها لحول واحد ص: (26) وما بعدها .(7/92)
وحجته : أن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه؛ فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عين.
ويجاب عن ذلك: بأن سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول متوفران , فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم وبأنه دليل اجتهادي مقابل للنص , ولا اجتهاد مع النص.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 428)
4 - يشترط الحنفية ومن وافقهم لوجوب الزكاة كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية , ولا يشترط مالك , وحجته العمومات .
والجواب: أنها محمولة على الفاضل عن الحوائج الأصلية. ويرجع إلى ص ( 22) . ويشترطون أيضا نية التجارة مقارنة لعمل التجارة .
أما المالكية فلهم شروط خمسة : أن لا يكون مما في عينه زكاة كالفضة , وأن يكون مملوكا بالشراء, وأن ينوي به التجارة عند الشراء, وأن يكون الثمن الذي اشترى به ذلك العرض عينا وعرضا ملك بشراء, وأن يبيع من العرض بعين نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل لو درهما في المدير . ص ( 34) .
ويشترط الشافعية : أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع , وأن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة . ص (42)
أما الحنابلة : فيشترطون أن يملكه بفعله كالبيع, وأن ينوي عند تملكه أنه للتجارة , وعن أحمد رواية أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية, وعليه فلا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابله عروض, بل متى نوى به التجارة صار للتجارة , ومما تقدم يعلم أن النية شرط عند الجميع.
5 - تقوم عروض التجارة بالأحظ للفقراء, وقيل : بما اشتريت به, فإن لم تكن دخلت عليه بأحد النقدين فإنه يقومها بالنقد الغالب. وقيل : يقومها بالنقد الغالب مطلقا. وقيل: يقومها بما شاء: ومدارك هذه الأقوال الاجتهاد . ص (21, 22) .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 429)
6 - تضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة, أو يقوم الذهب والفضة ويضمهما إلى قيمة العروض بالقيمة أو بالإجزاء , ومدرك كل من القولين الاجتهاد ص: (20) .(7/93)
7 - إذا ادعى من طلبت منه الزكاة أن ما بيده من العروض لم ينو به التجارة , أو أنه أدى زكاته, أو لم يحل عليه الحول, فقيل : يقبل؛ لأنه عبادة كالصلاة , فهو مؤتمن عليها: وقيل: لا يقبل إن اتهم ؛ بناء على العمل بقاعدة القرائن ؛ لما سبق في رقم (6) من ملخص الأمر الأول.
ثالثا : الدين الذي للإنسان على غيره هل تلزمه زكاته؟
1 - قسم أبو حنيفة الديون ثلاثة أقسام: قوي , وضعيف , متوسط فالقوي: هو الذي وجب بدلا عن مال التجارة , ولا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما , فكلما قبض أربعين درهما أدى درهما واحدا.
والضعيف : ما وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث أو بصنعه كالوصية , أو وجب عما ليس بمال كالمهر, فيزكيه إذا قبضه كله وحال عليه الحول بعد القبض.
والوسط : ما وجب له بدلا عما ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة, فقال: تجب فيه الزكاة قبل القبض ولا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم, فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى , وقال: لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض. وهو أصح الروايتين عنه. ومدركه
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 430)
اجتهادي يرجع إليه في ص: (53).
2 - الديون عند المالكية تنقسم إلى أربعة أقسام: دين من فائدة , ودين من غصب , ودين من قرض, ودين من تجارة.
فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام:
أحدها : أن يكون من ميراث ونحوه, فلا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبضه ويحول عليه الحول من بعد القبض.
الثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده , فإذا قبضه, وحال عليه الحول بعد القبض زكاه.
الثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية , فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه الزكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض, وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاة ساعة يقبضه.(7/94)
الرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة , فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني, وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل كما إذا أجر نفسه ثلاث سنين بستين دينارا فيقبضها معجلة.
فقيل: يزكي إذا حال ما يجب له من الإجارة, وذلك عشرون دينارا .
وقيل : يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار.
وقيل: لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني, فإذا مر زكى عشرين ؛ لأن ما ينوي بها من العمل دين عليه, فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء, فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 431)
وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان:
أحدهما : وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض.
الثاني : أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم قبضه كدين الفائدة , وقد قيل : إنه يزكيه للأعوام الماضية.
وأما دين القرض: فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين.
وأما المدير فقيل : يقومه، وقيل : لا يقومه، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان, يدير أحدهما , ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير أخرجه بذلك عن الإدارة.
وأما دين التجارة : فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة يقومه المدير , ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام, ولزكاة الدين لسنة واحدة أربعة شروط:
أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها , أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل.
وأن يقبض من المدين.
وأن يكون المقبوض عينا ذهبا أو فضة, ولو كان القابض له موهوبا له من رب الدين أو أحال ربه به ممن له عليه دين على المدين.
وأن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات, كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام, أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 432)(7/95)
3 - قسم الشافعية الديون إلى ثلاثة أقسام:
غير لازم : كدين الكتابة, ولا زكاة فيه بلا خلاف عندهم.
ولازم : وهو ماشية , ولا زكاة فيه بلا خلاف ؛ لأن ما في الذمة لا توصف بأنها سائمة , والسوم شرط.
والثالث: أن يكون دراهم أو دنانير أو عروض تجارة وهو مستقر, ففيه قولان مشهوران.
القديم : لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين.
والجديد الصحيح باتفاق الأصحاب: وجوب الزكاة في الدين على الجملة , وفيه تفصيل يرجع إليه ص : (65).
4 - قسم الحنابلة الدين إلى قسمين :
دين على معترف به باذل له, فعلى صاحبه زكاته, إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى؛ لأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل القبض , كما لو كان على معسر؛ ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة, وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به, وإنما يزكيه لما مضى ؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به؛ فلزمته زكاته كسائر الأموال.
وقيل: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه؛ فلزمه إخراج زكاته كالوديعة . ورد بالفرق, فإن الوديعة بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظها فيده كيده. وقيل: ليس في الدين زكاة؛ لأنه غير نام ؛ فلم تجب زكاته كعروض القنية.
الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحدا أو مماطل به , ففي
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 433)
وجوبها روايتان:
إحداهما : لا تجب؛ لأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال.
الثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون , قال : إذا كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى .(7/96)
وروي نحوه عن ابن عباس , رواهما أبو عبيد , ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه؛ فوجبت زكاته لما مضى كالدين على مليء . ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما. وظاهر كلام أحمد : لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل .
رابعا: هل الدين يمنع وجوب الزكاة؟
مما تقدم يتبين ما يلي:
1 - منع الدين للزكاة:
أـ يشترط الحنفية ومن يوافقهم : أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد حالا أو مؤجلا , والحجة في ذلك أثر عثمان رضي الله عنه : ( هذا شهر زكاتكم , فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ) . وفي رواية : ( فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله). قاله بمحضر من الصحابة ولم يعارض؛ فكان إجماعا.
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذ كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه وهذا نص: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 434)
ووجه الدلالة ظاهر، ولأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء، ولأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم.
ب- وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، كقوله تعالى: سورة التوبة الآية 103 خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل أثر عثمان رضي الله عنه ص: (98).
ج- مذهب الشافعية : وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أو غيره، وسواء دين الله ودين الآدمي، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر ص: (104).(7/97)
وهذا إحدى الروايات الثلاث في المذهب.
والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، ولأنه مسلم ملك نصابا حولا فوجب عليه الزكاة كمن لا دين عليه. ويجاب عن الأول بأن العمومات خصصها أثر عثمان رضي الله عنه، وعن الثاني بأنه يخالف من لا دين عليه، فإنه غني يملك نصابا ص: 107 .
د- أما الحنابلة ومن يوافقهم: فإن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، والحجة لهذا القول ما سبق من أدلة الحنفية .
وأما الأموال الظاهرة فروي عن أحمد :
أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها؛ لما سبق من الأدلة.
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 435)
والرواية الثانية: لا يمنع الزكاة فيها، لما سبق من الأدلة.
والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة: أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها.
وفي رواية ثالثة: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة ص ( 107 ).
وأما دين الله كالكفارة ففيه وجهان:
أحدهما : يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لما سبق من الأدلة، ولأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصوم (1852),صحيح مسلم الصيام (1148),سنن الترمذي الصوم (716),سنن النسائي الأيمان والنذور (3816),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310),سنن ابن ماجه الصيام (1758),مسند أحمد بن حنبل (1/362),سنن الدارمي الصوم (1768). دين الله أحق أن يقضى . ويناقش ذلك بالفرق، فإن دين الآدمي آكد، والمطالبة تتوجه به.
والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين، فهو كأرش الجناية ص: (58 ) وما بعدها.
2 - يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب، أو ينقص ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغنى عنه.(7/98)
وإذا كان له مالان وأحدهما لا زكاة فيه، والآخر فيه الزكاة، كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض، وهذا مذهب مالك وأبي عبيد .
قال أصحاب الشافعي : وهو مقتضى قوله، لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه، فوجب عليه زكاتها، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا.
وظاهر كلام أحمد : أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 436)
في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف ، إن كانت العروض للتجارة زكاها ، وإن كانت لغير التجارة فلا شيء عليه .
وهذا مذهب أبي حنيفة ؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح ، فجعل الدين في مقابلته أولى ، كما لو كان النصابان زكويين .
ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية ، وإن لم يكن فاض عن حاجته فلا يلزم صرفه لوفاء الدين ؛ لأن الحاجة أهم .
3 - بناء على قول من يقول : الدين يمنع وجوب الزكاة ، وأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي ، فإذا أقر بوجوب الزكاة قبل الحجر فإن صدقه الغرماء ثبتت وأخذت ، وإن كذبوه فالقول قوله بيمينه ؛ لأنه أمين . وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان ؟
فيه ثلاثة أقوال في اجتماع حق الله تعالى ، ودين الآدمي ، ومداركها اجتهادية .
وإذا أقر بالزكاة بعد الحجر ، فقيل : يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء . وقيل : يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته .
وفي ذلك تفاصيل ذكرت في الإعداد يمكن الرجوع إليها ، وقد تركناها اختصارا .
خامسا : التعزير :
اتفق الفقهاء على جواز التعزير بالضرب والسجن والنفي ونحوها من العقوبات البدنية عند وجود ما يقتضيها .
واختلفوا في جوازه بالعقوبات المالية :
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 437)(7/99)
فقال بعضهم: بالمنع؛ لأن العقوبات المالية من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع، وتأولوا ما ورد من أخذ عمر شطر مال خالد رضي الله عنهما بأنه أخذ ما رأى أن خالدا استفاده بالولاية. وأقر جماعة بأن التعزير بالمال قد كان أول الإسلام، ثم زعموا أنه نسخ بالإجماع على تركه.
واستشهدوا لذلك: بأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة حتى أخذها منهم، ولم ينقل عنه أنه زاد عليها، ولو كان لنقل، فدل ذلك على الإجماع على تركها. وستأتي مناقشة ذلك إن شاء الله.
وقال بعضهم: يجوز لولي الأمر التعزير بالعقوبات المالية.
واستدلوا على ذلك بوقائع كثيرة:
منها: ما كان تأديبا بها من النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها: ما كان من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، دون نكير من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، حتى من نزلت به العقوبة.
وعلى هذا فدعوى المانعين أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد للشريعة به ولا يلائم تصرفات الشرع دعوى يكذبها الواقع الكثير.
وكذا ما زعموه من النسخ أو الإجماع على الترك باطل بوجود ذلك في تصرفات الخلفاء الراشدين على مشهد من الصحابة دون نكير، وبوجود الخلاف بعدهم في ذلك بين أئمة الفقهاء .
ورأى بعضهم أن التعزير بالمال في المال الذي وقعت فيه الإساءة وتوابعه بإتلافه أو مصادرته وحرمانه منه ونفع المساكين ونحوهم به، غير
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 438)
أنهم اختلفوا هل يقتصر في التعزير على اليسير أو يعم القليل والكثير ؟
هذا ما تيسر إيراده ، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/100)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 439)
قرار رقم 63 في 25/ 10/ 1398هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في مدينة الطائف في الفترة ما بين يوم 14/ 10/ 1398 هـ حتى نهاية يوم 25/ 10 / 1398 هـ. قد أعاد النظر في اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة وما أعد بشأنها من بحث علمي من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هيئة كبار العلماء، وذلك بناء على ما ورد من المقام السامي إلى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد برقم 3/ ش/ 293 في 4/ 1/ 1397 هـ.
وبعد تداول الرأي والنظر في أقوال أهل العلم وأدلتهم ولعدم وجود أدلة شرعية تدل على وجوب قيام ولي الأمر بمطالبة الناس بزكوات أموالهم الباطنة ومحاسبتهم على ذلك، بل إن كلام أهل العلم يدل على خلاف ذلك، فأكثر العلماء يقول: إن زكاة الأموال الباطنة وهي النقود وعروض التجارة موكول أمر إخراجها لأصحاب الأموال وهم مصدقون في ذلك فلا يحاسبون ولا يتهمون بأنهم قاموا بإخفاء شيء منها، بل ذلك أمر بينهم وبين الله سبحانه، ولكن إذا طلبها ولي الأمر فدفعوها له برئت ذمتهم منها.
لما تقدم فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى بالأكثرية ما يلي:
1 - الاكتفاء بما نص عليه أهل العلم من ترك أمر محاسبة الناس على أموالهم أو مطالبتهم ببيانات عما يملكونه من نقود وعروض تجارة ، بل يؤخذ منهم ما دفعوه من الزكاة اتباعا لما درج عليه سلف الأمة في ذلك وما كان عليه العمل في عهد جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، وما سبقه من عمل الدولة السعودية منذ نشأتها.
2 - إبقاء العمل على ما هو عليه في جباية زكاة الحبوب والثمار وأن
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 440)(7/101)
يوكل إلى لجنة فيها مندوب من المحكمة والإمارة وهيئة الأمر بالمعروف تتولى جبايتها وصرفها على مستحقيها ويبقى العمل في جباية زكاة الماشية على ما كان عليه ويعطون مكافأة على عملهم ولو من الزكاة.
3 - كل من تحقق لدى ولاة الأمر أنه لا يدفع الزكاة أو يجحد شيئا منها فإن ولي الأمر يجري ما يلزم نحو أخذها منه وتعزيره التعزير الشرعي جزاء ما ارتكب بعد ثبوت ذلك عليه.
4 - يوصي المجلس بإيجاد صندوق خاص يودع فيه ما يورد لصندوق الدولة من زكاة وتصرف منه بعد ورودها على مستحقيها بواسطة لجنة من أهل الثقة والأمانة في كل بلد.
ولا شك أن ولاة الأمر -وفقهم الله- إذا انتهجوا ما أوضح في هذا القرار فإن ذمتهم بريئة، وسوف يكون لذلك أثره الحميد وعواقبه الطيبة؛ لأن الخير والبركة في اتباع سلفنا الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وبالله التوفيق.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن منيع لي وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون متوقف ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا الفقرة الرابعة ... صالح بن لحيدان(7/102)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 441)
"وجهة نظر"
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فبعد الاطلاع على خطاب سمو نائب رئيس مجلس الوزراء رقم 3/ ش/ 293 وتاريخ 4/ 1/ 1397هـ وعلى مشروع اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة المقدم لمجلس الوزراء لدراسته وبعد التأمل والدراسة ظهر لي أن هذه اللائحة ليست لائحة تنفيذية بالمعنى الاصطلاحي المعروف لدى خبراء الإدارة والتنظيم بحيث تكون خاصة بالأعمال الإدارية لجباية الزكاة وإنما تشتمل اللائحة على مواد تشريعية، ومنها المواد الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، وعلى مواد تنفيذية إدارية.
وحيث إن المواد التشريعية في مشروع اللائحة ليست شاملة لأحكام الزكاة حتى يقال ببقائها للفائدة، وليست شاملة لأهم أحكام الزكاة حتى يقال بالاكتفاء بالأهم عن المهم، مع أن بعض ما تناولته موضع خلاف بين أهل العلم كما هو الحال في الديون على من تجب عليه الزكاة هل يسقط من الزكاة ما يقابلها من الأموال مطلقا أم أن ذلك خاص بالأموال الباطنة أو أنها لا تسقط من الزكاة شيئا، وكذلك الأمر بالنسبة للديون المملوكة للمكلف بالزكاة على مليء أو غيره هل يزكيها مطلقا، ومتى يزكيها، وهل تقابل بما يزيد عند المكلف بها عن حاجته من أموال القنية غير الأثمان.
وحيث إن الأمور التشريعية يرجع إليها في مصادرها كالحال بالنسبة لمسائل العبادات والمعاملات وما تقتضيه الخصومات من أحكام قضائية ومتى أشكل منها على الجهة المختصة بجبايتها ما يقتضي الأمر استجلاءه أمكن الرجوع إلى الجهة المختصة بالإفتاء.
وعليه فإنني أرى استبعاد كل ما يتعلق بالأمور التشريعية من اللائحة لما ذكر وليصدق عليها أنها لائحة تنفيذية لجباية الزكاة مفروض في جميع موادها أن
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 442)
تكون إدارية محضة.(7/103)
وحيث إن غالب المواد التنفيذية الإدارية في هذه اللائحة مبني على المواد التشريعية المذكورة فيها فإن بقاءها بعد استبعاد المواد التشريعية فيها لا يستقيم إلا بعد إعادة النظر فيها وصياغتها صياغة إدارية لا تنبني على ما استبعد منها. وتستند على الأسس التالية:
أ- إن لولي الأمر أن يطلب من الزكاة ما يرى المصلحة العامة تقتضي طلبه.
ب- الأصل في المسلم أنه مؤتمن على شئون دينه من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك.
ج- متى توفرت القرائن لاتهام من يتساهل أو يتلاعب بأداء الزكاة أو بعضها بأي طريق من طرق الاحتيال أو التهرب عن أدائها فإن للقضاء الفصل في عدوانه بما يقتضيه الوجه الشرعي. وللجهة المختصة بجبايتها بذل الجهد في تحصيل ما يدعم الادعاء.
د- تعيين الجهة المختصة بجباية الزكاة وإعطائها من الصلاحيات ما تستطيع به إنفاذ ما وكل إليها.
هـ- الرجوع في تقدير العقوبات الجزائية إلى القضاء المختص.
و- الأخذ بالأصل في أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء.
هذا ما ظهر لي، والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عضو الهيئة
عبد الله بن سليمان بن منيع
24 / 10 / 1398 هـ(7/104)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 443)
(6)
ملاحظة بعض التجار على جباية الزكاة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 444)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 445)
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة بعض التجار على جباية الزكاة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد :
فبناء على ما جاء في كتاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء 3/ م/ 11256 وتاريخ 11/ 5/ 96 هـ. إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من الرغبة في دراسة ما لاحظه بعض التجار على جباية الزكاة الشرعية التي يدفعونها لمصلحة الزكاة والدخل، وكذا التأمينات الاجتماعية التي تستحصلها الدولة من غير السعوديين العاملين بالمملكة، وبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بالرياض آخر ربيع الأول وأول ربيع الآخر عام 1397 هـ من إعداد بحث في ذلك الموضوع أعدت اللجنة الدائمة فيه بحثا يتضمن ما يأتي:
أولا: حق ولي الأمر العام في جباية الزكاة .
ثانيا: مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه .
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 446)
ثالثا: مناقشة أو دراسة ما لاحظه التجار على استحصال تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة .
وفيما يلي الكلام على ذلك، والله الموفق .(7/105)
أولا- حق ولي الأمر في الجباية :
1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي بهيمة الأنعام والحبوب والثمار، والأموال الباطنة هي النقدان وعروض التجارة، أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة.
2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه، لحديث : صحيح البخاري الإيمان (25),صحيح مسلم الإيمان (22). أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له وقتالهم معه والمحافظة على حقوق مستحقيها وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر.
3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل يجب دفعها إلى عماله، لعموم آية سورة التوبة الآية 103 خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الآية، ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وبقدر الحاجات
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 447)
وبمن أخذ من قبل، ولأنه يقصد لها، وقيل: يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه أو وكيله، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها.(7/106)
4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة، فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه، وقيل: الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة، والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه.
5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل: يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة على ما تقدم، وبذلك تبرأ ذمة دافعيها والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله، وقيل: لا يدفعها له، بل يحتال لإخفائها عنه، ثم يخرجها بنفسه أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية، وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه ينبغي ألا يدفعها له، ويجب توزيعها على مستحقيها، فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته، وإن لم يطلبها لم تدفع له، بل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية.
6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها، بل يتقبل من أربابها ما بينوه وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به، لأنهم مؤتمنون على أموالهم إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.(7/107)
ثانيا: مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه .
بناء على ما تقدم في بيان حق ولي الأمر العام العادل في جباية زكاة
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 448)
الأموال الظاهرة والباطنة، وما جاء فيه من أنه ليس له ولا لعماله التنقيب عن أموال الزكاة الباطنة، بل يأخذ من أربابها زكاتها على ما أقروا به؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم بعض ما تجب فيه الزكاة، فيقوم بالبحث والاستقصاء عنها حتى يتبين له الواقع ويأخذ الزكاة بمقتضاه.
وبناء على ما جاء في كتاب معالي وزير المالية والاقتصاد الوطني رقم (7296/ 95) وتاريخ 23/ 10/ 95 هـ إلى معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وكتابه إليه أيضا رقم ... ..... وتاريخ ... ..... أنه لوحظ على بعض التجار عدم إخراج الزكاة وعلى بعض المؤسسات والشركات أنها لا تقدم حسابات نظامية يركن إليها في تحديد مقدار الزكاة الواجبة عليها بالضبط فاضطرت الجهة المختصة إلى اتباع طريقة لتحديد الأموال الخاضعة للزكاة عن طريق حصر حجم مستوردات تلك المؤسسات والشركات والاسترشاد بذلك قصدا إلى إيجاد قاعدة واحدة تطبق على الجميع وتزيل أسباب معاملة التجار بطرق مختلفة.
بناء على ما تقدم يمكن أن يقال: إن من واجب ولي الأمر في مثل هذه الأحوال جباية زكاة الأموال الباطنة واختيار أقوم الطرق وأقربها إلى تقدير الأموال التي تجب فيها الزكاة تحقيقا للعدل بين أرباب الأموال والمستحقين للزكاة.
وقد فعل ذلك ولي الأمر لوجود مقتضيه فاختار من طرق التقدير ما أشار به المختصون وترك بعض ما وجب من الزكاة إلى التجار ليوزعوه على المستحقين من الأقارب والجيران ومن يقصدهم لذلك، وهذا من حقه وتصرفاته شرعا، ومن وجد من التجار تعسفا من العمال فليرفع بيانا بذلك إلى ولي الأمر ليزيل شكاته .(7/108)
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 449)
ثالثا: ملاحظات بعض التجار على تحصيل تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة .
إن ما ذكره التجار من الملاحظات في ذلك ينحصر في أربعة أمور:
الأول : أن ما تنفقه الدولة على الجباية أكثر مما تأخذه.
الثاني : أنه يؤخذ مبلغ 5% على الموظف و 8% على المؤسسات والشركات تأمينات اجتماعية وهو كثير.
الثالث : أن العمال غير السعوديين يشترطون عند تعاقد المؤسسات والشركات معهم ألا تخضع مرتباتهم لاستقطاع زكاة منها أو تأمينات اجتماعية فتقبل المؤسسات والشركات هذا الشرط لحاجتها إليهم، وتتحمل هذه الاستقطاعات عنهم، وهذا مما يعوق الإنتاج الصناعي، ويضعف القدرة على منافسة السلع المستوردة.
الرابع : أن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي ولا تعمل له شيئا؟ لأنه يغادر المملكة خلال سنة أو سنتين فلا يستطيع استرجاع ما دفعه، وهذه أحدثت بلبلة في البلد.
وبعد دراسة اللجنة لذلك كتبت ما يلي :
أولا : إن المقارنة بين ما تنفقه الدولة على جباية الزكاة وما تأخذه ومعرفة أيهما أكثر عملية حسابية تتعلق بأمر اقتصادي والنظر في مثل هذا إلى ولي الأمر العام فهو الذي ينظر في ذلك بنفسه أو بأجهزته المختصة، ويرتب على ذلك ما يراه مصلحة من الاستمرار في جباية الزكاة؛ إقامة لهذه الشعيرة ومحافظة عليها أو ترك إخراجها وتوزيعها على مستحقيها إلى أرباب الأموال مع الرقابة.
ثانيا : إن النظر في كثرة ما يستقطع من الموظف ومن المؤسسات
(الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 450)(7/109)
والشركات وقلته من حق ولي الأمر والأجهزة المختصة التي يسند إليها النظر في مثل هذا، وقد فعل، فقد قامت لجنة وزارية ببحث هذا الموضوع وانتهت بالتوصية بعدم تعديل ما يتعلق بخضوع العمال الأجانب لنظام التأمينات الاجتماعية وصدرت الموافقة السامية على هذه التوصية برقم 18693 وتاريخ 4/ 8/ 93، أما النظر في حل ما يستقطع أو تحريمه فإنه يرجع إلى مجلس الهيئة.
ثالثا : إن النظر في تأثير ما يستقطع من المؤسسة أو الشركة من أجل عمالها- سواء ما يخصها من النسبة وما يخص العامل الأجنبي- على الإنتاج وتعويقه إياه، وإضعافه القدرة على منافسة السلع المستوردة من الأمور الفنية الاقتصادية التي يرجع فيها ولي الأمر إلى المتخصصين في ذلك.
رابعا : إذا كان العمال الأجانب قد اشترطوا عند التعاقد معهم ألا تخضع مرتباتهم للاستقطاع فلهم شرطهم ويلزم الوفاء به من اشترط عليهم من أرباب المؤسسات أو الشركات، وإذا تم الوفاء لهم بهذا الشرط، فلا توجد منهم بلبلة، ولا يصح أن يقال: إن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي؛ لأنه لا يسترجع شيئا مما دفعه. وإنما ذلك دفاع من المؤسسات والشركات عن نفسها لا عن عاملها وشكاية منها لا منه. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/110)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 1)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 2)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 3)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 4)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 5)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 6)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 7)
(1)
نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 8)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 9)
بسم الله الرحمن الرحيم
نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الأول، والأولى من شهر ربيع الآخر عام 1397 هـ من دراسة البحث المعد في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر في الدورة الحادية عشرة، وطلبه كلمة في ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وأخرى في ضابط المثلة الممنوعة شرعا، وثالثة في مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه.
تتميما للبحث كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المسائل الثلاث ما يلي:
والله الموفق.(7/111)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 10)
1 - ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا :
لما كان تمييز الإيثار المحمود شرعا من غيره يتوقف على تتبع النصوص التي وردت فيه من الكتاب والسنة وتدبرها مع الاستعانة بكلام العلماء السابقين في ذلك - كان لزاما علينا أن نستعرض جملة من الآيات والأحاديث في الإيثار، وجملة أخرى من كلام أهل العلم فيه، ثم نستخلص من ذلك المطلوب إن شاء الله فنقول:
قال الله تعالى: (في سورة الحشر) سورة الحشر الآية 9 وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأثنى جل شأنه على الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد، وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها؛ حيث لم يجدوا في دخيلتهم حرجا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، وبإيثارهم المهاجرين على أنفسهم بما شرحته أحاديث الإخاء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، بهذا وأمثاله أثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح.
وقال البخاري [صحيح البخاري] كتاب التفسير (6/59، 60). : باب قوله: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الآية الخصاصة: فاقة، المفلحون: الفائزون بالخلود، الفلاح: البقاء، حي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 11)(7/112)
على الفلاح: عجل، وقال الحسن : حاجة: حسدا. حدثني يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صحيح البخاري تفسير القرآن (4607),صحيح مسلم الأشربة (2054),سنن الترمذي تفسير القرآن (3304). أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله " فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة" فأنزل الله عز وجل: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .(7/113)
وقال البخاري أيضا: باب قول الله عز وجل: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح البخاري المناقب (3587),صحيح مسلم الأشربة (2054),سنن الترمذي تفسير القرآن (3304). أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يضم أو يضيف هذا؟" . فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله الليلة أو عجب من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 12)
فعالكما" ، فأنزل الله: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [صحيح البخاري] (6/225/226). .
ففي قصة هذا الأنصاري وأسرته مع الضيف إيثار له بالطعام على نفسه وعلى أسرته مع شدة حاجتهم إليه، لكنه إيثار لا يقضي على أحد منهم، ولا يفوت عليه عضوا من أعضائه، بل يمكنهم استدراك ما فاتهم في مستقبل أمرهم إن شاء الله. وقد أثنى الله عليهم بذلك ثناء عاطرا وكتب لهم الأجر الجزيل جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من الفعل الجميل.(7/114)
وقال البخاري : باب إجابة دعاء من بر والديه [صحيح البخاري] (7/77، 78). : حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، قال: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري الأدب (5629),صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743),مسند أحمد بن حنبل (2/116). بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 13)
الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء .... الحديث.
وقال البخاري : عن عائشة رضي الله عنها [صحيح البخاري] (2/114، 115). . قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: صحيح البخاري الزكاة (1352),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629),سنن الترمذي البر والصلة (1915),مسند أحمد بن حنبل (6/166). من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار .
في الحديث الأول من هذين الحديثين إيثار الرجل والديه بالطعام على نفسه وسائر أسرته مع شدة حاجتهم إليه، وقد رضي الله عنه بذلك فاستجاب دعاءه حينما أصابته وصاحبيه شدة.(7/115)
وفي الحديث الثاني إيثار المرأة ابنتيها على نفسها بالتمرة مع حاجتها إليها، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها ما فعلت، وأخبر بأن مثل ذلك يكون وقاية لمن فعل ابتغاء وجه الله من النار. وإيثار عائشة رضي الله عنها المرأة وابنتيها على نفسها ومن معها بالتمرة وليس عندها غيرها.
وقال البخاري [صحيح البخاري] (4/222، 223). : باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 14)
فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مهيم؟ " قال: تزوجت، قال: "كم سقت إليها؟ " قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب - شك إبراهيم .(7/116)
حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد : قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري المناقب (3722),صحيح مسلم النكاح (1427),سنن الترمذي البر والصلة (1933),سنن النسائي النكاح (3388),سنن أبو داود النكاح (2109),سنن ابن ماجه النكاح (1907),مسند أحمد بن حنبل (3/205),موطأ مالك النكاح (1157),سنن الدارمي النكاح (2204). مهيم " قال: تزوجت امرأة من الأنصار فقال: "ما سقت فيها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: "أولم ولو بشاة .
في قصة الإخاء بين المهاجرين والأنصار إيثار سعد بن الربيع عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وبإحدى زوجتيه، فقد أمره أن يقسم ماله بينهما، وأمره أن ينظر إلى أعجب زوجتيه إليه؛ ليطلقها فيتزوجها عبد الرحمن بعد انتهاء عدتها، وهذا الإيثار أعلى مما قبله، لكنه بما ينفع غيره ولا يضر بمن بذله ضررا فادحا، ومع ذلك يمكنه استدراك ما فاته.
وقال البخاري [صحيح البخاري] (5/33، 34). : حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 15)(7/117)
إسماعيل عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: "انثرها لأبي طلحة" قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثا.
في هذا الحديث إيثار أبي طلحة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بالحياة والسلامة من المكاره فقد فداه بنفسه فقال: (نحري دون نحرك) وجوب عليه بحجفة له، وهذا إيثار أعلى مما قبله إيثار بالنفس، وذلك في ميدان الجهاد وقد أوجبه الله على المؤمنين، وكتب لمن قتل فيه الشهادة، ولمن أصيب فيه الأجر الجزيل. ثم هو إيثار واجب بالنفس والأعضاء لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وفيه أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده حتى أصيبت بشلل.
وروى مسلم [صحيح مسلم] رقم الحديث (1789). . عن أنس بن مالك رضي الله عنه، صحيح مسلم الجهاد والسير (1789),مسند أحمد بن حنبل (3/286). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 16)(7/118)
يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فقال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا .
وروى البخاري [صحيح البخاري] (5/33). . عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: صحيح البخاري المغازي (3831),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2412),سنن الترمذي الأدب (2830),سنن ابن ماجه المقدمة (130),مسند أحمد بن حنبل (1/186). لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين أبويه كليهما - يريد: حين قال: " فداك أبي وأمي - وهو يقاتل.
وروى البخاري [صحيح البخاري] (5/33). أيضا عن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد : صحيح البخاري المغازي (3833),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2411),سنن الترمذي الأدب (2829),سنن ابن ماجه المقدمة (129),مسند أحمد بن حنبل (1/92). يا سعد، ارم فداك أبي وأمي .
وقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وآخرون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى قضى بعضهم نحبه.
وفي الموضوع أحاديث وآثار اكتفينا عن إيرادها بما ذكرنا؛ لكونها في معناه.
مما تقدم يتبين: أن الإيثار المحمود شرعا يمكن أن يضبط بما أباح الشرع البذل في جنسه أو حث عليه ورغب فيه. . ، كالأموال ومنافع الأبدان وثمار الأفكار ونحو ذلك مما هو من حظوظ النفس ومتعها، أو أوجب بذل النفس فيه،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 17)(7/119)
كالجهاد في سبيل الله نصرة للدين وإقامة لحدوده وإحياء لمعالمه، ومع ذلك لا يسلم نفسه لعدوه، ولا يستسلم للأحداث، بل يستعد بما استطاع من قوة، ليحفظ نفسه وإخوانه، وليكون سيف الله المسلول على الأعداء، فإن قتل كان شهيدا، وإن رجع منتصرا سالما أو مصابا أجر وغنم ، فله الحسنيان أو إحداهما على كل حال.
أما الإيثار بما حرم الله عليه البذل في جنسه فلا يجوز، بل هو جريمة يعاقب عليها.(7/120)
وقال ابن القيم : قال صاحب [ المنازل ] [مدارج السالكين على منازل السائرين] (2/291-304). :
فصل: ومن منازل سورة الفاتحة الآية 5 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ منزلة الإيثار، قال الله تعالى: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالإيثار ضد الشح؛ فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود الزكاة (1698),مسند أحمد بن حنبل (2/195). إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا .
فالبخيل: من أجاب داعي الشح، والمؤثر: من أجاب داعي الجود. كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 18)
البذل، قال عبد الله بن المبارك : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.
وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان.
وسمي بمنزل (الإيثار)؛ لأنه أعلى مراتبه، فإن المراتب ثلاثة.
إحداها: أن لا ينغصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة (السخاء).
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيء. أو يبقي مثل ما أعطى فهو (الجود).(7/121)
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو مرتبة (الإيثار) وعكسها (الأثرة) وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: صحيح البخاري المناقب (3582),صحيح مسلم الزكاة (1059),سنن الترمذي المناقب (3901),مسند أحمد بن حنبل (3/167). إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا.
وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين. حتى أنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة. فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل. فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه، لكثرة من عاده.
وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 19)
امرأة فحضر زوجها. فقالت: إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها. فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر. وهو يفعل ذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا. فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا. قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قراي؟ ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف.(7/122)
فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير، سبحانه، استئثار الناس على الأنصار بالدنيا -وهم أهل الإيثار- ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك -مع كونك من أهل الإيثار- فاعلم أنه لخير يراد بك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
و ( الجود ) عشر مراتب .
أحدها: الجود بالنفس. وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس، إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 20)
فأطلق فيه ولم يفصل
ثم ذكر بقية مراتب الجود ثم قال: قال: (وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا.
يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم. مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين. ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا. وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس.
وأما قوله: (ولا يقطع عليك طريقا) أي: لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله مالا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن. وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره. وما أقل المؤثرين الله على غيره.(7/123)
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه. أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله. فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود.
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله. ونظائر ذلك لا تخفى،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 21)
بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم.
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحدا. فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله. وأنت لا تعلم.
وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا.
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه.
وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.
وأجابوا عنه: بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه. فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت ؛ إذ لا تقرب في حق الميت. وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر. والله أعلم. اهـ - المقصود منه ثم ذكر الدرجتين الأخيرتين وقد تركناهما لعدم الحاجة إليهما في الموضوع.
وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي [الموافقات] (2/255- 263). . تحت عنوان:
المسألة الخامسة: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه بثمانية أقسام: نذكر منها الرابع لصلته بالإيثار في الجملة، قال:
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 22)(7/124)
وأما الرابع: فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم إن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكن له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به، وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بلده وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له ) إلى أن قال:
هذا كله مع اعتبار الحظوظ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان:
أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 23)(7/125)
محمود جدا، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام: صحيح البخاري الشركة (2354),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500). إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه. وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجاج لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام: فهم مني وأنا منهم ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر، إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .
وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم اللقطة (1728),سنن أبو داود الزكاة (1663),مسند أحمد بن حنبل (3/34). من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، وفي الحديث أيضا: سنن الترمذي الزكاة (660),سنن ابن ماجه الزكاة (1789),سنن الدارمي الزكاة (1637). أن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقضي استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجمع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا(7/126)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 24)
ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: صحيح البخاري الصلاة (467),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585),سنن الترمذي البر والصلة (1928),سنن النسائي الزكاة (2560),سنن أبو داود الأدب (5131),مسند أحمد بن حنبل (4/405). المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله: صحيح البخاري الأدب (5665),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586),مسند أحمد بن حنبل (4/270). المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله: صحيح البخاري الإيمان (13),صحيح مسلم الإيمان (45),سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016),سنن ابن ماجه المقدمة (66),مسند أحمد بن حنبل (3/272),سنن الدارمي الرقاق (2740). المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به، كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.(7/127)
والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين إصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وقالت له خديجة: إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 25)
قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه.
وجاءه رجل فسأله فقال: ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر رضي الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت ذكره الترمذي .
وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد، وهذا كثير. وهكذا كان الصحابة. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: سورة الإنسان الآية 8 وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا وما جاء في الصحيح في قوله: سورة الحشر الآية 9 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وما روي عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العول على إسقاط الحظوظ، وهو ضربان:
إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها، لتحل للمؤثر، كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح.(7/128)
وإيثار بالنفس، كما في الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت، وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 26)
غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا"، وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور، وفي المثل الشائع: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها: الإيثار، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام: سورة يوسف الآية 51 أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فآثرته بالبراءة على نفسها.
قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات، فإن الحق فيها لله، وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث، قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر، وهذا ما قال.
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا. أما أنه ليس بمحمود شرعا؛ فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر(7/129)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 27)
آخر أو لغير شيء. فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، إذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له، فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ. هذا تمام الكلام في القسم الرابع، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ. انتهى المقصود منه.(7/130)
2 - ضابط المثلة الممنوعة
نذكر فيما يلي بيان معنى المثلة، وما تيسر من الآيات والأحاديث فيها مع كلام بعض العلماء عليها؛ لنستخلص من ذلك ما يجوز من المثلة وما يمتنع، فنقول:
أولا: في [القاموس]: مثل: قام منتصبا كمثل بالضم مثولا.. وبفلان مثلا ومثلة بالضم نكل كمثل تمثيلا وهي المثلة بضم الثاء وسكونها ج مثولات ومثلات ). اهـ. المقصود منه.
وفي [ المفردات في غريب القرآن ] للراغب الأصفهاني :
والمثلة: نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه مثلات ومثلات وقد قرئ (من قبلهم المثلات) والمثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد وقد أمثل السلطان فلانا إذا نكل به ). اهـ. المقصود منه.
ثانيا: وفي تفسير ابن جرير : قوله تعالى: سورة الرعد الآية 6 وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 28)(7/131)
يقول تعالى ذكره: سورة الرعد الآية 6 وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يا محمد، مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية فيقولون: سورة الأنفال الآية 32 اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصيت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه، فمن أمة مسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة وأخرى بالخسف وذلك هو المثلات التي قال الله جل ثناؤه: سورة الرعد الآية 6 وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ والمثلات: العقوبات المنكلات، والواحدة منها مثلة، بفتح الميم وضم الثاء ثم تجمع المثلات كما واحد الصدقات صدقة ثم تجمع صدقات، وذكر أن تميما من بين العرب تضم الميم والثاء جميعا من المثلات فالواحدة على لغتهم منها مثلة، ثم تجمع مثلات كغرفة وغرفات، والفعل منه مثلث به أمثل مثلا بفتح الميم وتسكين الثاء فإذا أردت أنك أقصصته من غيره قلت: أمثلته من صاحبه أمثله إمثالا وذلك إذا قصصته منه) اهـ.
وفي [تفسير الكشاف] للزمخشري : قوله تعالى: سورة الرعد الآية 6 وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين فما بالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا، والمثلة العقوبة بوزن السمرة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 29)
والمثالة، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. ويقال: أمثلت للرجل من صاحبه أقصصته منه، والمثال القصاص. ثم ذكر قراءات في المثلات، ولغات فيها أغنى عنها ما تقدم.(7/132)
وروى البخاري عن مسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه باب قصة عكل وعرينة. أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة : وبلغنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
وفي الصحيح عن بريدة بن الحصيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل أنه قال: صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2613),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439). لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا.. .
وروى النسائي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي الضحايا (4440). لا تمثلوا بالبهائم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 30)
وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي الصيد والذبائح (4349),مسند أحمد بن حنبل (2/166). ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى به .
ثالثا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية [مجمع الفتاوى] (28/314، 315). :(7/133)
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل، كما قال الله تعالى: سورة النحل الآية 126 وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ سورة النحل الآية 127 وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
قيل: إنها نزلت لما مثل لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا أنزل الله هذه الآية- وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: سورة الإسراء الآية 85 وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وقوله: سورة هود الآية 114 وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 31)
وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل نصبر".
وفي [صحيح مسلم] عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:(7/134)
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2613),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439). اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ا هـ.(7/135)
الخلاصة
أولا : المثلة : كل ما كان فيه تشويه للخلق من سمل عين أو فقئها أو بقر بطن أو قطع عضو وأمثال ذلك سواء كان ذلك قصاصا أم مجرد نكاية وعقوبة، شفاء لغل وحق أم عبثا ولهوا.
ثانيا : ما كان منها قصاصا فهو جائز وتركه أولى؛ لقوله تعالى: سورة النحل الآية 126 وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وقوله: سورة الشورى الآية 40 وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الآيات.
وما كان منها في حي لمصلحته فهو جائز، وقد يجب، وقد يمنع حسب اختلاف الأحوال، ولمصلحة غيره، فهو محل نظر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 32)
واجتهاد، وما كان منها في ميت لمصلحته أو لحق غيره أو لمضطر فهو محل نظر واجتهاد، يعلم تفصيله مما تقدم في بحث (التشريع والقرنية)، وما كان منها عبثا ولهوا أو لمجرد شفاء غليل فهو محرم.(7/136)
3 - مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه .
سبق في الموضوع الأول من هذا البحث ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب تكريم المسلم ومن في حكمه حيا وميتا، والمحافظة على حرمته في نفسه وأعضائه وبشرته فلا يجوز الخروج عن مقتضى هذه الأدلة إلا بدليل يبيح لنا الاستثناء مما دلت عليه.
وسبق في الموضوع الثاني ما قرر العلماء من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما، تقليلا للضرر وتخفيفا للمشقة والحرج، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدم الأرجح منهما وعند تساويهما يرجح جانب الخطر؛ تقديما لدرء المفسدة على جلب المصلحة.
وسبق في الموضوع الثالث ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق بطنه أو جثته أو قطع عضو من أعضائه حيا أو ميتا وليس منه أخذ عين أو قرنيتها من إنسان لزرعها في إنسان آخر تحقيقا لمصلحته مع الإضرار بمن أخذت منه فعلى من يدعي جواز ذلك أن يأتي بدليل يرخص فيه؛ ليمكن استثناؤه من عموم الأدلة الدالة على حرمة المسلم ووجوب المحافظة على نفسه وأعضائه ووجوب مراعاة ذلك.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 33)
ونوردها نقلا عن الحنابلة من كتاب [المغني] له صلة بالموضوع.
قال أبو محمد بن قدامة رضي الله عنه: مسألة [المغني] (9/417). . (قال): ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقال مالك : إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده ولا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما: يأكل الطعام، وهو قول عبد الله بن دينار؛ لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة، كما لو بذله له صاحبه.(7/137)
ولنا: أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى، ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق، ولأن حق الآدمي تلزمه غرامة وحق الله لا عوض له.
(فصل): إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضر ويخاف أن يهلكه أو يمرضه.
(فصل): فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه، وقال بعض أصحاب الشافعي : له ذلك؛ لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو، كما لو وقعت فيه الأكلة.
ولنا: أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا نفسه ولا يتيقن حصول
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 34)
البقاء من أكله، أما قطع الأكلة في القاموس: الإكلة: الحكة، كالأكال والأكلة كغراب وفرحة. اهـ. المقصود منه. فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله.
(فصل): وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا، لأنه مثلة فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه.
وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي: أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا.(7/138)
وقال الشافعي وبعض الحنفية : يباح وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم. وقال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617). كسر عظم الميت ككسر عظم الحي واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافها في الضمان والقصاص ووجود صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت.
(مسألة): قال: (فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحصي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته) وجملته أنه إذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 35)
اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه؛ لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه؛ لأنه قتله بغير حق. وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر؛ لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه؛ لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر؛ لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لإمكان الوصول إليه دونها فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله، والأولى أن لا يجوز له ذلك لإمكان الوصول إليه بدونها، وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته. ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة. اهـ. المقصود منه.(7/139)
مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في [المغني]:
1 - أبيح للمضطر ما كان محرما عليه من أكل زرع غيره أو ثمره أو شرب لبن أنعامه بلا إذنه إبقاء على نفسه أو أكل الميتة إبقاء على يده حتى لا تقطع فيما لو أكل من الثمر ولم يصدق في دعوى اضطراره، وفي هذا دلالة على وجوب حفظ النفس والعضو وتحريم بذلها لغيره عند هؤلاء.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 36)
2 - لا يحل لمضطر أن يمتنع عن طعام أو شراب بذل إليه بعوض أو بغير عوض، وفي هذا دلالة على أن بذلك نفسه أو عضو منها أو تفويت شيء من ذلك ليس إليه، بل يجب عليه المحافظة على ذلك ما استطاع.
3 - في أكل المضطر بعض أعضائه خلاف، قيل: يمنع خشية أن يفضي إلى قتله، وقيل: يجوز ارتكابا لأخف الضررين.
4 - ليس للمضطر أن يقتل محقون الدم مطلقا أو يقطع عضوا من أعضائه لسد حاجته أو حفظ نفسه إجماعا، وإن وجده ميتا ففي جواز أكله منه؛ إيثارا لحق الحي ومنعه منه محافظة على حرمة الميت- قولان.
5 - من اضطر إلى طعام ووجده عند مستغن عنه وجب عليه أخذه ولو بعوض، فإن أبى صاحبه وهو مضطر إليه أيضا وجب تركه له، وإن كان مستغنيا عنه وجب أخذه منه كرها ولو بقتال وفي وجوب العوض عليه خلاف، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن قتل صاحب الطعام فهو هدر؛ لأنه ظالم وفي هذا دلالة على وجوب حفظ الإنسان نفسه وأعضاءه وإثمه بتفويت ذلك.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/140)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 37)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (62) وتاريخ 25/10/1398هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الثالثة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في النصف الأخير من شهر شوال عام 1398 هـ - اطلع المجلس على بحث نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بناء على اقتراح سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في كتابه رقم (4572/2/1/ د) واطلع على ما ذكره جماعة من المتخصصين في أمراض العيون وعلاجها عن نجاح هذه العملية، وأن النجاح يتراوح بين 50% و 95% تبعا لاختلاف الظروف والأحوال.
وبعد الدراسة والمناقشة، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
أولا: جواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها وغلب على الظن نجاح عملية زرعها ما لم يمنع أولياؤه، وذلك بناء على قاعدة: تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 38)
قرنية عينه مثلة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت، وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل.
ثانيا : جواز نقل قرنية سليمة من عين قرر طبيا نزعها من إنسان، لتوقع خطر عليه من بقائها، وزرعها في عين مسلم آخر مضطر إليها، فإن نزعها إنما كان محافظة على صحة صاحبها أصالة، ولا ضرر يلحقه من نقلها إلى غيره وفي زرعها في عين آخر منفعة له، فكان ذلك مقتضى الشرع، وموجب الإنسانية.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(7/141)
محمد بن جبير أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله خياط ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... عبد الله بن قعود متوقف في النقل من المسلم الميت فقط
عبد المجيد حسن أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد العزيز بن صالح غائب
رئيس الدورة محمد بن علي الحركان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(7/142)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 39)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (65) وتاريخ 7/ 2/ 1399هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد..
ففي الدورة الثالثة الاستثنائية لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من 1/2/1399هـ إلى 6 منه اطلع المجلس على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (7815) في 28/8/1398 هـ. المبني على ما ورد إليه من المقام السامي لإجراء ما يلزم نحو ما اقترحه المدعو/ فتوح بن سليمان النجار من إنشاء بنك إسلامي؛ لحفظ الدم للإسعاف السريع لجرحى المسلمين وقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم والاحتفاظ بكميات هائلة منه لإسعاف جرحى المسلمين.
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
أولا: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره عند الحاجة إلى ذلك لإسعاف من يحتاجه من المسلمين.
ثانيا: يجوز إنشاء بنك إسلامي لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم وحفظ ذلك لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على أن لا يأخذ البنك مقابلا ماليا عن المرضى أو أولياء أمورهم عوضا عما يسعفهم به من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 40)
الدماء، وألا يتخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين.
والله الموفق، وصلى الله على محمد .
هيئة كبار العلماء
عبد الله بن خياط لم يحضر الدورة ... سليمان بن عبيد راشد بن خنين لسبق صدور قرار بجواز نقل الدم ولكون بنوك الدم موجودة في البنوك الإسلامية فإنه لم يظهر لي ما يدعو إصدار هذا القرار ... عبد الله بن غديان متوقف عن إصدار القرار ... عبد الله بن قعود متوقف في الفقرة الثانية والأولى سبق أن صدر فيها قرار(7/143)
عبد الله بن محمد بن حميد لا داعي لإصدار قرار إذ أن السائل فرد من أفراد الناس وقد سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم عند الضرورة على أن لا يلحق بالمتبرع بدمه ضرر أيضا إذا أنا متوقف ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن جبير ... صالح بن غصون ... عبد الله بن منيع
رئيس الدورة ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد بن حسن ... صالح بن لحيدان سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم وأما البنوك في المستشفيات فلا حاجة إلى إعداد قرار جديد بهذا المخصوص ولذا توقفت(7/144)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 41)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (99) وتاريخ 6/ 11/1402هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال حتى السادس من شهر ذي القعدة 1402هـ - بحث حكم نقل عضو من إنسان إلى آخر بناء على الأسئلة الواردة فيه إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان منها السؤال الوارد من الدكتور نزار فتيح المدير التنفيذي بالنيابة والمستشار والمشرف على أعمال الإدارة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بكتابه المؤرخ في 15/8/ 1401 هـ، والسؤال الوارد من الشيخ عبد الملك بن محمود رئيس محكمة الاستئناف في نيجيريا المحالان إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بكتابيه رقم (1427) وتاريخ 16/6/1402 هـ، ورقم (590/ ب) وتاريخ 1/5/1402 هـ لعرضهما على المجلس. وقد رجع المجلس إلى قراره رقم (47) وتاريخ 20/8/1396 هـ الصادر في حكم تشريح جثة الإنسان الميت، وإلى قراره رقم (62) وتاريخ 25/10/1398 هـ الصادر في حكم نزع القرنية، وإلى قراره رقم (65) وتاريخ 7/2/1399 هـ الصادر في حكم التبرع بالدم وإنشاء بنك لحفظه، ثم استمع إلى البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 42)
للبحوث العلمية والإفتاء من قبل في حكم نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخره.
وبعد المناقشة وتداول الآراء قرر المجلس بالإجماع:
جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا ادعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه. كما قرر بالأكثرية ما يلي:(7/145)
أ- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
2 - جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وسلم.
هيئة كبار العلماء
حمد بن علي الحركان
سليمان بن عبيد راشد بن خنين أرى اشتراط إذن الإنسان المسلم قبل موته فيما ينقل من أعضائه بعد موته عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا ما أجمع عليه المجلس عبد الله بن محمد بن حميد لم يحضر الدورة لمرضه عبد العزيز بن صالح لم يحضر الدورة لظروف خاصة به محمد بن جبير صالح بن غصون رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف عبد الله خياط إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد المجيد حسن صالح بن لحيدان(7/146)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 43)
(2)
شارات الطيارين
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 44)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 45)
بسم الله الرحمن الرحيم
شارات الطيارين
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على المحضر رقم 3 من محاضر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة فيما بين 1 إلى 6 من شهر صفر عام 1399هـ الآتي نصه:
موضوع شارات الطيارين الذي قدمه قائد جناح التعليم بكلية الملك فيصل الجوية بخطابه المؤرخ في 25/6/1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومسألة تتويج شعارات وشارات أسراب الطائرات للقوات الجوية الملكية السعودية بآيات كريمة من القرآن الكريم، حيث ينتهي كل سرب إلى آية من الآيات التي تحث على الجهاد والشجاعة ونحو ذلك، وتلك الشعارات تلبس على ملابس الطيارين فوق الصدور، وتثبت على الطائرات وتحفر على المعدن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 46)
والخشب الجيد فتقدم هدايا لكبار الضيوف. فأحاله سماحة الرئيس العام إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم 1448/1 وتاريخ 29/6/1398 هـ لعرضه على المجلس.
وبعد أن استمع المجلس إلى الخطاب المذكور واطلع أعضاؤه على اللوحتين اللتين أرسلهما قائد جناح الكلية لهذا الغرض رأى:
أن يحال الموضوع إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء؛ ليعد فيه بحثا يشتمل على الحكم وتعليله مع نقل كلام أهل العلم في المسألة ثم يعرض في الدورة القادمة إن شاء الله.
وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك شمل ما يأتي:
أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله.
ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك.(7/147)
ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتبت فيه وقضاء حاجته به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه.
رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ أو النصر.
وبالله التوفيق.
وفيما يلي ذكر ذلك:(7/148)
أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله :
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن حجة على العالمين ومنهاجا للناس أجمعين، أنزله ليكون دستور أمة ومنهاج حياة، دستور أمة يحكمها بأوامره
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 47)
ونواهيه في جميع شئونها، ومنهاج حياة يحكم الفرد كذلك في عبادته ومعاملته وسلوكه، أنزله ليتعبد الناس بتلاوته، وليتدبروا معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، يؤمنون بمتشابهه، ويتلونه حق تلاوته، وليكون موعظة وذكرى تلين به قلوبهم وتقشعر منه جلودهم، وشفاء وطهرة يشفي النفوس ويطهرها من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وهدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: سورة العنكبوت الآية 51 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وقال تعالى: سورة المائدة الآية 49 وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وقال: سورة طه الآية 123 فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى الآية ، وقال تعالى: سورة يونس الآية 57 يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى: سورة الإسراء الآية 82 وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا وقال تعالى: سورة الزمر الآية 23 اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ(7/149)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 48)
وقال تعالى: سورة ق الآية 37 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وقال تعالى: سورة العنكبوت الآية 49 بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ
ولم ينزله سبحانه وتعالى ليكتب في لوحة معدنية أو خشبية أو غيرها، ليعلق على الطائرات ونحوها، ولا ليكتب كذلك على ملابس الطيارين ونحوهم فوق الصدور، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نزل عليه القرآن وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم- أنه اتخذه أو آيات منه شارة على كتفه أو صدره، ولا من خلفائه الراشدين وأتباعهم بإحسان، ولو كان شيء اتخذه على النحو المذكور؛ لبينوه، وسابقوا إلى فعله، رضوان الله عليهم أجمعين.
فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن اتخذه على النحو المسئول عنه فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منه عن جادة الهدى، وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم قولا أو عملا، ولا عمل به الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير القرون.(7/150)
ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك :
إن تشبه إنسان بآخر أو جماعة بأخرى في الأزياء والملابس أو في الأفعال والأخلاق أو في الشعار والمعاملة والمظاهر- مما يدل على تأثره بمن تشبه به، وميله إليه؛ لذلك نهى الله تعالى في كتابه عن التشبه بالكافرين وحذر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 49)
النبي صلى الله عليه وسلم من مضاهاتهم في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ومراسيمهم؛ خشية أن تنجذب نفسه إليهم وينجرف في تيارهم، وتتلاشى شخصيته فيهم، وذلك هو البلاء المبين.
أ- أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قاعدة عامة في التحذير من التشبه بالكافرين واستشهد لها بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبين وجه دلالة ما ساق من النصوص على ثبوت تلك القاعدة وشمولها فقال رحمه الله:
فصل: في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع
على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم
لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة، بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان ذلك عاما في جميع أنواع المخالفات أو خاصا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب.
ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا. وهنا نكتة -قد نبهت عليها في هذا الكتاب- وهي: أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون، لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة، بمعنى: أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 50)(7/151)
والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة " ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى ... إلى غير ذلك من الفوائد .
كذلك قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة، لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن ذلك بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة، ومخالفتهم دليلا على المصلحة .
واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران. أعني: الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه، وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا .
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم، أو الاستلزام، وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
فنحن نذكر في آيات الكتاب: ما يدل على أصل هذه القاعدة في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 51)
الجملة، ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها.
الآيات الآمرة بمخالفة أهل الكتاب .(7/152)
قال الله سبحانه: سورة الجاثية الآية 16 وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ سورة الجاثية الآية 17 وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ سورة الجاثية الآية 18 ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ سورة الجاثية الآية 19 إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أخبر سبحانه: أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 52)
من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه .(7/153)
النهي عن اتباع أهوائهم
وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر .
وفي هذا الباب قوله سبحانه: سورة الرعد الآية 36 وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ سورة الرعد الآية 37 وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ فالضمير هو في أهوائهم يعود -والله أعلم- إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن: من يهودي أو نصراني أو غيرهما، وقد قال تعالى: سورة البقرة الآية 120 وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك .
ومن هذا أيضا قوله تعالى: سورة البقرة الآية 120 وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ فانظر كيف قال في الخبر: " ملتهم " ، وقال في النهي: " أهواءهم " ؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 53)
في قليل أو كثير ، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم .(7/154)
ومن هذا الباب قوله سبحانه : سورة البقرة الآية 145 وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ سورة البقرة الآية 146 الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ سورة البقرة الآية 147 الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ سورة البقرة الآية 148 وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة البقرة الآية 149 وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ سورة البقرة الآية 150 وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال غير واحد من السلف: معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل سورة البقرة الآية 150 إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 54)
حكمة نسخ القبلة مخالفة للكافرين(7/155)
فقد بين الله سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة .
وقال سبحانه: سورة آل عمران الآية 105 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر ( سنن الترمذي الإيمان (2640),سنن أبو داود السنة (4596),سنن ابن ماجه الفتن (3991),مسند أحمد بن حنبل (2/332). أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله: صحيح البخاري الجمعة (1101). لا تكن مثل فلان ، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا- كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة .
وقال سبحانه لموسى وهارون: سورة يونس الآية 89 فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وقال سبحانه: سورة الأعراف الآية 142 وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وقال تعالى: سورة النساء الآية 115 وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 55)
إلى غير ذلك من الآيات .(7/156)
وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين، بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه، ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه .
صفات المؤمنين والمنافقين
قال سبحانه: سورة المائدة الآية 48 وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ سورة المائدة الآية 49 وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه .
واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه- كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات : سورة الحشر الآية 2 فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وقوله: سورة يوسف الآية 111 لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 56)
وأمثال ذلك. ومنه ما يدل على مقصودنا ، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود .(7/157)
ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا، فجميع الآيات دالة على ذلك، وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعض .
ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان هذا هو المقصود هنا .
وأما تمييز دلالة الوجوب، أو الواجب عن غيرها، وتمييز الواجب عن غيره، فليس هو المقصود هنا .
وسنذكر إن شاء الله : أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة، فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها، وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقريرات القاعدة الكلية العظيمة المنفعة وقال في موضع آخر: ما جاء من الأحاديث في التحذير من التشبه بالمغضوب عليهم والضالين :
ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأويل الآية -على ذلك- أصحابه رضي الله عنهم .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/327). لتأخذن كما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 57)
أخذت الأمم من قبلكم: ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم سورة التوبة الآية 69 كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً الآية ، قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب. قال: فهل الناس إلا هم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟(7/158)
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه .
وأما السنة: فجاءت الأخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك، وكذلك في الدين [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 107، 108). ثم ذكر ما يدل على ما ذكره، ورأينا الاقتصار على ما نقلناه؛ لحصول المقصود به .(7/159)
ب- قال الشاطبي رحمه الله: المسألة الحادية عشرة :
فإن الحديث الصحيح قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 58)
وذراعا بذراع، حتى دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم . قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن ، زيادة إلى حديث الترمذي الغريب، فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم .
وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: سنن الترمذي الفتن (2180),مسند أحمد بن حنبل (5/218). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خيبر الصواب: حنين. ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم ، وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع، وتزيد عليها بدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر، وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به، وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة، والله أعلم .(7/160)
وفي الحديث أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/367). لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بمأخذ الأمم والقرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع فقال رجل: يا رسول الله، كما فعلت فارس والروم. قال صلى الله عليه وسلم: وهل الناس إلا أولئك وهو بمعنى الأول، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل، فقوله: صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/367). حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها يدل على أنها تأخذ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 59)
بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها، فالذي يدل على الأول قوله: صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6889),صحيح مسلم العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (3/84). لتتبعن سنن من كان قبلكم.. الحديث، فإنه قال فيه: صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3269),صحيح مسلم العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (3/84). حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم .
والذي يدل على الثاني قوله: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال عليه السلام: سنن الترمذي الفتن (2180),مسند أحمد بن حنبل (5/218). هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها.. الحديث .
فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه . والله أعلم [الاعتصام] (2/245، 246). ج- قال محمد رشيد رحمه الله :
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة - أو التشبه بالنصارى :(7/161)
يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم، ووجهائهم إلى أوربا فيلبسون فيها لبوس الإفرنج ويتزيون بزيهم لا يدعون منه شيئا على أن زي هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس، فأكثر المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم، وهم في أوربا يلبسون البرنيطة، لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادا يعدهم الجمهور شذاذا، ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك، ويظن أكثر المسلمين أن لبس
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 60)
البرنيطة مخل بالدين الإسلامي، حتى إن [جريدة الحاضرة] تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام، وأجبناها يومئذ في [المنار] .
ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال لبس البرنيطة بالدين الإسلامي، قالوا: إن رجلا من مسلمي الترانسفال سأل العالم عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهدون ومهضومو الحقوق؛ لأنهم مسلمون، وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم في زيهم، ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة .(7/162)
فأجابه العالم: بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين، وأن ما قاله بعض الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد المصلحة، وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك، بل تحملوا كثيرا من الأذى في تركه، والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون. هذا ما سمعناه في المسألة، وقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدوه من المشكلات الدينية، وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الجبة الرومية، وهي من لبوس النصارى، ولبس الطيالسة الكسروية، وهي من لبوس مجوس الفرس، وكذلك الصحابة عليهم الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها، حتى قلنسوة النصارى بغير نكير، إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن غرقد لما خشي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 61)
على قومه الترف والسرف وفساد البأس والمنعة، فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي الأعاجم، وهو أمر للمصلحة لا للتشريع كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس الأعاجم .(7/163)
وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار، ولم ينكر ذلك أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء، ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج؛ لما كانوا عليه من الجمود على العادات، ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلا من أصول الإصلاح ، لا لأن تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعا من اقتباس الدولة كثيرا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي سبقت وبرزت فيه، وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين، نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعادته، وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة، وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن ذلك بحسب المصلحة، لا تقليدا محضا للأجنبي، ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون، وأن سبب لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع، وقد كان يلبس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط، بل لم يلبس هذه الجبة والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا العهد، ولكنه نهى عنها، ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام، فكان يتعذر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 62)
الوضوء بها، حتى كان يخرج يده من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما .(7/164)
وقد كنت كتبت في موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب [الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية] ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة، وذكرنا حكم التقليد فيها وقد جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه: قد علم مما تقدم: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم الرضوان- قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية، واستعملوا المياثر، وكل ذلك من لبوس الفرس، وأنهم لبسوا أيضا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس النصارى، والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر .
وقد ثبت في [الصحيحين ] أن صحيح البخاري اللباس (5462),سنن النسائي الطهارة (82),سنن أبو داود الطهارة (149),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (389),مسند أحمد بن حنبل (4/250),موطأ مالك الطهارة (73). النبي صلى الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء؛ لضيق أكمامهما الذي لا يمكن معه التشمير، ولبسوا أيضا البرود والحبر المخططة والمعلمة، وهي من لبوس اليمن، وتلك الثياب كانت كغيرها تجلب إليهم من العراق والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها إذ لم يكونوا أصحاب صنائع، وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس، ولا يحظر على شعب وقبيل استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق الخلق لذاتها، نعم، كان أكثر ما يلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الرداء والإزار تبعا لعادة قومه لا لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعا على أنه مناسب لحالة القطر الحجازي الحار، وإذ لم يرد في الشرع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 63)(7/165)
تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس؛ لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك- فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح، وهو إنما يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان)) انتهى المراد منه وبعد هذا تفصيل في تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان .
وقد حكم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع، فاستحبوا ما كرهته السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى ، وحجتهم: أنه صار عادة، فقد ورد في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء ، واتفق الفقهاء على أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام، ولغير الخيلاء مكروه شرعا، ثم إنك ترى مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على [الجامع الصغير]: إن كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصر ذلك عادة لهم كأهل مصر .
وقال النووي في [شرح مسلم ] نقلا عن القاضي عياض وأقره: وبالجملة: يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة، والله أعلم. وذكر الشمس الرملي في [شرح المنهاج] : أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال ، ثم قال: نعم، ما صار شعارا للعلماء يندب لهم لبسه، ليعرفوا بذلك فيسألوا وليطاعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص الشارع مندوبا شرعا، وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينه عنه الشارع نهيا صريحا، ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 64)(7/166)
حاجة، ليكونن وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على من اخترعه لهؤلاء العلماء من سلفهم الذين كانوا خيرا منهم باعترافهم، ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث السعة والطول، ولكنني أعلم أن أول من اتخذ لأهل العلم زيا مخصوصا فقلدوه فيه بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رح)، وما أظن أنه كان من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد، ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة كاستمرارها، ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى، ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب مصلحة، مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس، وهي من قلانس النصارى، كما في [البخاري وشرحه] .
أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي: أن ذلك تشبه بالنصارى الذين يجب علينا مخالفتهم و ....، وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه، وإنما هو مقيد بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة، بل تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن فضائل الآخر- وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل، وقد علمت أن النبي وأصحابه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 65)(7/167)
لبسوا زي المشركين والمجوس، بله النصارى الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودة لنا، وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا: أنه يكره أن يأتي المسلم أمرا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه، بل يأتيه أو يتركه للفائدة والمصلحة أو عدمهما، ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج (البرنيطة)؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم. وأما أهل الترانسفال وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم؛ لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل شيء على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعا إن كان محققا، ومندوب إن كان مظنونا، هذه هي القاعدة الشرعية، ولكن أكثر الناس عبيد العادات إلا الذين انسخلوا من التقليد الأعمى، وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في كتاب [الحكمة الشرعية] ونقلنا عنه نبذة في [منار السنة الأولى ]، فلتراجع [الإيضاح والتنبيه] ص 12- 14. .(7/168)
د- قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله :
فصل: وقد كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا لهدي المشركين، كما في [مستدرك الحاكم ] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هدينا مخالف لهديهم يعني: المشركين. قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي في [تلخيصه]. وقد رواه الشافعي في [مسنده] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 66)
ولفظه: هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه أنه كان يأمر بمخالفة أعداء الله تعالى وينهى عن التشبه بهم. فمن ذلك ما في الصحيحين، و[مسند الإمام أحمد] و[جامع الترمذي] و[سنن النسائي] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري اللباس (5553),صحيح مسلم الطهارة (259),سنن الترمذي الأدب (2764),سنن النسائي الطهارة (12),سنن أبو داود الترجل (4199),مسند أحمد بن حنبل (2/118). خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب .(7/169)
ومنها: ما في [صحيح مسلم] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيح مسلم الطهارة (260),مسند أحمد بن حنبل (2/366). جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس . ومنها: ما في [الصحيحين] و[المسند] و[السنن] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم هذا لفظهم سوى الترمذي، ولفظ الترمذي: صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود ثم قال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ الإمام أحمد : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى ، وأخرجه ابن حبان في [صحيحه] بهذا اللفظ، وفي رواية للنسائي : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فاصبغوا . ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مسند أحمد بن حنبل (5/265). خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب فقلنا: يا رسول(7/170)
الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون، فقال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب . ومنها: ما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي، عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنن أبو داود الصلاة (652). خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في [تلخيصه]، وقد رواه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 67)
الطبراني في [الكبير ]، ولفظه: وصلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود .
وما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: صحيح مسلم اللباس والزينة (2077),سنن النسائي الزينة (5317),مسند أحمد بن حنبل (2/207). رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار، ولا تلبسها ، وفي [الصحيحين] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إياكم والتنعم وزي أهل الشرك)، ورواه الإمام أحمد في [مسنده] بإسناد صحيح، ولفظه: (ذروا التنعم وزي العجم)، ورواه أيضا في [كتاب الزهد] بإسناد صحيح ولفظه: (إياكم وزي الأعاجم ونعيمها). قال ابن عقيل رحمه الله تعالى :
النهي عن التشبه بالعجم للتحريم، وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع، وقال أيضا: إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم .(7/171)
فصل: وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى، كما في [المسند] و[سنن أبي داود ] وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنن أبو داود اللباس (4031). من تشبه بقوم فهو منهم صححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني : إسناده حسن. قال شيخ الإسلام: وقد احتج الإمام أحمد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 68)
وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: سورة المائدة الآية 51 وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وقال الشيخ أيضا في موضوع آخر: قوله صلى الله عليه وسلم: سنن أبو داود اللباس (4031). من تشبه بقوم فهو منهم يوجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا. انتهى .
وفي [جامع الترمذي ] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى . قال ابن مفلح في قوله: سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى [الإيضاح والتنبيه] ص 12-13. .(7/172)
ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتب فيه وقضاء الحاجة به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه .
أ- قال المنذري رحمه الله في [مختصر سنن أبي داود] رحمه الله: قال أبو داود في [سننه] رحمه الله [مختصر سنن أبي داود] ص 26. ، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء (18:16) عن أنس قال: سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه . وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه .
قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس : سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 69)
والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام .
وقال النسائي : وهذا الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. هذا آخر كلامه. وهمام هذا: هو أبو عبد الله همام بن يحيى بن دينار الأزدي والعوذي مولاهم البصري، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم، فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال يزيد بن هارون : همام قوي في الحديث، وقال يحيى بن معين : ثقة صالح، وقال أحمد بن حنبل : همام ثبت في كل المشايخ، وقال ابن عدي الجرجائي : وهمام أشهر وأصدق من أن يذكر له حديث منكر، أوله هكذا في الأصل. حديث منكر، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدم أيضا في يحيى بن أبي كثير، وعامة ما يرويه مستقيم. هذا آخر كلامه.
وإذا كان حال همام كذلك فيترجح ما قاله الترمذي. وتفرده به لا يوهن الحديث. وإنما يكون غريبا، كما قال الترمذي. والله عز وجل أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله:(7/173)
18 - وقال في آخر باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء، بعد قول الحافظ زكي الدين . وإنما يكون غريبا كما قال الترمذي، والله عز وجل أعلم.
قلت: هذا الحديث رواه همام، وهو ثقة، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس . قال الدارقطني في [كتاب العلل]: رواه سعيد بن عامر وهدية بن خالد عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 70)
عمرو بن عاصم، فرواه عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). أنه كان إذا دخل الخلاء موقوفا، ولم يتابع عليه. ورواه يحيى بن المتوكل ويحيى بن الضريس عن ابن جريج عن الزهري عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام، ورواه عبد الله بن الحرث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن صحيح البخاري اللباس (5529),سنن الترمذي اللباس (1741),سنن النسائي الزينة (5214),مسند أحمد بن حنبل (2/119),موطأ مالك الجامع (1743). أنس : أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فاضطرب الناس الخواتيم، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا ألبسه أبدا . وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج، انتهى كلام الدارقطني .(7/174)
وحديث يحيى بن المتوكل الذي أشار إليه رواه البيهقي من حديث يحيى بن المتوكل عن ابن جريج، ثم قال: هذا شاهد ضعيف. وإنما ضعفه؛ لأن يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد : واهي الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه الجماعة كلهم. وأما حديث يحيى بن الضريس، فيحيى هذا ثقة، فينظر الإسناد إليه. وهمام -وإن كان ثقة صدوقا احتج به الشيخان في [الصحيح]- فإن يحيى بن سعيد كان لا يحدث عنه ولا يرضى حفظه، قال أحمد : ما رأيت يحيى أسوأ رأيا منه في حجاج -يعني: ابن أرطاة - وابن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.
وقال يزيد بن زريع -وسئل عن همام -: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئا. وقال عفان : كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثم رجع بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان، كنا نخطئ كثيرا فنستغفر الله عز وجل. ولا ريب أنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 71)
ثقة صدوق، ولكنه قد خولف في هذا الحديث، ولعله مما حدث به من حفظه فغلط فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني . وكذلك ذكر البيهقي : أن المشهور عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). اتخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه . وعلى هذا فالحديث شاذ أو منكر، كما قال أبو داود، وغريب كما قال الترمذي .
فإن قيل: فغاية ما ذكر في تعليله تفرد همام به.
وجواب هذا من وجهين:
أحدهما: أن هماما لم ينفرد به، كما تقدم.
الثاني: أن هماما ثقة، وتفرد الثقة لا يوجب نكارة الحديث. فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، وتفرد مالك بحديث دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر. فهذا غايته أن يكون غريبا، كما قال الترمذي، وأما أن يكون منكرا أو شاذا فلا.(7/175)
قيل: التفرد نوعان: تفرد لم يخالف فيه من تفرد به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وتفرد خولف فيه المنفرد، كتفرد همام بهذا المتن على هذا الإسناد، فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق - الحديث، فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وتفرد همام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله.
وأما متابعة يحيى بن المتوكل فضعيفة، وحديث ابن الضريس ينظر في حاله ومن أخرجه.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 72)
فإن قيل: هذا الحديث كان عند الزهري على وجوه كثيرة، كلها قد رويت عنه في قصة الخاتم، فروى شعيب بن أبي حمزة وعبد الرحمن بن خلاد بن مسافر عن الزهري، كرواية زياد بن سعد هذه: سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، ورواه يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس، صحيح البخاري اللباس (5534),صحيح مسلم اللباس والزينة (2092),سنن النسائي الزينة (5196),سنن أبو داود الخاتم (4216),سنن ابن ماجه اللباس (3641),مسند أحمد بن حنبل (3/275). كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق فصه حبشي، ورواه سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى ويحيى بن نصر بن حاجب عن يونس عن الزهري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه، فيه فص حبشي، جعله في باطن كفه، ورواه إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ آخر قريب من هذا، ورواه همام عن ابن جريج عن الزهري، كما ذكره الترمذي وصححه. وإذا كانت هذه الروايات كلها عند الزهري فالظاهر أنه حدث بها في أوقات، فما الموجب لتغليط همام وحده؟(7/176)
قيل: هذه الروايات كلها تدل على غلط همام، فإنها مجمعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حكم لأجله هؤلاء الحفاظ بنكارة الحديث وشذوذه. والمصحح له لما لم يمكنه دفع هذه العلة حكم بغرابته لأجلها، فلو لم يكن مخالفا لرواية من ذكر فما وجه غرابته؟ ولعل الترمذي موافق للجماعة، فإنه صححه من جهة السند، لثقة الرواة، واستغربه لهذه العلة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيحه في [سننه]، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول. والله أعلم.
ب- قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا سعيد بن عامر والحجاج بن منهال قالا: حدثنا همام عن ابن جريج عن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 73)
الزهري عن أنس قال: سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه .
هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله: قوله: (إذا دخل الخلاء) أي: أراد دخوله (نزع) أي: أخرج من إصبعه (خاتمه) قال القاري في [المرقاة]: لأن نقشه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على تنحية المستنجي اسم الله واسم رسوله والقرآن، كذا قاله الطيبي، قال الأبهري : ويعم الرسل، وقال ابن حجر : استفيد منه أنه يندب لمريد التبرز أن ينحي كل ما عليه معظم من اسم الله تعالى أو نبي أو ملك، فإن خالف كره. انتهى. وهذا هو الموافق لمذهبنا . انتهى كلام القاري .(7/177)
قوله: (هذا حديث حسن صحيح غريب) قال الحافظ في [التلخيص]: حديث أنه صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث الزهري عن أنس به. قال النسائي : هذا حديث غير محفوظ. وقال أبو داود : منكر، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه، وصححه الترمذي . وقال النووي : هذا مردود عليه، قال في الخلاصة: وقال المنذري : الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات. وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواية همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس ورواته ثقات، لكن لم يخرج الشيخان رواية همام عن ابن جريج، وابن جريج قيل: لم يسمعه عن الزهري، وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر، وقد رواه مع همام مع ذلك مرفوعا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل، وأخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 74)
عن همام موقوفا على أنس، وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولفظه: صحيح البخاري اللباس (5535),سنن أبو داود الخاتم (4218),سنن ابن ماجه اللباس (3639),مسند أحمد بن حنبل (2/22). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل الخلاء وضعه، وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الجوزقاني في الأحاديث الضعيفة، وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك. انتهى كلام الحافظ .(7/178)
ج- وقال الحطاب رحمه الله: يكره أن يدخل بيت الخلاء بخاتم فيه اسم الله تعالى أو يصر الدراهم في خرقة منجوسة والخلاف في هذا كله. انتهى. وقال في [الطراز] لما تكلم على آداب الاستنجاء: وجوز مالك أن يدخل الخلاء ومعه الدينار والدرهم وإن كان مكتوبا عليه اسم الله تعالى، وقال عنه ابن القاسم في العتبية، إنه يستخف في الخاتم الاستنجاء به، قال: ولو نزعه كان أحب إلي وفيه سعة ولم يكن من مضى يتحفظون من هذا. قال ابن القاسم : وأنا أستنجي به وفيه ذكر الله تعالى، قال ابن حبيب : أكره له ذلك وليحوله في يمينه وهذا حسن، وقد كره مالك أن يعامل أهل الذمة بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله تعالى، وفي الترمذي عن أنس سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه . انتهى. ونقله في [الذخيرة] وفي [رسم الشريكين] من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة، وسألت مالكا عن لبس الخاتم فيه ذكر الله تعالى يلبس في الشمال وهل يستنجي به؟ قال مالك : أرجو أن يكون خفيفا .
