ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن يقال : الرسول صلى الله عليه وسلم عرض على الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا ، ثم بين لهم أن لهم على اليهود خمسين يمينا يحلفها خمسون منهم ، فبينوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقبلون أيمانهم ، وهذا يدل على مشروعيتها ، إذ لا يصح أن يحمل هذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم على العبث والألغاز التي لا يرشد إليها الكلام ، وإنما يحمل عليها الكلام بمجرد الظنون والأوهام .
الأمر الثاني : أن هذا الدليل مضطرب ، والاضطراب علة مانعة عن العمل به فيكون مردودا ، ويمكن أن نبين وجوه الاضطراب والجواب عن كل وجه بعده .
الوجه الأول : الاضطراب بالزيادة والنقص وفي البدء بتوجيه الأيمان ، فإن هذا الحديث ليس فيه طلب البينة أولا من المدعين ، كما أنه يدل على البدء بتوجيه الأيمان إلى المدعين ، وقد جاء ما يخالف ذلك : فروى البخاري في الصحيح بسنده المتصل إلى بشير بن يسار ، زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة - وذكر الحديث وفيه - فقال لهم : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). تأتون بالبينة على من قتله " قالوا : ما لنا بينة ، قال : " فيحلفون " ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود . . . . الحديث .
وقد أجاب ابن حجر عن ذلك بقوله : وطريق الجمع أن يقال : حفظ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 101)
أحدهم ما لم يحفظ الآخر ، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة ، فعرض عليهم الأيمان ، فامتنعوا ، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا .(2/251)
وأما قول بعضهم : إن ذكر البينة وهم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين ، فدعوى نفي العلم مردودة ، فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين ، لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا ، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك ، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهدا من وجه آخر ، أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سنن النسائي القسامة (4720),سنن ابن ماجه الديات (2678). أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول صلى الله عليه وسلم : أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنى أصيب شاهدين ، وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم . . . الحديث ، وهذا السند صحيح حسن ، وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه .
وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال : سنن أبو داود الديات (4524). أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا ، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم " قال : لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود ، وقد يجترئون على أعظم من هذا [ فتح الباري ] ( 12 / 234 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 102)
الوجه الثاني : أن الحديث مضطرب لاختلاف العبارات ، وقد وقع هذا في كثير من روايات الحديث لمن تأملها .
ويمكن أن يجاب عنه : بأن الرواية بالمعنى جائزة ، وما دام أن اختلاف الألفاظ لا يترتب عليه اختلاف تضاد في الحكم - فلا أثر له .(2/252)
الوجه الثالث : أن الحديث مضطرب ؛ لوجود الاختلاف في دفع الدية ، ففي رواية البخاري : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4523),سنن ابن ماجه الديات (2677). فوداه مائة من إبل الصدقة ، وفي رواية مسلم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ، وفي رواية النسائي : سنن النسائي القسامة (4720),سنن ابن ماجه الديات (2678). فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها .
ويجاب عن هذا : أولا بما قاله ابن حجر : قوله : ( من إبل الصدقة ) زعم بعضهم : أنه غلط من سعيد بن عبيد ؛ لتصريح يحيى بن سعيد بقوله : ( من عنده ) وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده ، أو المراد بقوله : من عنده ، أي : بيت المال المرصد للمصالح ، وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا ؛ لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين ، وقد حمله بعضهم على ظاهره ، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء : جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره ، قلت : وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال : حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج ، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 103)
أمره وحكمه ، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم .(2/253)
قال القرطبي في [ المفهم ] : فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته ، وجلبا للمصلحة ، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف ، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق ، ورواية من قال : " من عنده " أصح من رواية من قال : " من إبل الصدقة " . وقد قيل : إنها غلط ، والأولى : أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أوجها منها ، فذكر ما تقدم وزاد : أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء ، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم ، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم ، واستجلابا لليهود . انتهى [ فتح الباري ] ( 12 / 235 ) . .
ويجاب ثانيا عن رواية النسائي بأمرين :
أحدهما : من جهة السند والثاني : من جهة الدلالة .
أما من جهة السند : فإن النسائي رحمه الله تعالى ذكر هذه الترجمة ( ذكر اختلاف الناقلين لخبر سهل فيه ) وساق عدة روايات ، وقال بعد ذلك : ( خالفهم عمرو بن شعيب أخبرنا محمد بن معمر قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . . . وذكر الحديث ، وقال في آخره : سنن النسائي القسامة (4720),سنن ابن ماجه الديات (2678). فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها [ سنن النسائي ] ( 8 / 12 ) . .
وقال ابن القيم : قال النسائي : لا نعلم أحدا تابع عمرو بن شعيب على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 104)
هذه الرواية .
ويمكن أن يقال : إن عمرو بن شعيب انفرد بهذه الزيادة وهو مختلف في الاحتجاج به ، فتكون هذه الزيادة مردودة .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأنه سبق ما ذكر عن بعض العلماء كالإمام أحمد وابن المديني وغيرهما أنهم يحتجون به .(2/254)
وبناء على أنه حجة فيقال من جهة دلالته : يمكن الجمع بينه وبين ما جاء دالا على أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، ووجه الجمع أن يقال : إن قول الراوي ( فقسم رسول الله - صلى الله علية وسلم - ديته عليهم ) أي : على اليهود ، أي : على تقدير : أن يقروا بذلك ، كأنه أرسل إلى يهود أن يقسم الدية عليهم ويعينهم بالنصف إن أقروا فلما لم يقروا وداه من عنده [ شرح السيوطي لسنن النسائي ] ( 8 / 13 ) . .
الوجه الرابع : أن الحديث مضطرب ؛ لوجود ذكر الحلف دون عدد الأيمان والحالفين في بعض الروايات ، ففي رواية البخاري " أتحلفون ؟ " فذكر الحلف ولم يذكر عدد الأيمان ولا عدد الحالفين ، وفي رواية البخاري " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟ " ، ففيها بيان عدد الحالفين ، وفي رواية مالك في بالموطأ ] " أتحلفون خمسين يمينا ؟ " ففي هذا عدد الأيمان .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن الروايات التي لم يذكر فيها عدد الأيمان وعدد الحالفين مجملة ، والروايات التي جاء فيها عدد الحالفين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 105)
وعدد الأيمان مفسرة لهذا الإجمال ، وذلك أن القصة واحدة فيكون المفسر مبينا للمجمل فيحدد معناه ، وبهذا تجتمع الروايات وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه .
وأما الإجماع : فقد سبق ما نقل عن السمرقندي وهو قوله : وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه انظر ص94 الحاشية رقم ( 1 ) . .
وقول خارجة بن زيد : فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم ليقتلوه [ الفتح ] ( 12 / 231 ) . .
قال ابن حجر : وقد تمسك مالك بقول خارجة المذكور ، فأجمع أن القود إجماع [ الفتح ] ( 12 / 232 ) . .
وقد تقدم ما نقله أبو الزناد عن خارجة من قوله : قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان ، وسبقت مناقشته .(2/255)
ويرد دعوى الإجماع في عهد عمر بن عبد العزيز ما نقل عنه : أنه كان لا يرى القسامة ؛ ولهذا نصب أبو قلابة للناس ليعلن أبو قلابة رأيه في عدم مشروعية القسامة .
ويرد على دعوى إجماع أهل المدينة : ما ذكره ابن حجر بقوله : وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر فأخرج ابن المنذر عنه أنه كان يقول : ( يا لقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 106)
لو كان لي من أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة ) وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة ، فإن سالما من أجل فقهاء المدينة يرجع إلى [ نصب الراية ] ( 4 / 393 ) وما بعدها , و [ المحلى ] ( 11 / 65 ) . .
وأما الآثار : فقد وردت آثار عن الخلفاء الأربعة وغيرهم تدل على مشروعية القسامة ، وبعضها لا يخلو من مقال(2/256)
القائلون بعدم العمل بالقسامة :
قال الأبي نقلا عن القاضي عياض : وأبطل الأخذ به - أي : بهذا الركن - فلم يثبت للقسامة حكما في الشرع سالم بن عبد الله ، والحكم بن عيينة ، وسليمان بن يسار ، وقتادة ، وابن علية ، ومسلم بن خالد ، وأبو قلابة ، والمكيون ، وإليه نحا البخاري ، واختلف قول مالك في الأخذ به في قتل الخطأ .
ط - والشهير عنه إثباتها فيه ، وعنه : أنه لا قسامة فيه [ إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ] ( 4 / 394 ) . .
ونسبة البخاري إلى معاوية وعمر بن عبد العزيز ، وستأتي مناقشة ما نسبه إليهما .
مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة :
احتجوا بالسنة والاستصحاب والأثر .
أما السنة : فقال ابن حزم : نظرنا فيما يمكن أن يحتج به فوجدناه من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 107)
طريق نا طاهر نا ابن وهب عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري تفسير القرآن (4277),صحيح مسلم الأقضية (1711),سنن الترمذي الأحكام (1342),سنن النسائي آداب القضاة (5425),سنن أبو داود الأقضية (3619),سنن ابن ماجه الأحكام (2321),مسند أحمد بن حنبل (1/288). لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/37),سنن الدارمي المناسك (1916). إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، وقوله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الإيمان (139),سنن الترمذي الأحكام (1340),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245),مسند أحمد بن حنبل (4/317). بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك .(2/257)
قالوا : فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال ، وبين الدعوى في الدماء والأموال ، وأبطل كل ذلك ، ولم يجعله إلا بالبينة واليمين على المدعى عليه ، فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا ، لا فيمن يحلف ولا في عدد يمين ولا في إسقاط الغرامة إلا بالبينة ولا مزيد .
وهذا كله حق ، إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا ، وهو أن الذي حكم بما ذكروا وهو المرسل إلينا من الله تعالى - هو الذي حكم بالقسامة ، وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة ، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها ، إذ كلها من عند الله تعالى وكلها حق ، وفرض الوقوف عنده والعمل به ، وليس بعض أحكامه علمه السلام أولى بالطاعة من بعض ، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية وتحت قوله تعالى : سورة البقرة الآية 85 أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ولا فرق بين من ترك حديث صحيح مسلم الإيمان (139),سنن الترمذي الأحكام (1340),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245),مسند أحمد بن حنبل (4/317). بينتك أو يمينه لحديث القسامة وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث [ المحلى ] ( 11 / 77 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 108)
ومما يوضح جواب ابن حزم رحمه الله ما قاله الخطابي رحمه الله ، قال : هذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام ، وللشريعة أن تخص كما لها أن تعم ، ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة ، كما لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول [ معالم السنن ] ( 6 / 315 ) . .
وجاء معنى ذلك عن ابن المنذر [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 1 / 458 ) . وابن حجر [ فتح الباري ] ( 12 / 197 ) . .
وقد أورد ابن حزم : رحمه الله اعتراضا على جوابه :(2/258)
وأجاب عنه فقال : فإن قالوا : الدماء حدود ولا يمين في الحدود . قيل لهم : ما هي الحدود ؟ لأن الحدود ليست بموكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها ، بل هي واجبة لله تعالى وحده ، لا خيار فيها لأحد ولا حكم ، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي ؛ إن شاء استقاد ، وإن شاء عفا ، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس ، وفسد قول من فرق بينهما وبين حقوق الناس من أموال وغيرها إلا حيث فرق الله تعالى ورسوله بين الدماء والحقوق وغيرها وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط [ المحلى ] ( 11 / 77 ) . .
وقد أجاب شيخ الإسلام : بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق ، فقال : وهذه الأمور - أي : أمثلة منها القسامة - من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة ، وقال : فلولا القسامة في الدماء لأفضى
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 109)
إلى سفك الدماء ، فيقتل الرجل عدوه خفية ، ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة ، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة ، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين [ الفتاوى المصرية ] ( 4 / 291 ) . .(2/259)
وقد أجاب ابن القيم : رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال : وأما حديث ابن عباس : صحيح البخاري تفسير القرآن (4277),صحيح مسلم الأقضية (1711),سنن الترمذي الأحكام (1342),سنن النسائي آداب القضاة (5425),سنن أبو داود الأقضية (3619),سنن ابن ماجه الأحكام (2321),مسند أحمد بن حنبل (1/288). لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله ، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم ، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى . وظهور اللوث وحلف خمسين بينة بمنزلة الشهادة أو أقوى ، وقاعدة الشرع : أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين ؛ ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا نكل المدعى عليه كما حكم به الصحابة ؛ لقوة جانبه بنكول الخصم المدعى عليه ؛ ولهذا يحكم له بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى [ تهذيب سنن أبي داود ] ( 6 / 235 , 326 ) . . انتهى المقصود .
وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذا الجواب في موضع آخر [ إعلام الموقعين ] ( 2 / 331 ، 332 ) . .
وجواب ثالث عن مالك بن أنس رحمه الله قال : إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق : أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه ، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس ، وإنما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 110)
يلتمس الخلوة ، قال : فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق - هلكت الدماء ، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها فيها ؛ ليكف الناس عن القتل ، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك [ المنتقى شرح موطأ الإمام مالك ] للإمام الباجي ( 7 / 61 ) . .(2/260)
أما الاستصحاب : فقال ابن رشد : وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها :
فمنها : أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا ، أو شاهد حسا ، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل ، بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر ؛ ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة : أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه .
فقال : ما تقولون في القسامة ؟
فأضب القوم وقالوا : نقول : القسامة القود بها الحق ، قد أقاد بها الخلفاء .
فقال : ما تقول يا أبا قلابة ؟ - ونصبني للناس - فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد ، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه ؟ !
قال : لا .
قلت : أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 111)
بحمص ولم يروه أكنت تقطعه ؟
قال : لا . وفي بعض الروايات : قلت : فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أخذت بشهادتهم ؟
قال : فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة : أنهم إذا أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله ، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا ، قالوا : ومنها : أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء ، ومنها : أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر [ بداية المجتهد ] ( 2 / 427 ، 428 ) . .
والجواب عن هذا الدليل من وجوه :
أحدها : بأن التعليق في عدم اعتبار القسامة بأنها من قبيل الحلف على ما لا يعلمه الحالف وهو غير مشروع قد أجيب عنه بما يلي :(2/261)
أ- قال الإمام الشافعي : ( واحتج - أي : القائل بهذا - بأن قال : أحلفتهم على ما لا يعلمون ؟ قلت : فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم ، وإقرار القاتل عندهم بلا بينة ، ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير ذلك ، قال : العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم ، قلت : ولا علم ثالث ؛ قال : لا . قلت : فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولف بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه ؟ قال : على البينة ، قلت : يقول لك : تظلمني ؛ فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البينة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما ، قال : يسأل ، قلت : يقول لك : فأنت تحلفني على ما تعلم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 112)
أني لا أبر فيه ؟ قال : وإذا سئلت فقد وسعك أن تحلف ، قلت : أفرجل قتل أبوه فغبي من ساعته فسأل أولى أن يعلم ؟ قال : نعم ، قال بعض من حضره : بل من قتل أبوه ؟ فقلت : فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم ، والعلم يمكنه واليمين على القسامة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت . اهـ .
وقال الشافعي أيضا : وإذا وجبت القسامة فلأهل القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل ؛ لأنه قد يمكن أن يعلموا باعتراف القتيل أو بينة تقوم عندهم لا يقبل الحاكم منهم ومن غيرهم غير ذلك من وجوه العلم التي لا تكون شهادة بقطع ، وينبغي للحاكم أن يقول : اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات ويقبل أيمانهم متى حلفوا . اهـ [ الأم ] ] ( 6 / 79 ) . .(2/262)
ب - وقال ابن قدامة : ( قال القاضي : يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). تحلفون وتستحقون دم صاحبكم وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر ، ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه ، كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه ؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه ، وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف ، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده - كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب ، ولا ينبغي أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 113)
يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة الظن [ المغني ] ( 8 / 91 - 94 ) . .(2/263)
ج - ويمكن أن يقال : لا يلزم أن تكون اليمين على اليقين مطلقا ، وتقرير ذلك أن شريعة الإسلام تبنى أحكامها على الظاهر ، لا على الباطن . وعلى الظن لا على اليقين ، وهذا جار في أسانيد الأدلة ودلالاتها وبقائها ، وفي الجزئيات التطبيقية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبار الآحاد ظنية الثبوت ، ودلالة العموم على جميع أفراده مع احتمال مخصص ، ودلالة المطلق على بعض ما يتناوله مع احتمال مقيد ، ودلالة النص على مقتضاه مع احتمال ناسخ ، ودلالة الظاهر على معناه مع احتمال دليل صارف له عن ظاهره إلى التأويل . هذه الأمور كلها ظنية ومع ذلك يعمل بها ، ولو ترك العمل بهذا الباب فقيل : لا يعمل إلا باليقينيات لتعطل كثير من مواضع تطبيق الشريعة . وأما من الناحية التطبيقية في حياته صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قضية اللعان ، فبعدما انتهى المتلاعنان قال صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري تفسير القرآن (4470),سنن الترمذي تفسير القرآن (3179),سنن أبو داود الطلاق (2256),سنن ابن ماجه الطلاق (2067),مسند أحمد بن حنبل (1/239). الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ثلاثا فهو صلى الله عليه وسلم قضى بمقتضى اللعان مع أن أحدهما كاذب يقينا ، وهذا الاحتمال لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الحكم على الظاهر .
د - ويمكن أن يقال أيضا : إذا حلف أنه لم يقتل ولا يعلم قاتلا فهذا يقين في الظاهر من الجهتين ، فإن قوله : ( لم يقتله ) هذا نفي لصدور القتل منه ، وقوله : ( ولا يعلم له قاتلا ، هذا نفي لعلمه بالقاتل ومورد النفي في الصورتين مختلف ، لكن كل منهما يقين في الظاهر بحسبه ، وتحقق مطابقة الظاهر للباطن لا يتوقف عليه ربط الحكم الشرعي بالظاهر وإن كان مخالفا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 114)
للباطن .(2/264)
ثانيها : روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال : إني أريد أن أدع القسامة : يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا وكذا فيحلفون ، قال : فقلت له : ليس ذلك لك ، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده . وإنك إن تتركها أوشك الرجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه فإن للناس في القسامة حياة [ المصنف ] ( 10 / 39 ) . .
ثالثها : يمكن أن يقال : إن قصة أبي قلابة أكثر ما يقال فيها : إنها أثر تابعي فهل يصح أن يكون معارضا لقول معصوم ؛ كلا ، فلا عبرة بقول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم .
رابعها : ويمكن أن يقال : إن قولهم : ( الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء ) غير صحيح ؛ لأن المشرع هو الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة ومتنوعة وكل طريق منها أصل بنفسه والمشرع هو الذي جعله أصلا ، فلا يصح أن تعارض هذه الأصول بعضها ببعض ، بل كل أصل منها يعمل في موضعه ، ومن ذلك القسامة الثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ، وفي رواية مسلم فيسلم إليكم .
خامسها : قولهم : البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، قد سبق الجواب عنه في معرض الإجابة عن الدليل الأول من أدلة القائلين بعدم العمل بالقسامة .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 115)(2/265)
قال الممانعون من العمل بالقسامة : ومما يؤيد دليل الاستصحاب أن ما ورد من الأحاديث في الحكم بالقسامة ليس نصا في ذلك ، بل هي محتملة يتطرق إليها التأويل ، فلم تنهض لمقاومة الاستصحاب فوجب تأويلها لتتفق مع الأصول الأخرى .
قال ابن رشد : ومن حجتهم : أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة ، وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام .
ولذلك قال لهم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1631),سنن الدارمي الديات (2353). أتحلفون خمسين يمينا أعني : لولاة الدم وهم الأنصار ، صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4716),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). قالوا : كيف نحلف ولم نشاهد ؟ قال : " فيحلف لكم اليهود " قالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
قالوا : فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي السنة .
قالوا : وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة ، والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى [ بداية المجتهد ] ( 2 /420 ) . .
وأما الأثر فمن ذلك : ما قال البخاري في [ صحيحه ] : قال ابن أبي مليكة : لم يقد بها معاوية .(2/266)
قال ابن حجر : وقد وصله حماد بن سلمة في [ مصنفه ] ، ومن طريقه ابن المنذر ، قال حماد عن ابن أبي مليكة : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ، فأخبرته : أن عبد الله بن الزبير أقاد بها ، وأن معاوية - يعني : ابن أبي سفيان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 116)
- لم يقد بها ، وهذا المسند صحيح .
واعترض عليه بما نسبه ابن حجر إلى ابن بطال قال : وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال : قد صح عن معاوية أنه أقاد بها ، ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق ، قلت - القائل ابن حجر - : هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي قال : حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال : قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ، ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه ، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص : إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه ، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا .
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بثلاثة أجوبة ذكرها بقوله : ويمكن الجمع : بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك ، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ، ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك ، ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك ، أو بالعكس [ فتح الباري ] ( 12 / 231 ، 232 ) . .