قال ابن رشد : قوله: أرجو أن يكون خفيفا يدل على أنه ضده مكروه وأن نزعه أحسن وكذلك فيما يأتي في رسم مساجد القبائل من هذا السماع وفي رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ومثله لابن حبيب في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 75)(7/179)
الواضحة، ووجه الكراهية فيه بين ؛ لأن ما كتب فيه اسم الله تعالى من الحروز يجعل له خرقة، وقد قال مالك رحمه الله تعالى في كتاب التجارة إلى أرض الحرب: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله تعالى فيعطاها نجسا وأعظم ذلك إعظاما شديدا وكرهه، وقال ابن القاسم في رسم مساجد القبائل: وأن أستنتجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. ليس بحسن من فعله ويحتمل أن يكون إنما فعله؛ لأنه عض بأصبعه فيشق عليه تحويله إلى اليد الأخرى كلما دخل الخلاء واحتاج إلى الاستنجاء فيكون إنما تسامح فيه لهذا المعنى وهو أشبه بورعه وفضله. انتهى. والذي في رسم مساجد القبائل قيل له: استنجي به وفيه ذكر الله تعالى؟ فقال: إن ذلك عندي خفيف ولو نزعه لكان أحسن، وفي هذا سعة وما كان من مضى يتحفظ في مثل هذا ولا يسأل عنه، قال ابن القاسم : وأنا أستنجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. قال ابن رشد : قد مضى الكلام عليه في [رسم الشريكين]، وقال في أواخر رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب : سئل مالك عن الخاتم فيه ذكر الله تعالى منقوش من الاستنجاء، فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحدا انتزع خاتمه عند الاستنجاء فقيل له: فإن استنجى وهو في يديه فلا بأس، قال ابن رشد : قد مضى الكلام عليه في رسم الشريكين وفي آخر سماع سحنون من كتاب الصلاة .
د- قال الشيرازي في [المهذب] رحمه الله [المجموع] (2/ 80، 81). :
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله تعالى، فالمستحب أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 76)
ينحيه؛ لما روى أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، وإنما وضعه؛ لأنه كان عليه محمد رسول الله .(7/180)
وقال النووي رحمه الله : (الشرح) حديث أنس هذا مشهور، رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وغيرهم في كتاب الطهارة، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة، وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: وهو منكر، وإنما يعرف عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه . وقال النسائي : هذا الحديث غير محفوظ، وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب .
وقوله: وإنما وضعه -إلى آخره- هو من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه صحيح، ففي [الصحيحين ]، أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم كان محمد رسول الله، ويقال: خاتم، وخاتم بكسر التاء وفتحها وخاتام وخيتام أربع لغات، والخلاء: بالمد وهو الموضع الخالي، وقوله: كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول. أما حكم المسألة فاتفق أصحابنا على استحباب تنحية ما فيه ذكر الله تعالى عند إرادة دخول الخلاء ولا تجب التنحية، وممن صرح بأنه مستحب المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي في كتبه الثلاثة، وابن الصباغ، والشيخ نصر المقدسي في كتبه الثلاثة: [الانتخاب] و[التهذيب] و[الكافي]، وآخرون .
قال المتولي والرافعي وغيرهما: لا فرق في هذا بين أن يكون المكتوب عليه درهما أو دينارا أو خاتما أو غير ذلك، وكذا إذا كان معه عوذة، وهي الحروز المعروفة- استحب أن ينحيه صرح به المتولي وآخرون، وألحق الغزالي في [الإحياء] و[الوسيط] بذكر الله تعالى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 77)(7/181)
وقال إمام الحرمين: لا يستصحب شيئا عليه اسم معظم ولم يتعرض الجمهور لغير ذكر الله تعالى، وفي اختصاص هذا الأدب بالبنيان وجهان، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: يختص، وقطع الجمهور بأنه يشترك في البنيان والصحراء، وهو ظاهر كلام المصنف وصرح به المحاملي وغيره وإذا كان معه خاتم فقد قلنا: ينزعه قبل الدخول فلو لم ينزعه سهوا أو عمدا ودخل فقيل: يضم عليه كفه لئلا يظهر. قال ابن المنذر : إن لم ينزعه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين: ابن المسيب والحسن وابن سيرين، الترخيص في استصحابه. والله أعلم .
وقال أحمد بن إبراهيم الدمشقي الشهير بابن النحاس :
فصل في بعض ما يشاهد في المساجد من البدع: قال: ومنها: كتابة القرآن في جدران المسجد، ومذهبنا أنه مكروه؛ لأنه تعريض له لوقوع الغبار عليه وقد صرح الحليمي في منهاجه أن من تعظيم الله تعالى وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ننفض الغبار عن المصحف وكتب السنن وألا يوضع عليها شيء من متاع البيت، وكذلك يكره كتابته في جدار غير المسجد، فإن كان في جدار يصعد فوقه إلى غرفة ونحوها كانت الكراهة أشد وربما حرم. والله أعلم [تنبيه الغافلين]ص 326. .
هـ - قال ابن قدامة رحمه الله [المغني] (1/ 167). :
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 78)
وقال أنس بن مالك : سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه . رواه ابن ماجه وأبو داود، وقال: هذا حديث منكر .
وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه: محمد رسول الله ثلاثة أسطر، فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى واحترز عليه من السقوط أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه- فلا بأس .(7/182)
قال أحمد : الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء. وقال عكرمة : اقلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه، وبه قال إسحاق، ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين . وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو أن لا يكون به بأس .
و- قال المرداوي رحمه الله [الإنصاف] (1/ 94، 95). :
قوله: (ولا يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى) الصحيح من المذهب: كراهة دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى ، إذا لم تكن حاجة. جزم به في [الوجيز]، و[مجمع البحرين]، و[الحاوي الكبير]. وقدمه المجد في [شرحه]، و[ ابن تميم ]، و[ ابن عبيدان ]، و[النظم]، و[الفروع] و[الرعايتين]، وغيرهم. وعنه: لا يكره. قال ابن رجب في [كتاب الخواتم]: والرواية الثانية: لا يكره. وهي اختيار علي بن أبي موسى، والسامري، وصاحب [المغني]. انتهى. قال في [الرعاية]: وقيل: يجوز استصحاب ما فيه ذكر الله تعالى مطلقا، وهو بعيد. انتهى. وقال في [المستوعب]: تركه أولى. قال في النكت: ولعله أقرب. انتهى .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 79)
وقطع ابن عبدوس في [تذكرته] بالتحريم، وما هو ببعيد. قال في [الفروع]: وجزم بعضهم بتحريمه، كمصحف، وفي نسخ: لمصحف.
قلت: أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعا، ولا يتوقف في هذا عاقل .
تنبيه: حيث دخل الخلاء بخاتم فيه ذكر الله تعالى، جعل فصه في باطن كفه، وإن كان في يساره أداره إلى يمينه، لأجل الاستنجاء .
فائدة: لا بأس بحمل الدراهم ونحوها فيه. نص عليهما، وجزم به في [الفروع] وغيره. قال في [الفروع]: ويتوجه في حمل الحرز مثل حمل الدراهم. قال الناظم: بل أولى بالرخصة من حملها .(7/183)
قلت: وظاهر كلام المصنف هنا، وكثير من الأصحاب أن حمل الدراهم في الخلاء كغيرها في الكراهة وعدمها، ثم رأيت ابن رجب في ذكر كتاب الخواتم: أن أحمد نص على كراهة ذلك في رواية إسحاق بن هانئ . فقال في الدرهم: إذا كان فيه (اسم الله) أو مكتوبا عليه سورة الإخلاص الآية 1 قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يكره أن يدخل اسم الله الخلاء. انتهى .
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن جندي قال للصائغ: اعمل لي حياصة من ذهب، أو فضة، واكتب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم) فهل يجوز ذلك ثم لا بد من إعادتها إلى النار لتمام عملها. وهل يجوز لأحد أن يلبس حياصة ذهب أو فضة ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين. أما حياصة الذهب فمحرمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الذهب والحرير هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 80)
وأما حياصة الفضة، ففيها نزاع بين العلماء: وقد أباحها الشافعي وأحمد، في إحدى الروايتين. وأما كتابة القرآن عليها: فيشبه كتابة القرآن على الدرهم والدينار. ولكن يمتاز هذا بأنها تعاد إلى النار بعد الكتابة، وهذا كله مكروه. فإنه يفضي إلى ابتذال القرآن وامتهانه، ووقوعه في المواضع التي ينزه القرآن عنها. فإن الحياصة الحياصة: سير في الحزام [لسان العرب]. ، والدرهم والدينار ونحو ذلك. هو في معرض الابتذال، والامتهان .
وإن كان من العلماء من رخص في حمل الدراهم المكتوب عليها القرآن، فذلك للحاجة، ولم يرخص في كتابة القرآن عليها. والله أعلم [مجموع فتاوى ابن تيمية] (25/ 66، 67). .(7/184)
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن حكم حلية من ذهب مكتوب عليها لفظ الجلالة يلبسها النساء في أعناقهن .
فأجاب بما يأتي:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة مدير عام الجمارك ... وفقه الله إلى ما فيه رضاه آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد :
إجابة لكتابكم الكريم رقم (3006) في 20/ 8/ 1398 هـ ومرفقه عينة ذهب مكتوب عليها اسم الجلالة وهي مما يعلقه النساء في أعناقهن وردت إليكم عن طريق مؤسسة ..././ جمرك الرياض .
وأفيد سعادتكم: أنه سبق أن صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 81)
للبحوث العلمية والإفتاء بمناسبة ميدالية مفاتيح قدمت لها بما نصه :
(إن كتابة آية أو سورة من القرآن على هذه الحلقة خروج بالقرآن عن المقصد الذي أنزل من أجله من الاهتداء به وتلاوته والعمل بما فيه من أحكام، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف الصالح، وفيه تعريض لآيات القرآن للامتهان بحمل الجنب لها وحملها وقت قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك- وعلى هذا يجب محو ما كتب من القرآن على هذه الحلقة حتى لا يكون لهذه الكتابة أثر؛ صيانة لكتاب الله عن العبث والامتهان واستعماله في غير ما نزل من أجله من المقاصد المشروعة) انتهت الفتوى .
وعليه تعلمون حفظكم الله: أن كتابة اسم الجلالة على حلي المرأة فيه تشبه بالكافرات في تعليقهن حليا فيه الصليب ونجمة داود واسم عزير بالإضافة إلى كونه ذريعة إلى اتخاذه حرزا وتميمة يرجى بها دفع الضرر وجلب النفع، وهذا لا يجوز .
ومما تقدم يلزم المورد لها ولأمثالها بمحو اسم الجلالة وبعد التأكد من محوه في جميع الكمية المطلوب دخولها لا مانع من السماح لها.(7/185)
وفي حالة عدم محوه فيلزم منعها من الدخول للمملكة؛ حفاظا على عقيدة التوحيد، وسدا لذريعة الشرك، ومنعا للتشبه بالكافرات.. وتجدون برفقه قطعة الحلي المذكورة أعلاه.
سائلا المولى جل وعلا أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، وأن يجنبنا جميع سخطه، وأن يثيبكم وجميع العاملين معكم على ما تقومون به في سبيل خدمة عقيدتنا الإسلامية في جميع ثغور المملكة الجوية والبرية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 82)
والبحرية، إنه سميع مجيب .(7/186)
رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر .
إن تعليق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته، واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى- قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره ، وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار .
ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها .
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال :
(الوجه الرابع والعشرون): أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها .
والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 83)(7/187)
نفسه فسادا كالقتل والظلم- فإذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء؛ لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا. ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها: ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام (ثلاثة) .
الأول : ما هو ذريعة، وهو مما يحتال به؛ كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم .
الثاني : ما هو ذريعة لا يحتال بها؛ كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن .
الثالث : ما يحتال به من المباحات في الأصل؛ كبيع النصاب في أثناء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 84)
الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة .
والغرض من هذا: أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم؛ خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع .(7/188)
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه .
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل- فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة .
أما شواهد هذه القاعدة فاكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر :
فالأول: قوله سبحانه وتعالى : سورة الأنعام الآية 108 وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 85)
إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم .(7/189)
الثاني : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله؛ وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه . ولفظ البخاري : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره.
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام.
الرابع : أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة، لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها. ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 86)(7/190)
بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك. وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
الخامس : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغيير الطباع وشبه الغير .
السادس : أنه سنن الترمذي الصلاة (320),سنن النسائي الجنائز (2043),سنن أبو داود الجنائز (3236),مسند أحمد بن حنبل (1/337). نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
السابع : أنه صحيح البخاري الحج (1549),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (828),سنن النسائي المواقيت (563),مسند أحمد بن حنبل (2/13),موطأ مالك النداء للصلاة (513). نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ بعض أحوال عابديها.(7/191)
الثامن : أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله: صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم ، سنن أبو داود الصلاة (652). إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء : صحيح مسلم الصيام (1134),سنن أبو داود الصوم (2445),مسند أحمد بن حنبل (1/236),سنن الدارمي الصوم (1759). لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ، وقال في موضع: لا تشبهوا بالأعاجم ، وقال فيما رواه الترمذي : سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا من تشبه بغيرنا حتى قال حذيفة بن اليمان : سنن أبو داود اللباس (4031). من تشبه بقوم فهو منهم؛ وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 87)
يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض .(7/192)
التاسع : أنه صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3288),سنن أبو داود النكاح (2066),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179). نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك. وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك، لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة. وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: سورة النساء الآية 3 ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وهذا نص في اعتبار الذريعة .
العاشر : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك .
الحادي عشر : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين .
الثاني عشر : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه إما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 88)(7/193)
بالشهادة. أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل: اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة. وكان أصل ذلك في قوله تعالى: سورة النساء الآية 24 مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ و سورة النساء الآية 25 مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة، وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم، كما جعل بينهما في قوله تعالى: سورة الفرقان الآية 54 نَسَبًا وَصِهْرًا وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين: أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه .(7/194)
الثالث عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/205),سنن الدارمي البيوع (2560). نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا .
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 89)
قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك: أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له؟! .
الرابع عشر : إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا، وما ذاك إلا سدا للذريعة.
الخامس عشر : أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض؛ وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين، لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .(7/195)
السادس عشر : أن السنة مضت بأنه سنن ابن ماجه الديات (2646),مسند أحمد بن حنبل (1/49),موطأ مالك العقول (1620). ليس لقاتل من الميراث شيء، أما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة ، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 90)
السابع عشر : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك: أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين .
الثامن عشر : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء .
التاسع عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار .(7/196)
العشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الصوم (1815),صحيح مسلم الصيام (1082),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2173),سنن أبو داود الصوم (2335),سنن ابن ماجه الصيام (1650),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1689). نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه سنن ابن ماجه الصيام (1646). ونهى عن صوم يوم الشك، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم، تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 91)
يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التبيين، ومن جملة فوائد ذلك: سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض .
الحادي والعشرون : أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه .
الثاني والعشرون : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا، مع قصدهم الصالح ؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا .(7/197)
الثالث والعشرون : أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة؛ وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان .
الرابع والعشرون : أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ضنين في قرابة، وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء ؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم كل ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم لغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع لهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 92)
الخامس والعشرون : أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به .
السادس والعشرون : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .(7/198)
السابع والعشرون : أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، من كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة، وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات- لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذراع الفرقة وهي من الأفعال أيضا .
الثامن والعشرون : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 93)
الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع .
التاسع والعشرون : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم .
الثلاثون : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته . قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع .(7/199)
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول: لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع، فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا .
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع ، وإنما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 94)
قصدنا: أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم، أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط .(7/200)
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله :
فصل [إعلام الموقعين] (3/ 147- 153). : في سد الذرائع: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود. لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 95)
الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه - لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده .
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه. وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه .
فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء .
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه، فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان :(7/201)
أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها .
والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصده أو بغير قصد منه .
فالأول : كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك .
والثاني : كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 96)
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان :
أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .
والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته .
فهاهنا أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة .
الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة .
الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها .
الرابع : وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها .
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم .
ومثال الثالث : الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها. وأمثال ذلك .(7/202)
ومثال الرابع : النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها قوله: يطؤها، كذا في الأصل، والصواب: يطبها. ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 97)
فنقول :
الدلالة على المنع من وجوه :
الوجه الأول : قوله تعالى: سورة الأنعام الآية 108 وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين- مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم-؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز .
الوجه الثاني : قوله تعالى: سورة النور الآية 31 وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن .(7/203)
الوجه الثالث : قوله تعالى: سورة النور الآية 58 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة، لندورها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 98)
وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة كذا بالأصل، وصوابه كالمعدوم. .
الوجه الرابع : قوله تعالى: سورة البقرة الآية 104 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم؛ تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون .
الوجه الخامس : قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: سورة طه الآية 43 اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى سورة طه الآية 44 فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى .(7/204)
الوجه السادس : أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء، واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .
الوجه السابع : أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة، لئلا يتخذ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 99)
ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
والوجه الثامن : ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه . ولفظ البخاري : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده .
الوجه التاسع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين- مع كونه مصلحة- لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .(7/205)
الوجه العاشر : أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال: لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 100)
الوجه الحادي عشر : أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى أمر بغض البصر -وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله- سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي الصلاة (320),سنن النسائي الجنائز (2043),سنن أبو داود الجنائز (3236),مسند أحمد بن حنبل (1/337). نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى صحيح مسلم الجنائز (970),سنن الترمذي الجنائز (1052),سنن النسائي الجنائز (2029),سنن أبو داود الجنائز (3225),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562),مسند أحمد بن حنبل (3/332). عن تجصيص القبور وتشريفها، واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا. وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.(7/206)
الوجه الرابع عشر : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت؛ سدا للذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مح بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟!
الوجه الخامس عشر : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة؛ كقوله: صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم ، وقوله: سنن أبو داود الصلاة (652). إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم ، وقوله في عاشوراء: خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده ، وقوله: لا تشبهوا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 101)
بالأعاجم ، وروى الترمذي عنه: سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا من تشبه بغيرنا ، وروى الإمام أحمد عنه: سنن أبو داود اللباس (4031). من تشبه بقوم فهو منهم ، وسر ذلك: أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر : أنه صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3291),سنن أبو داود النكاح (2065),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179). حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة، كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم.(7/207)
الوجه السابع عشر : أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه: أنه ذريعة إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع، وأباح الأربع -وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن- لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر : أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا. حتى حرم ذلك في عدة الوفاء وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر : أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون : أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 102)
أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة.
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا..) ثم قال: باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه: أمر، ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين [إعلام الموقعين] (3/ 147- 153) . اهـ.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/208)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 103)
(3)
بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 104)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 105)
بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
المعجزة القرآنية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض يوم السبت الموافق 1/ 2 إلى يوم 7 منه 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بما سماه الأستاذ رشاد خليفة : المعجزة القرآنية، وعلى ما جاء فيها من أن كتابة المصحف بالرسم الإملائي ينافيها، واقترح إعداد بحث في الموضوع، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
أولا: بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة، والمعجزة القرآنية المذهلة ومناقشتها.
ثانيا: هل ما يقال من أنها معجزة قرآنية صحيح أو لا؟ وهل تمتنع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، محافظة عليها أو لا..؟
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وقوته:(7/209)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 106)
تمهيد:
لقد عني الدكتور رشاد خليفة بإثبات إعجاز القرآن وحفظه من طريق سوى الطرق التي عهدها المسلمون من قبل، واهتم بإثبات استمرار ذلك ما دامت الحياة الدنيا؛ ليشاهد الناس جيلا بعد جيل كتاب الله معجزة خالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآية بينة تدل على رسالته وصدقه فيما يوحى إليه من ربه سبحانه، وعلى بقاء ذلك محفوظا من التبديل، والتحريف، والزيادة والنقصان مدى الدهر، وتقوم به الحجة عليهم إلى جانب ما قامت به الحجة على من سبقهم من إخوانهم المسلمين الأولين من وجوه إعجاز القرآن وغيره، وهذا مما يدل -في ظاهره- على غيرته على دينه، وحرصه على مصلحة الأمة، فلفت نظر المسلمين إلى نواحي إعجاز أخرى لم يكن لهم ولا لمن سبقهم بها عهد ولا علم، فألقى محاضرة بين فيها ما اكتشفه من وجوه إعجاز القرآن وحفظه، ثم نشرت (جريدة اليوم السعودية) له مقالا في عددها رقم (2399) الصادر في 12/ 10/ 1389 هـ زاد به الموضوع شرحا وإيضاحا؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا إلى إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم بأن محمدا رسول الله حقا، وأن ما أوحي إليه إنما هو من عند الله، وأنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقص وأنه قد وصلنا كما نزل، ولتقوم به الحجة على الذين كفروا، تباعا أكثر فأكثر سورة المدثر الآية 31 وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فجزاه الله عن اجتهاده خير الجزاء، وهدانا وإياه إلى الطريق المستقيم.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 107)
وقد رأينا أن نثبت في إعداد هذا البحث نص محاضرته، وأن نشير إلى رقم (جريدة اليوم) وتاريخ صدورها لمن أراد أن يطلع على نص ما نشرت له ، ثم نعلق على كل منهما بما يتيسر: ليعود القارئ بما وجده في التعليق إلى ما أثبت في أصل بيان الإعجاز من قريب.(7/210)
ومن بعد هذا ختمنا البحث بكلمة تحذيرية أعدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عرف فيها المدعو الدكتور رشاد خليفة، وأورد بعض ما عرف عنه من بدع وأباطيل وناقشها ورد عليها، وأوضح سماحته مكانة السنة المطهرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
Islamic Productions International. inc.
5937 EAST PIMA STREET - TUCSON, ARIZONA 85711 U.S.A.
ROFTT ORGANIZATION SERVIG THE NEEDS OF ALL MUSLIMS IN THE ENGLIH SPEAKING WOLD
معجزة محمد الخالدة
THE PERPETUAL MIRICAL OF MUHAMMAD
Written and narrated By
Rashad Khalifa
تقديم الدكتور رشاد خليفة
NOW YOU CAN PHYSICALLY WITNEES THE MIRAGE OF MUHAMMAD
1369 - 1976
1976 - 1369
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 108)
بسم الله الرحمن الرحيم. يعلمنا خالقنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة من (سورة الإسراء): أن القرآن الكريم كتاب معجز لا يستطيع الإتيان بمثله إنس ولا جان ...، وفي الدقائق الستين القادمة فإنك سترى وتلمس أدلة مادية ملموسة على أن هذه الآية حقيقة واقعة ... في الدقائق الـ 60 القادمة سترى وتسمع وتلمس أدلة دامغة لا تقبل الشك أو الجدال على أن القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل إلى البشرية كافة ... وأنه قد وصلنا سالما من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان.
كما تعلمون جميعا فإن جميع الرسل الذين جاءوا برسالة الله سبحانه وتعالى، جاءوا أيضا مؤيدين بمعجزات ...، ظواهر غير طبيعية تثبت للناس أن هؤلاء الرسل قد بعثوا فعلا من قبل الخالق العظيم سبحانه وتعالى ...، فسيدنا موسى عليه السلام عندما ذهب إلى فرعون أيده الله بمعجزات مثل تحول العصا إلى حية ...، كما أيد الله رسوله عيسى عليه السلام بمعجزات مثل: إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين بإذن الله ...(7/211)
ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين.. فإنه من الطبيعي أن تكون معجزته هي خاتمة المعجزات..، وأن تكون معجزة خالدة مستمرة، لكي يشهدها كل جيل من أجيال البشر منذ بعثته عليه السلام وحتى يوم القيامة ... وهذه المحاضرة سوف تبرهن لنا أن هذه فعلا هي الحقيقة ... أن معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلا معجزة أبدية مستمرة فأنتم ستشهدون الآن معجزة محمد الخالدة ...، بما لا يدع مجالا للشك ... وهذه حقيقة تختلف عن طبيعة المعجزات السابقة لجميع الرسل والأنبياء السابقين ...
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 109)
فكما تعلمون معجزات الأنبياء السابقين كانت جميعها معجزات محدودة بالزمان والمكان ...، فمثلا ليس بيننا من شهد سيدنا موسى وهو يلقي العصا فتتحول إلى حية ...، ليس بيننا من شهد سيدنا عيسى يحيى الموتى ...، لقد شهد هذه المعجزات فقط الناس الذين تواجدوا في مكان معين ... في زمان معين ... أما المعجزة الختامية التي جاء بها خاتم النبيين ...، فسترون الآن أنها معجزة مستمرة لا يحدها مكان أو زمان ... وكما يشهدها الآن جيلنا فقد شهدتها الأجيال السابقة، وسوف تشهدها الأجيال القادمة حتى يوم القيامة..(7/212)
ما هي معجزة محمد؟ يخبرنا القرآن الكريم في (سورة العنكبوت) الآية (49 و50) أن معجزة محمد هي القرآن ذاته ...، وقد اتضح بالفعل أن القرآن الكريم معجزة دائمة مستمرة، واتضح أنه كلما اكتشف العلم حقائق جديدة عن عالمنا هذا فإننا نجد أن الاكتشافات الجديدة قديمة قدم القرآن الكريم، وهذا ما شهدته الأجيال السابقة ...، فعلى سبيل المثال عندما اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وجد علماء القرآن أن هذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم (سورة النمل)، آية (88) ... وعندما اكتشف أن الشمس مصدر للضوء وأن القمر مجرد عاكس للضوء.. اكتشفت الأجيال السابقة أن هذا الاكتشاف الجديد ليس جديدا بالمرة، وأن القرآن قد بين هذه الحقيقة في (سورة يونس)، الآية (5).
هذا الإعجاز العلمي الذي شهدته الأجيال السابقة في القرآن الكريم يستغرق الساعات الطوال لسرده كاملا ... ولكن الغرض من هذه المحاضرة هو دراسة نوع جديد من الإعجاز المادي الملموس الذي يشاء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 110)
الله سبحانه وتعالى أن يشهده جيلنا نحن.. في هذا الزمن المادي ... فنحن الآن وفي الدقائق القادمة سوف نشهد معجزة محمد بطريقة مادية ملموسة تماما، كما شهد فرعون والسحرة وبنو إسرائيل معجزات موسى ...، وكما شهد الحواريون معجزات عيسى..، وهكذا سوف يتبين لنا استمرارية ودوام وخلود المعجزة الختامية لخاتم النبيين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ...(7/213)
إن مفتاح هذه المعجزة الختامية يوجد في الآية الأولى من القرآن الكريم سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنك إذا عددت حروف هذه الآية لوجدتها (19) ... هذه كما ترون حقيقة مادية ملمومسة لا يستطيع أحد أن يجادلك فيها ... وقد اكتشف أن كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم كله عددا من المرات، هو دائما من أضعاف الرقم (19) ...، فنحن نجد أن كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف بالضبط (19) مرة ... وكلمة الله تتكرر (2698) مرة . . . 19 × 142. . .، وكلمة الرحمن تتكرر (57) مرة ... ثلاثة أضعاف الرقم (19)، وكلمة الرحيم تتكرر في القرآن (114) مرة ... ستة أضعاف الرقم (19) ...، وقبل أن نسأل أنفسنا: (ما معنى هذه الظاهرة التي لا نجدها في أي كتاب آخر في أي مكان في العالم؟) قبل أن نبحث هذا السؤال أود التنبيه أولا إلى أن الشيطان قد يتدخل في هذه اللحظة ويهمس في قلبك قائلا: (ما يدريك أن هذه الأرقام صحيحة؟ ما يدريك أن هذا الشخص لم يضع هذه الأرقام من نفسه؟)..، ولكي نطرد الشيطان من أول المحاضرة وبطريقة نهائية ... أود أن أذكركم أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 111)
هذه الأرقام جميعا مسجلة في كتب كثيرة.. وقد سجلت حتى من قبل أن نولد ... فقد قام كثير من الناس بعد كلمات وحروف القرآن الكريم خلال القرون الأربعة عشر الماضية.. وسجلوا أرقامهم في كتب كثيرة ... ومن أمثلة هذه الكتب، كتاب أحمله معي في كل مكان واسمه [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] من وضع محمد فؤاد عبد الباقي وتنشره دار الشعب بالقاهرة ...، هذا الكتاب يبين عدد كل كلمة من كلمات القرآن الكريم.
والآن دعني أكرر هذه الملاحظات.. هذه الحقائق المادية الملموسة:(7/214)
الآية الأولى في القرآن الكريم سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تتكون من (19) حرف، هذه حقيقة مادية ملموسة لا تقبل الشك أو الجدال ... ويحسن بي أن أتوقف هنا قليلا لدراسة الرقم (19).. فهذا رقم خاص يتميز بخاصيتين هامتين: أولهما: أن الرقم (19) يحتوي على البداية والنهاية. الرقم (1) الذي هو بداية النظام الحسابي ...، والرقم (9) الذي نهاية النظام الحسابي ...، والخاصية الثانية هي أن الرقم (19) لا يقبل القسمة بينما نجد أن الرقم (18) قابل للقسمة على (2، 3، 6، 9) ... وبينما نجد الرقم (20) قابل للقسمة على (2، 4، 5، 10) نجد أن الرقم (19) لا يقبل القسمة في الآية الأولى من القرآن، حيث تتركب من (19) حرفا، وكل كلمة في هذه الآية تتكرر أضعاف الرقم (19) ... فكلمة اسم تتكرر في القرآن الكريم كله بالضبط (19) ... مرة.
وفي الوقت المناسب قبل انتهاء هذه المحاضرة سوف أشرح لماذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 112)
استعمل كلمة (اسم) وليس (بسم).. وسترون أن كلمة بسم لها جانب إعجازي خاص بها ... وكلمة الله تتكرر في المصحف الشريف كله (2698) مرة، (142) ضعف الرقم (19) ...، وكلمة الرحمة تتكرر (57) مرة.. 3 أضعاف الرقم (19).. وكلمة الرحيم تتكرر (114) مرة ستة أضعاف الرقم (19) ...، وكما ترون فإننا هنا نتحدث عن حقائق مادية لا تقبل الجدال ...
الحقيقة المادية الأولى: هي أن الآية القرآنية الأولى تتركب من (19) حرفا..، ولا يستطيع أحد أن يجادلك في صحة هذه الحقيقة.. والحقيقة المادية الثانية: هي أن كل كلمة من كلمات هذه الآية تتكرر في القرآن كله عددا من المرات هو دائما من مكررات الرقم (19) ...، ماذا تعني هذه الحقائق؟ هذه الملاحظات التي تتميز بأنها عادية واقعية وليست تفسيرا أو تخمينا أو اجتهادا ... ماذا تعني هذه الملاحظات؟ إن هناك ثلاثة احتمالات فقط تشرح لنا معنى هذه الحقائق القرآنية:(7/215)
الاحتمال الأول: هو أن هذه الحقائق حدثت عن طريق الصدفة ... عن طريق المصادفة البحتة ...، ونستطيع بسهولة أن نرفض هذا الاحتمال..؛ لأن المصادفة تحدث مرة واحدة أو ربما مرتين ...، ولكنها تحدث ثلاثة مرات ... أو أربع مرات كما نرى هنا ... فأنت إذا أمسكت بأي كتاب عادي ... وقمت بعد الحروف في جملته الأولى.. فإن احتمال أن كلمة واحدة من كلمات هذه الجملة تتكرر في الكتاب كله عددا من المرات له علاقة بعدد حروف الجملة ... هذا الاحتمال جائز ... ممكن عن طريق الصدفة أن يحدث ذلك ... أما أن تكون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 113)
كلمتان اثنتان من كلمات هذه الجملة تتكرران في الكتاب كله عددا من المرات هو من مضاعفات عدد حروف الجملة ... فهذا احتمال ضعيف جدا ... ونستطيع جميعا أن نتفق على أن احتمال تكرار ثلاث كلمات من كلمات الجملة الأولى في الكتاب كله بطريقة لها علاقة بعدد حروف الجملة.. هذا الاحتمال من قبيل المستحيل.. عن طريق المصادفة ... ونحن هنا نرى أن كل كلمة في الآية القرآنية الأولى عدد مكرراتها في القرآن كله له علاقة مباشرة بعدد حروف الآية ... الرقم (19) ...(7/216)
الاحتمال الثاني: هو أن سيدنا محمد هو الذي صمم القرآن وكتبه بهذه الطريقة الحسابية الخاصة ...، وهذا طبعا ما يعتقده غير المسلمين..، إذ أنهم إذا علموا أو آمنوا بأن القرآن هو رسالة خالقهم إليهم جميعا لأصبحوا مسلمين..، وما يقوله هذا الاحتمال هو أن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم علوم الحساب المتقدم.. هذا الرجل الأمي الذي عاش في القرن السابع الميلادي قال لنفسه في يوم من الأيام: (إنني سأكتب كتابا كبيرا تتركب الجملة الأولى فيه من (19) حرفا.. وتتكرر كل كلمة من كلمات هذه الجملة في الكتاب كله عددا من المرات يكون من أضعاف الرقم (19) ...) ثم مضى هذا الرجل الأمي يكتب هذا الكتاب.. متبعا هذا التصميم.. على مدى (23) سنة. ويتبين لنا في الحال استحالة هذا الاحتمال وحماقته، ولو أصر المكابرون.. والكفار المعاندون.. على أن هذا الاحتمال ممكن.. وأن محمدا هو كاتب القرآن.. وأنه كتب القرآن بهذا التصميم الحسابي النادر الذي لم نره في أي كتاب آخر في التاريخ.. فإنه يمكننا سؤالهم: إذا كان سيدنا محمد رجلا دجالا..، وإذا كان هو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 114)
الذي كتب القرآن الكريم بهذا التصميم.. فلماذا لم يفتخر بين صحابته؟.. لماذا لم يجن ثمار جهوده أو يخبر أبناء جيله عن هذا المجهود العبقري الجبار؟ إن هذه الحقائق جميعها لم تكن معروفة قبل شهر يونيه.. حزيران.. (1975 م) الموافق لجمادى الثانية عام (1395 هـ).. إن جيلنا هذا هو الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على هذه الحقائق الإعجازية.. كجزء من معجزة محمد الخالدة المستمرة..(7/217)
الاحتمال الوحيد الذي يتبقى من دراسة هذه الظواهر القرآنية الإعجازية هو: أن الخالق القادر على كل شيء: الله سبحانه وتعالى هو كاتب القرآن الكريم، وليست هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تتبين لنا من دراسة هذه الملاحظات المادية الملموسة ... حقيقة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. وأنه حقا وصدقا رسالة الخالق عز وجل إلى الناس كافة..، بل إن هناك حقيقة أخرى يجب أن نتذكرها وهي: أن القرآن الكريم وصل إلينا سالما محفوظا من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان.. فأنت عندما تقول: سورة الإخلاص الآية 1 قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كلمة الله هنا معدودة ومحسوبة ومصممة ... إنها واحدة من الـ (2698) كلمات الله الموجودة في القرآن الكريم ... وعندما تستمر قائلا: سورة الإخلاص الآية 2 اللَّهُ الصَّمَدُ كلمة الله هنا أيضا محسوبة وموضوعة في مكانها بإحكام الخلاق العليم سبحانه وتعالى.. إنها أيضا واحدة من (2698) لفظ الله ... إذ إنه في خلال الأربعة عشر قرنا الماضية.. لو حدث أي تلاعب في كلمة واحدة مثل اسم ... أو الله ... أو الرحمة ... أو الرحيم بزيادة أو نقصان أو تحريف ... لأصبح عدد مكررات هذه الكلمات في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 115)
القرآن الكريم لا يقبل القسمة على (19).. وتختفي بذلك هذه الظواهر القرآنية الحسابية الإعجازية..(7/218)
هل للرقم (19) أي ذكر أو دلالة خاصة في القرآن الكريم نفسه؟ أي نعم. إننا نجد هذا الرقم في (سورة المدثر) آية رقم (30).. ونجد أن هذا الرقم قد ذكر بخصوص أولئك الذين يزعمون أن القرآن الكريم من قول البشر.. (آيات من سورة المدثر). هكذا نجد أن هذه الآيات الكريمة تقول: بأن أي شخص يقرر أن القرآن من قول البشر، هذا الشخص سيعاقب.. وسيكون عقابه تحت إشراف (19).. والتفسير القديم لهذا الرقم (19) هو أنهم حفظة جهنم..!! إلا أننا في ضوء المعلومات الجديدة التي نراها هنا لا بد من الوصول إلى تفسير جديد.. هذا التفسير الجديد لهذه الآية الكريمة ... الآية 30 من سورة المدثر هو أن الـ (19) هي حروف البسملة ... الآية الأولى في كتاب الله العظيم ... ويؤيد هذا التفسير ما نكتشفه من مراجعة ترتيب نزول القرآن الكريم ... فنحن جميعا نعلم أن سيدنا جبريل عندما جاء بالوحي لأول مرة.. فإنه أحضر لخاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام.. أحضر الآيات الأولى من سورة العلق.. سورة العلق الآية 1 اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وهذه السورة -على فكرة- هي رقم (19) من نهاية القرآن وتتركب من (19) آية، وفي المرة الثانية أحضر الروح الأمين الآيات القليلة الأولى من (سورة القلم).. سورة القلم الآية 1 ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ وفي الزيارة الثالثة ... جاء الوحي بـ(سورة المزمل).. الآيات القليلة الأولى ...، وفي المرة الرابعة أحضر جبريل عليه السلام الآيات الأولى من (سورة المدثر).. حتى قوله تعالى:
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 116)(7/219)
سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ لقد جاء الوحي الأمين بالتسعة عشر حرفا سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بإجماع العلماء.. جاء سيدنا جبريل في المرة الخامسة بـ (سورة الفاتحة) ... التي تبدأ بالتسعة عشر حرفا سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبإجماع العلماء كانت الفاتحة هي أول سورة كاملة يأتي بها سيدنا جبريل ... بالإضافة إلى هذه الحقائق من ترتيب النزول التي تدل على أن الرقم (19) في (سورة المدثر) يرمز إلى التسعة عشر حرفا سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإن الآية التالية لآية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ تعلمنا أسباب اختيار الرقم (19) بكل وضوح ... إذ تقول الآية (31) من (سورة المدثر): سورة المدثر الآية 31 وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ تعني: أن الأسباب التي من أجلها اخترنا الرقم (19) هي خمسة أسباب:
السبب الأول: سورة المدثر الآية 31 فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: إزعاجا لهم.. ولا شك أن هذه الحقائق الإعجازية الكامنة في التسعة عشر حرف سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سوف تزعج الكفار أيما إزعاج.
السبب الثاني: سورة المدثر الآية 31 لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فهناك المسيحيون الطيبون واليهود الطيبون كما يخبرنا القرآن الكريم في الآية (113) من (سورة آل عمران)، وأهل الكتاب هؤلاء يرون أن القرآن الكريم كتاب عظيم لا غبار عليه، ولكنهم ليسوا متأكدين أنه كتاب من عند الله، فهذه الحقائق الكامنة في التسعة عشر سوف تساعدهم سورة المدثر الآية 31 لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ليتأكدوا أن القرآن العظيم هو بالفعل رسالة الله إليهم ... مصدقا لما بين يديهم ومهيمنا عليه ...
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 117)(7/220)
السبب الثالث: كما توضح الآية (31) من (سورة المدثر): سورة المدثر الآية 31 وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا فنحن نؤمن وقبل أن تتبين لنا هذه الحقائق الإعجازية: أن القرآن هو رسالة الله عز وجل للناس كافة ... ولكن إيماننا لا شك يزداد ويقوى بظهور هذه المعجزات العظيمة.
السبب الرابع: سورة المدثر الآية 31 وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ بمحو أي آثار للشك أو الريبة فيما يتعلق بكون القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم.
السبب الخامس: والأخير؛ لكشف المنافقين والكافرين وإظهار حقيقتهم المتعصبة العمياء.
وأخيرا فإن الآية (31) من (سورة المدثر) تقول لنا في نهايتها: سورة المدثر الآية 31 وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إذن فالرقم (19) ليس عدد حراس جهنم.. ويجدر بنا أن نتقبل تفسيرا جديدا لهذا الرقم في ضوء هذه الحقائق الجديدة التي تتكشف لنا في القرآن العظيم.(7/221)
وبالرغم من أن هذه الحقائق الإعجازية تكفي لإثبات أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الدليل المدعم لرسالته دامغا بما لا يدع إلا للمكابرين ... إذ يتضح لنا أن هذه الحقائق ليست إلا جزءا ضئيلا من الإعجاز الحسابي المادي المرتبط بالآية القرآنية الأولى سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فالقرآن الكريم يتميز بخاصية هامة لا نجدها في أي كتاب آخر ... هذه الخاصية هي وجود الحروف الغامضة أو الحروف النورانية المعروفة أيضا باسم فواتح السور ... نجد أن بالضبط نصف الحروف الأبجدية ...
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 118)
أربعة عشر حرفا في تركيب أربع عشرة فاتحة من فواتح السور هي ق ون وص وطه ويس وحم والم والر وطسم وعسق والمر والمص وكهيعص ... وهذه الفواتح نحوها في (29) سورة ... (14) حرف يتركب منهم (14) فاتحة تتواجد في بداية (29) سورة ... فإذا جمعنا (14 + 14 + 29) نجد المجموعة (57) ثلاثة أضعاف الرقم (19)، وسوف نجد الآن أن الرقم (19) هو القاسم المشترك الأعظم بين جميع فواتح السور بدون استثناء، وهنا أجد الفرصة المناسبة للحديث عن كلمة بسم وكلمة اسم فنحن إذا نظرنا إلى الآية القرآنية الأولى سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نجدها تتكون من حروف نورانية.. وهي الحروف التي تشترك في تركيب فواتح السور ... ماعدا الحرف (باء) فإنه ليس من الحروف النورانية، كما أننا نعلم أن كلمة (بسم) هي عبارة عن حرف الجر (باء) زائد كلمة (اسم) ... ولولا أن الحرفين (باء) و (ألف) قد دمجا في حرف واحد لأصبح عدد حروف الآية (20) ليس (19). ولاختل كل هذا النظام ...(7/222)
ولما كان الحرف (ألف) هو الحرف الرسمي؛ لكونه من الحروف النورانية.. رغم عدم كتابته.. ولما كان حرف الباء ضروريا من أجل المعنى كان من اللازم النظر إلى مكررات كلمة (اسم) حيث نجدها بالضبط (19) وأيضا كلمة بسم حيث نجد عدد مكرراتها في المصحف الشريف (3) ... ونجد أن حاصل ضرب (19 × 3) يساوي عدد الحروف النورانية مضافا إلى عدد الفواتح التي تدخل هذه الحروف في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 119)
تركيبها مضافا إلى عدد السور ذات الفواتح (14+ 14+ 29= 19 ×3= 57) وهكذا نجد الربط الكامل التام بين سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والحروف النورانية، فواتح السور ...
فلننظر الآن إلى أحد هذه الفواتح.. ولنبدأ بالحرف (ق) إننا نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة ق) وفي (سورة الشورى) ... وإذا عددت مكررات الحرف ق في (سورة ق) لوجدتها 57 (19× 3) ... ثم إذا عددت مكررات الحرف ق في السورة الوحيدة الأخرى التي تحتوي على هذا الحرف كفاتحة وهي (سورة الشورى) ... لوجدت أن هذه السورة رغم أنها أطول من سورة ق مرتين ونصف فإنها تحتوي على نفس العدد من الحرف ق 57 (19 × 3) ...
وإذا جمعنا عدد مكررات الحرف ق في هاتين السورتين (57+ 57) فإن النتيجة تساوي عدد سور القرآن الكريم 114 (19 × 6) إذا كان الحرف (ق) يرمز إلى القرآن المجيد فإن هذه الظاهرة المادية الملموسة تقول لنا بوضوح: إن الـ (114) سورة هي القرآن ... كل القرآن.. ولا شيء غير القرآن، من الذي صمم القرآن بهذه الطريقة؟(7/223)
من الذي يمكن أن تتوفر لديه القدرة على معرفة توزيع الحروف الأبجدية في القرآن الكريم ومعرفة أن هناك سورتين فقط تحتويان على هذا العدد المتساوي، الذي يساوي مجموعه في السورتين بالضبط عدد سور القرآن؟ من الذي يمكنه أن يعرف ذلك حتى قبل اكتمال نزول القرآن؟ لا شك أن الإجابة واضحة ... فالله وحده هو الذي علم ويعلم توزيع الحروف الأبجدية في رسالته وهو سبحانه الذي وضع هذه الحروف في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 120)
أوائل بعض السور كرموز لهذه المعرفة التي لا يستطيعها أي مخلوق ... وهو سبحانه الذي حفظ أسرار هذه الحروف لمدة أربعة عشر قرنا كمظهر من مظاهر استمرارية المعجزة القرآنية وخلودها ... إذ يشاء الخالق عز وجل أن يكون جيلنا هو الجيل الذي يطلع على أسرار هذه الحروف ... شاء سبحانه أن يكون هذا الزمان المادي هو الوقت الذي تنكشف فيه الدلائل المادية الملموسة الكامنة في هذه الحروف ...(7/224)
ولكي ندرك مدى الإحكام في التوزيع الحسابي لحروف القرآن دعنا ندرس آية قصيرة من آيات (سورة ق) -على سبيل المثال- وهي الآية رقم (13) سورة ق الآية 13 وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ هذه آية قصيرة نقرأها ونمر بها عادة مر الكرام، ولكنها تحتوي معجزة قرآنية بينة، فإخوان لوط هؤلاء مذكورون في القرآن الكريم (12) مرة: في (سورة الأعراف) آية رقم (80) ... في (سورة هود) الآيات (70 و 74 و 89) ... في (سورة الحج) الآية رقم (43) ... في (سورة الشعراء) آية (160).. في (سورة النحل) آية (54 و 56).. في (سورة العنكبوت) الآية (28) ... في (سورة ص) آية رقم (13) ... في (سورة ق) الآية رقم (13) ... وفي (سورة القمر) آية رقم (33).. ونجد أن هؤلاء الناس الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما: قوم لوط ، هذا هو الاستثناء الوحيد، نراهم يسمون: (قوم لوط ... قوم لوط ... قوم لوط) ... ما عدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: سورة ق الآية 13 وَإِخْوَانُ لُوطٍ وتستيطعون طبعا أن تتخيلوا ما يحدث لعدد مكررات الحرف (ق) في (سورة ق) لو أن التعبير قوم لوط استعمل بدلا من (إخوان لوط) ... طبعا سيزداد عدد الحرف (ق) ويصبح
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 121)
(58) بدلا من (57).. والرقم (58) ليس من مكررات الرقم (19).. لا يقبل القسمة على (19) ... كما أن هذا العدد (58) لن يساوي عدد الحرف (ق) في السورة الوحيدة الأخرى التي تفتتح بالحرف (ق) وهي (سورة الشورى) وبالإضافة إلى ذلك فإن مجموع الحرف (ق) في السورتين يصبح (115) وليس (114) عدد سورة+ القرآن الكريم ...(7/225)
وهكذا ترون بالدليل المادي الملموس أن تحريف كلمة واحدة يؤدي إلى اختلال واختفاء هذا النظام الحسابي المعجز الذي نراه في القرآن الكريم، والذي يكمن في الآية القرآنية الأولى سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وفي الحروف النورانية فواتح السور ... وترون بالدليل المادي الذي لا يقبل الشك أو الجدال أن أثناء الـ(1400) سنة الماضية.. لو حدث تحريف أو تحوير أو ضياع أو إضافة لكلمة واحدة ... كلمة واحدة تحتوي الحرف (ق) مثل (ق).. (يقول). (قال) ... (قوم) ... تحريف كلمة واحدة مثل هذه في (سورة ق) أو في (سورة الشورى) يؤدي إلى اختلال هذا الميزان الإلهي الحساس ...
سورة الحجر الآية 9 إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ صدق الله العظيم.
وهكذا ترون أن هناك حقيقتان واضحتان لا بد أن نذكرهما جيدا، وتظهران لنا من هذه الحقائق التي نلاحظها في القرآن:
أولا: أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.
ثانيا: أن القرآن الكريم قد حفظ بقدرة الله وضمانه من أي تحريف أو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 122)
تحوير أو ضياع أو إضافة؛ ليكون رسالة الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس كافة.
أيها الإخوة والأخوات ... هذه العلاقة الوثيقة المباشرة التي بين الحرف (ق) والرقم (19)، عدد حروف سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تجدونها شاملة لجميع الحروف النورانية ... فواتح السور ... بدون استثناء..
إذا ننتقل الآن إلى الحرف (ن) نجد أن هذا الحرف تفتح به سورة واحدة في القرآن الكريم (سورة القلم) سورة القلم الآية 1 ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ وإذا عددت مكررات الحرف (ن) في هذه السورة لوجدت العدد 133= (19 × 7) ....(7/226)
كذلك الحرف ص ...، نحن نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة الأعراف) سورة الأعراف الآية 1 المص وفي (سورة مريم) سورة مريم الآية 1 كهيعص وفي (سورة ص) ... ونجد أن مجموع مكررات الحرف (ص) في هذه السور الثلاث هو 152= (19 × 8)، وهنا يجدر بي أن أتوقف قليلا لأضرب مثالا آخر يوضح الإحكام العظيم في توزيع كل حرف من حروف القرآن الكريم ... ففي سورة الأعراف ... الآية رقم (69) ... نجد التعبير وزادكم في الخلق بصطة ، ونجد أن كلمة بصطة مكتوبة بالصاد ليس بالسين ... وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 123)
(بصط) بالصاد ... كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد ... في هذه الآية (توقيفية)، ومعنى توقيفية: هي أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية.. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين).. ومن الواضح الآن للجميع أهمية الحرف ص هنا ... إذ لو كتبت كلمة (بسطة) بالسين كما نعرفها لأصبح مجموع مكررات الحرف ص في السور الثلاث (151) وهذا الرقم ليس من مكررات الرقم (19) ... أي: أنه بتغيير حرف واحد نجد أن هذا الإحكام الحسابي المعجز يختل ويختفي وتصبح هذه الحروف النورانية عديمة المعنى وعديمة الدلالة.
وعندما ننتقل إلى فواتح السور المركبة من أكثر من حرف نلاحظ حقيقة قرآنية غاية في الإعجاز ... إذ نجد أن هذه الحروف تتواجد في هذه السور -مكررات الرقم (19)- بل أيضا إذا عددت الحروف المتشابهة في السور ذات الفواتح المتشابهة فإنك تجد أن هذا العدد أيضا من مكررات الرقم (19) ... أي: سواء كان الجمع أفقيا داخل السورة الواحدة ... أو رأسيا شاملا لجميع السور التي تفتح بنفس الحرف ... فإن المجموع في الحالتين من مكررات الرقم (19).(7/227)
ولتوضيح هذه الظاهرة الإعجازية.. دعنا ننظر إلى الفاتحة طه نجد هذين الحرفين النورانيين في أول (سورة طه)، ونجد أن عدد مكررات الحرف (ط)+ عدد مكررات الحرف (هـ) يساوي (342) ... (19× 18) ... وأيضا إذا أضفت مجموع مكررات الحرف (ط) في جميع السور التي تبدأ بهذا الحرف وهي (سور طه، والشعراء، والنمل،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 124)
والقصص) ... إلى مجموع مكررات الحرف هـ في السور التي تبدأ به وهي (سورتي مريم وطه) ... فإنك تجد هذا المجموع (589) = (19 × 31) ...
ومثال أخير لهذا التشابك الإعجازي تجده في (سورة يس) ... إذا عددت الحرف (ي) والحرف (س) في هذه السورة تجد المجموع (ي) + (س) = (258) 00. (19 × 15) وفي نفس الوقت إذا أضفت مكررات الحرف (ي) في سورتي (مريم ويس) إلى مكررات الحرف (س) في جميع سوره، وهي: (الشعراء والقلم والقصص ويس والشورى)؛ لوجدت المجموع (969)00. (19× 15).. هذا الإحكام الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي مخلوق نجده في جميع الحروف النورانية بدون استثناء سورة هود الآية 1 الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صدق الله العظيم.
وهكذا يشهد جيلنا.. كما شهدت الأجيال السابقة ... وكما ستشهد الأجيال المستقبلة ... معجزة دائمة مستمرة في القرآن الكريم ... معجزة محمد الخالدة.(7/228)
مناقشة المحاضرة:
اقتضت حكمة الله تعالى وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين؛ ليخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، إنذارا إليهم وإقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى:
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 125)
سورة النساء الآية 165 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ومضت سننه التي لا تتبدل في تأييد رسله بالآيات والمعجزات الباهرات؛ ليستيقن من أرسل إليهم بصدقه في دعوى الرسالة، ولا يختلج في قلوبهم منها ريبة وتقوم عليهم الحجة، ويلزمهم قبول ما يوحى إلى الرسل من أصول الدين وفروعه.
ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كثير من المعجزات الحسية والروحية، إلا أن المعجزة الكبرى التي تحدى بها قومه هي القرآن ولا تزال الحجة به قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن تكون من وراء الأسباب العادية حتى لا تنالها قوى الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وبذلك يكون بها الإيمان والاطمئنان وبها التكليف والإلزام.
ولقد تحدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قومه بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد، بل نبغوا فيه، وبلغوا ذروته.
أولا: تحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته وعلو أسلوبه وإحكامه ودقة تعبيره، ولذا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل إليهم أنها على نمطه وشاكلته فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذوي العقل والرأي منهم، فأسلموا أنفسهم إلى العجز، وأيقنوا من قرارة نفوسهم أنه الحق، وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا.
ثانيا: تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 126)(7/229)
الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل في جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقائه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة.
ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موقف المصدق لهم، المبين لتحريف أقوامهم لشرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية، ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفي شرائعهم، ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم أو فضحهم به؛ تبرئة لأنفسهم، ودفعا للنقيصة والعار عنها، فكان ذلك إيذانا بأنه رسول الله الصادق الأمين، وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين.
هذه جوانب الإعجاز القرآني المعهودة التي عرفها الصحابة وسلفنا الصالح وهي التي عرفها الكفار وعجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن من جهتها.
الإعجاز الحسابي الذي هول أمره المحاضر وجعله حقيقة مادية ملموسة، وهو لا يعدو أن يكون أمرا مبناه التقدير والاعتبار في الأعداد، وذلك مما يختلف فيه الناس، وكثير منه متكلف يلغي فيه صاحبه ما يختل معه حسابه، ويعتبر فيه ما ينتظم به حسابه؛ ليتم ما يريد من الخروج بظاهرة إعجاز جديدة وآية لم يعرفها الصحابة ولا العرب الأولون الذين تحداهم الله تعالى بالقرآن.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 127)(7/230)
لا ينكر منصف أن يكون في القرآن جوانب أخرى من الإعجاز. وإنما ينكر العاقل الرشيد أن يكون منها ما ذكره الأستاذ خليفة واعتبره إعجازا حسيا ملموسا من عدد بعض الحروف وبعض الكلمات من بعض سور القرآن وحسابها، وجعل محور حسابها عدد حروف البسملة الـ (19) في نظره أو عدد كلماتها الأربع لما فيه من الفرض والتخمين، والخطأ الواضح، والتناقض البين، والاعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات، فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ، ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن تحزيب القرآن بالسور زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتحزيبه بالتجزئة زمن عبد الملك بن مروان : (فإنه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة: ثمانية، وعشرين، وثلاثين، وستين، هذه التي تكون رءوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك، ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك).
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر، فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية، وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد فتعين التحزيب بالسور، ... ثم قال: وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن لوجوه -ثم ذكر الوجه الأول والثاني- وقال: الثالث: إن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 128)
تخالف الحروف في الخط، في الزيادة والنقصان يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه. وتختلف الحروف من وجه، وبيان ذلك بأمور:(7/231)
أحدها : أن همزات الوصل ثابتة في الخط، وهي في اللفظ تثبت في القطع وتحذف في الوصل، فالعاد إن حسبها انتقض عليه بحال القارئ إذا وصل وهو الغالب فيها، وإن أسقطها انتقض عليه بحال القارئ القاطع وبالخط.
ويتبين ما في محاضرة الأستاذ رشاد من الخطأ والتخمين والتناقض بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: إن البسملة خمس كلمات لا أربع، كما قال الأستاذ رشاد، إذ الباء فيها وهي كلمة ولم يعدها وهي في خط المصحف ومنطوق بها، وعد همزة الوصل في كلمة اسم وهي غير مخطوطة ولا ملفوظ بها، ليتم له ما يريد.
الوجه الثاني: إن العلماء اتفقوا على أن البسملة بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا فيما بعد ذلك: فقيل: إنها آية من كل سورة كتبت في أولها، وقيل: آية مستقلة كتبت عند أول كل سورة لا آية منها، وقيل: إنها آية من (سورة الفاتحة) فقط، وقيل: إنها ليست آية من القرآن، وإنما كتبت عند أوائل السور للفصل بينهما.
ثم على تقدير أنها آية من القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنها أول آية نزلت وحدها مستقلة، ولا أنها أول آية نزلت مع (سورة الفاتحة)، ولا مع أول (سورة العلق أو المدثر)، ولم يصح في ذلك حديث، وكون شيء من الكلام آية من القرآن أو أول ما نزل منه ليس
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 129)
مما يحكم فيه العقل، بل من الأمور التوقيفية التي لا مجال فيها للعقول.
وإذا لم يجتمع علماء الأمة على أن البسملة آية من القرآن، ولم يثبت نقلا أنها أول ما نزل من القرآن استقلالا أو مع غيرها منه- فكيف يجعل من هذا الاختلاف أصلا لإثبات ركن ركين في الدين وهو الرسالة، ويعتبر مكرر كل حرف من حروف فواتح السور في سورته مضاعفا له؛ ليجعل من ذلك دليلا على أن القرآن معجزة خالدة وأنه محفوظ إلى يوم القيامة لا يدخله تحريف ولا زيادة ولا نقصان؟!(7/232)
الوجه الثالث : خطؤه في قوله: إن المراد بتسعة عشر في آية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ هو الحروف (19) التي اشتملت عليها آية البسملة، واعترف بأن هذا التفسير جديد، وأنه لا بد منه في ضوء المعلومات الجديدة، وأيده بأن سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نزلت مع (سورة الفاتحة) كاملة عقب آية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ فدل ذلك على أن المراد بهذا الرقم حروف البسملة (19)، وهذا الذي اعتبره تحقيقا هو إلى الخرص والتخمين أقرب منه إلى التحقيق، فإنه بناه على نزول البسملة مع (الفاتحة) بعد آية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وهذا يحتاج إلى إثبات، بل لم يثبت في حديث صحيح: أن البسملة نزلت مع الفاتحة، ولا أن نزولها أو نزول إحداهما كان عقب آية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وعلى تقدير ثبوت هذا الترتيب لا يدل على ما زعمه في تفسيرها.
ثم زعم أن الآية التي بعدها اشتملت على أسباب اختيار هذا الرقم،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 130)
وفيما ذكر خرص، وتخمين ينافي سياق الكلام (ثم هو تفسير لا يعرف في لغة العرب التي بها نزل القرآن)، والصحيح: أن المراد بتسعة عشر حفظة على النار من الملائكة، كما هو بين في نص الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: سورة المدثر الآية 31 وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية ، وهو التفسير الذي قاله العلماء قديما وحديثا، وهو الذي يجب المصير إليه دون سواه.(7/233)
الوجه الرابع: ما وقع من الخطأ في عده بعض الكلمات في سور القرآن ومن الخطأ والتناقض في عده بعض الحروف في سوره أيضا، من ذلك قوله: الاعتماد في الحساب على عد الحروف اعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
ثم قد يقع الخطأ في عد الكلمات أو الحروف، ومن ذلك ما حصل في ص (14) من المحاضرة فإنه قال فيها:
أ- إن عدد مكررات كلمة بسم في المصحف الشريف (3) والواقع أنها أكثر، إذ هي في كل من (سورة هود، والنمل، والحاقة، والعلق) مرة مرة وذكرت في (سورة الواقعة) مرتين، ثم نجد المحاضر بنى على تكرارها ثلاثا إعجازا قرآنيا عن طريق الحساب، فإذا ثبت خطؤه في العدد ثبت في الحكم بجعل ذلك معجزة فضلا عن كونها خالدة.
ب- ومن ذلك: أنه اعتبر الألف من كلمة (بسم) وهي غير منطوقة،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 131)
ولا مكتوبة فيها حسب رسم المصحف ليتم له نظامه الحسابي الإعجازي وترك الباء وهي منطوق بها في البسملة ومكتوبة فيها في رسم المصحف وغيره، ولم يعتبر الحرفين جميعا؛ لئلا يختل العدد الذي يراد بناء النظام الحسابي الإعجازي عليه، وقد اعترف في نفس الموضع بهذا التحايل في اعتبار العدد والمعدود.
ج- ومن ذلك أنه أخطأ وتناقض في قوله ص (16) (إخوان لوط: هؤلاء مذكورون في القرآن (12) مرة ...) إلى أن قال: (نجد أن هؤلاء الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما قوم لوط، ماعدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: (إخوان لوط) هذا هو الاستثناء الوحيد) اهـ.
والواقع أن كلمة لوط تذكر أحيانا وكلمة (قوم لوط) أو (آل لوط) أحيانا، وأن لفظ لوط ذكر في القرآن أكثر من اثنتي عشرة مرة، وليس شيء من هذه الكلمات بعينه ذكر في القرآن اثنتي عشرة مرة، فكلامه في هذه الصفحة جامع بين التناقض والخطأ في العدد والمعدود.
د - ومن ذلك أنه أخطأ في مكرر حرف نون في سورة القلم.(7/234)
ومن ذلك أن مكرر حرف (ص) في كل من (سورة الأعراف ومريم وص) لا يقبل القسمة على (19) باعترافه، فاحتال باعتبار مجموع مكرر حرف (ص) في السور الثلاث مضاعفا؛ لئلا تختل قاعدته، ولا يخفى ما في هذا من التكلف، بل التلاعب في اعتبار مكرر الحرف في السورة مرة باستقلال وإهمال استقلاله واعتباره مع غيره مرة أخرى.
هـ- ومن ذلك قوله: إن كلمة بصطة من قوله تعالى في (سورة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 132)
الأعراف) وزادكم في الخلق بصطة مكتوبة بالصاد لا بالسين، وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة بصط بالصاد ، كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد في هذه الآية توقيفية، ومعنى توقيفية هي: أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية قال للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين . . اهـ
ثم رتب على ذلك معجزة حسابية ترجع إلى عدد حروف (ص) في (سورة الأعراف).
وهذا الكلام خطأ من أوجه:
الأول: أن مادة بصط عربية كمادة بسط . ففي [ القاموس المحيط ]، البصط هو البسط في جميع معانيه.
الثاني: أن بصطة بالصاد قراءة سبعية، قرأ بها نافع وابن كثير وخير فيها قالون بين الصاد والسين.
الثالث: كون كتابتها بالصاد توقيفية بالخبر الذي ذكر يحتاج إلى إثبات وأنى له ذلك، فبناء إعجاز حسابي قرآني على ذلك يبعث في النفس ريبة، ويفتح ثغرة للملحدين وكل من يزعم أن القرآن من قول البشر لا وحي من عند الله؛ لبنائه على كذب واحتيال وتكلف وتخمين.
و- ومن ذلك استدلاله بعدم حدوث أي تلاعب في عدد كل من الكلمات الأربع - بسم - الله - الرحمن - الرحيم - في القرآن بزيادة أو نقصان أو تحريف، على أن القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، ولا شك في أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 133)(7/235)
القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، لكن الاستدلال على ذلك بما ذكره غير مسلم، إذ لا يلزم من سلامة هذه الكلمات الأربع من التحريف ومن الزيادة أو النقص في عددها عدم الزيادة أو النقص أو التحريف فيما سواها.
ثم على تقدير سلامة ما ذكره المحاضر من الأخطاء والتناقض لا يصح أن يعتبر أصلا في إثبات الرسالة، وأن القرآن وحي من عند الله؛ لأنه ميسور يمكن الحساب أن يأتوا بسورة، بل سور يتحرون فيها جوانب الحساب التي ذكرها المحاضر دون رعاية لجانب الفصاحة والتشريع وأنباء الغيب، كما يفعل من يذكر تاريخ ميلاد أو وفاة أو حادث في بيت من شعر أو نصف بيت ويتحرى فيه حروفا حسابها بالجمل يؤدي المطلوب، فهذا وأمثاله مما يدخل تحت الأسباب العادية ويقع في حدود طاقة البشر، فلا يصح أن يكون معجزة لنبي يتحدى بها أمته بما أنزل الله عليه من القرآن.(7/236)
ونختم الحديث عن المحاضرة بأن المحاضر لم يكتف ببيان غرضه من محاضرته وهو إثبات إعجاز القرآن بطريقة رياضية حسابية جعل مفتاحها عدد حروف وكلمات - بسم الله الرحمن الرحيم -، بل زاد أمرين عد كلا منهما معجزة قرآنية، وافتتح بهما محاضرته فذكر:
أولا: أن قوله تعالى: سورة النمل الآية 88 وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ... دليل على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وجعل إثبات ذلك بالقرآن معجزة خالدة.
وهذا خطأ، بل تحريف للقرآن عن مواضعه، وتفسير له بغير ما قصد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 134)
منه ودل عليه سياق الكلام، فإن الآية نزلت بيانا لأهوال يوم القيامة عند النفخ في الصور، بدليل قوله تعالى في الآية التي قبلها: سورة النمل الآية 87 وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ثم قال بعدها: سورة النمل الآية 88 وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: سورة الواقعة الآية 4 إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا سورة الواقعة الآية 5 وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا سورة الواقعة الآية 6 فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
فتفسيرها بدوران الأرض لتكون معجزة، مخالف لسياق الكلام، وخروج بها عن نظائرها من آيات القرآن الواردة في نفس الموضوع، بل مخالف لظاهر الآية نفسها، فإن الدوران لا يقابل الجمود، بل الذي يقابل جمود الجبال وجعلها رواسي للأرض كونها هباء منبثا كالعهن المنفوش تطيرها الرياح فتمر مر السحاب بعد أن كانت أحجارا صلبة متماسكة مستقرة على الأرض أوتادا لها، فكيف يجعل الخطأ في بيان المراد من الآية معجزة يثبت بها أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن القرآن تنزيل من رب العالمين؟!(7/237)
ثانيا: أن قوله تعالى في سورة يونس: سورة يونس الآية 5 هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا الآية ، وقوله تعالى في سورة الفرقان: سورة الفرقان الآية 61 تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا دليل على أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 135)
نور القمر مستفاد من نور الشمس وذلك دليل على إعجاز القرآن.
وهذا استنباط باطل فإنه ليس في الآيتين دليل على ذلك، ولا فهم العرب منهما هذه النظرية العلمية، وهم أهل العربية، وأعرف باللغة التي بها نزل القرآن، وإعجاز القرآن لا يحتاج في إثباته إلى أمثال ما ذكر المحاضر، وكون نور القمر مستفاد من نور الشمس لا يتوقف ثبوته على القرآن، بل عرف من طريق آخر كحادث خسوف القمر المتكرر على مر الزمان، ومعرفة ذلك في متناول البشر؛ لكونه متصلا بعلم التسيير وهو من علم الفلك، فيعرفه من له دراية بعلم الفلك، فكيف يجعل ذلك دليلا تثبت به الرسالة وإعجاز القرآن؟!
مناقشة ما نشرت له جريدة (اليوم السعودية)
في عددها رقم (6399) وتاريخ 12/ 1/ 1399م:
1 - الآية القرآنية الأولى سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (19) حرفا ليست البسملة أول آية نزلت من القرآن، بل اختلف في أنها من القرآن إلا في (سورة النمل)، وليست (19) حرفا كما تقدم.
2 - كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم عددا من المرات، هو دائما من مكررات الرقم (19):
أ- كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف (19).
ب- كلمة الله تتكرر في المصحف (2698) مرة = (19 ×142).
ج- كلمة الرحمن تتكرر في المصحف (57) مرة = (19 × 3).
د- كلمة الرحيم تتكرر في المصحف (114) مرة = (19 × 6).
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 136)(7/238)
ليس كل كلمة في البسملة ذكرت في القرآن 19 مرة، ولا مضاعفا للعدد (19)، فإن من كلماتها اسم و الرحيم لا تذكر كل منهما (19) مرة ولا مضاعفا لهذا العدد.
3 - رغم غياب البسملة من سورة التوبة فإن القرآن الكريم يحتوي على (114) بسملة؛ لأن سورة النمل فيها بسملتان.
4 - في كون البسملة من القرآن خلاف إلا في (سورة النمل) فهي منه، وما كان مختلفا فيه لا يبنى عليه إعجاز يثبت به ركن من أركان الإسلام.
5 - أول ما جاء به الوحي الأمين جبريل عليه السلام ونزل به على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان (19) كلمة.
ليس أول ما نزل (19) كلمة، بل عشرين كلمة.
6 - الـ (19) كلمة من (سورة العلق) التي نزل بها جبريل عليه السلام من (76) حرف (19 × 4) طبقا للرسم العثماني الأصلي للقرآن الكريم. ليست الكلمات التي نزلت من سورة العلق (19) حرفا ولا مضاعفا لها.
7 - سورة العلق أول ما نزل من القرآن، هي السورة رقم ( 19) من الخلف وليست (سورة العلق) أول ما نزل من القرآن، وإنما أول ما نزل منه خمس آيات من أولها فقط، ثم ترتيب السور مختلف فيه. فقيل: توقيفي، وقيل: باجتهاد عثمان ووافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهناك مصاحف أخرى تختلف عن مصحف عثمان في الترتيب، وعلى كل حال فالمعروف عد السور من الفاتحة ثم البقرة . . . وهكذا، وليست سورة العلق (19) في الترتيب ولا مكررا له بهذا الاعتبار.
8 - في ترتيب نزول الوحي نزلت الآية القرآنية سورة الفاتحة الآية 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 137)
مباشرة عقب الآية القرآنية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ من سورة المدثر . . والتي تعلمنا أن تسعة عشر فيها الإجابة الشافية على كل من يقول: سورة المدثر الآية 25 إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(7/239)
ترتيب النزول إنما يعرف بالنقل الصحيح لا بالعقل، ولم يثبت أن البسملة نزلت عقب نزول آية سورة المدثر الآية 30 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وعليه لا يكون في ذلك رد على من يقول: إن القرآن من قول البشر، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على أن المراد بكلمة -تسعة عشر- حروف البسملة كما لا يعتبر ردا على من يقول: إن هذا إلا قول البشر، ثم الاعتماد على هذا وأمثاله يفتح بابا للتهجم على القرآن والاستهتار به.
9 - الحروف القرآنية: (فواتح السور) (ق، ن، ص، يس، حم، الم ... إلخ) تتكرر في سورها دائما عددا من المرات هو من مكررات العدد (19) ويمكن لأي شخص أن يكتشف هذه الحقائق بنفسه.
فمثلا على الحرف (ق)، في (سورة ق)= 57= 19 × 3
وعن الحرف (ق)، في (سورة الشورى)= 57 = 19 × 3
وعن الحرف (ن)، في (سورة القلم)= 133- 19 × 7
وعدد الحرف (ص)، في سوره الثلاث (ص، مريم، الأعراف)، أي: المجموع في السور الثلاث 152= 19 × 8
وهكذا الحال في جميع الفواتح بدون استثناء.
انتقض ما ذكره في سور مما مثل به كسورة القلم، وكل من سورة ص ومريم والأعراف على حدة؛ ولهذا احتال بجمع الحرف ص في السور الثلاث ليوافق ما أراد.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 138)
مما تقدم من المناقشات يتبين أن ما ذكره الدكتور رشاد خليفة في محاضرته وسماه معجزة محمد الخالدة، وما نشرته له جريدة (اليوم السعودية) وسماه معجزة قرآنية مذهلة لا يصلح أن يكون معجزة تثبت بها الرسالة والصدق في دعوى النبوة؛ لما فيه من الخطأ والتناقض، ولأنه على فرض سلامته من ذلك فهو في متناول القوى البشرية، لإمكان اكتسابه عن طريق الأسباب العادية، فيستطيع البشر أن يأتوا بمثله فرادى وجماعات، أما المعجزات فسمتها التي تتميز بها عن المخترعات عجز البشر -على أي حال كانوا- عن أن يأتوا بمثلها؛ لكونها من وراء الأسباب العادية.(7/240)
وعلى هذا لا يصح أن يقال: إن كتابة القرآن حسب قواعد الإملاء ينافي معجزة القرآن الرياضية الحسابية، بل الذين يمنعون ذلك يبنون رأيهم على أسباب أخرى ذكرناها في بحث خاص بذلك.
والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/241)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 139)
كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فالداعي لكتابة هذه الكلمة أنه ظهر في مدينة توسان التابعة لولاية أريزونا بأمريكا شخص يدعى رشاد خليفة مصري الأصل أمريكي الجنسية يقوم بالدعوة على أساس بعيد عن الإسلام، وينكر السنة، وينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحرف كلام الله بما يناسب مذهبه الباطل.
والمذكور ليس له علم بأصول الشريعة الإسلامية؛ إذ هو يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، وقد قام بالتغرير ببعض المسلمين الجدد والسذج من العامة باسم الإسلام في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بإنكاره السنة والتعاون مع المنكرين لها قولا وفعلا، فقد سجل في إذاعة ليبيا أثناء زيارته لها عام 1399 هـ أحاديث إذاعية، ولما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة الليبية قبيل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . أجاب باختصار: نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس).
ومن أقواله التي توضح رفضه للسنة وتأويله القرآن الكريم رأيه ما يلي:
1 - قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن.
2 - تبجحه بصورة مستمرة بما يروى (لا تكتبوا عني سوى القرآن) أنه لا تجوز كتابة الأحاديث.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 140)
3 - استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: سورة الأنعام الآية 38 مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وقوله: سورة مريم الآية 64 وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا 4 - ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.(7/242)
5 - عدم التصديق بالمعراج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم عليه السلام.
6 - له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست الكتابة الصحيحة لها ففي قوله تعالى: الم يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم)، وقوله تعالى: سورة القلم الآية 1 ن يجب أن تكتب هكذا (نون)، وغير ذلك من الآراء الباطلة التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله.
لذا فقد رأيت من الواجب توضيح أمره وكشف حقيقته للمسلمين؛ لئلا يغتر أحد بكلامه أو ينخدع بآرائه، وحتى يكون الجميع على معرفة بمكانة السنة المطهرة.
فلا يخفى على كل مسلم أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثاني للتشريع، وقد أجمع على ذلك سلف الأمة وعلماؤها، وقد حفظ الله سنة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 141)
نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه فقيض لها رجالا مخلصين وعلماء عاملين وهبوا نفوسهم وكرسوا حياتهم لخدمتها وتمحيصها وتدقيقها ونقلها بأمانة وإخلاص، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ.(7/243)
ولم يزل أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل العظيم ويحتجون به ويعلمونه الأمة ويفسرون به كتاب الله، وقد ألفوا فيه المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب الأصول والفقه، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر باتباع الرسول وطاعته حتى تقوم الساعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المفسر لكتاب الله، والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها، ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله فيها من حدود وعقوبات.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: سورة آل عمران الآية 132 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وقوله تعالى في سورة النساء: سورة النساء الآية 59 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقوله جل ثناؤه: سورة النساء الآية 80 مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 142)
وقال تعالى: سورة النور الآية 54 قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وقال عز وجل: سورة النور الآية 56 وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(7/244)
فهذه الآيات وغيرها جعلت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله ومتممة لها، وأناطت الهدى والرشاد والرحمة باتباع سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك مع عدم العمل بها وإنكارها والقول بعدم صحتها.
وأن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولا يجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير مع فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة؛ لقول الله عز وجل: سورة البقرة الآية 159 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ سورة البقرة الآية 160 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى [مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة]، فقال: ( اعلموا رحمكم الله أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 143)
من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة - كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ) انتهى المقصود.
هذا ما أردت إيضاحه والتنبيه عليه من أمر هذا الرجل براءة للذمة، ونصحا للأمة. وأسأل الله أن يهدينا وإياه صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الضلال بعد الهدى ومن الكفر بعد الإيمان، كما أسأله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداء شرعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(7/245)
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/246)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 144)
خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سعادة أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فحيث يوجد في مدينة ( توسان ) التابعة لولاية ( أريزونا ) مسجد يشرف عليه شخص يدعى ( رشاد خليفة ) مصري الأصل، أمريكي الجنسية، يقوم فيه بالدعوة الإسلامية على أساس بعيد عن الإسلام؛ لإنكاره السنة، واستنقاصه من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ثبت لدينا من التقارير بحقه من عدة جهات والتي ملخصها ما يلي: 1 - أن المذكور يقيم في مدينة ( توسان ) بولاية ( أريزونا ) إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل الدكتوراه في الهندسة الزراعية، مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، بل إن دعوته للإسلام يظهر منها المخادعة، والتغرير بالمسلمين الجدد، والسذج من العامة باسم الإسلام، في الوقت الذي هو يحارب الإسلام بإنكار السنة، وتعاونه مع المنكرين لها قولا وفعلا أمثال ( محمد علي اللاهوري ) وغيره، وقد قامت حوله ضجة علمية حول اكتشافه سر إعجاز القرآن حسب زعمه.
2 - في زيارته لليبيا عام 1399 هـ سجل في إذاعتها أحاديث، ووجد من يستمع إليه حول رأيه في السنة المطهرة، بل إنه حينما سئل من قبل أحد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 145)
أساتذة الجامعة، قبل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس).
ومن مواقفه التي توضح رفضه للسنة، وتأويل القرآن الكريم حسب ما يراه:
أ- قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن.
ب- تبجحه بصورة مستمرة بما يرويه (لا تكتبوا عني سوى القرآن)، ليثبت أنه لا تجوز كتابة الأحاديث.(7/247)
ج- استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة، ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: سورة الأنعام الآية 38 مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وقوله: سورة مريم الآية 64 وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
د- ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها، وجمع الأحاديث في القرنين: الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
هـ - عدم التصديق بالمعراج، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم.
و- له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست هي الكتابة الصحيحة لها، وفي قوله تعالى:
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 146)
الم يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم)، وقوله تعالى: سورة القلم الآية 1 ن يجب أن تكتب هكذا (نون) وغير ذلك من الشطحات التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله.
لذا فقد رأينا من واجبنا توضيح أمره وكشف حقيقته، لوقف التعامل معه، والتنبه لمغالطاته، وبراءة للذمة، ونصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، راجيا تعميم كتابنا هذا على منسوبيكم والجهات ذات العلاقة، أعانكم الله على كل خير، وجعلنا وإياكم من أنصار السنة والكتاب، ومن دعاة الخير على بصيرة، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/248)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 147)
(4)
التقادم في مسألة وضع اليد
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 148)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 149)
التقادم في مسألة وضع اليد
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
بناء على الخطاب رقم 1994/ 2 وتاريخ 10/ 10/ 1398 هـ الموجه من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى سماحة رئيس الدورة الثالثة عشرة وأعضاء المجلس بخصوص اقتراح دراسة التقادم في مسألة وضع اليد، وبناء على موافقة المجلس في الدورة الثالثة عشرة على إدراج هذا الموضوع ضمن المسائل التي تبحث في الدورة الرابعة عشرة، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تكتب بحثا في ذلك.
فقد جمعت ما يسر الله في ذلك تحت العناصر الآتية:
1 - الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا.
2 - أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس .
3 - تعريف الحيازة.
4 - موضوع البحث.
5 - ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 150)
والتعليل والمناقشة .
وفيما يلي الكلام عليها بالقدر الذي تيسر وسنختم البحث بملخص مختصر تقريبا للموضوع .(7/249)
أولا : الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا :
من قواعد الشريعة أن نقل الملكية من المالك الشرعي لا يعتبر إلا إذا كان بسبب من الأسباب الشرعية ؛ كالبيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك على ما سيأتي تفصيله .
وفيما يلي بيان هذه الأسباب باختصار مع الأدلة .
أ- البيع : ومن أدلته قوله تعالى : سورة البقرة الآية 275 وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
ب- الهبة بلا شرط : فإن كانت بشرط عوض فهي بيع وتدخل في عموم السبب الأول ، ودليل الهبة قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2478),صحيح مسلم الهبات (1622),سنن الترمذي البيوع (1298),سنن النسائي الرقبى (3710),سنن أبو داود البيوع (3538),سنن ابن ماجه الأحكام (2385),مسند أحمد بن حنبل (1/250). العائد في هبته كالعائد في قيئه ، وفي لفظ : صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2449),صحيح مسلم الهبات (1622),سنن الترمذي البيوع (1298),سنن النسائي الهبة (3704),سنن أبو داود البيوع (3538),سنن ابن ماجه الأحكام (2385),مسند أحمد بن حنبل (1/237). فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه يقيء ثم يعود فيه أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .
ج- الوصية : ومن أدلتها قوله تعالى : سورة البقرة الآية 180 كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ثم أخرج الوارث بقوله صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود الوصايا (2870),سنن ابن ماجه الوصايا (2713). إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث الفتح الكبير ، ( 3/197 ) . .(7/250)
د- الميراث : ومن أدلته قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الفرائض (6356),صحيح مسلم الفرائض (1615),سنن الترمذي الفرائض (2098),سنن أبو داود الفرائض (2898),سنن ابن ماجه الفرائض (2740),مسند أحمد بن حنبل (1/292). ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 151)
فلأولى رجل ذكر .