وقد أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة ، لكن لم يصرح فيها بالقتل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 117)
ويمكن أن يجاب عن هذا الأثر بالأجوبة السابقة .
وقال البخاري في [ صحيحه ] : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وكان أمره على البصرة - في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين : إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس ، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة .(2/267)
قال ابن حجر : وصله سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا حميد الطويل قال : كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز . . . . وذكر الأثر ، وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال : وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه ، وهذا صحيح . وقد اعترض على هذا الأثر بقول ابن حجر : وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة ، كما اختلف على معاوية ، فذكر ابن بطال أن في [ مصنف حماد بن سلمة ] ، عن ابن أبي مليكة : أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة [ فتح الباري ] ( 12 / 231 , 232 ) . .
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بقوله : ويجمع بأنه كان يرى ذلك لما كان أميرا على المدينة ، ثم رجع لما ولي الخلافة ، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة ، حيث احتج على عدم القود بها فكأنه وافقه على ذلك فتح الباري ( 12 / 232 ) . .
والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما رواها البخاري في [ الصحيح ]
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 118)
من حديث أبي قلابة الطويل وفيه : قال لي : ما تقول يا أبا قلابة ؟ - أي : في القسامة ، ونصبني للناس - فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه ؟ قال : لا . قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا . قلت : فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام [ فتح الباري ] ( 12 / 230 ) . .(2/268)
ومما يدل على أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يرى العمل بها ثم رجع : ما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري قال : قال لي عمر بن عبد العزيز إني أريد أن أدع العمل بالقسامة ، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون ، فقلت : إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيطل دمه ، وإن للناس في القسامة لحياة [ فتح الباري ] ( 12 / 232 ) , و [ المحلى ] ( 11 / 65 ـ 70 ) . .
هذا وقد ذكر ابن حزم رحمه الله مجموعة من الآثار الدالة على أنه لا يقاد بالقسامة ولا يحكم بها ، وناقشها ، وقد تركنا ذكرها اختصارا واكتفاء بما سبق من الأدلة .(2/269)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 119)
الثالث : ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيها ومنشأ ذلك مع المناقشة :
ضابط اللوث
( أ ) ضابط اللوث في اللغة :
قال الفيروزآبادي : اللوث : القوة ، وعصبة العمامة ، والشر ، واللوذ ، والجراحات والمطالبات بالأحقاد ، وشبه الدلالة ، واللوث بالضم : الاسترخاء والضعف ، والالتياث : الاختلاط والالتفاف ، والإبطاء ، والقوة ، والتلويث : التلطيخ والخلط والمرس كاللوث [ القاموس المحيط ] ( 1 / 173 , 174 ) , وجاء ما يوافق ذلك في [ لسان العرب ] ( 2 / 185 , 186 ) . .
قال الرملي : لوث بمثلثة من اللوث بمعنى القوة لقوة تحويله اليمين لجانب المدعي أو الضعف ، لأن الأيمان حجة ضعيفة [ نهاية المحتاج شرح المنهاج ] ( 7 / 379 ) . .
( ب ) ضابط اللوث عند الفقهاء :
ا- قال أحمد الشلبي : وسببها وجود قتيل لا يدرى قاتله في محلة أو دار أو موضع يقرب إلى القرية بحيث يسمع الصوت منه .
2 - وقال الأبي : واللوث : هي القرائن الظاهرة الدالة على قتل القاتل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 120)
3 - وقال النووي والرملي : واللوث قرينة حالية أو مقالية مؤيدة تصدق المدعي بأن توقع في القلب صدقه في دعواه ولا بد من ثبوت هذه القرينة [ المنهاج ] وشرحه [ نهاية المحتاج ] ( 7 / 389 ) . .
4 - أما عند الحنابلة : ففي ضابطه روايتان : الأولى : قال ابن قدامة : هو العداوة الظاهرة ، وعنه : أنه يغلب على الظن صحة الدعوى به [ المقنع ] ( 3 / 432 ,433 ) . .(2/270)
3 - بيان صوره واختلاف العلماء فيها :
نذكر فيما يلي مجمل صور مما نص عليه المالكية ، والشافعي رحمه الله ، والحنابلة ، ثم نتبعها بالكلام على كل صورة في حدود ما تيسر الاطلاع عليه .
مجمل الصور :
1 - قال ابن جزي : وشهادة الشاهد العدل على القتل لوث ، واختلف في شهادة غير العدل وفي شهادة الجماعة إذا لم يكونوا عدولا ، وفي شهادة النساء والعبيد ، وشهادة العدلين على الجرح لوث ، إذا عاش المجروح بعد الجرح وأكل وشرب ، واختلف في شهادة عدل واحد على إقرار القاتل هل يقسم بذلك أم لا ؟ ومن اللوث أن يوجد رجل بقرب المقتول ومعه سيف أو شيء من آلة القتل أو متلطخا بالدم ، ومن اللوث أن يحصل المقتول في دار مع قوم فيقتل بينهم ، أو يكون في محلة قوم أعداء له ، ومن اللوث عند مالك وأصحابه التدمية في العمد ، وهو قول المقتول : فلان قتلني ، أو دمي عند فلان ، سواء أكان المدمى عدلا أو مسخوطا ، ووافقه الليث بن سعد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 121)
في القسامة بالتدمية ، وخالفهما سائر العلماء ، واختلف في المذهب في كون التدمية في الخطأ لوثا على قولين [ قوانين الأحكام الفقهية ] ص 378 . .
وقال الباجي : وذكر أبو محمد في معونته قسما سادسا في فئتين اقتتلتا فوجد بينهما قتيل فيها روايتان [ المنتقى ] ( 7 / 56 ) . وساقهما ، وذكر وجه كل منهما ، وسيأتي ذلك في موضعه .
وقتيل الزحام نقله الأبي ، كما سيأتي .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى بعد سياقه لقصة قتل عبد الله بن سهل قال : فإذا كان مثل هذا السبب الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالقسامة حكمنا بها وجعلنا فيها الدية على المدعى عليهم ، فإذا لم يكن مثل ذلك السبب لم نحكم بها .(2/271)
فإن قال قائل : وما مثل السبب الذي حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل : كانت خيبر دار يهود التي قتل فيها عبد الله بن سهل محضة لا يخلطهم غيرهم وكانت العداوة بين الأنصار واليهود ظاهرة ، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر ووجد قتيلا قبل الليل ، فكاد أن يغلب على من علم هذا أنه لم يقتله إلا بعض يهود ، وإذا كانت دار قوم مجتمعة لا يخلطهم غيرهم وكانوا أعداء للمقتول أو قبيلته ووجد القتيل فيهم فادعى أولياؤه قتله فيهم فلهم القسامة ، وكذلك إذا كان مثل هذا المعنى مما يطلب على الحاكم أنه كما يدعي المدعي على جماعة أو واحد ، وذلك مثل أن يدخل نفر بيتا فلا يخرجون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 122)
منه إلا وبينهم قتيل ، وكذلك إن كانوا في دار وحدهم أو في صحراء وحدهم ؛ لأن الأغلب أنهم قتلوه أو بعضهم ، وكذلك أن يوجد قتيل بصحراء أو ناحية ليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا رجل واحد مختضب بدمه في مقامه ذلك ، أو يوجد قتيل فتأتي بينة متفرقة من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله فتتواطأ شهادتهم ولم يسمع بعضهم شهادة بعض ، وإن لم يكونوا ممن يعدل في الشهادة ، أو يشهد شاهد عدل على رجل أنه قتله ؛ لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى ولي الدم أو شهد من وصفت وادعى ولي الدم ، ولهم إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر ، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم معه دعوى ، وإذا لم يكن معه ما وصفت لا يجب بها القسامة ، وكذلك لا تجب القسامة في أن يوجد قتيل في قرية يختلط بهم غيرهم أو يمر به المارة - إذا أمكن أن يقتله بعض من يمر ويلقيه [ الأم ] ( 6 / 78 ، 79 ) . .(2/272)
وقال المزني زيادة عما تقدم نقله عن الشافعي قال : أو صفين في حرب أو ازدحام جماعة [ مختصر المزني ] بهامش [ الأم ] ( 6 / 147 ) . .
3 - وقال موسى الحجاوي في الكلام على شروط القسامة : الثاني : اللوث ، ولو في الخطأ وشبه العمد ، واللوث : العداوة الظاهرة ، كنحو ما كان بين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 123)
الأنصار وأهل خيبر ، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر ، وما بين أحياء العرب وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب ، وما بين البغاة وأهل العدل ، وما بين الشرط واللصوص ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن قتله . . . إلى أن قال : ويدخل في اللوث لو حصل عداوة بين سيد عبد وعصبته ، فلو وجد قتيل في صحراء وليس معه غير عبده كان ذلك لوثا في حق العبد ولورثة سيده القسامة ، فإن لم تكن عداوة ظاهرة ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو كان عصبته من غير عداوة ظاهرة ، أو وجد قتيلا عند من معه سيف ملطخ بدم ، أو في زحام أو شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان والفساق أو عدل واحد وفسقة ، أو تفرق فئتان عن قتيل أو شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين ، أو شهد أن هذا القتيل قتله أحد هذين أو شهد أحدهما أن إنسانا قتله والآخر أنه أقر بقتله ، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف والآخر بسكين ، ونحو ذلك - فليس بلوث ، ولا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتل غير العدو ولا أن يكون بالقتيل أثر القتل كدم في أذنه أو أنفه . وقول القتيل : قتلني فلان ليس بلوث ، ومتى ادعى القتل عمدا أو غيره ، أو وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه على قاتل مع عدم اللوث حلف المدعى عليه يمينا واحدا وبرئ ، وإن نكل لم يقض عليه بالقود ، بل بالدية [ متن الإقناع ] ( 4 / 238 ، 240 ) . .
وقال ابن قدامة - بعد ذكر الرواية الأولى - : وعنه أنه ما يغلب على الظن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 124)(2/273)
صحة الدعوى به كتفرق جماعة عن قتيل ، ووجود قتيل عند من معه سيف ولطخ بدم ، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان ونحو ذلك [ المقنع ] ( 3 / 434 , 435 ) . .
3- بيان صوره واختلاف العلماء فيها مع المناقشة :(2/274)
الصورة الأولى : التدمية .
قال الأبي : ( ع ) وصور الشبهة سبعة : الأولى : قول الميت دمي عند فلان أو هو قتلني أو جرحني أو ضربني ، وإن لم يظهر أثر ولا جرح أثبت مالك القسامة بذلك وقال : وعليه إجماع الأئمة في القديم والحديث ، وشرط بعض أصحابنا ظهور الأثر والجرح إلا لم تكن قسامة ، وخالف مالكا في ذلك سائر فقهاء الأمصار ، ولم يوافقه عليه إلا الليث ، وروي عن عبد الملك بن مروان .
واحتج أصحابنا لذلك : بأن القتل حال تطلب فيه الغيلة والاستتار ، والمرء عند آخر عهده بالدنيا يتحرى الصدق ، ويرد المظالم ، ويتزود من البر .
واحتج مالك بقضية البقرة في قوله : سورة البقرة الآية 73 فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فأحيي الرجل وأخبر بمن قتله . . . إلى أن قال :
قلت : ألغى القسامة بذلك ابن عبد الحكم ومن الأندلسيين عبد الرحمن بن بقي وعبيد الله بن يحيى ، وقيل : إن ادعاه على من لا يليق به لفضله وصلاحه ألغيت تدميته وإلا أعملت ، فالأقوال في المذهب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 125)
ثلاثة , ثالثها : الفرق المذكور .
ابن عبد السلام : وإنما خالف مالكا والليث سائر الفقهاء ؛ لأن فيه قبول الدعوى دون بينة ، وقد علم أن الأموال أضعف حرمة من الدماء ، ومع ذلك لم تقبل فيها الدعوى ، فكيف تقبل دعوى القتل بهذه الحجة الضعيفة ؟ !
فإن قلت : قيل : كما يحتاط للدماء أن تراق فكذلك يحتاط لها أن تضيع .
قلت : شتان ما بين الاحتياطين . الثاني : دم فات وهذا دم يراق ، إلا أنه كما قال بعض المفتين : لأن يقال : ألم تقتله ؟ أحب إلي من أن يقال : لم قتلته ؟
فإن قلت : أفتى مالك بحضرة أصحابه بقتل رجل ، فلما ذهب به ليقتل جعل مالك يتطاول بعنقه وقد اصفر لونه ، ثم قال لأصحابه : لا تظنوا أني ندمت في فتياي ، ولكنني خفت أن يذهب من أيديهم فتضيع حدود الله .(2/275)
قلت : هذا مسلم ؛ لأنه في قصاص ثبت ، والقائل بإعمال التدمية وإن لم يظهر أثر- أصبغ ، وهو ظاهر إطلاق الروايات ، والقائل بإلغائها حتى يظهر الأثر - ابن كنانة ، واختاره اللخمي وابن رشد ، وبه العمل .
قال اللخمي : إلا أن يعلم أنه قد كان بينهما قتال ويلزم الفراش عقب ذلك أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرض ، وتمادى به ذلك حتى هلك .
وباختيار اللخمي هذا أفتيت في نازلة ( وقعت من سنة خمس عشرة وثمانمائة أرسل بها إلي الخليفة المعظم أبو فارس عبد العزيز بن الخليفة المرحوم أبي العباس أحمد الحفصي فأمر أن نفتي فيها بما ظهر لي صوابه )
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 126)
والنازلة هي : أنه وقعت هوشة بين جماعتي مارغنة بالراء والغين المعجمة ، ومزاتة بالزاي والتاء المثناة من فوق ، وانكشف الجميع عن جرحى من الفريقين ، فبعد أيام جاء رجل من مزاتة إلى العدول بسوسة ، وادعى على جماعة مارغنة وليس به جرح ولا أثر ضرب حسبما ضمن ذلك شهود الرسم ثم مات من الغد ، ونص فتياي : ( الحمد لله ، إذا لزم المدمى الفراش عقب الهوشة أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرض ودام به ذلك حتى مات ، وكان أعيان المارغنيين المدعى عليهم معروفة ولم تكن فئة المدمى هي المبتدئة والأخرى دافعة - فالتدمية صحيحة ، وإن لم يكن بالمدمى جرح ولا أثر ضرب ويستحقون قتل واحد أو يقبلون الدية ، إلا أن يكون الميت أوصى أن يقبل فيه [ الدية ] فليس إلا الدية ) هذا اختيار اللخمي في المسألة ، وليس ببعيد من الصواب . والله أعلم .(2/276)
وليس من التدمية البيضاء ، لأن البيضاء هي التي ليس فيها سبب حتى يستند إليه قول المدمى ، وليس فيها إلا قول المدمى دمي عند فلان كقضية اللؤلئي ، فإذا لم تكن من التدمية البيضاء فلترجع لتدمية قتيل الصفين . ولا يعترض على هذا بأنه قال في [ المدونة ] : ولا قسامة في قتيل الصفين ؛ لأن معناه عند الأكثر ، إذا كان ذلك بدعوى الأولياء ، وأما بقول القتيل فإنه يقسم معه ، وسئل عنها المعين للفتيا في التاريخ فأجاب : بأنها من التدمية البيضاء التي جرى العمل على إلغائها ، وإليك الترجيح بين الجوابين والله أعلم بالصواب .
واختلف إذا قال الميت : دمي عند فلان خطأ : فلمالك في [ المدونة ] ، يقسم على قوله . وفي [ الموازية ] ، لا يقسم لتهمة أنه أراد غنى ورثته ، وفي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 127)
[ المدونة ] : وإن ادعى الورثة خلاف دعوى الميت من عمد أو خطأ فليس لهم أن يقسموا إلا على قوله ، ولم أسمعه من مالك . وفي [ الموازية ] إن ادعوا خلاف قول الميت فلا قسامة لهم وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت ، وفي المدونة أيضا إذا قال : دمي عند فلان ولم يذكر عمدا أو خطأ ، فما ادعاه ولاة الدم من عمد أو خطأ أقسموا عليه واستحقوا عليه واستحقوه .
ابن الحارث : وفي المجالس عن ابن القاسم : أحسن من هذا أن قوله باطل ، وفي [ المدونة ] ، أيضا : قال بعضهم : عمدا ، وقال بعضهم : خطأ ، فإن حلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم وبطل الدم ، فإن نكل مدعي الخطأ فليس لمدعي العمد أن يقسموا ولا دم ولا دية .(2/277)
واختلف في تدمية الزوجة : فظاهر المذهب : أنها كالأجنبية ، وذكر ابن عات عن ابن حزين أنه قال : لا قود على الزوج إلا أن يتعمد واحتج : بأن الله أذن له في ضرب الأدب في قوله تعالى : سورة النساء الآية 34 وَاضْرِبُوهُنَّ قال : فالذي يريد أن يدمى فيه أصله الجواز ، ولا تقام الحدود إلا بأمرين ؛ لحديث سنن الترمذي الحدود (1424). ادرءوا الحدود بالشبهات ، وكذلك معلمو الصبيان يضرب أحدهم فيما يجوز له فيتعدى طرف الشراك أو عود الدرة فيفقأ العين ، وإنما عليه العقل إلا أن يتعمد ، وكذلك على الزوج ، قال : وهذا الذي تعلمنا من شيوخنا [ إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ] ( 4 / 369 - 399 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 128)
وقال الباجي : فأما قول القتيل : دمي عند فلان فهو عند مالك في الجملة لوث يوجب القسامة ، خلاف لأبي حنيفة والشافعي .
قد استدل أصحابنا في ذكره بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 67 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الآية .
ففي [ المجموعة ] و [ الموازية ] قال مالك : وما ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن البقرة التي ضرب القتيل بلحمها فحيي فأخبر عمن قتله دليل على أنه سمع من قول الميت .
فإن قيل : إن ذلك آية ، قيل : إنما الآية في إحيائه ، فإذا صار حيا لم يكن كلامه آية وقد قبل قوله فيه ، وهذا مبني على أن شريعة من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه [ المنتقى على الموطأ ] ( 7 / 56 ) . .
وقال ابن العربي : فإن قيل : فإنما قتله موسى صلى الله عليه وسلم بالآية ، قلنا : ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه أو صدقه جبريل فقتله موسى بعلمه ، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بالمجذر بن زياد بإخبار جبريل عليه السلام له بذلك .
انتهى المقصود .(2/278)
وقال الباجي أيضا : واستدل أصحابنا على ذلك بما روى هشام بن زيد عن أنس : صحيح البخاري الديات (6485),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672),سنن الترمذي الديات (1394),سنن النسائي القسامة (4740),سنن أبو داود الديات (4529),سنن ابن ماجه الديات (2666),مسند أحمد بن حنبل (3/171),سنن الدارمي الديات (2355). أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها ، فقتلها بحجر ، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقال : " أقتلك فلان ؟ " فأشارت برأسها أن لا ، ثم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 129)
قال الثانية ، فأشارت برأسها : أن نعم ، وهذا الحديث رواه قتادة عن أنس فزاد فيه ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر ، فرض رأسه بالحجارة [المنتقى على الموطأ] (7/56) . أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما على اختلاف في الروايات مع الاتفاق على أصل القصة .
وجه الدلالة : قال المازري : استدل به- أي : بحديث الجارية المذكورة - بعضهم ، أي : بعض المالكية- على التدمية ؛ لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة ، قال : ولا يصح اعتباره مجردا ؛ لأنه خلاف الإجماع فلم يبق إلا أنه يفيد القسامة .
وقال النووي : ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح ، واستدل بهذا الحديث ، ولا دلالة فيه ، بل هو قول باطل ؛ لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه .(2/279)
ونازعه بعض المالكية فقال : لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح ، وإنما قالوا : إن قول المحتضر عند موته : (فلان قتلني) لوث يوجب القسامة ، فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية ، وقد وافق بعض المالكية الجمهور ، واحتج من قال بالتدمية : أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهو وقت خلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا- يدل على أنه لا يقول إلا حقا ، قالوا : وهي أقوى من قول الشافعية : إن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين ؛ لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 130)
انتهى بواسطة ابن حجر [فتح الباري] (12/199) .
وقد ناقش ابن حزم الاستدلال بهذا الحديث أيضا ، فقال أبو محمد رحمه الله : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى مسلم نا عبد بن حميد ، نا عبد الرزاق ، نا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس : صحيح البخاري الديات (6483),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672),سنن الترمذي الديات (1394),سنن النسائي القسامة (4742),سنن أبو داود الديات (4528),سنن ابن ماجه الديات (2666),مسند أحمد بن حنبل (3/203),سنن الدارمي الديات (2355). أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة ، وأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت . وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد العطار ، كلاهما عن قتادة عن أنس .
فإن قالوا : إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتول في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة .(2/280)
قلنا : صدقتم ، وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة ، عن أنس في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها كما روينا من طريق مسلم : نا هداب بن خالد ، نا همام عن قتادة عن أنس : صحيح البخاري الديات (6483),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672),سنن الترمذي الديات (1394),سنن النسائي القسامة (4742),سنن أبو داود الديات (4529),سنن ابن ماجه الديات (2666),مسند أحمد بن حنبل (3/203),سنن الدارمي الديات (2355). أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان ؟ حتى ذكروا يهوديا ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة . . فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره لا بدعوى المقتولة .