هـ- الشفعة : ومن أدلتها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( جعل ) وفي لفظ : صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628). قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة له . أخرجه البخاري وغيره .
و- الحيازة والتقادم عند من يقول بذلك : ومما استدل به لذلك ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم : من حاز شيئا عشر سنين فهو له ، وفي رواية أخرى : من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به [شرح الخطاب] ، ( 6/229 ) . ، وفي رواية ثالثة : من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به منه [تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك] ، ( 2/362 ، 363 ) . ، وقد ذكر الفقهاء أسبابا أخرى تركنا ذكرها اختصارا ؛ لأن البحث لا يتوقف على ذكرها .(7/251)
ثانيا : أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس :
سبق في الأمر الأول ذكر جملة من الأسباب الشرعية لنقل الملكية من المالك الشرعي ، ونقل الملك بدون سبب شرعي لا يجوز ؛ لأنه من الاعتداء على أموال الناس ، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق .
وفيما يلي ذكر بعض الأدلة :
أ- من أدلة الكتاب : قوله تعالى : سورة البقرة الآية 188 وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 152)
وجه الدلالة : أن الآية اشتملت على النهي عن أكل الأموال بالباطل ، والنهي يقتضي التحريم فيكون أكلها محرما .
قال القرطبي : والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق ، فيدخل في هذا : القمار ، والخداع ، والغصوب ، وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه وحرمته الشريعة . وإن طابت به نفس مالكه ؛ كمهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وأثمان الخمور ، والخنازير ، وغير ذلك . . إلى أن قال : وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه كما قال : تقتلون أنفسكم ، وقال أيضا : من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل [تفسير القرطبي] ، ( 2/331 ) . .
ب- من أدلة السنة : قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع : صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850). إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا إلخ الخطبة .
وقد أخرجها مسلم وأبو داود وغيرهما . وهذا النص واضح في تحريم أموال الناس بعضهم على بعض .
ج- أما الإجماع : فقد ذكره القرطبي في أثناء الكلام على الآية السابقة .(7/252)
ثالثا : تعريف الحيازة :
للحيازة معنيان : لغوي ، واصطلاحي ، وفيما يلي بيان كل منهما :
أ- معنى الحيازة : لغة :
1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا : ( حوز ) الحاء والواو والزاي أصل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 153)
واحد ، وهو الجمع والتجمع ، يقال لكل مجمع وناحية : حوز وحوزة ، وحي فلان الحوزة أي : المجمع والناحية .
وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا . انتهى المقصود [معجم مقاييس اللغة] ، ( 2/ 117 ، 118 ) . .
2 - وقال الفيروزآبادي : ( الحوز ) الجمع ، وضم الشيء بالحيازة والاحتياز . انتهى [القاموس] ، ( 2/172 ) . .
3 - وقال ابن منظور : وقال سيبويه : هو تفعيل من حزت الشيء والحوز من الأرض أن يتخذها الرجل ويبين حدودها فيستحقها ولا يكون لأحد فيها حق معه فذلك الحوز . والحوز الجمع ، وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال وغير ذلك فقد حازه حوزا وحيازة وحازه إليه واحتازه إليه . . . إلى أن قال ابن منظور : حازه ليحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به . . . إلى أن قال : وحزت الأرض إذا أعلمتها وأحييت حدوده . انتهى المقصود [لسان العرب] ، ( 7/205 ) وما بعدها . .
ب- معنى الحيازة : اصطلاحا :
يقول الدردير : هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف يكون بواحد من أمور مسكن وإسكان وزرع وغرس أو بيع وهدم وبناء وقطع شجر وعتق وكتابة ووطء في رقيق [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] ، ( 4/207 ) . ، وجاء هذا المعنى في النقول عن المذاهب الأخرى على ما يأتي تفصيله .(7/253)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 154)
رابعا : موضوع البحث :
شيء معين طالت مدته بيد إنسان وليس لديه إثبات لملكيته سوى طول المدة وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية ، فهل يحكم به لمن طالت مدة وجوده عنده وهو يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم مع عدم وجود مانع شرعي يمنع من بيده البينة من القيام على من بيده الملك ومطالبته به ؟(7/254)
خامسا : ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة .
تمهيد : هذا العنصر هو أهم عناصر الموضوع ، وبتتبع اللجنة لما ذكره علماء الفقه الإسلامي وجدت أنهم خدموه خدمة واسعة ودقيقة اشتملت على تفصيل ما يوضحه من الأقوال ومداركها ومناقشة هذه المدارك مع ذكر الشروط المشترطة .
وقد ذكرت اللجنة جملة من النقول في ذلك عن المذاهب الأربعة بدون تصرف فيها ليطلع أعضاء المجلس على كلام العلماء ، وسيكون ترتيب ذكر النقول على حسب الترتيب الزمني للمذاهب الأربعة ، فنذكر النقول عن المذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي ، ونذكر أمام كل مذهب تمهيدا يعطي صورة مختصرة له :(7/255)
1 - النقول عن المذهب الحنفي :
تمهيد : الحنفية يبنون القول بإثبات الملكية بالتقادم على الاجتهاد ، ومدته ست وثلاثون سنة وعلى الأمر السلطاني ، فيحدد المدة التي لا تسمع الدعوى بعدها ، وهذه المدة لا يمكن ضبطها نظرا لاختلاف السلاطين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 155)
واختلاف اجتهاد السلطان نفسه ، فقد تكون المدة خمس عشرة سنة ، وقد تكون عشر سنوات ، وقد تكون أقل من ذلك على ما يأتي تفصيله في النقول ، وقد وقع اختيار اللجنة على ثلاثة نقول من [الدر المختار وشرحه] ، ومن [مجلة الأحكام العدلية وشرحها] ، والثالث من [مرشد الحيران وشرحه] ، وقد ذكرناها على هذا الترتيب :
أ- جاء في [الدر المختار ورد المحتار] :
( قوله : بعد خمسة عشر سنة ) المناسب خمس عشرة بتذكير الأول وتأنيث الثاني ؛ لكون المعدود مؤنثا وهو سنة ، وأجاب ط : بأنه على تأويل السنة بالعام أو الحول ( قوله فلا تسمع الآن بعدها ) أي : لنهي السلطان عن سماعها بعدها فقد قال السيد الحموي في [حاشية الأشباه] : أخبرني أستاذي شيخ الإسلام يحيى أفندي الشهير بالنقاري : أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم أن يسمعوا دعوى بعد مضي خمس عشرة سنة سوى الوقف والإرث . اهـ .
ونقل في [الحامدية] ، فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النهي المذكور ، لكن هل يبقى النهي بعد موت السلطان الذي نهى بحيث لا يحتاج من بعده إلى نهي جديد أفتى في الخيرية بأنه لا بد من تجديد النهي ولا يستمر النهي بعده ، وبأنه إذا اختلف الخصمان في أنه منهي أو غير منهي فالقول للقاضي ما لم يثبت المحكوم عليه النهي ، وأطال في ذلك وأطاب فراجعه ، وأما ما ذكره السيد الحموي أيضا من أنه قد علم من عادته - يعني : سلاطين آل عثمان - نصرهم الرحمن - من أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ أمره باتباعه فلا يفيد هنا ؛ لأن معناه : أن يلتزم قانون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 156)(7/256)
أسلافه بأن يأمر بما أمر به وينهى عما نهوا عنه ، ولا يلزم منه أنه إذا ولى قاضيا ولم ينهه عن سماع هذه الدعوى أن يصير قاضيه منهيا بمجرد ذلك ، وإنما يلزم منه أنه إذا ولاه ينهاه صريحا ؛ ليكون عاملا بما التزمه من القانون ، كما اشتهر أنه حين يوليه الآن يأمره في منشوره بالحكم بأصح أقوال المذهب كعادة من قبله ، وتمام الكلام على ذلك في كتابنا [تنقيح الحامدية] ، فراجعه ، وأطلنا الكلام عليه أيضا في كتابنا [تنبيه الولاة والحكام] .
( قوله : إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي ) استثناء الإرث موافق لما مر عن الحموي ، ولما في [الحامدية] عن فتاوى أحمد أفندي المهمنداري مفتي دمشق أنه كتب على ثلاثة أسئلة أنه تسمع دعوى الإرث ولا يمنعها طول المدة ، ويخالفه ما في الخيرية حيث ذكر أن المستثنى ثلاثة : مال اليتيم والوقف والغائب ، ومقتضاه : أن الإرث غير مستثنى فلا تسمع دعواه بعد هذه المدة ، وقد نقل في [الحامدية] ، عن المهمنداري أيضا أنه كتب على سؤال آخر فيمن تركت دعواها الإرث بعد بلوغها خمس عشرة سنة بلا عذر أن الدعوى لا تسمع إلا بأمر سلطاني ، ونقل أيضا مثله فتوى تركية عن المولى أبي السعود وتعريبها : إذا تركت دعوى الإرث بلا عذر شرعي خمس عشرة سنة فهل لا تسمع ؟
الجواب : لا تسمع إلا إذا اعترف الخصم بالحق .
ونقل مثله شيخ مشايخنا التركماني عن فتاوى علي أفندي مفتي الروم ، ونقل مثله أيضا شيخ مشايخنا السائحاني عن فتاوى عبد الله أفندي مفتي الروم ، وهذا الذي رأينا عليه عمل من قبلنا ، فالظاهر : أنه ورد نهي جديد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 157)
بعدم سماع دعوى الإرث . والله سبحانه أعلم .(7/257)
( تنبيهات ) الأول : قد استفيد من كلام الشارح أن عدم سماع الدعوى بعد هذه المدة إنما هو للنهي عنه من السلطان فيكون القاضي معزولا عن سماعها ؛ لما علمت من أن القضاء يتخصص ؛ فلذا قال : إلا بأمر ، أي : فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع ، وسبب النهي قطع الحيل والتزوير فلا ينافي ما في [الأشباه] ، وغيرها من أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان . اهـ . ولذا قال في [الأشباه] أيضا : ويجب عليه سماعها . اهـ . أي : يجب على السلطان الذي نهى قضاته عن سماع الدعوى بعد هذه المدة أن يسمعها بنفسه أو يأمر بسماعها كيلا يضيع حق المدعي ، والظاهر أن هذا حيث لم يظهر من المدعي أمارة التزوير ، وفي بعض نسخ [الأشباه] : ويجب عليه عدم سماعها ، وعليه فالضمير يعود للقاضي المنهي عن سماعها ، لكن الأول هو المذكور في معين المفتي .
الثاني : أن النهي حيث كان للقاضي لا ينافي سماعها من المحكم ، بل قال المصنف في [معين المفتي] : إن القاضي لا يسمعها من حيث كونه قاضيا ، فلو حكمه الخصمان في تلك القضية التي مضى عليها المدة المذكورة فله أن يسمعها .
الثالث : عدم سماع القاضي لها إنما هو عند إنكار الخصم ، فلو اعترف تسمع كما علم مما قدمناه من فتوى المولى أبي السعود أفندي إذ لا تزوير مع الإقرار .
الرابع : عدم سماعها حيث تحقق تركها هذه المدة ، فلو ادعى في أثنائها لا يمنع ، بل تسمع دعواه ثانيا ما لم يكن بين الدعوى الأولى والثانية هذه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 158)(7/258)
المدة . ورأيت بخط شيخ مشايخنا التركماني في مجموعته أن شرطها - أي : شرط الدعوى - مجلس القاضي فلا تصح الدعوى في مجلس غيره ، كالشهادة - تنوير وبحر ودرر - قال : واستفيد منه جواب حادثة الفتوى وهي : أن زيدا ترك دعواه على عمرو مدة خمس عشرة سنة ، ولم يدع عند القاضي ، بل طالبه بحقه مرارا في غير مجلس القاضي ، فمقتضى ما مر لا تسمع ؛ لعدم شرط الدعوى فليكن على ذكر منك . فإنه تكرر السؤال عنها ، وصريح فتوى شيخ الإسلام علي أفندي : أنه إذا ادعى عند القاضي مرارا ولم يفصل القاضي الدعوى ومضت المدة المزبورة - تسمع ؛ لأنه صدق عليه أنه لم يتركها عند القاضي . اهـ . ما في المجموعة .
وبه أفتى في [الحامدية] ، ثم لا يخفى أن ترك الدعوى إنما يتحقق بعد ثبوت حق طلبها ، فلو مات زوج المرأة أو طلقها بعد عشرين سنة مثلا من وقت النكاح - فلها مؤخر المهر ؛ لأن حق طلبه إنما ثبت لها بعد الموت أو الطلاق لا من وقت النكاح ، ومثله ما يأتي فيما لو أخر الدعوى هذه المدة لإعسار المديون ثم ثبت يساره بعدها ، وبه يعلم جواب حادثة الفتوى سئلت عنها حين كتابتي لهذا المحل في رجل له دكان وقف مشتمل على منجور وغيره وضعه من ماله في الدكان بإذن ناظر الوقف نحو أربعين سنة وتصرف فيه هو وورثته من بعده في هذه المدة ثم أنكره الناظر الآن وأنكر وضعه بالإذن ، وأراد الورثة إثباته وإثبات الإذن بوضعه ، والذي ظهر لي في الجواب سماع البينة في ذلك ؛ لأنه حيث كان في يدهم ويد مورثهم هذه المدة بدون معارض لم يكن ذلك تركا للدعوى ، ونظير ذلك ما لو ادعى زيد على عمرو بدار في يده ، فقال له عمرو : كنت اشتريتها منك من عشرين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 159)(7/259)
سنة وهي في ملكي إلى الآن ، وكذبه زيد في الشراء ، فتسمع بينة عمرو على الشراء المذكور بعد هذه المدة ؛ لأن الدعوى توجهت عليه الآن ، وقبلها كان واضع اليد بلا معارض فلم يكن مطالبا بإثبات ملكيتها فلم يكن تاركا للدعوى ، ومثله فيما يظهر أن مستأجر دار الوقف يعمرها بإذن الناظر وينفق عليها مبلغا من الدراهم يصير دينا له على الوقف ويسمى في زماننا : مرصدا ولا يطالب به ما دام في الدار ، فإذا خرج منها فله الدعوى على الناظر بمرصده المذكور وإن طالت مدته حيث جرت العادة بأنه لا يطالب به قبل خروجه ، ولا سيما إذا كان في كل سنة يقتطع بعضه من أجرة الدار فليتأمل .
الخامس : استثناء الشارح العذر الشرعي أعم مما في الخيرية من الاقتصار على استثناء الوقف ومال اليتيم والغائب ؛ لأن العذر يشمل ما لو كان المدعى عليه حاكما ظالما كما يأتي وما لو كان ثابت الإعسار في هذه المدة ثم أيسر بعدها فتسمع كما ذكره في [الحامدية] .
السادس : استثناء مال اليتيم مقيد بما إذا لم يتركها بعد بلوغه هذه المدة وبما إذا لم يكن له ولي كما يأتي ، وفي الحامدية لو كان أحد الورثة قاصرا والباقي بالغين تسمع الدعوى بالنظر إلى القاصر بقدر ما يخصه دون البالغين .
السابع : استثنوا الغائب والوقف ولم يبينوا له مدة فتسمع من الغائب ولو بعد خمسين سنة ، ويؤيده قوله في الخيرية : من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه ؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة ، والعلة خشية التزوير ولا يتأتى بالغيبة الدعوى عليه فلا فرق فيه بين غيبة المدعي والمدعى عليه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 160)(7/260)
اهـ . وكذا الظاهر في باقي الأعذار أنه لا مدة لها ؛ لأن بقاء العذر وإن طالت مدته يؤكد عدم التزوير بخلاف الوقف فإنه لو طالت مدة دعواه بلا عذر ثلاثا وثلاثين سنة لا تسمع كما أفتى به في [الحامدية] ، أخذا مما ذكره في [البحر] ، في كتاب الدعوى عن ابن الغرس عن [المبسوط] ، إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة ولم يكن مانع من الدعوى ثم ادعى لا تسمع دعواه ؛ لأن ترك الدعوى مع التمكن يدل على عدم الحق ظاهرا . اهـ .
وفي [جامع الفتوى] عن فتاوى العتابي ، قال المتأخرون من أهل الفتوى : لا تسمع الدعوى بعد ست وثلاثين سنة إلا أن يكون المدعي غائبا أو صبيا أو مجنونا وليس لهما ولي أو المدعى عليه أميرا جائرا . اهـ . ونقل ط عن الخلاصة : لا تسمع بعد ثلاثين سنة . اهـ . ثم لا يخفى أن هذا ليس مبنيا على المنع السلطاني ، بل هو منع من الفقهاء فلا تسمع الدعوى بعده وإن أمر السلطان بسماعها .
الثامن : سماع الدعوى قبل مضي المدة المحدودة مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع آخر يدل على عدم الحق ظاهرا لما سيأتي في مسائل شتى آخر الكتاب ، من أنه لو باع عقارا أو غيره وامرأته أو أحد أقاربه حاضر يعلم به ثم ادعى ابنه مثلا أنه ملكه - لا تسمع دعواه ، وجعل سكوته كالإفصاح قطعا للتزوير والحيل ، بخلاف الأجنبي ، فإن سكوته ولو جارا لا يكون رضا إلا إذا سكت الجار وقت البيع والتسليم وتصرف المشتري فيه زرعا وبناء فلا تسمع دعواه على ما عليه الفتوى ، قطعا للأطماع الفاسدة . اهـ . وأطال في تحقيقه في الخيرية من كتاب الدعوى فقد جعلوا مجرد سكوت القريب أو الزوجة عند البيع مانعا من دعواه بلا تقييد باطلاعه على تصرف المشتري
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 161)(7/261)
كما أطلقه في [الكنز] ، و [الملتقى] ، وأما دعوى الأجنبي ولو جارا فلا بد في منعها من السكوت بعد الاطلاع على تصرف المشتري ولم يقيدوه بمدة ، وقد أجاب المصنف في فتاواه فيمن له بيت يسكنه مدة تزيد على ثلاث سنين ويتصرف فيه هدما وعمارة مع اطلاع جاره على ذلك بأنه لا تسمع دعوى الجار عليه البيت أو بعضه على ما عليه الفتوى .
وسيأتي تمام الكلام على ذلك آخر الكتاب في مسائل شتى قبيل الفرائض إن شاء الله تعالى ، فانظره هناك فإنه مهم [حاشية ابن عابدين] ( 4/377-379 ) . .(7/262)
ب- وجاء في [مجلة الأحكام العدلية وشرطها]
أ- أنواع مرور الزمن :
إن مرور الزمن على نوعين :
النوع الأول : مرور الزمن الذي حكمه اجتهادي ومدته ست وثلاثون سنة ، ولذلك فالدعوى التي تترك ستا وثلاثين سنة بلا عذر لا تسمع مطلقا ، حيث إن ترك الدعوى تلك المدة مع الاقتدار عليها وفقدان العذر يدل على عدم الحق . إن اعتبار نهاية مدة مرور الزمن ستا وثلاثين سنة بني على المادة الـ ( 661 ) ( علي أفندي و [رد المحتار] بزيادة ) .
النوع الثاني : مرور الزمن المعين من قبل السلطان . أن عدم استماع الدعوى في مرور الزمن الذي هو من هذا النوع مبني على المادة الـ ( 1801 ) من المجلة ، فلذلك إذا تحقق في دعوى مرور زمن من هذا النوع وأمر من قبل السلطان باستماع تلك الدعوى فتسمع .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 162)
وللسلطان أن يمنع قاضيا من استماع الدعوى التي يقع فيها مرور زمن من هذا النوع وأن يأذن قاض آخر بسماع مثل هذه الدعوى ؛ ولذلك فالفتاوى التي أفتى بها مشايخ الإسلام بعدم استماع الدعوى في مثل هذا النوع من مرور الزمن قد ذكر فيها بأنها لا تسمع بلا أمر ( علي أفندي ) .
إن هذا النهي هو في حق القاضي وليس في حق الحكم فلذلك إذا فصل الحكم دعوى مر عليها خمس عشرة سنة فصحيح وينفذ حكمه ( الحموي ) حتى لو أن شخصين عينا القاضي حكما بفصل دعوى ، فللحكم المذكور أن يفصل تلك الدعوى ولو مر عليها خمس عشرة سنة [رد المحتار] .
إن مرور الزمن لا يثبت حقا : يعني : أن العقود كالبيع والإجارة مع كونها مثبتة وموجودة لكل واحد من العاقدين منفعة ومضرة إلا أن مرور الزمن لا يثبت حقا للطرف الذي يريد الاستفادة منه . فلذلك إذا رد القاضي دعوى دائن بسبب وقوع مرور الزمن فيها يبقى المدعى عليه مدينا للمدعي ويكون قد هضم حق المدعي .
ب- الدعاوى الممنوع استماعها :
1 - الدعاوى الواقع فيها مرور زمن وهي المبينة في هذا الباب .(7/263)
2 - دعوى المواضعة والاسم المستعار في الأموال الغير المنقولة .
3 - قد منع بتاريخ 27 جمادى الآخرة سنة 1320 وفي 17 أيلول سنة 1318 هـ دعاوى بيع وشراء العقار ما لم يكن البيع والشراء وقعا بمعاملة رسمية ، أي : في دوائر التمليك ( دفتر خاقاني ) .
4 - قد منع سماع دعوى الرهن والشرط والوفاء والاستغلال غير المندرجة في السند بتاريخ 28 رجب سنة 91 و 28 أغسطس سنة 90 .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 163)
5 - قد منع بتاريخ 18 صفر سنة 1306 هـ و 12 تشرين الأول سنة 1304 هـ سماع دعوى فراغ الأراضي الأميرية بشرط الإعاشة الغير المندرج بسند الطابو .
6 - قد منع استماع دعوى فراغ المستغلات الموقوفة مجانا بشرط الإعاشة الغير المندرج في سند التصرف .
7 - قد منع في 26 صفر سنة 78 سماع دعوى الفراغ وفاء الذي لم يندرج في سند الطابو .
8 - لا تسمع دعوى الخليط والشريك بحق الرجحان بعد خمس سنوات حسب قانون الأراضي .
9 - إذا تفرغ متصرف الأرض بالأراضي الأميرية التي عليها أبنية أو أشجار لآخر - فلا تسمع دعوى صاحب الأبنية والأشجار بحق الرجحان بتلك الأراضي بعد مرور عشر سنوات على الفراغ .
10 - إذا تفرغ أحد بالأرض التي بتصرفه بموجب سند طابو الواقعة في حدود القرية لآخر من أهالي قرية أخرى فلمن كان له احتياج للأرض من أهالي تلك القرية أن يدعي تلك الأرض إلى سنة ببدل المثل ، ولا تسمع دعواه بعد مرور سنة حسب قانون الأراضي .
11 - إن الأراضي الأميرية التي تصبح مملوكة كعدم وجود أصحاب انتقال لها - لا تسمع فيها دعوى حق الطابو الذي يثبت لصاحب الأبنية والأشجار في تلك الأرض بعد مرور عشر سنوات .
12 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو بالأراضي المذكورة من الخليط والشريك بعد مرور خمس سنوات .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 164)
13 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو في الأراضي المذكورة من الأشخاص المحتاجين للأراضي بعد مرور سنة .(7/264)
14 - لا تسمع دعوى الربح الملزم زيادة عن تسعة في المئة سنويا .
15 - إذا وجد بين ورثة المتوفى شخص لم يبلغ خمس عشرة سنة فلا تسمع دعواه البلوغ قد منع حكام الشرع من استماع دعواه .
السنة التي تعتبر في مرور الزمن :
تعتبر في مرور الزمن السنة العربية - أي : القمرية - وليست السنة الشمسية فلذلك يجب حساب مدة مرور الزمن بالسنة القمرية ، مثلا إذا كان السند المحتوي الدين مؤرخا بتاريخ السنة الشمسية ولم يؤرخ بالسنة القمرية فيحسب مرور ذلك بالسنة القمرية .
مبدأ ومنتهى مرور الزمن :
إن مبدأ مرور الزمن يبتدئ من ثبوب الحق ومنتهاه إقامة الدعوى في حضور القاضي فلذلك يجب حساب مبدئه ومنتهاه على الوجه المشروح .
إذا أثبت من ادعى مرور الزمن مدعاه بالبينة فبها ، أما إذا لم يثبت فهل له تحليف خصمه اليمين ؛ أي : إذا قال المدعى عليه : إنني متصرف في هذا العقار ست عشرة سنة بلا نزاع وأنت سكت ، وأنكر المدعي تصرف المدعى عليه هذه المدة ولم يثبت المدعى عليه بالبينة تصرفه هذا فهل للمدعى عليه أن يحلف خصمه اليمين على عدم العلم بتصرفه ست عشرة سنة ؟ لم أر صراحة في هذه المسألة إلا أن الفقهاء قد بينوا تحت قاعدة عمومية المسائل التي يجب فيها اليمين وهي :
4 - كل موضع يلزم فيه الخصم إذا أقر يستحلف إذا أنكر . ويستثنى من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 165)
هذه القاعدة ثلاث مسائل ومرور الزمن ليس منها ( صرة الفتاوى في الدعوى ) فعلى ذلك يلزم اليمين في هذه المسألة حسب هذه القاعدة أن بينة مرور الزمن مرجحة .(7/265)
ترجح بينة مرور الزمن على بينة أن المدة التي مرت أقل من مدة مرور الزمن سواء كان المدعى به ملكا أو وقفا أو أرضا أميرية . مثلا إذا ادعى ذو اليد بأن الملك العقار المدعى به هو في تصرفه بلا نزاع زيادة عن خمس عشرة سنة وأن دعوى المدعي غير مسموعة وادعى المدعي الخارج بأن مدة تصرف المدعى عليه هي عشر سنوات وأن دعواه مسموعة وأقام البينة على ذلك فترجح بينة ذي اليد ( الطريقة الواضحة ) .
إذا أقام زيد على عمرو دعوى فادعى عمرو أنه مر خمس عشرة سنة وادعى زيد بأنه لم تمر خمس عشرة سنة وأقام البينة على ذلك ، فأيهما كان مشهورا ومعروفا يعمل بها ؟ أما إذا أثبت زيد أنه قدم الدعوى قبل مرور خمس عشرة فيعمل بها ( أبو السعود ) .(7/266)
وإن صدور الحكم بالمدعي به لا يمنع وقوع مرور الزمن فلذلك لو استحصل أحد حكما بمطلوبه ولم يطلبه مدة خمس عشرة سنة ولم يضع أعلام الحكم ، لأجل تنفيذه في الإجراء يحصل مرور الزمن في حالة تصرف المدعى عليه بلا نزاع ، أما إذا كان معروفا ومشهورا أن تصرف المدعى عليه في ذلك العقار بالوكالة عن المدعي فلا يتحقق مرور الزمن .
مثلا : إذا ادعى المدعي قائلا : إن العقار الفلاني الذي في يدك هو ملكي وبعد أن أنكر المدعى عليه ادعى أنه متصرف في العقار المذكور منذ خمس عشرة سنة بلا نزاع فأجابه المدعي : نعم ، إنك متصرف منذ خمس عشرة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 166)
سنة ولكن إن تصرفكم هذا بالوكالة عني وكان مشهورا ومعروفا أن تصرفه بالوكالة عن المدعي فيسقط ادعاء المدعى عليه بمرور الزمن ؛ لأن التصرف كما يكون أصالة يكون نيابة كالوكالة ( البحر وأبو السعود ) .
المادة ( 1660 ) - ( لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين والوديعة والعقار الملك والميراث والمقاطعة في العقارات الموقوفة أو التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد تركها خمس عشرة سنة ) .
لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين ولو كان دية والوديعة والعارية والعقار الملك والملك الذي لم يكن عقارا كالحيوان والأمتعة الأخرى والميراث والقصاص والمقاطعة في العقارات الموقوفة ودعوى التصرف بالمقاطعة ودعوى التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد أن تركت خمس عشرة سنة .
أما مدة مرور الزمن في الدعاوى الأخرى كالطلاق والنكاح والوصية فالتفصيلات عنها مفقودة .
ولكن يمكن أن يقال : إن الخصومات التي لم يمنع استماع الدعاوى فيها بمرور الزمن يجب استماعها ما لم يقع مرور زمن اجتهادي .
مدد مرور الزمان : إن مدد مرور الزمن في الدعاوى الحقوقية في هذا الحال على خمسة أقسام :(7/267)
القسم الأول : مرور زمن الست والثلاثين سنة ، وهذا يكون في دعوى أصل الوقف وفي دعوى صاحب الأرض برقبة الأرض . انظر المادة الـ ( 1661 ) وشرح المادة الـ ( 1662 ) .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 167)
القسم الثاني : مرور زمن الخمس عشرة سنة ، وهذا قد عدد قسم منه آنفا : وقسم منه مذكور في المادة الـ ( 1662 ) .
القسم الثالث : مرور زمن العشر سنوات ، وهذا مذكور في المادة الـ ( 1662 ) .
القسم الرابع : مرور زمن السنتين ، فحسب ذيل قانون الأراضي لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الخالية والمحلولة التي فوضت من طرف الحكومة للمهاجرين والتي زرعت منهم أو أنشئت عليها أبنية بعد مرور سنتين بلا عذر .
القسم الخامس : مرور زمن شهر . انظر المادة الـ ( 134 ) .
ولنبحث الآن في تفصيل مدد مرور الزمن في الأمور البينة آنفا :
الدين : مثلا : لو ادعى أحد على آخر قائلا : أطلب منك أن تؤدي لي كذا مبلغا الذي أخذ أو ثمن المبيع الذي بعته لك فلا تسمع دعواه .
ويفهم من ذكر الدين مطلقا أنه يشمل جميع الديون ، سواء كان عائدا للآحاد ، أي : ديون الناس مع بعضهم البعض أو كان ديون بيت المال من الآحاد أو ديون الآحاد من بيت المال خمس عشرة سنة على هذه الديون يحصل فيه مرور الزمن ؛ فلذلك قد صدرت إرادة سنية بتاريخ سنة 1300 هـ وتشرين الثاني سنة 1898 م بعدم سماع دعوى دين بيت المال بعد مرور خمس عشرة سنة .
الوديعة : إذا ادعى أحد على آخر قائلا : إنني أطلب منك الوديعة التي أودعتها لك قبل خمس عشرة سنة وأنكر المدعى عليه فلا تسمع الدعوى .
العارية : إذا توفيت امرأة وادعت أمها على زوجها قائلة : إنني أعرت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 168)
ابنتي المتوفاة كذا وكذا وأنكر الزوج - فلا تسمع دعواها .(7/268)
الميراث : إذا ادعى أحد الورثة على آخر قائلا : إنه قد بقي عندك كذا أشياء من مال مورثنا المتوفى قبل خمس عشرة سنة فأطلب حصتي من تلك الأشياء وأنكر المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه .
العقار الملك : إذا ادعى أحد بأن العقار كالدار والكرم الذي في تصرف شخص آخر مدة خمس عشرة سنة بلا نزاع بأنه ملكه أو أن له حصة فيه - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف اثنان بكرم مدة خمس عشرة سنة بالاشتراك ولم يدعيا على بعضهما البعض في تلك المدة ثم ادعى أحدهما أن ذلك الكرم ملكه مستقلا - فلا تسمع دعواه .
المقاطعة في العقارات الموقوفة : المقاطعة : وهي العقار الذي يكون عرصته وقفا وتكون الأبنية والأشجار والكروم التي عليها العرصة ملكا ويدفع من المتصرف فيها إجارة مقطوعة سنويا لجانب الوقف ، وتسمى هذه أيضا : إجارة الأرض ، ويجوز وقف هذا الملك أيضا ، يعني : إذا وقف أحد بإذن المتولي الذي أحدثه على العرصة الموقوفة أو الشجر الذي غرسه عليها لنفسه فيصح الوقف سواء كان موقوفا في الجهة الموقوفة عليه العرصة الموقوفة أو وقف على جهة أخرى ؛ لأنه وإن كانت جهة القرب مختلفة إلا أنهم يجمعان في أصل القرب واختلاف الجهة لا أوجب اختلاف الحكم ( علي أفندي ) .
ويمكن تصوير دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بمقاطعة على أربعة أوجه :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 169)
الوجه الأول : أن يكون المدعى به ملكا : مثلا : لو ادعى أحد قائلا : إن داري المملوكة المنشأة على عرصة الوقف الفلاني والمربوطة بكذا مبلغا مقاطعة للوقف يتصرف بها هذا المدعى عليه منذ خمس عشرة سنة وحيث إنها ملكي فأطلب تسليمها ، فإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي هذه فلا تسمع دعواه وتكون هذه الدعوى دعوى العقار الملك .(7/269)
الوجه الثاني : يكون المدعى به وقفا ، وهذا إما أن يكون بإجارة واحدة فلا يتصور فيه إقامة دعوى التصرف والدعوى التي تقام من متولي الوقف تكون عائدة إلى أصل الوقف ويكون مرور زمن فيها ستا وثلاثين سنة .
وإما أن تكون بإجارتين ، وهذه تدخل تحت فقرة ( أو التصرف بالإجارتين ) .
الوجه الثالث : تكون صورة الدعوى على الوجه الآتي يربط كلمة التصرف بكلمة المقاطعة وهو إن ادعى زيد على عمرو قائلا : إن عرصة هذا الوقف هي تحت التصرف بالمقاطعة بكذا درهما . فإذا لم يمر خمس عشرة سنة فتسمع الدعوى وإلا فلا . أما إذا ادعى أحد قائلا : إن العرصة التي أخذتها من المتولي زيد هي للوقف الفلاني الذي أنا متول عليه وهي بتصرفك بمقاطعة ، وادعى أن العرصة ملكه وأنكر المقاطعة فيما أن هذه الدعوى في هذه الصورة تتعلق برقبة الوقف فتسمع الدعوى فيها إلى ست وثلاثين سنة .
الوجه الرابع : إذا لم تربط كلمة تصرف بكلمة مقاطعة فتكون صورة الدعوى على هذا الوجه :
أن العرصة الفلانية التي أخذتها من المتولي زيد التي هي من مستغلات
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 170)
الوقف الذي تحت توليتي هي تحت تصرفك وبما أنه يطلب للوقف منك كذا مبلغا بدل مقاطعة فأطلب منك أداء ذلك . وحقيقة هذه الدعوى دعوى دين وتدخل في الدين ، فلذلك يجب أن يكون مقصودا من عبارة ( دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بالمقاطعة ) - الوجه الثالث .(7/270)
دعوى التصرف بالإجارتين في العقارات الموقوفة - تكون هذه الدعوى على وجهين :
الوجه الأول : تكون بين المتصرفين ، مثلا : إذا تصرف أحد بالإجارتين في عقار وقف في مواجهة آخر خمس عشرة سنة وسكت بلا عذر هذه المدة ثم ادعى بعد ذلك أن العقار المذكور في تصرفه بالإجارتين قبل المدة المذكورة - فلا تسمع دعواه ، وكما أنه لا تسمع دعواه التصرف مرور خمس عشرة سنة لا تسمع دعواه الفراغ وفاء ( جامع الإجارتين ) .
كذلك إذا تصرف اثنان بالاشتراك في عقار وقف بالإجارتين مدة خمس عشرة سنة ولم يدع في هذه المدة أحدهما على الآخر وقام أحدهما وادعى على الآخر أن ذلك العقار كان في تصرفه بالإجارتين قبل السنين المذكورة مستقلا - فلا تسمع دعواه .
الوجه الثاني : تكون بين المتصرف والمتولي ، مثلا : إذا تصرف أحد في عقار وقف بطريق الإجارتين مدة خمس عشرة سنة في مواجهة متولي ذلك الوقف وسكت المتولي تلك المدة بلا عذر : فإذا ادعى المتولي بعد ذلك قائلا للمدعى عليه : إن العقار المذكور لم يؤجر لك وإنك ضبطت ذلك العقار فضولا - فلا تسمع دعواه .
دعوى التولية المشروطة : إذا تصرف أحد بوقف بصفته متوليا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 171)
بالمشروطة مدة خمس عشرة سنة ثم ظهر شخص آخر وادعى بأن المتولي لذلك الوقف بالمشروطة هو نفسه لا تسمع دعواه .
والمتولي : هو الشخص الذي عين بإدارة ورؤية أمور ومصالح الوقف حسب شروط الوقفية ، وهو على قسمين :
القسم الأول : المتولي الذي تكون توليته من اقتضاء شروط الوقفية ويقال له : متول بالمشروطة .
القسم الثاني : المتولي الذي لم يشرط من طرف الواقف شرط بأن يكون متوليا ، بل هو متول بنصب القاضي له متوليا .(7/271)
دعاوى الغلة : ومعنى غلة الوقف : هي فائدة ومحصول الوقف كربح النقود الموقوفة ، وبدل إيجار العقار الموقوف ، ومحصول المزرعة الموقوفة ، وثمر الروضة الموقوفة - فعليه إذا تصرف عمرو بعد وفاة ولده بكر من أولاد أولاد الواقف في المزرعة الموقوفة المشروطة غلتها على أولاد الواقف وأولاد أولاده في مواجهة بشر أربعين سنة مستقلا وسكت بشر هذه المدة بلا عذر ، وبعد ذلك ادعى بشر على بكر قائلا في دعواه : إنني من أولاد الواقف وإن لي حق المشاركة في غلة المزرعة معك - فلا تسمع دعواه ( علي أفندي ) .
فإذا استمع القاضي الدعوى التي وقع فيها - مرور زمن على هذا الوجه وحكم فيها فلا ينفذ حكمه ؛ لأن الحكم والقضاء المخالف لأمر إمام المسلمين المشروع مردود ( جامع الإجارتين ) .
المادة ( 1661 ) : ( تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ستة وثلاثين سنة ، ولا تسمع بعد مرور ست وثلاثين سنة : مثلا : إذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 172)
تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة ثم ادعى متولي وقف قائلا : إن ذلك العقار هو من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه ) .
تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ست وثلاثين سنة ، وكل شيء يتعلق به صحة الوقف هو من أصل الوقف ، وكل شيء لا يتوقف عليه صحة الوقف هو من شروط الوقف ( جامع الإجارتين ) .
والمتولي كما بينا آنفا ؛ إما أن يكون بالمشروطة ، أو بنصب القاضي ، والدعوى صحيحة من أيهما كان .
والمرازقة : هم الذين يأخذون معاشا وراتبا من غلة الوقف ، ويسمى هؤلاء : أهل الوظائف أيضا كإمام الجامع وخدمته .(7/272)
يفهم من ظاهر المجلة بأن المرازقة هم خصم في دعوى الوقف إلا أن هذه المسألة مختلف فيها بين الفقهاء ، وبيان ذلك أن حق الدعوى في الأوقاف هو للمتولي عند بعض الفقهاء ، ولا يكون المرازقة مدعين مدعى عليهم في الوقف ، والقول المفتى به في ذلك الحين هو هذا القول ، مثلا : إذا ادعى أحد على العقار الذي في يد آخر قائلا : إن سكن هذا العقار وغلته هي وقف مشروطة لي وادعى ذو اليد بأن العقار المذكور ملكه ؛ فإذا كان ذلك المدعي هو متولي الوقف فتعتبر خصومته ودعواه ، وإذا كان غير ذلك فلا تعتبر على القول المختار [جامع الإجارتين] و[النتيجة] ، و[البحر في الدعوى والإسعاف] ، و[رد المحتار] ، و[أوائل الشهاد في الوقف] .
أما إذا أولت هذه الفقرة ( بأنه تسمع دعوى المرتزقة برأي القاضي فتكون موافقة للرأي المختار ) مثلا : إذا كان المتولي غائبا أو لم يدع كما أنه لم يوكل الموقوف عليه - فتسمع دعوى الموقوف عليه بإذن القاضي .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 173)
وعند بعض الفقهاء : إن للموقوف عليه أن يكون مدعيا في الأوقاف ، كما للمتولي حق بذلك فلذلك إذا كان الوقف على معين فدعوى الموقوف عليه المعين صحيحة ( الحموي ) .
ويرى أن المجلة قد اختارت هذا القول .
وأصل دعوى الوقف سواء كان عقارا ، وقد ذكر في المجلة ، أو كان منقولا كالنقود والدعاية التي تتعلق بأصل النقود الموقوفة تسمع إلى ست وثلاثين سنة .
مثلا : إذا أتلف أحد كذا دينارا من النقود الموقوفة التي تحت توليته بصرفها على نفسه ثم عين متول آخر على ذلك الوقف ولم يدع ذلك المتولي تلك النقود وبعد مرور خمس عشرة سنة نصب على الوقف متول آخر وادعى على المتولي الأول بتلك النقود - فليس للمتولي الأول أن يقول للمتولي : لا تسمع دعواك حيث قد مر خمس عشرة سنة ( علي أفندي ) .(7/273)
أما الدعوى المتعلقة بربح النقود الموقوفة فتسمع إلى خمس عشرة سنة فقط ، ولا تسمع دعوى المتولي والمرتزقة في حق أصل الوقف بعد مرور ست وثلاثين سنة ، ومرور الزمن في ذلك هو مرور الزمن الذي هو حكم اجتهادي .
والدعوى في حق أصل الوقف تكون على صورتين :
الصورة الأولى : تكون بين الملكية والوقفية ، مثلا : إذا تصرف أحد في عقار ستا وثلاثين سنة على وجه الملكية ثم ادعى متولي وقف قائلا : إنه من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه .
أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من ست وثلاثين سنة فتسمع الدعوى -
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 174)
فعليه لو ضبط أحد بضعة حوانيت وتصرف فيها على وجه الملكية مدة خمس وعشرين سنة ثم ادعى متولي وقف أن تلك الحوانيت هي وقف فلان - فتسمع دعواه ( علي أفندي ) .
الصورة الثانية : تكون بين وقفين ، مثلا : لو أجر متولي وقف عقارا على أنه من مستغلات الوقف الذي تحت توليته مدة ست وثلاثين سنة في مواجهة متولي وقف آخر وسكت متولي الوقف الثاني في هذه المدة بلا عذر ثم ادعى على متولي الوقف الأول أن العقار المذكور من مستغلات وقفه - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1662 ) - ( إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك - فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة ، وإن كانت في عقار الوقف للمتولي أن يدعيها إلى ست وثلاثين سنة ، وكما لا تسمع دعاوى الأرض الأميرية بعد مرور عشر سنوات كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات ) .
إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة .
ويستعمل الطريق الخاص والمسيل في معنيين :
أولهما : بمعنى رقبة الطريق ورقبة المسيل ، وقد مر في شرح المادة الـ ( 1213 ) والـ ( 1143 ) تعريف الطريق الخاص كما أنه قد ذكر في المادة الـ ( 1220 ) بأنه كالملك المشترك لمن لهم فيه حق المرور .(7/274)
قد ذكر في الـ ( 144 ) أن المسيل : هو محل جريان الماء والسيل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 175)
( الهندية في باب البيع الفاسد في قوله : وبيع الطريق وهبته ) .
وعلى هذا المعنى : إذا كان الطريق والمسيل لعقار الملك فمدة مرور الزمن فيها خمس عشرة سنة ، إذا كانا لعقار وقف فمدة مرور الزمن فيها ست وثلاثون سنة وقد ذكر ذلك في مادتي الـ ( 1660 ) والـ ( 1661 ) فإذا كان يقصد في هذه المادة هذا المعنى فيكون تكرارا ، كما أن عبارة ( في العقار الملك ) مانعة من إرادة هذا المعنى ؛ لأنه لا يصح أن يكون الشيء ظرفا لنفسه .
ثانيا : معنى حق المرور ، حق المسيل وهذا المعنى مناسب لتعبير حق الشرب وإذا قصد هذا المعنى فلا يكون الكلام تأكيدا ، بل يكون تأسيسا ، والتأسيس أولى من التأكيد .
مثال للمعنى الثاني : إذا ادعى أحد بأن له حق مرور في العرصة التي في تصرف آخر مستقلا مدة خمس عشرة سنة وأنه كان يمر منها قبل خمس عشرة سنة - فلا تسمع دعواه . وإذا كانت في العقارات الموقوفة فللمتولي أن يدعي ذلك لست وثلاثين سنة . مثلا : لو كان لحانوت وقف حق مسيل في عرصة موقوفة لجهة أخرى - فلمتولي الوقف الأول أن يدعي على متولي الوقف الثاني إلى ست وثلاثين سنة :
وفي ذلك ثلاث صور :
الصورة الأولى : أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات الموقوفة ، وأن يكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا ، كما في المثال المذكور آنفا .
الصورة الثانية : أن يكون حق الطريق واقعا في عقارات موقوفة ويكون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 176)
العقار الذي يرجع إليه حق الطريق ملكا ؛ كادعاء أحد على متولي عرصة بقوله : إن لداري الملك حق طريق في العرصة التي أنت متول عليها ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر هي خمس عشرة سنة ، تبعا للعقار الملك التي هي عائدة إليه .(7/275)
الصورة الثالثة : أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات المملوكة ويكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا كادعاء متولي وقف عقارا على آخر بقوله : إن للعقار الذي تحت توليتي حق مرور في العرصة التي هي ملكك ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر ست وثلاثون سنة ، تبعا للعقار الموقف التي هي عائدة إليه .
وكما أنه لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الأميرية بعد مرور عشر سنوات قمرية ، كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات .
يوجد في هذه الفقرة أربع مسائل ويفصل كل منها على الوجه الآتي :
المسألة الأولى : دعاوى الأراضي الأميرية . والمقصد منها دعاوى التصرف في الأراضي الأميرية سواء كانت الأميرية أميرية صرفة أو أميرية موقوفة . مثلا : إذا تصرف أحد في مزرعة في الأراضي الأميرية عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت ذلك الآخر تلك المدة بلا عذر فأقام الدعوى قائلا : إن تلك المزرعة هي بتصرفي بموجب سند طابو قبل السنين المذكورة وأنكر المدعى عليه - فلا تسمع دعواه .
وقد جاء في [جامع الفصولين] : رجل تصرف في الأراضي الأميرية عشر سنين يثبت له حق القرار ولا تؤخذ من يديه .(7/276)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 177)
تكون دعوى التصرف في الأراضي الأميرية على صورتين :
الصورة الأولى : تكون بإقامة الدعوى من شخص على آخر وهو كما في المثال المتقدم الذكر .
الصورة الثانية : تكون بإقامة صاحب الأرض على شخص . مثلا : إذا ادعى صاحب الأرض الأراضي التي بتصرف أحد بموجب طابو محلولة من عهدة فلان أو أنها من الأراضي الأميرية الخالية وطلب ضبطها لبيت المال ، مبينا أن تصرف المدعى عليه بها تصرف فضولي ، فأنكر المدعى عليه التصرف الفضولي وادعى تصرفه بها على كونها أراضي أميرية منذ عشر سنوات وأثبت مدعاه - فلا تسمع دعوى صاحب الأرض ، أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من عشر سنوات - فتسمع الدعوى . مثلا : لو ترك أحد دعواه على آخر المتعلقة بأرض مسجلة بالطابو تسع سنوات وأحد عشر شهرا - فلا يمنع هذا الإهمال استماع دعواه ، كما أنه لو تركها تسع سنوات وأحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما بلا عذر ولم تتم السنوات العشر - تسمع دعواه .
كذلك لو تصرف أحد مع آخر في مزرعة من الأراضي الأميرية بالاشتراك السنوي عشر سنوات وسكت ذلك الشخص هذه المدة بلا عذر وادعى بعد مرور السنوات العشر بأن جميع المزرعة هي بتصرفه بموجب طابو فلا تسمع دعواه .
وقد صدرت إرادة سلطانية بتاريخ 22 المحرم سنة 1300هـ و 22 تشرين الثاني سنة 1298 بسماع دعوى مأمور الأرض المتعلقة برقبة الأرض الأميرية إلى ست وثلاثين سنة .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 178)
مثلا : إذا تصرف أحد في أرض على كونها ملكه فتسمع دعوى مأمور الأراضي بأنها أراض أميرية إلى ست وثلاثين سنة .
كذلك إذا ادعى صاحب الأرض بأن الأرض من الأراضي الأميرية وادعى المتولي ذي اليد بأنها وقف - فتسمع دعوى صاحب الأرض إذا لم يمر ست وثلاثون سنة ، أما إذا مر ست وثلاثون سنة فلا تسمع دعواه .(7/277)
المسألة الثانية : دعاوى الطريق الخاص في الأراضي الأميرية . إذا ادعى أحد قائلا : إن لمزرعتي التي تحت تصرفي بموجب طابو طريقا خاصا في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مر عشر سنوات .
المسألة الثالثة : دعاوى المسيل في الأراضي الأميرية . إذا ادعى أحد قائلا : إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق مسيل في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات .
إن الصور الثلاث التي ذكرت في شرح الفقرة الثانية من المادة الآنفة تلاحظ في هاتين المسألتين .
المسألة الرابعة : دعاوى حق الشرب في الأراضي الأميرية : إذا ادعى أحد قائلا إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق شرب في النهر الموجود في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات ، وإلا فتسمع .
المادة ( 1663 ) - ( والمعتبر في هذا الباب - أي : في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط ، وأما مرور الزمن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 179)
الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، سواء كان له وصي أو لم يكن له أو كونه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له ، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر . مثلا : لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر المدعي ، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ . كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمن تغلب خصمه وحصل مرور زمن لا يكون مانعا لاستماع الدعوى ، وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب ) .(7/278)
والمعتبر في هذا الباب - أي : في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر . أما الزمن الذي مر بعذر شرعي ككون المدعي ، أي : صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، سواء كان له وصي أو لم يكن أو كان المدعي أو المدعى عليه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه - أي : المدعى عليه - من المتغلبة فلا يعتبر ، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر ( علي أفندي ) .
فعلى هذه الصورة : لو كان لزيد حق ثابت في ذمة عمرو فتغيب عمرو بعد ثبوت ذلك الحق أربع عشرة سنة ثم حضر فمبدأ مرور الزمن يعتبر من تاريخ حضور عمرو ، فلو أقام زيد الدعوى بعد التاريخ المذكور بثلاث عشرة سنة - تسمع دعواه .
والمدة التي تمر بأعذار كهذه لو بلغت أربعين أو خمسين سنة فتسمع الدعوى ؛ لأن من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه ؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة ، والعلة خشية التزوير ، ولا لتالي بالغيبة الدعوى عليه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 180)
[رد المحتار] .
الأعذار الثلاثة : يطلق على الأعذار المبينة في هذه المادة الأعذار الثلاثة .
الأول : القاصرية : وهو عبارة عن كون صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، فالمدة التي تمر أثناء القاصرية لا تدخل في حساب مرور الزمن ، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ .(7/279)
مثلا : لو دامت القاصرية خمس سنوات وزالت في ابتداء السنة السادسة فيبتدئ مرور الزمن اعتبارا من السنة السادسة ، كما أنه لو دامت القاصرية خمس عشرة سنة وزالت في ابتداء السنة السادسة عشرة فيحسب مرور الزمن من ابتداء السنة السادسة عشرة . أما إذا بدأ مرور الزمن حينما لم تكن القاصرية موجودة ، وقبل اكتمال مرور الزمن حصلت القاصرية ، ثم زالت بعد مدة ، فهل يجب تنزيل المدة التي كان فيها في حالة القاصرية من مدة مرور الزمن ؟ يعني : مثلا : لو باع زيد وهو أهل للتصرف مالا لعمرو بعشرين دينارا وبعد خمس سنوات طرأ على عمرو قاصرية دامت عشر سنوات ثم زالت ثم ادعى بعد زوال القاصرية بثماني سنوات ؛ فإذا نزلت من المدة مدة القاصرية فيكون مجموع المدة ثلاث عشرة سنة ، ويجب سماع الدعوى ، وفي حالة عدم تنزيلها تكون المدة ثلاثا وعشرين سنة ، ويجب عدم سماع الدعوى .
إن هذه المسألة محتاجة للحل ومن الموافق استماع الدعوى لحين وجود مسألتها الصريحة .
الثاني : الغيبة : وهي أعم من غيبة المدعي أو المدعى عليه ، فالمدة التي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 181)
تمر في حالة الغيبة سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها في مرور الزمن إذا كان ثبوت الحق المدعى به في حالة الغياب .
مثال على كونه بالغا مدة مرور الزمن : إذا كان لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار بعيدة مدة السفر وتحقق في ذمة الغائب بطريق البيع أو الإجارة أو الإقراض بطريق المكاتبة أو المراسلة أو بإتلاف المال ولم يتمكن من الادعاء بمطلوبه ثم بعد مرور خمس عشرة سنة حضر ذلك الشخص ثم بعد مرور أربع عشرة سنة من حضوره أقام صاحب الحق عليه الدعوى - فتسمع دعواه .(7/280)
مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن : إذا ثبت لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار أخرى بعيدة مدة السفر ودامت غيبة المدين مدة خمس سنوات إلا أنه حضر في ابتداء السنة السادسة فبما أنه يبتدئ مرور الزمن من السنة السادسة فللمدعي أن يقيم الدعوى بعد تسع عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق .
يوجد بعض مسائل تحتاج للحل في عذر الغيبة :
1 - إذا بدأ مرور الزمن في عدم وجود الغيبة وقبل أن يتم مرور الزمن تخللته الغيبة ثم زالت الغيبة بعد مدة ، فهل يجب تنزيل مدة الغيبة من مرور الزمن أو لا يجب ؟ فالظاهر أنه يجب تنزيلها . يعني : لو أقرض زيد لعمرو عشرة دنانير وسلمها إياه ثم أقام الاثنان في بلدة واحدة خمس سنوات ثم غاب عمرو وسافر إلى ديار بعيدة مدة السفر مدة عشر سنوات ثم حضر فادعى المدعي بعد حضوره بأربع سنوات ؛ فإذا نزلت مدة الغيبة يكون مر تسع سنوات فقط ، وإذا لم تنزل يكون قد مر تسع عشرة سنة ، والظاهر : أنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 182)
يجب تنزيل مدة الغيبة .
2 - إذا كان للمدعى عليه الغائب وكيل بالخصومة أو نائب له ، يعني : لو وكل المدعى عليه قبل غيبته وكيلا في الخصومة في الدعاوى التي تقام له أو عليه وكانت هذه الجهة معلومة للمدعي إلا أن المدعي لم يقم الدعوى ، لغيبة المدعى عليه ، فهل يقع مرور الزمن ؟
بما أنه في حالة غيبة المدعى عليه لا يمكن فصل بعض الدعاوى كأن لا يوجد لدى المدعي شهود ويتوجه اليمين فيها على المدعى عليه فالظاهر بأنه لا يحصل مرور الزمن في هذه المسألة .
3 - إذا كان للمدعي مطلوب في تركة وكان بعض الورثة غائبا وبعضهم حاضرا فلم يقم المدعي الدعوى على الحاضرين ورجع الغائب بعد مرور خمس عشرة سنة فأقام المدعي الدعوى عليه فهل يقع مرور الزمن ؟ فالظاهر : أنه لا يقع مرور زمن في حصة هذا الغائب .(7/281)
الثالث : التغلب : وهو أن يكون المدعي عليه من المتغلبة ، فالمدة التي تمر في حالة التغلب ، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها على مرور الزمن ما دام ثبوت الحق كان في زمن التغلب .
مثال على بلوغ مدة مرور الزمن : إذا غصب أحد - في حالة غلبة - أغنام شخص آخر وامتد تغلبه خمس عشرة سنة وزال في السنة السادسة عشرة وادعى المدعي بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ زوال التغلب - فتسمع دعواه .(7/282)
مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن : لو غصب أحد - في حالة تغلبه - مزرعة آخر وامتد تغلبه خمس سنوات وزال تغلبه في السنة السادسة وادعى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 183)
بعد ثماني سنوات من زوال التغلب - فتسمع دعواه .
أما إذا ابتدأ مرور الزمن قبل وجود التغلب وتخلل ذلك التغلب قبل انقضاء مدة مرور الزمن ثم زاد التغلب بعد مدة فهل يجب تنزيل مدة التغلب ؟ . . يعني : مثلا : لو غصب أحد قبل أن يكون متغلبا عشرة دنانير من آخر ثم بعد مرور ثماني سنوات أصبح متغلبا ودام تغلبه سبع سنوات ثم زال تغلبه فأقام المدعي بعد سنتين من زوال التغلب فإذا تنزلت مدة التغلب تكون الدعوى مسموعة ، وإذا لم تنزل فتكون غير مسموعة ، والظاهر : أنه يجب تنزليها .
قيل في المجلة : ( ككون المدعي صغيرا . . . إلخ ) ؛ لأنه يوجد عذر رابع حيث إذا منع الزوج زوجته صاحبة الحق من إقامة الدعوى منعا أكيدا ولم تدع من أجل ذلك فهذا العذر معدود عذرا شرعيا ولها إقامة الدعوى بعد زوال المنع ولا تعتبر المدة التي مرت أثناء المنع ، إلا أنه يجب أن يثبت منع الزوج لها . ( علي أفندي ) .
مثال على القاصرية : مثلا : لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر أحد ، وإنما يعتبر من تاريخ وصوله إلى حد البلوغ أو تاريخ زوال الجنون أو العته ، ففي هذه الصورة لو بلغ الصغير ومر تسع سنوات فلا يمنع ذلك من سماع الدعوى .
كذلك لو ترك المجنون أو المعتوه الدعوى تسع سنوات ونصفا فلا يمنع ذلك من استماع دعواه ، مثال لمدة السفر البعيدة : لو سافر أحد إلى ديار بعيدة مدة السفر ولم يدع دائنه بالعشرة الدنانير المطلوبة له من ذمة الغائب ثم عاد الغائب بعد أربع عشرة سنة وبعد عودته بثماني سنوات أقام صاحب
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 184)
الدين عليه الدعوى - فليس للمدعى عليه أن يقول : إن الدعوى غير مسموعة ، لمرور الزمن .(7/283)
مثال للتغلب : كذلك إذا كان لرجل مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمان تغلب خصمه ووجد مرور الزمن بترك الدعوى الأرض الأميرية خمس عشرة سنة فلا يكون ذلك مانعا لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب .
أما عدم العلم فليس من الأعذار الشرعية . [فتاوى أبي السعود ] .
مثلا : لو ضبط أحد مزرعة من الأراضي الأميرية وتصرف بها مدة عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت الآخر تلك المدة ثم ادعى بقوله : إن المزرعة هي في تصرف والدي المتوفى بموجب طابو قبل السنين المذكورة وبوفاته قد انتقلت المزرعة المذكورة حصرا لي ولكن كنت أجهل بأن تلك المزرعة هي في تصرف والدي فلذلك لم أقم الدعوى قبلا والآن علمت ذلك ، فأدعي ، فلا تسمع دعواه .
والحكم على هذا المنوال في التصرف بالإجارتين . مثلا : لو تصرف أحد في دكان وقف بالإجارتين مدة عشرين سنة في مواجهة آخر وسكت المذكور تلك المدة بلا عذر ثم ادعى أن الدكان المذكورة هي لوالده المتوفى بكر وقد انتقلت إليه بالانتقال العادي وأنه سمع ذلك من بعض الناس إلا أنه كان يجهل أن الحال كما ذكر فلم يتقدم للدعوى وأنه يتقدم إليها الآن - فلا تسمع دعواه . [جامع الإجارتين] .
ترجح بين مرور الزمن الحاصل بعذر : مثلا : لو ادعى طرف بأن مرور زمن حصل بعذر وأقام البينة على ذلك وادعى الطرف الآخر بأنه وقع بغير
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 185)
عذر فترجح بينة كونه واقعا بعذر .
المادة ( 1664 ) : ( مدة السفر هي ثلاثة أيام ، أي : مسافة ثماني عشرة ساعة بالسير المعتدل ) .
مدة السفر البعيدة هي ثلاثة أيام بالسير المعتدل ، أي : راجلا أو راكبا حيوانا سيرا متوسطا مع الاستراحة المعتادة ، وهو في الأيام القصيرة ثلاثة أيام ، أي : مسافة ثماني عشرة ساعة . فلذلك إذا وصل إلى بلدة يسير البريد في يومين مع كونه يصل إليها بالسير المعتاد بثلاثة أيام فتعتبر أيضا مسافة سفر .(7/284)
كذلك إذا وصل إلى بلدة بالقطار بيوم واحد أو بأقل من يوم وكانت مسافتها بالسير المعتدل ثلاثة أيام - فتعد البلدة المذكورة بعيدة مدة السفر [الفتاوى الجديدة] .
إذا ذهب المدعى عليه إلى بلدة من البلاد الأجنبية وكانت بالنسبة إلى البلدة التي يوجد فيها المدعي غير بعيد مدة السفر فحيث إنه لا يمكن للمدعي أن يذهب إلى البلدة التي يقيم فيها المدعى عليه لاستحصال حقه حسب الأحكام المشروعة ، فهل يعد ذلك عذرا في مرور الزمن ؟ فالظاهر أنه يعد عذرا .
المادة ( 1665 ) : ( إذا اجتمع ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر مرة واحدة في بلدة في كل بضع سنوات ولم يدع أحدهما على الآخر شيئا مع أن محاكمتها كانت ممكنة وبعدها وجد مرور الزمن بهذا الوجه لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة ) .
ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر اجتمعا في بلدة وبتعبير آخر أن المدعي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 186)
قد علم بعودة خصمه ولم يدع أحدهما على الآخر وكانت محاكمتها ممكنة فبعد ما وجد مرور الزمن المعتبر في نوع المدعى به - لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة . وبهذه الصورة لو تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات في السنة الحادية عشرة اجتمع بزيد مرة واحدة وفي الثانية عشرة مرة أخرى وفي الثالثة عشرة مرة ثالثة ؛ فإذا مر خمس عشرة سنة على مبدأ ثبوت الحق - فلا تسمع دعوى زيد .
فعليه إذا أنكر المدعى عليه المدعى به وادعى أنه قد اجتمع بالمدعي بضعة مرات في ظرف الخمس عشرة سنة ، وأنه كان ممكنا جريان المحاكمة بينهما وأقر المدعي بذلك أو أنكر وأثبت المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه .
وقد ذكر في [فتاوى علي أفندي ] ، في هذا المقام عبارة : ( مرة في كل سنتين أو ثلاث سنوات ) ويفهم من ظاهر هذه العبارة بأنه يجب التكرر في الاجتماع ولا يكفي اجتماع واحد وفي هذا الحال يجب حل أسئلة ثلاثة .(7/285)
1 - كم مرة يجب أن يتكرر هذا الاجتماع ، بما أنه يكون الاجتماع الثاني تكرر فهل يكفي ذلك أو يجب تكرره ثلاث أو أربع مرات ؟ .
2 - ما هو السبب في اختلاف الحكم بين الاجتماع الواحد وبين الاجتماعين أو الأكثر ؟ .
3 - إذا غاب أحد الطرفين في محل سفر بعيد تسع سنوات واجتمع الطرفان في السنة العاشرة وبعد ذلك غاب أحدهما في ديار بعيدة مدة السفر ، مدة أربع سنوات ثم اجتمعا فبموجب المادة الـ ( 1663 ) يكون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 187)
مرور التسع سنوات الأولى بعذر ومرور الزمن يبتدئ من بعدها ، ويجب استماع الدعوى في الاجتماع الثالث ، وفي هذا الحال تكون هذه المادة منافية لأحكام المادة الـ ( 1663 ) ؟ وإذا أجيب على ذلك بأن المقصود من مرور الزمن في المادة الـ ( 1663 ) هو حد مرور زمن العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة أو الست والثلاثين سنة التي تمت . أما في هذه المسألة فالتسع سنوات الأولى لم تصل إلى حد مرور الزمن ولا يكون صحيحا ، والحقيقة : أن حكم هذه المادة مناف لحكم المادة الـ ( 1663 ) ؛ لأن مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى حسب المادة الـ ( 1663 ) هو مرور الزمن الواقع بلا عذر .
مثلا : إذا تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات واجتمع بزيد في السنة الحادية عشرة مرة وفي السنة الثانية عشرة مرة أخرى وفي السنة الثالثة عشرة مرة ثالثة ومر خمس عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق - فحسب هذه المادة لا تسمع الدعوى ، والحال أنها تسمع بحسب المادة الـ ( 1663 ) ؛ لأن المانع من سماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر . وعلى ذلك فالعشر سنوات الأولى في المسألة الآنفة قد مرت بعذر .(7/286)
ويرد إلى الخاطر أن يجاب على هذا السؤال الجواب الآتي وهو : إذا تكرر الاجتماع أثناء الغيبة فالغيبة الأولى لا تعد عذرا فلا تنزل من المدة ؛ لأنه لو جرى تنزيل مدة الغيبة الأولى يجب تنزيل الغيبة الثانية والثالثة والرابعة وما بعد ذلك ، وفي هذا الحال لا يتحقق في هذه الدعاوى مرور الزمن مطلقا ( وهو أنه لا يتحقق إذ لا ضرورة لتحققه ) .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 188)
أما إذا لم يتكرر الاجتماع وكان الاجتماع واحدا فيجب تنزيل مدة الغيبة الأولى ؛ لأنه في هذه الصورة لا يوجد المحذور الذي بين .(7/287)
المادة الـ ( 1666 ) : ( إذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي في كل بضعة سنوات مرة ولم تفصل دعواه ومر على هذا الوجه خمس عشرة سنة فلا يكون مانعا من استماع الدعوى ، وأما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي فلا تدفع مرور الزمن ، بناء عليه إذا ادعى أحد خصوصا في غير مجلس القاضي وطلب به ، وعلى هذا الوجه وجد مرور الزمن فلا تسمع دعواه ) .
وإذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم الشرعي في كل بضع سنوات مرة ولم تفصل دعواه ، وبقيت معطلة في المحاكم وحصل أثناء ذلك مرور الزمن المعين لذلك المدعي به كمرور خمس عشرة سنة في دعوى الدين - فلا يمنع ذلك استماع الدعوى .
إلا أنه إذا بلغت المدة بين الدعويين إلى حد خمس عشرة سنة فيمنع ذلك استماع الدعوى . مثلا : إذا مرت بين دعوى الدين مدة خمس عشرة سنة وبين دعوى الأراضي الأميرية عشر سنوات - فيمنع ذلك سماع الدعوى . أما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي واللذان حصلا في مجالس الإدارة أو غرف التجارة أو نقابة الصناع أو غيرها مما لم يكن لها صلاحية الفصل والحكم في الدعوى فلا يدفع ذلك مرور الزمن ، فعليه لو ادعى أحد بخصوص في غير حضور القاضي وحصل مرور الزمن المعين لنوع تلك الدعوى - فلا تسمع دعوى المدعي .
إن تقديم الاستدعاء والمعروض للقاضي ، ولو اقترن بإرسال ورقة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 189)
جلب - لا يقطع مرور الزمن حسب الأحكام الفقهية .
وبتعبير آخر : إن الاستدعاء الذي يقدمه المدعي للمحكمة يطلب الحكم له على خصمه بحقه وطلب جلب خصمه للمحكمة لا يقوم مقام الدعوى ولا يكفي لقطع مرور الزمن .(7/288)
مثلا : لو قدم المدعي قبل انتهاء مدة الخمس عشرة سنة بثمانية أيام استدعاء على هذا الوجه ودعا خصمه للمحاكمة وعند انتهاء مدة الثمانية أيام ترافعا أمام القاضي - فإذا كانت مدة الخمس عشرة سنة قد تمت يوم المرافعة في حضور القاضي فلا تسمع الدعوى ، ولو كانت مدة مرور الزمن لم تتم حين تقديم الاستدعاء أو وقت تبليغ جلب المحكمة ؛ لأنه كما هو مصرح في متن هذه المادة أن الذي يدفع مرور الزمن هو الدعوى . والدعوى حسب مادتي ( 1613 و 1618 ) تقال للطلب الذي يقع في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم ، وعليه فالطلب الذي لا يكون في مواجهة الخصم غير معدود من الدعوى .
المادة الـ ( 1667 ) : ( يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي ، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل ، لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى ذلك الدين ، ومطالبته قبل حلول الأجل .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر بقوله : لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه قبل خمس عشرة سنة مؤجلا لثلاث سنين - تسمع دعواه ، كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني في الوقف المشروط للأولاد بطنا بعد بطن إلا من تاريخ انقراض البطن الأول ؛ لأنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 190)
ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا . وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق ومن تاريخ موت أحد الزوجين ؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة ) .
يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي وصلاحية أخذه ، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل ؛ لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى وأخذ ذلك الدين أو المطالبة به قبل حلول الأجل حتى إنه لا يحبس المدين من أجل الدين المؤجل [رد المحتار] .(7/289)
إلا أنه يجوز إثبات الدين المؤجل قبل حلول الأجل وبما أن الإثبات وإقامة البينة مشروط بسبق الدعوى بحكم المادة الـ ( 1697 ) فعلى هذه الصورة يجوز الادعاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل .
مثلا : يصح لأحد أن يثبت مطلوبه من ذمة آخر المؤجل لخمسة أشهر مثلا إلا أنه يؤخر الأخذ والاستيفاء لحلول الأجل ( الأنقروي ) .
كذلك تقبل دعوى الزوجة بإثبات مهرها المؤجل على زوجها ( الهندية ) .
أما إذا لم يثبت المدعي الدين المؤجل بالبينة فلا يحلف المدعى عليه قبل حلول الأجل على أظهر القولين حيث لم يكن للمدعي حق بالمطالبة والأخذ فلا يترتب على المدعى عليه اليمين في حالة إنكاره .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر بقوله : لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه أو أجرته لك قبل خمس عشرة سنة مؤجلا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 191)
لثلاث سنين - تسمع دعواه ؛ لأنه لم يمر سوى اثنتي عشرة سنة من حلول الأجل والحالة أن دعوى الدين تسمع إلى خمس عشرة سنة . انظر المادة الـ ( 1660 ) .(7/290)
كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني بالوقف المشروطة توليته وغلته للأولاد بطنا بعد بطن . مثلا : لو شرط الواقف قائلا : قد شرطت تولية وغلة وقفي لأولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن - فلا تسمع دعوى البطن الثاني إلا من تاريخ انقراض البطن الأول ، فعلى هذه الصورة لو باع أحد أولاد الواقف من البطن الأول عقار الوقف لآخر وسلمه إياه وتصرف المشتري في ذلك العقار خمسا وثلاثين سنة وانقرض البطن الأول بالكلية ونصب أحد الأولاد من البطن الثاني متوليا وبعد مرور سنة ادعى العقار المذكور من المشتري على كونه وقفا - فتسمع دعواه حيث لم يمر على انقراض البطن الأول إلا سنة واحدة والمدة التي مرت قبل ذلك لا تحسب في مرور الزمن حيث إنه ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا ؛ لأن أمثال هذا الوقف إذا كان البطن الأول موجودا لا يعطى حصة لأولاد البطن الثاني ، ولا يكون لهم تولية ، كما أنه إذا كان البطن الثاني موجودا فلا يعطى لأولاد البطن الثالث حصة ، ولا يكون لهم تولية على الوقف .
كذلك لو ضبط أجنبي تولية الوقف المشروطة لأولاد الواقف وأولاد أولاده بطنا بعد بطن في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول مدة أربع عشرة سنة وانقرض البطن الأول فادعى أحد أولاد الواقف من البطن الثاني التولية المذكورة من ذلك الأجنبي - فليس للأجنبي أن يدفع دعواه بقوله :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 192)
إن دعوى المدعي غير مسموعة لمرور خمس عشرة سنة .
سؤال : لو تصرف المشتري في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول خمسا وثلاثين سنة ، وتصرف سنة في مواجهة أولاد البطن الثاني فتبلغ مدة تصرفه ستا وثلاثين سنة وبما أنه حسب المادة الـ ( 1620 ) لو ترك الدعوى الوارث مدة والموروث مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فيجب عدم استماع الدعوى ؟(7/291)
الجواب : إن توجيه التولية للبطن الثاني لم يكن بطريق الإرث ، بل هو بمقتضى شرط الواقف فإذا انتقلت التولية إلى البطن الثاني قبل تمام مدة مرور الزمن في مواجهة البطن الأول - فللبطن الثاني حق الدعوى إلى انتهاء مدة مرور الزمن اعتبارا من تاريخ انتقال التولية له ، مع أن المدة التي تمر في زمن البطن الأول والبطن الثاني لا تضم إلى بعضها البعض إلا أنه إذا بلغت المدة في زمن البطن الأول حد مرور الزمن انتقلت التولية إلى البطن الثاني فهل للبطن الثاني حق الدعوى ؟ فنظرا إلى المثال الثاني وإلى دليله يجب أن يكون له حق الدعوى إلا أن دليل الفقهاء لا يثبت المسألة بالكلية ، فيجب العثور على صراحة المسألة ، والمناسب أن تستمع الدعوى لحين العثور على صراحتها .
مثلا : لو تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الأول فانقرض البطن الأول فتصرف أيضا بالعقار المذكور ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الثاني ثم انقرض البطن الثاني فراجع البطن الثالث المحكمة وادعى عليه بأن تولية وغلة ذلك العقار مشروطة لأولاد الواقف بطنا بعد بطن وأنه وإن تصرف في العقار المذكور مدة اثنتين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 193)
وسبعين سنة في مواجهة أولاد البطن الأول والبطن الثاني إلا أنهما انقرضا وأصبحت تولية وغلة العقار المذكور عائدة له - فهل تسمع دعواه ؟ فإذا استمعت دعواه فلا يمكن أن يتحقق مرور زمن في نوع هذه الأوقاف .(7/292)
وإن يكن بموجب المادة الـ ( 1675 ) لا يجري مرور الزمن في بعض الدعاوى إلا أن دعاوى التولية ليست من قبيل الدعاوى ( وقد ورد في البهجة في هامش كتاب الشهادة أنه إذا استمع زيد القاضي دعوة التولية المشروطة التي تركت أربعين سنة بلا عذر وحرر حجة بذلك فلا ينفذ حكمه ولا تعتبر حجته ) وإن يكن أنه يفهم أن هذه الفتوى : أنه إذا مر أربعون سنة على البطن الأول فلا تسمع دعوى البطن الأول إلا أن هذه الفتوى لا تدل صراحة على عدم جواز استماع دعوى البطن الثاني .
وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق أو من تاريخ موت أحد الزوجين ؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة وقد بين بأنه يجوز إثبات المهر المؤجل قبل حلول الأجل .
وكذلك لو ادعى أحد الأراضي التي تحت يد آخر بقوله : إن هذه الأراضي هي بتصرفي ، فأجابه المدعى عليه بقوله : إنك تفرغت لي بهذه الأراضي قبل عشر سنوات بإذن صاحب الأرض ، فإذا أثبت الفراغ له على هذا الوجه فيمنع المدعي من معارضته ولا يقال : بأنه حيث لم يثبت التفرغ بإذن صاحب الأرض منذ سنوات أنه وقع مرور زمن ؛ لأنه لم يكن يوجد معارض له أثناء تصرفه بلا نزاع فهو غير مطالب بإثبات الحق ، فلا يكون قد ترك الدعوى .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 194)
المادة ( 1668 ) : ( لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس . مثلا : لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله : بأنه قبل خمس عشرة سنة كان لي في ذمتك كذا دراهم من الجهة الفلانية ولم أستطع الادعاء عليك ، لكونك كنت مفلسا مع ذلك التاريخ ولاقتدارك الآن على أداء الدين أدعي عليك به - تسمع دعواه ) .
لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس ؛ لأنه لا يمكن استحصال المطلوب من الشخص المفلس كما أنه لا يحبس المدين الثابت إفلاسه .(7/293)
مثلا : لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله : إنه قبل خمس عشرة سنة كان لي عليك من الجهة الفلانية كذا دراهم طلبي منك ولم أستطع الادعاء عليك حيث كنت مفلسا من ذلك التاريخ وحيث أصبحت الآن قادرا على أداء الدين فأدعي عليك به - تسمع دعواه .
أما إذا ثبت في ذمة أحد دين في حال يساره ثم أفلس بعد ثماني سنوات ودام إفلاسه ست سنوات وبعدها أصبح في حالة يسار وبعد مرور سنة ادعى الدائن عليه - فهل تسمع الدعوى بتنزيل مدة الإفلاس كالمدة التي تمر أثناء الصغر ؟(7/294)
المادة ( 1669 ) : ( إذا ترك أحد الدعوى بلا عذر على الوجه الآنف ووجد مرور الزمن فكما لا تسمع الدعوى في حياته لا تسمع من ورثته بعد مماته أيضا ) .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 195)
أي : إذا ادعى الورثة أن المال المدعى به هو موروث عن المورث ؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث بماله أو عليه ، وحيث إنه ليس للمورث حق الدعوى فليس للوارث أيضا حق فيها .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر قائلا : إن لمورثي الذي توفي هذه المدة كذا دراهم قد أقرضها لك قبل خمس عشرة سنة فأطلبها منك - فلا تسمع دعواه .
والحكم في المسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية على هذا الوجه . مثلا : لو ترك أحد دعواه المتعلقة بالأراضي الأميرية أو بالمسقفات الموقوفة بلا عذر على الوجه السالف الذكر ووجد مرور زمن - فلا تسمع تلك الدعوى منه في حياته وكذلك لا تسمع من أصحاب حق الانتقال بعد وفاته .
مثلا : لو ادعى أحد قائلا : إنك قد تصرفت بالأراضي الأميرية عشر سنوات بلا نزاع التي هي في تصرف مورثي بموجب طابو قبل تلك المدة وبوفاة والدي قد انتقلت تلك الأراضي لي - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1670 ) : ( إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع ) .
تضم مدة ترك المورث والوارث والمنتقل منه والمنتقل إليه إلى بعضها فلذلك إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى الوارث .
مثلا : لو ترك أحد الدعوى بمطلوبه الذي في ذمة آخر مدة ثماني سنوات وترك بعد وفاته وارثه الدعوى سبع سنوات - فلا تسمع الدعوى بعد ذلك .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 196)(7/295)
كذلك لو ترك أحد مطلوبه الذي في ذمة آخر خمس سنوات ثم توفي وترك وارثه - بالحصر ابنه - الدعوى خمس سنوات أخرى ثم توفي وترك وارثه - بالحصر بنته - الدعوى خمس سنوات أيضا ثم ادعت بعد ذلك فلا تسمع دعواها ، كذلك لو ضبط أحد روضة مدة عشر سنوات على وجه الملكية في مواجهة زيد وسكت زيد هذه المدة بلا عذر ثم توفي زيد وترك بنتا فتصرف المذكور أيضا في الروضة تسع سنوات في مواجهة البنت وسكتت تلك المدة بلا عذر فادعت البنت بأن الروضة المذكورة هي ملك لوالدها زيد وقد باعها لك وفاء - فلا تسمع دعواها ( علي أفندي ) .
كذلك إذا تصرف أحد مدة في عقار وقف بالإجارتين ثم توفي وتصرف فيه ورثته الذين هم من أصحاب الانتقال بالإجارتين وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المدعي الذي سكت في تلك المدة بلا عذر والأراضي الأميرية تقاس عليها .
المادة ( 1671 ) : ( البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث والوارث ، مثلا : إذا تصرف أحد في عرصة مدة خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة ثم باع الدار لآخر ، فإذا ادعى المشتري أن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها - فلا تسمع دعواه . كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري ) .
البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث وبتعبير آخر تجري في حقهم أحكام مادتي ( 1669 و1670 ) السالفتي الذكر .
كذلك الفارغ والمفروغ له كالمنتقل منه والمنتقل إليه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 197)
مثال للبائع والمشتري :
مثلا : إذا تصرف أحد في عرصة ملك خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة بلا عذر ، ثم باعها من آخر ؛ فإذا ادعى المشتري بأن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها فلا تسمع دعواه ، كما لا تسمع في المادة الـ ( 1669 ) .(7/296)
كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري ، كما لا تسمع في المادة الـ ( 1670 ) .
مثال للفارغ والمفروغ له في الأراضي الأميرية :
مثلا : إذا تصرف أحد في مزرعة عشر سنوات وسكت صاحب المزرعة المتصلة بالمزرعة المذكورة تلك المدة بلا عذر ثم تفرغ بمزرعته لآخر - فإذا ادعى المتفرغ له أن تلك المزرعة هي طريق خاص للمزرعة التي تفرغت إليه فلا تسمع دعواه .
مثال للفارغ والمفروغ له في المسقفات الموقوفة .