ووجه آخر : وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه- عليه السلام- إنما قتله بدعواها- لكان هذا الخبر حجة عليهم ، ولكانوا مخالفين له ؛ لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة البتة حتى يحلف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 131)
اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد .
وأيضا فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ ، والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ ؛ لأنه ذكر جارية ذات أوضاح ، وهذه الصفة عن العرب- الذين بلغتهم تكلم أنس - إنما يوقعونها على الصبية لا على المرأة البالغة ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه ولاح خلافهم في ذلك فوجب القول به ، ولا يحل لأحد العدول [المحلى] لابن حزم (11/84) ، ويرجع أيضا إلى [شرح معاني الآثار] للطحاوي (2/190 ، 191) . .(2/281)
وقال الباجي أيضا : واستدلوا من جهة المعنى : بأن الغالب من أحوال الناس عند الموت ألا يتزودوا من الدنيا قتل النفس التي حرم الله ، بل يسعى إلى التوبة والاستغفار ، والندم على التفريط ، ورد المظالم ، ولا أحد أبغض إلى المقتول من القاتل ، فمحال أن يتزود من الدنيا سفك دم حرام يعدل إليه ويحقن دم قاتله .
قال الباجي بعد ذكره لاستدلال المالكية بقصة البقرة والجارية : وهذا الدليل من المعنى . قال : وهذا عمدة ما يتعلق به أصحابنا في هذه المسألة وهي مسألة فيها نظر ، والله أعلم وأحكم [المنتقى] للباجي (7/ 56) . .
2 - وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي رحمه الله تعالى : (وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال : دمي عند فلان ، فليس ذلك بموجب القسامة ما لم يكن لوث) قال : هذا قول أكثر أهل العلم ، منهم : الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي ، وقال مالك والليث : هو لوث ؛ لأن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 132)
قتيل بني إسرائيل قال : قتلني فلان فكان حجة . وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان ، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري تفسير القرآن (4277),صحيح مسلم الأقضية (1711),سنن الترمذي الأحكام (1342),سنن النسائي آداب القضاة (5425),سنن أبو داود الأقضية (3619),سنن ابن ماجه الأحكام (2321),مسند أحمد بن حنبل (1/288). لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ، ولأنه يدعي حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت ، ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي .
فأما قتيل بني إسرائيل فلا حجة فيه ، فإنه لا قسامة فيه ، ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام ، حيث أحياه الله تعالى بعد موته ، وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ، ولم يكن الله ينطقه بالكذب بخلاف الحي ، ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم ، ثم ذاك في تنزيه المتهمين فلا يجوز تعديتها إلى تهمة البريئين [المغني] (8/498 ، 499) . .(2/282)
وجاء في [حاشية المقنع] : ونقل الميموني : أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ ، وإذا كان ثم سبب بين ، وإذا كان ثم عداوة ، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا [حاشية المقنع] (3/ 435) . .(2/283)
الصورة الثانية : شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل :
1 - قال الأبي : (ع) : الصورة الثانية : اللوث من غير بينة قاطعة على معاينة القتل . لم يختلف قول مالك في أن شهادة العدل الواحد أو اللفيف من الناس وإن لم يكونوا عدولا لوث ، وإنما اختلف قوله في شهادة الواحد غير العدل وفي شهادة المرأة هل ذلك لوث ؟ وجعل بعض أصحابنا شهادة النساء والصبيان لوثا ، وأباه أكثرهم ، وجعل ربيعة ويحيى بن سعيد والليث
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 133)
شهادة الذميين والعبيد لوثا [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ](4/ 399) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7/56) . .(2/284)
2 - وقال النووي والرملي : وشهادة العدل الواحد : أي : إخباره ولو قبل الدعوى بأن فلانا قتله لوث ؛ لأنه يفيد الظن ، وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما ، كما علم مما مر أول الباب ، فيعين الولي أحدهما أو كليهما ويقسم ، وكذا عبيد أو نساء ، يعني : إخبار اثنين فأكثر أن فلانا قتله ، وفي [الوجيز] : أن القياس أن قول واحد منهم لوث ، وجرى عليه في [الحاوي الصغير] فقال : وقول راو ، وجزم به في [الأنوار] وهو المعتمد . وقيل : يشترط تفرقهم لاحتمال التواطؤ ، ورد بأن احتماله كاحتمال الكذب في إخبار العدل . وقول فسقة وصبيان وكفار لوث في الأصح ؛ لأن اجتماعهم على ذلك يؤكد ظنه . والثاني قال : لا اعتبار بقولهم في الشرع ، ولو ظهر لوث في قتيل فقال أحد ابنيه مثلا : (قتله فلان) وكذبه الابن الآخر صريحا- بطل اللوث ، فلا يحلف المستحق ؛ لانخرام ظن الصدق بالتكذيب الدال على عدم قتله ، إذ جبلة الوارث على التشفي ، فنفيه أقوى من إثبات الآخر ، بخلاف ما إذا لم يكذبه كذلك بأن صدقه أو سكت ، أو قال : لا أعلم أنه قتله ، أو قال : إنه قتله . وبحث البلقيني أنه لو شهد عدل بعد دعوى أحدهم خطأ أو شبه عمد- لم يبطل اللوث بتكذيب الآخر قطعا ، فلمن لم يكذبه أن يحلف معه خمسين يمينا ويستحق ، وفي قول : لا يبطل كسائر الدعاوى ، ورد بما مر من الجبلة هنا ، وقيل : لا يبطل بتكذيب فاسق ، ويرد بما مر أيضا ، إذ الجبلة لا فرق فيها بين الفاسق وغيره ، ولو عين كل غير
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 134)
معين الآخر من غير تعرض لتكذيب صاحبه أقسم كل الخمسين على ما عينه وأخذ حصته . انتهى [نهاية المحتاج] (7/391 ، 392) . .(2/285)
3 - قال ابن قدامة : السادس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء ، فهذا فيه عن أحمد روايتان : إحداهما : أنه لوث ؛ لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة . الثانية : ليس بلوث ؛ لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به الكفار . وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا؟ على وجهين :
أحدهما : ليس بلوث ؛ لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال والمجانين .
والثاني : يثبت بها اللوث ؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد . وقول الصبيان معتبر في الإذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها ، وهذا مذهب الشافعي ، ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب ، فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث ؛ لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبه العداوة .
وروي أن هذا ليس بلوث ، وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام ؛ لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل ، ولا يجوز القياس ؛ لأن الحكم ثبت بالمظنة ، ولا يجوز القياس في المظان ؛ لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه ، والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم ، والظنون تختلف ولا تأتلف ، وتتخبط ولا تنضبط ، وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص ، فلا يمكن ربط الحكم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 135)
بها ، ولا تعديته بتعديتها ، ولأنه يعتبر في التعدية به والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضى ، ولا سبيل إلى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها ، فعلى هذه الرواية حكم هذه الصورة حكم غيرها مما لا لوث فيه [المغني] (8/490) . .(2/286)
الصورة الثالثة : شهادة عدلين بجرح ، وعدل بالقتل :
1 - قال الأبي : (ع) : الصورة الثالثة : شهادة عدلين بجرح وحيي بعده حياة بينة ثم مات بعده قبل أن يفيق منه ، قال مالك وأصحابه والليث : ذلك لوث . واختلف عندنا في شهادة العدل الواحد هل هي لوث؟ والأصح : الأول ، وأنه لا بد من شاهدين ، ولم ير الشافعي والحنفية في هذا قسامة ، ورأوا فيه القصاص إن ثبت بشاهدين ، قلت : قال ابن الحارث : إلا أن يكون ما شهد به العدلان من الجرح قد أنفذ مقاتله ، فإن أنفذها فلا قسامة فيه ، وهو كمقتول ، والمشهور في شهادة الواحد أنها لوث ، نص على ذلك في [ المدونة] وفي [العتبية] لا قسامة فيه .
واختلف في شهادة الواحد على إقرار القاتل بالقتل : فقال أشهب : فيه القسامة ، وفي [الموازية] : لا قسامة فيه [إكمال إكمال المعلم] (4/ 399 ، 400) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى شرح الموطأ ] (7/56) . .
2 - وقال النووي والرملي : وشهادة العدل الواحد ، أي : إخباره ولو قبل الدعوى بأن فلانا قتله لوث ؛ لأنه يفيد الظن ، وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما ، كما علم مما مر في أول الباب ، فيعين الولي أحدهما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 136)
أو كليهما ويقسمه [نهاية المحتاج](7/391) . .(2/287)
3 - وقال ابن قدامة : فصل : وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين - لم تثبت هذه الشهادة ، ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا ، قوله : وإن شهد رجلان أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين ، أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله ، أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف ، وشهد الآخر أنه قتله بسكين- لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا ، هذا قول القاضي واختياره ، والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالإقرار بقتله أنه يثبت القتل ، واختار أبو بكر ثبوت القتل هاهنا ، وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين ؛ لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته .
وقال الشافعي : هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين ، وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث ؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد .
ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الأولى [المغني] (8/490 ، 491) . .(2/288)
الصورة الرابعة : وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره :
1 - قال الأبي : (ع) : الرابعة : وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثر كالتلطخ بالدم وشبهه ، فروى ابن وهب وقاله ابن عبد الحكيم هو لوث . وقال الشافعي : نحوه ، قال ذلك إذا لم يوجد هناك أحد ولا به أثر سبع قال : ومنه إذا وجد في بيت أو صحراء وليس هناك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 137)
سواهم وتفرقوا عن قتيل ، وهذا كله شبهة توجب القسامة . قلت : رواية ابن وهب ذكرها ابن الجلاب كأنها المذهب ، قال : وإن وجد قتيل وبقربه رجل وبيده آلة القتل أو عليه شيء من دم القتيل أو عليه أثر القتل- فذلك لوث يقسم معه [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] (3/400) ، أيضا إلى [المنتقى](7/ 56) . .
2 - وقال ابن قدامة : الرابع : أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله ، مثل : أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل ، أو سبعا يحتمل ذلك فيه [المغني] (8/ 489) . .(2/289)
الصورة الخامسة : قتيل الصفين :
1 - قال الأبي : (ع) الخامسة : قتيل الصفين ، تقتتل الفئتان فيوجد بينهما قتيل لا يدرى من قتله ، ففيه عندنا روايتان :
الأولى : للأولياء أن يقسموا على من يعينونه منها أو على من يدعي عليه الميت كان منهما أو من غيرهما بالقسامة ، قال الشافعي : وقال عقله على الفئة المنازعة ، وإن عينوا رجلا ففيه القسامة .
قلت : الرواية الثانية في [المدونة] ، قال فيها : ولا قسامة في قتيل الصفين ، لكن اختلف : فقيل : معنى قوله : لا قسامة إذا عينه الأولياء ، وأما إذا عينه المقتول ففيه القسامة . وقيل : لا قسامة عينه المقتول أو الأولياء ، وعلى الأول حمل [ المدونة] ، الأكثر ، ووجه ابن عات رواية القسامة بأن وجوده بينهما يغلب على الظن أن قتله لم يخرج عنهما ، وذلك لوث ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 138)
ووجه الرواية الأخرى بأن القسامة لا تكون إلا مع لوث في مشار إليه معين ، فإن اللوث إذا تعلق بواحد معين أثر في القسامة ، أما إذا تعلق بجماعة على أن القاتل واحد منهم غير معين فلا يؤثر [إكمال إكمال المعلم] (4/ 401) ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7/56) .(2/290)
2 - وقال الشافعي : إذا اقتتل القوم فانجلوا عن قتيل فادعى أولياؤه على أحد بعينه أو على طائفة بعينها أو قالوا : قد قتلته إحدى الطائفتين ولا يدرى أيتهما قتلته ، قيل لهم : إن جئتم بما يوجب القسامة على إحدى الطائفتين أو بعضهم أو واحد بعينه أو أكثر قيل لكم اقسموا على واحد ، فإن لم تأتوا بذلك فلا عقل ولا قود ، ومن شئتم أن نحلفه لكم على قتله أحلفناه ومن أحلفناه أبرأناه ، وهكذا إن كان جريحا ثم مات ادعى على أحد أو لم يدع عليه ، إذا لم أقبل دعواه فيما هو أقل من الدم ، لم أقبلها في الدم وما أعرف أصلا ولا فرعا لقول من قال : تجب القسامة بدعوى الميت ، ما القسامة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل إلا على خلاف ما قال ، فيها دعوى ولا لوث من بينة .
3 - وقال ابن قدامة : الثاني : أن يتفرق جماعة عن قتيل ، فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم ، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ، ذكره القاضي ، وهو مذهب الشافعي ؛ لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة [المغني] (8/589) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 139)
وقال ابن قدامة : الخامس : أن يقتتل فئتان ، فيتفرقون عن قتيل من إحداهما- فاللوث على الأخرى ذكره القاضي ، فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل ، هذا قول الشافعي .
وروي عن أحمد : أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه ، وهذا قول مالك ، وقال ابن أبي ليلى . على الفريقين جميعا ؛ لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه .
وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح ، وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء؟ على وجهين ، ذكرها ابن حامد [المغني] (8/ 489 ، 490 ) . .(2/291)
الصورة السادسة : قتيل الزحام :
1 - قال الأبي : (ع) : الصورة السادسة : قتيل الزحام ، قال مالك : دمه هدر ، وقال الشافعي : فيه القسامة والدية ، وقال الثوري وإسحاق : عقله في بيت المال ، وعن عمر وعلي مثله ، وقال الحسن والزهري : عقله على من حضر . قلت : الذي حكى أبو عمر عن الشافعي : إنما هو لا شيء فيه كقول مالك [إكمال إكمال المعلم] (4/401) ، و[المنتقى] (7/114) . .
وقال الباجي نقلا عن [الموازية] : وذلك أنه لا تتعلق التهمة بمعين ولا معينين [المنتقى] (7/114) . .
وقال النووي والرملي : أو تفرق عنه جمع محصور يتصور اجتماعهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 140)
على قتله وإن لم يكونوا أعداءه في نحو دار أو ازدحام على الكعبة أو بئر ، وإلا فلا قسامة حتى يعين منهم محصورين فيكن من الدعوى والقسامة ، فلا بد من وجود أثر قتل وإن قل ، وإلا فلا قسامة ، وكذا في سائر الصور خلافا للأسنوي [نهاية المحتاج](7/390) .
وقال ابن قدامة : الثالث : أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد قتيل ، فظاهر كلام أحمد : أن هذا ليس بلوث فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة : فديته في بيت المال ، وهذا قول إسحاق . وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في [سننه] عن إبراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال : بينتكم على من قتله ، فقال علي : يا أمير المؤمنين . لا يطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعط ديته من بيت المال .
وقال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام : ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته ، يعني : عداوة يؤخذون ، فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة .(2/292)
وقال الحسن والزهري فيمن مات في الزحام : ديته على من حضر ؛ لأن قتله حصل منهم ، وقال مالك : دمه هدر ؛ لأنه لا يعلم له قاتل ، ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله ، فكتب إليهم : إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة ، وهذا منها [المغني](8/489) . .(2/293)
الصورة السابعة : وجود قتيل في محلة :
1 - قال شمس الدين السرخسي رحمه الله تعالى . ( وإذا وجد الرجل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 141)
قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلا بالله : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا : ثم يغرمون الدية ، بلغنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا أحاديث مشهورة .
منها : حديث سهل بن أبي حثمة : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4716),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر ، وتفرقوا بحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر يتشحط في دمه ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه فأراد عبد الرحمن - وهو أخو القتيل- أن يتكلم فقال : عليه الصلاة والسلام : الكبر الكبر ، فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة ، وهو الأكبر منهما ، وأخبره بذلك قال : ومن قتله ؟ قالوا : ومن يقتله سوى اليهود ، قال : تبرئكم اليهود بأيمانها ؟ فقالوا : لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا عليه ، قال عليه السلام : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ فقالوا : كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد؟! فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة .
وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب : أن القسامة كانت من أحكام الجاهلية ، فقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود ، وذكر الحديث . . . إلى أن قال : فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة .(2/294)
وفي رواية : فكتب إليهم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630). إما أن يدوه أو يأذنوا بحرب من الله وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر : أن هذا قتيل وجد بين أظهركم ، فما الذي يخرجه عنكم؟ فكتبوا إليه إن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل ، فأنزل الله على موسى عليه السلام أمرا ، فإن كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك ، فكتب إليهم :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 142)
إن الله أراني أن أختار منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، ثم يغرمون الدية قالوا : لقد قضيت فينا بالناموس ، يعني : الوحي .
وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان ، فقال : اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، قال : وليس لي من أخي إلا هذا؟ قال : نعم ، ومائة من الإبل .
وفي الحديث : أن رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى عليهم عمر رضي الله عنه بالقسامة والدية ، فقال حارث بن الأصبع الوادعي : يا أمير المؤمنين ، لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا ، فقال : حقنتم دماءكم بأيمانكم وأغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم .(2/295)
فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة على أهلها ونوع من المعنى يدل عليه أيضا ، وهو أن الظاهر أن القاتل منهم ؛ لأن الإنسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها ، وإنما تمكن القاتل منهم من هذا الفعل بقوتهم ونصرتهم ، فكانوا كالعاقلة ، فأوجب الشرع الدية عليهم ؛ صيانة لدم المقتول عن الهدر ، وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذه الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر الجاني ؛ ولهذا يستحلفون بالله : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا . ثم على أهل كل محلة حفظ محلتهم عن مثل هذه الفتنة ؛ لأن التدبير في محلتهم إليهم ، فإنما وقعت هذه الحادثة ؛ لتفريط كان منهم في الحفظ حين تغافلوا عن الأخذ على أيدي السفهاء منهم ومن غيرهم ، فأوجب الشرع القسامة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 143)
والدية عليهم لذلك ، ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا . ا هـ [المبسوط] (26/106- 108) . .(2/296)
قال الأبي : (ع) : الصورة السابعة : القتيل يوجد بمحلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والشافعي : دمه هدر ؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة قوم ليلطخهم به . قال الشافعي : إلا أن يكون مثل قضية الأنصار التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعداوة الظاهرة بين الأنصار واليهود ، وخيبر مختصة باليهود ليس فيها غيرهم ، وخرج عبد الله بعد العصر فوجد مقتولا قبل الليل . وقال أحمد نحوه ، وتأوله النسائي على مذهب مالك ، وذهب أبو حنيفة ومعظم الكوفيين إلى أن للقتيل يوجد في القرية والمحلة القسامة ولا سبب عندهم من الوجوه السبعة للقسامة سواه ؛ لأنها الصورة التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحلف خمسون رجلا خمسين يمينا ويستحقون الدية على ما تقدم من مذهبهم في العمل بها ، وذلك إذا وجد القتيل وبه أثر وإلا فلا قسامة فيه ، وإن وجد القتيل في مسجد أهل المحلة فالدية في بيت المال إذا ادعوا بذلك على أهل المحلة . وقال الأوزاعي : وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن فيه أثر على ما تقدم من مذهب .
وقال داود : لا قسامة إلا في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة والمدينة ، وهم أعداء المقتول .
قلت في [المدونة] : وإن وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم لا يدرى من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 144)
قتله - فدمه هدر ، ولا دية في بيت المال ولا في غيره . ابن يونس : يريد إن لم يوجد معه ، وإن وجد معه رجل عليه أثر قتله قتل به مع القسامة . ابن رشد : ولو وقع مثل قضية الأنصاري في زماننا الواجب الحكم به ، ولم يصح أن يتعدى إلى غيره [إكمال إكمال المعلم] (4/401 ، 402) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7/ 52 ، 114 ) . .
وقال ابن حزم : واعترض المالكيون ومن لا يرى القسامة في هذا بأن قالوا : والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم .(2/297)
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن هذا ممكن ، ولكن لا يعترض على حكم الله تعالى وحكم رسوله - عليه السلام- بأنه يمكن أمر كذا ، وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد ، ويكذب الحالف ، ويكذب المدعي أن فلانا قتله هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه . . . ومضى إلى أن أيد ذلك بقصة عبد الله بن سهل [المحلى](11/82, 83) .