مثلا : لو تصرف أحد بالإجارتين مستقلا في دار وقف في مواجهة بنته هند خمس عشرة سنة وسكتت هذه المدة بلا عذر ثم توفي ذلك الشخص وترك هندا المذكورة وبنته زينب من زوجة أخرى ، وأرادت زينب أن تتصرف في تلك الدار بناء على الانتقال العادي مع هند بالسوية ؛ فإذا ادعت هند بأن نصف الدار المذكورة قبل السنين المذكورة هي في تصرف والدتها خديجة بالإجارتين فانتقل النصف لها ، وإنه لذلك لها ثلاثة أرباع الدار - فلا تسمع دعواها [جامع الإجارتين] .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 198)
إذا ضم مدة تصرف الوارث والمورث والبائع والمشتري والواهب والموهوب له والفارغ والمفروغ له إلى بعضهما وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا يجوز إقامة الدعوى عليهم من آخر . مثلا : إذا تصرف المورث في عقار ملك مدة ثماني سنوات وتصرف الوارث مدة ثماني سنوات أخرى بلا نزاع - فإذا ادعى من سكت هذه المدة بلا عذر أن ذلك العقار هو ملكه - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف البائع في عقار مدة تسع سنوات بلا نزاع ثم باعه لآخر وسلمه وتصرف المشتري ست سنوات بلا نزاع ، فإذا ظهر أحد وادعى على المشتري أن ذلك العقار ملكه - فلا تسمع دعواه .
ويقاس الواهب الموهوب له على ذلك .(7/297)
كذلك إذا تصرف أحد مدة ثماني سنوات بلا نزاع في عقار موقوف ثم أفرغه لآخر وتصرف المتفرغ له في ذلك مدة ثماني سنوات بلا نزاع ، فإذا ادعى من سكت بلا عذر في هاتين المدتين على المتفرغ له بأن ذلك العقار تحت تصرفه بالإجارتين - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية ثماني سنوات بلا نزاع ثم توفي فتصرف من أصحاب الانتقال ولده في تلك المزرعة مدة سنتين بلا نزاع ثم ظهر شخص سكت في تينك المدتين بلا عذر وادعى على الولد قائلا : إن المزرعة في تصرفي - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف أحد بلا نزاع في أرض أميرية سبع سنين ثم تفرغ بها لآخر بإذن صاحب الأرض وتصرف المتفرغ له بها ثلاث سنوات ثم ظهر شخص وادعى على المتفرغ له بأن تلك المزرعة هي في تصرفه قبل تلك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 199)
السنين - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1672 ) : ( لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر كالصغر ، وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة ) .
يقبل مرور الزمن التجزئة فلذلك لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر ؛ كالصغر والجنون والعته والغيبة مدة السفر وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به ، ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة .
مثلا : لو كان لأحد في ذمة آخر عشرة دنانير ثم توفي وترك ولدين أحدهما بالغ والآخر صغير في السنة الأولى من عمره ولم يدع ولده البالغ مدة ست عشرة سنة وعندما بلغ الولد الصغير - أي : بعد تاريخ وفاة والده بست عشرة سنة - ادعى بحصته فللولد المذكور أن يأخذ حصته الخمسة دنانير وليس للولد الآخر أن يدعي بمشاركته فيما أخذه توفيقا للمادة الـ ( 110 ) .(7/298)
إذا كان المدعى به دينا ولم يكن عينا فالحكم على هذا المنوال أيضا . فلذلك لو كان لرجلين بالغين مائة دينار في ذمة آخر ولم يمر الزمن في حق أحدهما بسبب وجوده في ديار بعيدة مدة السفر فادعى بمطلوبه وأثبته - يحكم له بحصته في المدعى به ، ولا يسري هذا الحكم على حصة الشريك الآخر .
المادة ( 1673 ) : ( وليس لمن كان مقرا بكونه مستأجرا في عقارات
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 200)
يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة، وأما إذا كان منكرا وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت - أقبض أجرته فتسمع دعواه إن كان إيجاره معروفا بين الناس وإلا فلا).
ليس من كان مقرا بكونه مستأجرا أو مستعيرا أو مستودعا أو مرتهنا أو غاصبا أو مزارعا أو مساقيا في عقار أن يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يسقط الحق بتقادم الزمان حسب المادة الـ (1674)، كما أن مرور الزمن ووضع اليد على مال مدة طويلة ليست معدودة من أسباب الملك، كما أن الاستئجار هو مانع لدعوى التملك، كما جاء في المادة الـ(1583).
وأما إذا كان ذلك الشخص منكرا كونه مستأجرا ذلك العقار وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت أقبض أجرته - نظر، فإذا كان إيجاره معروفا بين الناس -فتسمع دعواه، وإذا كان غير معروف فلا تسمع، والمعروف بضم العين من العرف. والعرف هو ضد النكر.(7/299)
ومعنى معروف حسب هذه الإيضاحات، أي: إذا كان معلوما ولا يفيد هذا التعبير لزوم إثبات الإيجار بالتواتر والشهرة وعدم جواز إثباته ودفع مرور الزمن بالبينة العادية ومع ذلك لو اعتبر معنى معروف، يعني: مشهور هنا، فالمشهور على قسمين: أحدهما: أن يكون مشهورا بالشهرة الحقيقية ويدعى ذلك بالتواتر. والآخر: أن يكون مشهورا شهرة حكمية، والشهرة الحكمية تحصل بإخبار شهود بنصاب الشهادة على طريق الشهادة، والاشتهار يطلق على العلم الذي يكون بالتواتر والشهرة أو بإخبار مخبرين عدلين أو بمخبر عدل (التهتاني).
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 201)
وهل أن هذا الحكم الذي يجري في حال معروفية الإيجار بين الناس يجري أيضا في الإعارة والإيداع أو الرهن المعروف بين الناس؟ فالظاهر أنه يجري. انظر مادة (1583).
والحكم على هذا المنوال أيضا في المسقفات والمستغلات الموقوفة وفي الأراضي الأميرية، فلذلك إذا تصرف أحد في عقار أكثر من ست وثلاثين سنة وادعى بعد ذلك متولي وقف قائلا: إن هذا العقار هو من مستغلات الوقف الذي هو تحت توليتي، وقد أجرتك إياه في المدة المذكورة وأنكر ذلك الشخص دعوى المتولي مدعيا ملكية ذلك العقار - فينظر: فإذا كان معروفا بين الناس أن العقار المذكور كان يؤجر من طرف الوقف لذلك الشخص- فتسمع دعوى المتولي وإلا فلا.
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية أكثر من عشر سنوات ثم ادعى شخص آخر قائلا: إن تلك الأرض هي في تصرفي بموجب طابو وقد أجرتها لك المدة المذكورة، وأنكر ذلك الشخص دعوى المدعي -ينظر؛ فإذا كان معروفا بين الناس أن تلك الأرض قد أجرت لذلك الشخص- فتسمع دعواه وإلا فلا.(7/300)
المادة (1674): لا يسقط الحق بتقادم الزمن بناء عليه إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي- فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه، وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى المدعي بكونه أقر في محل آخر- فكما لا تسمع دعواه الأصلية كذلك لا تسمع دعوى الإقرار. ولكن الإقرار الذي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 202)
ادعى أنه كان قد ربط بسند حاو لخط المدعى عليه المعروف سابقا أو ختمه ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى -تسمع دعوى الإقرار على هذه الصورة).
لا يسقط الحق بتقادم الزمن ولو تقادم الزمن أحقابا كثيرة وإن عدم استماع الدعوى بمرور الزمن المبين آنفا مبني على الأمر السلطاني بسبب امتناع الحكم عن سماع الدعوى خوف وقوع التزوير ولقطع الحيل والتزوير والأطماع الفاسدة الفاشية بين الناس. انظر شرح عنوان الباب الثاني.
فلذلك لو أقام أحد الدعوى بمطلوبه الذي هو على آخر بعد مرور خمس عشرة سنة ورد القاضي الدعوى بسبب مرور الزمن، فيبقى المدين مدينا ديانة، ولا يخلص من حق غرمائه ما لم يؤد دينه أو يرض مدينه.
فلذلك إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي، فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه.
والإقرار إما أن يكون شفاهيا وقد بين، وإما أن يكون بالإقرار بأن إمضاء أو ختم السند المبرز هو إمضاؤه وختمه، ويقال لهذا: الإقرار بالكتابة.
مثلا: إذا ادعى أحد دينا من آخر مر عليه خمس عشرة سنة استنادا إلى سند معنون ومرسوم فأقر المدعى عليه الإمضاء والختم الذي في السند وادعى وجود مرور الزمن في الدعوى فيلزمه، كما بين في المادة الـ(1610) أن يؤدي المبلغ الذي يحتويه السند (الخالية في كتاب(7/301)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 203)
الدعوى).
وبما أنه لا يسقط الحق بمرور الزمن فلا يكفي أن يكون جواب المدعى عليه على دعوى المدعي بقوله: إن في الدعوى مرور زمن. أما لو أجاب المدعى عليه على دعوى الدين بأنني لست مدينا وفي دعوى العين: أن هذه العين لي وأضاف إلى ذلك الادعاء بمرور الزمن -فيصح دفعه.
إن ذكر عبارة في الحال الواردة في هذه الفقرة هي لكونها وردت في فتاوى مشائخ الإسلام، ولا يقصد بها الاحتراز من الإقرار للمدعي حقا عنده في الماضي؛ فلذلك لو ادعى المدعى عليه بأن المال المدعى به كان قبل ثلاثين سنة للمدعي ولمورثه وأنه اشتراه منه -فيكون قد أقر بحق المدعي، فلذلك إذا لم يثبت المدعى عليه الشراء وحلف المدعي اليمين عند تكليفه للحلف يسلم المدعى به للمدعي؛ لأن من أقر بشيء لغيره أخذ بإقراره ولو كان في يده أحقابا كثيرة لا تعد، وهذا مما لا يتوقف فيه (الخيرية في الدعوى) والحكم في الدين وهو على هذا المنوال فلو ادعى المدعي على المدعى عليه قائلا: إن لي العشرين دينارا التي أقرضتها لك قبل خمس عشرة سنة، فإذا ادعى المدعى عليه أنه اقترض منه هذا المبلغ قبل خمس عشرة سنة إلا أنه قد أدى ذلك للمدعي فعليه إثبات ذلك، فإذا عجز عن الإثبات وحلف المدعي على عدم استيفائه الدين -فله أخذ ذلك المبلغ من المدعى عليه.
والمسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية والموقوفة: هي كالأملاك، فلذلك لو ادعى أحد على عقار وقف بالإجارتين أو أرض أميرية جارية في تصرف آخر بلا نزاع مدة خمس عشرة سنة بأن العقار المذكور هو تحت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 204)(7/302)
تصرفه من الوقف المذكور، أو أن الأرض تحت تصرفه وأجاب المدعى عليه بأن العقار المذكور أو الأرض المذكورة كانت تحت تصرفك إلا أنك قد تفرغت بها لي قبل خمس عشرة سنة بإذن المتولي أو بإذن صاحب الأرض وأنني متصرف بذلك العقار أو تلك الأرض من ذلك الوقت - فإذا أثبت المدعى عليه حصول الفراغ له أو نكل المدعي عن حلف اليمين تندفع دعوى المدعي، أما إذا لم يثبت المدعى عليه الفراغ وحلف المدعي اليمين فيحكم على المدعى عليه بالرد.
أن هذه المسألة قد كتبها أمين الفتوى الأسبق ( عمر حلمي أفندي ) في كتاب الأوقاف بغير هذا الوجه إلا أنه لما كان ما كتبه بهذه المسألة مخالفا للشرع فهو غير معتبر.
وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى بكونه أقر في محل آخر وأنه لا يوجد مرور زمن اعتبارا من تاريخ الإقرار فكما لا تسمع دعواه الأصلية، كذلك لا تسمع دعوى الإقرار حيث إنه يوجد في هذه الصورة شبهة تزوير وتصنيع.
ولكن الإقرار الذي ادعى به كان قد ربط بسند حاو لخط وختم المدعى عليه المعروف سابقا بين التجار وأهل البلدة ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى ففي تلك الصورة تسمع دعوى الإقرار؛ لأنه يثبت الإقرار في هذا الحال بريئا من شبهة التزوير والتصنيع.
والإيضاحات عن كلمة وختمه قد مر ذكرها في المادة الـ(1609).
المادة الـ(1675): (لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى. مثلا: لو ضبط أحد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 205)
المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية تسمع دعواهم).
لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين ويوجد غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم؛ فلذلك لا يجري في المحال التي يعود نفعها للعموم مرور الزمن: مثلا: أن لأهالي بغداد حقا في الطريق العام الكائنة في دمشق.(7/303)
فلذلك لو ضبط أحد المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية - تسمع دعواهم.
أما إذا لم يكن المرعى عائدا للعموم، أي: عائدا لأهالي قرية أو قصبة أو عائدا لأهالي قرى أو قصبات متعددة، بل كان عائدا لشخص مخصوص - فإذا كان ملكا فلا تسمع الدعوى فيه بعد خمس عشرة سنة، وإذا كان من الأراضي الأميرية فلا تسمع الدعوى فيه بعد مرور عشر سنوات.
كذلك لو أخذ أحد مقدارا من الطريق العام وألحقه بداره، فإذا ادعى أحد العامة بعد مرور خمسين سنة وأثبت دعواه فله تفريغ الطريق.
والمقصود من النهر في المجلة هو النهر العائد لأهالي قرية أو قرى متعددة، أما النهر المملوك لشخص فمرور الزمن فيه قد مر ذكره في المادة الـ(1661).
تاريخ الإدارة السنية 9 جمادى الآخرة سنة 1293 هـ.
(تم بألطافه تعالى كتاب الدعوى ويليه كتاب البينات والتحليف)
ويرجع إلى كتاب [قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 206)
الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [إتحاف الأخلاق في أحكام الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [المعاملات في الشريعة الإسلامية] (1/ 107) وما بعدها.(7/304)
ج- وجاء في [مرشد الحيران وشرحه] باب في وضع اليد وعدم سماع الدعوى بمرور الزمن : الأصل في هذا المبحث أن الولاية تتخصص بالزمان والمكان والخصومة وتقبل التقييد والتعليق بالشرط كقول الإمام لمن يريد توليته: إذا وصلت إلى بلد كذا فأنت قاضيه وتقبل الإضافة إلى زمن معلوم كقوله: جعلتك قاضيا على جهة كذا من أول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الألف؛ لأن السلطة مستمدة منه فلا يتجاوز المستمد قدر ما أمده به ولي الأمر، واستدل على أن الولاية تقبل التعليق بقوله عليه الصلاة والسلام حين بعث البعثة إلى مؤتة : قرية من قرى البلقاء في حدود الشام من جهة بلاد العرب شمال معان، وأمر عليهم زيد بن حارثة : صحيح البخاري المغازي (4013). إن قتل زيد بن حارثة فجعفر أميركم، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة .
وقد ورد نهي سلطاني للقضاة بعدم سماع الدعوى في غير الإرث والوقف بعد مضي خمس عشرة سنة والمدعى عليه واضع يده على ما يدعيه المدعي وهو حاضر ولم يكن عنده عذر شرعي يمنعه من الخصومة؛ لأن تركه تلك المدة أمارة على كونه غير محق، وأن الشيء المتنازع فيه ملك لواضع اليد إذ العرف والعادة يقتضيان أن الشخص لا يسكت عن ملكه هذا الزمن الطويل.
ولكن مضي المدة لا يكسب واضع اليد الملك فيما وضع يده عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم ، ولذلك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 207)(7/305)
لو أقر به للمدعى عليه تسمع الدعوى ولو تمسك بالمدة الطويلة ولا يلتفت إليه. وينبغي لولي الأمر أن ينظر في مثل هذه القضايا بنفسه أو يعين من يختاره للفصل فيها كي لا تضيع الحقوق، نعم، لو كان بعض المدعين مشهورا بالحيل والتزوير لا يلتفت إلى قضيته أصلا؛ لأن شهرته بالتزوير تدل على أنه مبطل في دعواه، وإنما الواجب عليه النظر في قضايا من لم يشتهروا بالتزوير والاحتيال لاغتيال حقوق الناس بالباطل. وينبني على ذلك أنه إذا كان شخص واضعا يده على عين من الأعيان عقارا كانت أو منقولا والحال أنه يتصرف فيها تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض مدة خمس عشرة سنة - فلا تسمع عليه دعوى الملك بغير الإرث والوقف من أحد ليس عنده عذر شرعي كسفر أو مرض أو جنون أو صغر كما سيبين قريبا، ومحل ذلك ما إذا أنكر المدعى عليه، فإن أقر للمدعي وجب على القاضي سماعها، ولذلك ينبغي للقاضي أن لا يرفض القضية من أول الأمر، بل ينبغي له أن يوجه إلى المدعى عليه بعض أسئلة لجواز أن يقر وإذ ذاك يبتدئ في سماعها ليفصل فيها. انظر مادة (151) .
فمما تقدم علمت أن النهي السلطاني خاص بغير الإرث والوقف ، فلا يسري حكم النهي إليهما، بل تسمع فيهما الدعوى ولو بعد مضي خمس عشرة سنة، ولكن نص الفقهاء على أن الخصم لو ترك الخصومة مدة ثلاث وثلاثين سنة في الإرث والوقف وهو يشاهد واضع اليد يتصرف في العين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 208)(7/306)
التي تحت يده تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض ولم يكن له من عذر شرعي يمنعه من الخصومة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن ترك الخصومة هذا الزمن الطويل يدل على أنه غير مالك لما يدعيه، وهذا الحكم ليس مبنيا على نهي سلطاني، بل على اجتهاد الفقهاء؛ ولذا لا تسمع الدعوى بعدها ولو أمر ولي الأمر بسماعها. وصرح بعضهم بأن المدة في الإرث والوقف ثلاثون سنة. وصرح آخرون بأنها ست وثلاثون سنة، وقال بعضهم: المستثنى من النهي السلطاني إنما هو الوقف ومال اليتيم والغائب في الإرث، والمشهور الأول. انظر مادة (152) .(7/307)
وليس المدة المانعة من سماع الدعوى قاصرة على الزمن الذي وضع يده المدعى عليه فيه، بل لواضع اليد المدعى عليه أن يضم إلى مدة وضع يده وضع يد من تلقى الملك عنه مطلقا، سواء كان ذلك التلقي بطريقة الشراء أو الهبة أو الوصية أو الإرث أو غير ذلك، كالأخذ بالشفعة فإذا ضمت المدتان إلى بعضهما وصار المجموع مساويا للمدة المانعة من سماع الدعوى، فلا تسمع على واضع اليد دعوى الملك المطلق ولا دعوى الإرث والوقف؛ لأن علة منع سماعها الترك وقد حصل في مجموع المدتين. انظر مادة (153) .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 209)
ومحل منع سماع الدعوى بعد مضي المدة إذا لم يكن وضع اليد بطريق الإجارة أو الإعارة، فإن كان واضع اليد مستأجرا أو مستعيرا أو معترفا بالإجارة أو الإعارة - فليس له أن يتمسك بمضي المدة وهو واضع اليد لاعترافه بأنه ليس بمالك وأن الملك للمؤجر أو للمعير. فلو أنكر الإجارة أو الإعارة في جميع مدة وضع يده ومضت المدة المقررة لمنع سماع الدعوى والمدعي حاضر ولم يخاصم مع تمكنه من المخاصمة ووجود الداعي لها، وهو إنكاره الإجارة أو الإعارة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن سكوته المدة الطويلة يدل على أنه غير محق في دعواه، كما تقدم، انظر مادة (155) .
وهذا إذا ترك مدعي الملك أو الإرث أو الوقف الدعوى في المدة الطويلة وهي خمس عشرة سنة في الملك المطلق وثلاث وثلاثون في الإرث والوقف بدون عذر شرعي فإن كان عنده عذر من الأعذار الشرعية يمنعه من الدعوى؛ كأن كان مريضا أو مسافرا أو قاصرا أو مجنونا وليس لهما ولي أو وصي - جاز سماع الدعوى، ولا عبرة بوضع اليد في تلك المدة؛ لأن العلة ترك الخصومة مع التمكن وهو لم يتمكن لوجود العذر. ومن المقرر أن المعلول يدور مع علته وجودا أو عدما.
ولهذا لو حضر المسافر وبلغ الصبي وعقل المجنون وترك كل منهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 210)(7/308)
الدعوى بعد زوال العذر مدة خمس عشرة سنة في الملك المطلق ومدة ثلاثا وثلاثين في الإرث والوقف - لا تسمع منهم الدعوى. انظر مادتي (156, 157) .
ولو خاصم المدعي واضع اليد عند القاضي في مجلس القضاء قبل مضي المدة المانعة من سماع الدعوى ولم يفصل القاضي في الخصومة وأهملت الدعوى حتى مضى على وضع اليد المدة الكافية للمنع من سماع الدعوى - جاز للقاضي سماعها، ولكن محل ذلك ما لم يمض بين الدعوى الأولى والثانية المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، فإن مضت المدة بعد الدعوى الأولى ولم يكن عنده عذر يمنعه من الدعوى - فلا يجوز للقاضي سماعها. هذا إذا كانت المخاصمة أمام القاضي كما تقدم، فإن طلب المدعي العين من واضع اليد عليها في غير مجلس القضاء - فلا تعتبر تلك المطالبة، ولو حصلت، وحينئذ لا تكون تلك المطالبة قاطعة للمدة، بل لواضع اليد أن يضم المدة التي بعد المطالبة إلى التي قبلها، فإن بلغت المدتان المدة المحدودة ثم ادعى أحد على واضع اليد بعد ذلك - فلا تسمع منه الدعوى. انظر مادتي (158، 159) وليس عدم سماع الدعوى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 211)
قاصرا على مضي المدة الطويلة المتقدم بيانها، بل يمنع المدعي من سماع دعواه إذا وجد منه ما يدل على اعترافه بالملك لواضع اليد ولو لم يمض على ذلك المدة الطويلة؛ لأنه بدعواه الملك بعد اعترافه يعد ساعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته، فسعيه مردود عليه، وينبني على ذلك ما يأتي:
الأول: أنه إذا ساوم شخص آخر في العين التي تحت يده بطريق البيع أو الإجارة ليبيعها له أو يؤجرها له أو طلب منه أن يعيرها إياه ثم ادعى بعد ذلك أن العين ملكه - فلا تسمع دعواه بعد المساومة أو طلب الإيداع أو الإجارة أو الإعارة؛ لاعترافه ضمنا بالملك للمدعي عليه فلا تقبل دعواه. انظر مادة (154) .(7/309)
الثاني: إذا باع أحد لآخر عينا من الأعيان، سواء كانت عقارا أو منقولا أمام شخص فاستلم المشتري المبيع بحضرته وتصرف فيه تصرف الملاك وهو حاضر كأن بنى في العقار أو غرس فيه أشجارا أو زرعه أو كان المبيع من الأقمشة فجعله ثوبا ثم أراد بعد ذلك مخاصمة المشتري - فلا تسمع دعواه؛ لأن حضوره وقت البيع ومشاهدته للتصرف، ولم ينكر على
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 212)
المشتري، ولم يخاصمه في ذلك الوقت بدون عذر يعد اعترافا منه بالمالك، ولو مات ذلك الشخص وأراد وارثه أن يدعي فليس له ذلك؛ لاعتراف مورثه بالملك للمشتري ضمنا. انظر مادة (160) .
الثالث: أنه إذا باع شخص عقارا أو حيوانا أو ثوبا لآخر وكان أحد أقاربه يعلم ذلك كولده أو أبيه أو أخيه أو زوجته ثم ادعى أنه ملكه - فلا تسمع دعواه بعد ذلك إذا لم يكن عنده عذر يمنعه من إقامة الدعوى وقت البيع؛ لأن سكوته وقت البيع يعد اعترافا منه بالملك للبائع وأنه ليس له حق فدعواه بعد ذلك تعد سعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه كما سبق. ولا يشترط في عدم سماع دعوى القريب مشاهدته لتصرف المشتري، كما تقدم في الأجنبي على الصحيح، بل مجرد اطلاعه على بيع قريبه بدون مخاصمة لمنعه من سماع الدعوى. انظر مادة (161) .
فائدة:
قال الإمام مالك : من حاز عقار غيره عشر سنين منع الغير من سماع الدعوى، وهذا إذا كان أجنبيا فإن كان قريبا - سواء كان شريكا في العقار أو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 213)
غير شريك- فلا تعتبر الحيازة إلا إذا طال تصرف الحائز بالهدم والبناء ونحوهما مدة طويلة نحو ستين سنة وتختلف الحيازة في المنقول باختلاف حالته، ففي دابة الركوب وفي نحو أثاث المنزل ثلاث سنين وفي نحو ثوب سنة.(7/310)
وأما الديون الثابتة في الذمة فقيل: تسقط بمضي عشرين سنة بدون عذر. وقيل: لا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة، واختار ابن رشد : أنها متى كانت ثابتة لا تسقط وإن طال الزمان وكان ربه حاضرا ساكتا قادرا على الطلب لخبر لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم ، وفوض بعضهم الأمر لاجتهاد القاضي لينظر في حال الزمن وحال الناس وهو ظاهر. اهـ. من [الشرح الكبير] (4/ 217، 218) [مرشد الحيران وشرحه] ص (114) وما بعدها. .(7/311)
2 - النقول عن المذهب المالكي
تمهيد: بنى الإمام مالك القول بإثبات الحكم بالتقادم على اجتهاد الحاكم، ولم يحدد له مدة معينة، وذكر بعضهم عنه تحديده بعشر سنوات، ومن المالكية من بنى قوله في ذلك على حديثين أحدهما: لا يبطل حق امرئ وإن قدم ، والثاني: من حاز شيئا عشر سنين فهو له .
ولقد اعتنى المالكية في تفصيل الكلام على هذه النقطة في [مدونة الإمام مالك ] رحمه الله، وفي [تبصرة الحكام] لابن فرحون، و[مختصر خليل وشرحه] للحطاب وغيرها، وقد رأت اللجنة الاقتصار على النقول الثلاثة المشار إليها فقط وتركت البقية اختصارا.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 214)
وفيما يلي ذكر هذه النقول:
أ- شهادة السماع في الدور المتقادم حيازتها :(7/312)
قلت [المدونة الكبرى] (4/ 89). : أرأيت إن كانت الدار في يدي رجل قد أنسئ له في العمر أقام فيها خمسين سنة أو ستين سنة ثم قدم رجل فأعادها وأثبت الأصل؟ فقال الذي الدار في يده: اشتريتها من قوم قد انقرضوا وانقرضت البينة، وجاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشتراها (قال): سمعت مالكا يقول: إذا جاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشترى ولم يقل لي مالك من صاحبه الذي ادعاها كان أو من غيره وقد أخبرتك بالذي سمعت منه وليس وجه السماع الذي يجوز على المدعي، والذي حملنا عن مالك إلا أن يشهدوا على سماع شراء من أهل هذا المدعي الذي يدعي الدار بسببهم أو يكون في ذلك قطع لدعوى هذا المدعي بمنزلة السماع في الأحباس فيما فسر لنا مالك ( قال): ومعنى قول مالك : حتى يشهدوا على سماع يكون فيه قطعا لدعوى هذا المدعي إنما هو أن يشهدوا أنا سمعنا أن هذا الذي الدار في يديه أو أباه أو جده اشترى هذه الدار من هذا المدعي أو من أبيه أو من جده أو من رجل يدعي هذا المدعي أنه ورث هذه الدار من قبله (قال): نعم، أو أشتري ممن اشترى من جد هذا المدعي، وقد بينا لك ذلك من قول مالك (قال): وقال مالك : هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم في الاشتراء وهي اليوم لغير أهلها فإذا كان على مثل هذا فالسماع جائز على ما وصفت لك وإن لم تكن شهادة قاطعة (قال) ابن القاسم : وكان مالك يرى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 215)
الشهادة على السماع أمرا قويا (قلت): أرأيت إن أتى الذي الدار في يده ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار اشترى هذه الدار، أو اشتراها جده، أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو؟ (قال): لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك يجوز حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أب هذا المدعي أو جده .
ب- في الشهادة على السماع في الدار القريبة حيازتها :(7/313)
قلت المدونة الكبرى] (4/ 90). : أرأيت إن أتى رجل فادعى دارا في يدي رجل وثبت ذلك فقال الذي في يديه الدار: أنا آتي بقوم يشهدون على السماع أن أبي اشتراها من خمس سنين أو ما أشبه ذلك أتقبل البينة في تقارب مثل هذا على السماع؟ (قال): لا أرى أن ينفع السماع في مثل هذا ولا تنفعه شهادة السماع إلا أن يقيم بينة تقطع على الشراء وإنما تكون شهادة السماع جائزة فيما كثر من السنين وتطاول من الزمن ولقد قال مالك في الرجل يقر لقوم أن أباهم كان أسلفه مالا وأنه قد قضاه والدهم - (قال) مالك : وكان الذي من ذلك أمرا حديثا من الزمان والسنين لم يتطاول ذلك لم ينفعه قوله: قد قضيت إلا ببينة قاطعة على القضاء، وإن كان تطاول زمان ذلك أحلف المقر وكان القول قوله فهذا يدلك أيضا على تطاول الزمان في شهادة السماع أنها جائزة وما قرب الزمان أنها ليست على الغائب؛ لأنه غائب لم يجز عليه شيء دونه فتكون الحيازة دونه إلا أن مالكا قال في الذي يقر بالدين فيما بلغني عنه ولم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 216)
أسمعه منه: لو كان إقراره ذلك على وجه الشكر مثل ما يقول الرجل للرجل: جزى الله فلانا خيرا قد جئته مرة فأسلفني وقضيته، فالله يجزيه خيرا على نشر الجميل والشكر له، لم أر أن يلزمه في هذا شيء مما أقر به قرب زمان ذلك أو بعد .
ج- في الشهادة على الحيازة :(7/314)
(قلت) [المدونة الكبرى] (4/ 99). : أرأيت أن شهدوا على دار أنها في يد رجل منذ عشر سنين يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني وأقام آخر البينة أن الدار داره أيجعل مالك الذي أقام البينة على الحيازة وهي في يديه بمنزلة الذي يقيم البينة وهي في يديه أنها له فيكون أولى بها في قول مالك ويجعل مالك الحيازة وإذا شهدوا له بها بمنزلة الملك (قال): قال مالك : إذا كان حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له، وإن كان غائبا سئل الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة أو سماع قد سمعوا أن أباه أو جده قد اشترى هذه الدار إذا كان أمرا قد تقادم فأراها له دون الذي أقام البينة أنها له (قال) مالك : لأن هاهنا دورا قد عرفت لمن أولها قد بيعت وتداولتها المواريث وحيزت منذ زمان ، فلو سئل أهلها البينة على أصل الشراء لم يجدوا إلا السماع فإذا كان مثل ما وصفت لك في تطاول الزمان فأتى بالسماع مع الحيازة فأراها له كذلك.
قال مالك : وإن لم يأت بالسماع ولا بالشهادة وكان الذي يطلب الدار غائبا فقدم فأقام البينة أنها له رأيتها له (قال) مالك : وإن كان حاضرا إذ حازها المشتري دونه فلا شيء للذي يدعيها (قلت): هل كان مالك يوقت في الحيازة عشر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 217)(7/315)
سنين؟ (قال): ما سمعت مالكا يحد فيه عشر سنين ولا غير ذلك ولكن على قدر ما يرى أن هذا قد حازها دون الآخر فيما يكري ويهدم ويبني ويسكن (قلت): أرأيت الدواب والثياب والعروض كلها والحيوان كله هل كان مالك يرى أنها إذا حازها رجل بمحضر من رجل فادعاها الذي حيزت عليه أنه لا حق له فيها؛ لأن هذا قد حازها دونه ، وهل كان يقول في هذه الأشياء مثل ما يقول في الدور والحيازة؟ (قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئا إلا أن ذلك عندي مثل ما قال مالك في الدور إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن والدواب تكرى وتركب ( ابن وهب ) عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حاز شيئا عشر سنين فهو له قال عبد الجبار : وحدثني عبد العزيز بن المطلب عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله (قال) عبد الجبار عن ربيعة أنه قال: إذا كان الرجل حاضرا وماله في يد غيره فمضت له عشر سنين وهو على ذلك كان المال الذي هو في يديه بحيازته إياه عشر سنين إلا أن يأتي الآخر ببينة على أنه أكرى أو أسكن أو أعار عارية أو صنع شيئا من هذا وإلا فلا شيء له قال) ربيعة : ولا حيازة على غائب .(7/316)
د- ما جاء في الشهادات في المواريث :
(قلت) [تبصرة الحكام] (2/ 86). : أرأيت إن مات عندنا ميت فجاء رجل فأقام البينة أنه ابن الميت ولم يشهد الشهود أنهم لا يعلمون له وارثا غيره أتجيز شهادتهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 218)
وتعطي هذا الميراث أم لا تعطيه من الميراث شيئا ، وهل تحفظ قول مالك في هذا؟ (قال): وجه الشهادة عند مالك في هذا أن يقولوا: إنه ابنه لا يعلمون له وارثا غيره فأرى أن تبطل الشهادة في ذلك ويسأل وينظر (قلت): أرأيت إن أقمت البينة أن هذه الدار دار أبي وجدي ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لي أيقضي لي بها السلطان في قول مالك أم لا؟ (قال): لا ، حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون أنه أحدث فيها شيئا ولا خرجت عن يده ، وجل الدور تعرف لمن كان أولها ثم تداولها أقوام بعد ذلك فهم إن شهدوا يشهدون ولا علم لهم بما كان فيها ولا تجوز شهادتهم حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون له وارثا غيره إذا شهدوا أن هذا وارث جده أو وارث أبيه (قلت): أرأيت إن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة آخرين (قال): لا يعطي هذا إلا حظه (قلت): فحظوظ إخوته أتؤخذ من يد هذا الذي هي في يديه فيضعها السلطان على يدي عدل؟ (قال): أرى أن لا يعطى لهذا منها إلا بمقدار حظه وما استحق من ذلك ويترك السلطان ما سوى ذلك في يدي المدعى عليه حتى يأتي من يستحقه ولا يخرجه من يديه (قال) سحنون : وقد كان يقول غير هذا وروى أشهب عن مالك أنه قال: ينتزع من يد المطلوب ويوقف (قلت): أرأيت لو أن قوما شهدوا على أن هذه الدار دار جدي وأن هذا المولى مولى جدي ولم يحددوا المواريث لم يشهدوا أن جدي مات فورثه أبي ، وأن أبي مات فورثته أنا (قال): سأل مالكا بعض أصحابنا وسمعته يسأل عن الرجل يقيم البينة: أن هذه الدار دار جده ويكون فيها رجل قد حازها منذ سنين ذوات عدد (قال): قال مالك : أما إن كان الرجل المدعي حاضرا فلا أرى له فيها حقا لأجل(7/317)
حيازته إياها إذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 219)
كان قد حازها سنين ذوات عدد، وأما إذا كان المدعي غائبا وثبتت المواريث حتى صارت له -فإني أرى أن يسأل الذي هي في يديه من أين صارت له، فإن أتى ببينة على شراء أو سماع على الاشتراء، وإن لم يكن أحد يشهد على معاينة الشراء ولا من يشهد على البتات إلا على السماع فأرى الشهادة جائزة للذي هي في يديه بالسماع بالاشتراء، وإن لم يكن في أصل الشهادة شهادة تقطع على البيع (قال) مالك : لأن هاهنا دورا يعرف لمن أولها قد بيعت ولا يوجد من يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع ثم قال لنا: تلك منها هذه الدار التي أنا فيها قد باعها أهلها وليس أحد يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع فإذا أتى الذي في يديه الدار بأصل الشراء أو بقوم يشهدون على سماع الاشتراء فذلك قلت، فإن لم يأت الذي في يديه الدار بشيء من هذا لا بقوم يشهدون على السماع ولا بقوم يشهدون على الشراء أتجعلها للذي أقام البينة أنها لجده على ما ثبت في قول مالك ؟ (قال): قال مالك : نعم، تكون للذي أقام بالبينة أنها لجده إذا كان غائبا (قلت): وشهادة السماع هاهنا إنما هو أن يشهدوا أنهم سمعوا أن هذا اشترى هذه الدار من جد هذا المدعي (قال): إذا تقادم ذلك جازت شهادتهم على السماع وإن كان المشتري حيا؛ لأن المشتري يشتري ويتقادم ذلك حتى يكون لشرائه هذا أربعون سنة أو خمسون سنة أو ستون سنة أو نحو ذلك ولم أوقف مالكا على أنه هو اشتراه بعينه إلا أن الذي ذكر لي مالك إنما هو في الشراء الذي يتقادم (قال): وأما في الولاء فإن مالكا قال: أقضي بالسماع إذا شهدت الشهود على السماع أنه مولاه بالمال ولا أقضي له بالولاء (قلت): أرأيت إن أقام البينة أن الدار دار أبيه، وقالت البينة: لا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 220)(7/318)
نعرف كم الورثة أيقضي له بشيء من الدار في قول مالك ، وكيف إن قال الابن: إنما أنا وأخي ليس معنا وارث غيرنا أو قال: أنا وحدي الوارث ليس معي وارث غير أيصدق في قول مالك ؟ (قال): لا أقوم على حفظ قول مالك في هذا ، ولا أرى أن يقضي له السلطان بشيء حتى يقيم البينة على هذه الورثة . (قلت): أرأيت إن أقمت البينة على دار أنها دار جدي ولم يشهد الشهود أن جدي مات وتركها ميراثا لأبي ، وأن أبي مات وتركها ميراثا لورثته ولم يحددوا المواريث بحال ما وصفت لك (قال): سألنا مالكا عنها (فقال): ينظر في ذلك فإن كان المدعي حاضرا بالبلدة التي الدار فيها وقد حيزت دونه السنين يراهم يسكنون ويحوزون بما تحاز به الدور -فلا حق له فيها وإن كان لم يكن بالبلد التي الدار بها وإنما قدم من بلاد أخرى فأقام البينة على أنها دار أبيه أو دار جده وثبتت المواريث سئل من الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة على أصل الشراء أو الوجه الذي صارت به إليه أو سماع من جيرانه أو من غير جيرانه أن جده أو والده كان اشترى هذه الدار أو هو بنفسه إذا طال الزمان فقالوا: سمعنا أنه اشتراها وهاهنا دور تعرف لمن أولها وقد تقادم الزمان وليس على أصل الشراء بينة وإنما هو سماع من الناس أن فلانا اشترى هذه الدار، وإن لم تثبت - يعني: المواريث - لم يسأل الذي الدار في يديه عن شيء (قلت): أرأيت إن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار أنه اشترى هذه الدار أو اشتراها جده أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو (قال): لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أبي هذا المدعي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 221)
أو جده .
هـ- قال ابن فرحون : (فصل في حيازة الأجنبي الحيوان والعروض ) [تبصرة الحكام] (2/ 86). .(7/319)
قال ابن حبيب : قال لي مطرف وأصبغ : ما حازه الأجنبي على الأجنبي من العبيد والإماء والدواب والحيوان كله والعروض كلها فأقام ذلك في يديه يختدم الرقيق ويركب الدواب ويجلب الماشية ويمتهن العروض -فذلك كله كالحائز والحيازة في ذلك أقل من عشر سنين قطع لحجة مدعيه ومثبت أصله بعد أن يحلف بالله أنه له دون مدعيه ومثبت أصله، قالا: والحيوان والعروض أقصر مدة وأقوى في الحيازة من الدور والأرضين التي إنما تحاز بالعمارة والسكنى.
قال أصبغ : ونرى في الثياب السنة والسنتين حيازة إذا كانت تحاز على وجه الملك واللبس، ونرى حيازة الدابة السنتين والثلاث حيازة إذا ملكها وركبها واغتلها وأعملها على وجه الملك بعلم صاحبها ونرى الأمة شبه ذلك والعبد والعروض فوق ذلك شيئا إذا حاز ذلك بالملك وأسبابه ولا يلتفت في مثل هذا وأشباهه إلى عشر سنين فيما بين الأجنبيين، يعني: لا يبلغ في شيء من ذلك بين الأجانب إلى عشر سنين كما يصنع في الأصول. قاله ابن رشد . قال ابن حبيب : قال لي مطرف وأصبغ : وما أحدث الحائز فيه بيعا أو عتقا أو تدبيرا أو كتابة أو صداقا أو وطئا في الإماء بحضرة مدعيه وبعلمه وإن لم يطل زمان ذلك قبل الوطء فذلك يوجبه لحائزه ويوهن حجة مدعيه قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه إذ ترك التغمير والإنكار والتكلم عند علمه بهذا الإحداث ، ولا يلتفت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 222)
في هذا إلى عشر سنين وإلى ما دونها.(7/320)
(تنبيه): وذكر ابن رشد في البيان في باب الاستحقاق أنه لا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق في حيازة الأجنبي على الأجنبي كما تقدم في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحيوان والعروض فلو حاز الورثة بعضهم على بعض الإماء بالوطء والهبة وما أشبه ذلك فلا يقطع حق الورثة في ذلك طول الزمان إلا أن يطول جدا ولم نر الأربعين يطول جدا بين الورثة خاصة على ما يأتي في حيازة بعضهم على بعض، ذكره في سماع ابن القاسم وبعضه في سماع يحيى فانظره .(7/321)
و- فصل في سؤال الحائز الأجنبي على الأجنبي من أين صار إليه الملك [تبصرة الحكام] (2/ 87). .
قال ابن رشد : يختلف الجواب في ذلك حسب اختلاف الوجوه: فوجه لا يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال فلا يوجب يمينا على الحائز المدعي فيه إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه، فتجب عليه اليمين على ذلك، وهذا الوجه هو إذا لم يثبت الأصل للمدعي، وأقر به الحائز الذي حاز في وجهه العشرة أعوام ونحوها ، ولو ادعى عليه ما في يديه أنه ماله وملكه قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهيه لوجبت عليه اليمين، ووجه يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه يصدق في ذلك مع يمينه ويكلف البينة على ذلك وهو إذا ثبت الأصل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 223)
للمدعي، أو أقر له به الحائز قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه -فيجب أن يسأل من أين صار إليه ويكلف البينة على ذلك، ووجه يختلف فيه: فقيل: إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار، وقيل: إنه يوقف ويسأل من أين صار إليه وهو إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أنها لأبيه وجده .
(مسألة): واختلف إذا كان الحائز وارثا فقيل: إنه بمنزلة وارثه الذي ورث ذلك عنه في مدة الحيازة ، وفي أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي تصير به إلى مورثه، وقيل: يكون الوارث في الحيازة أقصر وليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثت ذلك ولا أدري بم تصير ذلك إلى الذي ورثت عنه، وهو ظاهر قول ابن القاسم وقول ابن الماجشون وهو عندي بين في أنه ليس عليه أن يسأل عن شيء، وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث.
(فرع) وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة على الحاضر .
ز- قال ابن فرحون : (فصل في صفة الحيازات ومراتبها ) [تبصرة الحكام] (2/ 90). .(7/322)
وهي على ستة أقسام؛ لأنها على مراتب ست: الأولى : وهي أضعفها حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه.
الثانية : حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث بعضهم على بعض، وهذه المرتبة تلي التي قبلها.
الثالثة : وهي تلي التي قبلها حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة فيه بينهم.
الرابعة : حيازة الموالي والأختان.
الخامسة : حيازة الأجنبيين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 224)
الأشراك بعضهم على بعض.
السادسة : حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى والغرس في الدور والأرضين ونتكلم في الأقسام الستة .
(فأما القسم الأول): وهو حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع، قال ابن راشد : ولا باستخدام العبد فلو بقي العبد بيد الابن زمانا طويلا فلما مات الأب قال: هو لي بوجه كذا من أبي فقال ابن القاسم : لا ينتفع بطول الحيازة حتى يأتي ببينة على ما ادعاه والاتفاق على أنها تكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء، واختلف: هل يحوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا؟ على قولين: المشهور أنه لا يحوز عليه بذلك إن ادعاه ملكا لنفسه قام عليه في حياته أو بعد وفاته. وقال ابن رشد : يريد والله سبحانه وتعالى أعلم إلا أن يطول الأمر جدا إلى ما يهلك فيه البينات وينقطع العلم.
والقول الثاني: أنه يحوز عليه بذلك إن قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته إذا ادعاه ملكا لنفسه ومثل الأب والابن الجد وابن الابن.(7/323)
(وأما القسم الثاني): وهو حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث فلا اختلاف أيضا في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع وإن طالت السنون، قال مطرف : إلا أن يكون مثل الخمسين سنة ونحوها وإن كان بعضهم يقبل الثمار فهو كالسكنى وأبناؤهم وأبناء أبنائهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 225)
بمنزلتهم لا حق لهم فيما عمر الأب والجد إلا أن يطول الزمان جدا ولا ينفعه أن يقول: ورثت عن أبي وأبي عن جدي لا أدري كيف كان هذا الحق في أيديهم إلا أن يأتي ببينة على شراء الأصل أو عطيته، وكذلك الصهر والمولى على اختلاف قول ابن القاسم فيهم، ولا خلاف في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والوطء وإن لم تطل المدة، واختلف قول ابن القاسم في حيازة بعضهم على بعض بالهدم والبنيان: فقال مرة: إن العشر سنين حيازة، وقال مرة: إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر؛ كحيازة الابن على أبيه أزيد من أربعين سنة، وما حازه بالكراء كالرجل يكري ذلك لنفسه ويقبضه بحضرة إخوته وعلمهم فهم في ذلك كالأجانب.
(وأما القسم الثالث): وهو حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالقرابة الأشراك، ورجع عن قوله بأن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان، إلا أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، ومرة رآهم بخلاف الأشراك فجعل الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة فيهما جميعا.
والثاني: أنها ليست بحيازة فيهما إلا مع طول المدة.
والثالث: الفرق بينهما فتكون حيازة في غير الشركاء .
(وأما القسم الرابع): وهو حيازة الموالي والأختان والأصهار فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين، العشرة الأعوام بينهم حيازة، وإن لم يكن هدم ولا بناء، ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال:(7/324)
أحدها : أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بناء.
والثاني : أنها لا تكون بينهم في العشرة الأعوام إلا مع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 226)
الهدم والبناء.
والثالث : أنها لا تكون بينهم بالهدم والبناء إلا أن يطول الزمان جدا. قال ابن القاسم، وإليه رجع. وقال أصبغ : هم كالأجانب إلا من كان منهم مخالطا جدا أو وكيلا. قال ابن رشد : ينبغي أن يكون الخلاف في حال فمن علم منه المسامحة أو أشكل أمره فهو على حقه وإن طالت السنون، ومن علم منه المشاحة فيكون كالأجنبي، وما قاله ابن رشد ذكره ابن العطار فقال: وقد قيل أيضا في الأقارب: إن ذلك يكون في البلدان التي يعرف من أهلها أنهم يوسعون فيها لأقاربهم وأصهارهم ومواليهم، وإن كانوا بموضع لا يعرف هذا فيه انقطعت الحجة باعتبار دون هذه المدة وكانوا كالأجنبيين، وذكره ابن رشد في الاستحقاق أوضح من هذا، وقال: إنما الاختلاف المذكور إذا جهل حالهم على ماذا يحمل أمرهم، فمرة حملهم محل القرابة، ومرة حملهم محل الأجنبيين، وهذا خلاف ما قاله ابن راشد وهم في البيع وما ذكره معه كالأجانب .
(وأما القسم الخامس): وهو حيازة الأجنبيين الأشراك، فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بناء وتكون مع الهدم والبناء ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وقيل: إنه يدخل في ذلك.
(وأما القسم السادس): وهو حيازة الأجانب بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فقد تقدم فيه الكلام والمشهور أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، ولابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان .
(تنبيه): ذكرهم الهدم والبنيان ظاهر، سواء كان بناء ترميم وإصلاح أو بناء توسع، وكذا الهدم سواء كان هدم ما يخشى سقوطه، أو هدم ما لا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 227)(7/325)
يخشى سقوطه ليوسع ويبني مسكنا أو مساكن وليس كذلك، والذي ينفع في الحيازة هو الهدم والبناء والتوسع وإزالة ما لا يخشى سقوطه؛ لأن عرف الناس وعادتهم أنهم يأذنون للسكان في الرم وإصلاح ما وهي من الكراء، ولا يأذنون في زيادة المسكن. (من اللخمي ).
ح- وقال ابن فرحون: (فصل في صفة الشهادة على الحيازة ) [تبصرة الحكام] (2/ 90). .
وفي فقه وثائق ابن العطار : وإذا قام رجل في دار وأملاك يدعيها لنفسه أو لمورثه ، وأثبت الملك لها ، وكانت في يد معترض لها ، فإن توافق الطالب والمطلوب على حدودها وجب الإعذار إلى المعترض في الشهود والقضاء عليه. وإن عجز والتسجيل دون حيازة الشهود لها وإن سأل الطالب من القاضي الإنزال فيها أو وقع تخالف في بعض حدودها حازها الشهود المقبولون، ولا يكلف القاضي شهود الحيازة أن يحوزوا ما شهدوا به من الرباع، ولو كان الموضع قريبا ، ولكن يأمر الشهود له بالرغبة إليهما في ذلك (من [معين الحكام]) وإذا توجه شهود الحيازة ليحوزوا الملك بعث القاضي معهم شاهدي عدل يحضران حيازة الشهود وفي (الطرر) وإنما احتيج إلى موجهي القاضي في الحيازة مخافة أن يموت شهود الحق ويعزل القاضي أو يموت فيشهد المواجهان على الحيازة فيتم القول بهما، ولا تعمل الحيازة شيئا حتى يقول الشاهدان بحضرة الحائز: هذا الذي شهدنا فيه عند فلان قاضي الجماعة، وإن وقفا على العقار وعيناه ولم يقولا هذا كان جهلا منهما ومن الحاضرين لحيازتهما ولم تعمل الحيازة والشهادة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 228)(7/326)
شيئا حتى يوقفا على هذا ويقولا به وتتبين به الشهادة، وقال في موضع آخر: ولا يحضر حيازة الشهيدين في الملك الذي شهدا فيه إلا شاهدان يعرفان عين ذلك الملك وحدوده أو يكون الملك المشهود به له حدود مشهورة لا تخفى معرفتها، مثل أن يكون في القبلة منه أو ناحية غيرها فرن أو حمام أو درب أو حوانيت أو رحبة شرع بابه إليها وما أشبه ذلك من الأعلام المثبتة التي يعلم الشاهدان الحيازة بالنظر فيها أنها الحدود التي قال الشاهدان في الملك عند القاضي: إنه المحدود به؛ لأن شهادة الحاضرين للحيازة لا تتم حتى يقولا: إن شهيدي الملك حازا بمحضرهما هذا الملك، وعينا هذه الحدود، فإذا لم يعرفا الملك ولا عينا الحدود لم ينفع بمحضرهما للحيازة؛ لأنه إذا قال الشهيدان في الملك: هذا الملك الذي شهدنا فيه عند القاضي والحاضران للحيازة لا يعرفانه فهو كشهادتهما أولا عند القاضي وتكون شهادة الحاضرين زورا؛ لأنهما يشهدان أن الشهيدين في أصل الملك حاز الدار والملك الذي شهدا فيه عند القاضي وهما لا يعرفان إن كان ذلك هو الملك أم لا ، ولو قالا: إن الشهيدين في الملك عينا بحضرتهما دارا قالا: إنها التي شهدنا فيها عند القاضي لم تعمل شهادتهما في الحيازة شيئا حتى يقطعا أنهما حازا بحضرتهما الشيء الذي شهدا فيه عند القاضي لمعرفتهما لعين الشيء المحوز ، وإن كانا لا يعرفان ملك المشهود له فهما على صحة حدوده وباشتهار أعلامه، قال: وهذا من دقيق الفقه ، وقل من يعرفه.
(مسألة) وفي [الطرر] الموجه من قبل القاضي للحيازة بمنزلة الموجه من قبله للأعذار يجزئ فيه واحد عدل.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 229)
(تنبيه): الغائب وإن كانت غيبته قريبة فهو محمول على عدم العلم حتى يثبت عليه العلم، والحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم. قاله ابن راشد .(7/327)
ط- وقال ابن فرحون : (مسألة في الحيازة على الغائب ) [تبصرة الحكام] (2/ 84). .
وفي [مختصر الواضحة] قال ابن حبيب : وأخبرني حسين عن ابن القاسم وابن وهب وابن نافع وأصبغ ومطرف في الغائب يحاز عليه من ماله فلم يقدم، ولم يوكل حتى طال زمان ذلك فهو كالحاضر إلا أن يكون له عذر مثل أن يكون في يد عدو أو من وراء بحر أو يكون ضعيفا أو مختلا أو امرأة محجوبة أو غير محجوبة وما أشبه ذلك من العذر، فيكون على حقه أبدا وإن أشهد في غيبته على عذره وأنه غير تارك لحقه إلا لما يذكره من عذره كان ذلك أوثق له عندنا ، وقد يكون للغائب وإن قربت غيبته معاذير يعذر بها إذا ظهرت.
قال ابن حبيب : ثم رجع ابن القاسم فقال: أرى الغائب على مسيرة الثلاثة الأيام والأربعة معذورا في غيبته وإن علم بما حيز عليه وإن لم يكن ضعيفا في بدنه ولا مختلا في عقله، وأراه على حقه أبدا ما زال غائبا؛ لأنه قد يكون للغائب معاذير لا تعرف، وقوله الأول عندي أحسن، وهو الذي اجتمع عليه كبار أصحاب مالك، وفي العتبية رواية عن ابن القاسم: أن الثمانية أيام في حكم القريب.
(فرع) وفي الطرر لابن عات : ومغيب المرأة على مسيرة اليوم لا يقطع حجتها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: صحيح البخاري الجمعة (1038),صحيح مسلم الحج (1339),سنن الترمذي الرضاع (1170),سنن أبو داود المناسك (1723),سنن ابن ماجه المناسك (2899),مسند أحمد بن حنبل (2/506),موطأ مالك الجامع (1833). لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا معها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 230)
ذو محرم منها قاله بعض الشيوخ المتأخرين.
(فرع) وإن كان غير عالم فهو على حقه إذا قدم ولا حيازة عليه ، وإن طالت الحيازة فيه كانت الغيبة قريبة أو بعيدة.
(تنبيه): وهو محمول على غير العلم حتى يقيم الحائز بينة أنه كان عالما في غيبته بحيازته لماله .(7/328)
(فرع) وقال مطرف وأصبغ : ونرى السبعة الأيام والثمانية وما أشبه ذلك طولا من الغيبة وعذرا في ترك القدوم والطلب والتوكيل.
وإن كان عالما إلا أنا نستحب له أن يشهد في غيبته إذا علم بحيازة ماله عنه وإن ترك الإشهاد لم يوهن ذلك حجته ، إلا أن يطول الزمان جدا مثل السبعين سنة أو الثمانين وما قاربها، ويكون مع ذلك سماع مستفيض بأنها ملك للذين هي بأيديهم تداولوها هم ومن كان قبلهم بما يحاز به الملك فيكون ذلك كالحيازة على الحاضر وإن كانت الغيبة بعيدة. قال ابن حبيب : وبقولهما أقول .
ي- وقال ابن فرحون [تبصرة الحكام] (2/85) . : (فصل في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحاضر الرباع والعقار ).
وفي [مختصر الواضحة] قال أصبغ : ما حازه الأجنبي على الأجنبي بحضرته وعلمه، أي: الحيازات كانت من سكنى فقط أو ازدراع أو هدم أو بنيان صغر شأنه أو عظم أو غير ذلك من وجوه الحيازات كلها فذلك يوجبه لحائزه ويقطع حجة صاحبه، وهي كالشهادة على الملك كما يكون الرهن شاهدا لصاحبه بحيازته إياه وكما يكون الستر شاهدا للمرأة بإرخائه عليها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 331)(7/329)
وكذلك أجمع أهل العلم عليه إذا كان على هذا التفسير الذي فسرنا ورأوا العشر سنين وما قاربها -يعني: كالثمان والتسع- حيازة فيما بين المتداعيين قال ابن القاسم : وكان مالك لا يوقت الحيازة لا عشر سنين ولا غيرها، وكان يرى ذلك على قدر ما ينزل من الأمر ورأى فيه الإمام رأيه، وتابعه ابن الماجشون على ذلك، وإن ذلك قد يكون بعضه أقوى من بعض مثل أن يكون الطالب مجاورا لحائزه مقيما معه ببلده عالما بإحداثه في ذلك، وبما هدم وبنى لا ينكر ولا يدفع، فإن هذه حالة إقرار لا شيء له معها فيما ادعى من ذلك وأثبت أصله، وإن لم يكن على ما وصفنا وكان غائبا عنه أو كان المطلوب مدعيا لشراء لم يثبته وما أشبه هذا -فذلك للطالب الذي له البينة على أنه له أو لأبيه أو لمن أخذ ذلك عنه إذا حلف أنه لم يخرج منه ولم يزل من يده أو من أخذ عنه بما يخرج به بالمال ومن يدريه يحلف على نفسه بالبت وفيما سواه بعلمه، وذهب ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكيم، وأصبغ إلى توقيت ذلك بعشر سنين وما قارب العشر، وهذا في العقار والرباع والأرضين، وسيأتي الكلام على الحيوان والعروض إن شاء الله تعالى .
والدليل على ما ذهب إليه ابن القاسم قوله صلى الله عليه وسلم : من حاز على خصمه شيئا عشر سنين فهو أحق به واستدل أئمتنا رحمهم الله تعالى بالعرف والعادة، ويشترط في الحيازة أن يكون المحوز عليه غير خائف من الحائز ولا بينه وبينه قرابة ولا مصاهرة ولا مصادقة ولا شركة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(تنبيه): وفي [الطرر على التهذيب] لأبي الحسن الطنجي عن أبي الحسن الصغير قال عند قوله في التهذيب: ومن أقامت بيده دار سنين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 232)(7/330)
ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني فأقام رجل بينة أن الدار داره وأنها لأبيه أو جده وثبتت المواريث فإن كان المدعي حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له وذلك يقطع دعواه. قوله: حاضرا يراه لا بد هنا من العلم بشيئين وهما العلم بأنه ملكه والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول ما علمت أنه ملكي، كما يقول الرجل: الآن قد وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي جمراء (مسألة) وفي [فقه وثائق ابن العطار ]: ولا يقطع قيام البكر غير العانس، ولا قيام الصغير، ولا قيام المولى عليه في رقاب الأملاك، ولا في أحداث الاعتمار بحضرتهم إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه من الولي عليه، وتعنس الجارية، ويحاز عليهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر فينقطع حينئذ قيامهم وما لم يعوقوا بحقوقهم لم ينقطع قيامهم .
ك- وجاء في [مختصر خليل وشرحه] للحطاب :
(وإن حاز أجنبي [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6/ 221) وما بعدها. غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينة إلا بإسكان ونحوه).
ش: ختم رحمه الله كتاب الشهادات بالكلام على الحيازة؛ لأنها كالشاهد على الملك، قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 233)(7/331)
باتفاق، ولكنها تدل على الملك كإرخاء الستور ومعرفة العفاص والوكاء وما أشبه ذلك فيكون القول معها قول الحائز مع يمينه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من حاز شيئا عشر سنين فهو له ؛ لأن المعنى عند أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: وهو له أي: أن الحكم يوجبه له بدعواه، فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة، وهي عشرة أعوام دون هدم ولا بنيان، أو مع الهدم والبنيان على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة - وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. انتهى.
وسواء ادعى صيرورة ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي، أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا ، وأما إن أقر أنه ملك المدعي وصار إليه بصدقة أو هبة -ففيه خلاف ذكره في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق. وقول ابن رشد : فيكون القول قول الحائز مع يمينه هو أحد القولين، قال في [الشامل]: وفي يمين الحائز حينئذ قولان، والقول بنفي اليمين عزاه في [التوضيح] لظاهر نقل ابن يونس وغيره، والقول باليمين عزاه لصريح كلام ابن رشد فهو أقوى وهو الظاهر، والله أعلم.
ثم قال ابن رشد : والحيازة تنقسم إلى ستة أقسام: أضعفها حيازة الأب عن ابنه، ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغيره، ويليها حيازة القرابة فيما لا شرك بينهم فيه والموالي والأختان الشركاء بمنزلتهم، ويليها حيازة الموالي والأختان فيما لا شرك بينهم فيه، ويليها حيازة الأجنبيين الشركاء، وتليها حيازة الأجانب فيما لا شرك بينهم فيه، وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 234)(7/332)
والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدابة كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور والغرس في الأرضين. انتهى.
فبدأ المصنف بالكلام على القسم السادس وهي حيازة الأجنبي غير الشريك، فقال: وإن حاز أجنبي غير شريك واحترز بقوله: أجنبي من القريب فإنه سيأتي حكمه، وبقوله: غير شريك من الأجنبي الشريك فإنه سيأتي أيضا حكمه، ومفعول قوله حاز محذوف، أي: حاز عقارا من دار أو أرض، وأما غير العقار فلا يفتقر في الحيازة إلى عشرة أعوام، كما سيأتي بيانه، وقوله: وتصرف بمعنى أنه يشترط في الحيازة أن يكون الحائز يتصرف في العقار المحوز.
وأطلق التصرف لينبه على أن حيازة الأجنبي غير الشريك يكفي فيها مطلق التصرف ولو كان ذلك السكنى والازدراع الذي هو أضعف أنواع الحيازة وهذا هو المشهور، وقال في الرسم المذكور: المشهور في المذهب: أن الحيازة بينهم -يعني: بين الأجانب غير الشركاء- تكون في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، وعن ابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان ولا خلاف أنها تكون حيازة مع الهدم والبنيان. انتهى.
وقوله: ثم ادعى حاضر، يعني: أنه يشترط في كون الحيازة مانعة من سماع دعوى المدعي أن يكون المدعي حاضرا، واحترز بذلك مما لو كان المدعي غائبا، فإن له القيام وإن طالت المدة، إذا كانت غيبته بعيدة كالسبعة الأيام، قال في [التوضيح]. وإن كانت الغيبة قريبة كأربعة أيام وثبت عذره عن القدوم والتوكيل من عجز
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 235)
ونحوه فلا حجة عليه ، وإن أشكل أمره فظاهر المذهب أنه على قولين، قال ابن القاسم : لا يسقط حقه؛ لأنه قد يضعف عند القدوم، قيل له: فإن لم يتبين عجزه عن ذلك قال: قد يكون معذورا من لا يتبين عذره، وذكر ابن حبيب : أنه يسقط حقه إلا أن يتبين عذره. انتهى.(7/333)
وانظر رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وقوله: ساكت، يعني: أنه اشترط أيضا في الحيازة أن يكون المدعي ساكتا في مدة الحيازة، واحترز بذلك مما لو تكلم قبل مضي مدة الحيازة فإن حقه لا يبطل، وقوله: بلا مانع، يعني: أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل، وفسر ابن الحاجب المانع بالخوف والقرابة والصهر، وقد احترز المصنف من القرابة والصهر بقوله أولا: أجنبي، فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف، أي: خوف المدعي من الذي في يده العقار؛ لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان، فإن كان سكوته لذلك لم يطلب حقه، قال الجزولي : وكذلك إذا كان للحائز على المدعي دين ويخاف إن نازعه أن يطلبه ولا يجد من أين يعطيه. انتهى. فتأمله، ويدخل في المانع ما إذا كان المدعي صغيرا أو سفيها فإن سكوته لا يقطع دعواه، قال ابن فرحون في [تبصرته] في الباب السادس والستين قال: قال ابن العطار : ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه الاعتماد المذكور بحضرته إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولى عليه وتعنس الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر. انتهى .(7/334)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 236)
ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بأن العقار المحوز ملكه، قال في [الرسالة]: ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبها حاضر عالم، قال الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر كتاب الشهادات لما تكلم على الحيازة في [الرسالة] وصاحبها حاضر عالم.
الشيخ: أي: عالم بالمعلومين بتصرف الحائز وبأنها ملكه قال في [الوثائق المجموعة]: حاضر عالم بأنها ملكه، وإذا كان وارثا ويدعي أنه لم يعلم فيحلف ويقضى له. انتهى.
ونقله ابن فرحون في [تبصرته] عن الطخيخي عن أبي الحسن الصغير بلفظ: لا بد هنا من العلم بشيئين: وهما العلم بأنه ملكه، والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول: ما علمت أنه ملكي كما يقول الرجل: الآن وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي زيد . انتهى.
(فرع) قال ابن ناجي في [شرح الرسالة]: قال ابن العربي : وانظر إذا قال: علمت الملك ولم أجد ما أقوم به ووجدته الآن هل يعذر أم لا؟ (قلت): اختار شيخنا أبو مهدي أنه يقبل وذلك عذر سواء كانت البينة التي وجد بينة استرعاء أم لا، والصواب عندي أنه لا يقبل منه؛ لأنه كالمقر والمعترف بأنه لا حق له فيه مدع رفعه. انتهى. زاد في شرح المدونة: ثم وقعت بالقيروان بعد عشرة أعوام فكتب فيها لشيخنا أبي مهدي فأفتى بما صوبت. انتهى.
قال الشيخ يوسف بن عمر في [شرح قول الرسالة]: لا يدعي شيئا: هذا إذا لم يمنعه مانع من القيام، وأما إن خاف سطوة الحائز وأثبت ذلك فهو على قيامه وإن ادعى مغيب البينة وقال: ما سكت إلا لانتظار بينتي فلا يقبل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 237)(7/335)
قوله والدعوة التي تنفعه إذا كان يخاصمه عند القاضي، وأما غير ذلك فلا ينفعه. انتهى. ونحوه للجزولي ونصه: وأما إذا قال: علمت أنها ملكي ولكن منعني من القيام عدم البينة والآن وجدت البينة فإنه لا ينفعه ذلك ويقضى بها للحائز بعد يمينه إذ لا بد من يمين القضاء ثم قال بعد ذلك: وأما إن قال: علمت بأنها ملكي ولم أعلم بالحيازة فإنه لا يقبل قوله؛ لأن العرف يكذبه وكذلك إن قال: منعني من القيام عدم البينة والآن وجدتها فإنه لا ينفعه ولا قيام له. انتهى.
وفي أول مسألة من سماع أشهب من كتاب الاستحقاق ما يدل على أنه إذا ادعى عدم العلم بالحيازة ينفعه ذلك ويحلف، وأنه محمول على عدم العلم، وقال ابن ناجي في [شرح قول الرسالة]: وصاحبها حاضر عالم: ظاهر كلام الشيخ أن الحاضر محمول على عدم العلم بالملكية حتى يثبت، وعزاه بعض من لقيناه لابن سهل، وهو ظاهر التهذيب، وقيل: إنه محمول على العلم حتى يتبين خلافه، وهو قول ابن رشد، وقيل : بالأول إن كان وارثا، وبالثاني إن لم يكن قاله في [الوثائق المجموعة] وبه القضاء عندنا، هكذا كان يتقدم لنا أنها ثلاثة أقوال، والحق أن الذي في [الوثائق المجموعة] إنما هو التنبيه على فرع متفق عليه وهو إذا ادعى الوارث الجهل بملكية موروثه فإنه يقبل قوله مع يمينه، ثم قال بعده: قال ابن العربي: وانظر إذا قال: علمت المالك إلى آخر الفرع المتقدم، ويشير بالفرع المتفق عليه إلى ما نقله أبو الحسن وابن فرحون عن [الوثائق المجموعة] في كلامهما المتقدم وقوله: عشر سنين يعني: أن مدة الحيازة التي تبطل دعوى المدعي عشر سنين ، وهذا التحديد يذكره في [المدونة] عن ربيعة، ونصه: ولم يحدد مالك في الحيازة في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 238)(7/336)
الريع عشر سنين ولا غير ذلك، وقال ربيعة : حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أخدم أو أعار ونحوه ولا حيازة على غائب، وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حاز شيئا عشر سنين فهو له انتهى. قال في [التوضيح]: وبهذا أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ ، ودليله ما رواه أبو داود في [مراسيله] عن زيد بن أسلم وذكر الحديث ثم قال: ولابن القاسم في الموازية السبع والثمان وما قارب العشرة مثل العشرة. انتهى.
فتحصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال:
الأول: قول مالك في [المدونة]: أنها لا تحدد بسنين مقدرة، بل باجتهاد الإمام ، وهكذا نقل ابن يونس فقال: ولم يحد مالك في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك، ولكن على قدر ما يرى أن بهذا قد حازها دون الآخر فيما يهدم ويبنى ويسكن ويكرى. اهـ، وهكذا نقله ابن شاس وابن عرفة، وسيأتي لفظه.
والقول الثاني : أن مدة الحيازة عشر سنين، وهو القول الذي مشى عليه المصنف في كتاب الشهادات، وعليه اقتصر في [الرسالة] قال في [النوادر]: وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وهكذا عزاه ابن يونس وابن شاس، وتقدم نحوه عن [التوضيح] ونقله ابن عرفة عن [النوادر] وقال ابن يونس : قال ابن سحنون : لما أمر الله نبيه بالقتال بعد عشر سنين كانت أبلغ شيء في الإعذار ، واعتمد أهل المذهب على الحديث المتقدم، وعلى أن كل دعوى يكذبها العرف فإنها غير مقبولة، ولا شك أن بقاء ملك الإنسان بيد الغير يتصرف فيه عشر سنين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 239)
دليل على انتقاله عنه. والله أعلم.(7/337)
والقول الثالث : أن مدة الحيازة سبع سنين فأكثر، وهو قول ابن القاسم الثاني، وقد ذكر ابن عرفة هذه الثلاثة الأقوال فقال: وفي تحديد مدة الحيازة بعشر أو سبع. ثالثها لا تحديد بعدة، بل باجتهاد الإمام، وقال في [ المسائل الملقوطة]: (مسألة) في قناة تجري منذ سنة في أرض رجل والذي تجري عليه ساكت لا تكون السنة حيازة للتغافل عن مثلها وسكوت أربع سنين طول وحوز من كتاب الشهادات لابن يونس . انتهى. فتأمله مع ما تقدم، وهل يكون قولا رابعا أو لا؟ والله أعلم.
وقوله: لم تسمع ولا بينة هو جواب الشرط، يعني: أن الحيازة إذا وقعت على الوجه المذكور فهي مانعة من سماع دعوى المدعي، والظاهر: أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها وبمقتضاها من أنه لا يتوجه على المدعى عليه يمين إذا أنكر. أنه لا تسمع ابتداء، ولا يسأل المدعى عليه عن جوابها، فإن ذلك غير ظاهر لاحتمال أن يقر المدعي ويعتقد أن مجرد حوزه يوجب له الملك، وقد تقدم: أن الحوز وحده لا ينقل الملك، وإنما هو دليل على انتقال الملك، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم . قال ابن رشد في آخر الكلام على المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق: وأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة. انتهى.
وسيأتي كلامه برمته في التنبيه الخامس في قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها. وقوله: ولا بينة، يعني: أن الحيازة المذكورة مانعة من سماع دعوى المدعي ومن سماع بينته أيضا فإن قيل: قوله: لم تسمع دعواه يغني عن قوله ولا بينته؛ لأنه إذا لم تسمع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 240)(7/338)
الدعوى لم تسمع البينة. فالجواب والله أعلم: إنما قال: ولا بينته خشية أن يتوهم أن الدعوى المجردة عن البينة هي التي لا تسمع، وأما إذا قامت بها البينة فتسمع، كما تقول في دعوى العبد على سيده العتق والمرأة على زوجها الطلاق، فإن دعواهما لا تسمع إذا كانت مجردة عن البينة، أعني: أنه لا يتوجه على السيد ولا على الزوج بسببهما يمين، إن أقاما البينة على دعواهما سمعت وأيضا فإنما قال: ولا بينة ليفرع عليه قوله إلا بإسكان ونحوه، والمعنى: أنه لا تسمع بينة المدعي إلا أن تشهد البينة للمدعي بأنه أسكن الحائز أو أعمره أو ساقاه أو زارعه أو ما أشبه ذلك، فإنه إذا أقام البينة على ذلك حلف المدعي على رد دعوى الحائز وقضى له، هذا إن ادعى الحائز أن المالك باعه أو نحو ذلك، وأما من لم يدع نقل الملك وإنما تمسك بمجرد الحيازة فلا يحتاج إلى يمين قاله في [التوضيح] وغيره.
( تنبيهات): الأول: الهدم والبناء مقيدان بما إذا لم يهدم ما يخشى سقوطه فإن ذلك لا ينقل الملك وكذا الإصلاح اليسير قاله في [التوضيح].
الثاني: الحيازة على النساء عاملة إن كن في البلد، ذكره ابن بطال في المقنع.
الثالث: تقدم أنه لا حيازة على الغائب ، قال ابن بطال : إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد أنه على حقه وقاله الرجراجي .
الرابع: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: من حاز شيئا عشر سنين فهو له ، وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث، مثل: أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه قد حازه خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة عن الحاضر. انتهى.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 241)(7/339)
الخامس: اختلف هل يطالب الحائز ببيان سبب ملكه . قال في التوضيح: قال ابن أبي زمنين : لا يطالب، وقال غيره: يطالب، وقيل: إن لم يثبت أصل الملك المدعي فلا يسأل الحائز عن بيان أصل ملكه وإن ثبت الأصل للمدعي ببينة أو بإقرار الحائز سئل عن سبب ذلك، وقال ابن عتاب وابن القطان : لا يطالب إلا أن يكون معروفا بالغصب والاستطالة والقدرة على ذلك. انتهى باختصار. وظاهر كلام ابن راشد في رسم سلف الحائز يطالب ببيان سبب ملكه؛ لأنه حينئذ قال إذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيه الحيازة عاملة وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه.
واختلف إذا كان هذا الحائز وارثا: فقيل: إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه في أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي يصير به ذلك إلى موروثه، وهو قول مطرف وأصبغ . وقيل: ليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثنا ذلك ولا أدري بماذا صار ذلك إليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم أن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقول ابن الماجشون : وقوله عندي بين، فإنه ليس عليه أن يسأل عن شيء. انتهى.
وأفتى في نوازله بأن الحائز لا يطالب بشيء حتى يثبت القائم عليه الملك وسيأتي كلامه في التنبيه السادس، وجزم في شرح آخر مسألة من نوازل عيسى بأنه إذا ثبت أصل الملك لغيره فلا بد من بيان سبب ملكه قال: بأن يقول: اشتريته منه أو وهب لي أو تصدق به علي أو يقول: ورثته عن أبي أو عن فلان ولا أدري بأي وجه يصير إلى الذي ورثته منه، وقال: أما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 242)
الملك لغيره. انتهى.
(فرع) قال ابن سهل في مسائل الأقضية: من ادعي عليه بأملاك فقال: عندي وثائق غائبة ثم طولب عند حاكم آخر فأنكر تلك المقالة فقال ابن العطار : ليس عليه إحضار الوثائق. انتهى. انظر تمامها فيه.(7/340)
الثالث : لا تسقط الحيازة ولو طالت الدعوى في الحبس، بذلك أفتى ابن رشد في نوازله في جواب المسألة الخامسة من مسائل الوقف وهي مسألة تتضمن السؤال عن جماعة واضعين أيديهم على أملاكهم ومورثهم ومورث مورثهم نحوا من سبعين عاما يتصرفون فيها بالبناء والغرس والتعويض والقسمة وكثيرا من وجوه التفويت فادعى عليهم بوقفيتها شخص حاضر عالم بالتفويت المذكور والتصرف هو ومورثه من قبله.
ونصه: ولا يجب القضاء بالحبس إلا بعد أن يثبت التحبيس وملك المحبس لم حبسه يوم التحبيس وبعد أن تتعين الأملاك المحبسة بالحيازة لها على ما تصح فيه الحيازة ، فإذا ثبت ذلك كله على وجهه وأعذر إلى المقوم عليهم فلم يكن لهم حجة إلا من ترك القائم وأبيه قبله عليهم وطول سكوتهما عن طلب حقهما مع علمهما بتفويت الأملاك فالقضاء بالحبس واجب والحكم به لازم. انتهى.
وأفتى بذلك أيضا في المسألة السادسة من مسائل الدعوى والخصومات في مسألة ابن زهر، وهي مسألة تتضمن أن رجلا في ملكه ضيعة ورثها عن سلفه منذ سبعين عاما هو وأبوه، وهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه فقام عليه رجل وادعى أن الضيعة رهن بيده وبذلك ملكها سلفه قبله واستدعى عقد السماع بالرهن، فأثبت الذي بيده الضيعة أن جده ابتاعها من جد القائم عليه فيها فأفتى أن شهادة الشراء أعمل، ثم قام ذلك الرجل المشتري المدعي الرهنية بعينه وادعى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 243)(7/341)
أنها حبس عليه وأثبت عقد التحبيس بالشهادة على خطوط شهدائه فهل ترى قيامه أولا بالرهن يبطل قيامه بالحبس أم لا؟ فأجاب: كان من وجه الحكم أن لا يكلف الذي بيده الضيعة من أين صارت إليه حتى يثبت القائم ملك الراهن لها ورهنه إياها وموته، وأنه وارثه أو وارث وارثه، وكذلك الحكم في قيامه بالحبس سواء في مذهب مالك وجميع أصحابه، غير أن قول المقوم عليه: أن جده ابتاعها من جد القائم عليه إقرار منه له بملكها، فإن كان هو المحبس، وأثبت حفيده عقد التحبيس، وأنه من عقبه لا عقب له غيره بالسماع إن عجز عن البينة القاطعة وأعذر إلى المقوم عليه فيما ثبت من ذلك فلم يكن عنده فيه مدفع، فالواجب أن يسأل المقوم عليه، فإن أقر أنها هي التي وقع ذكرها في كتاب التحبيس لم يجب على القائم فيها حيازة لاتفاقهما عليه، وانظر إلى تاريخ كتب صاحب التحبيس وتاريخ السماع بشراء جد المقوم عليه من جد القائم، فإن وجد تاريخ الحبس أقدم قضي به وبطل الشراء ووجب الرجوع بالثمن ، وإن وجد تاريخ السماع بالشراء أقدم أو لم يعلم أيهما أقدم قبل صاحبه قضي بالشراء وبطل التحبيس، وهكذا الرواية في ذلك.
ثم قال في جواب ثان على المسألة بعينها إثر الجواب الأول: ما تضمنه عقد التحبيس الثابت لا يوجب أن يسأل من بيده شيء من ذلك من أين صار له ولا يعقل عليه ولا يكلف إثباتا ولا عقلا إلا من بعد أن يثبت القائم بالتحبيس ملك المحبس لما حبسه ويحوز ما أثبت تحبيسه حيازة صحيحة على الوجه الذي ذكرناه، وهذا أصل لا اختلاف فيه، أعني: أن من بيده ملك لا يدعيه يكلف إثبات من أين صار له حتى يثبت المدعي ما ادعاه ويحوزه ولا يلزم المقوم عليه إذا أفضى ببقاء الملك بيده
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 244)(7/342)
وحكم بقطع الاعتراض عنه بشيء من ثمن ما ادعى شراءه إذا مضى من طول المدة ما صدق فيه المبتاع على أداء ثمن ما ابتاعه في قول مالك وجميع أصحابه، ولو لم يمض لم يحكم للمدعي أيضا بالثمن حتى يرجع عما ادعاه من التحبيس إلى تصديق دعوى المشتري على اختلاف أصحابنا المتقدمين، أي: واستفيد من هذه المسألة فوائد: منها : أنه مشى على أنه لا يسأل واضع اليد عن شيء حتى يثبت القائم الملك.
ومنها : حكم شهادة السماع في الرهن. ومنها : القضاء بالتاريخ السابق. ومنها : إذا جهل السابق من تاريخ الشراء أو الحبس قضي بتاريخ الشراء وبطل الحبس.
وأفتى غيره: أنه إذا جهل التاريخ قدم الحبس. والله أعلم. ص: (وفي الشريك القريب معهما قولان) ش. يعني: أنه اختلف في الشريك القريب إذا حاز العقار بالبناء والهدم هل تكون مدة الحيازة في حقه عشر سنين كالأجنبي أو لا يكفي في ذلك عشر سنين؟ ولم يبين المصنف قدر مدة الحيازة على القول الثاني والقولان لابن القاسم ذكرهما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فكان أولا يقول: إن العشر سنين حيازة، ثم رجع إلى أن ذلك لا يكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من أربعين سنة.
(تنبيهات): الأول: ظاهر كلام المصنف وغيره: أن القولين متساويان، وقد علمت أن القول الذي رجع إليه ابن القاسم أن ذلك لا يكون حيازة، ولا شك أن العمل على القول المرجوع إليه فتأمله.