3 - وقال النووي والرملي : واللوث قرينة حالية أو مقالية مؤيدة ، تصدق المدعي ، بأن توقع في القلب صدقه في دعواه . ولابد من ثبوت هذه القرينة (بأن) أي : كأن ، إذ القرائن لم تنحصر فيما ذكره ، وجد قتيل أو بعضه وتحقق موته في محلة منفصلة عن بلد كبير أو في قرية صغيرة لأعدائه أو أعداء قبيلته دينا أو دنيا حيث كانت العداوة تحمل على الانتقام بالقتل ، ولم يساكنهم غيرهم ، كما صححه في [الروضة] وهو المعتمد ، والمراد بغيرهم :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 145)
من لم تعلم صداقته للقتيل ، ولا كونه من أهله ، أي : ولا عداوة بينهما ، كما هو واضح ، وإلا فاللوث موجود فلا تمتنع القسامة ، قال ابن أبي عصرون وغيره ، وهو ظاهر . قال الأسنوي تبعا لابن الرفعة : ويدل له قصة خيبر . فإن إخوة القتيل كانوا معه ، ومع ذلك شرعت القسامة . قال العمراني وغيره . ولو لم يدخل ذلك المكان غير أهله لم تعتبر العداوة ، قال الأذرعي : ويشبه اشتراط ألا يكون هناك طريق جادة كثيرة الطارقين ، وخرج بالصغيرة الكبيرة فلا لوث ، بل وجد فيها قتيل فيما يظهر ، إذ المراد بها من أهله غير محصورين ، وعند انتفاء حصرهم لا تتحقق العداوة بينهم فتنتفي القرينة [ المنهاج وشرحه نهاية المحتاج] (7/389 ,390) . .(2/298)
4 - وقال ابن قدامة : واختلفت الرواية فيه- أي . في اللوث المشترط في القسامة - فروي عنه : أن اللوث : هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر ، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب ، وما بين أهل البغي وأهل العدل ، وما بين الشرطة واللصوص ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله .
نقل مهنا عن أحمد في من وجد قتيلا في المسجد الحرام ، ينظر من بينه وبينه في حياته شيء- يعني : ضغنا- يؤخذون به ، ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة إلا أنه قد قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل ، فاللوث على الطائفة التي القتيل من غيرها ، سواء كان القتلى بالتحام ، أو مراماة بالسهام ، وإن لم تبلغ السهام ، فاللوث على طائفة القتيل .
إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو ، نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها ، وكلام الخرقي يدل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 146)(2/299)
عليه أيضا . واشترط القاضي : أن يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم ، وهذا مذهب الشافعي ؛ لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود ، وجميعهم أعداء ، ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير ، ثم ناقض القاضي قوله ، فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينهم وبينه عداوة وأمكن أن يكون هو قتله ، لكونه بقربه- فهو لوث . فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو . ولنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار : هل كان بخيبر غير اليهود أم لا ؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها ؛ لأنها كانت أملاكا للمسلمين ، يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها ، وعمارتها ، والاطلاع عليها ، والامتيار منها ، ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها ، وقول الأنصار : (ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود) يدل على أنه قد كان بها غيرهم من ليس بعدو ؛ ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد ، وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله ، فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى .
وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث ، فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ، ولا ينافيه الاحتمال ، ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان ، ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة ؛ لأنه يحتمل أن القاتل غيره ، ولا على الجماعة ، لأنه يحتمل ألا يشترك الجميع في قتله .
والرواية الثانية عن أحمد : أن اللوث ما يغلب على الظن صدق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 147)
المدعي ، وذلك في دار أو غيرها ، من وجوه : أحدها : العداوة المذكورة [المغني] (8/7-9)(الطبعة المشتركة مع الشرح الكبير) وسنذكر البقية موزعة في مواضعها .(2/300)
تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف :
اتفق من يقولون بالقسامة على أنها لا تثبت بمجرد دعوى أولياء الدم ، واتفقوا على أنها تثبت بالدعوى إذا اقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بمقتضاها ، ثم اختلفوا في الصور التي تتحقق فيها هذه الشبهة ، ومنشأ الخلاف في ذلك اختلافهم في تطبيق ضابط هذه الشبهة المسماة لوثا على هذه الصور ، فمن رآها متحققة في صورة من الصور السبع المذكورة أو نحوها أثبت بها القسامة ، ومن لم يجد في نفسه غلبة الظن توجب الحكم بها في صورة لم يثبت الحكم بها في تلك الصورة . ا هـ انظر [فتح الباري] (12/197) بتصرف . .(2/301)
الرابع : هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا أو يجوز أن يكون أكثر ولو مبهما , مع ذكر الدليل والمناقشة؟
لقد سبق الكلام على معنى اللوث وخلاف العلماء في صوره ، وكان مما تقدم : أن القسامة عند الحنفية لا تكون إلا في صورة واحدة من الصور التي سبق الكلام عليها ، وهي الواقعة بين الأنصار واليهود في خيبر ، وتقدم النقل عنهم في هذه الصورة مستوفيا أدلتهم من السنة والآثار .
ومما تقدم يتبين : أن أبا حنيفة رحمه الله يرى : أن الدعوى في القتل تكون على مبهم ، فتركنا إعادة ذلك النقل اكتفاء بما سبق ذكره ، ومعلوم أن هذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 148)
الرأي يخالف قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم .
وأما المذاهب الثلاثة ففيما يلي تفصيل أقوالهم وما استندوا إليه ، ومعلوم أن الأصل في هذا الباب هو قصة خيبر ، وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته .(2/302)
1 - قال مالك : ( وإذا كان القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ولم يقتل غيره ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد . قال الباجي : هذا قول مالك وأكثر أصحابه . وقال أشهب : إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على جميعهم ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في القسامة ، كان ذلك لقول الميت : دمي عند فلان أو فلان أو لشهادة شاهد على القتل أو شاهدين على الضرب ثم عاش أياما . وجه قول مالك : أنه لا يقتل في القسامة إلا واحد فلا معنى للقسامة على غيره . ووجه قول أشهب : أن القتيل إذا ادعى قتل جماعة له فيجب أن تكون القسامة على قدر ذلك ؛ لأن الأيمان لا تكون إلا موافقة للدعوى [الموطأ بشرح المنتقى] (7/62) . .
وقال الباجي في الكلام على من يستحق القتل بالقسامة : قال : وإذا قلنا : لا يقتل إلا واحد فهل يقسم على واحد أو على جماعة؟ ففي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك : لا يقسم إلا على واحد سواء ثبتت القسامة بدعوى الميت أو بلوث أو بينة على القتل أو بينة على الضرب ثم عاش أياما . وقال أشهب : إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على أكثر أو على جميعهم ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في قسامتهم .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 149)
وجه القول الأول : أن القسامة فائدتها القصاص من المدعى عليه القتل فلا معنى للقسامة على من لا يقتل ولا تؤثر فيه القسامة حكما .
ووجه القول الثاني : أن القسامة إنما هي على قدر الدعوى محققة لها ولا يجوز أن يكون في بعضه ، فإذا وجب لهم القصاص بالقسامة المطابقة لدعواهم كان لهم حينئذ تعيين من يقتص منه ؛ لأن القسامة قد تناولته .(2/303)
وقال سحنون فيما جاء في القسامة على الجماعة في العموم : قال : قلت : أرأيت إن ادعوا الدم على جماعة رجال ونساء؟ قال : قال مالك : إذا ادعوا الدم على جماعة أقسموا على واحد منهم وقتلوا إذا كان لهم لوث من بينة ، أو تكلم بذلك المقتول ، أو قامت البينة على أنهم ضربوه ثم عاش بعد ذلك ثم مات- قلت : فللورثة أن يقسموا على أيهم شاءوا ويقتلوه؟ قال : نعم ، عند مالك . قلت : فإن ادعوا الخطأ وجاءوا بلوث من بينة على جماعة أقسم الورثة عليهم كلهم بالله الذي لا إله إلا هو أنهم قتلوه ثم تفرق الدية على قبائلهم في ثلاث سنين؟ قال : نعم . وكذلك سألت مالكا فقال لي مثلما قلت لك ، وقال لي مالك : ولا يشبه هذا العمد [المدونة الكبرى] (16/224) . وقال ابن رشد : واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة ، هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك : لا تكون القسامة إلا على واحد ، وبه قال أحمد بن حنبل . وقال أشهب : يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء وهو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 150)
ضعيف . وقال المغيرة المخزومي : كل من أقسم عليه قتل . وقال مالك والليث : إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب أنه مات من ذلك الضرب وقيد به ، وهذا كله ضعيف [ بداية المجتهد] (2/432) . .(2/304)
2 - قال الشافعي في باب القسامة : ولهم- أي : ولاة الدم- إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر ، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم [الأم] (6/75) . . . . . . وقال أيضا في اختلاف المدعى عليه في الدم ، قال : فإن ادعى أولياؤه- أي : القتيل- على أهل المحلة لم يحلف لهم منهم إلا من أثبتوا بعينه فقالوا : نحن ندعي أنه قتله ، فإن أثبتوهم كلهم وادعوا عليهم وهم مائة أو أكثر وفيهم نساء ورجال وعبيد مسلمون كلهم أو مشركون كلهم أو فيهم مسلم ومشرك أحلفوا كلهم يمينا يمينا ؛ لأنهم يزيدون على خمسين وإن كانوا أقل من خمسين ردت الأيمان عليهم ، فإن كانوا خمسة وعشرين حلفوا يمينين يمينين ؛ وإن كانوا ثلاثين حلفوا يمينين يمينين ؛ لأن على كل واحد منهم يمينا وكسر يمين ، ومن كان عليه كسر يمين حلف يمينا تامة ، وليس الأحرار المسلمون أحق بالأيمان من العبيد ولا العبيد من الأحرار ولا الرجال من النساء ولا النساء من الرجال ، كل بالغ فيها سواء ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 151)
وإن كان فيهم صبي ادعوا عليه لم يحلف ، وإذا بلغ حلف فإن مات قبل البلوغ فلا شيء عليه ، ولا يحلف واحد منهم إلا واحد ادعوا عليه بنفسه ، فإذا حلفوا برئوا .(2/305)
وقال الشافعي : بيان ما يحلف عليه في القسامة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : وينبغي للحاكم أن يسأل من وجبت له القسامة : من صاحبك؟ فإذا قال فلان ، قال : فلان وحده؟ فإن قال : نعم ، قال : عمدا أو خطأ؟ فإن قال : عمدا سأله ما العمد؟ فإن وصف ما يجب بمثله قصاص ولو قامت بينة أحلفه على ذلك ، وإن وصف من العمد ما لا يجب فيه القصاص وإنما يكون فيه العقل- أحلفه على ذلك بعد إثباته ، وإن قال : قتله فلان ونفر معه ، لم يحلفه حتى يسمي النفر ، فإن قال : (لا أعرفهم وأنا أحلف على هذا أنه فيمن قتله) لم يحلفه حتى يسمي عدد النفر معه ، فإن كانوا ثلاثة أحلفه على الذي أثبته ، وكان له عليه ثلث الدية أو على عاقلته ، وإن كانوا أربعة نفر فربعها ، وإن لم يثبت عددهم لم يحلف ؛ لأنه لا يدري كم يلزم هذا الذي يثبت ولا عاقلته من الدية لو حلف عليه ، ولو عجل الحاكم فأحلفه قبل أن يسأله عن هذا كان عليه أن يعيد عليه اليمين إذا أثبت كم عدد من قتل معه ، ولو عجل الحاكم فأحلفه لقتل فلان فلانا ولم يقل عمدا ولا خطأ أعاد عليه عدد ما يلزمه من الأيمان ؛ لأن حكم الدية في العمد أنها في ماله وفي الخطأ أنها على عاقلته ، ولو عجله فأحلفه لقتله مع غيره عمدا ولم يقل قتله وحده أعاد عليه اليمين لقتله وحده ، ولو عجل فأحلفه لقتله من غيره ولم يسم عدد الذين قتلوه معه أعاد عليه الأيمان إذا عرف العدد ، ولو أحلفه لقتله وثلاثة معه ولم يسمهم قضى عليه بربع الدية أو على عاقلته ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 152)(2/306)
فإن جاء بواحد من الثلاثة فقال : (قد أثبت هذا) أحلفه أيضا عدة ما يلزمه من الأيمان ، فإن كان هذا الوارث وحده أحلفه خمسين يمينا لقتله مع هؤلاء الثلاثة ، فإن كان يرث النصف فنصف الأيمان ولم تعد عليه الأيمان الأولى ، ثم كلما أثبت واحدا معه أعاد عليه ما يلزمه من الأيمان كما يبتدئ استحلافه على واحد لو كانت دعواه عليه منفردة ، وإن كان له وارثان فأغفل الحاكم بعض ما وصفت أنه عليه أن يحلفه عليه ، وأحلفه مغفلا خمسين يمينا ، ثم جاء الوارث الآخر فحلف خمسا وعشرين يمينا ، أعاد على الأول خمسا وعشرين عينا ، لأنها هي التي تلزمه مع الوارث معه ، وإنما أحلفه أولا خمسا وعشرين يمينا ؛ لأنه لا يستحق نصيبه من الدية إلا بها إذا لم تتم أيمان الورثة معه خمسين يمينا [الأم] (6/81) . .
3 - قال ابن قدامة : ذكر الخرقي من شروط القسامة : أن تكون الدعوى عمدا توجب القصاص إذا ثبت القتل وأن تكون الدعوى على واحد . وقال غيره : ليس بشرط ، لكن إن كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين ويستحقون دمه ، وإن كانت خطأ أو شبه عمد فلهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية [المقنع] ( 3 / 432 ، 433 ) . .
وقال في [حاشية المقنع] : قوله : (وأن تكون الدعوى على واحد) : إذا كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين ويستحقون دمه ، وهذا بلا نزاع . قال الشارح : لا يختلف المذهب أنه لا يستحق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 153)
بالقسامة أكثر من قتل واحد ، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي ، وقال بعضهم : يستحق بها قتل جماعة ؛ لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة ، وقول أبي ثور نحو هذا .(2/307)
ولنا : قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته فخص بها الواحد .
ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه وتبقى على الأصل .
وأما إن كانت الدعوى خطأ أو شبه عمد : فقال في [لإنصاف] فالصحيح من المذهب والروايتين ليس لهم قسامة ولا تشرع على أكثر من واحد وعليه جماهير الأصحاب منهم : الخرقي والقاضي وجماعة من أصحابه ؛ كالشريف وأبي الخطاب والشيرازي وابن البنا وابن عقيل ، وغيرهم وجزم به في [الوجيز] و[المنور] و[منتخب الآدمي] ، وغيرهم ، وقدمه في [المحرر] و[النظم] ، و[الحاوي الصغير] و[الفروع] وغيرهم . وعنه : لهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية ، وهو الذي قاله المصنف هنا ، وجزم به في [الهداية] و[المذهب] و[المستوعب] ، و[ الخلاصة] وقدمه في [الرعايتين] ، وظاهر كلام المصنف هنا أن غير الخرقي ما قال ذلك ، وتابعه الشارح وابن منجا وليس الأمر كذلك ، فقد ذكرنا عن غير الخرقي من اختار ذلك . انتهى . قلت : والذي جزم به في [الإقناع] أن لهم القسامة في الخطأ كالعمد ؛ لأن الخطأ أحد القتلين أشبه العمد ، ويقسمون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 154)
على واحد معين كالعم158د ، وهو معنى ما جزم به في [الإنصاف] [حاشية المقنع] (3/433, 434) .(2/308)
الخامس : ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه ومستند كل مع المناقشة :
اختلف أهل العلم القائلون بالقسامة فيمن توجه إليه أيمان القسامة ابتداء :
فذهبت طائفة منهم إلى أنه يبدأ بالمدعين فتوجه إليهم الأيمان .
قال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا ، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث : أنه يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون [المنتقى] على [الموطأ] (7/55) ، و[إكمال إكمال المعلم ](4/395) . .
وقال ابن رشد : قال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم : يبدأ المدعون [بداية المجتهد] (2/439) . .
وجاء في [ المقنع] وحاشيته : ويبدأ بأيمان المدعين ، فيحلفون خمسين يمينا ، هذا المذهب ، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا ، وهذا قول يحيى بن سعيد وربيعة وأبى الزناد والليث ومالك والشافعي [المقنع] وحاشيته (3/ 439) . .
واستدلوا لذلك بالسنة والإجماع والاستصحاب والنظر والقياس :
أما السنة : فروى الشافعي قال : أخبرنا مالك عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 155)(2/309)
ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة : أنه أخبره رجال من كبراء قومه : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4710),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فتفرقا في حوائجهما فأتى محيصة فأخبر : أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين فأتى يهود ، فقال : أنتم والله قتلتموه ، فقالوا : والله ما قتلناه ، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم ، فأقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول ، فذهب محيصة يتكلم- وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة كبر كبر يريد : السن ، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب ، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فكتبوا إليه : إنا والله ما قتلناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا : لا ، قال : فتحلف يهود؟ قالوا : ليسوا بمسلمين ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار . قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء .(2/310)
وعورض هذا الحديث : أولا : بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد بن قيظي أحد بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم : وايم الله ما كان سهل بأعلم منه ، ولكنه كان أسن منه ، قال : والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (احلفوا على ما لا علم لكم به) ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار : أنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أجاب ابن قدامة رحمه الله عن ذلك : فقال : ولنا حديث سهل ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 156)
وهو صحيح متفق عليه ، ورواه مالك في [موطئه] وعمل به ، وما عارضه من الحديث لا يصح ؛ لوجوه :
أحدها : أنه نفي فلا يرد به قول المثبت .
والثاني : أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال : ركضتني ناقة من تلك الإبل ، والأخرى يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة .
والثالث : أن حديثنا مخرج في [الصحيحين] متفق عليه ، وحديثهم بخلافه .
والرابع : أنهم لا يعملون بحديثهم ، ولا حديثنا ، فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه [المغني] (8/495, 496) . .
وعورض حديث سهل ثانيا : بما جاء في البخاري من رواية سعيد بن عبيد : فقال لهم : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). تأتون بالبينة على من قتله ، قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة .(2/311)
وما جاء في البخاري من رواية أبي قلابة ، وفيه قال : صحيح البخاري الديات (6503),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671),سنن الترمذي الطهارة (72),سنن النسائي الطهارة (305),سنن أبو داود الحدود (4364),سنن ابن ماجه الحدود (2578),مسند أحمد بن حنبل (3/163). أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه ، فقالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون ، قال : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ، قالوا : ما كنا لنحلف ، فوداه من عنده .
وأجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض : بعد ذكره لمجموعة من الروايات
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 157)
فيها تقديم تحليف المدعين قال : كذا في رواية سعيد بن عبيد لم يذكر عرض الأيمان على المدعين ، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولا ، وطريق الجمع أن يقال : حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر ، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة ، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا ، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم [فتح الباري] (12/234) . فأبوا .
وقال أيضا : وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد - يعني : المذكورة في حديث الباب- بقول أهل الحديث : إنه وهم من رواية أسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين ؛ لكونه لم يذكر فيه رد اليمين ، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ ، فوجب قبولها ، وهي تقضي على من لم يعرفها . نقله ابن حجر عن القاضي عياض [فتح الباري] (12/236) .
وما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة .(2/312)
قال ابن حجر في الكلام على سند هذا الحديث : قوله : روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : سنن الترمذي الأحكام (1341). البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر من حديث مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به ، قال أبو عمر إسناده لين ، وقد رواه عبد الرازق عن ابن جريج عن عمرو مرسلا ، وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق ، ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث 158 عثمان بن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 158)
محمد عن مسلم ، عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وهو ضعيف أيضا ، وقال البخاري : ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب فهذه علة أخرى [تلخيص الحبير] (4/39) . .
أما الإجماع : فقال البيهقي : وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال : قتل رجل من الأنصار - وهو سكران- رجلا آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية ، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لطيخ وشبهته ، قال : فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه . قال خارجة بن زيد : فركبنا إلى معاوية وقصصنا عليه القصة فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص - فذكر- الحديث ، وفيه فقال سعيد : أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين ، فاغدوا على بركة الله ، فغدونا عليه فأسلمه إلينا سعيد بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينا .
وفي بعض طرقه : وفي الناس يومئذ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة . انتهى بواسطة ابن القيم [شرح ابن القيم لسنن أبي داود] وعليها [عون المعبود] (12/254) . .(2/313)
وأما الاستصحاب : فقد نقل الأبي عن القاضي عياض : أن القسامة أصل في نفسها شرعت لحياة الناس ، وليرتدع المعتدي ، والدعاوى في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 159)
الأموال على سننها فكل أصل صحيح في نفسه يتبع ولا تطرح سنة بسنة [إكمال إكمال المعلم](4/395) . .
وقد سبق ذكر هذا دليلا ، ونوقش هناك ، فأكتفي به عن إعادة مناقشته خشية الإطالة .
وأما النظر : فقال الأبي نقلا عن القاضي عياض : القسامة إنما تكون مع الشبهة القوية على القتل ومع الشبهة صارت اليمين له [إكمال إكمال المعلم] (4/395) . .
وأما القياس : فقال ابن قدامة : ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين ، كاللعان [المغني](8/496) . .
ويمكن أن يقال : بأن هذا قياس مع النص ، وهو ما ورد من الأدلة دالا على البدء بالمدعى عليهم بالأيمان . وسيأتي ذكرها .
ويمكن أن يعارض هذا الجواب : بالأدلة الدالة على البدء بالمدعين ، وقد مضى الكلام في ذلك من جهة الجمع بين الأدلة المتعارضة ومن جهة الترجيح- فلا نطيل الكلام بإعادتها .
وذهبت طائفة أخرى من أهل العلم إلى أنه يبدأ أولا بالمدعى عليهم ، فتوجه إليهم الأيمان .
قال الأبي نقلا عن الإمام مالك رحمه الله : وقال الكوفيون وكثير من البصريين والمدنيين : ويروى عن عمر : أن المبدأ المدعى عليهم [إكمال إكمال المعلم](4/395) . .
ثم قال : قلت : واختلف هؤلاء :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 160)
فقال بعضهم : إن حلفوا برئوا ، وقال بعضهم : يحلفون وتكون الدية عليهم .
وقال ابن قدامة : وقال الحسن : يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ، ويبرءون ، فإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم ، ثم يعطون الدية .
وقال أيضا : وقال الشعبي والنخعي والثوري وأصحاب الرأي : يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل : بالله ما قتلناه ، ولا علمنا قاتلا ، ويغرمون الدية [المغني] (8/495) . .(2/314)
وقد استدل أصحاب هذا القول بالسنة والأثر والقياس :
أما السنة : فمن ذلك ما أخرجه البخاري بالسند المتصل قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار . . . . الحديث إلى أن قال لهم : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة ، وفي رواية أبي قلابة قال : صحيح البخاري الديات (6503),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671),سنن الترمذي الطهارة (72),سنن النسائي الطهارة (305),سنن أبو داود الحدود (4364),سنن ابن ماجه الحدود (2578),مسند أحمد بن حنبل (3/163). أترضون نفل خمسين من اليهود مما قتلوه ، فقالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون ، قال : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ، قالوا : ما كنا لنحلف ، فوداه من عنده .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين :
الأول : الجمع ، وسبق ذكر ذلك في مناقشة الدليل الأول للقائلين بأنه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 161)
يبدأ بالمدعين .
الثاني : قال القاضي عياض : وما احتج به الآخرون من رواية من روى أنه بدأ بالمدعى عليهم : قال المحدثون هي وهم من راويها [إكمال إكمال المعلم] (4/ 395) .
ويمكن أن يناقش هذان الجوابان بما ذكره ابن رشد : من أن الذين يرون البدء بالمدعى عليهم بالأيمان قالوا : وأحاديثنا هذه أولى من التي تروى فيها تبدئة المدعين بالأيمان ؛ لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه .
ويناقش الجواب الثاني بما ذكره ابن رشد : من أن الأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة [بداية المجتهد] (2/ 430) .(2/315)
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة : بقول الحطاب : الرواية الصحيحة المستفيضة أنه إنما بدأ فيه بالمدعين [إكمال إكمال المعلم] (4/ 395) .
ومنها : ما رواه أبو داود في [سننه] قال : حدثنا الحسن بن محمد الصباح الزعفراني ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار : صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4523),سنن ابن ماجه الديات (2677). زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة أخبره : أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا ، فقالوا للذين وجدوه عندهم : قتلتم صاحبنا ؟ فقالوا : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فقال لهم : تأتون بالبينة على من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 162)
قتل هذا ؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون لكم ؟ قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه ، فوداه مائة من إبل الصدقة .
ورد هذا الحديث بقول النسائي : (لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار ) . وبقول مسلم : (رواية سعيد بن عبيد غلط ويحيى بن سعيد أحفظ منه) .
وقال ابن القيم : والصواب : رواية الجماعة- الذين هم أئمة أثبات- أنه بدأ بأيمان المدعين ، فلما لم يحلفوا ثنى باليهود ، وهذا هو المحفوظ في هذه القصة وما سواه وهم [عون المعبود شرح سنن أبي داود] ومعه [معالم السنن] للخطابي (12/ 249 ، 250) .
ويقول الخطابي في [المعالم] : في الحديث حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم ، إلا أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالا وأصح متونا .(2/316)
وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في اليمين بالمدعين : سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج وسويد بن النعمان [عون المعبود شرح سنن أبي داود] ومعه [معالم السنن] للخطابي (12/ 254) . .
هذا ويمكن أن تجرى فيه المناقشة التي مضت في الدليل الأول .
ومنها : ما رواه أبو داود في [سننه] ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن راشد ، أنبأنا هشيم عن أبي حيان التيمي ، أخبرنا عباية . بن رفاعة ، سنن أبو داود الديات (4524). عن رافع بن خديج قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر ، فانطلق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 163)
أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ؟ قالوا : يا رسول الله ، لم يكن ثم أحد من المسلمين ، إنما هم اليهود ، وقد يجترئون (يجترون) على أعظم من هذا ، قال : " فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم" ، فاستحلفهم فأبوا ، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده .
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأمرين :
أحدهما : ما مضى من المناقشة من جهة المتن والدرجة .
الثاني : أن هذا الحديث في سنن الحسن بن علي بن راشد ، وقد رمي بشيء من التدليس ، قاله ابن حجر [أضواء البيان] (3/ 503) .
ويجاب عن المناقشة الثانية : بأنه جاء في السند : وأخبرنا هشيم ، فزالت تهمة التدليس بذلك ، وقد حسن ابن التركماني إسناده ، فقال : ومنها ما أخرج أبو داود بسند حسن عن رافع بن خديج ، وساق الحديث [الجوهر النقي على سنن البيهقي] لابن التركماني (8/ 120) .(2/317)
ومنها : ما رواه أبو داود في [سننه] قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني ، أخبرنا (حدثني) محمد - يعني : ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عبد الرحمن بن بجيد قال : إن سهلا وإن أوهم الحديث : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود : أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلناه وما علمنا له قاتلا ، قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة .
ورد هذا الحديث أولا بقول المنذري : في إسناده محمد بن إسحاق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 164)
وقد تقدم الكلام فيه ، وبقول الإمام الشافعي : فقال قائل : ما منعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد ؟ قلت : لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يكن سمع منه فهو مرسل فلسنا وإياك نثبت المرسل ، وقد علمت سهلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه وساق الحديث سياقا لا يثبت به الإثبات فأخذت به كما وصفت . انتهى بواسطة المنذري . وفي الإصابة في ترجمة عبد الرحمن بن بجيد قال أبو بكر بن أبي داود : له صحبة ، وقال ابن أبي حاتم : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جدته . وقال ابن حبان : يقال له صحبة ، ثم ذكره في ثقات التابعين . وقال البغوي : لا أدري له صحبة أم لا .
وقال ابن عمر : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه فيما أحسب وفي صحبته نظر ؛ لأنه روى فمنهم من يقول : إن حديثه مرسل وكان يذكر بالعلم انتهى [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12/ 252) .
ويجاب ثانيا بما أجيب به عن الحديث الأول من هذه الأدلة .(2/318)
ومنها ما رواه أبو داود في [سننه] قال : حدثنا الحسن بن علي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال (رجل) من الأنصار : سنن أبو داود الديات (4526). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود - وبدأ بهم- : يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا ، فقال للأنصار استحقوا . فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ؟ فجعلها رسول الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 165)
دية على يهود ؛ لأنه وجد بين أظهرهم .
ورد هذا الحديث بقول المنذري : قال بعضهم : وهذا حديث ضعيف لا يلتفت إليه ، وقد قيل للإمام الشافعي رضي الله عنه : ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب ؟ فقال : مرسل والقتيل أنصاري والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم ، إذ كان كل ثقة وكل عندنا بنعمة الله ثقة . قال البيهقي رضي الله عنه : وأظنه أراد بحديث الزهري ما روى عنه معمر عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ، وذكر هذا الحديث [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12/ 254 ، 255) .
وقال ابن القيم : وهذا الحديث له علة ، وهي : أن معمرا انفرد به عن الزهري وخالفه ابن جريج وغيره ، فرووه عن الزهري ، بهذا الإسناد بعينه عن أبي سلمة وسليمان عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى فيها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود ) . ذكره البيهقي .
وفي قول الشافعي : إن حديث ابن شهاب مرسل نظر ، والرجال من الأنصار لا يمتنع أن يكونوا صحابة ، فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من التابعين قد لقي جماعة من الصحابة ، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12/ 253 ، 254) .(2/319)
وأجيب عن هذا : بقول ابن رشد عند ذكره لهذا الحديث بسنده هذا ، قال : وهو حديث صحيح الإسناد ؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة [بداية المجتهد] (2/ 430) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 166)
ويناقش بما سبق من أن جميع الروايات التي فيها البدء بالمدعى عليهم قال المحدثون : هي وهم من راويها .
ومنها : ما رواه مسلم في [صحيحه] : صحيح البخاري الرهن (2379),صحيح مسلم الأقضية (1711),سنن الترمذي الأحكام (1342),سنن النسائي آداب القضاة (5425),سنن أبو داود الأقضية (3619),سنن ابن ماجه الأحكام (2321),مسند أحمد بن حنبل (1/363). ولكن اليمين على المدعى عليه وفي لفظ : سنن الترمذي الأحكام (1341). البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه رواه الشافعي في مسنده .(2/320)
وقد أجاب ابن قدامة عن الاستدلال بهذا الحديث : فقال : اليمين على المدعى عليه لم ترد به هذه القضية ؛ لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم ، هاهنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه ، فيجب تقديمه ، ثم هو حجة عليهم ؛ لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم ، وقد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، إلا في القسامة وهذه الزيادة يتعين العمل بها ؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة [المغني] (8/ 396) . وأجاب الخطابي أيضا ، فقال : وأما عن الحديثين الآخرين : حديث صحيح البخاري الرهن (2380). شاهداك أو يمينه ، صحيح البخاري تفسير القرآن (4277),صحيح مسلم الأقضية (1711),سنن النسائي آداب القضاة (5425),سنن ابن ماجه الأحكام (2321). لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر - فإن القسامة أصل في نفسها شرع الحكم بها لتعذر إقامة البينة حينئذ ؛ لأن القاتل في الغالب إنما يقصد الخلوة والغيلة بخلاف سائر الحقوق .
وأيضا فإنها لم تخرج عن ذلك الأصل ؛ لأنه إنما كان القول قول المدعى عليه في تلك الحقوق ؛ لقوة جنبته بشهادة الأصل وهو أن الأصل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 167)
براءة الذمة ، وهذا المعنى موجود هنا ، فإنا لم نجعل القول قول المدعي إلا لقوة جنبته باللوث الذي يشهد بصدقه ، فقد أهملنا ذلك الأصل ولم نطرحه بالكلية [إكمال إكمال المعلم] (4/ 395) .(2/321)
وأما الأثر : فقال ابن رشد : واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك : أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد ، وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزي فيها فمات ، فقال عمر للذي ادعى عليهم : أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها ؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا ، فقال للمدعين : احلفوا فأبوا ، فقضى عليهم بشطر الدية [بداية المجتهد] (2/ 430) . .
ويمكن أن يجاب عن هذا : بأنه أثر ، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تقديم المدعين ، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بالآثار .
وهناك آثار لا تخلو من مقال تركنا ذكرها اختصارا ، ومن أراد الرجوع إليها فعليه بمراجعة : [نصب الراية] و [الدراية] و [تلخيص الحبير] و [شرح ابن القيم لسنن أبي داود ] .
وأما القياس : فقال ابن الهمام : ولأن اليمين حجة في الدفع لا الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق ؛ ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى ألا يستحق النفس المحترمة [فتح القدير] (8/ 385) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 168)
ويمكن أن يجاب عن هذا القياس :
أولا : بأنه قياس مع الفارق ، وقد بين ذلك الإمام مالك رحمه الله فقال : وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق : أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه حقه وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة . قال : فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون فيها ليكف الناس عن القتل ، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول [الموطأ على المنتقى] (7/ 61) .
وثانيا : أنه قياس مع النص والقياس مع النص لا يصح والنص ما ورد من الأدلة الصحيحة على البدء بالمدعين .(2/322)
السادس : ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ومستند كل مع المناقشة ، وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا ؟
1 - من يحلف من المدعين :
اختلف أهل العلم في ذلك :
فمنهم : من رأى أن الوارث هو الذي يقسم .
ومنهم : من رأى أن العصبة هم الذين يقسمون .
فمن القائلين : بأن الورثة هم الذين يقسمون الإمام الشافعي - رحمه الله- وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 169)
وفيما يلي ذكر بعض ما قالوه في ذلك مع الأدلة والمناقشة :
1 - قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة : (من يقسم فيه ويقسم عليه) قال : يحلف في القسامة الوارث البالغ غير المغلوب على عقله من كان منهم مسلما أو كافرا عدلا أو غير عدل ومحجور عليه ، والقسامة في المسلمين على المشركين والمشركين على المسلمين والمشركين فيما بينهم مثلها على المسلمين لا تختلف ؛ لأن كلا ولي دمه ، ووارث دية المقتول وماله ، إلا أنا لا نقبل شهادة مشرك على مسلم ، ولا نستدل بقوله بحال ؛ لأن من حكم الإسلام إبطال أخذ الحقوق بشهادة المشركين .
وقال الشافعي أيضا تحت ترجمة : (الورثة يقسمون) : وإذا قتل الرجل فوجبت فيه القسامة لم يكن لأحد أن يقسم عليه إلا أن يكون وارثا ، كان قتله عمدا أو خطأ ، وذلك أنه لا تملك النفس بالقسامة إلا دية المقتول ولا يملك دية المقتول إلا وارث ، فلا يجوز أن يقسم على مال يستحق إلا من له المال بنفسه أو من جعل الله تعالى له المال من الورثة .
وقال الشافعي : ولو وجبت في رجل القسامة وعليه دين وله وصايا فامتنع الورثة من القسامة ، فسأل أهل الدين أو الموصى لهم أن يقسموا لم يكن ذلك لهم ، وذلك أنهم ليسوا المجني عليه الذي وجب له على الجانين المال ، ولا الورثة الذين أقامهم الله تعالى مقام الميت في ماله بقدر ما فرض له منه .(2/323)
وقال الشافعي : ولو ترك القتيل وارثين فأقسم أحدهما فاستحق به نصف الدية أخذها الغرماء من يده ، فإن فضل منها فضل أخذ أهل الوصايا ثلثها من يده ، ولم يكن لهم أن يقسموا ويأخذوا النصف الآخر ، فإن أقسم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 170)
الوارث الآخر أخذ الغرماء من يده ما في يده حتى يستوفوا ديونهم ، وإن استوفوها أخذ أهل الوصايا الثلث مما في يده ، وإن كان للغرماء مائة دينار فاستوفوها من نصف الدية الذي وجب للذي أقسم أولا ثم أقسم الآخر رجع الأول على الآخر بخمسين دينارا ولا يرجع عليه في الوصايا ؛ لأن أهل الوصايا إنما يأخذون منه ثلث ما في يده لا كله كما يأخذه الغرماء .
قال الشافعي : ولا يقسم ذو قرابة ليس بوارث ولا ولي يتيم من ولد الميت حتى يبلغ اليتيم ، فإن مات اليتيم قام ورثته في ذلك مقامه ، وإن طلب ذو قرابة وهو غير وارث القتيل : أن يقسم جميع القسامة لم يكن ذلك له فإن مات ابن القتيل أو زوجة له ، أو أم ، أو جدة فورثه ذو القرابة كان له أن يقسم ؛ لأنه صار وارثا [الأم] (6/ 80) .
وقد أورد الشافعي رحمه الله تعالى اعتراضا على تخصيصه الوارث ، وأجاب عنه :
قال الشافعي : فإن قال قائل : ففي حديث ابن أبي ليلى ذكر أخي المقتول ورجلين معه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : تحلفون وتستحقون فكيف لا يحلف إلا وارث ؟ قلت : قد يمكن أن يكون قال ذلك لوارث المقتول هو وغيره ، ويمكن أن يكون قال ذلك لوارثه وحده : تحلفون لواحد ، أو قال ذلك لجماعتهم يعني به : يحلف الورثة أن كان مع أخيه الذي حكى أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وارث غيره ، أو كان أخوه غير وارث له ، وهو يعني بذلك : الورثة .
فإن قال قاتل : ما الدلالة على هذا ؟ فإن جميع حكم الله وسنن رسول الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 171)(2/324)
صلي الله عليه وسلم فيما سوى القسامة أن يمين المرء لا تكون إلا فيما يدفع بها الرجل عن نفسه ، كما يدفع قاذف امرأته الحد عن نفسه وينفي بها الولد ، وكما يدفع بها الحق عن نفسه والحد من غيره ، وفيما يأخذ بها الرجل مع شاهد ويدعي المال فينكل المدعى عليه ، وترد عليه اليمين ، فيأخذ بيمينه ، ونكول صاحبه ما ادعى عليه ، لا أن الرجل يحلف فيبرأ غيره ، ولا يحلف فيملك غيره بيمينه شيئا ، فلما لم يكن في الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لغير وارث ويستحق بها الوارث لم يجز فيها- والله أعلم- إلا تكون في معاني ما حكم الله عز وجل من الأيمان ثم رسوله صلى الله عليه وسلم ثم المسلمون من أنه لا يملك أحد بيمين غيره شيئا .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : ولا يجب على أحد حق في القسامة حتى تكمل أيمان الورثة خمسين يمينا ، وسواء كثر الورثة أو قلوا ، وإذا مات الميت وترك وارثا واحدا أقسم خمسين يمينا واستحق الدية ، وإن ترك وارثين أو أكثر فكان أحدهما صغيرا أو غائبا أو مغلوبا على عقله ، أو حاضرا بالغا فلم يحلف فأراد أحدهما اليمين- لم يحبس على غائب ولا صغير ، ولم يبطل حقه من ميراثه من دمه بامتناع غيره من اليمين ولا إكذابه دعوى أخيه ولا صغره ، وقيل للذي يريد اليمين : أنت لا تستوجب شيئا من الدية على المدعى عليهم ولا على عواقلهم إلا بخمسين يمينا ، فإن شئت أن تعجل فتحلف خمسين يمينا وتأخذ نصيبك من الميراث لا يزاد عليه قبلت منك ، وإن امتنعت فدع هذا حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه فتحلفان خمسين يمينا أو ورثته فتكمل أيمانكم خمسين يمينا ، كل رجل منكم بقدر ما يجب عليه من الأيمان أو أكثر ، ولا يجوز أن يزاد على وارث
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 172)
في الأيمان على قدر حصته من الميراث إلا في موضعين :(2/325)
أحدهما : ما وصفت من أن يغيب وارث أو يصغر أو ينكل فيريد أحد الورثة اليمين فلا يأخذ حقه إلا بكمال خمسين يمينا ، فيزاد عليه في الأيمان في هذا الموضع ، ولا يجبر على الأيمان ، أو يدع الميت ثلاثة بنين فتكون حصة كل واحد منهم سبعة عشر يمينا إلا ثلث يمين فلا يجوز في اليمين كسر ، ولا يجوز أن يحلف واحد ستة عشر يمينا وعليه ثلثا يمين ، ويحلف آخر سبعة عشر قوله : (ولا سبعة عشر) إلخ كذا في الأصل . ، ولا سبعة عشرة زيادة ، ويحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا ، فيكون عليهم زيادة يمين بينهم ، وهكذا من وقع عليه أو له كسر يمين جبرها .
وإن لم يدع القتيل وارثا إلا ابنه أو أباه أو أخاه أجزأه أن يحلف خمسين يمينا ؛ لأنه مالك المال كله ، وكل من ملك شيئا حلف عليه ، وهكذا لو لم يدع إلا ابنته وهي مولاته حلفت خمسين يمينا ، وأخذت الكل : النصف بالنسب ، والنصف بالولاء ، وهكذا لو لم يدع إلا زوجته وهي مولاته ، وإذا ترك أكثر من خمسين وارثا سواء في ميراثه كأنهم بنون معا أو إخوة معا أو عصبة في القعدد إليه سواء ، حلف كل واحد منهم يمينا وإن جازوا خمسين أضعافا ؛ لأنه لا يأخذ أحد مالا بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه بلا يمين منه ، ولا يملك أحد بيمين غيره شيئا ، ولو كانت فيهم زوجة فورثت الربع أو الثمن حلفت ربع الأيمان ثلاثة عشر يمينا ، يزاد عليها كسر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 173)
يمين أو ثمن الأيمان سبعة أيمان يزاد عليها كسر يمين ، لما وصفت من أنه لا يجوز إذا كان على وارث كسر يمين إلا أن يأتي بيمين تامة [الأم] (6/ 80- 82) .(2/326)
2 - قال ابن قدامة : والرواية الثانية : لا يقسم إلا الوارث ، وتفرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم ، هذا ظاهر قول الخرقي ، واختيار أبي حامد ، وقول الشافعي . فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم ، فإن انقسمت من غير كسر ، مثل : أن يخلف المقتول اثنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمسة وعشرين يمينا ، وإن كانوا ثلاثة بنين ، أو جدا وأخوين جبر الكسر عليهم ، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا ؛ لأن تكميل الخمسين واجب ، ولا يمكن تبعيض اليمين ، ولا حمل بعضهم لها عن بعض ، فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم ، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم ، فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان ، ثم يجبر الكسر ، فيكون عليه تسع أيمان ، وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون ، وهذا أحد قولي الشافعي ، وقال في الآخر : يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا ، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه ؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى ، وعن مالك أنه قال : ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط الآخر .