الثاني: علم من قول المصنف معهما أنه لا تحصل الحيازة بين القرابة الشركاء إذا لم يكن هدم ولا بنيان وهو كذلك كما سيأتي في كلام ابن راشد في شرح قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها، ويأتي أيضا هناك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 245)
بيان حكم الحيازة بين القرابة الشركاء في غير العقار. والله أعلم.(7/343)
الثالث: لم يذكر المصنف حكم القريب الذي ليس بشريك، وذكر ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فجعله مرة كالقريب الشريك فيكون قد رجع عن قوله أن الحيازة لا تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، وهو نص قوله في سماع يحيى المذكور، ومرة رآهم بخلاف ذلك فلم يرجع عن قوله: أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان وهو دليل قوله في السماع المذكور. انتهى.
(قلت): فعلم من كلام ابن رشد هذا أن القول بأن حكم القريب الذي ليس بشريك كحكم القريب الشريك هو الراجح؛ لقوله: إنه نص قول ابن القاسم، وأن الثاني إنما هو مفهوم من كلام ابن القاسم فتأمله، وتحصل من هذا: أن الحيازة بين القرابة سواء كانوا شركاء أو غير شركاء لا تكون بالسكنى والازدراع، وإنما تكون بالهدم والبناء في الأمد الطويل الذي يزيد على أربعين سنة على الأرجح من القولين. والله أعلم.
الرابع: محصل كلام ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وأن الحيازة لا تكون بين أب وابنه بالسكنى والازدراع والاستخدام والركوب اتفاقا، وكذلك الأقارب الشركاء بميراث وغيره على الأظهر، وكذا الشركاء الأجانب الذين الشركة بينهم فتكفي الحيازة عشرة أعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان على الشهود وإن حصل هدم وبناء وغرس فتكفي العشرة الأعوام في الشريك الأجنبي، وفي الشريك القريب مع ذلك قولان، وفي كون ذلك القريب غير الشريك والمولى والصهر الشريكان،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 246)(7/344)
ثالثها في الصهر والمولى دون القريب، وفي كون السكنى والازدراع في العشرة حيازة لمولى وصهر غير شريكين أو إن هدم وبنى أو إن طال جدا أقوال. والله أعلم. ص: (لا بين أب وابنه إلا بكهبة) ش: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وتحصل الحيازة في كل شيء، بالبيع والهبة والصدقة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والولاء ولو بين أب وابنه، ولو قصرت المدة إلا أنه إن حضر مجلس البيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته وكان له الثمن، وإن سكت بعد العام ونحوه حتى استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ منه، وإن سكت العام ونحوه ولم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والتدبير والعتق فسكت حتى انقضى المجلس -لم يكن له شيء، وإن لم يحضر ثم علم فإن قام حينئذ كان له حقه، وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو على العتق؟ قولان. انتهى مختصرا.
ص: (وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان ويزاد في عبد وعرض) ش: يعني: أنه إنما يفترق بين الدور وغيرها في مدة الحيازة إذا كانت الحيازة بين الأجانب، وأما في حيازة القرابة بعضهم على بعض فلا يفرق بين الدور وغيرها، قال ابن رشد في رسم سلف من سمع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: إن الأقارب والشركاء بالميراث أو بغير الميراث لا خلاف أن الحيازة بينهم لا تكون بالسكنى والازدراع ولا خلاف أنها تكون بالتفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 247)(7/345)
وإن لم تطل المدة والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع قال: والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور وكالغرس في الأرضين ثم قال: ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب، فقد قال أصبغ: إن السنة والسنتين في الثياب حيازة وإذا كانت تلبس وتمتهن ، وإن السنتين والثلاثة حيازة في الدواب إذا كانت تركب ، وفي الإماء إذا كن يستخدمن ، وفي العبيد والعروض فوق ذلك ، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول. انتهى .(7/346)
(تنبيهات): الأولى : علم من كلام ابن رشد أن اللباس في الثياب كالسكنى في الدور وأنه لا تحصل حيازة بين الأقارب ولو طالت المدة وأن الاستقلال في الرقيق والدواب والثياب بمعنى قبض أجرة العبيد والدواب والثياب؛ كالهدم والبنيان في العقار فلا تحصل الحيازة بين الأقارب في الرقيق والثياب والعروض إلا بالاستغلال ويختلف في مدتها على القولين السابقين اللذين أشار إليهما المصنف بقوله: وفي الشريك القريب معهما قولان أو بالأمور المفوتة؛ كالبيع والهبة والصدقة والعتق والوطء ويعلم هذا من كلام المصنف؛ لأنه لما جعل ذلك مفوتا بين الأب وابنه علم أنه مفوت في حق غيرهما من باب أحرى. والله أعلم.
الثاني : فهم من قول المصنف في الأجنبي أن القريب لا تفترق الدار من غيرها في حقه سواء كان شريكا أو غير شريك ففيه إشارة إلى ترجيح القول بتساويهما كما تقدم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 248)
ذلك.
الثالث : تقدم في كلام ابن رشد الثياب يكفي في حيازتها السنة والسنتان ولم يتعرض لها المصنف، بل قد يفهم من كلامه دخولها في العروض فتنبه لذلك.
الرابع : التفصيل الذي ذكرناه عن ابن راشد لا يؤخذ من كلام المصنف ولم ينقله في التوضيح وهو أتم فائدة فتأمله. والله أعلم.
الخامس : في المدة التي يسقط بها طلب الدين قال في المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة المنسوب لولد ابن فرحون : الساكت عن طلب الدين ثلاثين سنة لا قول له ويصدق الغريم في دعوى الدفع ولا يكلف الغريم ببينة لا مكان موتهم أو نسيانهم للشهادة. انتهى من [منتخب الحكام] لابن أبي زمنين .(7/347)
وفي كتاب محمد بن ياسين في مدعي دين سلف بعد عشرين سنة أن المدعى عليه مصدق في القضاء إذ الغالب أن لا يؤخر السلف مثل هذه المدة كالبيوعات. انتهى كلام المسائل الملقوطة، وقال والده ابن فرحون في [تبصرته] في الباب الثاني والستين في القضاء في شهادة الوثيقة والرهن على استيفاء الحق: (فرع) وفي [مختصر الواضحة] في آخر باب الحيازة قال عبد الملك : وقال لي مطرف وأصبغ : إذا ادعى رجل على رجل حقا قديما وقام عليه بذكر حقه وذلك القيام بعد العشرين سنة أخذ به وعلى الآخر البراءة منه.
وفي [مفيد الحكام]: أن ذكر الحق المشهود فيه لا يبطل إلا بطول الزمان كالثلاثين سنة والأربعين وكذلك الدين وإن كانت معروفة في الأصل إذا طال زمانها هكذا ومن هي له وعليه حضور فلا يقوم عليه بدينه إلا بعد هذا بطول الزمان فيقول: قد قضيتك وباد شهودي بذلك فلا شيء على المدين غير اليمين، قال: وكذلك الوصي يقوم عليه اليتيم بعد طول الزمان وينكر قبض ماله من الوصي فإن كانت مدة يهلك في مثلها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 249)
شهود الوصي فلا شيء عليه وإلا فعليه البينة بالدفع. انتهى.(7/348)
وقال البرزلي في أثناء مسائل البيوع: رأيت جوابا وأظنه للمازري في الديون فقال: إذا طال الزمان على الطالب وبيده وثائق وأحكام وهو حاضر مع المطلوب ولا عذر له يمنعه من الطلب من ظلم ونحوه وسكت عن الطلب فاختلف المذهب في حد السكوت القاطع لطلب الديون الثابتة في الوثائق والأحكام هل حد ذلك عشرون سنة، وهو قول مطرف أو ثلاثون سنة، وهو قول مالك واتفقا جميعا على أن ذلك دلالة قاطعة لطلب الطالب، وقوله عليه الصلاة والسلام: لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم معلل بوجود الأسباب المانعة من الطلب بالغيبة البعيدة وعدم القدرة على الطلب مع الحضور، حتى إذا ارتفعت هذه الأسباب من الطلب كان طول المدة مع السكوت والحضور دلالة يقوى بها سبب المطلوب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به ، فأطلق عليه الصلاة والسلام ذكر الحيازة، فهو عام في كل ما يحاز من ريع ومال معين وغيره، ومن اجتهد فحد في الرياع العشر سنين وحد في الدين العشرين والثلاثين - رأى أن ذلك راجع إلى حال الطالب مع المطلوب، فمن غلب على حاله كثرة المشاحنة، وأنه لا يمكن أن يسكت عن خصمه عشر سنين -جعلها حدا قاطعا، ومن جعلها عشرين سنة أو ثلاثين، أي: أنها أقصى ما يمكن السكوت في بيع المتحمل فجعلها حدا قاطعا لأعذار الطالبين؛ لأن الغالب من الحال أنه قضاء، وقد قضى بتغليب الأحوال عمر بن الخطاب، وقاله مالك فيمن له شيء وترك غيره يتصرف فيه ويفعل فيه ما يفعل المالك الدهر الطويل، فإن ذلك مما يسقط الملك ويمنع الطالب من الطلب ، قاله مالك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 250)
وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وإذا كان وطول المدة مع حضور الطالب وسكوته مانعا له من الطلب فالطلب ممنوع في سائر المطالب دون وثائق وأحكام وأرباع، بدليل أن السكوت في ذلك يعد كالإقرار المنطوق به من الطالب للمطلوب بأنه لا حق له عليه ولا تباعة ولا طلب.(7/349)
قلت: هذا الجواب يقتضي، أن ما بعد الثلاثين مجمع عليه، وإذا أجراه على مسائل الحيازة ففيها قريب القرابة والبعيد والمتوسط والمقاطع لقريب والمواصل له فيجرى عليها، وفي بعضها ما يبلغ الخمسين وأكثر مع أني أحفظ لابن رشد في [شرحه] أنه إذا تقرر الدين وثبت لا يبطل وإن طال؛ لعموم الحديث المتقدم، واختاره التونسي إذا كان ذلك بوثيقة مكتوبة وهي في يد الطالب والطلب بسببها؛ لأن بقاءها بيد ربها دليل على أنه لم يقبض دينه إذ العادة إذا قبض دينه أخذ عقده أو مزقه بخلاف إذا كانت الديون بغير عقود، ولو وجدت بغير المطلوب، وإلا ففيها قولان حكاهما ابن رشد وخرجهما على القولين في الرهن إذا وجد بيد الراهن، هل هو إبراء له أم لا لجواز وقوعه وسقوطه أو التسور عليه ونحو ذلك، وقياسه على باب الحيازة فيه نظر؛ لما أصل ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله، وأما إذا ثبت أصله بكراء أو إعارة أو إعمار أو غير ذلك، فلا يزال الحكم كذلك وإن طال الزمن، والدين إن ثبت أصله أيضا، وإن كان في هذه الأصل خلاف في كتاب الولاء من [المدونة]، لكن مذهب ابن القاسم ما ذكره خلافا لقول الغير، وعليه جرى عمل القضاة في هذا الزمان بتونس، ما لم تقترن قرائن تدل على دفع الدين مع طول الزمان فيعمل عليها في البراءة. والله أعلم. انتهى.
ويشير والله أعلم بقوله: وقياسه على باب الحيازة فيه نظر لما أصل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 251)(7/350)
ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله إلى ما قاله في شرح المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ولتذكر المسألة وكلامه عليها ونصها: مسألة: قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق امرأة عن ابنه منزلا فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حميها، فلم تزل في يده حتى مات بعد طول زمان ثم أرادت المرأة أخذها فمنعها ورثة الحمو، وقالوا: قد عاينتها زمان من دهرك وهي في يده ولا تشهدي عليه بعارية ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو؛ لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازته، وإنما الصداق ثمن من الأثمان، وكذلك لو تركت كل ما أصدقها في يد الحمو لم يضرها ذلك، قال ابن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن حقها تركته في يد حموها فلا يضرها ذلك، طال الزمان أو قصر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا يبطل حق امرئ مسلم، وإن قدم وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز، ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها إذ قد عرف وجه كون الأحقاب بيد الحمو، فهي على ذلك محمولة حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح؛ لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل الحكم بالحيازة . وبالله التوفيق.(7/351)
3 - النقول عن المذهب الشافعي
يقرر المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الأخرى: أن اليد دليل الملك من حيث الجملة ما لم يعارضها ما هو أقوى منها، وليس فيما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 252)
أوردناه من النقول ما يدل على تحديد مدة معينة، ويكون مضيها مثبتا الملكية لصاحبه اليد، كما هو مقرر في كتب الحنفية والمالكية، وفيما يلي نقول عن الإمام الشافعي وبعض أتباعه:
أ- جاء في [الأم] [الأم] (6/ 227). : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا كان الشيء في يد اثنين عبدا كان أو دارا أو غيره فادعى كل واحد منهما كله فهو في الظاهر بينهما نصفان، ويكلف كل واحد منهما البينة على ما في يد صاحبه، فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فأيهما حلف بريء، وأيهما نكل رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ، وإن نكل لم يأخذ شيئا، ودعواه النصف الذي في يد صاحبه كدعواه الكل ليس في يديه منه شيء؛ لأن ما في يد غيره خارج من يديه .
ب- وجاء فيها أيضا [الأم] (6/232). : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدار في يد رجلين فأقام أحدهما البينة أنها كلها له منذ سنة والآخر البينة أن له كلها منذ سنتين فيه بينهما نصفان - أقبل بينة كل واحد منهما على ما في يده وأطرحها عما في يد غيره إذا شهد شهود له بخلافها. قال أبو يعقوب : يقضى بها لأقدمهما ملكا لها. قال الربيع : هي بينهما نصفان .
ج- وجاء فيها : [الأم] (6/ 230). قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يدي رجل فادعاه آخر وأقام البينة أنه كان في يديه أمس - فإنه لا يقبل منه البينة على هذا؛ لأنه قد يكون في يديه ما ليس له، ولو أقام البينة أن هذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 253)(7/352)
العبد أخذ هذا منه أو انتزع منه العبد أو اغتصبه منه أو غلبه على العبد وأخذه منه أو شهدوا أنه أرسله في حاجته فاعترضه هذا من الطريق فذهب به أو شهدوا أنه أبق من هذا فأخذه هذا - فإن هذه الشهادة جائزة ويقضى له بالعبد، فإن لم تكن له بينة فعلى الذي في يديه العبد اليمين، فإن حلف بريء، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ ما ادعى، وإن أنكل سقط دعواه، وإنما حلفه على ما ادعى صاحبه. قال أبو يعقوب رحمه الله تعالى: تقبل بينته ويترك في يديه كما كان .
د- وجاء فيها أيضا انظر [الأم] (6/235، 236). : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدابة في يدي رجل فأقام البينة أنها له، فأقام رجل أجنبي بينة أنها له - فهي للذي هي في يديه. وسواء أقام الذي هي في يديه بينة على أنها له بميراث أو شراء أو غير ذلك من الملك أو لم يقمها. وسواء أقام الأجنبي البينة على ملك أقدم من ملك هذا أو أحدث أو معه أم لم يقمها. إنما أنظر إلى الشهود حين يشهدون فأجعلها للذي هو أحق في تلك الحال .
هـ- وجاء فيها أيضا [الأم] (6/237). : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن أبي يحيى عن إسحاق بن أبي فروة عن عمر بن الحكم عن جابر بن عبد الله : أن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه، وهذا قول كل من حفظت عنه ممن لقيت في النتاج وفيما لا يكون إلا مرة، وخالفنا بعض المشرقيين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 254)
فيما سوى النتاج وفيما يكون مرتين .
و- وجاء فيها أيضا [الأم] (6/238). : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا تداعى الرجلان الشيء وهو في يد أحدهما دون الآخر فأقاما معا بينة - فالبينة بينة الذي هو في يديه، إذا كانت البينة مما يقضى بمثله مثل شاهد وامرأتين أو شاهدين فأقام الآخر عشرة أو أكثر- فسواء .(7/353)
ز- وجاء فيها أيضا تحت عنوان [الأم] (6/235). : ( باب الدعويين إحداهما في وقت قبل صاحبه ).
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يد رجل فأقام الرجل البينة أنه له منذ سنتين، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة، فهو للذي هو في يديه، والوقت الأول والوقت الآخر سواء، وكذلك لو كان في أيديهما فأقاما جميعا البينة على الملك إنما أنظر إلى الحال التي يتنازعان فيها .
ح- جاء في مختصر [ المزني ] انظر [الأم] (8/314) من مختصر المزني. : قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: البينة على المدعي قال الشافعي : أحسبه قال: ولا أثبته قال: واليمين على المدعى عليه. قال: وإذا ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه؛ لأنه أقوى سببا. فإن استوى سببهما فهما فيه سواء، فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قال لصاحب اليد: البينة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 255)
التي لا تجر إلى أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك، وقد يكون في يديك ما لا تملكه فهو له لفضل قوة سببه على سببك. فإن أقام الآخر بينة قيل: قد استويتما في الدعوى والبينة، والذي الشيء في يديه أقوى سببا فهو له لفضل قوة سببه. وهذا معتدل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه .(7/354)
ط- يقول الشيرازي انظر [المهذب] (2/311). : ( وإن تداعيا عينا ولأحدهما بينة وهي في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما -حكم لمن له البينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الرهن (2380). شاهداك أو يمينه ، فبدأ الحكم بالشهادة، ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره، والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها، وإن كان لكل واحد فيهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين. ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين؛ لأن بينته تعارضها بينة المدعي فتسقطها، ويبقى له اليد، ولا يقضى بها من غير يمين.
والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين؛ لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد. ومع الآخر بينة لا ترجيح معها. والحجتان إذا تعارضتا ومع أحدهما ترجيح قضي بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا رفع أحدهما قياس. وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضي له وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه؛ لأنا حكمنا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 256)
للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر ).
ي- ويقول الشيرازي في [المهذب] [المهذب] (2/ 313). : ( وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده، وأقام الذي في يده الدار بينته أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له؛ لأن الدار المستأجرة في ملك للمؤجر وبيده، وليس للمستأجر إلا الانتفاع، فتصير كما لو كانت في يده دارا، وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة- فإنه يحكم بها للمغصوب منه ).(7/355)
ك- جاء في [نهاية المحتاج] للرملي [نهاية المحتاج] (8/ 340). : (ولو كانت) العين (بيده) تصرفا أو إمساكا (فأقام غيره بها) أي: بملكها، من غير زيادة (بينة) وأقام (هو) بها (بينة) بينت سبب ملكه أم لا أو قالت: كل اشتراها أو غصبها من الآخر، (قدم) من غير يمين (صاحب اليد) ويسمى: الداخل؛ لأن صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، كما رواه أبو داود وغيره، ولترجيح بينته وإن كانت شاهدا ويمينا على الأخرى وإن كانت شاهدين، ومن ثم لو شهدت بينة المدعي بأنه اشتراه منه، أو من بائعه مثلا أو أن أحدهما غصبها قدم لبطلان اليد حينئذ .
ل- ويقول الرملي في [نهاية المحتاج]: أما إذا كان لأحدهما يد وشاهدان وللآخر شاهد ويمين فتقدم اليد والشاهدان (و) المذهب (أنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد قدمت)؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 257)
في الحال، فيتساقطان فيه، وتبقى اليد فيه مقابلة الملك السابق وهي أقوى من الشهادة على الملك السابق، بدليل أنها لا تزال، بها وقيل العكس يتساويان؛ لأن لكل جهة ترجيح .
م- جاء في [شرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري انظر [فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري (2/232). تحت عنوان: (فصل في تعارض البينتين ).(7/356)
لو (ادعى كل منهما) أي من الاثنين (شيئا وأقام بينة به وهو بيد ثالث سقطتا) لتناقض موجبهما، فيحلف لكل منهما يمينا.. (أو بيدهما أو لا بيد أحد فهو لهما) إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر (أو بيد أحدهما) ويسمى الداخل (رجحت بينته)، وإن تأخر تاريخها، أو كانت شاهدا ويمينا وبينة الخارج شاهدين، أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينته بيده. هذا (وإن أقامها بعد بينة الخارج) ولو قبل تعديلها بخلاف ما لو أقامها قبلها؛ لأنها إنما تسمع بعدها؛ لأن الأصل في جانبه اليمين فلا تعدل عنها مادامت كافية (ولو أزيلت يده ببينة وأسندت بينته) الملك (إلى ما قبل إزالة يده واعتذر بغيبتها) مثلا فإنها ترجح؛ لأن يده إنما أزيلت لعدم الحجة، وقد ظهرت فينقض القضاء، بخلاف ما إذا لم تسند بينته إلى ذلك، أو لم يعتذر بما ذكر فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج واشتراط الاعتذار ذكره الأصل كالروضة.
وأصلها قال البلقيني : وعندي أنه ليس بشرط والعذر إنما يطلب إذا ظهر من صاحبه ما يخالفه كمسألة الرابحة ... ويجاب بأنه إنما شرط هنا وإن لم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 258)
يظهر من صاحبه ما يخالفه لتقدم الحكم بالملك لغيره فاحتيط بذلك ليسهل نقض الحكم بخلاف ما مر .
ن- وجاء في [حاشية الباجوري انظر [حاشية الباجوري] (3/ 584). على شرح ابن قاسم الغزي ] تعليقا على قول ابن قاسم : (وإذا تداعيا) أي: اثنان شيئا في يد أحدهما فالقول قول صاحب اليد بيمينه) أن الذي في يده له.(7/357)
قال الباجوري : ( ... قوله: شيئا، أي: عينا، وقوله: في يد أحدهما، أي: ولا بينة لواحد منهما، فإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة صاحب اليد، ويسمى الداخل على بينة الآخر، ويسمى: الخارج بشرط أن يقيم الداخل بينته بعد بينة الخارج ولو قبل تعديلها؛ لأن الأصل في جانب الداخل اليمين ما لم يقم الخارج بينته، فلا يعدل عنها مادامت كافية، فلو أقامها قبلها لم تسمع فيعيدها بعدها وترجح بينة الداخل، ولو كانت شاهدا ويمينا وكانت بينة الخارج شاهدين، وإن تأخر تاريخها أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينة بيده نعم لو قال الخارج: هو ملكي اشتريته منك ولم تدفعه لي أو غصبته مني واكتريته أو استعرته، فقال الداخل: بل هو ملكي وأقاما بينتين بما قالاه - رجحت بينة الخارج؛ لزيادة علمها بما ذكر، ولو أزيلت يد الداخل ببينة أقامها الخارج ثم أقام الداخل بينته وأسندت ملكه إلى ما قبل إزالة يده - رجحت بينته، وإن لم يعتذر بغيبتها مثلا على المعتمد خلافا للبلقيني، وتبعه شيخ الإسلام في شرح منهجه فينقض القضاء السابق؛ لأن يده إنما أزيلت بعدم الحجة وقد ظهرت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 259)
بخلاف ما إذا لم تسند ملكه إلى ذلك فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج. وعلم مما تقرر من أن بينة الداخل ترجح إذا أزيلت يده ببينة، وأسندت بينة ملكه ما قبل إزالة يده أن دعواه تسمع، ولو بغير ذكر انتقال بخلاف ما لو أزيلت يده بإقرار حقيقة أو حكما، وهو اليمين المردودة - فلا تسمع دعواه ثانيا بغير ذكر انتقال؛ لأنه مؤاخذ بإقراره .
س- قال العز بن عبد السلام :
(فائدة) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 141. : اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة:(7/358)
أعلاها: ما اشتد اتصآله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها.
المرتبة الثانية : البساط الذي هو جالس عليه، أو البغل الذي هو راكب عليه، فهذا في المرتبة الثانية.
المرتبة الثالثة : الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها.
المرتبة الرابعة : الدار التي هو ساكنها ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد؛ لأنه غير مسئول على جميعها، ويقدم أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما، لاستوائهما في الاتصال، وجعل القول قول كل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 260)
واحد منهما في ما هو لباسه المختص به؛ لقوة القرب والاتصال، ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا وجعل بينهما لاستوائهما، ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق قدم الراكب عليهما بيمينه .
ع- وجاء في [الفتاوى الكبرى] لابن حجر الهيتمي [الفتاوى الكبرى]، لابن حجر الهيتمي (4/ 374) وما بعدها. :
سئل رحمه الله عن امرأة بيدها مستند شرعي مضمونه: أن فلانة الفلانية اشترت من أختها فلانة الفلانية بيتا بيعا مطلقا بثمن كذا وكذا وقبضت البائعة الثمن باعترافها وحكم حاكم شافعي بالتبايع المذكور. ومؤرخ التبايع والحكم بعام سنة عشرين وتسعمائة (920) ، والشاهد لم يكتب في المستند معرفته للبائعة ولا عرفه بها أحد.(7/359)
والحالة أن البائعة منكرة للبيع المذكور، وأنها لم تقبض الثمن المذكور، وأنها لم تكن أختا لها كما كتب في المستند. ثم إن البائعة جاءت عند حاكم شرعي مخالف للحاكم المثبت، وادعت على المشترية المذكورة أنها واضعة يدها على بيتها بمقتضى أنهما جعلته تحت يدها في مبلغ اثني عشرة أشرفيا هو ومستندات شرعية تشهد لها بذلك، فأجابت بأنها صار إليها ذلك بالشراء الشرعي منها كما ذكر أعلاه، وأنني تقابلت وإياك التبايع الصادر منك كما ذكر. فهل تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع ولم تقبل الثمن؟ وهل حكم الحاكم الشافعي يمنعها من الدعوى بذلك؟ وهل طول المدة مع تصرفها في البيت بالهدم والبناء مسقط للطلب أيضا أم لا؟ وهل للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة والبيع وبقبض الثمن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 261)
أم لا؟
فأجاب: نفع الله تعالى بعلومه - قوله: لا تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع حيث ثبت عند الحاكم وليس للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة؛ لأن من لازم حكم الحاكم بصحة البيع استيفاء مسوغاته الشرعية، ومنها أن الشهادة لا تكون إلا على عينها أو باسمها ونسبها، ولا نظر لطول المدة المذكورة ولا لقصرها، وأما دعواها أنها لم تقبض الثمن فإن كانت الشهادة عليها بطريق المعاينة لم تسمع دعواها وإن كانت بطريق الشهادة على إقرارها سمعت دعواها أنها لم تقر إلا على رسم القيالة فتحلف المشترية أنها أقبضتها الثمن، فإن نكلت حلفت البائعة أنها لم تقبض واستحق الثمن ... والله أعلم .(7/360)
4 - النقول من مذهب الحنابلة :
تمهيد: يقرر المذهب الحنبلي القول في الحكم بمرور الزمان من حيث الجملة بناء على قاعدة سد الذرائع، وأنه إذا تعارض أصل وظاهر قدم الظاهر، ولم يذكر الحنابلة من تحديد المدة كما ذكره الأحناف، بل يردون ذلك إلى اجتهاد القاضي، وقد وردنا بعض النقول عن ابن قدامة وصاحب [مطالب أولي النهى]، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وجملة من فتاوى أئمة الدعوة.
قال ابن قدامة [المغني] لابن قدامة (9/162). : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 262)
فقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يشهد له بملكها. وهو قول أبي حنيفة والإصطخري من أصحاب الشافعي . قال القاضي: ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف؛ لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة أو إعارة أو غصب. وهذا قول بعض أصحاب الشافعي .
ووجه الأول: أن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة، واحتمال كونها عن غصب أو إجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع، فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد، فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا هاهنا.
فإن قيل: فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم.
قلنا: الظن يسمى علما. قال الله تعالى: سورة الممتحنة الآية 10 فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ولا سبيل إلى العلم اليقين هاهنا فجاءت بالظن .(7/361)
وجاء في [مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى] انظر [مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى] للشيخ مصطفى السيوطي الرجيباني (6/599). : ( ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة كتصرف مالك من نقض وبناء وإجارة وإعارة فله الشهادة بالملك)؛ لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة الملك (كمعاينة السبب) أي: سبب الملك (من بيع وإرث) ولا نظر لاحتمال كون البائع والمورث ليس مالكا (وإلا) يره يتصرف كما ذكر فإنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 263)
يشهد (باليد والتصرف)؛ لأن ذلك لا يدل على الملك غالبا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية]. : ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة معينة وعينه، وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعى عليه بينة باستيلائه لا باستحقاقه، لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما يلزم البينة أن تشهد به؛ لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح.
ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه - لا ينزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق .
قال ابن القيم : فصل: الطريق الثالث [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية] ص (113) ويرجع إلى ص (88). :(7/362)
أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده، فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تنتزع في جنبة أقوى المتداعيين، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 264)
وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة، وعلى رأسه عمامة، وآخر خلفه حاسر الرأس، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس، فإنا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر، ولا يلتفت إلى تلك اليد.
ويجب العمل قطعا بهذه القرائن. فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة. فكيف تقدم على ما هو مقطوع به، أو كالمقطوع به؟
وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبة في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي- فإنا نقطع أن يده مبطلة.
وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها، كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يده - لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد: أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها.
فإذا قضينا باليد، فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها.
وإذا كانت اليد ترفع بالنكول، وبالشاهد الواحد مع اليمين، وباليمين المردودة. فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى. فهذا مما لا يرتاب فيه: أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووضعه بين عباده.
فالأيدي ثلاثة :
الأولى : يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 265)(7/363)
الثانية : يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمع الدعوى عليها؛ كمن يشاهد في يده دارا يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته. فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهد في هذا المدة الطويلة، ويمكنه طلب خلاصها منه. ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة . وهو الصواب.
قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة : بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال تعالى: سورة الأعراف الآية 199 وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وأوجبت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 266)
الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضع. وليس ذلك خلاف العادات، فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.(7/364)
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة، فقد حدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين. وربما احتج بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حاز شيئا عشر سنين فهو له وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمه الله: فلم يوقت في ذلك حدا، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام.
الثالثة : يد محتمل أن تكون محقة، وأن تكون مبطلة، فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها. فالشارع لا يقر يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى. والله أعلم. فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها .
قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهم الله : جرى بين رجلين خصومة في عقد بيع نخل متقدم، ودخل عليه عقد ثان وقام بعض الناس على بعض يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها وحضروا عند آل الشيخ، واتفق رأيهم أن ما أفتى به الشيخ رحمه الله وغيره من قضاة المسلمين، واستغله الذي هو في يده مدة والمدعي موجود ولا أنكر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 267)
وادعى - فلا له طريق، إلا إن تبين مقالة فيها نص صريح، أو إجماع أهل العلم، أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين، فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة: أن هذه الفتيا مخالفة للشرع، فإن نقضها واحد ما صح نقضه، فإن تقوى أمير أو مأمور على مسلم وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى.(7/365)
ويذكر لنا بعض الناس الذي حضروا الشيخ رحمه الله أنه إذا عرض عليه حفيظة بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية أي: ما قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية. أمضاها ولا ينكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين، وصاحب الدعوى حاضر ولا ادعى في هذه المدة سد عليه الباب.(7/366)
سئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد : عن أخوين بينهما شركة في أرض تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا .
فأجاب : الذي نفهم أن هذا على الأصل يلزم مدعي الشراء بينة، فإن لم يجد بينة حلف المنكر أنه لم يبعها عليه، وأنها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأما كونها في يد أحدهما ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بينة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدعى أنه اشتراها والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه لا حق
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 268)
للآخر فيها، بل هو مقر بملك أخيه فيها لكنه يدعي بالشراء وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر .
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك فأجاب : الذي استقر عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام الدعوة الإسلامية أن العقار ونحوه إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس فيه منازع في تلك المدة أن القول قوله أنه ملكه إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر فقدم شيخنا رحمه الله الظاهر هنا على الأصل؛ لقوته وعدم المعارض .
وسئل أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ رحمهم الله: عن بستان ادعاه اثنان أصله لجدهما من قبل الأم وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما .(7/367)
فأجاب : قد أفاد ابن القيم رحمه الله تعالى في [الطرق]، ما يؤخذ منه حكم هذه القضية فقال: وأما المرتبة الثالثة: فمثالها: أن يكون رجل حائزا لدار يتصرف فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان أو ما أشبه ذلك، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة أو شركة في ميراث ونحوه، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك - فدعواه غير مسموعة أصلا. انتهى. فمفاد هذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 269)
الكلام أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة أو شركة في ميراث ونحو ذلك أن الدعوى تسمع ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده؛ لأجل القرابة وغيبة الشريك فتقسم على الميراث الذي هو في الأصل. والله أعلم .
سئل الشيخ حسن بن حسين ابن الشيخ رحمهم الله: إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك. وأحضر وثيقة وكان بيد آخر وورثه عن أبيه والوثيقة من مدة خمس سنين .
فأجاب : اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك ولم يدعه صاحب الأصل في هذه المدة، ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما، فالذي أرى في هذه المسألة إذا كان الملك بيد أب من هو في يده أو ولده مع وجود أبي المدعي يتصرف فيه ولم يدعه الأب فدعوى ابنه اليوم ساقطة، وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية .(7/368)
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين : إذا ادعى إنسان عقارا فقال المدعى عليه: ورثته من أبي ولم أعلم لك فيه حقا هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئا أنه يملكه الآن وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أو لا؟
فأجاب : لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 270)
جوابه، فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا، وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه ونحو ذلك، فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا، أو أنك لا تستحق شيئا فيما ادعيته صار جوابا صحيحا ولا يكلف سواه، والحال الثاني: أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا أو أنه وديعة عنده ونحو ذلك، فيمين المدعى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك.
وفي [سنن أبي داود ]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: صحيح البخاري الرهن (2380),صحيح مسلم الإيمان (138),سنن الترمذي تفسير القرآن (2996),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3244),سنن ابن ماجه الأحكام (2322),مسند أحمد بن حنبل (5/213). ألك بينة؟ قال: لا ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه فتهيأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلف اليمين على البت.
وأما إذا ادعى أن هذه اليمين له الآن وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، وأنها كانت في يده أمس لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى، قال في [الإنصاف]: في أصح الوجهين حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد فإنها تقبل. اهـ.(7/369)
وأما إذا شهدت البينة أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن، وأما إذا ادعى أن هذه العين كانت ملكا لأبيه أو أمه أو أخيه ومات وهي في ملكه فصارت لي بالميراث، فإن شهدت بأن هذه العين كانت ملكا لأبيه ومات وهي في ملكه سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكا لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنها خلفه تركة لم تسمع هذه البينة. وفي [الفروع] و[الإنصاف]، عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند الحاكم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 271)
أنه كان لجده إلى موته ثم لورثته ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق [الدرر السنية] (6/512) وما بعدها. .(7/370)
مما تقدم يتبين ما يأتي :
أولا : من الأسباب الشرعية لنقل الملكية البيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك. انظر الإعداد، ص 2.
ثانيا : دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق. انظر الإعداد ص 3.
ثالثا : معنى الحيازة في اللغة الجمع والتجمع، وجميع فروع هذه المادة ترجع إلى هذا الأصل، وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا. والحيازة اصطلاحا: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم. انظر الإعداد، ص 4.
رابعا : محل البحث: هو الشيء الذي طالت مدته بيد إنسان وليس لديه ما يثبت ملكيته سوى طول المدة فأقام شخص آخر الدعوى عليه وادعى أنه ملكه وأحضر البينة على ذلك وليس لديه في السابق ما يمنعه من إقامة الدعوى.
خامسا : ذكر أقوال الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم، وبيان المدد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 272)
وشروط ذلك مع الأدلة. المعتمد في هذا الباب في جميع تفاصيله من جهة اختلاف مقدار المدة على الاجتهاد السلطاني واجتهاد القضاة.
أ- يرى الإمام مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه من أهل العلم: عدم تحديد المدة بمقدار معين يكون قاعدة يطبق عليها تصرف القضاة فلا يتجاوزونها ولا ينقصون عنها شيئا، وهذا مبني على أن لكل مسألة ظروفها وملابساتها، فيجتهد القاضي الذي ينظر في المسألة والاعتماد على اجتهاد القاضي له أصل في الشرع.
ب- يرى الحنفية ومن يوافقهم من المالكية وغيرهم: تحديد المدة، ومن هنا يتشعب الخلاف في مقدار هذه المدة .
1 - التقادم الذي مدته ست وثلاثون سنة، وهذا عند الحنفية ومن يوافقهم، وهو في: أ- دعوى المتولي والمرازقة في الأصل والوقف وغلته.
ب- دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقارات الموقوفة.
ج- الدعاوى المتعلقة بأصل النقود الموقوفة.
د- العقار الراجع من الطريق إذا كان موقوفا.(7/371)
هـ- العقار الذي يرجع من طريق العقارات المملوكة.
و- دعاوى رقبة الأراضي الأميرية التي يقيمها مأمور الأراضي.
والقول بهذه المدة كما ذكر مبني على الاجتهاد.
2 - التقادم الذي مدته خمس عشرة سنة، وهذا يقول به الحنفية ومن يوافقهم، وهو مبني على الأمر السلطاني، فإذا أمر السلطان أن الدعوى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 273)
لا تنظر بعد مضي هذه المدة - وجب على القضاة الامتناع عن النظر فيها، فيكون القاضي معزولا عن سماعها، ويذكر ابن عابدين أن سبب النهي قطع الحيل والتزوير، مع العلم أن هذا يمنع النظر ولا يسقط الحق، ويحددون المسائل التي تدخل تحت هذه المدة في:
أ- دعاوى الدين، الوديعة العارية، العقار الملك، الميراث، القصاص، دعوى التولية والغلة في العقارات الموقوفة والمقاطعة والمشروطة التصرف فيها بالإجارتين.
ب- الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقار الملك. انظر الإعداد، 6، 11، 12، 34.
3 - التقادم الذي مدته عشر سنوات، وهذا عند من قال به من الحنفية ومن يوافقهم، ويحددون ما لا تقبل فيه الدعوى بعد هذه المدة في دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب التي هي الأرض الأميرية، وهذا أيضا يبنونه على الأمر السلطاني، فإذا أمر أنها لا تسمع الدعوى بعد هذه المدة وجب طاعته ولو أمر بسماعها بعد مضيها سمعت.
4 - مضى في الإعداد تحديد مدة التقادم عدد غير ذلك كما هو مبين في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا.
5 - هناك تفاصيل في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا ويمكن الرجوع إليها؛ لأن المقصود بالقصد الأول هو أصل الموضوع.
6 - الشروط التي يشترطها العلماء للقول بالتقادم والحكم بمقتضاه هي:
أ - البلوغ.
ب - العقل.
جـ- العلم بملكيته وبوضع اليد عليه.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 274)
د- الحضور.
هـ - أن لا يكون ممنوعا من إقامة الدعوى خوفا من ذي سلطان إذا كان الحائز هو السلطان أو الحائز شخصا له علاقة بالسلطان.(7/372)
7 - المعتبر في مرور الزمان المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما مرور الزمن الواقع بعذر شرعي من صغر وجنون وعته أو غيبة المدعي والمدعى عليه من المتقلبة فهذه المدة غير معتبرة لكن إذا زال العذر بدأت المدة.
8 - لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى؛ لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين، ويوجد أيضا غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم، فلذلك لا يجرى في المحال التي يعود نفعها للعموم. هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/373)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 275)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (68) وتاريخ 21/10/ 1399هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399هـ إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس في موضوع [ التقادم في مسألة وضع اليد ]. واطلع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، بناء على ما تقرر في الدورة الثالثة عشرة ... واستعرض أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب، وكان من أوضحها ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه [الطرق الحكمية] حين قال:
فصل: الطريق الثالث: أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده فأنكر، فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تشرع في جنبة أقوى المتداعيين هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة، وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة وآخر خلفه حاسر الرأس ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس - فإننا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد، ويجب العمل قطعا بهذه القرائن، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة فكيف تقدم على
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 276)
ما هو مقطوع به أو كالمقطوع به؟ كذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة ووراءه أمير ماش أو من ليس من عادته المشي فإننا نقطع أن يده مبطلة، وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها. كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه، وادعى أنها ملكه وفي يديه لم يلتفت إلى ملك اليد.(7/374)
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها، فإذا قضينا باليد فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، وإذا كانت اليد ترفع بالنكول وبالشاهد الواحد مع اليمين وباليمين المردودة فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى.
فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه ووضعهم بين عباده، فالأيدي ثلاث: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.
الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه واستولى عليها بغير حق وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة وهو الصواب. قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 277)
والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.(7/375)
قال تعالى: سورة الأعراف الآية 199 وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضوع وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم . وأصبغ بعشر سنين، وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حاز شيئا عشر سنين فهو له وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمه الله فلم يوقت في ذلك حدا ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام.
الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 278)
فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها، فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم.
فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. وما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- هو قول كثيرين من أهل العلم رحمهم الله.
وحيث إن المجلس لا يعلم نصا شرعيا خاصا في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية.(7/376)
ونظرا لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف، وعلى قاعدة سد الذرائع، وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال - فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساسا يبني عليها القضاة أحكامهم، بل يترك الحكم لاجتهادهم، فإذا عرضت صورة من الصور لواحد منهم اجتهد فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها، وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 279)
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
.... .... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... سليمان بن عبيد
عبد الرزاق عفيفي ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... صالح بن لحيدان
محمد بن جبير ... .... عبد الله بن قعود
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون
عبد الله بن منيع ... .... .(7/377)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 280)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 281)
(5)
كتابه المصحف حسب قواعد الإملاء
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 282)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 283)
كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض من غرة صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بكتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، وإن خالف ذلك الرسم العثماني، واقترح إعداد بحث في ذلك، وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في هذا الموضوع، مشتملا على ما يأتي:
أولا: تمهيد يشتمل على أمرين:
أ- بيان نوع الكتابة التي كانت عند العرب وقت نزول القرآن.
ب- ذكر أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث عند كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء.
ثانيا: نقول عن العلماء الأولين يتبين منها رأيهم في ذلك مع ما استدلوا أو عللوا به.
ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول بالمصحف عن الرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء، ومناقشة ذلك.
رابعا: الموانع التي تمنع من ذلك، وبيان ما قد يترتب عليه من تحريف ونحوه. وفيما يلي تفصيل ذلك: والله الموفق.(7/378)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 284)
كتابة المصحف
أولا: التمهيد ويشتمل عل أمرين:
أ - بيان نوع الكتابة التي كانت معهودة عند العرب وقت نزول القرآن الكريم إن الكتابة في العرب كانت قليلة جدا، وقد تعلموها من أهل الأنبار، وكان الذي يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة إلى أن هذبها أبو علي بن مقلة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي، وسلك الناس طريقته، ولم تكن محكمة جدا في ذلك الزمان، ولهذا وقع اختلاف في كتابة المصاحف من جهة الصناعة لا من جهة المعنى، وألف العلماء في ذلك واعتنوا به.
قال ابن كثير : وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره: أن بشر بن عبد الملك أخا أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وتعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب، وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيء من قرية هناك يقال لها: بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : ثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين : من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 285)
قال ابن كثير ص (15) من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره. : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة، ثم هذبها أبو علي بن مقلة الوزير، وصار له في ذلك نهج وأسلوب في الكتابة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب، وسلك الناس وراءه، وطريقته في ذلك واضحة جيدة، والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس في ذلك.(7/379)
واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه [فضائل القرآن]، والحافظ أبو بكر بن أبي داود رحمه الله، فبوبا على ذلك، وذكرا قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ليست مقصدنا هاهنا؛ ولهذا نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص غيره في ذلك. واختلفوا في الشكل والنقط: فمن مرخص ومن مانع .
وذكر ابن كثير من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره. : أن عثمان رضي الله عنه عهد إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، وسعيد بن العاص بن أمية القرشي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي : أن يكتبوا القرآن حينما اختلف الناس في القراءة بالحروف التي بها نزل القرآن، وتنازعوا فيما بينهم، فأمر هؤلاء أن يكتبوا القرآن على حرف واحد من الحروف التي بها نزل القرآن؛ منعا للاختلاف، فجلس هؤلاء الأربعة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 286)
يكتبون القرآن نسخا وإذا اختلفوا في موضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان رضي الله عنهم كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء أم بالهاء، فقال زيد بن ثابت : إنما هو التابوه، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، فرجعوا إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم . اهـ.
والذي يعنينا هنا أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند نزول الوحي وإن كان ذلك قليلا، وأنها كانت تختلف من حيث الصناعة، وأنها كتب بها القرآن عند نزوله، وأن عثمان رضي الله عنه أمر الذين أسند إليهم جمع القرآن إذا اختلفوا في صناعة الكتابة أن يكتبوه بلغة قريش؛ لأن القرآن بها نزل، وقد علم الله ذلك من كتبة الوحي، ولم ينكر على رسوله ولا على كتبته، وعلم الصحابة صنيع عثمان ومن جمع القرآن بأمره، ولم ينكروا عليه ولا عليهم رضي الله عنهم أجمعين، فكانت كتابته على هذا النحو دون غيره سنة متبعة.(7/380)
ب- أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 287)
الرسم العثماني موضع التغيير الرسم الإملائي وضع التغيير السورة 1. الصلاة كتبت بالواو بعد اللام الصلاة كتبت بالألف بعد اللام في سور كثيرة 2. الزكاة كتب بالواو بعد الكاف الزكاة كتبت بالألف بعد الكاف ، ، ، ، 3. الحياة كتب بالواو بعد الياء الحياة كتبت بالألف بعد الياء ، ، ، ، 4. شفعاؤنا كتبت بلا ألف بعد العين شفعاؤنا كتبت بالألف بعد العين يونس 5. أم لهم شركاء كتبت بلا ألف بعد الكاف وبهمزة على واو بعدها ألف أم لهم شركاء كتبت بالألف بعد الكاف ثم همزة مفردة فقط الشورى 6. يبدؤا الخلق همزة على واو بعدها ألف يبدأ الخلق همزة على ألف يونس 7. ويدرؤا عنها همزة على واو بعدها ألف (بلا ألف بعد اللام) ويدرأ همزة على ألف النور 8. لهو البلاء وزيادة واو بعد الهمزة (وزيادة ألف بعد الواو) البلاء بألف بعد اللام وهمزة مفردة الصافات 9. نبوء الخصم بزيادة واو بعدها ألف نبأ بهمزة على الألف فقط ص 10. الربا بواو بعد الباء بعدها ألف الربا بألف بعد الباء فقط البقرة وغيرها 11. أرى بزيادة ألف قبل الذال لأذبحنه بلا زيادة ألف النمل 12. وتمت كلمة ربك بتاء مفتوحة كلمة ربك بتاء مربوطة الأنعام 13. إن رحمة الله بتاء مفتوحة رحمة الله بتاء مربوطة الأعراف 14. لعنت بتاء مفتوحة لعنة بتاء مربوطة النور 15. ورحمت ربك بتاء مفتوحة ورحمة ربك بتاء مربوطة الزخرف 16. الكتاب بلا ألف بعد التاء الكتاب بألف بعد التاء في سور كثيرة 17. الإنسان بلا ألف بعد السين الإنسان بألف بعد السين في سور كثيرة 18. لا يهدي من هو بلا ألف بعد الكاف كاذب بألف بعد الكاف الزمر 19. الجاهلين بلا ألف بعد الجيم الجاهلين بألف بعد الجيم الأنعام وغيرها 20. أتاهم بلا ألف بعد التاء أتاهم بألف بعد التاء غافر 21. السبيلا بألف بعد اللام السبيل بلا ألف بعد(7/381)
اللام الأحزاب 22. سلاسلا بألف بعد اللام الثانية وبدونها بعد الأولى سلاسل بلا ألف بعد اللام الثانية وبألف بعد الأولى الدهر 23. قواريرا بألف بعد الراء الثانية قوارير بلا ألف بعد الراء الدهر 24. الشيطان بلا ألف بعد الطاء الشيطان بألف بعد الطاء في سور كثيرة 25. وأغلالا بلا ألف بعد اللام الأولى أغلالا بألف بعد اللام الأولى الدهر 26. من نبأ المرسلين بياء بعد الهمزة من نبأ المرسلين بلا ياء بعد الهمزة الأنعام 27. بأييد ياءين قبل الدال بأيد . . . بياء فقط قبل الدال الذاريات وسيأتي كثير من الأمثلة في النقل عن [المقنع] لأبي عمرو الداني ، والنقل عن كتاب [الإتقان] للسيوطي إن شاء الله.(7/382)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 288)
ثانيا: نقول عن العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني :
إن الحديث عن كتابة المصحف بغير الرسم العثماني قديم، فقد بحثه أئمة السلف قبل أكثر من ألف سنة، وألف فيه علماء القراءة والرسم كتبا وحكموا فيه بما ظهر لهم من الكراهة أو التحريم، وقد جمع الجلال السيوطي نقولا عنهم في الموضوع يتبين منها ما حكموا به في ذلك، فرأينا إثباتها فيما يلي:
قال الجلال السيوطي : (فصل) القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به والوقوف عليه، وقد مهد له النحاة أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، وقال أشهب : سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟
فقال: لا إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في [المقنع] ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة.
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو : يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا.
وقال الإمام أحمد : يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك.
وقال البيهقي في [شعب الإيمان]: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 289)
كتبوا شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.
قلت: وينحصر أمر الرسم في ست قواعد: الحذف والزيادة والهمز والبدل والوصل والفصل وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما.(7/383)
القاعدة الأولى: في الحذف: تحذف: الألف من ياء النداء نحو: يا أيها الناس ، وهاء التنبيه نحو: هؤلاء ، و هاأنتم ومن ذلك: أولئك ، و لكن ، و تبارك وفروع الأربعة، و الله و إله ، كيف وقع، و الرحمن و سبحان ، كيف وقع إلا قل سبحان ربي .
وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو: باغ ولا عاد والمضاف لها إذا نودي إلا يا عبادي الذين أسرفوا يا عبادي الذين آمنوا ، في العنكبوت أو لم يناد. إلا قل لعبادي أسر بعبادي في (طه) و (حم)، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، ومع مثلها نحو إن ولي ، و الحواريين .
وتحذف الواو مع أخرى نحو: لا يستون ، وإذا المؤدة ، يؤسا وتحذف اللام مدغمة في مثلها نحو: الليل، والذي، إلا الله، واللهم، واللعنة، وفروعه، واللهو، واللغو، واللؤلؤ، واللات، واللهم، واللعب، واللطيف، واللوامة،.. وساق كثيرا من الأمثلة للحذف.
القاعدة الثانية: في الزيادة زيدت ألف بعد الواو آخر اسم مجموع نحو: بنو إسرائيل ، ملاقو ربهم ، أولو الألباب بخلاف المفرد لذو علم إلا الربا، و إن امرؤ هلك .... وساق أمثلة كثيرة في الهمزة.
القاعدة الثالثة: في (الهمزة) يكتب الساكن بحرف حركة ما قبله أولا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 290)(7/384)
ووسطا وآخرا نحو: إئذن و اؤتمن و البأساء و اقرأ و جئناك و وهئ و المؤتون و تسؤهم و إلا و فادارأتم و رئيا و الرياء و شطئه ، فحذف فيها، وكذا أول الأمر بعد فاء، نحو: فأتوا ، أو واو نحو: واشربوا ، والمتحرك إن كان أولا أو اتصل به حرف زائد بألف مطلقا، أي: سواء كان فتحا أو ضما أو كسرا، نحو: أيوب ، إذا ، أولو ، سأصرف ، فبأي ، سأنزل ، إلا مواضع أئنكم لتكفرون ، أئنا لمخرجون في (النمل) أئنا لتاركو آلهتنا ، أئن لنا في (الشعراء) أئذا متنا و أئن ذكرتم أئنا و أئمة و لئلا و لئن و يومئذ و يفرح ، فيكتب فيها بالياء قل أؤنبئكم و وهؤلاء فكتب بالواو، وإن كان وسطا فبحرف حركته، نحو: سأل و سئل و نقرؤه ، إلا جزاؤه الثلاثة. (يوسف) . . . . وساق أمثلة كثيرة للهمزة.
القاعدة الرابعة: في البدل تكتب (بالواو) للتفخيم: ألف الصلاة، والزكاة والحياة والربا غير مضافات والغاء ومشكاة والنجاة، ومناة، (وبالياء) كل ألف منقبلة عنها، نحو: يتوفاكم في اسم أو فعل اتصل به ضمير أم لا بقي ساكنا أم لا، ومنه يا حسرتا ، يا أسفا ، إلا و تترى و كلتا و هداني و عصاني و الأقصى و وأقصى المدينة و طغا الماء و سيماهم وإلا ما قبلها ياء، و الحوايا إلا يحيى اسما وفعلا، ويكتب بها إلى و على و أنى بمعنى: كيف، ومتى، وبلى، وحتى، ولدى، إلا لدى الباب وكتب بالألف الثلاثي الواوي اسما أو فعلا، نحو: الصفا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 291)
و شفا و عفا و الأضحى ، كيف وقع و ما زكى منكم و دحاها و تلاها و طحاها و سجا ، ...) وساق أمثلة كثيرة للبدل.(7/385)
القاعدة الخامسة: في الوصل والفصل توصل (ألا) بالفتح إلا عشرة: أن لا أقول أن لا يقولوا في (الأعراف) أن لا ملجأ ، وفي (هود): أن لا إله أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف أن لا تشرك في (الحج): أن لا تعبدوا ، في ( يس): أن لا تعلوا ، في (الدخان): أن لا يشركن في (الممتحنة) أن لا يدخلنها ، في (ن) (ومما) إلا من ما ملكت في (النساء) و (الروم) ومن ما رزقناكم ، في (المنافقين) (وممن) مطلقا، و (عما) إلا عن ما نهوا عنه ، و (إما) بالكسر إلا: وإما نرينك في (الرعد).
وأما بالفتح مطلقا، و (عمن) إلا ويصرفه عن من يشاء في (النور): عن من تولى في (النجم): وأمن إلا أم من يكون في (النساء) أم من أسس أمن من خلقنا في (الصافات) أم من يأتي آمنا و وإلم بالكسرة إلا فإن لم يستجيبوا لك في (القصص)، و (فيما) إلا أحد عشر: في ما فعلن الثاني في (البقرة) ليبلوكم في ما ، في (المائدة) و (الأنعام) قل لا أجد في ما أوحى و في ما اشتهت ، في (الأنبياء) في ما أفضتم و في ما هاهنا في (الشعراء) في ما رزقناكم في (الروم) في ما هم فيه و في ما كانوا فيه كلاهما في (الزمر) وننشئكم في ما لا تعلمون ، و (إنما) إلا: إن ما توعدون لآت في (الأنعام)، (وأنما) بالفتح إلا: وأن ما يوعدون في (الحج)، و(لقمان) و (كلما) إلا: كل ما ردوا إلى الفتنة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 292)(7/386)
و من كل ما سألتموه و ئسما إلا مع اللام، ونعما، ومهما، وربما، وكأنما، ويكأن، وتقطع (حيثما) و (أن لم) بالفتح و (أن لن) إلا في (الكهف) و (القيامة) و (أين مالا)، إلا: فأينما تولوا أينما يوجهه واختلف في أينما تكونوا يدرككم أينما كنتم تعبدون في (الشعراء) أينما ثقفوا في (الأحزاب) و لكي لا إلا في (آل عمران) و (الحج) و (الحديد)، والثاني في (الأحزاب) و (يوم هم)، ونحو: فمال و ولات حين و ابن أم ، إلا في (طه) فكتبت الهمزة حينئذ واوا، وحذفت همزة ابن، فصارت هكذا يا ابن أم ... وساق أمثلة كثيرة للوصل والفصل.
القاعدة السادسة: فيما فيه قراءتان فكتبت على إحداهما: ومرادنا غير الشاذ، من ذلك: مالك يوم الدين و يخادعون واعدنا و الصاعقة و الرياح و تفادوهم و تظاهرون و لا تقاتلوهم ونحوها. ولولا دفاع و فرهان و طائرا في (آل عمران) و (المائدة): مضاعفة، ونحوه عاقدت أيمانكم و الأوليان ، لامستم ، ...
(فائدة) كتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها وقطعت حم عسق دون المص و كهيعص طردا للأولى بأخواتها الستة) ... إلى أن قال: وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله إذا كتب أحدكم (بسم الله الرحمن الرحيم) فليمد الرحمن (وأخرج) عن زيد بن ثابت : أنه كان يكره أن تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ليس لها سين (وأخرج) عن يزيد بن أبي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 293)
حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب بسم الله ولم يكتب لها سينا فضربه عمر فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟ قال: ضربني في سين (وأخرج) عن ابن سيرين أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين (وأخرج) ابن أبي داود في المصاحف عن ابن سيرين : أنه كره أن يكتب المصحف مشقا قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا) ... إلى أن قال: (وأخرج أبو عبيدة عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ.(7/387)
وهل تجوز كتابته بقلم غير العربي؟ قال الزركشي : لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء. قال: ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، وقد قال تعالى: سورة الشعراء الآية 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ اهـ [مجموع الفتاوى] (12/ 420). .
(فائدة): أخرج ابن أبي داود عن إبراهيم التيمي قال: قال عبد الله : لا يكتب المصاحف إلا مضري. قال ابن أبي داود : هذا من أجل اللغات.
(مسألة) اختلف في نقط المصحف وشكله : ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل، وقال قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 294)
والخواتم. وقال يحيى بن أبي كثير : ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآي. أخرجه ابن أبي داود، وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وأخرج عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وعن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم.(7/388)
وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. (وأخرج) ابن أبي داود عن النخعي أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. (وأخرج) عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية فقال: امح هذا، فإن ابن مسعود كان يكرهه.
(وأخرج) عن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا. وقال مالك : لا بأس بالنقط في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء، أما الأمهات فلا. وقال الحليمي : تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه؛ لقوله: جردوا القرآن. وأما النقط فيجوز؛ لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء، فلا يظهر إثباتها لمن يحتاج إليها.
قال البيهقي : من آداب القرآن: أن يفخم فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا يقرمط حروفه ولا يخط به ما ليس منه، كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعاني الآيات. وقد أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف. (وأخرج) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله.
وقال النووي : نقط المصحف وشكله مستحب؛ لأنه صيانة له من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 295)
اللحن والتحريف. وقال ابن مجاهد: ينبغي أن لا يشكل إلا ما يشكل، وقال: إلا أني لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير المرسوم. وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة. وقال الجرجاني من أصحابنا في الشافي: (من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره).(7/389)
(فائدة) كان الشكل في الصدر الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الداني . والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه والتنوين زيادة مثلها، فإن كان مظهرا وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف حمراء أيضا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون وتعرى عند الإدغام والإخفاء ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو: فرطت، ومطة الممدود لا تجاوزه.
(فائدة) قال الحربي في [غريب الحديث]: قول ابن مسعود : (جردوا القرآن). يحتمل وجهين: أحدهما: جردوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 296)
والثاني: جردوه في الخط من النقط والتعشير. وقال البيهقي : الأبين أن أراد لا تخلطوا به غيره من الكتب؛ لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى وليسوا بمأمونين عليها ) اهـ. من [الإتقان].
وسئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عمن يقول عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم، أو قال: كفر فهل هذا صحيح؟ وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظا ولا يغير معنى أو لا؟ [مجموع الفتاوى] (13/ 42).(7/390)
فأجاب: أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك، سواء أريد منه رسم الخط أم رسم اللفظ، فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى: إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام، وهم علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعثمان رضي الله عنهم، وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثمان ففيه روايتان عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك. وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين، وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة هكذا بالأصل المطبوع. .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 297)
وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره.. والله أعلم.
وسئل أبو العباس ابن تيمية أيضا رحمه الله عمن يقول: إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى هل ذلك حق أو باطل؟ إلخ ص (100- 102، 576) وغيرها. .
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، المصاحف التي كتبها الصحابة لم يشكلوا حروفها ولم ينقطوها فإنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم بعد ذلك في آخر عصر الصحابة لما نشأ اللحن صاروا ينقطون المصاحف ويشكلونها، وذلك جائز عند أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكرهه بعضهم، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولا نزاع بين العلماء أن حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة، فإن النقط تميز بين الحروف كما أن الشكل يبين الإعراب؛ لأنه كلام من تمام الكلام، ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإذا قرأ القارئ: الحمد لله رب العالمين كانت الضمة والفتحة والكسرة من تمام لفظ القرآن. اهـ المقصود.
يتبين مما ذكر ما يأتي:(7/391)
1 - ضابط ما يحذف مما يزاد في رسم المصحف العثماني من الحروف، وما يستثنى من ذلك وما يبدل من غيره، وما يرسم ألفا من ذلك، وما يرسم ياء، ومنع التغيير فيما ثبت من الرسم العثماني.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 298)
2 - نقط المصحف وشكله وكيفيته، وكراهة العلماء ذلك مطلقا أو جوازه في غير الأمهات، ثم ثبوت الإجماع على جوازه واستمرار العمل عليه إلى عصرنا.
3 - تخميس القرآن وتعشيره وكتابة أسماء السور وعدد الآيات، ورسم علامة بين كل آية وما بعدها وعلامات الوقف، وخلاف العلماء في كراهة ذلك وجوازه، ثم ثبوت الإجماع على جوازه بعد استمرار العمل به إلى عصرنا.
4 - تحريم كتابته بغير اللغة العربية، كما يحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي من كلام الزركشي في ص 7 من الأعداد. ، وقد قال تعالى: سورة الشعراء الآية 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
وكتب رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان ملا صادق الايمانقولي القزاني إلى الشيخ محمد رشيد رضا ما يأتي: (بسم الله الرحمن الرحيم. حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله ومتعنا وسائر المسلمين بعلومه الشريفة.
أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان حيث إن العلماء صرحوا بأن رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان رضي الله عنه،(7/392)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 299)
وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف. فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي اتباع رسم المصاحف العثمانية وأن الرسم سنة متبعة، على ما نص عليه أبو عمرو الداني والشاطبي وابن الجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم. وبعضهم قالوا: إنه لا يجب اتباع الرسم محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال: (أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول خشية الالتباس، ولئلا يوقع في تغيير من الجهال).
ويجيب الفريق الأول عن هذا بأن المواضع التي يتوهم فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والأشكال. ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في الديار الإسلامية من الأستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضا مخالفة كثيرة لرسم المصاحف العثمانية فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟
أأهملوا في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع؟
وإذا كان الاتباع واجبا كما يقول به أكثر الأئمة فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل كلمة آتان في (سورة النمل) آية (36)، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه كلها بغير (ياء) بعد (النون) في مثل هذه المواضع تخلصا من الالتباس والتلفيق في القراءة.
وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك الضرورة؟
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 300)(7/393)
وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد ، وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف (الألف) بعد (اللام) والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها : وليس فيها نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات هل ينبغي فيها اتباع قاعدة رسم الخط العربي وإثبات الألفات أم نقول : كانوا يعتبرون الظهور وعدم الالتباس ولهذا كانوا يحذفون الألفات فيما ظهر المراد (منه) مثل الكلمات المذكورة فنحذف الألفات فيهن .
ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد ، وفي بعضها يحذف الألفات . وأن المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية ويظن كونه واحدا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه قد حذف فيه الألفات في مثل هذه المواضع . والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة العلم وصنف كتابا مفيدا في رسم المصحف ، وكان مأمورا بتصحيح المصاحف المطبوعة من جهة الحكومة قد حذف الألفات قصدا في مثل هذه الكلمات ، ولزيادة الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة إلى جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة رجاء أن تتفضلوا بإبداء ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار . والسلام والإكرام .
فأجاب : إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول ، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله (صلى الله عليه وسلم) حفظوه وكتبوه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 301)(7/394)
وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين ، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل . وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم ، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية ، إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها . فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله ، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو .
نعم ، إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء ؛ ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة . ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا ؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل .
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي : قال أشهب - رحمه الله - : سئل مالك رضي الله عنه أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم ؟
فقال : لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى . قال مالك : ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن ، فأقول له : أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها ، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا . ثم قال أشهب : والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 302)
الآخر ، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم .
وقال أبو عمرو الداني في كتابه المسمى [ الحكم في النقط ] عقيب قول مالك هذا : ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة ، اهـ .(7/395)
فالذي أراه هو أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان حفظا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو ، لكن مع النقط والشكل للضبط . ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر ؛ لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر ، ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم . وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب ، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه تسهيلا للتعليم ، ومتى كبر الصغير وكان متعلما للقرآن بالرسم المشهور لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل . وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي ليقرأه كل أحد على وجه الصواب . وبهذا تجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا ، وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين .
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء ؛ لأن الاتباع إذا لم يكن واجبا من الأصل ، فإن فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال ، وبين ما قبله وما بعده ، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم ، وإذا كان واجبا في الأصل وهو ما لا ينكره فترك الناس له لا يجعله حراما أو غير جائز ، لما ذكره من الالتباس ، بل يزال هذا الالتباس في أنه لا يسلم له .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 303)(7/396)
وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الأستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات ، فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة ، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء ، وهو في المصحف الإمام بغير ألف ، ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف . ولم أر مصحفا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد .
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع ، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطا وموافقة للمصحف الإمام المتبع - هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308 هـ ، إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي أحد علماء هذا الشأن وصاحب المصنفات فيه . وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك .
فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القرآنية : أن تراجع هذا المصحف ، فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها إن شاء الله تعالى ، ككلمة الأقلام وأمثالها ، وهي بغير ألف ، وكلمة (أتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) فيرون أن هذا المصحف وضع فوق (النون) (ياء) صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل ؛ لتوافق قراءة حفص ، فهي فيه هكذا (اتن) .(7/397)
وجملة القول : أننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه ، هو : أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل التعليم ، هو ما جرت عليه الجمعية الخيرية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 304)
الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزعها على التلاميذ في مدارسها . وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام كالمصحف الذي ذكرناه آنفا . وإذا جرى المسلمون على هذا في الأستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية ، فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي وبعضها برسم الصحابة . ولا ضرر من وجودها الآن إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها ، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ، ولله الحمد .
وسئل أيضا (6/2514) . : هل هناك مانع شرعا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية :
1 - أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف وفروعه وجميع معاهد العلم بالديار المصرية وبغيرها من البلاد العربية وغير العربية .
2 - أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات ، بدلا من وضعها فوق الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته وكثير ما هم .
3 - أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد ، بمعرفة لجنة من كبار العلماء ، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من عامة الناس وخاصتهم . ومنعهم من الخطأ في التلاوة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 305)
بسبب تعقيد الكتابة طبقا لقواعد مضى عليها كثير من القرون ، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال . ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم .
وذلك تنفيذا لقوله تعالى : سورة القمر الآية 17 وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(7/398)
هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة .
ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة ولكم الشكر من المخلص .
فأجاب بقوله : من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي : رسمه) سماعي توقيفي ، يجب فيه اتباع الكتبة الأولى (بالكسر ، أي : هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ؛ ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها : أولها : أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه ، وأنه بهذا كله حفظ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان . حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم ودون عددها في الكتب ، ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابا تتعلق بقراءاته ويدخل في هذا ترك نقطه ، وشرح ذلك كله يطول .
وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 306)
والحفظ من الألواح التي يكتبونها ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ، ليكتبوا غيره فيها ، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ فاستحدثوا النقط ، لمنع ذلك ، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط ، ثم وضعوا علامات وقف للحاجة إليها وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطا بالفهم ، وما كل قارئ يفهم ، وجعلوا لهذه العلامات أشكالا بحسب درجاتها ، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنا وللوقف والابتداء فنا أفردوا كلا منهما بالتدوين ، وجروا عليهما في التلقين وفي كتابة المصاحف ، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن واتقاء الخطأ فيها .(7/399)
ولكن لا يزال فيه كلام كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى ، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين ، فكثر الخطأ في القراءة وفي الوقف والابتداء ، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة للترقيم فاستغني بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها ولاستغناء الحفاظ عنها ، ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي فإنني أستنكر وضعهما في المصاحف أشد الاستنكار .
ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بـ [تفسير المنار] ظهر علي التزام رسم الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية ، ثم رسم الآيات في أثناء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 307)
تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها ، وأخالف الطريقة المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول .(7/400)
فعلم بهذا أنني لا أرى مانعا شرعيا يمنع مما سأل عنه السائل ، بل أرى أنه واجب ، ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن ، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداء صحيحا . وتصحيح أداء القرآن واجب شرعا ، وتحريفه بالنطق محرم شرعا . وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي ، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين ، لكثرة المصاحف فيه ، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون ولم أقف على تاريخها ، وهذا ليس بحجة وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته ، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما ولا تعذر .
وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له ، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف ، وهو تفسير دقيق وجيز وضع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير ، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخل قلما يستفيد منه الدهماء ، وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 308)
الفنية والعلمية في [تفسير المنار] ولكنه مطول ، وقد كثر اقتراح الناس على أن أختصره أو أكتب تفسيرا مختصرا ، فشرعت وعلى الله توكلت .(7/401)
ثالثا : الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء :
أ- إن القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه المسلمون في معرفة عقائدهم وعباداتهم وقد حث الله على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه ، وتحكيمه في جميع الشئون والأحوال ، وبينت السنة النبوية فضائله ، وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام ، وقد كان السلف رحمهم الله يعرفون الرسم العثماني ، فيسهل عليهم قراءة القرآن بذلك الرسم ، وقاموا بما وجب عليهم من تدبره وأخذ الأحكام منه وتحكيمه فيما شجر بينهم - خير قيام .
ولما طال الأمد ، ووضعت قواعد جديدة للإملاء وسار عليها الكتاب ، وألفها القراء بكثرة استعمالها كتابة وقراءة ، شق عليهم أن يقرءوا القرآن بالرسم الذي كتبت به المصاحف العثمانية ، فتيسيرا عليهم ، ودفعا للحرج عنهم يجوز أن يكتب القرآن بالمصاحف وغيرها حسب قواعد الإملاء ؛ لتمكن الجمهور من تلاوته بسهولة تلاوة صحيحة ، ويتعبدوا بقراءته دون تحريف ، ويتحفظوه على طريق مستقيم ، فإن الشريعة سمحة سهلة ، جاءت بالتيسير ورفع الحرج ، قال الله تعالى : سورة البقرة الآية 185 يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال : سورة الحج الآية 78 وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ومن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 309)
القواعد الثابتة في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير .(7/402)
ب- في عهد بني أمية كثر دخول الأعاجم في الإسلام ، واختلط بهم مسلمو العرب ، وكثر اللحن ، وخيف على كثير من المسلمين أن يلحنوا في قراءة القرآن ، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بنقط المصحف وشكله؛ صيانة له من اللحن والتحريف في القراءة ، وتصدى لذلك الحجاج بن يوسف الثقفي ، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر فقاما بنقطه وشكله ، ولم يكن ذلك بدعا من القول ولا ابتداعا في الدين ؛ لبنائه على مقاصد الشريعة في حفظ القرآن وتيسير تعلمه وتعليمه وإبلاغه للناس ، هداية لهم وإقامة للحجة عليهم ، ثم ثبت إجماع الأمة على نقط المصحف وشكله ، واستمر العمل على ذلك إلى عصرنا فلم يعرف من أنكر ذلك مع طول العهد .
وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أن جمع أبي بكر الصديق القرآن أولا وجمع عثمان بن عفان له ثانيا من محامدهما رضي الله عنهما .
ولا شك أن كتابة المصحف حسب القواعد الإملائية من جنس جمع القرآن أولا وثانيا ومن جنس نقطه وشكله ، من جهة البناء على مقاصد الشريعة والاعتماد على المصالح العامة ، إذ كل منها يرجع في حكمه إلى المصالح العامة التي شهدت لها أدلة الشريعة جملة وإن لم يدل عليها بخصوصها دليل معين . فكانت كتابته حسب القواعد الإملائية مشروعة .
إن القرآن لم ينزل مكتوبا ، وإنما نزل وحيا متلوا ، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا ، فكتبوه بالرسم المعهود عندهم ، وكانوا ضعافا في صناعة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 310)
الكتابة ، ولذا حصل بعض الاختلاف في رسم كتابتهم ، بل في رسم بعض الكلمات في مصاحف الأمصار المنتسخة من المصحف العثماني ، فيجوز أن يكتب أيضا بالرسم الإملائي .
وقد ذكر ذلك الاختلاف الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه [المقنع] ، وبين سبب هذا الاختلاف فقال :(7/403)
باب
ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الأمصار بالإثبات والحذف
أخبرني الخاقاني قال : حدثنا الأصبهاني قال : حدثنا الكسائي عن ابن الصباح قال : قال محمد بن عيسى عن نصير : وهذا ما اختلف فيه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل المدينة وأهل مدينة السلام وأهل الشام في كتابة المصاحف .
كتبوا في سورة (البقرة) إلى آخرها في بعض المصاحف ( إبرهم ) بغير ياء ، وفي بعضها بالياء ، قال أبو عمرو : وبغير ياء وجدت أنا ذلك في مصاحف أهل العراق في البقرة خاصة ، وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام ، وقال معلى بن عيسى الوراق عن عاصم الجحدري ( إبرهم ) في (البقرة) بغير ياء ، كذلك وجد في الإمام وحدثنا الخاقاني شيخنا قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو عبيد قال : تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة ( إبرهم ) بغير ياء ، قال نصير : وفي بعضها ( فيضاعفه ) (245) بالألف ، وفي بعضها بغير ألف ، وفي بعضها ( قل بئس ما يأمركم به ) (92) مقطوع ، وفي بعضها ( بئسما ) موصولة ، وفي بعضها ( ملئكة ) وكتابه (285) بالألف ، وفي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 311)
بعضها ( وكتبه ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) في بعض المصاحف ( ويقاتلون الذين ) (21) بالألف ، وفي بعضها ( ويقتلون ) بغير ألف ، وفي (المائدة) في بعض المصاحف ( نحن أبنؤا الله ) (18) بالواو والألف ، وفي بعضها ( أبناء الله ) بغير واو ، وفي بعضها ( نخشا أن تصيبنا دائرة ) (52) بالألف ، وفي بعضها بالياء ، وفي بعضها ( فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا ساحر مبين ) (110) بالألف ، وفي بعضها ( سحر ) بغير ألف ، وفي بعضها أو كفارة طعام مساكين (95) بالألف ، وفي بعضها ( مسكين ) بغير ألف .(7/404)
وفي (الأنعام) في بعض المصاحف فالق الحب (95) بالألف ، وفي بعضها ( فلق ) بغير ألف ، وفي بعض المصاحف وجعل الليل سكنا (96) بغير ألف ، وفي بعضها ( وجاعل ) بالألف ، وفي بعضها لئن أنجيتنا (63) بالياء والتاء والنون ، وفي بعضها ( أنجينا ) بالياء والنون .
وفي (الأعراف) في بعض المصاحف ( كل ما دخلت أمة ) (38) مقطوعة ، وفي بعضها ( كلما ) موصولة ، وفي بعضها يأتوك بكل سحار عليم (112) الألف بعد الحاء ، وفي بعضها ( ساحر ) الألف قبل الحاء ، وفي بعضها ( إذا مسهم طيف ) (201) بغير ألف ، وفي بعضها ( طائف ) بألف ، وفي بعضها وريشا ولباس التقوى (26) بغير ألف ، وفي بعضها ( ورياشا ) بالألف ، قال أبو عمرو : ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة العامة إلا ما رويناه عن المفضل بن محمد الضبي عن عاصم ، وبذلك قرأنا من طريقه .
وفي (براءة) كتبوا في بعض المصاحف ( ولأوضعوا ) (47) بغير
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 312)
ألف ، وفي بعضها ( ولا أوضعوا ) بألف .
وفي (يونس) في بعض المصاحف ( إن هذا لساحر ) (76) بالألف ، وفي بعضها ( لسحر مبين ) بغير ألف ، وفي بعضها ( وقال فرعون ائتوني بكل سحار ) (79) الألف بعد الحاء ، وفي بعضها ( سحر ) بغير ألف .
وفي (إبراهيم) في بعض المصاحف ( وذكرهم بأيم الله ) (5) قال أبو عمرو : يعني : بياء من غير ألف ، وقد رأيته أنا في بعض مصاحف أهل المدينة والعراق ، وكذلك ذكره الغازي بن قيس في كتابه بياءين من غير ألف ، قال نصير : وفي بعضها بأيام الله بألف وياء واحدة .
وفي (الحجر) في بعض المصاحف وأرسلنا الرياح لواقح بألف على الإجماع ، وبعضها ( الريح ) ، بغير ألف على واحدة .(7/405)
وفي (بني إسرائيل) في بعض المصاحف ( أو كلهما ) (23) بغير ألف ، وفي بعضها ( أو كلاهما ) بألف وليس في شيء من المصاحف فيها ياء ، وفي بعضها سبحان ربي (93) بالألف ، وفي بعضها ( سبحن ) بغير ألف ، ولا يكتب في جميع القرآن بألف غير هذا الحرف اختلفوا فيه .
وفي (الكهف) في بعض المصاحف فله جزاء الحسنى (88) بغير واو ، في بعضها ( جزؤا ) بالواو ، وفي بعض المصاحف ( فهل نجعل لك خراجا ) (94) بألف ، وفي بعضها ( خرجا ) بغير ألف ، وفي بعض المصاحف ( تذروه الريح ) (45) بغير ألف ، وفي بعضها ( الرياح ) بألف .
وفي (طه) في بعض المصاحف ( لا تخف دركا ) (77) بغير ألف ، وفي بعضها ( لا تخاف ) بألف .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 313)
وفي (الأنبياء) كتبوا في بعض المصاحف ( قال ربي ) (4) بالألف ، وفي بعضها ( قل ربي ) بغير ألف ، وفي بعضها أن لا إله إلا أنت (87) ، وفي بعضها بغير نون ، وفي بعضها في ما اشتهت أنفسهم (102) مقطوع ، وفي بعضها موصول .
وفي (الحج) في بعض المصاحف ( إن الله يدافع ) (38) بالألف ، وفي بعضها بغير ألف .
وفي (المؤمنون) في بعض المصاحف قال كم لبثتم (112) بألف ، وفي بعضها ( قل ) بغير ألف ، وفي بعضها ( قل إن لبثتم إلا قليلا ) (114) بألف ، وفي بعضها ( قال ) بالألف ، وفي بعضها ( سيقولون لله لله لله ) (85 ، 87 ، 89) ثلاثتها بغير ألف ، وفي بعضها : الأول ( لله ) بغير ألف ، والاثنان بعده ( الله الله ) ، وفي بعض المصاحف كل ما جاء أمة رسولها (44) مقطوع ، وفي بعضها ( كلما ) موصولة ، وفي بعضها ( أم تسئلهم خراجا ) (72) بألف ، وفي بعضها ( خرجا ) بغير ألف ، وكتبوا فخراج ربك (72) في جميع المصاحف بالألف .
وفي (الفرقان) في بعض المصاحف ( فيها سرجا ) (61) بغير ألف ، وفي بعضها ( سراجا ) بالألف .(7/406)
وفي (الشعراء) في بعض المصاحف ( أتتركون فيما ههنا آمنين ) (146) موصولة ، وفي بعضها في ما مقطوعة ، وفي بعضها ( فارهين ) (149) بألف ، وفي بعضها ( فرهين ) بغير ألف ، وكذلك ( حاذرون ) (56) و ( حذرون ) .
وفي (النمل) في بعض المصاحف ( تهدي العمي ) (81) بالتاء بغير
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 314)
ألف ، وفي بعضها ( بهادي ) بألف وياء بعد الدال ، وفي بعضها ( فناظرة ) (35) بالألف ، وفي بعضها ( فنظرة ) بغير ألف .
وفي (القصص) في بعض المصاحف ( قالوا ساحران تظاهرا ) (48) بألف ، وفي بعضها ( سحران ) بغير ألف بعد السين .
وفي (الروم) في بعض المصاحف ( وما أنت تهد العمي ) (53) بغير ألف ولم يثبتوا فيها ياء ، وفي بعضها ( بهاد ) بألف وليس فيها ياء . التي في (الروم) ليس فيها في شيء من المصاحف ياء ، والتي في (النمل) (81) فيها ياء في جميع المصاحف ، وفي بعضها وما آتيتم من ربا (39) بالألف بغير واو ، وفي بعضها ( ربوا ) بالواو .