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1631),سنن الدارمي الديات (2353). تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 174)
وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون ، ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين ، وهذا خلاف النص ، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة .(2/327)
ويفارق اليمين على المدعى عليه ، فإنها ليست حجة للمدعي ، ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد ؛ كاليمين المنكسرة في القسامة ، فإنها تجبر وتكمل في حق كل واحد ؛ لكونها لا تتبعض ، وما لا يتبعض يكمل ؛ كالطلاق ، والعتاق .
وما ذكره مالك لا يصح ؛ لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها ، فلم يجز ، كما لو تساوى الكسران ، بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها ، أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها ، وبالقياس على من عليه أكثرها ؛ ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ، ويستوي من له في المدعي كثير وقليل ، كذا هاهنا ؛ ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكثر [المغني ، (10/ 27, 28) (الطبعة المشتركة مع الشرح الكبير) .
3 - قال الخرقي : ( وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا ، حرا أو عبدا ، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل ؛ لأن القسامة توجب القود إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية ) .
قال ابن قدامة : أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف ، سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا ، فإن الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر ، فاتهم اليهود بقتله ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 175)
وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا ، وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله ، وهو المماثل له في حاله- ففيه القسامة ، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي .(2/328)
وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي : لا قسامة في العبد ؛ لأنه مال فلم تجب القسامة فيه ، كقتل البهيمة . ولنا : أنه قتل موجب للقصاص ، فأوجب القسامة كقتل الحر . وفارق البهيمة ؛ فإنه لا قصاص فيها . ويقسم على العبد سيده ؛ لأنه المستحق لدمه . وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة ، كالقن ؛ لأن الرق ثابت فيهم ، وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا ، والحر يقتل عبدا- فلا قسامة فيه ، في ظاهر قول الخرقي ، وهو قول مالك ؛ لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود .
وقال القاضي : فيهما القسامة ، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ؛ لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم ، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة .
ولنا : أنه قتل لا يوجب القصاص ، فأشبه قتل البهيمة ، ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه ، بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص . ذكره القاضي ؛ لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ، ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة [المغني] (8/ 504 . 505) .
ومن القائلين بأن العصبة هم الذين يحلفون : الإمام مالك رحمه الله ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 176)
وفيما يلي ذكر بعض ما قالوا في ذلك :
1 - قال مالك رحمه الله : والقسامة تصير إلى عصبة المقتول وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم . وقال مالك أيضا : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا [الموطأ] وعليه [المنتقى] (7/ 58) .(2/329)
وقال الباجي : قوله : ( يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، يحتمل أن يريد إن كان الولاة أكثر من خمسين حلف خمسون ، فتكون (من) للتبعيض ، ويحتمل أن يريد به يحلف من هذا الجنس خمسون ، فتكون (من) للجنس إذا كان ولاة الدم خمسين فلا خلاف أن جميعهم يحلف ، وإن كانوا أكثر من خمسين فقد حكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتين :
إحداهما : يحلف منهم خمسون خمسين يمينا .
والرواية الثمانية : يحلف جميعهم ، والذي ذكر ابن عبدوس وابن المواز من رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك يحلف من الولاة خمسون ، وقال المغيرة وأشهب وعبد الملك : وإن كانوا أكثر من خمسين وهم في العقد سواء ، ففي [الموازية] كالإخوة وغيرهم فليس عليهم أن يحلف منهم إلا خمسون ، وهذا المشهور من المذهب في كتب المغاربة من المالكيين ، وإنما اختلفوا إذا كان الأولياء خمسين فأرادوا أن يحلف منهم رجلان خمسين يمينا ، ففي [المجموعة] عن عبد الملك : لا يجزئهم ذلك ، وهو كالنكول . وقال ابن المواز : ذهب ابن القاسم إلى أن يمين رجلين منهم خمسين يمينا يجزئ وينوب عمن بقي ، قال محمد . وقول
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 177)
ابن القاسم صواب ؛ لأن أهل القسامة تجزئ أيمان بعضهم عن بعض ، ولو لم يجوز ذلك لم يقل أشهب : إن كانوا ثلاثة يحلفون يمينا يمينا ثم يحلف عشرون منهم عشرين يمينا ولو كانوا مائة متساوين أجزأ يمين خمسين . قال : وأما إذا تشاح الأولياء ولم يرضوا أن يحمل بعضهم عن بعض- فلا بد من قول أشهب ، وبه قال ابن القاسم .
فرع : وهذا إذا كان إمساك عن اليمين يحمل ذلك عنه ، وأما أن امتنع عن اليمين فتسقط الدية . قاله ابن القاسم [المنتقى على الموطأ] (7/ 58 ، 59) .(2/330)
قال الباجي : مسألة : ولا يحلف في القسامة على قتل العمد أقل من اثنين . قاله مالك في [المجموعة] و[الموازية] ، قال ابن القاسم : كأنه من ناحية الشهادة ، إذ لا يقتل بأقل من شاهدين . قال أشهب : وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في التعانه .
قال عبد الملك : ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد ؛ لأنهن لا يشهدن فيه ، وإنما عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة والجماعة اثنان فصاعدا ، قال الله تعالى : سورة النساء الآية 11 فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
وأصل هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحارثيين : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم وإنما كان ولي الدم رجلا واحدا ، وهو عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول عبد الله بن سهل ، وإنما كان حويصة ومحيصة ابني عم ، فلما علق النبي صلى الله عليه وسلم الأيمان بجماعتهم ، ولم يقصرها على ولي الدم كان الظاهر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 178)
أنها لا تثبت إلا في حكم الجماعة ، وأقل الجماعة اثنان ، وقد نص عليه ابن الماجشون واحتج عليه بآية الميراث سورة النساء الآية 11 فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ولا خلاف أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس كما يفعل الثلاثة الإخوة ، ولا يحجبها الأخ الواحد ؛ لأن اسم الإخوة لا يتناوله .(2/331)
فرق : والفرق بين ولاة القتيل لا يقسم منهم أقل من اثنين ويقسم من جنبة القاتل واحد وهو القاتل- أن جنبة القتيل إذا عدم منهم اثنان وبطلت القسامة في جنبته فرجعت في جنبة القاتل ، فإن لم يكن معه من يحلف معه من جهتهم كان للطالب بالدم ما يرجع إليه وهو أيمان القاتل وأولياؤه ولو لم يقبل من القاتل ، وقد يعدم أولياء يحلفون معه لم يكن له ما يرجع إليه في تبرئة نفسه [المنتقى على الموطأ] (7/ 59) .
قال الباجي : مسألة : فإن كان ولاة الدم اثنين حلف كل رجل منهم خمسا وعشرين يمينا ؛ وليس لأحدهما أن يتحمل عن صاحبه شيئا من الأيمان ، قال ابن المواز عن ابن القاسم : ووجه ذلك : أنه لا يجوز أن يحلف أحد في العمد أكثر من خمس وعشرين يمينا ، قال ابن المواز عن ابن الماجشون : ولهما أن يستعينا بمن أمكنهما من العصبة ، ويبدأ بيمين الأقرب فالأقرب ، يحلفون بقدر عددهم مع المعينين ، فإن حلف الأولياء أكثر مما ينوبهم في العدد مع المعينين جاز ذلك ، وإن حلف المعينون أكثر لم يجز ذلك ، ووجه ذلك عندي : أنه نوع من النكول .
وأما إذا تساووا على حسب العدد أو كانت أيمان الولاة أكثر فإنها على وجه العون للولاة ، ولو حلف أحد الوليين خمسا وعشرين ، ثم استعان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 179)
الآخر بأربعة وعشرين من العصبة لم يجزه أن يحلف إلا ثلاثة عشر يمينا ؛ لأن المعينين تتوجه معونتهم إليه وإلى صاحبه كما لو حلفوا قبل أن يحلف الولي الأول .
قال الباجي : مسألة : فإن كان ولي الدم واحدا جاز له أن يستعين من العصبة بواحد وأكثر من ذلك ما بينه وبين خمسين رجلا .(2/332)
والأصل في ذلك ما روى أبو قلابة : صحيح البخاري الديات (6503). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين اللذين ادعيا على اليهود : أتحلفون وتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم فكان الظاهر أن هذا العدد لا يزاد عليه ، لأن عدد الأنصار كان أكثر من ذلك ، وتكون الأيمان بينهم على ما تقدم من التفسير .
وقال مالك : القسامة في قتل الخطأ يقسم الذين يدعون الدم ، ويستحقون بقسامتهم يحلفون خمسين يمينا تكون على قسم مواريثهم من الدية ، فإن كان في الأيمان كسور ، وإذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قسمت فيجبر عليه تلك اليمين .
قال الباجي : وهذا على ما قال أن ولاة الدم الذين يدعون الدم يقسمون في قتل الخطأ مع الشاهد على القتل . قال أشهب : وكذلك إذا قال : دمي عند فلان قتلني خطأ . وقال عبد الملك : ويؤخذ في ذلك بشهادة النساء فيمن علم الناس بموته . وقال ابن المواز : اختلف قول مالك في القسامة على قول القتيل في الخطأ .
وقال عيسى بن دينار : أخبرني من أثق به أن قول مالك في الغريم لا يقسم في الخطأ بقول الميت ، ثم رجع فقال : يقسم مع قوله ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وجه القول الأولى أنه يتهم أن يريد غنى ولده وحرمة الدم أعظم .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 180)
ووجه القول الذي رجع إليه أنه معنى يوجب القسامة في العمد فأوجبها في الخطأ كالشاهد العدل .
(فرع) : فإذا قلنا : إنه يقسم مع قول القتيل فإنه يقسم مع قول المسخوط والرجال والنساء ما لم يكن صغيرا أو عبدا أو ذميا [المنتقى على الموطأ] (7/ 63) . (2) .(2/333)
قال الباجي : وقوله : (يحلفون خمسين يمينا) علق ذلك بالعدد ؛ لأنها قسامة في دم فما اختصت بالخمسين كالعمد ؛ ولهذا المعنى يبدأ فيها المدعون وتكون الأيمان على الورثة إن كانوا يحيطون بالميراث على قدر مواريثهم ، فإن كان في الأيمان كسر فالقسامة على أكثرهم حظا منها ، قاله مالك في [المجموعة] . قال عبد الملك . لا ينظر إلى كثرة ما عليه من الأيمان وإنما ينظر إلى تلك اليمين . قال ابن القاسم : إذا كان على أحدهم نصفها ، وعلى الآخر ثلثها ، وعلى الآخر سدسها- جبرت على صاحب النصف ، وإن كان الوارث لا يحيط بالميراث فإنه لا يأخذ حصته من الدية حتى يحلف خمسين يمينا [المنتقى على الوطأ] (7/ 63 ، 74) .
قال مالك : فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية ، فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية ، وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد .
قال الباجي : وهذا على ما قال : أن حكم القسامة في قتل الخطأ غير حكمها في قتل العمد . . . ؛ لأنها لما اختصت القسامة في الخطأ بالمال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 181)
كان ذلك للورثة رجالا كانوا أو نساء ، قل عددهم أو كثر ، ولا يحلف في ذلك إلا وارث ، وأما قتل العمد فإن مقتضاه القصاص ، وإنما يقوم به العصبة من الرجال ، فلذلك تعلقت الأيمان بهم دون النساء [المنتقى على الموطأ] (7/ 64) .
قال الأبي : (ع) : والأيمان في القسامة خمسون لا ينقص منها لنص الحديث يحلفها في الخطأ الورثة ، فإن لم تكن إلا امرأة لم تأخذ فرضها حتى تحلف الخمسين ، وكذلك إن لم تكن الورثة إلا نساء فإنهن لا يأخذن فرضهن حتى يحلفن الخمسين يمينا ، وإن كانت الورثة جماعة وزعت الأيمان على قدر المواريث .(2/334)
قال الأبي : قلت : وإنما وزعت كذلك ؛ لأن الأيمان هي السبب في حصول الدية فتوزع كما توزع الدية ، فإن انكسرت منها يمين أو أكثر فإن استوت الأجزاء أكملت اليمين على كل واحد من المنكسر عليهم ، وإن اختلف كما لو كان الوارث ابنا فالمشهور : أنه إنما تكمل اليمين على صاحب الجزء الأكبر ، وقيل : تكمل على كل واحد من المنكسر عليهم [الأبي] (4/ 395 ، 396) . .
قال الأبي : (ع) : فإن لم يحضر من الورثة إلا واحد وغاب الباقون لم يأخذ الحاضر نصيبه حتى يحلف الخمسين يمينا ، فإذا قدم الغائب لم يأخذ حظه من الميراث حتى يحلف نصيبه من الأيمان ، ولا يكتفي بحلف الحاضر [الأبي] (4/ 396) .
2 - قال ابن قدامة : اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه أيمان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 182)
القسامة ، فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا ، كل واحد منهم يمينا واحدة ، وهذا قول لمالك ، فعلى هذا يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه ، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة ، يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول .
فأما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم ، مثل : أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي ، ولا يعرف كيفية نسبه منهم- فلا يقسم ، لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح ، وكلهم يرجعون إلى أب واحد ، ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس ، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم ، وقسمت بينهم ، فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين [المغني] (8/ 501) .
جاء في [حاشية المقنع] : قوله : (وعنه يحلف من العصبة . . . إلخ) هذا قول لمالك ونصره جماعة من الأصحاب منهم الشريف وأبو الخطاب والشيرازي وابن البناء [حاشية المقنع] (3/ 440) .(2/335)
2 - من يحلف من المدعى عليهم :
إذا لم يحلف المدعون حلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا ، هذا في المذاهب الثلاثة ، ويوافقهم المذهب الحنفي في أنه يحلف خمسون رجلا خمسين يمينا ، وهذا إذا أمكن عند الجميع ، وإذا لم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 183)
يمكن فسيأتي بيانه في رد الأيمان ، وقد بسط الكاساني رحمه الله الكلام على تحليف المدعى عليهم مع بيان خلاف أئمة المذهب الحنفي ، وفي مقدمتهم أبو حنيفة رحمه الله ، فذكرنا كلامه مفصلا .
قال الكاساني : وأما بيان سبب وجوب القسامة والدية : فنقول : سبب وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ- صار مقصرا بترك الحفظ الواجب ، فيؤخذ بالتقصير زجرا عن ذلك ، وحملا على تحصيل الواجب ، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية ؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ ، ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له فكانت النصرة عليه ، إذ الخراج الضمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال تبارك وتعالى : سورة البقرة الآية 286 لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة ؛ إما بالملك أو باليد وهو التصرف فيه فيتهمون أنهم قتلوه ، فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة ، والدية- لوجود القتيل بين أظهرهم . وإلى هذا المعني أشار سيدنا عمر رضي الله عنه حينما قيل : أنبذل أموالنا وأيماننا ؟ فقال : (أما أيمانكم فلحقن دمائكم ، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم) ، وإذا عرف هذا فنقول : القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة ، للأحاديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 184)(2/336)
ولأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم ، وهم المتهمون في قتله فكانت القسامة والدية عليهم .
وكذلك إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة لما قلنا : فيحلف منهم خمسون ، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا تكرر الأيمان عليهم حتى تكمل خمسين يمينا .
لما روي عن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه : أنه حلف رجالا القسامة ، فكانوا تسعة وأربعين رجلا ، فأخذ منهم واحدا وكرر عليه اليمين حتى كملت خمسين يمينا ، وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه خالفه أحد فيكون إجماعا .
ولأن هذه الأيمان حق ولي القتيل فله أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه ، فإن أمكن الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى ، وإن لم يمكن يستوفي عدد الأيمان التي هي حقه . وإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر اليمين على بعضهم- ليس له ذلك ، كذا ذكر محمد رحمه الله ؛ لأن موضوع هذه الأيمان على عدد الخمسين في الأصل ، لا على واحد ، وإنما التكرار على واحد لضرورة نقصان العدد ولا ضرورة عند الكمال .
وإن كان في المحلة قبائل شتى ؛ فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة .
وقال أبو يوسف رحمه الله : عليهم وعلى المشترين جميعا .
وجه قوله : أن الوجوب على أهل الخطة باعتبار الملك ، والملك ثابت للمشترين ؛ ولهذا إذا لم يكن من أهل الخطة أحد كانت القسامة على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 185)
المشترين .
وجه قولهما : أن أهل الخطة أصول في الملك ؛ لأن ابتداء الملك ثبت لهم ، وإنما انتقل عنهم إلى المشترين ، فكانوا أخص بنصرة المحلة وحفظها من المشترين ، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم ، وكان المشتري بينهم كالأجنبي ، فما بقي واحد منهم لا ينتقل إلى المشتري .(2/337)
وقيل : إن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهد بالكوفة ، وكان تدبير أمر المحلة فيها إلى أهل الخطة ، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة كانوا من أهل الخطة أو لا ، فبنى الجواب على ذلك ، فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة ؛ لأن كل واحد منهما عول على معنى الحفظ والنصرة .
فإن فقد أهل الخطة وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف عليهم جميعا .
لما روي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة على أهل خيبر وكانوا سكانا ولأن للسكان اختصاصا بالدار يدا ، كما أن للمالك اختصاصا بها ملكا ، ويد الخصوص تكفي لوجوب القسامة .
وجه قولهما : أن المالك أخص بحفظ الموضع ونصرته من السكان ؛ لأن اختصاصه اختصاص ملك أنه أقوى من اختصاص اليد ألا يرى أن السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون .
وأما إيجاب القسامة على يهود خيبر فممنوع ؛ لأنهم كانوا سكانا ، بل كانوا ملاكا ، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم ووضع الجزية على رءوسهم ، وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على وجه الجزية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 186)
لا على سبيل الأجرة .
ولو وجد قتيل في سفينة ؛ فإن لم يكن معهم ركاب فالقسامة والدية على أرباب السفينة وعلى من يمدها ممن يملكها أو لا يملكها ، وإن كان معهم فيها ركاب فعليهم جميعا ، وهذا في الظاهر يؤيد قول أبي يوسف في إيجاب القسامة والدية على الملاك والسكان جميعا .(2/338)
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يفرقان بين السفينة والمحلة ؛ لأن السفينة تنقل وتحول من مكان إلى مكان ، فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة إذا وجد عليها قتيل ، بخلاف الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل فيعتبر فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد ، وكذا العجلة حكمها حكم السفينة ، لأنها تنقل وتحول ولو وجد القتيل ومعه رجل يحمله على ظهره فعليه القسامة والدية ؛ لأن القتيل في يده ، ولو جريح معه وبه رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي يوسف ، وقال أبو يوسف : وفي قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه يضمن .
وجه القياس : أن الحامل قد ثبتت يده عليه مجروحا ، فإذا مات من الجرح فكأنه مات في يده ، وهذا تفريع على من جرح في قبيلة فتحامل إلى قبيلة أخرى فمات فيهم ، وقد ذكرناه فيما تقدم .
وكذلك إذا كان على دابة ولها سائق أو قائد وعليها راكب فعليه القسامة والدية ؛ لأنه في يده وإن اجتمع السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا ؛ لأن القتيل في أيديهم فصار كأنه وجد في دارهم .
وإن وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا راكب عليها ؛ فإن كان ذلك الموضع ملكا لأحد فالقسامة والدية على المالك ، وإن كان لا مالك له
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 187)
فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت من الأمصار والقرى ، وإن كان بحيث لا يسمع فهو هدر لما قلنا فيما تقدم .
فإن وجدت الدابة في محلة فعلى أهل تلك المحلة .
وكذلك إذا وجد في فلاة من الأرض فإنه ينظر إن كان ذلك المكان الذي وجد فيه ملكا لإنسان فالقسامة والدية عليه ، وإن لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار والقرى إذا كانت بحيث يبلغ الصوت منها إليه ، وإن كان بحيث لا يبلغ فهو هدر لما قلنا ، وذكر في الأصل في قتيل وجد بين قريتين أنه يضاف إلى أقربهما .(2/339)
لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : مسند أحمد بن حنبل (3/39). أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يذرع بين قريتين في قتيل وجد بينهما .
وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه في قتيل وجد بين وادعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك ، فكتب إليه سيدنا عمر رضي الله عنه : أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم ، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب ، فألزموا القسامة والدية ، وذلك كله محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل ، كذا ذكر محمد في الأصل ، حكاه الكرخي رحمه الله ، والفقه ما ذكرنا فيما تقدم .
وكذا إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على أقربهما ، فإن وجد في المعسكر في فلاة من الأرض فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض ؛ لأنهم أخص بنصرة الموضع وحفظه فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم وهذا على أصلهما ؛ لأن المعسكر كالسكان والقسامة على الملاك ، فأما على أصل أبي يوسف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 188)
رحمه الله فالقسامة والدية عليهم جميعا, وإن يكن في ملك أحد بأن وجد في خباء أو فسطاط, فعلى من يسكن الخباء والفسطاط وعلى عواقلهم القسامة والدية ؛ لأن صاحب الخيمة خص بموضع الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع أهل المحلة ، ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد فيها قتيل لا على أهل المحلة ، كذا ها هنا .