وفي (الأحزاب) في بعض المصاحف ( يسئلون عن أنبائكم ) (20) بغير ألف ، وفي بعضها ( يسألون ) بالألف ، قال أبو عمرو : ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة القراء إلا ما رويناه من طريق محمد بن المتوكل ورويس عن يعقوب الحضرمي ، وبذلك قرأنا في مذهبه ، وحدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا ابن منير قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : حدثنا ابن مينا قالون عن نافع : أن ذلك في الكتاب بغير ألف .
وفي (يس) في بعض المصاحف ( وما عملت أيديهم ) (35) بالتاء من غير هاء ، وفي بعضها ( وما عملته ) بالهاء ، وفي بعضها في شغل فاكهون (55) بالألف ، وفي بعضها ( فكهون ) بغير ألف .
وفي (المؤمن) في بعض المصاحف ( وكذلك حقت كلمت ربك ) (6) بالتاء ، وفي بعضها ( كلمة ) بالهاء ، وفي بعضها ( إذ القلوب لدا الحناجر ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( لدى ) بالياء .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 315)(7/407)
وفي (الدخان) في بعض المصاحف ( فيها فاكهين ) (27) بالألف ، وفي بعضها ( فكهين ) بغير ألف .
وفي (الأحقاف) في بعض المصاحف ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسنا ) (15) يجعلون أمام الحاء ألفا كذا قال ، وصوابه : قبل الحاء ، وفي بعضها ( حسنا ) بغير ألف .
وفي (الطور) في بعض المصاحف ( فاكهين ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( فكهين ) بغير ألف .
وفي (اقتربت) في بعض المصاحف ( خاشعا ) (7) بالألف ، وفي بعضها ( خشعا ) بغير ألف .
وفي (الرحمن) كتبوا في بعض المصاحف ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) بالألف ، وفي بعضها ( تكذبن ) بغير ألف من أول السورة إلى آخرها ، وفي بعض المصاحف ( وجنا الجنتين دان ) (54) بالألف ، وفي بعضها ( وجنى ) بالياء .
وفي (الواقعة) في بعض المصاحف ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) (75) بغير ألف ، وفي بعضها ( بمواقع ) بالألف .
وفي (الحديد) في بعض المصاحف ( فيضعفه ) (11) بغير ألف ، وفي بعضها ( فيضاعفه ) بالألف ، وفي بعضها ( يضاعف لهم ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( يضعف ) بغير ألف .
وفي (المنافقون) في بعض المصاحف ( وأنفقوا من ما رزقنكم ) (10) مقطوع ، وفي بعضها ( مما ) موصول .
وفي (الملك) في بعض المصاحف ( كل ما ألقي فيها فوج ) (8)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 316)
مقطوع ، وفي بعضها ( كلما ) موصول .
وفي ( قل أوحي ) في بعض المصاحف قل إنما أدعو ربي (20) بغير ألف ، وقال أبو عمرو : قال الكسائي : قال الجحدري : هو في الإمام ( قل ) قاف لام .
وفي (المرسلات) في بعض المصاحف ( جمالت ) (33) بألف بعد الميم ، وفي بعضه ( جملت ) بغير ألف ، قال أبو عمرو : وليس في شيء منها ألف قبل التاء .
وفي (المطففين) في بعض المصاحف ( فكهين ) (31) بغير ألف ، وفي بعضها ( فاكهين ) بالألف .(7/408)
وفي (أرأيت) في بعض المصاحف ( أريت ) (1) بغير ألف ، وفي بعضها ( أرأيت ) بالألف ، وفي بعض المصاحف ( أرأيتم ) بالألف ، وفي بعضها ( أريتم ) بغير ألف في جميع القرآن .
قال أبو عمرو : ورأيت أبا حاتم قد حكى عن أيوب بن المتوكل : أنه رأى في مصاحف أهل المدينة ( إنا لنصر رسلنا ) (51) في (غافر) بنون واحدة ، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من المصاحف ، وبالله التوفيق .(7/409)
باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام المنتسخة من الإمام بالزيادة والنقصان
وهذا الباب سمعناه من غير واحد من شيوخنا من ذلك :
في (البقرة) في مصاحف أهل الشام ( قالوا اتخذ الله ولدا ) (116) بغير
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 317)
واو قبل ( قالوا ) وفي سائر المصاحف ( وقالوا ) بالواو ، وفي مصاحف أهل المدينة والشام ( وأوصى بها ) (132) بألف بين الواوين ، قال أبو عبيد : وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفي سائر المصاحف ( ووصى ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) في مصاحف أهل المدينة والشام ( سارعوا إلى مغفرة ) (133) بغير واو قبل السين ، وفي سائر المصاحف ( وسارعوا ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وبالزبر وبالكتب ) (184) بزيادة باء في الكلمتين ، كذا رواه لي خلف بن إبراهيم عن أحمد بن محمد عن علي عن أبي عبيد عن هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن ابن عامر ، وعن هشام عن سويد بن عبد العزيز عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن مصاحف أهل الشام ، وكذلك حكى أبو حاتم أنهما مرسومان بالباء في مصحف أهل حمص الذي بعث عثمان به إلى الشام وقال هارون بن موسى الأخفش الدمشقي إن الباء زيدت في الإمام يعني : الذي وجه به إلى الشام في ( وبالزبر ) وحدها ، وروى الكسائي عن أبي حيوة شريح بن يزيد أن ذلك كذلك في المصحف الذي بعث به عثمان إلى الشام والأول أعلى إسنادا ، وهما في سائر المصاحف بغير باء .
وفي (النساء) قال الكسائي والفراء : في بعض مصاحف أهل الكوفة ( والجار ذا القربى ) (36) بألف ، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من مصاحفهم ولا قرأ به أحد منهم ، وفي مصاحف أهل الشام ( ما فعلوه إلا قليلا منهم ) (66) بالنصب ، وفي سائر المصاحف ( إلا قليل ) بالرفع .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 318)(7/410)
وفي (المائدة) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو قبل ( يقول ) وفي مصاحف أهل الكوفة والبصرة وسائر العراق ( ويقول ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام ( من يرتدد منكم ) (54) بدالين قال أبو عبيد : وكذا رأيتها في الإمام بدالين وفي سائر المصاحف ( يرتد ) بدال واحدة .
وفي (الأنعام) في مصاحف أهل الشام ( ولدار الآخرة ) (32) بلام واحدة ، وفي سائر المصاحف بلامين ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( لئن أنجينا من هذه ) (63) بياء من غير تاء ، وفي سائر المصاحف ( لئن أنجيتنا ) بالياء والتاء ، وليس في شيء منها ألف بعد الجيم ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركائهم ) (137) بالياء ، وفي سائر المصاحف ( شركاؤهم ) بالواو .
وفي (الأعراف) في مصاحف أهل الشام ( قليلا ما يتذكرون ) (3) بالياء والتاء ، وفي سائر المصاحف ( تذكرون ) بالتاء من غير ياء ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( ما كنا لنهتدي ) (43) بغير واو قبل ( ما ) وفي سائر المصاحف ( وما ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل الشام في قصة صالح ( وقال الملأ الذين استكبروا ) (75) بزيادة واو قبل ( قال ) وفي سائر المصاحف ( قال ) بغير واو ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وإذ أنجاكم من آل فرعون ) (141) بألف من غير ياء ولا نون ، وفي سائر المصاحف ( أنجينكم ) بالياء والنون من غير ألف .
وفي (براءة) في مصاحف أهل المدينة والشام ( الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) (107) بغير واو قبل ( الذين ) وفي سائر المصاحف ( والذين )
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 319)
بالواو ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( تجري من تحتها الأنهار ) بزيادة ( من ) وفي سائر المصاحف بغير ( من ) .
وفي (يونس) في مصاحف أهل الشام ( هو الذي ينشركم في البر والبحر ) (22) بالنون والشين ، وفي سائر المصاحف ( يسيركم ) بالسين والياء .(7/411)
وفي (سبحان) في مصاحف أهل مكة والشام ( قال سبحان ربي هل كنت ) (93) بألف ، وفي سائر المصاحف ( قل ) بغير ألف .
وفي (الكهف) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام ( خيرا منهما منقلبا ) (36) بزيادة ميم بعد الهاء على التثنية ، وفي سائر مصاحف أهل العراق ( منها ) بغير ميم على التوحيدة ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( ما مكنني فيه ربي ) (95) بنونين ، وفي سائر المصاحف ( مكني ) بنون واحدة .
وفي (الأنبياء) في مصاحف أهل الكوفة ( قال ربي يعلم القول ) (4) بألف ، وفي سائر المصاحف ( قل ربي ) بغير ألف ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( ألم ير الذين كفروا ) (30) بغير واو بين الهمزة واللام ، وفي سائر المصاحف ( أو لم ير الذين ) بالواو .
وفي (المؤمنون) في مصاحف أهل البصرة ( سيقولون الله قل أفلا تتقون ) (87) ( سيقولون الله قل فأنى تسحرون ) (89) بالألف في الاسمين الأخيرين ، وفي سائر المصاحف ( لله ) فيهما قال أبو عبيد : وكذلك رأيت ذلك في الإمام ، وقال هارون الأعور عن عاصم الجحدري : كانت في الإمام ( لله ) ( لله ) وأول من ألحق هاتين الألفين نصر بن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 320)
عاصم الليثي ، وقال أبو عمرو : كان الحسن يقول : الفاسق عبيد الله بن زياد زاد فيهما ألفا ، وقال يعقوب الحضرمي : أمر عبيد الله بن زياد أن يزاد فيهما ألف .(7/412)
قال أبو عمرو : وهذه الأخبار عندنا لا تصح لضعف نقلتها واضطرابها وخروجها عن العادة إذ غير جائز أن يقدم نصر وعبيد الله هذا الإقدام من الزيادة في المصاحف مع علمهما بأن الأمة لا تسوغ لهما ذلك ، بل تنكره وترده وتحذر منه ولا تعمل عليه ، وإذا كان ذلك بطل إضافة زيادة هاتين الألفين إليهما ، وصح أن إثباتهما من قبل عثمان والجماعة رضوان الله عليهم على حسب ما نزل به من عند الله تعالى ، وما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت المصاحف على أن الحرف الأول ( سيقولون لله ) (58) بغير ألف قبل اللام ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( قل كم لبثتم ) (112) و ( قل إن لبثتم ) (114) بغير ألف في الحرفين ، وفي سائر المصاحف ( قال ) بالألف في الحرفين ، وينبغي أن يكون الحرف الأول في مصاحف أهل مكة بغير ألف والثاني بالألف ؛ لأن قراءتهم فيهما كذلك ، ولا خبر عندنا في ذلك عن مصاحفهم إلا ما رويناه عن أبي عبيد أنه قال : ولا أعلم مصاحف أهل مكة إلا عليها - يعني : على إثبات الألف في الحرفين - .
وفي (الفرقان) في مصاحف أهل مكة ( وننزل الملائكة تنزيلا ) (25) بنونين وفي سائر المصاحف ( ونزل ) بنون واحدة .
وفي (الشعراء) في مصاحف أهل المدينة والشام ( فتوكل على العزيز الرحيم ) (217) بالفاء ، وفي سائر المصاحف ( وتوكل ) بالواو .
وفي (النمل) في مصاحف أهل مكة ( وليأتينني بسلطان مبين ) (21)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 321)
بنونين ، وفي سائر المصاحف بنون واحدة .
وفي (القصص) في مصاحف أهل مكة ( قال موسى ربي أعلم ) (37) بغير واو قبل ( قال ) وفي سائر المصاحف ( وقال ) بالواو .
وفي (يس) في مصاحف أهل الكوفة ( وما عملت أيديهم ) (35) بغير هاء بعد التاء ، وفي سائر المصاحف ( وما عملته ) بالهاء ، وفي الزمر في مصاحف أهل الشام ( تأمرونني أعبد ) (64) بنونين ، وفي سائر المصاحف ( تأمروني أعبد ) بنون واحدة .(7/413)
وفي (المؤمن) في مصاحف أهل الشام ( كانوا هم أشد منكم ) (21) بالكاف ، وفي سائر المصاحف ( أشد منهم ) بالهاء ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( أو أن يظهر في الأرض الفساد ) بزيادة الألف قبل الواو ، وروى هارون عن صخر بن جويرية وبشار الناقط عن أسيد : أن ذلك كذلك في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفى سائر المصاحف ( وأن يظهر ) بغير ألف .
وفي (الشورى) في مصاحف أهل المدينة والشام ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء قبل الباء ، وفي سائر المصاحف ( فبما كسبت ) بزيادة فاء .
وفي (الزخرف) في مصاحف أهل المدينة والشام ( يا عبادي لا خوف عليكم ) (68) بالياء ، وفي مصاحف أهل العراق ( يا عباد ) بغير الياء ، وكذا ينبغي أن يكون في مصاحف أهل مكة ؛ لأن قراءتهم فيه كذلك ، ولا نص عندنا في ذلك في مصاحفهم ، إلا ما حكاه ابن مجاهد : أن ذلك في مصاحفهم بغير ياء ، ورأيت بعض شيوخنا يقول : إن ذلك في مصاحفهم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 322)
بالياء ، وأحسبه أخذ ذلك من قول أبي عمرو إذ حكى أنه رأى الياء في ذلك ثابتة في مصاحف أهل الحجاز ، ومكة من الحجاز . والله أعلم .
وحدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن قطن ، قال : حدثنا سليمان بن خلاد ، قال : حدثنا اليزيدي ، قال أبو عمرو : ( يا عبادي ) رأيتها في مصاحف أهل المدينة والحجاز بالياء ، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام ( ما تشتهيه الأنفس ) (71) بهائين ، ورأيت بعض شيوخنا يقول : إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة ، وهو غلط ، قال أبو عبيد : وبهاءين رأيته في الإمام ، وفي سائر المصاحف ( تشتهي ) بهاء واحدة .
وفي (الأحقاف) في مصاحف أهل الكوفة ( بوالديه إحسانا ) (15) بزيادة ألف قبل الحاء وبعد السين ، وفي سائر المصاحف ( حسنا ) بغير ألف .
وفي (القتال) قال خلف بن هشام البزار : في مصاحف أهل مكة والكوفيين ( فهل ينظرون إلا الساعة إن تأتهم ) (18) بالكسر مع الجزم .(7/414)
وفي (الرحمن) في مصاحف أهل الشام ( والحب ذا العصف والريحان ) (12) بالألف والنصب ، وفي سائر المصاحف ( ذو العصف ) بالواو والرفع ، قال أبو عبيد : وكذلك رأيتها في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( ذو الجلال والإكرام ) (78) آخر السورة بالواو ، وفي سائر المصاحف ( ذي الجلال والإكرام ) بالياء ، والحرف الأول (27) في كل المصاحف بالواو .
وفي (الحديد) في مصاحف أهل الشام ( وكل وعد الله الحسنى ) (10) بالرفع ، وفي سائر المصاحف ( وكلا ) بالنصب ، وفيها في مصاحف أهل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 323)
المدينة والشام ( فإن الله الغني الحميد ) بغير ( هو ) .
وفي سائر المصاحف ( هو الغني ) بزيادة ( هو ) ، وفي ( والشمس ) في مصاحف أهل المدينة والشام ( فلا يخاف عقبها ) (15) بالفاء ، وفي سائر المصاحف ( ولا يخاف ) بالواو حدثنا ابن خاقان قال : حدثنا أحمد المكي قال : حدثنا علي قال : حدثنا أبو عبيد قال : هذه الحروف التي اختلفت في مصاحف الأمصار مثبتة بين اللوحين وهي كلها منسوخة من الإمام الذي كتبه عثمان ثم بعث إلى كل أفق مما نسخ بمصحف ، وهي كلها كلام الله عز وجل .
حدثنا خلف بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني أن أهل الحجاز وأهل العراق اختلفت مصاحفهم في هذه الحروف قال القاسم : وهي اثنا عشر حرفا : كتب أهل المدينة في (سورة البقرة) ( وأوصى بها إبراهيم بنيه ) (132) بألف ، وكتب أهل العراق ( ووصى ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) كتب أهل المدينة ( سارعوا إلى مغفرة ) (133) بغير واو ، وأهل العراق ( وسارعوا ) بالواو .(7/415)
وفي (المائدة) كتب أهل المدينة ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو ، وأهل العراق ( ويقول ) بالواو وفيها أيضا كتب أهل المدينة ( من يرتدد منكم ) (54) بدالين ، وأهل العراق ( من يرتد ) بدال واحدة .
وفي (براءة) أهل المدينة ( الذين اتخذوا مسجدا ) (107) بغير واو ، وأهل العراق ( والذين ) بالواو .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 324)
وفي (الكهف) أهل المدينة ( خيرا منهما منقلبا ) (36) على اثنين ، وأهل العراق ( خيرا منها ) على واحدة .
وفي (الشعراء) أهل المدينة ( فتوكل على العزيز الرحيم ) (217) بالفاء ، وأهل العراق ( وتوكل ) بالواو .
وفي (المؤمن) أهل المدينة ( وأن يظهر في الأرض الفساد ) (26) بغير ألف ، وأهل العراق ( أو أن ) بألف .
وفي (عسق) أهل المدينة ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء ، وأهل العراق ( فبما ) بالفاء .
وفي (الزخرف) أهل المدينة ( تشتهيه الأنفس ) (71) بهاءين ، وأهل العراق ( تشتهي ) بهاء واحدة .
وفي (الحديد) أهل المدينة ( فإن الله الغني الحميد ) (24) بغير ( هو ) .
وفي (والشمس وضحاها) أهل المدينة ( فلا يخاف عقباها ) (15) بالفاء ، وأهل العراق ( ولا يخاف ) بالواو ، حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا محمد بن أحمد قال : حدثنا عبد الله بن عيسى قال : حدثنا قالون عن نافع : أن الحروف المذكورة في مصاحف أهل المدينة على ما ذكر إسماعيل سواء .
حدثنا محمد بن علي قال : حدثنا ابن مجاهد قال : في مصاحف أهل مكة في (التوبة) ( تجري من تحتها الأنهار ) بزيادة ( من ) .
وفي (سبحان) ( قال سبحان ربي ) (93) بألف .
وفي (الكهف) ( ما مكنني فيه ) (95) بنونين .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 325)
وفي (الأنبياء) ( ألم ير الذين كفروا ) (35) بغير واو .
وفي (الفرقان) ( وننزل الملائكة ) (25) بنونين .
وفي (النمل) ( أو ليأتينن ) (21) بنونين .
وفي (القصص) ( قال موسى ربي أعلم ) (37) بغير واو .(7/416)
وحدثنا ابن غلبون قال : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن أنس قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا سويد بن عبد العزيز وأيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر (ح) وحدثنا الخاقاني قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا علي قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر ، قال أبو عبيد واللفظ له : قال هشام (ح) وحدثنا سويد بن عبد العزيز أيضا عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء : عن أبي الدرداء : أن هذه الحروف في مصاحف أهل الشام ، وهي ثمانية وعشرون حرفا في مصاحف أهل الشام : في (البقرة) ( قالوا اتخذ الله ولدا ) (116) بغير واو .
وفي (آل عمران) ( سارعوا ) (133) بغير واو ، وفيها ( بالبينات وبالزبر وبالكتب ) (84) ثلاثتهن بالباء .
وفي (النساء) ( إلا قليلا منهم ) (66) بالنصب .
وفي (المائدة) ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو ، وفيها ( من يرتدد منكم عن دينه ) (54) بدالين .
وفي (الأنعام) ( والدار الآخرة ) (32) بلام واحدة ، وفيها ( قتل أولادهم شركائهم ) (137) بنصب ( الأولاد ) وخفض ( الشركاء ) .
وفي (الأعراف) ( قليلا ما يتذكرون ) (3) ، وفيها ( ما كنا لنهتدي )
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 326)
(43) بغير واو ، وفيها في قصة صالح ( وقال الملأ ) (75) بالواو وفيها ( وإذ أنجكم ) (141) بغير نون .
وفي (براءة) ( الذين اتخذوا ) (107) بغير واو .
وفي (يونس) ( هو الذي ينشركم ) (22) بالنون والشين وفيها ( إن الذين حقت عليهم كلمت ربك ) (96) على الجمع .
وفي (بني إسرائيل) ( قال سبحان ربي ) (93) على الخبر .
وفي (الكهف) ( خيرا منهما ) (36) على اثنين .
وفي (المؤمنون) ( سيقولون لله ) (85 ، 87 ، 89) ، ثلاثتهن بغير ألف .
وفي (الشعراء) ( فتوكل على العزيز ) (217) بالفاء .
وفي (النمل) ( إننا لمخرجون ) (67) على نونين .(7/417)
وفي (المؤمن) ( أشد منكم ) (21) بالكاف ، وفيها ( وأن يظهر في الأرض ) (26) بغير ألف .
وفي (عسق) ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء .
وفي (الرحمن) ( والحب ذا العصف والريحان ) (12) بالنصب ، وفيها ( تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ) (87) بالرفع .
وفي (الحديد) ( فإن الله الغني الحميد ) (24) بغير ( هو ) .
وفي (والشمس) ( فلا يخاف عقباها ) (15) بالفاء .
حدثنا الخافاقني قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا علي قال : قال أبو عبيد : اختلفت مصاحف أهل العراق والكوفة والبصرة في خمسة أحرف : كتب الكوفيون في (الأنعام) ( لئن أنجينا ) (63) بغير تاء .
وفي (الأنبياء) ( قال ربي يعلم ) (4) بالألف .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 327)
وفي (المؤمنون) ( قل كم لبثتم ) (112) ( قل إن لبثتم ) (114) بغير ألف فيهما .
وفي (الأحقاف) ( بوالديه إحسانا ) (15) بألف قبل الحاء ، وأخرى بعد السين ، وكتبها المصريون ( لئن أنجيتنا ) بالتاء ( قل ربي يعلم ) بغير ألف ( قال كم لبثتم ) ( قال إن لبثتم ) بالألف ( بوالديه حسنا ) بغير ألف .
قال أبو عمرو : وروي لنا عن ابن القاسم وأشهب وابن وهب : أنهم رأوا في مصحف جد مالك بن أنس الذي كتبه حين كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف أخرجه إليهم مالك في (حم عسق) ( فبما كسبت ) (30) بالفاء .
وفي (الزخرف) ( ما تشتهي الأنفس ) (71) .
وفي (الحديد) ( فإن الله هو الغني الحميد ) (24) بزيادة ( هو ) .
وفي (والشمس) ( ولا يخاف ) (15) بالواو ، وسائر الحروف على ما رواه إسماعيل عن مصاحف أهل المدينة ، وروى خارجة بن مصعب عن نافع أنه قال : في الإمام في (الحديد) ( هو الغني ) بزيادة ( هو ) .
وفي (والشمس) ( ولا يخاف ) بالواو ، وقد ذكرنا حكاية أبي عبيد عن الإمام في رسم هذه الحروف وغيرها فأغنى ذلك عن الإعادة .(7/418)
وقال أبو حاتم في مصحف أهل المدينة في (يوسف) ( وقال الملك اتون ) (54) بنقصان ياء ، وفي مصحف أهل مكة في آخر النساء ( فآمنوا بالله ورسوله ) (171) ، وفي مصحف أهل حمص الذي بعث به في المصحف الذي بعث به عثمان إلى ( الشام ) ( ثم كيدوني ) بالياء ( وما كان للنبي ) بلامين .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 328)
وفي (الكهف) ( للتخذت عليه ) .
قال أبو عمرو : فهذا جميع ما انتهى إلينا بالروايات من الاختلاف بين مصاحف أهل الأمصار ، وقد مضى من ذلك حروف كثيرة في الأبواب المتقدمة والقطع عندنا على كيفية ذلك في مصاحف أهل الأمصار على قراءة أئمتهم غير جائز إلا برواية صحيحة عن مصاحفهم بذلك إذ قراءتهم في كثير من ذلك قد تكون على غير مرسوم مصحفهم ، ألا ترى أن أبا عمرو قرأ ( يا عبادي لا خوف عليكم ) (168) في (الزخرف) بالياء ، وهو في مصاحف أهل البصرة بغير ياء ؟ ! فسئل عن ذلك فقال : إني رأيته في مصاحف أهل المدينة بالياء فترك ما في مصحف أهل بلده ، واتبع في ذلك مصاحف أهل المدينة .
وكذلك قراءته في (الحجرات) ( لا يألتكم من أعمالكم شيئا ) (14) بالهمزة التي صورتها ألف وذلك مرسوم في جميع المصاحف بغير ألف .
وكذلك قراءته أيضا في (المنافقون) ( وأكون من الصالحين ) (10) بالواو والنصب ، وذلك في كل المصاحف بغير واو مع الجزم ، قال أبو عبيد : وكذا رأيته في الإمام قال : واتفقت على ذلك المصاحف .
وكذلك أيضا قراءته في (المرسلات) ( وإذا الرسل وقتت ) (11) بالواو من الوقت ، وذلك في الإمام ، وفي كل المصاحف بالألف ، وكذلك قراءته .
وقراءة ابن كثير في (البقرة) ( أو ننسأها ) (106) بهمزة ساكنة بين السين والهاء وصورتها ألف ، وليست كذلك في مصاحف أهل مكة ولا في غيرها
وكذلك قراءة ابن عامر وعاصم من رواية حفص بن سليمان في (الزخرف) ( قال أولو جئتكم ) (24) بالألف ، ولا خبر عندنا إن ذلك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 329)(7/419)
كذلك مرسوم في مصاحف أهل الشام ولا في غيرها .
وكذلك أيضا قراءة عاصم من الطريق المذكور في (الأنبياء) ( قال رب احكم بالحق ) (112) بالألف ، ولا رواية عندنا كذلك أن ذلك مرسوم في شيء من المصاحف في نظائر لذلك كثيرة ترد عن أئمة القراءة ، بخلاف مرسوم مصحفهم ، وإنما بينت هذا الفصل ونبهت عليه ؛ لأني رأيت بعض من أشار إلى جمع شيء من هجاء المصاحف من منتحلي القراءة من أهل عصرنا قد قصد هذا المعنى وجعله أصلا ، فأضاف بذلك ما قرأ به كل واحد من الأئمة من الزيادة والنقصان في الحروف المتقدمة وغيرها إلى مصاحف أهل بلده وذلك من الخطأ الذي يقود إليه إهمال الرواية وإفراط الغباوة وقلة التحصيل ، إذ غير جائز القطع على كيفية ذلك إلا بخبر منقول عن الأئمة السالفين رواية صحيحة عن العلماء المختصين بعلم ذلك المؤتمنين على نقله وإيراده لما بيناه من الدلالة . وبالله التوفيق .
قال أبو عمرو : فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت : السبب في ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما جمع القرآن في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصح ولا يثبت نظرا للأمة واحتياطا على أهل الملة ، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة ، وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير ممكن إلا بإعادة الكلمة مرتين وفي رسم ذلك ، كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرقها في المصاحف لذلك ، فجاءت مثبتة في بعضها ، ومحذوفة في بعضها لكي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 330)
تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل ، وعلى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار .(7/420)
فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان رضي الله عنه : أن المصاحف لما نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن فقال : اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها ، إذ ظاهره يدل على خطأ في الرسم .
قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة ، ولا يصح به دليل من جهتين : إحداهما : أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه - مرسل ؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه ، وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه ؛ لما فيه من الطعن عليه مع محله من الدين ومكانه من الإسلام وشدة اجتهاده في بذل النصيحة واهتمامه بما فيه الصلاح للأمة ، فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده ، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحل لأحد أن يعتقده .
فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان رضي الله عنه ؟ قلت : وجهه أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب ذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها ألا ترى قوله : ( أولأ اذبحنه ) و ( لا أوضعوا ) و ( من نباءى المرسلين ) و ( سأوريكم ) و ( الربوا ) وشبهه مما زيدت الألف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 331)(7/421)
والياء والواو في رسمه لو تلاه تال لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط لصير الإيجاب نفيا ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا ، فأعلم عثمان رضي الله عنه إذ وقف على ذلك : أن من فاته تمييز ذلك وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده سيأخذ ذلك عن العرب إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم فيعرفونه بحقيقة تلاوته ويدلونه على صواب رسمه ، فهذا وجهه عندي . والله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر لو كان - الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف ؟ قلت : معناه ، أي : لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك ، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة ، ولسلكوا فيها تلك الطريقة ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه إذ ذلك هو المعهود عندهما والذي جرى عليه استعمالها هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجة . وبالله التوفيق .
حدثنا خلف بن إبراهيم المقرئ قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج عن هارون قال : أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه فوجد فيها حروفا من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 332)
اللحن فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال : ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف .(7/422)
حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : حدثنا عمران القطان عن قتادة عن نصير بن عاصم عن عبد الله بن أبي فطيمة عن يحيى بن يعمر قال : قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : في القرآن لحن تقيمه العرب بألسنتها .
قال : قيل : فما تأويل الخبر الذي رويتموه أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قوله : إن هذان لساحران (20- 63) وعن والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة (4- 162) وعن إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى (5- 69) ؟ فقالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتابة . قلت : تأويله ظاهر ، وذلك أن عروة لم يسأل عائشة فيها عن حروف الرسم التي تزاد فيها لمعنى وتنقص منها لآخر ، تأكيدا للبيان ، وطلبا للخفة ، وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ولأمته في القراءة بها واللزوم على ما شاءت منها تيسيرا لها وتوسعة عليها ، وما هذا سبيله وتلك حاله فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل؛ لفشوه في اللغة ، ووضوحه في قياس العربية ، وإذا كان الأمر في ذلك كذلك فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء ، وإنما سمى عروة ذلك لحنا وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار وطريق المجاز في العبارة إذا كان ذلك مخالفا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 333)(7/423)
لمذهبهما وخارجا عن اختيارهما ، وكان الأوجه والأولى عندهما والآكثر والأفشى لديهما لا على وجه الحقيقة والتحصيل والقطع؛ لما بيناه قبل من جواز ذلك وفشوه في اللغة ، واستعمال مثله في قياس العربية ، مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك ، دون ما ذهبا إليه إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في إن هذين (20-63) خاصة هذا الذي يحمل عليه هذا الخبر ويتأول فيه دون أن يقطع به على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحنت الصحابة وخطأت الكتبة وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر هذا ما لا يسوغ ولا يجوز ، قد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين أخطأوا في الكتاب ، أي : أخطأوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز؛ لأن ما لا يجوز مردود بإجماع ، وإن طالت مدة وقوعه ، وعظم قدر موقعه وتأول اللحن أنه القراءة واللغة ، كقول عمر رضي الله عنه : أبي أقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه ، أي : قراءته ولغته ، فهذا بين . وبالله التوفيق .(7/424)
حدثنا الخاقاني : قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قول الله عز وجل : إن هذان لساحران ، وعن قوله : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ، وعن قوله تبارك وتعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى فقالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب .
فإن قال قائل : فإذ قد أوضحت ما سئلت عنه من تأويل هذين الخبرين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 334)
فعرفنا بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف وقد كان مجموعا في الصحف على ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم قلت : السبب في ذلك بين فذلك الخبر على قول بعض العلماء ، وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد جمعه أولا على السبعة الأحرف التي أذن الله عز وجل للأمة في التلاوة بها ولم يخص حرفا بعينه ، فلما كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأعلمه حذيفة بذلك- رأى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف ، وأن يسقط ما سواه فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق إذا كانت الأمة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة ، وإنما خيرت في أيها شاءت لزمته وأجزأها كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق ، لا أن يجمع ذلك كلا فكذلك السبعة الأحرف .
وقيل : إنما جمع الصحف في مصحف واحد ، لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحدا متفقا عليه وأسقط ما لا يصح من القراءات ولا يثبت من اللغات وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه) . اهـ . وإذا ثبت ذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بالرسم الإملائي بعد إحكامه وضبط قواعده ، بل هو أولى منه وأدق وأحسن نظاما وأوضح قراءة وأسهل تلاوة ؟
ونوقش ذلك بما يأتي :(7/425)
أ- وقد يقال : لا حرج في قراءة القرآن بالرسم العثماني : فإن سهولة القراءة تدور على معرفة الرسم والتمرين على القراءة به أيا كان ، فإذا عني
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 335)
الإنسان بالرسم العثماني وتعهده بالقراءة سهلت عليه القراءة به كالقراءة حسب قواعد الإملاء ، فإنها سهلت بمعرفة الرسم الإملائي وتطبيقه كتابة وقراءة ، وهذا أمر عام في جميع اللغات ، فإن مبناها المعرفة والمحاكاة والتلقي .
ويشهد لذلك سهولة القراءة في المصحف بالرسم العثماني على من تعلموا طوال القرون الماضية في الكتاتيب إلى العصر الحاضر مع انتشار قواعد الإملاء والعمل بها تأليفا وقراءة ، فالسهولة والصعوبة والوضوح والاشتباه ليس ذاتيا لهذا أو ذاك ، وإنما يرجع ذلك إلى التعهد والعناية ، والإهمال والإعراض .
ب- على أن هناك كلمات تكتب في الرسم الإملائي على طريقة الرسم العثماني مستثناة من القواعد الإملائية ولم يعق ذلك العصريين عن قراءتها أو كتابتها ولم يشق عليهم متابعة الرسم العثماني فيها مثل حذف الألف من ذلك ، وهذا ، وهؤلاء ، ولكن ، وأولئك . . . إلخ ، ومثل زيادة الواو في أولئك ، وأولو الألباب ، وأولي أجنحة ، وزيات الألف في مائة .
ج- إن المشقة التي يعانيها من لم يعرف الرسم العثماني في تلاوة القرآن ليست من جنس الضرورة إلى جمع القرآن ولا من جنس الحاجة إلى نقطه وشكله ، فإنه يمكن القضاء على تلك المشقة بمعرفة الرسم العثماني والتمرس بالقراءة على مقتضاه كما تقدم بيانه ، بخلاف الضرورة إلى جمع القرآن أولا وثانيا : فإنها لا ترتفع إلا بجمعه ولا يقضى عليها إلا به ، وكذا الحال في الحاجة إلى نقطه وشكله ، فإنها لا تزول إلا بذلك ولا تندفع إلا به ، إذ العجمة تتزايد بدخول الأعاجم في الإسلام ، وضعف اللسان
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 336)(7/426)
العربي ، وكثرة اللحن تتزايد أيضا مع طول الزمن وكثرة الاختلاط بالأعاجم ، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل؛ لعدم وجود بديل يقوم مقام ذلك .
د- نعم ، إن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكتوب ، ولكن نوعا من الكتابة كان معهودا عند العرب وكتب به القرآن حين نزوله ، ولم ينكر الله على رسوله ولا على كتبته تقييده بهذا النوع من الكتابة ، بل تحرى عثمان رضي الله عنه أن يكتب في الجمع الثاني بلغة قريش خاصة؛ لكونه نزل بلغتهم واستمر العمل على ذلك قبل وضع قواعد الإملاء وبعد وضعها ، فكان ذلك تقريرا لأمر عثمان وطبقه كتبة المصحف حينما كتبوه في عهده ، وإجماع عصور من الأمة على ذلك وصار بذلك سنة متبعة .(7/427)
رابعا : بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني ، وما قد يترتب على العدول عنه من تحريف ونحوه :
أولا : ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في خلافة عثمان رضي الله عنه بأمره ، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوا ما اختلفوا فيه بلغة قريش وذلك مما يدل على القصد إلى رسم معين ، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وضع قواعد الإملاء ، والعمل بمقتضاها في التأليف والقراءة وكتابة الرسائل ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، فكانت المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم واجبة أو سنة متبعة ، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم ، وعملا بالإجماع .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 337)
ثانيا : إن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح في الخط فهو قابل للتغيير والتبديل باصطلاح آخر مرة بعد أخرى كسائر رسوم الخطوط في اللغة العربية وغيرها ، فإذا عدلنا عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغير الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن ، بتبديل بعض الحروف من بعض ، والزيادة فيها والنقص فيها ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين . ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه ، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار ، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد الذرائع والقضاء عليها؛ محافظة على الدين ، ومنعا للشر والفساد .(7/428)
ثالثا : يخشى إذا وقع ذلك أن يصير كتاب الله- القرآن- ألعوبة بأيدي الناس ، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية وآخرون كتابته بالعبرية . . وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من اقترح كتابته حسب قواعد الإملاء من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع وإقامة الحجة وفي هذا ما فيه من الخطر وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم الكعبة ليعيدها إلى بنائها الذي قام به عبد الله بن الزبير حيث بناها على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بين أيدي الولاة . قال تقي الدين الفاسي في كتابه [شفاء الغرام] : ويروى [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1/ 100) . أن الخليفة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 338)
الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة ، وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، وقال له : نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب هيبته من قلوب الناس . انتهى بالمعنى ، ثم قال : وكان مالك لحظ في ذلك أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهي قاعدة مشهورة معتمدة . اهـ .(7/429)
وخلاصة القول : أن لكل من القول بجواز كتابة المصحف- القرآن - على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر ، غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها ، وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز ، ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع ، وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة .
وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة قد يقال : إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل ، وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم .
والله الموفق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/430)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 339)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (71) وتاريخ 21/10/1399 هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال إلى الحادي والعشرين فيه نظر المجلس فيما رفعه حسين حمزة صالح مدرس العلوم الدينية بمدرسة الإمام أبي حنيفة الابتدائية بمكة . . إلى جلالة الملك المعظم يطلب فيه المعونة في كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية ، والمحال إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3/ ص/ 22035 في 22/ 9/ 1398 هـ . واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية وإن خالف ذلك الرسم العثماني] .
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه . . تبين للمجلس أن هناك أسبابا تقتضي بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي :
1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه ، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين ، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة ، وعملا بإجماعهم .
2 - إن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 340)(7/431)
بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر . . وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم . وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن .
3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها ، وفي هذا ما فيه من الخطر ، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح .
وبناء على هذه الأسباب اتخذ المجلس القرار التالي :
يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني ، ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة؛ محافظة على كتاب الله من التحريف ، واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين .
والله الموفق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح غائب
راشد بن خنين ... محمد بن جبير له وجهة نظر ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن غائب
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان(7/432)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 341)
وجهة نظر
لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير
وجهة نظر عضو هيئة كبار العلماء محمد بن إبراهيم بن جبير حول موضوع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة - الذي بحثه مجلس الهيئة في دورته الرابعة عشرة المنعقدة في مدينة الطائف شهر شوال عام 1399 هـ .
بعد اطلاعي على البحث القيم الذي استوفى جميع أطرافه الموضوع ، والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أثابها الله وبارك في جهودها .
وبعد المناقشة التي تمت في مجلس الهيئة برئاسة سماحة الشيخ / عبد الله بن حميد حول موضوع : (كتابة المصحف بغير الرسم العثماني) وحيث إن الحديث عن هذا الموضوع قديم ، بحثه الأئمة رحمهم الله قبل أكثر من ألف سنة ، وحكموا بما ظهر لهم من التحريم أو الكراهية أو الجواز ، وصنفوا في ذلك المصنفات العديدة ، ولا زال بحث هذا الموضوع يتكرر بين آونة وأخرى إلى يومنا هذا .
وحيث إن قراءة القرآن من المصحف المكتوب بالرسم العثماني على وجه الصواب ستكون خاصة بمن يتلقاه عن القراء ، أما الصغار فسوف يكون تعليمهم من تلك المصاحف عسيرا .
لذلك فإنني أرى أن تطبع المصاحف بالرسم العثماني ، حفظا لهذا الأثر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 342)
العظيم الذي هو أصل ديننا ، على أن يعاد طبع الكلمات بالرسم الإملائي المعتاد على الهامش في حيز خاص ، وذلك تسهيلا لتعلم الصغار وقراءة الكبار الذين لم يتلقوا القرآن عن قارئ .
وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين .
والله الموفق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
عضو هيئة كبار العلماء
محمد بن إبراهيم بن جبير(7/433)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 343)
(6)
كتابة المصحف باللاتينية
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 344)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 345)
كتابة المصحف باللاتينية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ على مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية ، أرسله الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا الشيخ إبراهيم يوسف خان ، وذكر أنه من كتابة المدعو بحر العلوم وطباعة مطبعة سومطرة للطباعة والنشر في مدينة تابعة لمحافظة جاوا الغربية ، وأن جماعة من المغرضين قاموا بدعاية له والترغيب في اقتنائه ، فانتشر هناك في بلاد إندونيسيا ، وفي نفس الدورة اقترح المجلس إعداد بحث في حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية ، على أن يشترك مع لجنة الإعداد من يجيد بعض اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية ليكون معينا لها في تحقيق الغرض المقصود .
وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع مع إشراك بعض من يجيد اللغة الإنجليزية والإندونيسية لترجمة بعض الكلمات أو الجمل ، وللمساعدة في فهم المصطلحات التي كتبت مقدمة لكتابة القرآن بالأحرف اللاتينية .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 346)
ويشتمل البحث على ما يأتي :
1 - مقدمة في تصوير الموضوع .
2 - مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في زعم من فعل ذلك ومناقشتها .
3 - الموانع من كتابته بالأحرف اللاتينية ، مع بيان ما في ذلك من الخطر .
4 - خلاصة البحث .(7/434)
أولا : مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره :
تمهيد :
لما كان الحكم على كتابة المصحف بالحروف اللاتينية بالجواز أو المنع قد يتوقف على معرفة كيفية كتابته بها بدلا من الحروف العربية ، وعلى معرفة رسم ما يتبع ذلك من شكل ومد وتنوين وغنة ونحو ذلك كان لزاما علينا أن فثبت أولا . . . التعليمات التي وضعت لتراعى في كتابته وقراءته بالحروف اللاتينية ، وأن نثبت صورة للحروف والرموز التي تستعمل في الكتابة وتراعى في القراءة ، وأن نذكر البديل من الحروف اللاتينية عن الحروف العربية التي ليس لها بديل مقابل في الحروف اللاتينية ، وأن نذكر ثانيا أمثلة لبعض الفروق في كتابة الحروف والكلمات في النسخة الهندية التي نشرها محمد عبد الحليم الياسي ، والنسخة الإندونيسية الأولى التي نشرها بحر العلوم والنسخة الثانية له؛ ليتبين مدى ما في ذلك من تسهيل قراءة القرآن على كثير من الأعاجم أو صعوبتها ، وليتبين أيضا مدى ما في ذلك من الخطر في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، وبذلك يمكن ذكر دواعي الجواز ودواعي المنع ، وترجيح
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 347)
ما يقتضي النظر ترجيحه ، ولنبدأ بعرض ما ذكر فيما يأتي :
1 - تعليمات وإرشادات النسخ :
أ- إرشادات النسخة الإندونيسية التي نشرها بحر العلوم والحروف والرموز التي اعتمدها فيها .
كيفية قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية
يكون ابتداء تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف العربية غالبا من جزء (عم) والأكثر بالنسبة للأطفال يحتاج تعلمه إلى ثلاث أو أربع سنوات ، وللحصول على قراءة أجود يحتاج الأطفال أحيانا إلى وقت أطول من ذلك .
ونجد كثيرا في الكلمات العربية حروفا مكتوبة في الخط ولا تنطق باللسان عند القراءة ، وعند كتابة تلك الكلمات بالحروف اللاتينية نتخذ رموزا خاصة لها .
انظر الرموز :
1 - رموز الحروف الهجائية .
2 - رموز العلامات .
3 - رموز الوقف .
4 - رموز الشدة (التشديد) .(7/435)
ورموز العلامات هذه نعتبرها دراسة تكميلية لا نحتاج إلى قراءتها .
ويمكن لك تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية في أقصر وقت ، إذا كان اهتمامك له اهتماما جديا وصل إلى درجة الحب والشغف . والطريق الوحيد الذي لا مثيل له لمثل هذا التعلم هو طريق الاستماع .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 348)
بمعنى؛ أنك تستمع لقراءة أستاذك الذي يجيد قراءة القرآن الكريم . وتنظر في نفس الوقت إلى مصحفك اللاتيني (المكتوب بالحروف اللاتينية) وكذلك بالعكس . تقرأ القرآن الكريم عن طريق مصحفك اللاتيني ، والأستاذ يستمع لقراءتك وينظر إلى مصحفه العربي .
وبذلك تجد كيفية تعلم قراءة القرآن الكريم الجيدة ، وطريقته الموصلة المنتجة ، والله نسأل أن يكون هذا المصحف نافعا لك ، وشكرا .
المؤلف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 349)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 350)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 351)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 352)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 353)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 354)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 355)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 356)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 357)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 358)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 359)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 360)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 361)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 362)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 363)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 364)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 365)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 366)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 367)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 368)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 369)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 370)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 371)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 372)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 373)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 374)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 375)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 376)(7/436)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 377)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 378)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 379)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 380)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 381)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 382)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 383)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 384)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 385)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 386)
3 - أضف إلى ما تقدم اقتراحا في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، فإن الكاتب في محاولته لضبط القراءة وتسهيل النطق بالكلمات قد جزأ بعض الكلمات العربية إلى مقطعين بينهما خط أفقي كالفتحة ، وجعل حروف المقطع الأول مع حروف الكلمة السابقة أو بعضها وحروف المقطع الثاني مع الكلمة اللاحقة أو بعضها ، مثال ذلك ما اقترحه في كتابة قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 50 قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
الآية [ الآية 50 من سورة الأنعام ] فإنه كتبها بالحروف اللاتينية على النحو الآتي :
50 - Qul - laaa aquulu lakum indii khazaaa - inul - laahi wa laaa a - lamul - gayba wa laaa aquulu lakum innii malak . Inattabi - u illaa maa youhaa ilayy . Qul hal yasta - wil - a - maa wal - basiir ? Afalaa tatafak - karuun ? ( Section 6 ) .
وفيما سبق من صور كتابة السور السبع بالحروف اللاتينية كثيرة من الأمثلة لذلك .(7/437)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 387)
ثانيا : مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها :
1 - أن القرآن هو الأصل الذي يرجع المسلمون إليه في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم ، وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه ، وأمر بتحكيمه في جميع الشئون والأحوال ، وبينت السنة النبوية فضائله ، وحثت على تعلمه وتعليمه ، والتعبد بتلاوته ، والعمل بما فيه من أحكام ، وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات ، ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ، ويتدبروا آياته ، ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها .
أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية ، وما يتألف منها من الكلام - فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية ، فلكي تسهل عليهم قراءة القرآن ، وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه - يرخص لهم في كتابة القرآن بالحروف التي عهدوا الكتابة بها في بلادهم ، كاللاتينية ، إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب ، فإن التيسير من مقاصد الشريعة ، وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : سورة الحج الآية 78 وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقال : سورة البقرة الآية 185 يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 388)(7/438)
سورة النساء الآية 28 يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا وثبت عن النبي أنه قال : صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412). يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي ، وثبت عنه أنه قال : صحيح البخاري الإيمان (39),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034),سنن ابن ماجه الزهد (4201),مسند أحمد بن حنبل (2/390). إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا . . رواه البخاري والنسائي ، ولا شك أن كتابه القرآن بحروف اللغة التي يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم ، ورفع للحرج عنهم وتعميم للبلاغ ، وإقامة الحجة عليهم .
وليس ذلك بدعا ، بل هو مناسب لمقاصد الشريعة ، وله نظائر ، فقد جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء ، وجمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن ؛ منعا للاختلاف ، ونقط المصحف وشكل في عهد بني أمية حينما أسلم كثير من الأعاجم ، واختلطوا بمسلمي العرب ، فاستعجم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن في التلاوة ، فمحافظة على القرآن وعليهم من اللحن فيه نقط القرآن وشكل ، ولم يكن ذلك منكرا ، بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع ؛ لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها ، فليس ببعيد في حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب في كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم .
إن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التي نزل مكتوبا بها ، وإنما نزل وحيا متلوا ، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا ، فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف ، ولم يكن هناك نص من الكتاب
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 389)(7/439)
أو السنة يلزمهم بذلك ، إنما هو واقع لغتهم الذي التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم في رسم بعض الحروف ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بحروف غير عربية كاللاتينية ، لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر ؟
ونوقش ذلك بأمور :
الأول : أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادي معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا ؟ إشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم ، ورغبة في نيل الشهادات ، وحرصا على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الدواعي التي تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم ، فلا حرج على الأعاجم في أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة ، فإن ذلك في متناول الأيدي ومستوى الطاقة البشرية ، بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن ويطلعوا على السنة النبوية ويأخذوا منها أحكام الإسلام ، بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة ، أو تعلم طب أو صناعة ، أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية ، ومن رجع إلى ماضي المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية ، وأسهموا كثيرا في خدمة العلوم الدينية والعربية ، وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية ، فألفوا في تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه ، بل في البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها .
الثاني : أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت ، أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك ، فلا تكون كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها من جنس جمع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 390)(7/440)
أبي بكر رضي الله عنه القرآن ، ولا جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن . فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية ، وذلك في متناول البشر ، بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما فإن الضرورة التي ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه ، وكذا القول في نقط القرآن وشكله ، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل ، لعدم وجود البديل عن ذلك .
الثالث : أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربي ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية ، والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم أن يكتب الوحي حين ينزل بلغة غير العربية ؛ ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته ولا اتخذ كاتبا للوحي منهم ، بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التي بها نزل ، وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا النهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية ، بل بلغة قريش ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . . .
الرابع : أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها ؛ لوجود حروف في اللغة العربية ليس لها نظير في اللاتينية ، فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا ، واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية ، لتسهل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 391)(7/441)
قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها ، وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها - فهو لا ينقص عنه ، وعلى ذلك تكون كتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم ؛ لكونها اللغة التي بها نزل ، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
الخامس : أن التجزئة في كتابة كلمات الآية ، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ، ليعرف البحر الذي هو منه ، ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ .
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم .
السادس : أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي .
فمثلا : نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية ، وأحيانا يتركه . ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه ، من ذلك ما وقع منه في كتابه ( سورة الناس ) بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر ، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم ، وتحريفه والإلحاد فيه ، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله ، ويشبهون على المسلمين ، ويصاب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل ، وتحريف الكلم عن مواضعه .(7/442)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 392)
ثالثا : بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر :
أ - ثبت أن كتابة المصحف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي جمعه في عهد أبي بكر ، وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنهما - كانت بالحروف العربية ، بل قصد عثمان رضي الله عنه رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين في رسم الحروف ، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا ، رغم وجود لغات وحروف غير عربية ، ووجود كتبة مسلمين من غير العرب ، ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة في المصحف بحروف غير عربية ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة ؛ عملا بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وسائر الصحابة رضي الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير ، وعملا بإجماع الأمة .
ب - أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها ، فهي قابلة للتغيير والتبديل بحروف لغة أخرى ، بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة ، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة ، واختلف الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة ، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض ، والزيادة عليها والنقص منها ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين ، ويجد عدو الإسلام مدخلا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 393)(7/443)
للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه ، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار ، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها ؛ محافظة على الدين ، ومنعا للشر والفساد .
ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله - القرآن - ألعوبة بأيدي الناس ، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه ، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية ، وآخرون كتابته بالسريانية ، وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة ، وفي هذا ما فيه من الخطر العظيم . وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور : ألا يهدم بناء الكعبة الذي أقامه عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذي بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدي الولاة .
قال تقي الدين الفاسي في كتابه [ شفاء الغرام ] : ( ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، وقال له : نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب هيبته من قلوب الناس . انتهى بالمعنى ، ثم قال : وكأنه في ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهي قاعدة مشهورة معتمدة ) . . اهـ .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 394)
ولبعض العلماء كلام في بيان حكم كتابة القرآن بغير العربية نثبته فيما يلي :(7/444)
ذكر جلال الدين السيوطي في [ الإتقان ] [ الإتقان ] ( 2 / 171 ) . : مسألة كتابة القرآن بغير العربية ونقل فيها عن الزركشي احتمال الجواز ، وترجيح المنع من كتابة القرآن بغير الحروف العربية ، قال : قال الزركشي [ البرهان في علوم القرآن ] لبدر الدين الزركشي ( 1 / 380 ) . : هل تجوز كتابته بقلم غير عربي ؟ هذا مما لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء ، ويحتمل الجواز ؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية ، والأقرب المنع ، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ، ولقولهم : القلم أحد اللسانين ، والعرب لا تعرف قلما غير العربي ، وقد قال تعالى : سورة الشعراء الآية 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ اهـ ، ولم يعلق السيوطي على ذلك ، فكأنه رده .
وقد ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في [ مجلة المنار ] ص ( 247 - 277 ) ، من العدد السادس من المجلة تحت عنوان : كتابة القرآن بالحروف الإنجليزية ) . : أن بعض المسلمين في الترنسفال كتب إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر فعرضتها على الشيخ محمد بخيت ، فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته :
أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة .
وجوابه معروف وهو : أنه لا يحرم على الرجل إلا من رضعت هي وإياه من امرأة ، وأما أخت الرضيعة فلا تحرم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 395)
والسؤال الثاني : يتعلق بالاقتداء بالمخالف ، وبينا الراجح فيه عندنا في آخر الجزء الماضي ، وأن في المسألة قولين مصححين ، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف ما رجحناه ، وهو المذكور في كتب الفقه ، وهم أسرى تلك الكتب .
وأما السؤال المهم : فهو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة ( أي : كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية ) وقد أجاب عنه الشيخ بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ، ثم نبين رأينا فيه وهو :(7/445)
سؤال : ما قولكم - علماء الإسلام ومصابيح الظلام - أدام الله وجودكم - هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية ، ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش ، فالإنكليزي مثلا إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تقرأ ( مسر ) ، أو أحمد تكتب ( أهمد ) ، ويكتب ( شيك ) بمعنى : شيخ ، لا سيما وإخواننا المسلمون في مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها ، وبعض المسلمين في جنوبي أفريقية في جدال عنيف : منهم من يجوز ، ومنهم من يقول غير جائز . أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى .
جواب : اعلم أن القرآن هو النظم ، أي : اللفظ الدال ؛ لأنه الموصوف بالإنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ . وأما المعنى ، وحده فليس بقرآن حقيقة . وقيل : إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا . والحق هو الأول الحق : أنه حقيقة فيهما ( اللجنة الدائمة ) . .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 396)(7/446)
وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها ، وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها ، بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى فقد كان تاج المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية . وفي [ النهاية والدراية ] : أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية ، فكتب فكانوا يقرءون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم ، وقد عرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه . وفي [ النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية ] ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته ، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا . وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن ، بل يعتبر تفسيرا له . وفي [ الإتقان ] للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلاما لعلماء مذهبه في كتابة القرآن بالقلم الأعجمي ، وأنه يحتمل الجواز ؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية ، والأقرب المنع ، كما تحرم قراءته بغير العربية ، ولقولهم : القلم أحد اللسانين ، والعرب لا تعرف قلما غير العربي ، وقد قال تعالى سورة الشعراء الآية 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
فتلخص من ذلك : أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها ، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ، ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها ، كالإنكليزية . اهـ .
( المنار ) : عندنا مسألتان :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 397)
إحداهما : ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية ، أي : التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي ، وهذه هي التي سألنا عنها الفاصل الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء .(7/447)
والثانية : كتابة القرآن العربي بحروف غير عربية وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنفالي ، وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة ؛ لذلك رأينا أن ننقله ، ونحرر القول في المسألة تحريرا .
المقصود من الكتابة : أداء الكلام بالقراءة ، فإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة الإنكليزية - فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها ؛ لما فيها من تحريف كلمة ، ومن رضي بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر . وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ : محمد ، فينطق بها ( مهمد ) وبلفظ خاتم النبيين فيقول ( كاتم النبيين ) ، فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم ، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر ، ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام لعلة العجز - لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ، ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر .
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا - ففي المسألة تفصيل : والذي نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 398)(7/448)
بأصل الدين ولا تلاعبا به ، وإن هو خالف الخط العربي فالفرق بين الخط العربي المعروف والخط الكوفي أبعد من الفرق بين الخطين العربي والفارسي ، ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها ، ولكنهم يعتقدونها عربية . وإذا قيل : إنها مختلفة اختلافا لا يكفي لمتعلم ، أحدها : أن يقرأ الآخر كالكوفي والفارسي : نقول : قصارى ما يدل عليه ذلك : أن كل خط جائز بشرطه ، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق على خط واحد . فهم المسلمون هذا من روح الإسلام ، فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان . وذلك من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب ، فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين ، والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين ، ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها ، وكذا يقال في سائر الشعوب . وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي ، وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه .
ولقائل أن يقول : إن في هذا الرأي تضييقا على نشر القرآن . وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام ، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة ، وكتبوها بكل قلم ، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة . فما بال المسلمين ، وغيرهم يتوسعون ، ولنا أن نقول في الجواب : إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها . ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة ، وهي تسهيل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 399)
تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية .(7/449)
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات ، ككونها تبيح المحظورات ، وكونها تقدر بقدرها ، فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه ، فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه ، ثم ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ؛ ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين .
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم . فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا ؟ ؟ ! !
وفي جواب الشيخ بخيت مباحث ليس من غرضنا التوسع فيها ، ونكتفي بأن نقول : إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف ، فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم ، وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم . وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي قريب من العربي ، ولا دخل له أيضا بلين الألسنة .
والصواب : أن الأثر غير صحيح ، وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية ، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله ؟ ! على أن فيه ما في الذي قبله وهو أن القراءة بالفارسية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 400)
لا يلين بها اللسان للعربية ، إلا أن يقال : كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها . انتهى كلام الشيخ محمد رشيد .(7/450)
رابعا : الخلاصة :
1 - ذكر ناشرو نسخ المصاحف التي كتبوها بالحروف اللاتينية : مقدمات بينوا فيها الحروف اللاتينية ، ورمزوا لما يتبعها من شكل ومد وغنة ووقف ووصل ، وذكروا معها توجيهات لكيفية استعمالها كتابة وقراءة ، تسهيلا - في نظرهم - على من يريد كتابة القرآن وقراءته على هذه الطريقة ، ومحافظة على القرآن من دخول أي تغيير عليه .
2 - يتبين بالمقارنة بين النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الأولى والثانية أن بينهما اختلافا فيما يأتي :
أ - في الحروف اللاتينية التي اقترحت لتكون بديلا عن الحروف العربية التي ليس لها مقابل في اللاتينية .
ب - في حذف ( أل ) القمرية و ( أل ) الشمسية من النسخة الهندية وإثباتهما في الإندونيسية ، وحذف الحرفين اللذين جعلا علامة على التنوين مطلقا من آخر الكلمة الأخيرة من كل آية من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في النسخة الإندونيسية الأولى ، وحذف بديل النون والتنوين في بعض أنواع الإدغام من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في الإندونيسية الأولى . . إلى غير ذلك من الحذف في بعضها والإثبات في الآخر .
ج - في رسم الكلمة بتجزئتها إلى مقطعين وعدم تجزئتها ، والفصل بين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 401)
حرفي المضعف بخط كالفتحة وعدم الفصل . . . إلخ .
وكل ذلك يتبين بمراجعة السور السبع في النسخ الثلاث المكتوبة بالحروف اللاتينية والمقارنة بينهما .
3 - لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية مبررات :(7/451)
أ - منها : تسهيل كتابته وقراءته على كثير من الأعاجم ، وتيسير طريق البلاغ ، والدعوة إلى الإسلام ، وإقامة الحجج ، وتعميم ذلك في السواد الأعظم من غير العرب ، ولا شك أن هذا من مقاصد الشريعة ، ونظيره جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن ، خشية ضياعه بموت القراء وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على قراءة واحدة من السبع التي بها نزل القرآن ، خشية الاختلاف ، ونقط القرآن وشكله في عهد بني أمية ، تسهيلا لقراءته على من استعجمت ألسنتهم من أبناء العرب وصيانة لهم من اللحن في التلاوة ، وكل ذلك ليس بمنكر ، بل فيه تحقيق مقاصد الشريعة ، تسهيلا ودعوة وبلاغا وحفظا للقرآن وصيانة له ، فليرخص في كتابته بالحروف اللاتينية لمثل ذلك .
ب - ومنها : أن القرآن لم ينزل مكتوبا ، بل نزل وحيا متلوا ، فكتبه الصحابة بما كان معهودا لديهم من الحروف ، وليس هنا نص من الكتاب أو السنة يلزم الأمة بذلك ، فلم لا تجوز كتابة المصحف بحروف لاتينية مثلا ؛ لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر .
ونوقش ذلك بأمور :
أ - منها : أن تعلم الأعاجم اللغة العربية سهل لا حرج فيه ولا خطر ، فإنه عهد أن كثيرا من الناس يتعلمون غير لغتهم حبا للاستطلاع ووسيلة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 402)
لدراسة بعض العلوم ، وحرصا على تبادل المنافع ، وأن كثيرا من الأعاجم الذين أسلموا تعلموا اللغة العربية وخدموا الإسلام ، بل تحولت دول عن لغتها إلى اللغة العربية . بخلاف ما ذكر من جمع القرآن ونقطه وشكله ، فإن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك ، ولا يدفع الخطر المتوقع إلا به ، وعلى هذا لا اعتبار بما ادعي أنه نظائر ، ولا للاستشهاد به للترخيص في كتابة القرآن بحروف غير عربية ؛ لوجود الفارق .(7/452)
ب - كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير العربية والوحي ينزل ولم يتخذ منهم من يكتب القرآن بغير العربية من الفارسية والحبشية والسريانية ونحوها ، تيسيرا على الأمة وإعانة على تعميم البلاغ وإقامة الحجة ، مع علمه بعموم الرسالة وعلم الله تعالى بأحوال الأمم واختلاف لغاتها ، فإعراضه صلى الله عليه وسلم عما سمي دواعي ومبررات لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، وتقرير الله له على ذلك فيه إلغاء لتلك المبررات وإهدار لها فلا يصح بناء الترخيص عليها .
ج - أن الذين كتبوا المصحف بالحروف اللاتينية أحسوا بأن مجرد كتابته بها لا يحقق التسهيل ؛ لوجود حروف عربية ليس لها مقابل الحروف اللاتينية ، فاضطروا أن يقترحوا لها مقابلا ، واضطروا أن يقارنوا بين الحروف العربية وتوابعها من الشكل والمد ونحوها وبين الحروف اللاتينية والرموز التي وضعت للتوابع ، واضطروا أن يضعوا إرشادات قد وصلت في بعض النسخ أربع عشرة صفحة ، وهذا يحتاج تعليمه والمران عليه كتابة وقراءة إلى جهد ، إن لم يزد على العربية كتابة وقراءة فهو لا ينقص عنه ، وإذن فكتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم ؛ لكونها اللغة التي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 403)
بها نزل ، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
د - أن التجزئة في كتابة كلمات الآية ، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق - تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ؛ ليعرف البحر الذي هو منه ، ويتبع ذلك صفة نطق القارئ .
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم .
هـ - أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي .(7/453)
فمثلا : نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية ، وأحيانا يتركه . ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه ، من ذلك ما وقع منه في كتابته سورة الناس بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية ، إلى غير ذلك مما ينذر بخطر ، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم ، وتحريفه والإلحاد فيه ، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله ، ويشبهون على المسلمين ، ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل ، وتحريف الكلام عن مواضعه .
4 - هناك أمور تقتضي كتابة القرآن بالحروف العربية خاصة منها :
أ - أنه كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه - بالحروف العربية ، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 404)
وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا ، رغم وجود الأعاجم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . الحديث . فوجبت المحافظة على ذلك ؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وعملا بإجماع الأمة .
ب - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها ، فهي قابلة للتغيير عدة مرات بحروف أخرى ، فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ، ويحصل الخلط على مر الأيام ، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب ، كما حصل بالنسبة للكتب السابقة ، فوجب أن يمنع ذلك ، محافظة على أصل الإسلام ، وسدا لذريعة الشر والفساد .(7/454)
ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي الناس ، فيقترح كل أن يكتب بلغته وبما يجد من اللغات ، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع ، فيجب أن يصان كتاب الله عن ذلك ؛ صيانة للإسلام ، وقد تنبه علماء الإسلام لذلك فحرموا كتابته بغير العربية ، حفظا للقرآن وصيانة له من العبث والاضطراب .
وليس فيما ذكر استقصاء لمكامن الشر ، ومثار الخطر ، وإنما هي نماذج مما وقع من الاختلاف والخلط والأخطاء وتمثيل لما يخشى منه وقوع البلاء .
هذا ولم تتعرض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لما جاء في مقدمة النسخة الهندية من الكذب في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفضيل حبر العالم على دم الشهيد ، ومن الغلو في الثناء على محمد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 405)
عبد الحليم الياسي بجعل ما اقترحه ونشره من كتابة القرآن بالحروف اللاتينية مما يتحدى به كما يتحدى بالقرآن ، كما لم تتعرض اللجنة لما قد يكون من أخطاء في ترجمة معاني القرآن المطبوعة مع الترجمة الصوتية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية ، فإن ذلك ليس من موضوع بحثها الذي كلفت به ، ثم إن ترجمة معاني القرآن موضوع مستقل يحتاج إلى بحث خاص في حكمه وفي طريق تطبيقه وفيما وقع منه ، وقد خاض العلماء فيه من قبل ، ونرجو أن يوفقهم الله تعالى لإكمال ما بدءوه . والله المستعان .
وأخيرا : فالبحث في هذا الموضوع للكشف عن جوانبه وإيضاح الحق فيه وإن كان مهما فأهم منه اللقاء بمن نشروا نسخا من الترجمة الصوتية للقرآن ، ومن أثنوا عليها من العلماء والبحث معهم في الموضوع ، وأهم من الأمرين قيام الحكام في الدول الإسلامية بواجبهم نحو حفظ كتاب الله بعد ظهور الحق . .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس(7/455)
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/456)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 406)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 67 ) وتاريخ 21 / 10 / 1399هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399 هـ . إلى الحادي والعشرين منه اطلع المجلس على الخطاب الوارد من مبعوث الرئاسة بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا إلى مدير إدارة الدعوة في الخارج برقم 9 / 1 / 15 / 155 وبدون تاريخ ، المتضمن : أنه ظهر في أسواق إندونيسيا مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية . وسؤاله عما ينبغي اتخاذه حياله والذي أحيل إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخطابه رقم 255 / 1 / د وتاريخ 27 / 1 / 1399 هـ . . واطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [ حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية ] . . بناء على طلب المجلس في الدورة الاستثنائية الثالثة لما عرض الخطاب في تلك الدورة .
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه - قرر المجلس بالإجماع : تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاتينية أو غيرها من حروف اللغات الأخرى ، وذلك للأسباب التالية :
1 - أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين حروفه ومعانيه ، قال تعالى :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 407)(7/457)
سورة الشعراء الآية 192 وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ سورة الشعراء الآية 193 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ سورة الشعراء الآية 194 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ سورة الشعراء الآية 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ والمكتوب بالحروف اللاتينية لا يسمى قرآنا ؛ لقوله تعالى : سورة الشورى الآية 7 وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وقوله : سورة النحل الآية 103 لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
2 - أن القرآن كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه بالحروف العربية ، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود الأعاجم ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95). عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . الحديث ، فوجبت المحافظة على ذلك ؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وعملا بإجماع الأمة .
3 - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها فهي قابلة للتغيير مرات بحروف أخرى فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويحصل التخليط على مر الأيام ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن للاختلاف والاضطراب كما حصل بالنسبة للكتب السابقة ، فوجب أن يمنع ذلك محافظة على أصل الإسلام وسدا لذريعة الشر والفساد .
4 - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 408)
الناس فيقترح كل أن يكتبه بلغته وبما يجد من اللغات ، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع ، فيجب أن يصان القرآن عن ذلك ؛ صيانة للإسلام ، وحفظا لكتاب الله من العبث والاضطراب .(7/458)
5 - أن كتابة القرآن بغير الحروف العربية يثبط المسلمين عن معرفة اللغة العربية التي بواسطتها يعبدون ربهم ، ويفهمون دينهم ، ويتفقهون فيه .
هذا وبالله التوفيق . وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
محمد بن علي الحركان سليمان بن عبيد راشد بن خنين عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط محمد بن جبير صالح بن غصون عبد المجيد حسن عبد الله بن منيع
رئيس الدورة
عبد الله بن محمد بن حميد عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد العزيز بن صالح غائب إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب صالح بن لحيدان(7/459)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 409)
( 7 )
حكم طواف الوداع
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 410)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 411)
حكم طواف الوداع
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فبناء على المحضر رقم ( 11 ) من محاضر دورة مجلس هيئة كبار العلماء الثالثة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين 14 / 10 إلى 21 / 10 / 1398 هـ المتضمن اقتراح إعداد بحث في ( حكم طواف الوداع ) للخارج من مكة ، سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما ، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك . . ؟ وهل يفرق بين من أراد الرجوع لأداء طواف الوداع وبين غيره . . . ؟
أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشمل ما يلي :
أولا : طواف الوداع نسك مستقل أو من مناسك الحج .
ثانيا : الخلاف في حكمه مع الأدلة وما يترتب على ذلك .
ثالثا : هل يطلب من كل من نفر عن البيت بعد النسك أو ممن ينفر خارج الحرم أو خارج المواقيت أو خارج مسافة القصر ؟
رابعا : متى يطالب بالرجوع من ترك الوداع وهل يرجع محرما أم لا ؟
خامسا : هل يجوز لمن أدى النسك أن ينفر مؤقتا من أجل شدة الزحام ثم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 412)
يعود ليودع ؟
ونظرا لترابط وتداخل نصوص العلماء ومناقشتهم لهذه الأمور رأينا ذكر ما تيسر نقله فيها مجتمعا ، وأتبعناه بخلاصة لما تضمنته هذه النقول ، وبالله التوفيق .
وفيما يلي ذكر ذلك :(7/460)
1 - النقول من كتب الحديث وشروحها :
أ - قال البخاري رحمه الله :
( حدثنا مسدد حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض .
حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن قتادة ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه : صحيح البخاري الحج (1669),سنن الدارمي المناسك (1873). أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به ، تابعه الليث حدثني خالد عن سعيد عن قتادة : أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قوله : ( باب طواف الوداع ) قال النووي : ( طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا ، وهو قول أكثر العلماء ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ) انتهى . والذي رأيته في [ الأوسط ] لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء .
قوله : ( أمر الناس ) كذا في رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه على البناء
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 413)(7/461)
لما لم يسم فاعله والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قوله : ( خفف ) ، وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع ، ولفظه عن ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما ، فكأن طاوسا حدث به على الوجهين ؛ ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر ، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف ، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده .
قوله : ( عن قتادة ) سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة ، ويأتي الكلام هناك ، والمقصود منه هنا قوله في آخره : ( ثم ركب إلى البيت فطاف به ) .
قوله : ( تابعه الليث ) أي : تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة ، وقد وصله البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث ، وخالد شيخ الليث هو ابن يزيد ، وذكر البزار والطبراني أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد ، وأن الليث تفرد به عن خالد ، وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث ) [ فتح الباري ] ( 3 / 585 ، 586 ) . .
قال البخاري أيضا :
( باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 414)
الوداع ؟ ) .(7/462)
حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت : صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). خرجنا مهلين بالحج في أشهر الحج وحرم الحج ، فنزلنا بسرف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا . وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجال من الصحابة ذوي قوة الهدي ، فلم تكن لهم عمرة ، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، فقال : " ما يبكيك ؟ " قلت : سمعتك تقول لأصحابك ما قلت ، فمنعت العمرة . قال : " وما شأنك ؟ " قلت : لا أصلي . قال : " فلا يضرك أنت من بنات آدم كتب عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها " قالت : فكنت حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن فقال : " اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما أنتظركما هاهنا " فأتينا في جوف الليل ، فقال : " فرغتما ؟ " قلت : نعم ، فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس ، ومن طاف بالبيت قبل صلاة الصبح ، ثم خرج موجها إلى المدينة .(7/463)
وقال الحافظ : قوله : ( باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع ) أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن : صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904). اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما . . الحديث . قال ابن بطال : ( لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع كما فعلت عائشة ) انتهى .
وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 415)
للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة ، وأيضا فإن قياس من يقول : إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا ، ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا : إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - أن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معا .(7/464)
قوله في الحديث : صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). فنزلنا بسرف في رواية أبي ذر وأبي الوقت ( سرف ) بحذف الباء ، وكذا لمسلم من طريق إسحاق بن عيسى بن الطباع عن أفلح قوله لأصحابه : صحيح البخاري الحج (1623),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/266),سنن الدارمي المناسك (1862). من لم يكن معه هدي ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة ، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة ، ويحتمل التعدد .
قوله : صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). قلت : لا أصلي كنت بذلك عن الحيض وهي من لطيف الكنايات .
قوله : صحيح البخاري الحج (1696). كتب عليك كذا للأكثر على البناء لما لم يسم فاعله ، ولأبي ذر : صحيح البخاري الحج (1696). كتب الله عليك ، وكذا لمسلم .
قوله : صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). فكوني في حجتك ، وفي رواية أبي ذر : سنن أبو داود المناسك (1989). في حجك ، وكذا لمسلم .(7/465)
قوله : صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم بلفظ : صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904). حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفت بالبيت فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب .
قوله : ( فدعا عبد الرحمن ) ، وفي رواية مسلم : ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 416)
قوله : صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904). اخرج بأختك الحرم ، في رواية الكشميهني : " من الحرم " وهي أوضح ، وكذا لمسلم .(7/466)
قوله : صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). فأتينا في جوف الليل في رواية الإسماعيلي : صحيح البخاري الحج (1625),سنن النسائي صلاة العيدين (1589),سنن أبو داود الضحايا (2811),سنن ابن ماجه الأضاحي (3161),مسند أحمد بن حنبل (2/152). من آخر الليل وهي أوفق لبقية الروايات ، وظاهرها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم قبل أبواب أنها قالت : ( صحيح البخاري الحج (1486),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862). فلقيته وأنا منهبطة وهو مصعد ) [ فتح الباري ] ( 3 / 612 ) . .
ب - وقال مسلم رحمه الله :
حدثنا سعيد بن منصور ، وزهير بن حرب قالا : حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . قال زهير : ( ينصرفون كل وجه ) . ولم يقل : ( في ) .(7/467)
حدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة : ( واللفظ لسعيد ) ، قالا : حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج ، أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس ، قال : ( كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت : تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ؟ ) فقال له ابن عباس : إما لا ، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول : ( ما أراك إلا قد صدقت ) .
حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ( ح ) ، وحدثنا محمد بن رمح ، حدثنا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 417)
الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة وعروة أن عائشة قالت : حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، قالت عائشة : فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري المغازي (4140),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك الحج (822),سنن الدارمي المناسك (1917). أحابستنا هي ؟ " قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلتنفر .(7/468)
حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى ، وأحمد بن عيسى ، قال أحمد : حدثنا ، وقال الآخران : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذا الإسناد ، قالت : ( طمثت صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد ما أفاضت طاهرا ) بمثل حديث الليث .
وحدثنا قتيبة ، يعني : ابن سعيد ، حدثنا ليث ( ح ) ، وحدثنا زهير بن حرب ، حدثنا سفيان ( ح ) ، وحدثني محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب ، كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة : ( أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت ) ، بمعنى حديث الزهري ، وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا أفلح عن القاسم بن محمد عن عائشة ، قالت : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحابستنا صفية ؟ " قلنا : قد أفاضت ، قال : فلا إذن .
حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). يا رسول الله ، إن صفية بنت حيي قد حاضت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلها تحبسنا ، ألم تكن قد طافت معكن بالبيت ؟ ! " قالوا : بلى :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 418)
قال : فاخرجن .(7/469)
حدثني الحكم بن موسى ، حدثني يحيى بن حمزة ، عن الأوزاعي - لعله قال - عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). وإنها لحابستنا ، فقالوا : يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر ، قال : " فلتنفر معكم .
حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ( ح ) ، وحدثنا عبيد الله بن معاذ - واللفظ له - حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة ، فقال : " عقرى حلقى ، إنك لحابستنا " ثم قال لها : " أكنت أفضت يوم النحر ؟ " قالت : نعم . قال : " فانفري .
وحدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ( ح ) ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن منصور - جميعا - عن إبراهيم عن الأسود ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الحكم غير أنهما لا يذكران ( كئيبة حزينة ) .
قال النووي رحمه الله [ صحيح مسلم بشرح النووي ] ( 9 / 78 - 82 ) . :
( باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض ) .(7/470)
قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت فيه دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع ، وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 419)
مذهبنا ، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين .
قوله : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ، ولا يلزمها دم بتركه ، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة ، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع ، دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده .(7/471)
قوله : ( فقال ابن عباس : إما لا فسل فلانة الأنصارية ) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة هذا هو الصواب المشهور ، وقال القاضي : ضبطه الطبري والأصيلي ( أما لي ) بكسر اللام ، قال : والمعروف من كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل ، قال المازري : قال ابن الأنباري : قولهم : افعل هذا إما لا فمعناه افعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن ، كما قال الله تعالى : سورة مريم الآية 26 فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فاكتفوا بـ ( لا ) عن الفعل ، كما تقول العرب : ( إن زارك فزره وإلا فلا ) ، هذا ما ذكره القاضي ، وقال ابن الأثير في [ نهاية الغريب ] : ( أصل هذه الكلمة إن وما فأدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها ، وقد أمالت العرب ( لا ) إمالة خفيفة - قال - والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 420)
وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا ) والله أعلم .
قولها : ( صفية بنت حيي ) بضم الحاء وكسرها ، الضم أشهر ، وفي حديثها دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض ، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه ، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها ، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر ، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة بقيت محرمة ، وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه ومعناه وفقهه في أوائل كتاب الحج في باب ( بيان وجوه الإحرام بالحج ) .
قوله : ( حدثني الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة ) هكذا وقع في معظم النسخ ، وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ ، قال : وسقط عند الطبري .(7/472)
قوله : ( لعله ) قال عن يحيى بن أبي كثير ، قال : وسقط لعله ، قال : فقط لابن الحذاء ، قال القاضي : وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أو شك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب ونبه على إلحاقه بقوله : لعله . قوله : ( قالوا : يا رسول الله ، إنها قد زارت يوم النحر ) فيه دليل لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة ، وقال مالك : يكره ، وليس للكراهة حجة تعتمد . قولها : ( تنفر ) بكسر الفاء وضمها ، الكسر أفصح ، وبه جاء القرآن . والله أعلم .
ج - قال الزيلعي رحمه الله [ نصب الراية ] ( 3 / 123 ) . :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 421)
الحديث الحادي عشر : روي أنه عليه السلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر ، قلت : أخرج البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ، وأخرج البخاري في الحيض عن ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1933). رخص للحائض أن تنفر بعد الإفاضة . قال : وكان ابن عمر يقول أولا : أنها لا تنفر ، ثم رجع . وقال : ( تنفر ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن ) . انتهى .
وأخرج الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض ورخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في [ المستدرك ] ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .(7/473)
د - قال الترمذي رحمه الله [ تحفة الأحوذي ] ( 4 / 20 ، 21 ) . :
( باب ما جاء أن مكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثا ) . حدثنا أحمد بن منيع ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد ، سمعت السائب بن يزيد ، عن العلاء بن الحضرمي - يعني : مرفوعا - قال : صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير هذا .
قال صاحب [ تحفة الأحوذي ] : باب ما جاء أن مكث المهاجر بعد الصدر ثلاثا ، قال في [ النهاية ] : ( الصدر بالتحريك رجوع المسافر من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 422)
مقصد ، والشاربة من الورد ، يقال : أصدر يصدر صدورا وصدرا . انتهى . وقال في [ المجمع ] : ( أي : بعد الرجوع من منى وكان إقامة المهاجر بمكة حراما ثم أبيح بعد قضاء النسك ثلاثة أيام ) . انتهى .
قوله : ( يمكث ) بضم الكاف من باب نصر ينصر ، أي : يقيم ( المهاجر بعد قضاء نسكه ) أي : بعد رجوعه من منى ، كما قال في الرواية الأخرى : بعد الصدر ، أي : الصدر من منى ، قال النووي : ( بمكة ثلاثا ) أي : يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه ، ولا يجوز له الزيادة عليها ، لأنها بلدة تركها لله تعالى فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة ؛ لأنه يشبه العود إلى ما تركه لله تعالى .