وإن وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط منهم القسامة والدية ، كذا ذكر في ظاهر الرواية ؛ لأن الأقرب أولى بإيجاب القسامة والدية لما ذكرنا .(2/340)
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه : إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية على جماعتهم كالقتيل يوجد في المحلة ، جعل الخيام المحمولة كالمحلة على هذه الرواية . . . هذا إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا ، فإن كانوا قد لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة ولا دية في قتيل يوجد بين أظهرهم ؛ لأنهم إذا لقوا عدوا وقاتلوا فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمين ؛ إذ المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا .
ولو وجد قتيل في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على أهل القرية ؛ لأن صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه وحفظها من أهل القرية فكان أولى بإيجاب القسامة والدية عليه كصاحب الدار مع أهل المحلة . . . ولو وجد قتيل في دار إنسان وصاحب الدار من أهل القسامة ، فالقسامة والدية على صاحب الدار وعلى عاقلته . كذا ذكر في الأصل ولم يفصل بينهما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا ، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله : أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 189)
القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا أو غيبا .
وقال أبو يوسف رحمه الله : لا قسامة على العاقلة هكذا ذكر فيه .
وقال الكرخي رحمه الله : أن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا في القسامة وإن كانت غائبة ، فالقسامة على صاحب الدار تكرر عليه الأيمان ، والدية عليه وعلى عاقلته .
أما دخول العاقلة في القسامة إذا كانوا حضورا فهو قولهما ، وظاهر قول أبي يوسف : (لا قسامة على العاقلة) يقتضي ألا يدخلوا في القسامة .
وجه قول زفر رحمه الله : أنه لما لزمتهم الدية لزمتهم القسامة كأهل المحلة ، ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة وبالولاية والتهمة ، فلا تشاركه العاقلة كما لا يشارك أهل المحلة غيرهم .(2/341)
ووجه قولهما : أن العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار ونصرتها . . . كما يلزم صاحب الدار ، وكذا يتهمون بالقتل كما يتهم صاحب الدار ، فقد شاركوه في سبب وجوب القسامة فيشاركونه في القسامة أيضا ، وبهذا يقع الفرق بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي رحمه الله ؛ لأن معنى التهمة ظاهر الانتفاء من الغيب وكذا معنى النصرة ، لئلا يلحق ذلك الموضع نصرة من جهتهم إلا أنه تجب عليهم الدية ؛ لأن وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق بالتهمة ، فإنهم يتحملون عن القاتل المعين إذا كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا ، وسواء كانت الدار فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل فعلى رب الدار ، وعلى عاقلته القسامة والدية .
أما على أصل أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فظاهر ؛ لأنهما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 190)
يعتبران الملك دون السكنى ، فكان وجود السكنى فيها والعدم منزلة واحدة .
وأما أبو يوسف رحمه الله فإنما يوجب على الساكن لاختصاصه بالدار يدا ولم يوجد ها هنا ، وسواء كان الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا فالقسامة والدية على أرباب الملك لما قلنا ، وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء أو اختلف فالقسامة والدية بينهم بالسوية ، حتى لو كانت الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللأخر الثلث فالقسامة عليهما ، وعلى عاقلتهما نصفان ، ويعتبر في ذلك عدد الرءوس لا قدر الأنصباء كما في الشفعة ؛ لأن حفظ الدار واجب على كل واحد منهما والحفظ لا يختلف ، ولهذا تساويا في استحقاق الشفعة ؛ لأن الاستحقاق لدفع ضرر الدخيل وأنه لا يختلف باختلاف قدر الملك ، وذكر في [الجامع الصغير] فيمن باع دارا ووجد فيها قتيل قبل أن يقبضها المشتري : أن القسامة والدية على البائع إذا لم يكن في البيع خيار ، فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول أبي حنيفة .(2/342)
وعند أبي يوسف ومحمد : الدية على مالك الدار إن لم يكن في البيع خيار فإن كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له ، وعند زفر رحمه الله : الدية على المشتري ، إلا أن يكون للبائع خيار فتكون الدية عليه .
وجه قول زفر : أن الملك للمشتري إذا لم يكن فيه خيار ، وكذا إذا كان الخيار للمشتري ؛ لأن خيار المشتري لا يمنع دخول المبيع في ملكه عنده ، فإذا كان الخيار للبائع فالملك له ؛ لأن خياره يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف .
وجه قولهما : أنه إذا لم يكن فيه خيار فالملك للمشتري وإنما للبائع
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 191)
صورة يد من غير تصرف ، وصورة اليد لا مدخل لها في القسامة ، كيد المودع فكانت القسامة والدية على المشتري ، وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له ؛ لأنه إذا صارت للبائع فقد انفسخ البيع وجعل كأنه لم يكن ، وإن صارت للمشتري فقد انبرم البيع ، وتبين أنه ملكها بالعقد من حين وجوده .
وأما تصحيح مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فمشكل من حيث الظاهر ؛ لأنه يعتبر الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد ، وإن كانت اليد يد تصرف كيد الساكن والثابت للبائع صورة يد من غير تصرف فأولى أن يعتبره ، لكن لا إشكال في الحقيقة ؛ لأن الوجوب بترك الحفظ ، والحفظ باليد حقيقة ، إلا أنه يضاف الحفظ إلى الملك ؛ لأن استحقاق اليد به عادة فيقام مقام اليد فكانت الإضافة إلى ما به حقيقة أولى ، إلا أن مطلق اليد لا يعتبر ، بل اليد المستحقة بالملك وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف يد الساكن ، وإذا وجد رجل قتيلا في دار نفسه فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وفي قولهما رحمهما الله : لا شيء فيه ، وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهما الله ، وروي عن أبي حنيفة مثل قولهم .(2/343)
وجه قولهم : أن القتل صادفه والدار ملكه ، وإنما صار ملك الورثة عند الموت والموت ليس بقتل ؛ لأن القتل فعل القاتل ولا صنع لأحد في الموت ، بل هو من صنع الله تبارك وتعالى ، فلم يقتل في ملك الورثة ، فلا سبيل إلى إيجاب الضمان على الورثة وعواقلهم ، ولأن وجوده قتيلا في دار نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه بنفسه فيكون هدرا .
ولأبي حنيفة رضي الله عنه : أن المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 192)
لا وقت وجود القتل ، بدليل : أن من مات قبل ذلك لا يدخل في الدية ، والدار وقت ظهور القتيل لورثته فكانت القسامة والدية عليهم وعلى عواقلهم تجب كما لو وجد قتيلا في دار ابنه . فإن قيل : كيف تجب الدية عليهم وعلى عواقلهم وأن الدية تجب لهم فكيف تجب لهم وعليهم ، وكذا عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا ، وفيه إيجاب لهم أيضا وعليهم ، وهذا ممتنع ؟
فالجواب : ممنوع أن الدية تجب لهم ، بل للقتيل ؛ لأنها بدل نفسه فتكون له ، بدليل أنه يجهز منها وتقضى منها ديونه وتنفذ منها وصاياه ، ثم ما فضل عن حاجته تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه ، والورثة أقرب الناس إليه ، وصار كما لو وجد الأب قتيلا في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أقرب أنه تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته ، ولا يمتنع ذلك لما قلنا ، كذا هذا .(2/344)
وإن اعتبرنا وقت وجود القتيل فهو ممكن أيضا ؛ لأنه تجب على عاقلته لتقصيرهم في حفظ الدار فتجب عليهم الدية حقا للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن حاجته ، وذكر محمد : إذا وجد ابن الرجل أو أخوه في داره قتيلا فإن على عاقلته دية ابنه ودية أخيه وإن كان هو وارثه ؛ لما قلنا أن وجد القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل فيلزم عاقلته ذلك المقتول ثم يستحقها صاحب الدار بالإرث ، ولو وجد مكاتب قتيلا في دار نفسه فدمه هدر ؛ لأن داره في وقت ظهور القتيل ليست لورثته ، بل هي على حكم ملك نفسه إلى أن يؤدي بدل الكتابة فصار كأنه قتل نفس فهدر دمه .
رجلان كانا في بيت ليس معهما ثالث وجد أحدهما مذبوحا
قال أبو يوسف : يضمن الآخر ، وقال محمد : لا ضمان عليه .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 193)
وجه قوله: أنه يحتمل أنه قتل صاحبه, ويحتمل أنه قتل نفسه فلا يجب الضمان بالشك.
ولأبي يوسف : أن الظاهر أنه قتل صاحبه؛ لأن الإنسان لا يقتل نفسه ظاهرا أو غالبا، واحتمال خلاف الظاهر ملحق بالعدم، ألا ترى أن مثل هذا الاحتمال ثابت في قتيل المحلة ولم يعتبر [بدائع الصنائع ] (7/290-294).
إذا كان في المدعين والمدعى عليهم نساء وصبيان فهل عليهم قسامة؟
الأدلة والمناقشة:
1 - قال الكاساني : ولا تدخل المرأة في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها؛ لأن وجوبهما بطريق النصرة وهي ليست من أهلها، وإن وجد في دارها أو في قرية لها لا يكون بها غيرها عليها القسامة، فتستحلف ويكرر عليها الأيمان وهذا قولهما.
وقال أبو يوسف : عليها لا على عاقلتها.
وجه قوله: أن لزوم القسامة لزوم النصرة وهي ليست من أهل النصرة, فلا تدخل في القسامة؛ ولهذا لم تدخل مع أهل المحلة.
وجه قولهما: أن سبب الوجوب على المالك هو الملك مع أهلية القسامة وقد وجد في حقها، أما الملك فثابت لها، وأما الأهلية فلأن القسامة يمين، وأنها من أهل اليمين ألا يرى أنها تستحلف في سائر الحقوق.(2/345)
ومعنى النصرة يراعى وجوده في الجملة لا في كل فرد كالمشقة في السفر، وهل تدخل مع العاقلة في الدية، ذكر الطحاوي ما يدل على أنها
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 194)
لا تدخل، فإنه قال: لا يدخل القاتل في التحمل إلا أن يكون ذكرا عاقلا بالغا، فإذا لم تدخل عند وجود القتل منها عينا فهاهنا أولى. وأصحابنا رضي الله عنهم قالوا: إن المرأة تدخل مع العاقلة في الدية في هذه المسألة, وأنكروا على الطحاوي قوله.. وقالوا: إن القاتل يدخل في البداية بكل حال، ويدخل في القسامة والدية: الأعمى، والمحدود في القذف، والكافر؛ لأنهم من أهل الاستحلاف والحفظ، والله سبحانه وتعالى أعلم [بدائع الصنائع] (7/294 , 295). .
وقال أيضا: الصبي والمجنون لا يدخلان في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكهما أو في ملكهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين، ولهذا لا يستحلفان في سائر الدعاوى؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة فلا تجب القسامة عليهما، وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل في ملكهما؛ لتقصيرهم بترك النصرة اللازمة.
وهل يدخلان في الدية مع العاقلة؟ فإن وجد القتيل في غير ملكهما كالمحلة وملك إنسان لا يدخلان فيها وإن وجد في ملكهما يدخلان؛ لأن وجود القتيل في ملكهما كمباشرتهما القتل، وهما مؤاخذان بضمان الأفعال، وعلى قياس ما ذكره الطحاوي رحمه الله لا يدخلان في الدية مع العاقلة أصلا لكنه ليس بسديد؛ لأن هذا ضمان القتل والقتل فعل والصبي والمجنون مؤاخذان بأفعالهما [بدائع الصنائع] (7/294). .(2/346)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 195)
قال الشافعي : ومن وجبت له القسامة وهو غائب أو مخبول أو صبي فلم يحضر الغائب أو حضر فلم يقسم ولم يبلغ الصبي ولم يفق المعتوه، أو بلغ هذا وأفاق هذا فلم يقسموا ولم يبطلوا حقوقهم في القسامة حتى ماتوا - قام ورثتهم مقامهم في أن يقسموا بقدر مواريثهم منه [الأم] (6/80). . فقوله: ولم يبلغ الصبي. نص منه رحمه الله أنه لا يرى دخوله في أيمان القسامة حتى يبلغ .
2 - قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا : أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو [الموطأ] (7/62). .
قال الباجي : قوله: لا يحلف في قسامة العمد أحد من النساء، يريد أنه لا يقسم إلا الأولياء من الرجال ومن له تعصيب, وأما من لا تعصيب له من الخولة وغيرهم فلا قسامة لهم, وإذا كان للقتيل أم فإن كانت معتقة أو أعتق أبوها أو جدها أقسم مواليها في العمد قاله ابن القاسم في [الموازية]، و[المجموعة]، وإن كانت أمه من العرب فلا قسامة في عمده. قال محمد : لأن العرب خولته ولا ولاية للخولة، ومن شهد شاهد عدل بقتله عمدا, وقال: دمي عند فلان ولم يكن له عصبة وكان له من الأقارب نساء وخولة فإنه لا قسامة فيه، ويحلف المدعى عليهم القتل . انتهى المقصود [المنتقى] على [الموطأ] (7/62). .
3 - سبق في كلام الشافعي رحمه الله : أن النساء يدخلن في القسامة .
4 - قال الخرقي : والنساء والصبيان لا يقسمون.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 196)
قال ابن قدامة : يعني: إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا؛ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون، سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم؛ لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة. ولو أقر على نفسه لم يقبل، فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى.(2/347)
وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن , وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي .
وقال مالك : لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد، قال ابن القاسم : ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعدا، كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين.
وقال الشافعي : يقسم كل وارث بالغ؛ لأنها يمين في دعوى، فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون رجلا منكم، وتستحقون دم صاحبكم . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء، كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنساء في إثباته، وإنما يثبت المال ضمنا، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها، فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بشهادة رجل وامرأتين، وإن كان مقصودها المال، فأما إن كانت المرأة مدعى عليها القتل، فإن قلنا: إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا؛ لأن ذلك مختص بالرجال، وإن قلنا: يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف؛ لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا، وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث.
فعلى هذا: إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 197)(2/348)
النساء، وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون، أو كان فيهم حاضرون وغائبون, فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب. فكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي؛ لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة، والبينة أيمان الأولياء كلهم، والأيمان لا تدخلها النيابة، ولأن الحق إن كان قصاصا فلا يمكن تبعيضه، فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ، وإن كان غيره فلا تثبت, وقد سبق كلام مالك رحمه الله في قسامة النساء في القتل الخطأ إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا.
وقال القاضي: إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير، ولا الحاضر حتى يقدم الغائب؛ لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال، وإن كان موجبا للمال؛ كالخطأ وعمد الخطأ، فللحاضر المكلف أن يحلف، ويستحق قسطه من الدية، وهذا قول أبي بكر وابن حامد ومذهب الشافعي .
واختلفوا في كم يقسم الحاضر؟
فقال ابن حامد : يقسم بقسطه من الأيمان، فإن كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا. وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا، وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه؛ لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه وكذلك إذا غاب بعضهم، كما في سائر الحقوق، ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان.
وقال أبو بكر : يحلف الأول خمسين يمينا، وهذا قول الشافعي؛ لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها؛ ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه، ولأن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 198)(2/349)
الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالا له فيه شركة له بعد شاهد لحلف يمينا كاملة، كذلك هذا. فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا، وجها واحدا عند أبي بكر؛ لأنه يبني على أيمان أخيه المتقدمة. وقال الشافعي : فيه قول آخر: أنه يقسم خمسين يمينا أيضا؛ لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو، فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشرة يمينا؛ لأنه يبني على أيمان أخويه، وعلى قول الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يقسم سبع عشرة يمينا. والثاني: خمسين يمينا، وإن قدم رابع، كان على هذا المثال.
قال ابن قدامة : (فصل) فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال، وهو النساء سقط حكمه، فإذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها، وإن كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب قسمت الأيمان بين الأخوين على أحد عشر، على الأخ من الأم ثلاثة، وعلى الآخر ثمانية، ثم يجبر الكسر عليهما، فيحلف الأخ من الأب سبعا وثلاثين يمينا، والأخ من الأم أربع عشرة يمينا [المغني] (8/502).
هل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا ؟
الأيمان قد تكون من المدعين، وقد تكون من المدعى عليهم، وفي كلتا الحالتين قد يكون العدد الذي اتجهت إليه الأيمان كافيا فيكون خمسين رجلا، وقد ينقص العدد، وعلى هذا الأساس فالرد يكون في جانب المدعين كما يكون في جانب المدعى عليهم.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 199)
وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك:
الرد في جانب المدعين :
1 - قال الباجي : (مسألة) : ولا يحمل بعض الورثة عن بعض شيئا من الأيمان في الخطأ كما يتحملها بعض العصبة عن بعض في العمد إلا في جبر بعض اليمين، فإنها تجبر على أكثرهم حظا منها على ما تقدم، قاله ابن القاسم، قال ابن المواز؛ لأنه مال، ولا يتحمل أحد اليمين عن غيره كالديون [المنتقى]على [الموطأ] (7/64).(2/350)
2 - وقال مالك : لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا، فترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا، ثم قد استحقا الدم, وذلك الأمر عندنا [المنتقى] على [الموطأ] (7/62). .
قال الباجي : قوله: لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا، يريد أنه: إن لم يوجد من يستحق أن يحلف من الأولياء إلا واحد, فإن الأيمان لا تثبت في جنبتي القتيل، ولكن ترد على القاتل، فيحلف وحده بأن لم يوجد من يحلف معه، والفرق بينه وبينه: أن جنبة القتيل لا يحلف لإثبات الدم إلا اثنان، وفي جنبة القاتل يحلف لنفي الدم واحد؛ لأن جنبة القتيل إذا تعذرت القسامة فيها لم يبطل الحق؛ لأن رد الأيمان على جنبة القاتل فيه استيفاء حقهم، وجنبة القاتل لو لم تقبل أيمانه وحده مع كثرة وجود ذلك لم يكن لما فاته من الحق بدل يرجع إليه؛ لأن الأيمان ترد إلى جنبة القتيل بانتقالها إلى جنبة القاتل، والله أعلم [المنتقى] على [الموطأ] (7 /62 ) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 200)
3 - وأما رد الأيمان في المدعين إذا كانوا أقل من خمسين عند الشافعي : فقد مضى في الكلام على من يحلف من الورثة.
4 - قال ابن مفلح: فانفرد واحد منهم- أي: المدعين الذين توجهت إليهم اليمين- حلفها، نص عليه ونقل عنه الميموني أنه قال: لا اجترئ عليه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحلف خمسون منكم على رجل منهم ، قلت: فبم يأخذ من قال بذلك، قال: بحديث معاوية فإنه قصرها على ثلاثة، وكذا ابن الزبير، وفي [مختصر ابن رزين ] يحلف الولي يمينا وعنه خمسين، انتهى المقصود [الفروع] (3/455). .
وقد مضى أيضا الكلام على رد الأيمان في أثناء الكلام على من يحلف من الورثة.
ترديد الأيمان على المدعى عليهم :(2/351)
1 - قال شمس الدين السرخسي: ( فإن لم يكن العدد خمسين رجلا كررت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يمينا، لما روي أن الذين جاءوا إلى عمر رضي الله عنه من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم، فحلفهم ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين؛ وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه، ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه.
وقال: (وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين).
لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 201)
وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين, ثم قضى بالدية، وعن شريح والنخعي رحمهما الله مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة، فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطالب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك؛ لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال [المبسوط] (26/110). اهـ .
قال الزيلعي: (قوله: روي عن عمر أنه قضى بالقسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا، فكرر اليمين على رجل منهم حتى يتم خمسين، ثم قضى بالدية، وعن شريح والنخعي مثل ذلك. قلت: أما حديث عمر فرواه ابن أبي شيبة في [مصنفه] بنقض، فقال: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن أبي مليح أن عمر بن الخطاب رد عليهم الأيمان حتى وفوا . انتهى .
ورواه عبد الرزاق في [مصنفه] بتغيير، فقال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب استحلف امرأة خمسين يمينا على مولى لها أصيب ثم جعل عليها الدية، ثم قال الزيلعي : حديث مرفوع في الباب رواه عبد الرزاق في [مصنفه] أخبرنا ابن جريج عن عبد العزيز : أن في كتاب عمر بن عبد العزيز : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في القسامة أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد يبلغ الخمسين ردت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا . اهـ.(2/352)
أثر عن أبي بكر رواه الواقدي في كتاب الردة: حدثني الضحاك بن عثمان الأسدي عن المقبري عن نوفل بن مساحق العامري
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 202)
عن المهاجر بن أبي أمية قال: كتب إلي أبو بكر : أن افحص لي عن داودي، وكيف كان أمر قتله إلى أن قال: فكتب أبو بكر إلى المهاجر أن ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق، فلما دخل عليه جعل قيس يتبرأ من قتل داودي، ويحلف بالله: ما قتله، فأحلفه أبو بكر خمسين يمينا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم مردودة عليه: بالله ما قتله ولا يعلم له قاتلا، ثم عفا عنه أبو بكر، مختصر . . . وهو بتمامه في قصة الأسود العنسي [نصب الراية] (4/395 , 396) , والحديث عند عبد الرازق [المصنف] (10/49) باب قسامة النساء.