قال النووي : ( معنى الحديث : أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها ، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة ) . انتهى .(7/474)
قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) ، وأخرجه البخاري في الهجرة ، ومسلم في الحج ، وأبو داود أيضا في الحج ، وأخرجه النسائي أيضا في الحج وفي الصلاة ، وابن ماجه في الصلاة ( وقد روي من غير هذا الوجه بهذا الإسناد مرفوعا ) إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى [ الصحيحين ] والسنن وقد ذكرنا مواقع الحديث فيها .
هـ - قال الشوكاني رحمه الله [ نيل الأوطار ] ( 5 / 170 - 172 ) . :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 423)
عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (1/222),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه ، وفي رواية : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ، وعن ابن عباس : صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (1/370). أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة رواه أحمد ، وعن عائشة قالت : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : " أحابستنا هي ؟ " قلت : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، قال : " فلتنفر إذن متفق عليه .(7/475)
قوله : " لا ينفر أحد . . . " إلخ . فيه دليل على وجوب طواف الوداع ، قال النووي : وهو قول أكثر العلماء ، ويلزم بتركه دم ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، قال الحافظ : والذي رأيته لابن المنذر في [ الأوسط ] أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء . انتهى ، وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وآله وسلم به ونهيه عن تركه ، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب ، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب . قوله : ( أمر الناس ) بالبناء على ما لم يسم فاعله ، وكذا قوله : ( خفف ) .
قوله : " إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة " . قال ابن المنذر : قال عامة الفقهاء بالأمصار : ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع ، وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 424)(7/476)
حائضا لطوافي الوداع ، فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها ، قال : وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك ، وبقي عمر فخالفناه ؛ لثبوت حديث عائشة ، وروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد : ( كان الصحابة يقولون : إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت ، إلا عمر ) . وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي عن عمر أنه قال : سنن الترمذي الحج (946),سنن أبو داود المناسك (2004),مسند أحمد بن حنبل (3/416). ليكن آخر عهدها بالبيت . وفي رواية كذلك : حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض ، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934). حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفر ، وحاضت صفية فقالت لها عائشة : حبستنا ، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنفر ورواه سعيد بن منصور في كتاب المناسك ، وإسحاق في مسنده ، والطحاوي ، وأصله في البخاري ، ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي ، والترمذي ، وصححه الحاكم ، عن ابن عمر قال : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج فليكن آخر عهده البيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .(7/477)
قوله : " فلتنفر إذن " أي : فلا حبس علينا حينئذ ، لأنها قد أفاضت فلا مانع من التوجه والذي يجب عليها قد فعلته ، وفي رواية للبخاري : " فلا بأس انفري " ، وفي رواية له : " اخرجي " ، وفي رواية : " فلتنفر " . ومعانيها متقاربة ، والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة ، واستدل بقوله : " أحابستنا " على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 425)
ممن لم تطف للإفاضة ، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة ، وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر ، والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا : أميران وليسا بأميرين : من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها ، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ .(7/478)
2 - النقول من كتب الفقهاء :
أ - الحنفية :
قال صاحب [ المبسوط ] [ المبسوط ] ( 4 / 34 ، 35 ) . :
الثالث : طواف الصدر : وهو واجب عندنا ، سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى ، قال : لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منها يأتي به الآفاقي دون المكي ، وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء . ( ولنا ) في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف ورخص للنساء الحيض ، والأمر دليل الوجوب ، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضا ، وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل من إحرام الحج ، فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها ، وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر ، ويسمى هذا : طواف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 426)
الوداع ، فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه .(7/479)
فأما الطواف الرابع : فهو طواف العمرة : وهو الركن في العمرة ، وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم ، أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك - فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج ، فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن ، وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في العمرة : طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج ، ولكنا نقول : إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر ، كالوقوف في الحج ؛ لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك ، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك ، ولأن ما هو معظم الركن مقصود ، وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا .
وقال صاحب [ بدائع الصنائع ] [ بدائع الصنائع ] ( 2 / 142 ، 143 ) . :
( فصل ) : وأما طواف الصدر : فالكلام فيه يقع في مواضع ، في بيان وجوبه ، وفي بيان شرائطه ، وفي بيان قدره وكيفيته ، وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه ، وفي بيان وقته ، وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف .
أما الأول : فطواف الصدر واجب عندنا ، وقال الشافعي : سنة ، وجه قوله مبني على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب ، وليس بفرض بالإجماع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 427)(7/480)
فلا يكون واجبا لكنه لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة ، وأنه دليل السنة ، ثم دليل عدم الوجوب أنا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء ، ولو كان واجبا لوجب عليهما ، كطواف الزيارة ، ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف ، ودليل الوجوب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف ومطلق الأمر لوجوب العمل ، إلا أن الحائض خصت عن هذا العموم بدليل ، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم ، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة . والله أعلم .
( فصل ) : وأما شرائطه : فبعضها شرائط الوجوب ، وبعضها شرائط الجواز . أما شرائط الوجوب فمنها : أن يكون من أهل الآفاق فليس على أهل مكة ، ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا ؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت ، ولهذا يسمى : طواف الوداع ، ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم ، وهذا لا يوجد في أهل مكة ؛ لأنهم في وطنهم ، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة ، وقال أبو يوسف : أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر ؛ لأنه وضع لختم أفعال الحج ، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة ، ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدا بأن توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو من أحد وجهين : إما أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول ، وإما أن نوى بعدما حل النفر الأول ، فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 428)(7/481)
أي : لا يجب عليه بالإجماع ، وإن نوى بعدما حل النفر الأول لا يسقط ، وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : يسقط عنه إلا إذا كان شرع فيه ، ووجه قوله : إنه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة ، وليس على أهل مكة طواف الصدر ، إلا إذا شرع فيه ؛ لأنه وجب عليه بالشروع فلا يجوز له تركه ، بل يجب عليه المضي فيه ، ووجه قول أبي حنيفة : أنه إذا حل له النفر فقد وجب عليه الطواف لدخول وقته ، إلا أنه مرتب على طواف الزيارة ، كالوتر مع العشاء ، فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل ، كما إذا نوى الإقامة بعد خروج وقت الصلاة . ومنها : الطهارة من الحيض والنفاس ، فلا يجب على الحائض والنفساء حتى لا يجب عليهما الدم بالترك ، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف لا إلى بدل ، فدل أنه غير واجب عليهن ، إذ لو كان واجبا لما جاز تركه إلا إلى بدل وهو الدم ، فأما الطهارة عن الحدث والجنابة فليست بشرط للوجوب ، ويجب على المحدث والجنب ؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا . والله أعلم .
( فصل ) : وأما شرائط جوازه ، فمنها : النية ، لأنه عبادة فلا بد له من النية ، فأما تعيين النية فليس شرطا حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا ، أو نوى تطوعا كان للصدر ؛ لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه ، كما في صوم رمضان ، ومنها : أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا ، أو نوى تطوعا ، أو الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر ؛ لأن الوقت له طواف ، وطواف الصدر مرتب عليه فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 429)(7/482)
الصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر ، فإن قيل : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف ، فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت ، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به ، فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به ، فالجواب : أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة ، والطواف آخر مناسكه بالبيت وإن تشاغل بغيره ، وروي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل ، وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه ، فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به ، والأفضل : أن يعيد طاهرا ، فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا ؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة ، كما لو ترك أكثر الأشواط ، وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة : في رواية : عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين ، وفي رواية عليه شاة ؛ لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة ، وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز ، ولكن يجب عليه الدم ، وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه ، والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة . والله أعلم .
( فصل ) وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الأطوفة ، ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى .
( فصل ) : وأما وقته فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال : ينبغي للإنسان إذا أراد السفر أن يطوف طواف الصدر حين يريد أن ينفر ، وهذا بيان الوقت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 430)(7/483)
المستحب لا بيان أصل الوقت ، ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء ، حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا - جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف ، إلا أن الأصل أن يكون طوافه عند الصدر ؛ لما قلنا ، ولا يلزمه شيء بالتأخير عن أيام النحر بالإجماع .
( فصل ) : وأما مكانه فحول البيت لا يجوز إلا به ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934). من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف والطواف بالبيت هو : الطواف حوله ، فإن نفر ولم يطف ، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات ، لأنه ترك طوافا واجبا ، وأمكنه أن يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الإحرام ، فيجب عليه أن يرجع ويأتي به ، وإن جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع ، لأنه لا يمكنه الرجوع إلا بالتزام عمرة بالتزام إحرامها ، ثم إذا أراد أن يمضي مضى وعليه دم ، وإن أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع ، وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره عن مكانه . وقالوا : الأولى أن لا يرجع ويريق دما مكان الطواف ؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه ، لما فيه من دفع مشقة السفر وضرر التزام الإحرام . والله أعلم . اهـ .(7/484)
ب - فقهاء المالكية :
قال ابن رشد رحمه الله [ بداية المجتهد ] ( 1 / 273 ) . :
القول في أعداده وأحكامه :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 431)
وأما أعداده : فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع : طواف القدوم على مكة ، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وطواف الوداع ، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة ، وأنه المعني بقوله تعالى : سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وأنه لا يجزئ عنه دم ، وجمهورهم على : أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة ؛ لكونه قبل يوم النحر ، وقالت طائفة من أصحاب مالك : إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة ، كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد ، وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة ، وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر : أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة ، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل ، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة ، كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم ، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين ، طواف للعمرة لحله منها ، وطواف للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور ، وأما المفرد فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر ، واختلفوا في القارن : فقال مالك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 432)(7/485)
والشافعي وأحمد وأبو ثور : يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد ، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر ، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم ، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى : على القارن طوافان وسعيان ، ورووا هذا عن علي وابن مسعود ؛ لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه ، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا .
وقال الدسوقي [ حاشية الدسوقي ] ( 2 / 47 ) . رحمه الله :
حاصل المسألة : أن الخارج إلى مكة إذا قصد التردد لها فلا وداع عليه مطلقا وصل للميقات أم لا ، وإن قصد مسكنه أو الإقامة طويلا فعليه الوداع مطلقا ، وإن خرج لاقتضاء دين أو زيارة أهل نظر ؛ فإن خرج لنحو أحد المواقيت ودع ، وإن خرج لدونها كالتنعيم فلا وداع ، هذا محصل كلام ( ح ) .
قوله : ( لا لقريب كالتنعيم والجعرانة ) أي : ما لم يخرج ليقيم فيه ؛ لكونه مسكنه ، أو ليقيم فيه طويلا وإلا طلب منه .
قوله : ( وإن صغيرا ) مبالغة في قوله وندب طواف الوداع إن خرج لكالجحفة ، أي : وإن كان ذلك الخارج صغيرا ، وظاهره ولو كان غير مميز فيفعله عنه وليه .
قوله : ( وتأدى . . إلخ ) الحاصل أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته ، بل يكون آخر عهده من البيت الطواف ، فلذلك يتأدى بطواف الإفاضة أو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 433)
العمرة ، ولا يكون سعيه لها طولا حيث لم يقم عندها إقامة تقطع حكم التوديع ، والمراد بتأديه بهما : أنه لا يستحب لمن طاف للإفاضة أو للعمرة ، ثم خرج من فوره أن يطوف للوداع ، بل يسقط عنه الطلب بما ذكر ، ويحصل له فضل الوداع إن نواه بما ذكر ، قياسا على تحية المسجد .(7/486)
ج - فقهاء الشافعية :
قال النووي رحمه الله [ المجموع شرح المهذب ] ( 8 / 253 - 257 ) . :
قال المصنف رحمه الله : ( إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع ، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف ، وهل يجب طواف الوداع أم لا ؟ فيه قولان :
( أحدهما ) : أنه يجب ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت .
( والثاني ) : لا يجب ؛ لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه ، فإن قلنا : إنه واجب وجب بتركه الدم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : من ترك نسكا فعليه دم . وإن قلنا : لا يجب ، لم يجب بتركه دم ؛ لأنه سنة فلا يجب بتركه دم ، كسائر سنن الحج ، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع ؛ لأنه لا توديع مع المقام ، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع ، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا - لم يعد الطواف ؛ لأنه لا يصير بذلك مقيما ، وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره ( فإن قلنا ) : إنه واجب نظرت ، فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم ، فإن عاد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 434)(7/487)
وطاف لم يسقط الدم ؛ لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول ، فإن ذكر ذلك وهو في مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم ؛ لأنه في حكم المقيم ، ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع ؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض ، فإن نفرت الحائض ثم طهرت ، فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف ) .
( الشرح ) حديث ابن عباس الأول : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده رواه مسلم ، وحديثه الآخر : ( أمر الناس . . ) إلى آخره ، رواه البخاري ومسلم ، وحديث : من ترك نسكا فعليه دم سبق بيانه في هذا الباب مرات .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال : " عقرى ، حلقى ، إنك لحابستنا " ثم قال لها : " أكنت أفضت يوم النحر ؟ " قالت : نعم . قال : " فانفري رواه البخاري ومسلم . والوداع بفتح الواو ، وتنفر بكسر الفاء .
أما الأحكام ففيها مسائل :(7/488)
( إحداها ) : قال أصحابنا : من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع ، وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا ، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق ، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف ، وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : أصحهما : أنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 435)
واجب ، والثاني : سنة ، وحكي طريق آخر أنه سنة قولا واحدا ، حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب . والمذهب : أنه واجب .
قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا نصه في [ الأم ] والقديم ، والاستحباب هو نصه في الإملاء ، فإن تركه أراق دما ( فإن قلنا ) : سنة فالدم سنة ، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب . والله أعلم .
( الثانية ) : إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى ، ولزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة ، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك ، ومتى لم يعد لزمه الدم ، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم ، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان :
( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : لا يسقط .
( والثاني ) : حكاه الخراسانيون وجهان : ( أصحهما ) : لا يسقط ، ( والثاني ) : يسقط .
( الثالثة ) : ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه ؛ لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق ، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام ، وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى .
ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع ؛ لزوال عذرها ، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف ، وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي : أنه لا يلزمها ، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود . وللأصحاب طريقان : ( المذهب ) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور ؛(7/489)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 436)
لأنه مقصر بخلاف الحائض .
( والطريق الثاني ) : حكاه الخراسانيون فيهما قولان : ( أحدهما ) : يلزمهما ، ( والثاني ) : لا يلزمهما . ( فإن قلنا ) : لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم ؟ فيه طريقان : المذهب وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة ، والثاني : حكاه جماعة من الخراسانيين ، فيه وجهان أصحهما هذا ، والثاني الحرم ، وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها ، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع .
( الرابعة ) : ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ، ويعقبه الخروج بلا مكث ، فإن مكث نظر : إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف ، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما ، فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان : قطع الجمهور بأنه لا يحتاج ، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين ، ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يعد الطواف ، نص عليه الشافعي في الإملاء ، واتفق عليه الأصحاب . والله أعلم .
( الخامسة ) : حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط ، وفيه وجه لأبي يعقوب الأيبوردي أنه يصح بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم ، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم ، وهو غلط ظاهر . والله تعالى أعلم .
( السادسة ) : هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة ؟ فيه خلاف ، فقال إمام الحرمين والغزالي : هو من المناسك وليس على الحاج
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 437)(7/490)
والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه ، وقال البغوي والمتولي وغيرهما : ليس طواف الوداع من المناسك ، بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو آفاقيا ، وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام ، قال الرافعي : ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع ، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه ، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج ، هذا كلام الرافعي ، ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في [ صحيح مسلم ] وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك ، وحقيقته أن يكون قضاها كلها . والله أعلم .
( فرع ) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي : أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر ، قال : ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه ، والصحيح المشهور : أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة ؛ لعموم الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره .
( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه ، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه ؟ قال صاحب البيان : اختلف أصحابنا المتأخرون فيه ، فقال(7/491)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 438)
الشريف العثماني : يجزئه ؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها ، ومنهم من قال : لا يجزئه ، وهو ظاهر كلام الشافعي ، وظاهر الحديث ؛ لأن الشافعي قال : وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله ، هذا كلام صاحب البيان ، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب . والله أعلم .
( فرع ) قال صاحب البيان : قال الشيخ أبو نصر في المعتمد : ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا ، وقال سفيان الثوري : يلزمه الدم . دليلنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع . والله أعلم .
( فرع ) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم ، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا : دخول الحرم يوجب الإحرام . قال الدارمي : يلزم الإحرام ؛ لأنه دخول جديد - قال - ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام . والله أعلم .(7/492)
د - فقهاء الحنابلة :
قال ابن قدامة رحمه الله [ المغني ] ( 3 / 458 - 462 ) . :
( مسألة ) قال : ( فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره ، حتى يكون آخر عهده بالبيت ) .
وجملة ذلك : أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها ، أو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 439)
الخروج منها ، فإن أقام بها فلا وداع عليه ؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم ، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ، ولا يصح ؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر ، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وهذا ليس بنافر ، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع ، وهو واجب من تركه لزمه دم ، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور ، وقال الشافعي في قول له : لا يجب بتركه شيء ؛ لأنه يسقط عن الحائض ، فلم يكن واجبا كطواف القدوم ، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم .(7/493)
( ولنا ) ما روى ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ، ولمسلم قال : كان الناس ينصرفون كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره ، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها ، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها ، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى ، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف ، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة ، ويسمى طواف الوداع ؛ لأنه لتوديع البيت ، وطواف الصدر ؛ لأنه عند صدور الناس من مكة ، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ، ولذلك قال النبي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 440)
صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). حتى يكون آخر عهده بالبيت .(7/494)
( فصل ) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي : أنه لا يخرج حتى يودع البيت ، وهذا قول أبي ثور ، وقياس قول مالك ، ذكره ابن القاسم ، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر ، وأهل المواقيت : إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع ؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام ، بدليل سقوط دم المتعة عنهم .
( ولنا ) عموم قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد .
( فصل ) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ، ففيه روايتان : إحداهما : يجزئه عن طواف الوداع ؛ لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه ، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة ، وعنه : لا يجزئه عن طواف الوداع ؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى ، كالصلاتين الواجبتين .
( مسألة ) قال : ( فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ) .
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ، فإن طاف للوداع ، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته ، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور ، وقال أصحاب الرأي : إذا طاف للوداع ، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع ، وإن أقام شهرا أو أكثر ؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته ، كما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 441)
لو نفر عقيبه .(7/495)
( ولنا ) قوله عليه السلام : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه ، كما لو طافه قبل حل النفر ، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده ؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت ، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما .
( مسألة ) قال : ( فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم . ) .
هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، والقريب : هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، والبعيد : من بلغ مسافة القصر ، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي ، وكان عطاء يرى الطائف قريبا ، وقال الثوري : حد ذلك الحرم ، فمن كان في الحرم فهو قريب ، ومن خرج منه فهو بعيد .
ووجه القول الأول : أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام ، وقد روي أن عمر ( رد رجلا من مر إلى مكة ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ) رواه سعيد ، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه ، والمعذور وغيره كسائر واجباته ، فإن رجع البعيد فطاف للوداع . فقال القاضي : لا يسقط عنه الدم ؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 442)(7/496)
فلم تسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه ، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه ؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب .
( فصل ) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما ؛ لأنه ليس من أهل الأعذار ، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي ، وطواف لوداعه ، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف ، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه ، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله : إنه لا يلزمه إحرام ؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به ، فأشبه من رجع لطواف الزيارة ، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة ، فقال أحمد : أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف ، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك ، وإنما دخل لحاجة غير متكررة ، فأشبه من يدخلها للإقامة بها .
( مسألة ) قال : ( والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ، ولا وداع عليها ولا فدية ) .
هذا قول عامة فقهاء الأمصار ، وقد روي عن عمر وابنه أنهما ( أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع ) وكان زيد بن ثابت يقول به ، ثم رجع عنه : فروى مسلم ( أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا ) قال طاوس : كنت مع ابن عباس إذ قال : ( زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ، فقال له ابن عباس : أما لا تسأل فلانة الأنصارية ، هل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 443)
أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؟ قال : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك ، وهو يقول : ما أراك إلا قد صدقت ) .(7/497)
وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا ، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا : صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (942),سنن الدارمي المناسك (1917). يا رسول الله ، إنها حائض ، فقال : " أحابستنا هي ؟ " قالوا : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت يوم النحر ، قال : فلتنفر إذن ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها ، وفي حديث ابن عباس : ( إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض ؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط .
( فصل ) وإذا نفرت الحائض بغير وداع ، فطهرت قبل مفارقة البنيان ، رجعت فاغتسلت وودعت ؛ لأنها في حكم الإقامة ، بدليل أنها لا تستبيح الرخص ، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت ، أو مضت لغير عذر فعليها دم ، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة ، كالخارج من غير عذر .
قلنا : هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر ؛ لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول ، وهاهنا لم يكن واجبا ، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ثم إذا نفر من منى ، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح ، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة - ثم نفر بعد ذلك فحسن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات ، وخرج ، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى ، لكنه ودع البيت ، وقال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت ، فيطوف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 444)
طواف الوداع ، حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه .(7/498)
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها ، لكن إن قضى حاجته ، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع ، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ؛ ليحمل المتاع على دابته ، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل ، فلا إعادة عليه ، وإن أقام بعد الوداع أعاده ، وهذا الطواف واجب عند الجمهور ، لكن يسقط عن الحائض .
وقال ابن جاسر [ مفيد الأنام ونور الظلام ] ( 2 / 127 - 137 ) . وفقه الله :
فإذا أتى مكة متعجل ، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره ، لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ، إذا فرغ من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). حتى يكون آخر عهده بالبيت إن لم يقم بمكة أو حرمها ، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه ، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم ، سواء كان حرا ، أو عبدا ، ذكرا ، أو أنثى ، صغيرا ، أو كبيرا ، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير ، فليراجع عند الاحتياج إليه ، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ، وفي رواية عنه قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 445)(7/499)
النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه ، وعن ابن عباس : صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (1/370). أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة رواه أحمد ، وعن عائشة قالت : صحيح البخاري الحج (1670),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك الحج (822),سنن الدارمي المناسك (1917). حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحابستنا هي ؟ " قلت : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال : فلتنفر إذن متفق عليه ، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع ، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره ؛ لما تقدم ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه ، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة ، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها ، ولكن إن قضى حاجته ، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع ، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ؛ ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك ، مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه ، وإن أقام بعد الوداع أعاده ، وهذا الطواف واجب عند الجمهور ، ولكن يسقط عن الحائض ) انتهى كلامه .(7/500)
ومن مفهومه يؤخذ : أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل - أنه يلزمه إعادة الوداع ، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها ؛ لأن هذا يعد إقامة ، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت ، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا ، فإنه لا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 446)
يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه . والله أعلم .
وقال في [ الترغيب والتلخيص ] : لا يجب طواف الوداع على غير الحاج ، قال في [ الفروع ] : ( وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع ) انتهى .
قلت : كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في [ الفروع ] ، قال شيخ الإسلام : ( وطواف الوداع ليس من الحج ، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة ) انتهى . والمذهب : وجوبه على كل من أراد الخروج من مكة وبلده في غير الحرم .
( هذا بحث نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب ) وهو أن يقال : هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا ؟
فنقول وبالله التوفيق : قال في [ المنتهى وشرحه ] : ( فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ) انتهى ملخصا ، قال الشيخ عثمان النجدي : ( فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه ، صرح به في [ الإقناع ] عن الشيخ تقي الدين في موضع ) انتهى .
قلت : ألم أجد ذلك في [ الإقناع ] بعد المراجعة مرارا ، اللهم إلا أن يكون مراده بذلك قوله الآتي : وطواف الوداع ليس من الحج . . إلى آخره . وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين ) .
وقال النووي الشافعي : ( ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع ) انتهى ، قال ابن حجر المكي : ( أي : بعد نفره(8/1)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 447)
وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في [ المجموع ] ) انتهى ، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي : ( وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به ) .
وقال ابن نصر أيضا : ( وقوة الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى ، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا ، ويؤخذ ذلك من قولهم : من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع ، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة ) انتهى .
قلت : ( بل قد صرح به [ المغني ] حيث قال : فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر ، أي : فإنه لا يجزئه ) قال في [ المغني ] : ( ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). حتى يكون آخر عهده بالبيت انتهى ، قال في [ الإنصاف ] : ( وظاهر كلام المصنف - يعني : الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة ، قال في [ الفروع ] : وهو ظاهر كلامهم ، قال الآجري : يطوف من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر ) انتهى ، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال : ( وأخبرنا جماعة : أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر ، والفراغ من واجبات الحج ، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى ، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب ، ولو تحقق ما صرح به الزركشي و [ المغني ] و [ الشرح الكبير ](8/2)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 448)
وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال ) ، قال الخرقي : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، قال الزركشي : والمراد الخروج من الحرم ، قال في الشرح : ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ، وكذا قال في [ المغني ] ، قال : ولقد كشفت قريبا من خمسين كتابا من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم ، وأفتى به عنهم ، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب ؟ ! والصريح عنهم العكس ، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج في كلام الخرقي ، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك ، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم ، ولعله ذهل عن وقت الطواف : أعني : طواف الوداع ، ولو حقق النظر في [ المغني ] و [ الشرح الكبير ] وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك ، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في [ فروعه ] قال : فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه ، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع ، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور ، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح ) انتهى كلام ابن عطوة .
قلت : أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة ، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة ، قال الخرقي : ( فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت ، قال الموفق في [ المغني ] : وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو : إما أن يريد الإقامة بها ، أو الخروج منها ، فإن أقام بها فلا وداع عليه ، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع ، وهو واجب من تركه لزمه دم ) انتهى ملخصا ، ومثله
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 449)(8/3)
في [ الشرح الكبير ] ، قال في [ الإقناع وشرحه ] : ( فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف . . . إلى أن قال : وهو على كل خارج من مكة ) انتهى ملخصا ، قال في [ المنتهى وشرحه ] : ( فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ) انتهى ، وقال في [ الإقناع ] أيضا : ( قال الشيخ : وطواف الوداع ليس من الحج ، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة ، قال في [ المستوعب ] : ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع ) انتهى ، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى - فلا تسلم له صحة فتواه هذه ؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ، ولو لم يكن طريق بلده عليها ، لوجوب طواف الوداع عليه ، ولما تقدم عنه أيضا : أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى ، فلو ودع قبلها لم يجزئه ، قال في [ المغني ] بعد كلام سبق : ( ولأنه إذا أقام بعده أي : طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه ، كما لو طافه قبل حل النفر . . إلخ ) فجعل صاحب [ المغني ] ما إذا طاف للوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء ، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر ، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة ، فعلم منه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه ؛ لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر . والله أعلم ، ومثله في [ الشرح الكبير ] ، وأما توجيه صاحب [ الفروع ] الذي نصه : ( فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه ) فمراده - والله أعلم - إذا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 450)(8/4)
كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع ، وقد نص العلماء : أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره ، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار ، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره ، بل بقي عليه شيء من واجبات الحج ، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر ، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما ، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة ، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع ؛ لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع ، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا . والله سبحانه وتعالى أعلم .(8/5)
وفي [التحفة] للشافعية : ( وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها ، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به ، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك ) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير .
قال في [المغني] : ( فصل ) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت ، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ، ذكره ابن القاسم ، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت : إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع ؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام ، بدليل سقوط دم المتعة عنهم ، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ولأنه خارج عن الحرم فلزمه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 451)
التوديع كالبعيد ) انتهى ، وكذا في [الشرح الكبير] ، قال في [الإقناع وشرحه] : ( ومن كان خارجه : أي : خارج الحرم ، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع ، وهو على كل خارج من مكة ) انتهى ملخصا ، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه ، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم ، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات ، قال في [المنتهى] و[الإقناع] وغيرهما : ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو ) انتهى .(8/6)
قال في [الإقناع وشرحه] : ( فإن خرج قبله : أي : قبل الوداع فعليه الرجوع إليه ، أي : إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه ؛ لكونه في حكم الحاضر ، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع ، أو بعد مسافة قصر عن مكة - فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا ؛ لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات ، وسواء تركه أي : طواف الوداع عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره ، كسائر واجبات الحج ، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام ؛ لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره ) انتهى .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 452)
قال الخرقي : ( مسألة ) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب ، وإن بعد بعث بدم ، قال في [المغني] : هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، والقريب : هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، والبعيد من بلغ مسافة القصر ، نص عليه أحمد ، وهو قول الشافعي ، وكان عطاء يرى الطائف قريبا ، وقال الثوري : حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ، ووجه القول الأول : أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام .(8/7)
وقد روي ( أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ) رواه سعيد ، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته ، فإن رجع البعيد فطاف الوداع ، فقال القاضي : لا يسقط عنه الدم ؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه ، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه ، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه ؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب .
( فصل ) : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما ؛ لأنه ليس من أهل الأعذار ، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي ، وطواف لوداعه ، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 453)
الخلاف ، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه ، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله : أنه لا يلزمه إحرام ؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به ، فأشبه من رجع لطواف الزيارة ، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة ، فقال أحمد : أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما ، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف ؛ وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك ، إنما دخل لحاجة غير متكررة ، فأشبه من يدخلها للإقامة بها ) انتهى كلام صاحب [المغني] .
ومثله في [الشرح الكبير] ونصه : ( وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع ) .(8/8)
قال الشيخ مرعي في [الغاية] : ( ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم ) انتهى ؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى ، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه ؛ كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد ، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي الطواف ، وعن ركعتي الإحرام ، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة ، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة ؛ لأنه لم ينوه ، وفي الحديث : صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43). وإنما لكل امرئ ما نوى .
فإن قيل : كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع ، وقد قال الأصحاب : ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة ؟ قلنا : يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا ، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا ، ثم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 454)(8/9)
طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره ، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع ، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع ، وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة ، وهو نص الإمام أحمد ، اختاره الخرقي ، أما على اختيار الموفق ، والشارح ، وشيخ الإسلام ، وابن القيم ، وابن رجب ، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة ، وهو الذي تدل عليه السنة ، كما تقدم في فصل : ( ثم يفيض إلى مكة ، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج ) والله أعلم . ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه : ( إلا أنه خفف عن الحائض ) وتقدم ، والنفساء في معناها ؛ لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره ، ولا فدية على الحائض والنفساء ؛ لظاهر حديث صفية المتقدم ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود ، ويغتسلان للحيض والنفاس ؛ لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان ، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم ؛ لتركهما نسكا واجبا ، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر ، فإن قيل : فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر ؟ قلنا : هناك ترك واجبا فلم يقسط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله ، وهاهنا لم يكن واجبا عليهما ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس . والله أعلم ، وأما المعذور غير الحائض والنفساء ، كالمريض
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 455)
ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع ؛ لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر ) وتقدم .
3 - قال ابن حزم رحمه الله :(8/10)
( وأما قولنا : من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت ، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد ، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت ، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف ، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي .
فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة ، فلما رويناه من طريق مسلم قال : نا سعيد بن منصور ، نا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله : صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932). لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت .
ومن طريق مسلم ، نا محمد بن رمح ، نا الليث عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة -وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت : - صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917). حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : أحابستنا هي ؟ فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلتنفر .
قال أبو محمد : فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه ، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد ، عن أبي الزبير بن عبد الله :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 456)(8/11)
( أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا ) .
قال علي : ولم يخص عمر موضعا عن موضع ، وقال مالك : بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه ، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، ومن طريق عبد الرزاق ، نا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن نافع قال : ( رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشي كن أفضن يوم النحر ، ثم حضن فنفرن ، فردهن حتى يطهرن ، ويطفن بالبيت ، ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول ) .
قال أبو محمد : هرشي هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء ، وبها علمان مبنيان علامة ؛ لأنه نصف الطريق ، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن الحارث بن عبد الله بن أوسي : سنن الترمذي الحج (946),سنن أبو داود المناسك (2004),مسند أحمد بن حنبل (3/416). أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ، ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت .
قال أبو محمد : الوليد بن عبد الرحمن غير معروف ، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه ، وكأن يكون أمره عليه السلام : الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهما . وبالله تعالى التوفيق .
وأما قولنا : من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة - فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه ، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 457)
فقد بطل حجه ، وليس عليه في رجوعه لطواف الوداع أن يمتنع من النساء ، فلأن طواف الإفاضة فرض .(8/12)
وقال تعالى : سورة البقرة الآية 197 الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وقد ذكرنا أنها : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، فإذ هو كذلك فلا يحل لأحد أن يعمل شيئا من أعمال الحج في غير أشهر الحج فيكون مخالفا لأمر الله تعالى .
وأما امتناعه عن النساء ؛ فلقول الله تعالى : سورة البقرة الآية 197 فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فهو ما لم يتم فرائض الحج فهو في الحج بعد ، وأما رجوعه لطواف الوداع فليس هو في حج ولا في عمرة ، فليس عليه أن يحرم ولا أن يمتنع من النساء ؛ لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا إحرام إلا بحج أو عمرة ، وأما لطواف مجرد فلا ) [المحلى] ( 7/ 241- 244 ) فقه عام . .(8/13)
الخلاصة :
مما تقدم يتلخص ما يأتي :
1 - قال جماعة من العلماء : إن طواف الوداع من المناسك ، منهم : إمام الحرمين والغزالي ، وهو مذهب أحمد والشافعي .
وقال آخرون : هو عبادة مستقلة ، منهم : البغوي والمتولي وابن تيمية في أحد قوليه ؛ تعظيما للحرم ، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام ، ولأنه لو كان من جملة المناسك لعم الحجيج ، لكنه سقط عن المكي إذا لم يخرج ، وعن الآفاقي إذا نوى الإقامة بمكة ، ولحديث :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 458)
صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا فسماه قاضيا نسكه قبل الوداع عند نفره ، وعلى الأول : يطلب ممن نفر بعد نسك فقط ، وعلى الثاني : يطلب ممن نفر من مكة مطلقا .
2 - قال الحنفية والحنابلة : إن طواف الوداع واجب . وهو قول عند الشافعية ؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به ، ونهيه عن النفر قبله ، فمن تركه عمدا أو جهلا أو نسيانا لزمه دم ، وأثم إن كان متعمدا ، وقال المالكية : بأنه سنة وهو قول للشافعية ، وعليه لا يأثم من تركه ، ولا دم عليه .
وعلم مما سبق أن وقت طواف الوداع إنما يكون بعد فراغ الحاج من جميع نسكه .
3 - قيل : يطلب طواف الوداع ممن نفر بعد نسكه من مكة ، ولو كان ذلك إلى حدود الحرم فقط ؛ لعموم الأمر به والنهي عن تركه عند النفر .
وقيل : يطلب من كل من نفر بعد نسكه إلى خارج حدود الحرم ، ولو كان دون المواقيت ، ودون مسافة القصر ، لا ممن نفر من مكة إلى داخل حدود الحرم .
وقيل : لا يطلب ممن نفر بعد نسكه إلى المواقيت فما دونها .(8/14)
وقيل : لا يطلب ممن نفر إلى ما دون مسافة القصر ؛ لأنه في حكم المقيم بمكة ، ولخروج عائشة مع أخيها عبد الرحمن - رضي الله عنهما - إلى التنعيم لتحرم منه بعمرة ، وذلك على علم منه صلى الله عليه وسلم ، ولم يأمرهما بوداع ، والتنعيم من الحل .
ولا يطلب ممن حج أو اعتمر من أهل مكة والمقيمين بها ، ولا من آفاقي حج ، أو اعتمر ونوى الإقامة بمكة مطلقا أو قبل النفر الأول ، وقال أبو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 459)
يوسف : يستحب لأهل مكة إذا حجوا أو اعتمروا أن يطوفوا طواف الوداع .
4 - قال الحنفية : من ترك طواف الوداع عمدا أو نسيانا ، وجب عليه أن يرجع ليطوفه ما لم يتجاوز الميقات ، ومن قال بوجوبه من الشافعية ، قال : يجب عليه الرجوع ما لم يبلغ مسافة القصر ، وإلا لم يجب عليه الرجوع وعليه دم وعصى الله إن كان عامدا ، وهكذا عند الحنابلة .
فإن رجع بعد بلوغ مسافة القصر وطاف ، فقيل : يسقط عنه الدم ، لإتيانه بما وجب عليه ، وقيل : لا يسقط لتقرر وجوبه في ذمته بمجاوزته المسافة ، ويكون رجوعه بإحرام ، وإن رجع قبل بلوغ مسافة القصر وطاف ، فلا دم عليه ولا إحرام عليه في رجوعه ، ومن قال : إن طواف الوداع سنة لم يلزم من نفر من مكة بعد نسكه دون الوداع أن يرجع ليطوف ولم يؤثمه ولم يوجب عليه دما .
وقال ابن حزم : على من ترك طواف الوداع أن يرجع ليطوفه ولو بلغ أقصى الأرض في سفره .
5 - على القول بوجوب طواف الوداع : لا يجوز لمن أدى النسك أن ينفر من مكة ولو مؤقتا دون طواف وداع لمرض أو زحام ، ولو مع نيته أن يعود لطوافه بعد شفائه أو زوال الزحام .
هذا ما تيسر إعداده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/15)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 460)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 70 ) وتاريخ 21/10/ 1399هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبيه محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من 10/10/1399هـ حتى 21/10/1399هـ في حكم طواف الوداع للخارج من مكة المكرمة سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما ، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك؟ واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع بناء على طلب المجلس في دورته الثالثة عشرة ، وقد تبين له أن العلماء مختلفون في تلك المسائل تبعا لاختلاف اجتهادهم والخلاف فيها معروف بين العلماء ، ومدون في كتب الأحاديث ، وكتب الفقه والمناسك ، وما زال عمل العلماء جاريا على الأخذ بما يترجح لهم دليله ، وينبغي للحاج وغيره أن يحرص على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم ؛ لذلك يرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته ، ومذهب العامي مذهب من يفتيه من أهل العلم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 461)
وبالله التوفيق, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
.... .... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله بن خياط ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... عبد الله بن قعود
محمد بن جبير ... .... صالح بن لحيدان
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون
عبد الله بن منيع ... .... .(8/16)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 462)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 463)
( 8 )
الحاجز بين المصلي والمقبرة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 464)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 465)
الحاجز بين المصلي والمقبرة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة من إعداد بحث في الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه .
وحيث إن الموضوع يتطلب البحث في أمرين :(8/17)
أحدهما : سد الذرائع .
والثاني : الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة .
أعدت اللجنة بحثا مختصرا فيهما ، وفيما يلي الحديث عنهما ، وبالله التوفيق .
أولا : سد الذرائع :
سبق أن كتبت اللجنة الدائمة بحثا في سد الذرائع في موضوع الأسورة المغناطيسية ، وموضوع شارات الطيارين ، وهذا نصه :
قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر .
إن تطبيق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 466)
واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى - قد يكون ذريعة إلى التبرك به ، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء ، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره وتقيه شر الهزائم ، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار . . ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها ، وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها ، وبناء الأحكام عليها .
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال :
( الوجه الرابع العشرون ) [الفتاوى الكبرى] ( 3/ 256- 295 ) . : أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها .(8/18)
والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء ، لكن صارت في عرف الفقهاء : عبارة عما أفضت إلى فعل محرم . ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ، ولهذا قيل : الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم . أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا ؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر ، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم - فهذا ليس من هذا الباب . فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء ؛ لكونها في نفسها فسادا ، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه ، أو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 467)
لكونها مفضية إلى فساد ، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة ، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم ، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة . وإلا سميت سببا ومقتضيا ، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة . ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا ، وكذلك إن كانت قد تفضي ، وقد لا تفضي ، لكن الطبع متقاض لإفضائها . وأما إن كانت تفضي أحيانا ، فإن يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل ، وإلا حرمها أيضا .
ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها . ومنها : ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا ( القسم الثاني ) بجامع الحيل ، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة ، وقد لا يقترن ، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع ، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع ، فصارت الأقسام ( ثلاثة ) .
أولا : ما هو ذريعة ، وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف ، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى . وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ ، وكقرض بني آدم .
الثاني : ما هو ذريعة لا يحتال بها ، كسب الأوثان ، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى ، وكذلك سب الرجل والد غيره ، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده ، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن .(8/19)
الثالث : ما يحتال به من المباحات في الأصل ؛ كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة ، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة .
والغرض من هذا : أن الذرائع حرمها الشارع ، وإن لم يقصد بها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 468)
المحرم ، خشية إفضائها إلى المحرم ، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع .
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها ، وإن لم يقصد البائع الربا ؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ، ويقول القائل : لم أقصد به ذلك . ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه ، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه .
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر ؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس ، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة ، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا ، وتلك العلة مقصودة فيها فاستباحه بهذا التأويل - فهو ظلوم لنفسه ، جهول بأمر ربه ، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة .
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر :
فالأول : قوله سبحانه وتعالى : سورة الأنعام الآية 108 وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ حرم سب الآلهة مع أنه عبادة ؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله سبحانه وتعالى ؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 469)(8/20)
( الثاني ) : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). من الكبائر شتم الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه .
ولفظ البخاري : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما ، وإن لم يقصده ، وبين هذا والذي قبله فرق ؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام ، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر ؛ لكونه شتما لوالديه ؛ لما فيه من العقوق ، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره .
( الثالث ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه ؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام .
( الرابع ) : أن الله سبحانه حرم الخمر ؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل ، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب . ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل ، وجعلها نجسة ؛ لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها .(8/21)
ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث ، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها ؛ حسما لمادة ذلك ، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف . وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 470)
رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني صلى الله عليه وسلم : أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا .
( الخامس ) : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية ؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير .
( السادس ) : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها ، وأمر بتسويتها . ونهى عن الصلاة إليها وعندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا . وحرم ذلك على من قصد هذا ، ومن لم يقصده ، بل قصد خلافه ؛ سدا للذريعة .
( السابع ) : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، وكان من حكمة ذلك : أنها وقت سجود الكفار للشمس ، ففي ذلك تشبه بهم ، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه ، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس ، أو أخذ أحوال بعض عابديها .(8/22)
( الثامن ) : أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة ، مثل قوله : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم ، سنن أبو داود الصلاة (652). إن اليهود لا يصلون في نعالهم ، فخالفوهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء : صحيح مسلم الصيام (1134),سنن أبو داود الصوم (2445),مسند أحمد بن حنبل (1/236),سنن الدارمي الصوم (1759). لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ، وقال في موضع : لا تشبهوا بالأعاجم ، وقال فيما رواه الترمذي : سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا من تشبه بغيرنا حتى قال حذيفة بن اليمان : من تشبه بقوم فهو منهم ؛ وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب ، وذلك يجر إلى فساد عريض .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 471)(8/23)
( التاسع ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3288),سنن أبو داود النكاح (2066),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179). نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، حتى ولو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها ، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك ، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك ؛ لأن الطباع تتغير ؛ فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة ، كذلك حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم ، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن ، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى : سورة النساء الآية 3 ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وهذا نص في اعتبار الذريعة .
( العاشر ) : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة ، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة ، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك .
( الحادي عشر ) : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام ؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين ؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين .
( الثاني عشر ) : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به ، مثل : اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما . ومثل : اشتراط الولي فيه . ومنع المرأة أن تليه . وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 472)(8/24)
وكان أصل ذلك في قوله تعالى : سورة النساء الآية 24 مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ و سورة النساء الآية 25 مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة نكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش .
ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء ، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة الزائدة على مجرد مقصود الاستمتاع ، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى : سورة الفرقان الآية 54 نَسَبًا وَصِهْرًا وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح ، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه .
( الثالث عشر ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/205),سنن الدارمي البيوع (2560). نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح ؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى ، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ، ليأخذ منه ألفين ، وهذا هو معنى الربا .
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال : إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر ، يقصد بذلك : أن هذا ذريعة إلى الربا ، وهذه علة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 473)
صحيحة في مسألة مد عجوة ، ولكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة ، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له .(8/25)
( الرابع عشر ) : أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة .
( الخامس عشر ) : أنه تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض ، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض . وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا . وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية ، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .
( السادس عشر ) : أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من ميراث شيء ، أما القاتل عمدا ، كما قال مالك ، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما ، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة ، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد ، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر .
( السابع عشر ) : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 474)
بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ؛ لأن الطلاق ذريعة ، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك : أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية ، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين .
( الثامن عشر ) : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد ، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك ؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء .(8/26)
( التاسع عشر ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار .
( العشرون ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح البخاري الصوم (1815),صحيح مسلم الصيام (1082),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2173),سنن أبو داود الصوم (2335),سنن ابن ماجه الصيام (1650),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1689). نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه ، سنن ابن ماجه الصيام (1646). ونهى عن صوم يوم الشك ، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو ، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه الخلاف المشهور ؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه ، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم ، وهو يوم العيد ، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم ، تمييزا لوقت العبادة من غيره ؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي ، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور ، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة ، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها ، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه ، وأن يستديم استقبال القبلة ، وندب المأموم إلى هذا التبيين ، ومن جملة فوائد ذلك : سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 475)
( الحادي والعشرون ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه ، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا ، قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه .(8/27)
( الثاني والعشرون ) : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ( راعنا ) مع قصدهم الصالح ؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم - ولئلا يتشبه بهم ، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا .
( الثالث والعشرون ) : أنه أوجب الشفعة ؛ لما فيه من رفع الشركة ، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة ؛ سدا لهذه المفاسد بحسب الإمكان .
( الرابع والعشرون ) : أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحى إليه بالباطن ، وأمر أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق ، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة ، وإن وثق بتقواه . حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء ؛ لينضبط طريق الحكم ، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة ، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق ، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك ، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير .
( الخامس والعشرون ) : أن الله سبحانه منع رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن ، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 476)
ومن جاء به .(8/28)
( السادس والعشرون ) : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود ؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجرا ، وإن كان العقوبات من جنس الشر ؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع ؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك ، فإنه اكتفى فيه بالتعزير ، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة ، وإن تاب العاصي عند ذلك ، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود ، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
( السابع والعشرون ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك ، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية ؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم ، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات - لا يكاد ينضبط ، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال ، وزجر من ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا .
( الثامن والعشرون ) : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة ، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار ، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا ؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار ، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 477)
( التاسع والعشرون ) : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها ؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم .(8/29)
( الثلاثون ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ، ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ، ويخلي بينه وبين الناس ، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته . قالوا : وسبب ذلك : أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها ؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل ، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء ، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل ، وأحسم لمادة هذا الفساد ، وهذا من ألطف سد الذراع .
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شاع عنهم ؛ إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول - لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود ، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما ، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع ، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا .
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع ، وإنما قصدنا : أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها ، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم ، إما بأن يقصد به المحرم ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 478)
أو بأن لا يقصد به - يحرمه الشارع بحسب الإمكان ، ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله ، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه ، وهذا بين لمن تأمله . والله الهادي إلى سواء الصراط .
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله :(8/30)
فصل : في سد الذرائع [إعلام الموقعين] ( 3/ 147- 153 ) . :
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها . فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها . ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها ، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود . لكنه مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها ؛ تحقيقا لتحريمه ، وتثبيتا له ، ومنعا أن يقرب حماه .
ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به . وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كله كل الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 479)
الموصلة إليه لعد متناقضا ، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده .
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه . فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها ، والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء .
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ، ليزول الالتباس فيه ، فنقول : الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان :
أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها ؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر ، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ، ونحو ذلك ، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها .(8/31)
والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب . فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه .
فالأول : كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل ، أو يعقد البيع قاصدا به الربا ، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك .
والثاني : كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي ، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم ، أو يصلي بين يدي القبر لله . ونحو ذلك .
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان :
أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 480)
والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته . فهاهنا أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة .
الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة .
الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة ، لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها .
الرابع : وسيلة موضوعة للمباح ، وقد تفضي إلى المفسدة ، ومصلحتها أرجح من مفسدتها .
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم .
ومثال الثالث : الصلاة في أوقات النهي ، وسبه آلهة المشركين بين ظهرانيهم . وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها ، وأمثال ذلك .
ومثال الرابع : النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها قوله : يطؤها في الأصل ، والصواب يطأها . ويعاملها . وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ، ونحو ذلك . فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة . وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة .
بقي النظر في القسمين الوسط : هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟ فنقول :
الدلالة على المنع من وجوه :
الوجه الأول : قوله تعالى :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 481)(8/32)
سورة الأنعام الآية 108 وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم ؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى . وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ، وهذا كالتنبيه ، بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز .
الوجه الثاني : قوله تعالى : سورة النور الآية 31 وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فمنعن من الضرب بالأرجل ، وإن كان جائزا في نفسه ، لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن .
الوجه الثالث : قوله تعالى : سورة النور الآية 58 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الآية . أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقائهم ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة . ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها ، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة ؛ لندورها ، وقلة الإفضاء إليها ، فجعلت كذا بالأصل ، وصوابه كالمعدوم . كالمقدمة .
الوجه الرابع : قوله تعالى :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 482)(8/33)
سورة البقرة الآية 104 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم ، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب ، يقصدون فاعلا من الرعونة : فنهي المسلمون عن قولها ؛ سدا لذريعة المشابهة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون .
الوجه الخامس : قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون : سورة طه الآية 43 اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى سورة طه الآية 44 فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه ، لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى .
الوجه السادس : أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح ؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء واحتمال الضيم ، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .
الوجه السابع : أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
الوجه الثامن : ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 483)(8/34)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه .
ولفظ البخاري : صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216). إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه . قيل : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده .
الوجه التاسع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنهم وقولهم : إن محمدا يقتل أصحابه ، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخلوا فيه ، ومن لم يدخل فيه ، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
الوجه العاشر : أن الله تعالى حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل ، وهذا ليس مما نحن فيه ، لكن حرم القطرة الواحدة منها . وحرم إمساكها للتخليل ونجسها ؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة ، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب . ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث . وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم بها ؛ حسما لمادة قربان المسكر ، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل فقال : لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه .(8/35)
الوجه الحادي عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ، ولو في إقراء القرآن ، والسفر بها ولو في الحج ، وزيارة الوالدين ؛ سدا لذريعة ما يحاذر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 484)
من الفتنة وتقلبات الطباع .
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى أمر بغض البصر ، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله ؛ سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور .
الوجه الثالث عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد ، وعن الصلاة إليها وعندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها ، وأمر بتسويتها ، ونهى عن اتخاذها عيدا . وعن شد الرحال إليها ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها . وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده ، بل قصد خلافه ، سدا للذريعة .
الوجه الرابع عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكان من حكمة ذلك : أنهما وقت سجود المشركين للشمس ، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة ، فكيف بالذرائع القريبة ؟ !(8/36)
الوجه الخامس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة ، كقوله : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309). إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ، وقوله : سنن أبو داود الصلاة (652). إن اليهود لا يصلون في نعالهم ، فخالفوهم ، وقوله في عاشوراء : خالفوا اليهود ، صوموا يوما قبله ويوما بعده ، وقوله : لا تشبهوا بالأعاجم ، وروى الترمذي عنه : سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695). ليس منا من تشبه بغيرنا ، وروى الإمام أحمد عنه : سنن أبو داود اللباس (4031). من تشبه بقوم فهو منهم ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 485)
إلى الموافقة في القصد والعمل .
الوجه السادس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز ؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه السابع عشر : أنه حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور ، وقيل : العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام . وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع . وأباح الأربع ، وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن ؛ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة .
الوجه الثامن عشر : أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة ، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها .(8/37)
الوجه التاسع عشر : أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل ؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام ، فإن زمنه قريب جدا ، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل .
الوجه العشرون : أن الشارع حرم الطيب على المحرم ؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذريعة .
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع ، حتى أوصلها تسعة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 486)
وتسعين دليلا ...) ثم قال : باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف : فإنه أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما : مقصود لنفسه ، والثاني : وسيلة إلى المقصود ، والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه . والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة به فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين . اهـ .(8/38)
ثانيا : الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه :
1 - نقول عن بعض شراح الحديث والفقهاء :
بحث شراح الحديث والفقهاء هذا الموضوع ، وفيما يلي نقول عنهم :
أ- روى الإمام مسلم رحمه الله في [صحيحه] عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135). لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها .
قال النووي رحمه الله على هذا الحديث : فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى القبر .
قال الشافعي رحمه الله : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس . اهـ [شرح النووي على صحيح مسلم] ( 7/38 ) . .
ب- وقال السنوسي رحمه الله على هذا الحديث : ولا تصلوا إليها ، أي : لا تجعل قبلة ؛ سدا للذريعة إلى عبادتها ، واعتقاد الجهال التقرب بذلك قاله ( ع ) قال الأبي : وما علل به النهي والجواب عن إجازته في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 487)
المدونة أن يصلي وبين يديه قبر أو مرحاض . ابن العربي : تكره الصلاة في القبور وتحرم الصلاة إليها وهو كفر من فاعله [شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم] ( 3/100 ) . .(8/39)
ج- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قوله : ( وما يكره من الصلاة في القبور ) يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين ، وفي ذلك حديث رواه مسلم ، عن طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا : صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135). ولا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها أو عليها ، قلت : وليس هو على شرط البخاري ، فأشار إليه في الترجمة ، وأورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة ، والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في [كتاب الصلاة] لأبي نعيم شيخ البخاري ، ولفظه ، بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر القبر ، فظن أنه يعني : القمر ، فلما رأى أنه يعني القبر جاز القبر وصلى ، وله طرق أخرى بينتها في [تغليق التعليق] منها : من طريق حميد عن أنس نحوه وزاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه ، وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير .
وقوله : ( ولم يأمره بالإعادة ) استنبطه من تمادي أنس على الصلاة ، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف [فتح الباري] ( 1/ 523 ) . .(8/40)
2 - نقول عن بعض الفقهاء :
أ- قال النووي رحمه الله : قال أصحابنا : ويكره أن يصلى إلى قبر ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 488)
هكذا قالوا : يكره ولو قيل : يحرم ؛ لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد ، قال صاحب التتمة : وأما الصلاة عند رأس قبر رسول الله متوجها إليه فحرام .
ب- قال ابن قدامة رحمه الله :
وقال أبو عبد الله بن حامد : إن صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل ، لما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135). لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا إليها متفق عليه .
وقال الأثرم : ذكر أحمد حديث أبي مرثد ، ثم قال : إسناده جيد . وقال أنس : رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر فجعل يشير إلي : القبر القبر ، قال القاضي : وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهى عن الصلاة فيها ، والصحيح : أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة ؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : سنن الترمذي السير (1553),مسند أحمد بن حنبل (5/256). جعلت الأرض مسجدا يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته .(8/41)
وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح ؛ لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه ، وإن كان لمعنى مختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا أو والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها ؛ فلا يتعداها الحكم ؛ لعدم وجود المعنى في غيرها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532). إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك ، وقال : صحيح البخاري الصلاة (425),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531),سنن النسائي المساجد (703),مسند أحمد بن حنبل (6/146),سنن الدارمي الصلاة (1403). لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ، متفق عليهما .
فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور ؛ للنهي عنها ، ويصح إلى غيرها ؛ لبقائها في عموم الإباحة وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 489)
والله أعلم [المغني والشرح] ( 1/ 724 ) . .
ج- وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله :
ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها ، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك ، وذكر طائفة من أصحابنا : أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة ؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة ، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا ، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق ، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور ، وهو الصواب ، والمقبرة : كل ما قبر فيه ، لا أنه جمع قبر .(8/42)
وقال أصحابنا : وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه ، فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه . وذكر الآمدي وغيره : أنه لا تجوز الصلاة فيه ، أي : المسجد الذي قبلته إلى القبر ، حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر ، وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد [الفتاوى المصرية] ( 4/411 ) . .
د- وقال ابن مفلح رحمه الله :
وتصح الصلاة إليها مع الكراهة ، وقيل : لا تصح ، وقيل : إلى مقبرة ، اختاره صاحب المغني والمحرر وهو أظهر ، وعنه : وحش ، اختاره ابن حامد ، وقيل : وحمام ولا حائل ، ولو كمؤخرة الرحل ، وظاهره ليس كسترة صلاة ، فيكفي الخط ، بل كسترة المتخلي ، كما سبق ، ويتوجه أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 490)
مرادهم لا يضر بعد كثير عرفا ، كما لا أثر له في مار مبطل ، وعنه لا يكفي حائط المسجد ، جزم به صاحب المحرر وغيره ؛ لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش [الفروع] ( 1/374 ) . .
هـ- وقال العنقري رحمه الله :
قوله : ( وتصح إليها ) وقيل : لا تصح الصلاة إلى المقبرة ، اختاره الموفق ، والمجد وصاحب النظم والفائق . قال في [الفروع] : وهو أظهر ، وعنه : لا تصح إلى المقبرة والحش ، اختاره ابن حامد والشيخ تقي الدين . اهـ .
وعنه لا يكفي حائط المسجد ، جزم به صاحب [المحرر] وغيره ، لكراهة السلف الصلاة في المسجد في قبلته حش . اهـ . واختلفت نسخ [الإقناع] ؛ ففي بعضها : لا يكفي الخط ، ولعلها أصح ، وفي أخرى : لا يكفي حائط المسجد . اهـ ( م ص ) [الروض المربع] ( 1/154 ) حاشية العنقري . .
و- وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة ، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا .(8/43)
قال في رواية الأثرم : إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة ، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز . وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135). لاتصلوا إلى القبور رواه مسلم . ، وقال : إسناده جيد . انتهى .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 491)
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق . فتبين بهذا : أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك : من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع . والله المستعان .
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر - في أبواب العلم بالله - اضطرابهم ، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم ، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد ، وغيروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد . فقال بعضهم : النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة ، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى ، وهذا كله باطل من وجوه :
منها : أنه من القول على الله بلا علم . وحرام بنص الكتاب .(8/44)
ومنها : أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه ، وما المانع له أن يقول : من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله . ويلزم على ما قاله هؤلاء : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وبعد القرون المفضلة والأئمة ، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا ؛ لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ ، وهذا من أبطل الباطل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين ، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد ، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم .
ويقال أيضا : هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم ، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء ، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم ، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 492)
عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص ، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم ، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة ، والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله [فتح المجيد] ص190 . .
ز- وقال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ، والشيخ سليمان بن سحمان : مسجد الطائف الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس - رضي الله عنهما - الصلاة في المسجد إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع يخرج القبر عن مسمى المسجد فلا تكره الصلاة فيه ، وأما القبر إذا هدمت القبة التي عليه فيترك على حاله ، ولا ينبش ، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره ، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين [الدرر] ( 3/133 ) ط . المكتب الإسلامي . .
ح- وقال ابن حزم رحمه الله :(8/45)
قال علي : وكره الصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر أبو حنيفة والأوزاعي وسفيان ، ولم ير مالك بذلك بأسا ، واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر المسكينة السوداء .
قال علي : وهذا عجب ناهيك به ، أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه ، فلا يجيزون أن تصلى صلاة الجنازة على من قد دفن ثم يستبيحون بما ليس فيه منه أثر ولا إشارة مخالفة السنن الثابتة ، ونعوذ بالله من الخذلان .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 493)
قال علي : وكل هذه الآثار حق ، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا ، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحرم ما نهى عنه ، ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل فأمره ونهيه حق ، وفعله حق ، وما عدا ذلك فباطل ، والحمد لله رب العالمين [المحلى] ( 4/32 ) . .
ط- وقال علي محفوظ رحمه الله :(8/46)
ومن البدع : اتخاذ المقابر مساجد بالصلاة إليها ، فعن أبي مرثد كناز بن الحصين - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135). لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها رواه مسلم وأبو مرثد : بفتح الميم واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي الصلاة (317),سنن أبو داود الصلاة (492),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745). الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم . وقال صلوات الله وسلامه عليه : صحيح البخاري الجنائز (1324),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531),سنن النسائي المساجد (703),مسند أحمد بن حنبل (6/121),سنن الدارمي الصلاة (1403). لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد متفق عليه .
والسر في ذلك أن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها ، وقد ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن ودا وسواعا وإخوانهما كانوا قوما صالحين من قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، وكان هذا مبدأ عبادة الأصنام ، أخرجه ابن جرير ؛ ولهذه المفسدة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة مطلقا ، وإن لم يقصد الصلاة عندها .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 494)
ووقت طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها ؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها فنهى أمته عن الصلاة ، وإن لم يقصد ما قصد المشركون ، سدا للذريعة وبعدا عن التشبه بعبدة الأوثان .(8/47)
وعلى الجملة : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما ، وكذا الصلاة عليها للتبرك والإعظام ، كما صرح به الإمام النووي في [شرح المهذب] ، وليس معنى الإعظام أن تقصد أرباب القبور بالسجود ، فإنه كفر صراح ، بل المعنى أنه بتحريه الصلاة لله تعالى : على هذا الوجه زاعما أنه أرجى للقبول عند الله تعالى ببركة صاحب الضريح يكون قد أعظم من شأن هذا الولي ، وهذا يقع كثيرا من العامة [الإبداع في مضار الابتداع] ص190 . .
هذا ما تيسر جمعه . وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/48)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 495)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (79) وتاريخ 21/10/1400هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ، ابتداء من يوم السبت الموافق للثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ حتى الحادي والعشرين منه - بحث المجلس موضوع السترة التي ينبغي أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه ، بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة ؛ لما نظر المجلس في خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموجه للأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم ( 3084/1/5 ) وتاريخ 12/10/1399هـ . والذي جاء فيه ما نصه :
( نظرا لكون النصف الشمالي من مسجد ابن عباس بالطائف لا يفصله عن المقبرة الواقعة عنه غربا سوى جدار المسجد ، وأبوابه ونوافذه الغربية مشرعة على المقبرة ، فاعتمدوا عرض الموضوع على المجلس ؛ لتبادل الرأي في الكتابة إلى الحكومة لفتح شارع يفصل المسجد عن المقبرة . اهـ ) .
وكان المجلس في تلك الدورة رأى أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيما يكفي من السترة التي يجب أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه . ولما اطلع المجلس على البحث المذكور واستمع إلى كلام أهل العلم وآرائهم في المسألة ، واستعرض الواقع الحالي لمسجد ابن عباس في الطائف والمقبرة التي تقع في قبلة المصلي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 496)
من الجزء الشمالي منه رأى بعض أعضاء المجلس أن جدار المسجد لا يكفي سترة للمصلي فيه ؛ ولذلك ينبغي إقامة جدار آخر خاص بالمقبرة وفتح طريق للراجل بينهما وتنبش القبور التي تقع في مكان هذا الطريق إن كان فيها بقية من رفات الموتى .(8/49)
ورأى الآخرون أنه يكتفى بجدار المسجد القبلي سترة للمصلي فيه ؛ لأن المصلي يستقبل جدار المسجد وهو مضاف إليه لا إلى المقبرة ، ولأن إنشاء جدار آخر وفتح طريق بينه وبين جدار المسجد يترتب عليه نبش القبور دون ضرورة توجب ذلك ، ولكن ينبغي أن يسد البابان اللذان في ذلك الجدار ، وترفع النوافذ التي فيه إلى حيث لا يتمكن المصلي من رؤية المقبرة من خلالها ، ويفتح باب في أدنى جزء من الجدار ليس أمامه مقبرة ليدخل منه الإمام يوم الجمعة ، وتقدم معه الجنائز للصلاة عليها .
وحيث كان الرأي الأخير للأكثرية من أعضاء المجلس فقد صدر القرار برأيهم .
والله الموفق . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد .
هيئة كبار العلماء
. . رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(8/50)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 497)
(9)
بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 498)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 499)
بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم
إعداد
الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من تأجيل البت في موضوع نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم مطلقا ، وعند استغناء فقراء الحرم ، وأن يعد بحث في الموضوع ليتمكن من مناقشة الموضوع في الدورة السادسة عشرة ، بناء على ذلك فقد جمعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية نقولا عن بعض فقهاء المذاهب الأربعة ، وهذه النقول مشتملة على بيان مذاهب الفقهاء فيمن يجب صرف اللحم لهم ، وحكم نقله للفقراء خارج الحرم .
وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب المذاهب , وبالله التوفيق .(8/51)
أولا : الفقه الحنفي
1 - قال في [بدائع الصنائع] : وأما مكان هذا الدم فالحرم ، لا يجوز في غيره ؛ لقوله تعالى : سورة الفتح الآية 25 وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ومحله : الحرم ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 500)
والمراد منه هدي المتعة ؛ لقوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والهدي : اسم لما يهدى إلى بيت الله الحرام ، أي : يبعث وينقل إليه [ بدائع الصنائع ] ( 3/ 1205 ) ، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى عام 587 هـ . .
2 - ذكر في [ فتح القدير ] : ( وقوله : ( إليه ) مرجع الضمير التوقف بالحرم ، المفهوم من قوله : ( يذبح في الحرم ) ، مع قوله : والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان ، والآية وهي قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ إما في الإحصار بخصوصه أو فيه وفي غيره أو هو من عموم اللفظ الوارد على سبب خاص - فيتناول منع الحلق قبل الإعمال في الحصر وبعدها في غيره إلى أن يبلغ الهدي محله ، ويبين محله بقوله تعالى : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .
3 - قوله : ( ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم ) ، سواء كان تطوعا أو غيره ، قال تعالى في جزاء الصيد : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فكان أصلا في كل دم وجب كفارة ، وقال تعالى في دم الإحصار : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وقال في الهدايا مطلقا : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ، فالإضافة ثابتة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 501)(8/52)
في مفهومه وهو الحرم بالإجماع ، ويجوز الذبح في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى ، ومن الناس من قال : لا يجوز إلا بمنى ، والصحيح ما قلنا . قال عليه الصلاة والسلام : سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879). كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر رواه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر ، فتحصل أن الدماء قسمان : ما يختص بالزمان والمكان ، وما يختص بالمكان فقط [ شرح فتح القدير ] ( 2/ 323 ، 324 ) . .
4 - قال السرخسي - رحمه الله - في جزاء الصيد : ( وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع ، وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشترى في ذلك الموضع ، مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قولي أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ، وقال محمد والشافعي - رحمهما الله تعالى - فيما له نظير : إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة ) [ المبسوط ] ( 2/ 82 ) . .
5 - فإن اختار التكفير بالهدي فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء ؛ لقوله تعالى : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فالهدي : اسم لما يهدى إلى موضع معين ، وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما ، فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة [ المبسوط ] ( 2/ 82 ) . .
6 - قال السرخسي - رحمه الله - في [ المبسوط ] : الأصل في حكم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 502)(8/53)
الإحصار قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي : منعتم من إتمامها ، سورة البقرة الآية 196 فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ، ثم تحلقون ، لقوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه ، وهذا قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - أن هدي الإحصار مختص بالحرم ، وعلى قول الشافعي - رحمه الله - لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه ، وحجته في ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما : صحيح البخاري الصلح (2554),مسند أحمد بن حنبل (2/124). أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي في الموضع الذي أحصر فيه ، ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن ألا يفي المبعوث على يده ، أو يهلك الهدي في الطريق ، وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ والمراد به : الحرم بدليل قوله تعالى : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بعد ما ذكر الهدايا ، ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة ، وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم ، أو زمان مخصوص وهو أيام النحر ، ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ، ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث إنه تحلل به عن الإحرام ، وذلك
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 503)(8/54)
يختص بالحرم فكذا هذا ، وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر ، فروي صحيح مسلم الحج (1325),سنن أبو داود المناسك (1763),مسند أحمد بن حنبل (1/279). أنه بعث الهدايا على يدي ناجية ، لينحرها في الحرم حتى قال ناجية : ماذا أصنع فيما يعطب منها ؟ قال : انحرها ، واصبغ نعلها بدمها ، واضرب بها صفحة سنامها ، وخل بينها وبين الناس ، ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى : سورة الفتح الآية 25 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول : الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل ، ونصفها من الحرم ، ومضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاه كان في الحرم ، فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم ، فلا يكون للخصم فيه حجة ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك ؛ لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم [ المبسوط ] للسرخسي ( 4/ 106 ، 107 ) . .
7 - وقال ابن عابدين :
قوله : ( ما يهدى ) مأخوذ من الهدية التي هي أعم من الهدي لا من الهدي ، وإلا لزم ذكر المعرف في التعريف فيلزم تعريف الشيء بنفسه ، قلت : ( لو أخذ من الهدي يكون تعريفا لفظيا وهو سائغ ) واحترز بقوله : ( إلى الحرم ) عما يهدى إلى غيره نعما كان أو غيره ، وبقوله : ( من النعم ) عما يهدى إلى الحرم من غير النعم ، فإطلاق الفقهاء في باب الأيمان
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 504)(8/55)
والنذور والهدي على غيره مجاز ، وبقوله : ( ليتقرب به ) أي : بإراقة دمه فيه ، أي : في الحرم عما يهدى من النعم إلى الحرم هدية لرجل ، وأفاد به أنه لا بد فيه من النية ، أي : ولو دلالة [ رد المحتار على الدر المختار ] لابن عابدين ( 2/ 614 ) . .
8 - قال الجصاص في تفسيره : [ أحكام القرآن ] :
باب المحصر أين يذبح الهدي ؟
قال تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ واختلف السلف في المحل ما هو ؟ فقال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين : هو الحرم . وهو قول أصحابنا والثوري .
وقال مالك والشافعي : محله الموضع الذي أحصر فيه فيذبحه ويحل . والدليل على صحة القول الأول : أن المحل اسم لشيئين : يحتمل أن يراد به الوقت ، ويحتمل أن يراد به المكان . ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير : صحيح البخاري النكاح (4801),صحيح مسلم الحج (1207),سنن النسائي مناسك الحج (2768),مسند أحمد بن حنبل (6/202). اشترطي في الحج وقولي : محلي حيث حبستني فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان
فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة مؤقتا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية - وجب أن يكون مراده المكان ، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ، ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية ، فدل ذلك على أن المراد بالمحل : هو الحرم ؛ لأن كل من لا يجعل موضع
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 505)(8/56)
الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم ، ومن جعل محل الهدي موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناه ، ومن جهة أخرى وهو أن قوله تعالى : سورة الحج الآية 30 وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلى قوله : سورة الحج الآية 33 لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ودلالته على صحة قولنا في الحل من وجهين : أحدهما : عمومه في سائر الهدايا ، والآخر : ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله : سورة البقرة الآية 196 حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإذا كان الله قد جعل للمحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن يجعل المحل غيره ، ويدل عليه قوله تعالى في جزاء الصيد : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه ، كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل : سورة النساء الآية 92 فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فقيدها بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه ، وكذلك قوله تعالى : سورة النساء الآية 92 فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لا يجوز إلا على الصفة المشروطة ، وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم . ويدل عليه أيضا قوله تعالى في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فأوجب على المحصر دما ، ونهاه عن الحلق حتى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 506)(8/57)
يذبح هديه ، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى ، فدل على أن الحل ليس بمحل الهدي ، فإن قيل : هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار . قيل له : لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم ؛ لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ، ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها ؛ لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد ، فثبت بذلك أن محل الهدي هو الحرم دون محل الإحصار . ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزئ في غيره - وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام ، والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام ، فإن قيل : قال الله تعالى : سورة الفتح الآية 25 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وذلك في شأن الحديبية ، وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم ، لولا ذلك لكان بالغا محله ، قيل له : هذا من أول شيء على أن محله الحرم ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال تعالى : سورة الفتح الآية 25 وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له ، فإن قيل : فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله تعالى : سورة الفتح الآية 25 وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ قيل له : لما حصل أدنى منع جاز أن يقال : إنهم منعوا ، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ، ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 507)(8/58)
أن يقال : منعه حقه ، كما يقال : حبسه ، ولا يقتضي ذلك أن يكون أبدا محبوسا ، فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا ، ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام ، وإن كانوا قد أطلقوا إليهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل ، وقال الله عز وجل : سورة يوسف الآية 63 قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر ، فكذلك منعوا الهدي بديا ، ثم لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن ؛ ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى : سورة الفتح الآية 25 وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ؛ لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه ، ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت .
وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم ، وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحل ، ومصلاه كان في الحرم ، فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه ، وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل ، وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم . والله أعلم [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 1/ 339 - 341 ) . .(8/59)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 508)
ثانيا : الفقه المالكي
1 - قال مالك في [ المدونة الكبرى ] : رسم في الدم ما يصنع به ؟
قلت : فهذا الدم كيف يصنع به في قول مالك ؟ قال : قال مالك : يقلده ويشعره ويقف به في عرفة مع هدي تمتعه فإن لم يقف به بعرفة لم يجزه إن اشتراه في الحرم إلا أن يخرجه إلى الحل فيسوقه من الحل إلى مكة ويصير منحره بمكة ، قلت لابن القاسم : ولم أمره مالك أن يقف بهذا الهدي الذي جعله عليه لتأخير الحلاق بعرفة ، وهو إن حلق من أذى لم يأمره بأن يقف بهديه ؟ قال : قال مالك : ليس من وجب عليه الهدي لترك الحلاقة مثل من وجب عليه النسك من إماطة الأذى ؛ لأن الهدي إذا وجب لترك الحلاقة فإنما هو هدي ، وكل ما هو هدي فسبيله سبيل هدي المتمتع والصيام فيه إن لم يجد ، ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد ذلك ، ولا يكون فيه الطعام ، وأما نسك الأذى فهو مخير : إن شاء أطعم ، وإن شاء صام ، وإن شاء نسك ، والصيام فيه ثلاثة أيام ، والنسك فيه شاة ، والطعام فيه لستة مساكين مدين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا فرق ما بينهما [ المدونة الكبرى ] للإمام مالك ( 1/ 393 ) . .
2 - فيمن أحصر بمرض ومعه هدي :
قلت : أرأيت من أحصر بمرض معه هدي أينحره قبل يوم النحر أم يؤخره حتى يوم النحر ، وهل له أن يبعث به ويقيم هو حراما ؟ قال : إن خاف على هديه لطول مرضه بعث به فنحر بمكة وأقام هو على إحرامه . قال : وإن كان لا يخاف الهدي وكان أمرا قريبا حبسه حتى يسوقه معه . قال :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 509)
وهذا رأيي .
قلت : أرأيت إن فاته الحج متى ينحر هدي فوات الحج في قول مالك .
قال : في القضاء من قابل . قلت : فإن بعث به قبل أن يقضي حجه يجزئه ، فقال : سألت مالكا عن ذلك فقال : لا يقدم هديه ولا ينحره إلا في حج قابل ، قال : فقلت له : فإنه يخاف الموت قال : وإن خاف الموت فلا ينحره إلا في حج قابل .(8/60)
قلت : فإن اعتمر بعد ما فاته حجه فنحر هدي فوات حجه في عمرته هل يجزئه ؟ قال : أرى أن يجزئه في رأيي ، وإنما رأيت ذلك ؛ لأنه لو هلك قبل أن يحج أهدي عنه لمكان ذلك ولو كان ذلك لا يجزئه إلا بعد القضاء ما أهدي عنه بعد الموت ، قال ابن القاسم : وقد بلغني أن مالكا قد كان خففه ثم استثقله بعد ، وأنا لا أحب أن يفعل إلا بعد ، فإن فعل وحج أجزأ عنه ، قلت : أرأيت المحصر بمرض إذا أصابه أذى فحلق رأسه فأراد أن يفتدي ، أفينحر هدي الأذى الذي أماط عنه بموضعه حيث هو أم يؤخر ذلك حتى يأتي مكة في قول مالك ؟ قال : قال مالك : ينحره حيث أحب [ المدونة ] ( 1/ 450 ) . .
3 - رسم في الكفارة بالصيام وفي جزاء الصيد :
قلت : أرأيت جزاء الصيد في قول مالك أن يكون بغير مكة . قال : قال لي مالك : كل من ترك من نسكه شيئا يجب عليه فيه الدم وجزاء الصيد أيضا ، فإن ذلك لا ينحر ولا يذبح إلا بمكة أو بمنى ، فإن وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة .
قلت له : وإن كان قد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 510)
وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة . قلت له : وإن كان قد وقف به بعرفة ولم ينحره أيام النحر بمنى نحره بمكة ، ولا يخرجه إلى الحل ثانية . قال : نعم ، قلت : وهذا قول مالك . قال : نعم [ المدونة ] ( 1/ 431 ) . .
4 - قال في [ جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ] : والجزاء بحكم عدلين فقيهين بذلك مثله من النعم أو إطعام بقيمة الصيد يوم التلف بمحله ، وإلا فبقربه ولا يجزئ بغيره .
وذكر في الشرح ( بمحله ) أي : التلف إن كان له قيمة فيه ووجد به مساكين ( وإلا ) أي : وإن لم يكن له قيمة بمحله أو لم يوجد به مساكين فيقوم أو يطعم ( بقربه ) أي : محل التلف ولا يجزئ الإطعام بغيره ، أي : محل التلف أو قربه مع الإمكان .(8/61)
سند جملة ذلك أنه إن أخرج الجزاء هديا اختص بالحرم ، أو صياما فحيث شاء أو طعاما اختص بمحل التقويم [ جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ] لصالح الأزهري ( 1/ 198 , 199 ) . .
5 - قال ابن رشد في [ بداية المجتهد ] : وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه ، فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه عام الحديبية ، فقال ابن إسحاق : نحره في الحرم ، وقال غيره : إنما نحره في الحل ، واحتج بقوله تعالى : سورة الفتح الآية 25 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وإنما ذهب أبو حنيفة إلى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 511)
أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة ؛ لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما فهذا هو حكم المحصر بعد ، وعند الفقهاء [ بداية المجتهد ] لابن رشد ( 1/ 384 ) المتوفى سنة 595 هـ . .
وقال في جزاء الصيد : وأما اختلافهم في الموضع فسببه الإطلاق ، أعني : أنه لم يشترط فيه موضع ، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال : لا ينقل من موضعه ، وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال : لا يطعم إلا مساكين مكة ، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال : يطعم حيث شاء [ بداية المجتهد ] لابن رشد ( 1/ 389 ) . .
6 - قال ابن عبد البر في [ الكافي ] : ولا ينحر الهدي إلا بمنى ومكة ، ولا ينحر منه بمنى إلا ما وقف بعرفة ، وإن فاته أن يقف بعرفة ساقه من الحل فينحره بمكة بعد خروجه من منى ، وإن نحره بمكة في أيام منى أجزأه [ الكافي ] لابن عبد البر ، ( 1/ 404 ) ، المتوفى سنة 463 هـ . .
7 - جزاء الصيد والحكم فيه :(8/62)
وعند اختيار المثل يذبح في منى أو مكة ، أما في غيرهما فلا يجزئ ؛ لأنه يصير في حكم الهدي ، وتصح القيمة طعاما من غالب قوت أهل البلد الذي يخرج فيه ، وتعين القيمة والإخراج بمحل التلف ولا تجزئ الدراهم ولا يجزئ أكثر من مد ولا أقل ويعطى لمسكين [ مرشد السالك في القرب من ملك الممالك ] لعبد الوهاب السيد رضوان ص 130 ، 131 . .
8 - الحكم في الصيد : قال الله تعالى :
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 512)
سورة المائدة الآية 95 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ قال مالك - رحمه الله - : فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله ، وقد نهى الله عن قتله فعليه جزاؤه
والأمر عندنا أن من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه بالجزاء ، قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ، فيطعم كل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما ، وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام ، وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين يوما عددهم ما كانوا ، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا . قال مالك : سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم [ تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ] ( 1/ 326 ، 327 ) لجلال الدين السيوطي . .
9 - ما جاء فيمن أحصر بعدو :
حدثني يحيى عن مالك ، قال : من حبس بعدو ، فحال بينه وبين البيت ، فإنه يحل من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء .(8/63)
وحدثني عن مالك : أنه بلغه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 513)
يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشيء .
وحدثني عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال حيث خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية .
ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال : ما أمرهما إلا واحد ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة ، ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا ، ورأى ذلك مجزيا عنه وأهدى ، قال مالك : فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو . كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت [ تنوير الحوالك شرح الموطأ ] والكتابة من نص الموطأ ، ( 1/ 329 ، 330 ) . .
10 - قال الله تعالى : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن هذه الآية : الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، أي : لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي ، والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه .
فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي موضع الحصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى : سورة الفتح الآية 25 وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق .(8/64)
وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار الحرم ؛ لقوله تعالى : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 514)
الذي يجد الوصول إلى البيت ، فأما المحصر فخارج من قوله تعالى : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية ، وليست من الحرم ، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم قال : " فكيف تصنع به ؟ " فقال : أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه فأنطلق به حتى أنحره في الحرم
وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما ينحر حيث حل ؛ اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ، ولأن الهدي تابع للمهدي ، والمهدي حل بموضعه فالمهدي أيضا يحل معه [ تفسير القرطبي ] ص 379 ، المتوفى سنة 671 هـ . .(8/65)
ثالثا : الفقه الشافعي
1 - قال الشافعي في [ الأم ] : وحيثما نحره من منى أو مكة إذا أعطاه مساكين الحرم أجزأه وقال : ( ولو أن رجلا نحر هديه فمنع المساكين دفعه إليهم أو نحره بناحية ولم يخل بين المساكين وبينه حتى ينتن - كان عليه أن يبدله ، والنحر يوم النحر وأيام منى كلها حتى تغيب الشمس من آخر أيامها ، فإذا غابت الشمس فلا نحر إلا إن كان عليه هدي واجب نحره وأعطاه مساكين الحرم قضاء ) انتهى .
وقال : ( وفي أي الحرم ذبحه ثم أبلغه مساكين الحرم أجزأه وإن كان ذبحه إياه في غير موضع ناس . . . ) .
وقال : ( ومتى أصابه أذى وهو يرجو أن يخلى ، نحاه عنه وافتدى في موضعه كما يفتدي المحصر إذا خلي عنه في غير الحرم ، وكان مخالفا لما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 515)
سواه لمن قدر على الحرم ، ذلك لا يجزيه إلا أن يبلغ هديه الحرم ) .
وقال في الإحصار بالمرض وغيره : ( وإن احتاج إلى دواء عليه فيه فدية تنحية أذى ، فعله وافتدى ، ويفتدي في الحرم بأن يفعله ويبعث بهدي إلى الحرم ) [ الأم ] للشافعي - رحمه الله - ( 2/ 184 ، 185 ) . .
2 - ( باب أين محل هدي الصيد ) قال الشافعي - رحمه الله - : قال تعالى : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ قال الشافعي : ( فلما كان كلما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديا كانت الأنعام كلها وكل ما أهدي فهو بمكة - والله أعلم - ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا ما انبغى - والله أعلم - أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزي بشيء من النعم لا يجزئ فيه ، إلا أن يجرى بمكة ، فعلم أن مكة أعظم أرض الله تعالى حرمة وأولى أن تنزه عن الدماء لولا ما عقلنا من حكم الله في أنه للمساكين الحاضرين بمكة ، فإذا عقلنا هذا عن الله عز وجل فكان جزاء الصيد الطعام لم يجز - والله أعلم - إلا بمكة .(8/66)
فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة لم يجز عنه ، وأعاد الإطعام بمكة أو بمنى فهو من مكة ؛ لأنه كحاضر الحرم ، ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى أو طيب أو لبس أو غيره ، لا يخالفه في شيء ؛ لأنه كله من جهة النسك والنسك إلى الحرم ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم .
وقال : ( ومن حضر الكعبة حين يبلغها الهدي من النعم أو الطعام من مسكين كان له أهل بها أو غريب ؛ لأنهم إنما أعطوا بحضرتها وإن قل ،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 516)
فكان يعطي بعضهم دون بعض ، أجزأه أن يعطي مساكين الغرباء دون أهل مكة ومساكين أهل مكة دون مساكين الغرباء وأن يخلط بينهم ولو آثر به أهل مكة ؛ لأنهم يجمعون الحضور والمقام لكان كأنه أسرى إلى القلب . والله أعلم [ الأم ] للشافعي ، ص 157 . .
3 - قال المصنف - رحمه الله - تعالى :
( إذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران ، ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه لمساكين الحرم ؛ لقوله تعالى : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ فإن ذبحه في الحل وأدخله الحرم ، نظرت ، فإن تغير وأنتن لم يجزئه ؛ لأن المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن والمتغير ، وإن لم يتغير ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجزئه ؛ لأن الذبح أمر مقصود به الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة .(8/67)
الثاني : يجزئه ؛ لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم ، وإن وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم قياسا على الهدي ، وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان ؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصيام . وإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث أحصر ؛ لما روى ابن عمر : صحيح البخاري الصلح (2554),مسند أحمد بن حنبل (2/124). أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال ، ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 517)
لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع الهدي ، فكما قال الأصحاب : الدماء الواجبة في الحج لها زمان ومكان .
وأما المكان : فالدماء الواجبة على المحرم ضربان : واجب على المحصر بالإحصار ، أو بفعل محظور أو الضرب واجب على غير المحصر ، فيختص بالحرم ، ويجب تفريقه على مساكين الحرم سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون ، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل ، وله أن يخص به أحد الصنفين ، نص عليه الشافعي واتفقوا عليه
وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف ، حكاه المصنف وآخرون وجهين ، وحكاه آخرون قولين : ( أصحهما ) : يختص ، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم - لم يجزئه
والثاني : لا يختص ، فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغير اللحم ، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم ، أو بسبب مباح كالحلق للأذى ، أو بسبب محرم . وهذا هو الصحيح .
وفي القديم قول : أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا على دم الإحصار ، وممن حكى هذا القول وفي وجه ضعيف : أن ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم .(8/68)
وفيه وجه أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق جاز وكل هذا شاذ ضعيف ، والمذهب ما سبق . قال الشافعي والأصحاب : ويجوز الذبح في بقاع الحرم قريبها وبعيدها ، لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى وفي حق المعتمر المروة ؛ لأنهما محل تحللهما ، وكذا حكم ما يسوقانه من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 518)
الهدي [ المجموع شرح المهذب ] ( 7/ 411 - 413 ) . .
4 - قال القاضي حسين في [ الفتاوى ] : لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا ؛ لأنه وجب لمساكين الحرم ، كمن نذر الصدقة على مساكين بلدهم يجد فيه مساكين ، يصبر حتى يجدهم ، ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين ؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد لها بخلاف الهدي [ المجموع شرح المهذب ] ( 7/ 413 ) . .
5 - ( ويجب صرف لحمه ) وجلده وبقية أجزائه من شعره وغيره ، فاقتصاره على اللحم ؛ لأنه الأصل فيما يقصد منه ، فهو مثال لا قيد ( إلى مساكينه ) أي : الحرم وفقرائه القاطنين منهم والغرباء والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد حاجة الثاني فيكون أولى ، وعلم من كلامه عدم جواز أكله شيئا منه ، وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية ، وأنه لا فرق بين أن يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم ، وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد ، ويكفي الاقتصار على ثلاثة من فقرائه أو مساكينه وإن انحصروا ؛ لأن الثلاثة أقل الجمع ، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول كنظيره من الزكاة ، وإنما لم يجب استيعابهم عند الانحصار كما في الزكاة ؛ لأن المقصود هنا حرمة البلد وثم سد الخلة وتجب النية عند التفرقة ، كما قاله الروياني وغيره ، ويؤخذ من التشبيه بالزكاة الاكتفاء بالمتقدمة عليها واقتصاره فيما مر على الدم الواجب بفعل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 519)
حرام أو ترك واجب مثال إذ دم التمتع والقران كذلك . . .(8/69)
ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير ، أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر .
ولو ذبح الدم الواجب بالحرم ثم سرق أو غصب منه قبل التفرقة لم يجزئه . نعم ، هو مخير بين ذبح آخر وهو أولى ، أو شراء بدله لحما والتصدق به ؛ لأن الذبح قد وجد ، وإنما لم يتقيد ذلك بما لو قصر في التفرقة وإلا فلا يضمن ، كما لو سرق المال المتعلق به الزكاة ؛ لأن الدم متعلق بالذمة والزكاة بعين المال ، ولو عدم المساكين في الحرم أخر الواجب المالي حتى يجدهم وامتنع النقل ، بخلاف الزكاة حيث جاز النقل فيها إلا أنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها ، بخلاف هذا .
وقوله : ( إلى مساكينه ) عبارة العباب : ويجب تفريق لحوم وجلود هذه الدماء وبدلها من الطعام على المساكين في الحرم ، قال الشارح في شرحه : وقضيته أنه لا يجوز إعطاؤهم خارجه ، والأوجه خلافه كما مر ، لكن يؤيده تعليل الكفاية وغيرها ؛ ذلك بأن القصد من الذبح هو إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه لا لتلويثه بالدم والفرث إذ هو مكروه . اهـ .
ويجاب : بأن المراد بتفرقة اللحم فيه صرفه لأهله وخالفه م - ر فصمم على أنه لا يجوز صرفه خارجه ولا لمن هو فيه بأن خرج هو وهم عنه ثم فرقه عليهم خارجه ثم دخلوه . اهـ . سم على حج .
وقضية قول المصنف صرف لحمه إلى مساكينه أن المدار على صرفه لهم ولو في غير الحرم ، لكن قول الشارح الآتي قبيل الباب ، وكل هذه الدماء وبدلها تختص تفرقته بالحرم على مساكينه يوافق ما نقله - سم - عنه وصمم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 520)
عليه [ نهاية المحتاج ] ( 3/ 437 ) . .(8/70)
رابعا : الفقه الحنبلي
1 - قال ابن قدامة في [ المغني ] : وإذا نحر الهدي فرقه على المساكين من أهل الحرم ، وهو من كان في الحرم ، فإن أطلقها لهم جاز ، كما روى أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال : " من شاء فليقتطع رواه أبو داود .
وإن قسمها فهو أحسن وأفضل ، ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها ؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال : صحيح البخاري الحج (1630),صحيح مسلم الحج (1317),سنن أبو داود المناسك (1769),سنن ابن ماجه المناسك (3099),مسند أحمد بن حنبل (1/154),سنن الدارمي المناسك (1940). أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه ، وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها ، وأن لا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من عندنا . متفق على معناه
ولأنه بقسمها يكون على يقين من إفضائها إلى مستحقها ، ويكفي المساكين مؤونة النهب والزحام عليها ، وإنما لم يعط الجازر أجرته منها ؛ لأنه ذبحها فعوضه عليه ، دون المساكين ، ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعه ولا يجوز بيع شيء منها [ المغني ] ( 3/ 433 ) . .
2 - قال ابن قدامة في [ المقنع ] : وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم ، إلا فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها ، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر [ المقنع ] ( 1/ 430 ) . .
3 - وقال في الحاشية على قوله : ( إلا فدية الأذى ) أي : لأنه صلى الله عليه وسلم أمر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 521)
كعبا بها بالحديبية ، وهي من الحل ، واشتكى الحسين بن علي رضي الله عنهما رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا ، رواه مالك ، ووقت ذبحه حين فعله ، وله الذبح قبله لعذر .(8/71)
4 - وعلى قوله : ( ودم الإحصار . . إلخ ) أي : من حل أو حرم نص عليه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية نحروا هديهم وحلوا ، لكن إن كان قادرا على أطراف الحرم فوجهان ، وعنه ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على نحره في وقت تحلله ، روي عن ابن مسعود المقنع ( 1/ 430 ) حاشية ابن الشيخ . .
5 - قال شيخ الإسلام : وكما أن المعتمر في أشهر الحج إذا أراد أن يحج في عامه مخير بين أن ينشئ للحج سفرا وبين أن يتركه لهدي التمتع ، فهو مخير في إكمال الحج بالسفر أو بالهدي ؛ ولهذا قلنا : ليس جبرانا ؛ لأن دم الجبران لا يخير في سببه كترك الواجبات ، وإنما هو هدي واجب ، كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة والبدنية المالية وهو الهدي ، ولكن قد يقال : إذا كان واجبا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع ، قلنا : هدي النذر أيضا فيه خلاف ، وما وجب معينا يأكل منه باتفاق ؛ لأن نفس الذابح لله مهديا إلى بيته أعظم المقصودين ؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب تفرقته في الحرم ، وإن كنا نحن نوجب ذلك فيما هو هدي دون ما هو نسك ، ليظهر تحقيقه بتسميته هديا وهو الإهداء إلى الكعبة [ الفتاوى ] لشيخ الإسلام ( 35/ 321 ، 322 ) . .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 522)(8/72)
6 - وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام : كجزاء صيد ، وما وجب لترك واجب ، أو فوات ، أو بفعل محظور في الحرم ، وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوهما ، يلزم ذبحه في الحرم ، وتفرقة لحمه فيه ، أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكينه من المسلمين إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه ، أو بمن يرسله معه ، وهم : من كان به ، أو واردا إليه من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة ، فإن دفع إلى فقير في ظنه فبان غنيا أجزأه ، ويجزئ نحره في أي نواحي الحرم كان ، قال أحمد : مكة ومنى واحد ، ومراده : في الإجزاء لا في التساوي ، ومنى كلها منحر ، والأفضل : أن ينحر في الحج بمنى وفي العمرة بالمروة ، وإن سلمه إليهم فنحروه أجزأه ، وإلا استرده ونحره ، فإن أبى وعجز ضمنه ، فإن لم يقدر على إيصاله إليهم جاز نحره في غير الحرم وتفرقته هو والطعام حيث نحره ، وفدية الأذى واللبس ونحوهما ؛ كطيب ، ودم المباشرة دون الفرج إذا لم ينزل ، وما وجب بفعل محظور خارج الحرم ولو لغير عذر فله تفرقتها حيث وجد سببها ، وفي الحرم أيضا ، ووقت ذبح فدية الأذى واللبس ونحوهما وما ألحق به حين فعله ، وله الذبح قبله لعذر ، وكذلك ما وجب لترك واجب ولو أمسك صيدا أو جرحه ثم أخرج جزاءه ثم تلف المجروح أو الممسك أو قدم من أبيح له الحلق فديته قبل الحلق ثم حلق أجزأ ، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر ، وأما الصيام والحلق وهدي التطوع وما يسمى نسكا فيجزئه بكل مكان كأضحيته [ الإقناع ] ( 1/ 372 ) . .
7 - قال ابن هبيرة : اختلفوا في الدماء المتعلقة بالإحرام بم يختص
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 523)(8/73)
تفريقها ، فقال أبو حنيفة : الذبح كله يتعلق بالحرم ولا يختص تفريقه بأهله ، وقال مالك : ما كان من فدية الأذى وفدية لبس المخيط فإنه نسك ينحره حيث شاء ، ما عدا ذلك فإنه هدي ينحره ويختص بأهل الحرم ، وقال الشافعي : الدماء المتعلقة بالإحرام تفرقتها بالحرم إلا دم الإحصار ، وقال أحمد مثله وزاد عليه في الاستثناء دم الحلق [ الإفصاح ] لابن هبيرة ص 291 . .
هذا ما تيسر ذكره من النقول .
وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/74)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 524)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 77 ) وتاريخ 21/10/1400 هـ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف ابتداء من يوم السبت الموافق 12/10/1400 هـ حسب تقويم أم القرى حتى الحادي والعشرين منه بحث المجلس [ حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم ] .
بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة من دراسة هذا الموضوع بعد أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيه يوضح حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات ونحوها إلى أماكن تقع خارج الحرم ، وهل يجوز توزيعها خارج الحرم مطلقا أو عند استغناء فقراء الحرم ، وهل يفرق بين الهدايا الواجبة من أجل التمتع والقران وبين الواجبة بفعل محظور أو ترك واجب ؟
وقد درس المجلس البحث المذكور ورجع إلى قراره رقم ( 76 ) الذي أصدره في الدورة الاستثنائية الرابعة ، المتضمن عدة مقترحات للاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج وهي :
1 - تطوير المسالخ الحالية لتستوعب أعدادا كبيرة من الذبائح ، وإنشاء مسالخ متعددة على مداخل ومخارج منى وفي أماكن متفرقة من الحرم بالقدر الذي يكفي مع استمرار تمكين الحجاج من مباشرة ذبح هداياهم ، إذا رغبوا في ذلك ، وأخذ ما يشاءون من لحومها .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 525)
2 - العمل على إيجاد المجالب المناسبة بجوار كل مسلخ ، ومنع الناس من بيع ما لا يجزئ شرعا ؛ من الهزيل والمريض ونحوهما .
3 - إيجاد البرادات الكافية لحفظ اللحوم الصالحة التي يستغني عنها الحجاج إلى أن توزع على فقراء الحرم حسب الإمكان .
4 - أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج في داخل المملكة وخارجها في أحكام الهدي ، وما يجب أن يكون عليه ، وما يلزمهم نحوه .(8/75)
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف ، ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم ، مما يتركه أهله رغبة عنه .
وبعد مناقشة الموضوع وتداول الرأي فيه رأى المجلس بالأكثرية إصدار قرار يوضح الحكم في نقل اللحوم من الحرم إلى خارجه ، حيث كان القرار السابق مختصا باللحوم التي تبقى فيه .
وبناء على هذا فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع :
1 - هدي التمتع والقران ، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم ، وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم من لحوم هداياهم إلى المدينة ، ففي [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : صحيح البخاري الحج (1632),صحيح مسلم الأضاحي (1972),سنن النسائي الضحايا (4426),مسند أحمد بن حنبل (3/317),موطأ مالك الضحايا (1046),سنن الدارمي الأضاحي (1961). كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى ، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كلوا وتزودوا " فأكلنا وتزودنا .
2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد ، أو فدية لإزالة أذى ، أو ارتكاب محظور أو ترك واجب - فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه ؛ لأنه كله لفقراء الحرم .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 526)
3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء ، أو هدي الإحصار ، أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم - فهذا يوزع حيث ذبح ، ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر .
وإن المجلس يوصي جميع الحجاج بأن يختاروا الجيد الطيب لهداياهم وذبائحهم ، وأن يعلموا أنه يجب عليهم توزيعها حسب ما شرع الله ورسوله ، ولا يجوز لهم ذبحها وتركها دون أن ينتفع بها أحد من المسلمين .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد .
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
.... .... عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/76)
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود متوقف ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(8/77)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 527)
(10)
حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 528)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 529)
حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
فبناء على البرقية الخطية العاجلة رقم 5334 / 4 / 2 وتاريخ 29 / 6 / 1400 هـ الواردة من وكيل وزارة الأشغال العامة بالنيابة ، والتي يطلب فيها موافاته إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها ، وبناء على موافقة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة عشرة ؛ لما له من صفة العموم وذلك من اختصاص الهيئة.
ونظرا إلى الرغبة في إطلاع مجلس الهيئة على ما ذكره أهل العلم من حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها . . إلخ - جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن الجصاص ومحمد بن الحسن الشيباني والقرطبي وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والبرسوي ومحمد رشيد رضا وابن حزم والشوكاني ، وفي هذه النقول مذاهب الفقهاء ، وخاصة الأئمة الأربعة وأدلتهم .(8/78)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 530)
وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب ترتيب الناقلين لها . وبالله التوفيق .
1 - النقول عن الجصاص [ أحكام القرآن ] :
قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا
قال الجصاص : إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه ، كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار ، فلذلك سماهم نجسا ، والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين :
أحدهما : نجاسة الأعيان ، والآخر : نجاسة الذنوب ، وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع ، قال تعالى : سورة المائدة الآية 90 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وقال في وصف المنافقين : سورة التوبة الآية 95 سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ فسماهم رجسا ، كما سمى المشركين نجسا ، وقد أفاد قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ منعهم من دخول المسجد إلا لعذر ، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس ، وقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قد تنازع معناه أهل العلم : فقال مالك والشافعي : لا يدخل المشرك المسجد الحرام ، قال مالك : ولا غيره من المساجد إلا لحاجة ، من نحو الذمي يدخل إلى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 531)
الحاكم في المسجد ؛ للخصومة .(8/79)
وقال الشافعي : يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة . وقال أصحابنا : يجوز للذمي دخول سائر المساجد ، وإنما معنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد ؛ لأنهم لم تكن لهم ذمة ، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وهم مشركو العرب ، أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر ، فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة : أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك ، فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين : سورة التوبة الآية 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ الآية ، وفي حديث علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه ( سورة براءة ) نادى : ولا يحج بعد العام مشرك ، وفي ذلك دليل على المراد بقوله : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة : سورة التوبة الآية 28 وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ وإنما كانت خشية العيلة ؛ لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج ، فدل ذلك على أن مراد الآية : الحج ، ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج ، وإن لم يكن في المسجد ، ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع - ثبت أن مراد الآية هو : الحج دون قرب المسجد لغير الحج ؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 532)(8/80)
في سائر المشركين ، وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد ، والذي في الآية : النهي عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه
وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص : أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا : يا رسول الله ، قوم أنجاس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء ، إنما أنجاس الناس على أنفسهم
وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر ، غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام ؛ لقول الله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قال أبو بكر : فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر ، وهي سنة تسع ، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد
وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا تمنع الكافر من دخول المسجد ، وأما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة ، وذلك قبل الفتح ، وكان أبو سفيان مشركا حينئذ ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ، ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المسجد
فإن قيل : لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك ؛ لقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ولما روى زيد بن يثيع عن علي رضي الله عنه : أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الحرم مشرك ، قيل له : إن صح هذا اللفظ فالمراد : أن لا يدخله للحج
وقد روي في إخبار عن علي أنه نادى : أن لا يحج بعد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 533)(8/81)
العام مشرك ، وكذلك في حديث أبي هريرة ، فثبت أن المراد : دخول الحرم للحج
وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج
وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر ، وإنما خص العبد والأمة - والله أعلم - بالذكر ؛ لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة ، فوقفه أبو الزبير على جابر ، وجائز أن يكونا صحيحين ، فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها أخرى
وروى ابن جريج عن عطاء قال : لا يدخل المسجد مشرك ، وتلا قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قال عطاء : المسجد الحرام : الحرم كله ، قال ابن جريج : وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك
قال أبو بكر : والحرم كله يعبر عنه بالمسجد ، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد ، وقال الله تعالى : سورة الحج الآية 25 وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ والحرم كله مراد به ، وكذلك قوله تعالى : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قد أريد به الحرم كله ؛ لأنه في أي الحرم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 534)(8/82)
نحر البدن أجزأه ، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الحرم كله للحج ، إذ كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم والحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا ، فعبر عن الحرم بالمسجد ، وعبر عن الحج بالحرم
ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الحرم قوله تعالى : سورة التوبة الآية 7 إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية ، وهي على شفير الحرم ، وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم ، فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام ، وإنما هي عند الحرم ، وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كنا مأمورين باجتناب الأنجاس
وقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا فإن قتادة ذكر أن المراد : العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا علي ( سورة براءة ) وهو لتسع مضين من الهجرة ، وكان بعده حجة الوداع سنة عشر [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 3/87 - 89 ) ، المتوفى سنة 370 هـ . طبعة / دار الكتاب العربي - بيروت . .
قوله تعالى : سورة التوبة الآية 17 مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ عمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما : زيارته والسكون فيه ، والآخر : ببنائه وتجديد ما استرم منه ؛ وذلك لأنه يقال : اعتمر إذا زار ومنه العمرة ؛ لأنها زيارة البيت ، وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 535)
فيها ، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له ، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ، ومن بنائها ، وتولي مصالحها ، والقيام بها ؛ لانتظام اللفظ للأمرين [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 4/278 ) المتوفى سنة 370 هـ . .(8/83)
2 - النقول عن الشيباني [ الجامع شرح السير الكبير ] :
ذكر عن الزهري : أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام ، قال الله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الآية .
والمراد بالهدنة : الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية ، وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد ما نقضوا هم العهود ، وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد لذلك ، فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول : لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئا في المساجد
والدليل على ذلك : أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل : هم أنجاس . قال : " ليس على الأرض من نجاستهم شيء .
ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال : يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية . فأما عندنا فلا يمنعون من ذلك كما لا يمنعون من سائر المساجد ، ويستوي في ذلك الحربي والذمي ، وتأويل الآية : الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية ما روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 536)
والمراد : القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام ، وبه نقول : إن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال [ شرح السير الكبير ] لمحمد بن الحسن الشيباني ( 14/ 135 ) . .
3 - النقول عن القرطبي [ الجامع لأحكام القرآن ] :
قال تعالى : سورة التوبة الآية 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا(8/84)
فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ابتداء وخبر ، واختلف العلماء في وصف المشرك بالنجس : فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما : لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل .
وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي نجسه . قال الحسن البصري : من صافح مشركا فليتوضأ . والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم ، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال : ليس بواجب ؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وبوجوب الغسل عليه
قال أبو ثور وأحمد : وأسقطه الشافعي وقال : أحب إلي أن يغتسل ونحوه لابن القاسم ، ولمالك قول : إنه لا يعرف الغسل ، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس ، وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال ، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده .
مسند أحمد بن حنبل (2/483). وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم ، فبعث به إلى حائط أبي طلحة ، فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حسن إسلام صاحبكم ، وأخرجه مسلم بمعناه ، وفيه : أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 537)
فاغتسل ، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر ، فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب ، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة ، هذا قول علمائنا ، وهو تحصيل المذهب
وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه ، إذا اعتقد الإسلام بقلبه ، وهو قول ضعيف في النظر ، مخالف للأثر ، وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول ، هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان : إنه قول باللسان ، وتصديق بالقلب ، ويزكو بالعمل ، قال تعالى : سورة فاطر الآية 10 إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ انتهى .(8/85)
الثانية : قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا نهي ؛ ولذلك حذفت منه النون سورة البقرة الآية 144 الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم ، وهو مذهب عطاء ؛ فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع ، فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ، ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه ، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز(8/86)
وأما جزيرة العرب وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها ، فقال مالك : يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام ، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين ، وكذلك قال الشافعي - رحمه الله - ، غير أنه استثنى من ذلك اليمن ، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم ، ولا يدفنون فيها ويلجأون إلى الحل . انتهى .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 538)
الثالثة : واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال : 1 - فقال أهل المدينة : الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ، ونزع في كتابه بهذه الآية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : سورة النور الآية 36 فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها
وفي [ صحيح مسلم ] وغيره : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر الحديث . والكافر لا يخلو عن ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود الطهارة (232). لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب والكافر جنب ، وقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فسماه الله تعالى نجسا ، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم .
وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب ؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في المسجد ، يقال : رجل نجس ، وامرأة نجس ، ورجلان نجس ، وامرأتان نجس ، ورجال نجس ، ونساء نجس ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه مصدر
فأما النجس ( بكسر النون وجزم الجيم ) فلا يقال إلا إذا قيل معه : رجس ، فإذا أفرد قيل : نجس ( بفتح النون وكسر الجيم ) ونجس ( بضم الجيم ) ، وقال الشافعي - رحمه الله - : الآية عامة في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد .(8/87)
قال ابن العربي : وهذا جمود منه على الظاهر ؛ لأن قوله عز وجل : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة . فإن قيل : فقد ربط
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 539)
النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك .
قيل له : أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة :
أحدها : أنه كان متقدما على نزول الآية .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه .
الثالث : أن ذلك قضية عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها ؛ لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية ، وقد يمكن أن يقال : إنما ربطه في المسجد ، لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها ، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد ، فيستأنس بذلك ويسلم ، وكذلك كان .
ويمكن أن يقال : إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد ، والله أعلم . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره ، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان ، وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها .
قال الكيا الطبري : ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة ، وقال الشافعي : تعتبر الحاجة . ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام .
وقال عطاء بن أبي رباح : الحرم كله قبلة ومسجد ، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم ؛ لقوله تعالى : سورة الإسراء الآية 1 سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وإنما رفع من بيت أم هانئ
وقال قتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية ، أو عبدا كافرا لمسلم ، وروى إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا يحيى بن عبد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 540)(8/88)
الحميد قال : حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقرب المسجد مشرك ، إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة ، وبهذا قال جابر بن عبد الله ، فإنه قال : العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام ، وهو مخصوص في العبد والأمة [ تفسير القرطبي ] ( 8/ 103 ـ 106 ) ، المتوفى سنة 671 هـ . .
4 - النقول من ابن كثير [ تفسير القرآن العظيم ] :
قال تعالى : سورة التوبة الآية 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين ، الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية ، وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بصحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : صحيح البخاري الصلاة (362),صحيح مسلم الحج (1347),سنن النسائي مناسك الحج (2957),سنن أبو داود المناسك (1946),مسند أحمد بن حنبل (2/299),سنن الدارمي الصلاة (1430). أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا ، أو أحدا من أهل الذمة ، وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا شريك عن الأشعث - يعني : ابن سوار - عن الحسن عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : مسند أحمد بن حنبل (3/392). لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم تفرد به الإمام أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا
وقال الإمام أبو(8/89)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 541)
عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
وقال عطاء : الحرم كله مسجد ؛ لقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك ، كما ورد في الصحيح صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235). المؤمن لا ينجس ، وأما نجاسة بدنه : فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير [ تفسير ابن كثير ] ( 2/346 ) ، المتوفى سنة 774 هـ . .
5 - قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في [ الفتاوى ] :
وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد - رحمه الله - : أحدهما : لا يجوز ، وهو مذهب مالك ؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة . والثاني : يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان في مذهب أحمد وغيره [ الفتاوى ] لشيخ الإسلام ( 22/194 ) . .
6 - قدوم وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة ، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 542)(8/90)
مسجده فأراد الناس منعهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوهم " فاستقبلوا الشرق فصلوا صلاتهم [ زاد المعاد ] ( 3/79 ) , لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ . .
قال ابن القيم في [ زاد المعاد ] : إنه يؤخذ من هذه القصة أمور منها : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين [ زاد المعاد ] ( 3/79 ) , لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ . .
7 - قال البرسوي في تفسيره المسمى بـ [ تفسير روح البيان ] : قال الواحدي : دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين . ويمنع من دخول المساجد ، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذنه لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم تفسير البرسوي المسمى [ تفسير روح البيان ] ( 3/398 ) , المتوفى سنة 1137 هـ . .
والآية هي قوله تعالى : سورة التوبة الآية 18 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
وقال البرسوي : واعلم أن عمارة المساجد تعم أنواعا منها البناء وتجديد ما تهدم منها تفسير البرسوي المسمى [ تفسير روح البيان ] ( 3/398 ) , المتوفى سنة 1137 هـ . .
8 - قال رضا في [ تفسير المنار ] : وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام : وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية ، ونقله عنه الخازن ببعض
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 543)
تصرف وبغير عزو ، فقال : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :(8/91)
أحدها : الحرم ، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا ؛ لظاهر هذه الآية ، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك ، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم ، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .
الثاني : من بلاد الإسلام الحجاز ، وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل : نصفها تهامي ونصفها حجازي ، وقيل : كلها حجازي .
وقال الكلبي : حد الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق العراق ، سمي الحجاز ؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد ، وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة ، وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام .
قال الحربي : وتبوك من الحجاز ، فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن ، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام .(8/92)
/ 33 روى مسلم / 33 عن ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح مسلم الجهاد والسير (1767),سنن الترمذي السير (1607),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/29). لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلا أترك فيها إلا مسلما زاد فيه رواية لغير مسلم وأوصى فقال : صحيح البخاري الجهاد والسير (2888),صحيح مسلم الوصية (1637),مسند أحمد بن حنبل (1/222). أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم على تجارة ثلاثا .
عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651). لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه مالك في [ الموطأ ] مرسلا .
وروى مسلم ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2812),سنن الترمذي البر والصلة (1937),مسند أحمد بن حنبل (3/313). إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 544)
جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم قال سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب : ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر ، وقال غيره : حد جزيرة العرب : من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا .
الثالث : سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم .(8/93)
وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب ، وأن لا يبقى فيها دينان مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في السلم والحرب ، وإجلائهم من جواره في المدينة ، وإجلاء عمر ليهود خيبر وغيرهم ونصارى نجران ، عملا بوصيته في مرض موته صلى الله عليه وسلم [ تفسير المنار ] لمحمد رشيد رضا ( 10/ 275 - 277 ) . .
9 - قال ابن حزم في [ المحلى ] : ودخول المشركين في جميع المساجد جائز . حاشا حرم مكة كله - المسجد وغيره - فلا يحل البتة أن يدخله كافر .
وهو قول الشافعي وأبي سليمان .
وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان .
وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد .
قال الله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا الآية .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 545)
قال علي : فخص الله المسجد الحرام ، فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص وقد كان المحرم قبل بنيان المسجد وقد زيد فيه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا .
فصح أن حرم مكة هو المسجد الحرام .(8/94)
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن أحمد ، ثنا الغريري ، ثنا البخاري ، ثنا عبد الله بن يوسف ، ثنا الليث ، ثنا سعيد بن أبي سعيد ، أنه سمع أبا هريرة قال : صحيح البخاري المغازي (4114),صحيح مسلم الجهاد والسير (1764),سنن أبو داود الجهاد (2679),مسند أحمد بن حنبل (2/452). بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " قال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ؟ ذكر الحديث .
وأنه عليه السلام أمر بإطلاقه في اليوم الثالث ، صحيح البخاري المغازي (4114),صحيح مسلم الجهاد والسير (1764),سنن النسائي الطهارة (189),سنن أبو داود الجهاد (2679),مسند أحمد بن حنبل (2/452). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، يا محمد ، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي . . . وذكر الحديث . . . فنص قول مالك .
وأما قول أبي حنيفة فإنه قال : إن الله تعالى قد فرق بين المشركين وسائر الكفار فقال تعالى : سورة البينة الآية 1 لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 546)
وقال تعالى : سورة الحج الآية 17 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
قال : والمشرك هو من جعل لله شريكا ، لا من لم يجعل له شريكا . قال علي : لا صحة له غير ما ذكرنا .(8/95)
فأما ما تعلق في الآيتين فلا صحة له فيهما ؛ لأن الله تعالى قال : سورة الرحمن الآية 68 فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ والرمان من الفاكهة .
وقال تعالى : سورة البقرة الآية 98 مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ وهما من الملائكة .
وقال تعالى : سورة الأحزاب الآية 7 وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وهؤلاء من النبيين ابن حزم [ المحلى ] ( 4/ 245 - 247 ) ، المتوفى سنة 456 هـ . .
10 - قال الإمام الشوكاني في [ نيل الأوطار ] :
قوله : صحيح البخاري الغسل (279),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/471). إن المسلم لا ينجس تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر ، وحكاه في [ البحر ] عن الهادي والقاسم والناصر ومالك ، فقالوا : إن الكافر نجس عين ، وقووا ذلك بقوله تعالى : سورة التوبة الآية 28 إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
وأجاب عن ذلك الجمهور : بأن المراد منه : أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك ؛ لعدم تحفظه عن النجاسة ، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار ، وحجتهم على
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 547)
صحة هذا التأويل : أن الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة(8/96)
ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر : حديث إنزاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة : قوم أنجاس لما رأوه أنزلهم المسجد ، وقوله لأبي ثعلبة لما قال له : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5161),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930),سنن ابن ماجه الصيد (3207),سنن الدارمي السير (2499). يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ قال : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وسيأتي في باب آنية الكفار .
وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف : بأنه حجة عليهم لا لهم ؛ لأن قوله : ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء ، إنما أنجاس القوم على أنفسهم ، بعد قول الصحابة : قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل نزاع ، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار .
وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم ، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها ، يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ : سنن أبو داود الأطعمة (3839),مسند أحمد بن حنبل (4/194). إن أرضنا أرض أهل كتاب ، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ؟ وسيأتي .
ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم ، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في [ الصحيحين ] من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد ، وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر ، وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى ، كما أخرجه أحمد وأبو داود من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 548)(8/97)
حديث ابن عمر ، وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي ، وسيأتي في باب آنية الكفار ، وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها ، وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة ، وهي آخر ما نزل ، وإطعامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به ، ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ، ولو توقوها لشاع .
قال ابن عبد السلام : ليس من التقشف أن يقول : أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر ؛ لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك ، وقد زعم المقبلي في [ المنار ] : أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم ؛ لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث ، وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه ، فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا ، والخمر نجس عرفا ، وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة ، والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية . انتهى .
ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب ، والذي في كتب اللغة : أن النجس ضد الطاهر . قال في [ القاموس ] : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك ، وككتف وعضد ضد الطاهر . انتهى [ نيل الأوطار ] للشوكاني ( 1/ 25 ، 26 ) ، المتوفى سنة 1255 هـ . .
هذا ما تيسر إيراده من النقول ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه . .(8/98)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 549)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 78 ) وتاريخ 21 /10 /1400 هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ . حتى الحادي والعشرين منه - نظر المجلس في حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها . . . بناء على البرقية الخطية الواردة لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من سعادة وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان لشؤون الأشغال العامة بالنيابة برقم 5334 / 2 وتاريخ 29 / 6 / 1400 هـ ونصها ما يلي :
( نفيدكم أن أحد المقاولين قد تقدم إلينا لاعتماد المهندس المنفذ من قبله لأحد المساجد ؛ ونظرا لأن المهندس المذكور مسيحي الديانة ، فإننا نأمل موافاتنا إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها ) اهـ .
ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع ، واستمع إلى كلام أهل العلم فيه - رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين ، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره ؛ تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان ، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 550)(8/99)
دينها وأمنها واستقرارها، وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها، وتوليهم لكثير من أمورها؛ ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها- فقد يصمموها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس، كما حدث من بعضهم، وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء؛ لأنهم أعداء لهذا الدين، ولمن يدين به من المسلمين.
ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها - أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية، وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين: أن لا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
.... .... عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(8/100)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 551)
(11) حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 552)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 553)
حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء رقم (10) المتخذ في الدورة الخامس الاستثنائية المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع أول عام 1401 هـ المتضمن طلب جمع ما تيسر من أقوال العلماء في حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر .
أعدت اللجنة الدائمة بحثا مختصرا في الموضوع شمل نقولا عن بعض العلماء. وفيما يلي تلك النقول. . . والله المستعان :(8/101)
1 - قال البخاري رحمه الله في [صحيحه]: (باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر )
1080 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:. صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا
(الحديث 1080- طرفاه في: 4298، 4299).
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 554)
1081 - حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسا يقول: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282),سنن الدارمي الصلاة (1509). خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا .
(الحديث 1081 - طرفه في: 4297) وقال ابن حجر رحمه الله في شرح ذلك [فتح الباري] (2/561- 563). : ( باب ما جاء في التقصير) تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا، وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا والأول أشهر في الاستعمال، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وقال النووي : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح .(8/102)
وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية، قوله: ( وكم يقيم حتى يقصر ) في هذه الترجمة إشكال؛ لأن الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصرا؟ وقيل: المراد كم يقصر حتى يقيم؟ أي: (حتى) يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين، أي: كم يقيم حين يقصر؟ وقيل: فاعل يقيم هو المسافر،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 555)
والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر. قوله: (عن عاصم) هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن . قوله: (تسعة عشر) أي: يوما بليلته، زاد في [المغازي] من وجه آخر عن عاصم وحده ( بمكة )، وكذا رواه ابن المنذر عن طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ (سبعة عشر) بتقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة (تسع عشرة) كذا ذكرها معلقة وقد وصلها البيهقي . ولأبي داود أيضا من حديث ( عمران بن حصين ) سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229). غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231). أقام رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة عد يومي الدخول الخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما.(8/103)
وأما رواية (خمسة عشر) فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر؛ لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 556)
الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أولا، وحجته حديث أنس الذي يليه.
قوله: صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا ) ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: ( إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر ) ويؤيده صدر الحديث وهو قوله: ( سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231). أقام ) وللترمذي من وجه آخر عن عاصم سنن الترمذي الجمعة (549). فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا ).(8/104)
قوله في حديث أنس : صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693). خرجنا من المدينة في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج )، قوله: ( صحيح البخاري الجمعة (1031). فكان يصلي ركعتين ركعتين ) في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس : إلا في المغرب ، قوله: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282). أقمنا بها عشرا )، لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع، وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس صحيح البخاري الجمعة (1035),سنن النسائي مناسك الحج (2870),مسند أحمد بن حنبل (1/290). قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة الحديث.
ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن؛ فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي : إن المسافر إذا أقام ببلده قصر أربعة أيام، وقال أحمد : إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد : أراد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 557)(8/105)
البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة- فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين- ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام. فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر.
وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن منى وعرفة ليستا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست مكة إلا إن قلنا: إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل : ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري : أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد . والله أعلم. وزعم الطحاوي : أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما، وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك .(8/106)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 558)
2 - قال النووي رحمه الله في شرحه للأحاديث الواردة في [ صحيح مسلم ]: في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، قولها: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر).
اختلف العلماء في القصر في السفر : فقال الشافعي ومالك بن أنس وأكثر العلماء: يجوز القصر والإتمام، والقصر أفضل، ولنا قول: أن الإتمام أفضل، ووجه أنهما سواء، والصحيح المشهور: أن القصر أفضل، وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب ولا يجوز الإتمام، ويحتجون بهذا الحديث وبأن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان القصر واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في [ صحيح مسلم ] وغيره: صحيح مسلم الصيام (1117),سنن الترمذي الصوم (713),سنن النسائي الصيام (2312),مسند أحمد بن حنبل (3/45). أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول الله عز وجل: سورة النساء الآية 101 فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة.
وأما حديث صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509). فرضت الصلاة ركعتين فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وثبتت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع قوله: (فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 559)(8/107)
السفر فقال: إنها تأولت كما تأول عثمان ) اختلف العلماء في تأويلهما: فالصحيح الذي عليه المحققون: أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام، وقيل: لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما. وأبطله المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة . وأبطلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وقصر، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه؛ لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا، وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج. وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث، وقيل: كان لعثمان أرض بمنى . أبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة، والصواب: الأول، ثم مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور: أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر طاعة، قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون: ولا يجوز في سفر المعصية وجوزه أبو حنيفة والثوري، ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال أبو حنيفة والكوفيون : لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل، وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز في السفر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 560)(8/108)
الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال قصر. قوله: (عن عبد الله بن بابيه ) هو بباء موحدة ثم ألف موحدة أخرى مفتوحة ثم مثناة تحت، ويقال فيه: ابن باباه وابن بابي بكسر الباء الثانية. قوله: صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505). عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم، فاقبلوا صدقته هكذا هو في بعض الأصول: صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505). ما عجبت، وفي بعضها: صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505). عجبت مما عجبت، وهو المشهور المعروف، وفيه: جواز قول: تصدق الله علينا، واللهم تصدق علينا، وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر، وقد أوضحته في أواخر كتاب [الأذكار]، وفيه: جواز القصر في غير الخوف وفيه: أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئا يشكل عليه يسأله عنه. والله أعلم).(8/109)
قوله: في الحضر ركعة، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد جميعا عن القاسم بن مالك قال عمرو : حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442),سنن أبو داود الصلاة (1247),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068). إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا وفي الخوف ركعة .
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس : صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (688),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1444),مسند أحمد بن حنبل (1/337). كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم [شرح النووي على صحيح مسلم] (5/194-197). .(8/110)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 561)
3 - قال الترمذي رحمه الله: باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا هشيم، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، أخبرنا أنس بن مالك قال: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),سنن الدارمي الصلاة (1510). خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين، قال: قلت لأنس : كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ؟ قال: عشرا .
وفي الباب عن ابن عباس وجابر .
قال أبو عيسى : حديث أنس حديث حسن صحيح.
وقد روي عن ابن عباس سنن الترمذي الجمعة (548). عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، قال ابن عباس : صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549). فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة .
وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة.
وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
وروي عنه ثنتي عشرة.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا.
وروى ذلك عنه قتادة وعطاء الخراساني وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا.
واختلف أهل العلم بعد في ذلك:
فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة.
وقال الأوزاعي : إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة.
وقال مالك والشافعي وأحمد : إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 562)(8/111)
وأما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة.
ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.
حدثنا هناد أخبرنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين، قال ابن عباس : فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال صاحب [تحفة الأحوذي] في شرح ذلك.
[باب ما جاء في كم تقصر الصلاة)؟!(8/112)
يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر. وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ: (باب في كم تقصر الصلاة). لكنه أراد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها . قوله: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190),سنن الدارمي الصلاة (1509). خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ) أي: متوجهين إلى مكة لحجة الوداع (فصلى ركعتين أي: في الرباعية، وفي رواية الصحيحين على ما في المشكاة. صحيح البخاري الجمعة (1031),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077). فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (قال: عشرا) أي: أقام بمكة عشرا، قال القاري في [المرقاة]: الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 563)
الإتمام . انتهى.
قال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله في شرحه لذلك:(8/113)
قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد؛ لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه، ثم بمكة لطواف الإفاضة، ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. فلتفرق إقامته قصر في الكل، وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلا أن يقصر فيه ما لم يصر مقيما أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمهما، واستدلوا لذلك بخبر [ الصحيحين ]، صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511). يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضا . فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة. انتهى.
وقال الحافظ في [فتح الباري]: صحيح البخاري الجمعة (1035),سنن النسائي مناسك الحج (2870),مسند أحمد بن حنبل (1/290). قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة كما في حديث ابن عباس، ولاشك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي : إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد : إحدى وعشرين صلاة. انتهى كلام الحافظ .
قوله: (وفي الباب عن ابن عباس وجابر ) أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه، وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما(8/114)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 564)
حديث جابر فأخرجه أبو داود .
قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
قوله: (وقد روي عن ابن عباس سنن الترمذي الجمعة (548). عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره أي: في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع، قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في [صحيحه] (تسع عشرة يصلي ركعتين)، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوما، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين . سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229). شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد، صلوا أربعا، فإنا قوم سفر رواه أبو داود . (قال ابن عباس : فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة)، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، ومنه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب.
(وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة) أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشرا فأتمم. فإن قلت: أخرج اليوم أو غدا فصل ركعتين، وإن أقمت شهرا (وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة) أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر الصلاة، وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 565)
خمسة عشر يوما أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة، أخرجه عبد الرزاق . كذا في [شرح الترمذي ] لسراج أحمد السرهندي .(8/115)
(وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا) روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال: إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوما فأتم الصلاة، (واختلف أهل العلم بعد) بالبناء على الضم، أي: بعد ذلك (في ذلك) أي: فيما ذكر من مدة الإقامة (فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع) أي: نوى (على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة) وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد ابن اس حاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، قال المنذري : وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق واختلف على ابن إسحاق فيه فروى عنه مسندا ومرسلا وروى عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في [فتح الباري] حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في [الخلاصة] وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة.. انتهى كلام الحافظ .
واستدلوا أيضا بأثر ابن عمر المذكور، وقد روي عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي (وقال الأوزاعي : إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة).
قال الشوكاني في [النيل]: لا يعرف له مستند فرعي، وإنما ذلك اجتهاد
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 566)
من نفسه. انتهى.(8/116)
قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. (وقال مالك والشافعي وأحمد : إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة) قال في [السبل] صفحة 156: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة، فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما. انتهى. قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضا بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر : أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في [التلخيص]: صححه أبو زرعة . (أما إسحاق ) يعني: ابن راهويه (فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سنن الترمذي الجمعة (548). أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (قال) أي: إسحاق : (لأنه) أي: ابن عباس (روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم أي: أخذ به وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون)، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، قال النووي : إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار . واختلفوا في الاحتجاج به، واحتج به مسلم في [صحيحه]. انتهى، وأخرج عبد الرزاق في [مصنفه]: أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. انتهى.
وأخرج البيهقي في المعرفة عن عبيد الله بن عمر عن نافع : أن ابن عمر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 567)
قال: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين. انتهى. قال النووي : وهذا سند على شرط[الصحيحين]، كذا في أنصب الراية،، وذكر الزيلعي فيه آثارا أخرى.(8/117)
قول: صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا، أي: في فتح مكة كما تقدم (فصلى)، أي: فأقام فصلى (تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين ، وفي رواية للبخاري : صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، قال الحافظ في [الفتح]: أي: يوما بليلة، زاد في المغازي بمكة، وأخرجه أبو داود بلفظ: سبعة عشر. بتقديم السين، وله أيضا من حديث عمران بن حصين : سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229). غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما.(8/118)
وأما رواية سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231). خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في [التلخيص] بعد ذكر الروايات المذكورة: ورواية عبد بن حميد عن ابن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 568)
عباس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوما يقصر الصلاة ما لفظه: قال البيهقي : أصح الروايات في ذلك رواية البخاري، وهي رواية صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). تسع عشرة، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج، وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول، ولم يعد الخروج، وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ : وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن غريب صحيح)، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد [تحفة الأحوذي] (2/110- 116).(8/119)
4 - قال الكاساني رحمه الله:
( وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما، فالمسافر يصير مقيما بوجود الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء. أحدها: صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلابد من أربعة أشياء: نية الإقامة ونية مدة الإقامة واتحاد المكان وصلاحيته للإقامة (أما) نية الإقامة فأمر لابد منه عندنا، حتى لو دخل مصرا أو مكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى يقول: أخرج اليوم أو غدا ولم ينو الإقامة- لا يصير مقيما، وللشافعي فيه قولان: في قول: إذا أقام أكثر مما أقام رسول
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 569)
الله صلى الله عليه وسلم بتبوك كان مقيما، وإن لم ينو الإقامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما، وفي قول: إذا أقام أربعة أيام كان مقيما، ولا يباح له القصر (احتج) لقوله الأول: إن الإقامة متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت الإقامة أو كثرت؛ لأنها ضد السفر والشيء يبطل بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك
تسعة عشر يوما وقصر الصلاة، فتركنا هذا القدر بالنص، فنأخذ بالقياس فيما وراءه، ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا: أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة؛ لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره؛ لأن المسافر لا يخلو عن ذلك عادة، فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة؛ لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا، والثلاثة وإن كانت جمعا لكنها أقل الجمع، فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة، فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق؛ لزوال معنى القلة من جميع الوجوه.(8/120)
(ولنا): إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين، وعن علقمة : أنه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر، وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين، ثم قال لأهل مكة : سنن أبو داود الصلاة (1229). صلوا أربعا فإنا قوم سفر والقياس بمقابلة النص والإجماع باطل،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 570)
وأما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يوما عندنا، وقال مالك والشافعي : أقلها أربعة أيام، وحجتهما ما ذكرنا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). رخص للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث توجب حكم الإقامة.
(ولنا): ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما- فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر.
وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد؛ لأنه من جملة المقادير ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/121)
وروى عبد الله بن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع، فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى منى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة أربعة أيام دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح، وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة؛ لأنه يحتمل أنه علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا التقدير الإقامة (وأما) اتحاد المكان، فالشرط نية مدة الإقامة في مكان واحد؛ لأن الإقامة قرار والانتقال يضاده ولابد من الانتقال في مكانين.
وإذا عرف هذا فنقول: إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يوما في موضعين؛ فإن كانا مصرا واحدا أو قرية واحدة صار مقيما؛ لأنهما متحدان
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 571)
حكما ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان واحد فصار مقيما، وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة أو قريتين أو أحدهما مصر والآخر قرية- لا يصير مقيما؛ لأنهما مكانان متباينان حقيقة وحكما، ألا ترى أنه لو خرج إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط وهو نية الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما فلغت نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر؛ فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل الموضع الذي نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا؛ لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه ألا ترى أنه إذا قيل للسوقي: أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون بالسوق.(8/122)
وذكر في كتاب المناسك: أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة، لا يصح؛ لأنه لابد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح، وقيل: كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة، وذلك أنه كان مشغولا يطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة، فقال لي صاحب أبي حنيفة : أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 572)
تصير مسافرا فقلت: أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثة للطلبة على طلبه. (وأما) المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة أو السفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما. كذا روي عن أبي حنيفة وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين.(8/123)
فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح، ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط، وعن أبي يوسف روايتان وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة، والصحيح قول أبي حنيفة؛ لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا، ولو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة ويقصرون، وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن، وقال أبو يوسف : إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة، فكذلك وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم. وقال زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للمسلمين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 573)
صحت نيتهم وإن كانت للعدو لم تصح. وجه قول زفر : أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم، فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت، وأبو يوسف يقول: الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء.(8/124)
(ولنا): ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلا سأله وقال: إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة نية القرار، وإنما تصح في محل صالح للقرار ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين؛ لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم؛ لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة؛ لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت، ولأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما، فقد خرج الجواب عما قالا، وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم ونووا الإقامة خمسة عشر يوما، واختلف المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف : قال بعضهم: لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا الإقامة مدة الإقامة؛ لأن المفازة ليست موضع الإقامة، والأصح أنهم مقيمون؛ لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر، بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 574)
في الطريق [البدائع] (1/97- 99). .(8/125)
5 - قال ابن القاسم رحمه الله: قلت لمالك : الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفره وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته وفيها عبيده وبقره وجواريه وليس له بها أهل ولا ولد (قال): يقصر الصلاة إلا أن يكون نوى أن يقيم فيها أربعة أيام أو يكون فيها أهله وولده، فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة وإن أقام أربعة أيام أتم الصلاة. (قلت): أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بها في سفره وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر؟ (قال): يقصر، قال: إنما محمل هذا عند مالك إذا كانت له مسكنا أتم الصلاة وإن لم تكن له مسكنا لم يتم الصلاة.
(قال): وقال مالك : صلاة الأسير في دار الحرب أربع ركعات إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين (قال): وقال مالك : لو أن عسكرا دخل دار الحرب فأقام في موضع واحد شهرا أو شهرين أو أكثر من ذلك فإنهم يقصرون الصلاة. قال: ليس دار الحرب كغيرها (قال): وإذا كانوا في غير دار الحرب فنووا إقامة أربعة أيام أتموا الصلاة. (قلت) له: وإن كانوا في غير قرية ولا مصر كان مالك يأمرهم أن يتموا؛ قال: نعم، (قلت): أرأيت إن أقاموا على حصن حاصروه في أرض العدو شهرين أو ثلاثة أيقصرون الصلاة؟ (قال): قال مالك : نعم، يقصرون الصلاة (قال) وكيع بن الجراح : عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس : إنا نطيل المقام بخراسان في الغزو قال: صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، من حديث وكيع عن المثنى بن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 575)
سعيد الضبعي عن أبي جمرة (قال) مالك : إن عائشة قالت: صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509). فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى .(8/126)
(قال) ابن وهب : عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن رجل عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يصلي ركعتين وهو محاصر للطائف قال: (وكان عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب يقولان: إذا أجمع المسافر على مقام أربعة أيام أتم الصلاة).
(وقال) ابن شهاب ويحيى بن سعيد في الأسير في أرض العدو : إنه يتم الصلاة ما كان محبوسا [المدونة] ص 114- 117. انتهى.
قال ابن رشد : وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: مذهب مالك والشافعي : أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم.
والثاني: مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري : أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم.
والثالث: مذهب أحمد وداود : أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم.
وسبب الخلاف: أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع؛ ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 576)
لها حكم المسافر.
فالفريق الأول: احتجوا لمذهبهم بما روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أن يقصر في الثلاثة فما دونها.
والفريق الثاني: احتجوا لمذهبهم بما سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076). روي أنه أقام بمكة عام الفتح مقصرا، وذلك نحو من خمسة عشر يوما في بعض الروايات، وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما صحيح البخاري المغازي (4047),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق.(8/127)
والفريق الثالث: احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها: صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه فدل هذا عندهم على أن إقامته ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني: متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله.
ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة، فقالت المالكية مثلا: إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي ألا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه. والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 577)(8/128)
عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان. فيحتمل أن يكون إقامة؛ لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم المسافر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر [ بداية المجتهد] ص 122 , 123 .
6 - قال النووي رحمه الله: قال المصنف رحمه الله:
إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيما وانقطعت رخص السفر؛ لأنه بالثلاث لا يصير مقيما؛ لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب؛ لأنه مسافر فيه إقامته في بعضه لا تمنع من كونه مسافرا؛ لأنه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم، ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 578)
وإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان:(8/129)
(أحدهما): يقصر؛ لما روى أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
(والثاني): لا يقصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلم يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب، وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا انتجزت رحل، ولم ينو مدة ففيه قولان:
(أحدهما): يقصر سبعة عشر يوما؛ لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة. وقد روى ابن عباس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة ، وبقي فيما زاد على حكم الأصل.
و (الثاني): يقصر أبدا؛ لأنه إقامة على حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر، وخرج أبو إسحاق قولا ثالثا: إنه يقصر إلى أربعة أيام الإقامة أبلغ في نية الإقامة؛ لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ثم ثبت أنه لو نوى الإقامة أربعة أيام لم يقصر، فلأن يقصر إذا أقام أولى، (الشرح) حديث "" رواه البخاري ومسلم، وحديث: صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
وحديث عمر رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، صحيح رواه مالك في [ الموطأ] بإسناده الصحيح، فرواه عن نافع عن أسلم مولى عمر، وحديث إقامة الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة رواه البيهقي بإسناد صحيح، إلا أن فيه عكرمة بن عمار، وهو مختلف في الاحتجاج به، وقد روى له مسلم في [صحيحه].
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 579)(8/130)
وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في [صحيحه]، لكن في رواية البخاري تسعة عشر بنقصان واحد من عشرين، ووقع في بعض روايات أبي داود والبيهقي سبعة عشر بنقصان ثلاثة من عشرين، وكذا وقع في [المهذب].
أما ألفاظ الفصل فقوله: أجلى عمر اليهود : معناه أخرجهم من ديارهم، قال أهل اللغة: يقال: جلا القوم خرجوا من منازلهم، وأجليتهم وجلوتهم أخرجتهم. ورامهرمز - بفتح الميم الأولى وضم الهاء وإسكان الراء وآخره زاي- وهي بلاد معروفة، وقوله: تسعة أشهر هو بالتاء. في أول تسعة، وقوله: الإقامة لا يلحقها الفسخ هو بالفاء، أي: لا ترفع بعد وجودها، والنية يمكن قطعها وإبطالها. أما الأحاديث الواردة بالإقامة المقيدة ففي حديث ابن عباس تسعة عشر يوما كما ذكرنا عن رواية البخاري .
وفي رواية لأبي داود والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري سبعة عشر وفي رواية أخرى لأبي داود والبيهقي عن ابن عباس خمسة عشر، ولكنها ضعيفة مرسلة، وكان حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح، وروى أبو داود والبيهقي عن عمران بن حصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثمان عشرة ليلة يقصر الصلاة، إلا أن في إسناده من لا يحتج به.
قال البيهقي : أصح الروايات في حديث ابن عباس تسعة عشر، وهي التي ذكرها البخاري، قال: ويمكن الجمع بين رواية ثمان عشرة وتسع عشرة وسبع عشرة، فإن من روى تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج ومن روى سبع عشرة لم يعدهما، ومن روى ثمان عشرة عد أحدهما.
وروى أبو داود والبيهقي عن جابر سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 580)(8/131)
يقصر الصلاة، لكن روي مسندا ومرسلا، قال بعضهم: ورواية المرسل أصح (قلت): ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام يجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند.
أما حكم الفصل: فقال الشافعي والأصحاب: إذا نوى في أثناء طريقه الإقامة مطلقا انقطع سفره فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق، فلو جدد السير بعد ذلك فهو سفر جديد، فلا يجوز القصر إلا أن يقصد مرحلتين هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلد أو قرية أو واد يمكن البدوي الإقامة به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها ففي انقطاع السفر والرخص بنية الإقامة فيها قولان مشهوران:
أصحهما عند الجمهور: انقطاعه؛ لأنه ليس بمسافر، فلا يترخص حتى يفارقها.
والثاني: لا ينقطع، وله الترخص؛ لأنه لا يصلح للإقامة، فنيته لغو، هذا كله إذا نوى الإقامة وهو ماكث، أما إذا نواها وهو سائر فلا يصير مقيما بلا خلاف، صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف وإن نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي والأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما وانقطعت الرخص، وهذا يقتضي أن نية دون أربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون من أصحابنا.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 581)
وفي كيفية احتساب الأربعة وجهان حكاهما البغوي وآخرون: (إحداهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح.
(وأصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور: لا يحسبان لما ذكره المصنف. فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما، وعلى الثاني: لا يصير، وإن دخل ضحوة السبت بنية الخروج عشية الأربعاء.(8/132)
وأما قول إمام الحرمين والغزالي : متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام صار مقيما- فموافق لما قاله الأصحاب؛ لأنه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة.
ثم الأيام المحتملة معدودة بلياليها ومتى نوى أربعة صار مقيما في الحال ولو دخل في الليل لم يحسب بقية الليل، ويحسب الغد، هذا كله في غير المحارب.
أما المحارب، وهو: المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران:
(أحدهما): يقصر أبدا؛ لما ذكره المصنف وهو اختيار المزني، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
(وأصحهما) عند الأصحاب: أنه كغيره فلا يقصر إذا نوى إقامة أربعة أيام، وممن صححه القاضي أبو الطيب والماوردي والرافعي وآخرون.
قال الشيخ أبو حامد والمحاملي : وهو اختيار الشافعي، وأجابوا عن حديث أنس بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد، بل كانوا يتنقلون
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 582)
في تلك الناحية، أما إذا أقام في بلد أو قرية لشغل فله حالان:
(أحدهما): أن يتوقع انقضاء شغله قبل أربعة أيام، ونوى الارتحال عند فراغه فله القصر إلى أربعة أيام بلا خلاف، وفيما زاد عليها طريقان :
(الصحيح) منهما، وقول الجمهور: أنه على ثلاثة أقوال:
(أحدها): يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم لقتال أو لخوف من القتال أو لتجارة وغيرها.
(والثاني): لا يجوز القصر أصلا.
(والثالث): وهو الأصح عند الأصحاب: يجوز القصر ثمانية عشر يوما فقط، وقيل: على هذا يجوز سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين، وسمى إمام الحرمين هذه أقوالا.
والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في المحارب، وأما غيره فلا يجوز له القصر بعد أربعة أيام قولا واحدا، وبه قال أبو إسحاق : كما حكاه المصنف عنه، وإذا جمعت هذه الأقوال والأوجه وسميت أقوالا كانت سبعة.
(أحدها): لا يجوز القصر بعد أربعة أيام.(8/133)
(والثاني): يجوز إلى سبعة عشر يوما (وأصحها) إلى ثمانية عشر، و(الرابع): إلى تسعة عشر، و(الخامس): إلى عشرين، و(السادس): أبدا، و (السابع): للمحارب مجاوزة أربعة وليس لغيره، ودليل الجميع يعرف مما ذكره المصنف، وذكرناه.
(الحال الثاني): أن يعلم أن شغله لا يفرغ قبل أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج- كالمتفقه والمقيم لتجارة كبيرة ولصلاة الجمعة ونحوها، وبينه وبينها أربعة أيام فأكثر- فإن كان محاربا وقلنا في الحال:
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 583)
الأول: لا يقصر فهاهنا أولى، وإلا فقولان:
(أحدهما): يترخص أبدا (وأصحهما): لا يتجاوز ثمانية عشر، إن كان غير محارب، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا، وبه قطع الجمهور .
(والثاني): أنه كالمحارب حكاه الرافعي وآخرون وقالوا: هو غلط ( فإن قيل): ثبت في [صحيحي البخاري ومسلم ]، عن أنس قال: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1438),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/145),سنن الدارمي الصلاة (1510). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر حتى أتى مكة فأقمنا بها عشرا فلم يزل يقصر حتى رجع، فهذا كان في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى إقامة هذه المدة، (فالجواب) ما أجاب به البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب.(8/134)
قالوا: ليس مراد أنس أنهم أقاموا في نفس مكة عشرة أيام، بل طرق الأحاديث الصحيحة من روايات جماعة من الصحابة متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثة ولم يحسب يوم الدخول ولا الثامن؛ لأنه خرج فيه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وسار منها يوم التاسع إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفة، ثم أصبح فسار إلى منى فقضى نسكه، ثم أفاض إلى مكة فطاف للإفاضة ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثا يقصر ثم نفر فيها بعد الزوال في ثالث أيام التشريق فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع ثم رحل من مكة قبل صلاة الصبح فلم يقم صلى الله عليه وسلم أربعا في موضع واحد، والله أعلم.
(فرع) لو سافر عبد مع سيده وامرأة مع زوجها، فنوى العبد والمرأة إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد والزوج فوجهان حكاهما صاحب [ البيان] وغيره: (أحدهما): ينقطع رخصهما كغيرهما، و (الثاني): لا ينقطع ؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة فلغت نيتهما. قال صاحب البيان: ولو نوى
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 584)
الجيش الإقامة مع الأمير ولم ينو هو فيحتمل أنه على الوجهين (قلت): الأصح في الجميع أنهم يترخصون؛ لأنه لا يتصور منهم الجزم بالإقامة.(8/135)
7 - قال ابن قدامة رحمه الله [ الشرح الكبير مع المغني] (2/107, 108) المكتبة السلفية :
مسألة: (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر).
المشهور عن أحمد رحمه الله: أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها : ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم، حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل . وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا؛ لأن الثالث حد القلة؛ صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511). لقوله عليه الصلاة والسلام: يقيم المسافر بعد قضاء نسكه ثلاثا فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم ، فإن نوى دونه قصر، ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة، ولا يعرف لهما مخالف، وروي عن علي رضي الله عنه قال: يتم الصلاة الذي يقيم عشرا، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم أخرج غدا. شهرا، وعن ابن عباس أنه
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 585)(8/136)
قال: يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد؛ لأن صحيح البخاري المغازي (4047),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين، قال ابن عباس : فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا. رواه البخاري، وقال الحسن : صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم، وقالت عائشة : إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة، وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا.(8/137)
ولنا ما روى أنس قال: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282). خرجنا مع رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة . متفق عليه . وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الأثرم : وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام ليس يفقهه كل أحد، فقوله: صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190). أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة، ثم قال: ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابة لا يصح؛ لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 586)(8/138)
وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة. قال أحمد : أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : زمن الفتح ثماني عشرة؛ لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن . والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لما سئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا ؟
فأجاب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة . فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة . وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال: غدا أسافر، أو بعد غد أسافر. ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا، فإن سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295). النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة . والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين، فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
فأجاب: الحمد لله.. هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح: أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 587)
خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة.(8/139)
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فمادام المسافر مسافرا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورا. والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية [ مجموعة الفتاوى] (24/17, 18 ) .
وقال [ الاختيارات الفقهية ] ص72 ،73 : وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، سواء قل أو كثر.
ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره صاحب [ المغني] فيه، وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع. وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي، وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا. وروي هذا عن جماعة من الصحابة.
وقرر أبو العباس قاعدة نافعة: وهي أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه ووجوده. ولم يجز تقديره وتحديده بمدة. فلهذا كان الماء قسمين: طاهرا طهورا أو نجسا. ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنة وأكثره، ولا لأقل السفر.
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 588)
أما خروجه إلى بعض عمل أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلا يسمى سفرا. ولو كان بريدا. ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر. هذا مع قصر المدة. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة.
ولا حد للدرهم والدينار، فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا أو مغشوشا قل غشه أو كثر، لا درهما أسود- عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما.(8/140)
ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها. وإن رأى الإمام تأجيلها فعل؛ لأن عمر أجلها، فأيهما رأى الإمام فعل. وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ والخلع فسخ مطلقا.. والكفارة في كل أيمان المسلمين.
وقال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه على هديه صلى الله عليه وسلم لسفره: وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071). أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم - فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى.
وقد روى كان يقصر ويتم الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (454),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/241),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509). أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 589)(8/141)
صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه؟! قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره: أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071). النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة، فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر.(8/142)
وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجابه بالشفاء وإن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته: أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال: أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، إن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 590)
وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدل عليه كلام الصحابة؛ كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة : صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509). فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر - فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان.(8/143)
وقال ابن عباس : صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442),سنن أبو داود الصلاة (1247),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068). فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس . وقال عمر بن الخطاب : سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1063),مسند أحمد بن حنبل (1/37). صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505). صدقة تصدق بها الله عليكم، فاقبلوا صدقته ، ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان, تمام غير قصر.
وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.(8/144)
وقال أنس : صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/187),سنن الدارمي الصلاة (1509). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 591)
ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة متفق عليه، صحيح البخاري الجمعة (1034),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (695),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1449),سنن أبو داود المناسك (1960),مسند أحمد بن حنبل (1/416),سنن الدارمي المناسك (1874). ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه .
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحيح البخاري الجمعة (1051),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071),مسند أحمد بن حنبل (2/140),سنن الدارمي المناسك (1875). صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان، يعني: في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات:(8/145)
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع لهم النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أنه كان إماما للناس والإمام حيثما نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه. ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت فضاء؛ ولهذا سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937). قيل
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 592)
له: يا رسول الله، ألا تبني لك بمنى بيتا يظللك من الحر؟ فقال: لا، منى مناخ من سبق فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر. ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190). أقام بمكة عشرا يقصر في الصلاة .(8/146)
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا. وقد صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا فسماه مقيما والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190). أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة .
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة .(8/147)
وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511). منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط فلم يكن عثمان ليقيم بها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، إنما رخص فيها ثلاثا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع؛ ولهذا صحيح البخاري الزكاة (1418),صحيح مسلم الهبات (1621),سنن النسائي الزكاة (2617),سنن أبو داود الزكاة (1593),مسند أحمد بن حنبل (2/55),موطأ مالك الزكاة (625). منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: مسند أحمد بن حنبل (1/62). صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس، لما قدمت تأهلت بها، وإني
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 593)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد رحمه الله في [مسنده]، وعبد الله بن الزبير الحميدي في [مسنده] أيضا .(8/148)
وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في [تاريخه] ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان . وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضا اعتذار ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق علي، قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم،. وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم، قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي، حدثنا سعيد ابن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم . قال
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 594)(8/149)
الدارقطني : وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة : سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1456). أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال: أحسنت يا عائشة، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509). فرضت الصلاة ركعتين: فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! قال الزهري لعروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في(8/150)
تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له، والله أعلم.
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له ابن عمر : يا أخي، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل. وقد قال أنس : صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 595)
ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، وقال ابن عمر : صحيح البخاري الجمعة (1051),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071),مسند أحمد بن حنبل (2/140),سنن الدارمي المناسك (1875). صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهذه كلها أحاديث صحيحة [ زاد المعاد] (1/128ـ 130) .
مسألة: وقال الأثرم عنه: إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم ونقل المروزي إذا عزم على مقام إحدى وعشرين صلاة فليتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة، وكذلك نقل حرب إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم، وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج إذا أزمع على إقامة أربعة أيام وزيادة يتم في أول يوم.(8/151)
واحتج بحديث جابر، قال أبو حفص : هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوي أكثر من ذلك فكيف يقول: إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم. ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد قيل له: يا أبا عبد الله، يحكون أنك تقول: إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم، فقال: لا يفهمون، النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على إقامة أربع وصلاة فقصر. ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري : أنه قال: إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر، قال أبو حفص : ليس في هذا خلاف لذلك؛ لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 596)
أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام. وقوله: ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة؛ لأنها دون الخمسة أيام، ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس؛ لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس. وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال: إذا نوى إقامة أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه؛ لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة. قال القاضي: وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدة الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات.
واحتج في ذلك بحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة؛ لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها .
ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره، فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات:(8/152)
(إحداها): ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخرقي وأبو حفص .
(الثانية): ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما. دليله: إذا نوى زيادة على إحدى وعشرين.
(الثالثة): ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة؛ لأنها مدة تنقص
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 597)
عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر دليله مدة إحدى وعشرين أو عشرين
" مسائل فقهية عن الإمام أحمد بن حنبل ص 116-118[ بدائع الفوائد] " .(8/153)
8 - وقال ابن حزم رحمه الله:
قال علي : واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر : أنه كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة، ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول: أبو حنيفة وأصحابه.
وروينا عن طريق أبي داود ثنا محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس : سنن أبو داود الصلاة (1230). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة قال ابن عباس : من أقام سبع عشرة يقصر الصلاة قال ابن عباس : من أقام سبع عشرة بمكة قصر ومن أقام فزاد أتم. وروي عن الأوزاعي إذا أجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فإن نوى أقل قصر. وعن ابن عمر قول آخر: أنه كان يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتي عشرة ليلة، فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب : إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة، وبه يأخذ سفيان الثوري والحسن بن حيي وحميد الرواسي صاحبه.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وبه يأخذ مالك والشافعي والليث، إلا أنهم يشترطون أن ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وإن بقي حولا.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم.
ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر- هو جعفر بن أبي وحشية - عن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 598)
سعيد بن جبير : إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة.
وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم الصلاة.
وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها، فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف.
وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس : إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على المسير؟ قال: صل ركعتين.(8/154)
وعن وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر : أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر ارتج عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين قال علي : الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصيف.
وقد أمر ابن عباس من أخبره أنه مقيم سنة لا ينوي سيرا بالقصر.
وعن الحسن وقتادة : يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين.
قال علي : احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل: وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع.
قال علي : وهذا باطل. وقد أوردنا عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة، واحتج لمالك والشافعي مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 599)
العلاء بن الحضرمي : أنه عليه الصلاة والسلام قال: صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512). يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك. قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا.(8/155)
وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم، هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟
وأيضا فإن المسافر يباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث فأما نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟
وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر، فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم، بخلاف قولهم.
وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام وهكذا قال أبو ثور، فبطل قولهم على كل حال، وعريت الأقوال كلها عن
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 600)
حجة، فوجب أن نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته.
قال علي : أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فإن الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض. ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة . هذا حكم الشريعة والطبيعة معا.(8/156)
فإن ذلك كذلك، فالمقيم في مكان واحد مقيم غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص، وقد صح بإجماع أهل النقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه الصلاة والسلام قصر في باقي يومه ذلك وفي ليلته التي بين يومي نقلته، فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الإتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة. كذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنالك فهو مقيم، فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة وهو أيضا قول الزهري وأحمد بن حنبل .
ولم نجد عنه عليه السلام أنه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر إلا في الحج والعمرة والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة .
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 601)
ونسأل من أبى هذا عمن مشى في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر لا ينزل ولا يثبت اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلي فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم يقصر، فصح أن السفر هو المشي.
ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أم يقصر؟ فمن قولهم يتم. فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا، وهذا نفس قولنا، ولله تعالى الحمد.(8/157)
وأما الجهاد والحج فإن عبد الله بن ربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن يحيي بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، قال: سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة .
قال علي : محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما روي عنه عليه السلام في إقامته بتبوك، فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر، وقال أبو حنيفة ومالك : يقصر مادام مقيما في دار الحرب.
قال علي : وهذا خطأ لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله عليه السلام الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر، لما ذكرنا.
وقال الشافعي وأبو سليمان كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس، مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة.
وأما الحج والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح،
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 602)
حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قال: كم أقام بمكة ؟ قال: عشرا .(8/158)
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، حدثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا موسى، ثنا وهب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: صحيح البخاري الجمعة (1035),صحيح مسلم الحج (1240),سنن النسائي مناسك الحج (2870). قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج وذكر الحديث.
قال علي : فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الظهر من اليوم الثامن من الحجة، وأنه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليال كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة، كما ذكرنا.
وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم؛ لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة وبات بها ليلة يوم عرفة، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة، فبقي هنالك إلى أول الليلة
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 603)(8/159)
العاشرة ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة ثم نهض في صباح اليوم العاشر إلى منى فكان بها. ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة. إما في اليوم العاشر وإما في الليلة الحادية عشرة بلا شك في أحد الأمرين ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثة أيام ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمي الجمار بعد زوال الشمس، وكانت إقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم، ثم أتى إلى مكة فبات الليلة الرابعة عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا، فصح ما قلناه في الحج والعمرة، ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد.
فإن قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة في بعضها، صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة، وفي بعضها سنن أبو داود الصلاة (1229),مسند أحمد بن حنبل (4/431). ثمان عشرة وفي بعضها صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1230),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). سبع عشرة، وفي بعضها صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075). خمس عشرة يقصر الصلاة؟(8/160)
قلنا: نعم، وقد بين ابن عباس إن هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب؛ لأن جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 604)
واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين ثم إلى مكة معتمرا ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد.
قال علي : وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار الحرب وبعد الإحرام فلأن القاصد إلى الجهاد مادام في دار الإسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا أجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس يعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لأن يحج أو لأن يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق.
قال علي : وكل هذا لا حجة لهم فيه؛ لأن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا؛ لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال إذ أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت؛ لأني في جهاد، فمن قال شيئا من هذا فقد قوله عليه الصلاة والسلام ما لم يقل. وهذا لا يحل.(8/161)
فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يوما يقصر وبمكة دون ذلك يقصر لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا ولكان مقيم يومه يلزمه الإتمام. لكن لما أقام عليه الصلاة والسلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك أن عشرين يوما إذا أقامها المسافر، فله فيها حكم السفر. فإن أقام أكثر أو نوى إقامة أكثر فلا برهان
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 605)
يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا.
ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص ذلك بتبوك دون سائر الأماكن، وهذا كله باطل لا يجوز القول به إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله التوفيق.
ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك؛ لأنه لم يأت فيه نص أصلا. فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم، وبالله التوفيق.
قال علي : وقال أبو حنيفة والشافعي : إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم، فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما. قال أبو حنيفة : وكذلك لو نوى خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما، ونوى إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر.
وقال مالك : يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما.
قال علي : ومن العجب العجيب إسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة وغسل الجنابة والحيض وبقائه في رمضان ينوي الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية، ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أوجبها برهان نظري.
قال علي : وبرهان صحة قولنا أن الحكم لإقامة المدد التي ذكرنا- كانت هنالك نية لإقامة أو لم تكن- فهو أن النيات إنما تجب فرضا في الأعمال التي أمر الله تعالى بها فلا يجوز أن تؤدى بلا نية، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن ولا سنة(8/162)
(الجزء رقم : 7، الصفحة رقم: 606)
ولا نظر ولا إجماع، والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية لا الحال، وهم موافقون لنا أن السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سير به مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم.
وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية. وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية وله حكم في إسقاط الوضوء وإيجاب تجديده وغير ذلك. وكذلك الإجناب لا يحتاج إلى نية وهو يوجب الغسل. وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الأعمال هي الإقامة والسفر، فلا يحتاج فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد.
وبالله تعالى التوفيق وهذا قول الشافعي وأصحابنا.
هذا ما تيسر لنا جمعه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/163)