ثم قال الزيلعي : ( قوله: وعن شريح والنخعي مثل ذلك، قلت: حديث شريح رواه ابن أبي شيبة في [مصنفه] حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث عن ابن سيرين بلغ عن شريح قال: جاءت قسامة فلم يوفوا خمسين فردد عليهم القسامة حتى أوفوا . اهـ.
حدثنا وكيع ثنا سفيان عن هشام عن ابن سيرين عن شريح، قال: إذا كانوا أقل من خمسين رددت عليهم الأيمان. انتهى .
وحديث النخعي رواه عبد الرزاق في [مصنفه] أخبرنا الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال: إذا لم تبلغ القسامة كرروا حتى يحلفوا خمسين يمينا . انتهى.
ورواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن حماد عن إبراهيم نحوه سواء. انتهى.
2 - قال الباجي : (فصل) وقوله: (فإن لم يبلغوا - أي: المدعى عليهم -
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 203)
خمسين رجلا ردت عليهم الأيمان) يحتمل أن يريد به إن لم يكن من يجوز أن يحلف من أولياء القاتل من يبلغ خمسين رجلا يريد- وكان من وجد منهم اثنان فزائد- ردت الأيمان على من وجد منهم حتى يستوفوا خمسين يمينا، قال ابن الماجشون في الواضحة: لهم أن يستعينوا بولاتهم وعصبتهم وعشيرتهم كما كان ذلك لولاة المقتول وقاله المغيرة وأصبغ.(2/353)
وقال مطرف عن مالك : لا يجوز للمدعى عليه واحدا كان أو جماعة أن يستعينوا بمن يحلف معهم، كما يفعل ولاة المقتول؛ لأنهم إنما يبرئون أنفسهم وقد تقدم ذكره. ويحتمل أن يريد به فإن لم يبلغ الذين تطوعوا بالأيمان معه خمسين رجلا؛ لأن غيره ممن كان يصح أن يحلف معه أبوا من ذلك فإن الخمسين يمينا ترد على من تطوع بذلك.
قال الباجي: (فصل) وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبريء.
والفرق بين الأيمان والحالفين: أن الأيمان لا ضرورة تدعو إلى التبعيض فيها عن العدد المشروع, وقد يعدم في الأغلب عدد الحالفين [المنتقى] (7/60, 61) .
3 - قال المزني: وقال الشافعي : وإذا وجد قتيل في محلة قوم يخالطهم غيرهم أو في صحراء أو في مسجد أو في سوق فلا قسامة , وإن ادعى وليه على أهل المحلة لم يحلف إلا من أثبتوه بعينه، وإن كانوا ألفا فيحلفون يمينا يمينا؛ لأنهم يزيدون على خمسين، فإن لم يبق منهم إلا واحد حلف خمسين يمينا وبرئء . فإن نكلوا حلف ولاة الدم خمسين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 204)
يمينا، واستحقوا الدية في أموالهم إن كان عمدا، على عواقلهم في ثلاث سنين إن كان خطأ [مختصر المزني] بهامش [الأم] (5/152). 4 - قال ابن قدامة رحمه الله تعالى : (فصل) إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا- لم تجز على أكثر من واحد، فيحلف خمسين يمينا.
وإن كانت عن غير عمد؛ كالخطأ، وشبه العمد، فظاهر كلام الخرقي : أنه لا قسامة في هذا؛ لأن القسامة من شرطها اللوث، والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه، فإن احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء.
وقال غيره من أصحابنا: فيه قسامة، وهو قول الشافعي؛ لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم، فعلى هذا تجوز الدعوى على الجماعة، فإذا ادعي على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا.(2/354)
وقال بعض أصحابنا: تقسم الأيمان بينهم بالحصص، كقسمها بين المدعين، إلا أنها هاهنا تقسم بالسوية؛ لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت.
وللشافعي قولان كالوجهين.
والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4714). تبرئكم يهود بخمسين يمينا .
وفي لفظ قال: مسند أحمد بن حنبل (4/3). فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرءون من دمه .
ولأنهم أحد المتداعين في القسامة فتسقط الأيمان على عددهم كالمدعين . وقال مالك : يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 205)
خمسين يمينا، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف وحده خمسين يمينا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن الدارمي الديات (2353). فتبرئكم يهود بخمسين يمينا .
ولنا: أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل، فكان على كل واحد خمسون، كما لو ادعى على كل واحد وحده قتيل.
ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد؛ ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين، فإن أيمانهم على شيء واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله ومقصوده [المغني] (8/503, 504), .
ولابن حزم رحمه الله كلام فيمن يحلف وكم يحلف، مع ذكر المذاهب والأدلة ومناقشتها - رأت اللجنة أن تختم هذه الفقرة بذكره.(2/355)
5 - قال ابن حزم : فيمن يحلف بالقسامة، قال أبو محمد رحمه الله: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له، واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه، منها: هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا؟ وهل تحلف المرأة فيهم أم لا؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا؟ وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا؟ وهل يحلف الحليف أم لا؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع، إذ يقول تعالى: سورة النساء الآية 59 فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ففعلنا، فوجدنا رسول الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 206)(2/356)
صلى الله عليه وسلم في حديث القسامة الذين لا يصح عنه غيره، كما قد تقصيناه قبل: صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). تحلفون وتستحقون، ويحلف خمسون منكم فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة عصبة المقتول, وبيقين يدري كل ذي معرفة أن ورثة عبد الله بن سهل رضي الله عنه لم يكونوا خمسين، وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده، وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه: محيصة، وحويصة، وهما غير وارثين له، فصح أن العصبة يحلفون، وإن لم يكونوا وارثين، وصح أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له، سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب ابني العم كما خاطب الأخ خطابا مستويا لم يقدم أحدا منهم، وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم، ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار؛ كبني عبد الأشهل، وبني ظفر وبني زعورا، وهم أخوة بني حارثة، فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .(2/357)
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك فإنه يحلف معهم إن شاء؛ لأنه منهم ولم يخص عليه السلام إذ قال: صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4713),سنن أبو داود الديات (4520). خمسون منكم حرا من عبد إذا كان منهم، كما كان عمار بن ياسر رضي الله عنه من طينة عنس، ولحقه الرق لبني مخزوم، وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق؛ لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه، وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا ولحقه الرق من قبل أمه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما المرأة فقد ذكرنا قبل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحلف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 207)
امرأة في القسامة وهي طالبة، فحلفت، وقضى لها بالدية على مولى لها. وقال المتأخرون: لا تحلف المرأة أصلا.(2/358)
واحتجوا: بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة، وهذا باطل مؤيد بباطل؛ لأن النصرة واجبة على كل مسلم، بما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري المظالم والغصب (2312),سنن الترمذي الفتن (2255),مسند أحمد بن حنبل (3/99). انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه ، وروينا من طريق مسلم، نا أحمد بن عبد الله بن يونس، نا زهير : هو ابن معاوية -نا أشعث - هو: ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال: دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: صحيح البخاري النكاح (4880),صحيح مسلم اللباس والزينة (2066),سنن الترمذي الأدب (2809),سنن النسائي الجنائز (1939),مسند أحمد بن حنبل (4/284). أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا، قال الله تعالى: سورة الحجرات الآية 10 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ نعم، ونصر أهل الذمة فرض، قال الله تعالى: سورة الأنفال الآية 72 وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام, فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4713). يحلف خمسون منكم وهذا اللفظ يعم النساء والرجال، وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع، فأما الصبيان والمجانين فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين، قال صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي الحدود (1423),سنن ابن ماجه الطلاق (2042),مسند(2/359)
أحمد بن حنبل (1/140). رفع القلم عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 208)
ثلاثة فذكر الصبي والمجنون مع إنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه، وأما المولى من فوق، والمولى من أسفل، والحليف، فإن قوما قالوا: قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سنن الترمذي الزكاة (657),سنن النسائي الزكاة (2612),سنن أبو داود الزكاة (1650),مسند أحمد بن حنبل (6/390). مولى القوم منهم، صحيح البخاري الفرائض (6380). ومولى القوم من أنفسهم وأثبت الحلف في الجاهلية قالوا: ونحن نعلم يقينا أنه كان لبني حارثة موال من أسفل وحلفاء، ولا شك في ذلك ولا مرية، فوجب أن يحلفوا معهم.(2/360)
قال أبو محمد رحمه الله: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي الزكاة (657),سنن النسائي الزكاة (2612),سنن أبو داود الزكاة (1650),مسند أحمد بن حنبل (6/390). مولى القوم منهم ومن أنفسهم فصحيح، وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4715),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). تحلفون وتستحقون، ويحلف خمسون منكم حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم أو مولى لهم، ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم أو حليف لهم لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم, وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى، فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له. فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي الزكاة (657),سنن النسائي الزكاة (2612),سنن أبو داود الزكاة (1650),مسند أحمد بن حنبل (6/390). مولى القوم منهم يغني عن حضور الموالي هنالك، والحليف أيضا يسمى في لغة العرب مولى، كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم: أمن موالي يهود يريد: من حلفائهم، قلنا: وبالله تعالى التوفيق:
قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم، وقال أيضا : صحيح البخاري المناقب (3327),صحيح مسلم الزكاة (1059),سنن الترمذي المناقب (3901),سنن النسائي الزكاة (2611),مسند أحمد بن حنبل (3/246),سنن الدارمي السير (2527). ابن أخت القوم منهم وقد أوردناه قبل بإسناده في كتاب العاقلة ولا خلاف في أنه لا حفص مع أخواله, فنحن نقول: إن ابن أخت القوم منهم حق؛ لأنه متولد من امرأة(2/361)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 209)
هي منهم بحق الولادة، والحليف والمولى أيضا منهم؛ لأنهما من جملتهم، وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم، وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش ولا حليفهم ولا ابن أخت القوم وإن كان منهم، والقسامة في العمد والخطأ، سواء فيما ذكرنا فيمن يحلف فيها ولا فرق . انتهى المقصود [المحلى] (11/89 - 91). .
وقال أيضا: كم يحلف في القسامة؟ اختلف الناس في هذا.
فقالت طائفة: لا يحلف إلا خمسون، فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر بطل حكم القسامة، وعاد الأمر إلى التداعي.
وقال آخرون: إن نقص واحد فصاعدا رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد، وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين، وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم.
وقال آخرون: يحلف خمسون، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم حتى يرجعوا إلى واحد، فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد بطلت القسامة وعاد الحكم إلى التداعي، وهذا قول مالك .
وقال آخرون: تردد الأيمان، وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول الشافعي، وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم: أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد، ويجبر الكسر عليهم، فلما اختلفوا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 210)
وجب أن ننظر فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا .(2/362)
ومن طريق ابن وهب، أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه، ثم يقتل قاتله، أو تؤخذ ديته، ويحلف عليه أولياؤه من كانوا قليلا أو كثيرا، فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف، فإن نكلوا كلهم حلف المدعى عليهم خمسين يمينا: ما قتلناه ثم يطل دمه، وإن نكلوا كلهم عقله المدعى عليهم، ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا لا شيء؛ لأنهما مرسلان والمرسل لا تقوم به حجة, أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه أن يحلف الأولياء وهذا لا يقول به الحنفيون, فإن تعلق به المالكيون، والشافعيون قيل للمالكيين: هو أيضا حجة عليكم؛ لأنه ليس فيه أن لا يحلف إلا اثنان، وأيضا فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب، وهو مخالف لقول جميعهم؛ لأن فيه إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي، ولا شافعي، وفيه القود بالقسامة، ولا يقول به حنفي ولا شافعي، وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين، كما يقول مالك [المحلى] (11/91, 92).(2/363)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 211)
السابع: خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول مع الأدلة والمناقشة :
لا يخلو أمر النكول من أحوال: فإما أن ينكل المدعون جميعهم عن الأيمان، أو ينكل بعضهم، وفي هذه الحال لا يخلو؛ إما أن يكون الناكل وارثا بالفعل أو بالإمكان. إما أن ينكل المدعى عليهم عن الأيمان جميعهم أو ينكل بعضهم.
وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك:
أ- نكول المدعين عن الأيمان أو نكول بعضهم :
سبق فيما تقدم: أن الحنفية لا يرون البدء بالمدعين في الأيمان كما يراه غيرهم من الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد؛ ولهذا لا تأتي عندهم مسألة نكول المدعين أو بعضهم إلا في حال الرد عليهم بعد نكول المدعين.
1 - المذهب المالكي:
(أ) قال الباجي : مسألة: لو نكل ولاة الدم عن القسامة وقد وجبت لهم، زاد أبو زيد عن ابن القاسم : يحلف المدعى عليهم وبرئوا، وقد قال ابن المواز : فعلى المدعين الجلد والسجن، قال: ولم يختلف أصحاب مالك إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا جلد ولا سجن وليحلف كل من ادعي عليه القتل خمسين يمينا, ويسلم من الضرب والسجن, ومن لم يحلف حبس أبدا حتى يحلف.
وجه القول الأول: أن العقوبة قد ثبتت بما أوجب القسامة فالضرب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 212)
والسجن حق الله تعالى، قاله عبد الملك بن الماجشون , والقتل حق الأولياء، فإن أسقط الأولياء حقهم بالنكول من القصاص لم يملكوا إسقاط حق الله تعالى كما لو عفوا أو عفا السلطان عن الجلد،: إنه لا يملك ذلك.
ووجه القول الثاني: أن القتل يثبت قبله فيجب عليه عقوبته، ونكول الأولياء يبطل ما ادعوه من القتل, فلا تجب فيه عقوبة سجن ولا ضرب [المنتقى] (7/127).(2/364)
ب- قال الباجي : في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلف لكم يهود قال: يحتمل أن يكون على وجه رد الأيمان على المدعى عليهم حين نكول المدعين، وهي السنة عند مالك والشافعي : أن يبدأ المدعون بالأيمان، فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم، وقال أبو حنيفة : يبدأ المدعى عليهم بالأيمان فإن أقسموا برئوا وإن نكلوا ردت على المدعي، والدليل على ما نقوله الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين: صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود قال القاضي أبو محمد : قلنا: من هذا الحديث دليلان:
أحدهما: أنه بدأ المدعين بالأيمان.
والثاني: أنه نقلها عند نكولهم إلى المدعى عليهم وقد روى أبو قلابة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين بالأيمان، وهو حديث مقطوع وما رواه مسند من رواية أهل المدينة .
ومن جهة المعنى: أن اليمين إنما تثبت في إحدى الجنتين واللوث، وهو الشاهد العدل قد قوى جهة المدعين فتثبت الأيمان في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 213)
جنبتهم [المنتقى] (7/55). اهـ.(2/365)
قال الإمام مالك : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم. قال يحيى : قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، وإن كان واحدا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
قال الباجي : قوله: فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، يريد: إن قل عدد المعينين من العصبة أو نكل بعضهم، فإن كانوا أكثر من اثنين فنكل بعضهم عن معونه الولاة فإن من بقي مع الولاة ترد عليهم الأيمان حتى يستوفوا خمسين يمينا، فلا تبطل القسامة بنكول بعض المعينين من العصبة مع بقاء الولاء أو الأولياء عن القيام بالدم والمطالبة به.
ولو نكل الولي لم يكن للمعينين القسامة ولا المطالبة بالدم، وكذلك لو كان الأولياء جماعة فنكل واحد منهم لم يكن لغيرهم قسامة في المشهور من المذهب؛ لأنه لا قسامة لغيرهم, وترد الأيمان على المدعى عليهم.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 214)
وجه القول الأول: أنهم لما تساووا في الحق لم يكن نكول بعضهم مؤثرا في سقوط حق الباقين أصله قتل الخطأ.
ووجه الرواية الثانية: أن الحق لجماعتهم وليس بعضهم أولى ببعض بإثباته وهو لا يتبعض.
(فرع) قال القاضي أبو محمد : وهذا في العصبة، وأما البنون والإخوة فرواية واحدة أن من نكل منهم ردت الأيمان على المدعى عليهم.
ووجه ذلك: أن البنين والإخوة يردون الأم من الثلث إلى السدس فكان لقرابتهم مزية، والله أعلم.(2/366)
وترد الأيمان على المدعى عليهم وفي [العتبية] وغيرها لابن القاسم ورواية عن مالك إذا نكل ولاة الدم عن القسامة ثم أرادوا أن يقسموا لم يكن ذلك لهم إن كان نكولا بينا، ومن نكل عن اليمين فقد أبطل حقه.
ووجه ذلك أن نكول من يجب عليه اليمين توجب رد اليمين على المدعى عليه كالمدعي حقا يشهد له شاهد فينكل عن اليمين مع شاهده فإن اليمين ترد على المدعى عليه.
(مسألة) وإذا حلف الأولياء مع المعينين لهم من العصبة بدئ بالولي، ولا يبدأ بأيمان المعينين لهم، قاله في [المجموعة] و[الموازية] ابن القاسم قال: وإنما يعين الولي من قرابته منه معروفة يلتقي معه إلى جد يوارثه، فأما من هو من عشيرته من غير نسب معروف فلا يقسم كان للمقتول أو لم يكن [المنتقى] (6/60). .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 215)
قال الباجي : (فصل) وقوله: ولكن ترد الأيمان على المدعى عليهم، فيحلف منهم خمسون رجلا، يريد أنه يحلف الجماعة في النكول كما يحلف الجماعة في الدعوى؛ لأن أيمان القسامة لما لم يحلف فيها إلا اثنان فما زاد من المدعى عليهم. وقد روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه لا يحلف إلا المدعى عليه وحده بخلاف المدعي، وقال مطرف : لأن الحالف المدعى عليه إنما يبرئ نفسه.
ووجه رواية ابن القاسم : ما روى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمدعين: صحيح البخاري الديات (6503). أترضون خمسين يمينا من اليهود ما قتلوه فمقتضى ذلك أن القسامة مختصة بهذا العدد ولا يزاد عليه؛ لأن اليهود كانوا أكثر من خمسين، ومن جهة المعنى أنه لما جاز أن يحلف مع ولي الدم المدعي له غيره جاز أن يحلف مع المدعى عليه المنكر له غيره.
ووجه آخر: أن الدماء مبنية على هذا، وهو: أن يتحملها غير الجاني مع الجاني كالدية في قتل الخطأ، فإن الأيمان لما كانت خمسين وكانت اليمين الواحدة لا تتبعض- لم يجز أن يكون الحالفون أكثر من خمسين.(2/367)
(مسألة): فإذا قلنا: يحلف غيره من عصبته فقد قال ابن القاسم، ورواه هو وابن وهب عن مالك : يحلف خمسون من أولياء المقتول خمسين يمينا وإن لم يكن منهم من يحلف إلا اثنان حلفا خمسين يمينا وبرئ المدعى عليه، ولا يحلف هو معهم فيحلف هو بعضها وهم بعضها، فإن لم يوجد من يحلف من عصبته إلا واحد لم يحلف معه وحلف المدعى عليه وحده خمسين يمينا.
وقال عبد الملك : يحلف هو ومن استعان به من عصبته على السواء،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 216)
وله أن يحلف هو أكثر منهم، فإن لم يوجد من يعينه حلف هو وحده خمسين يمينا.
قال محمد : قول ابن القاسم أشبه بقول مالك في [موطئه]، وإنما أراد محمد قول مالك : يحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا.
قال الباجي : (فصل) وقوله: خمسين يمينا، وجه ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن الدارمي الديات (2353). فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، ومن جهة المعنى: أن الأيمان المردودة يعتبر بعدتها فيما انتقلت عنه كأيمان الحقوق، فكذلك الأيمان الثانية في الخمسين، فإن عددها فيها سواء كأيمان اللعان [المنتقى] (7/60). .(2/368)
قال ابن المواق على قول خليل : ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعد، انظر قوله: فسيأتي أن أولياء الدم كانوا أعماما أو أبعد منهم, فإن مالكا حلفهم مرة كالبنين ومرة قال: إن رضي اثنان إن كان لهما أن يحلفا ويستحقا حقهما من الدية، قال ابن شاس : إن كان الولي واحدا استعان ببعض عصبته ثم نكول المعين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود، وعن ابن يونس قال ابن القاسم : إن أكثر أولياء الدم أجزأ أن يحلف اثنان إذا تطاوعا ولم يترك باقيهم اليمين نكولا، قال في [المدونة]: فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل كانوا اثنين أو أكثر، قال محمد : فرق مالك بين نكول أحد الأولياء عن القسامة أو بعد أن حلف جماعتهم فقال: إن نكل منهم من له العفو قبل القسامة فلا قسامة لبقيتهم، ولا دم ولا دية، ويحلف المدعى عليه خمسين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 217)
يمينا إن لم يجد من يحلف معه، وإن نكل بعد يمين جماعتهم لم يسقط حظ من بقي من الدية، ونكول هذا كعفوه راجعه فيه ابن عرفة، قول ابن شاس : نكول المعين لغو واضح؛ لعدم استحقاقه ما يحلف عليه [التاج والإكليل على مواهب الجليل] (6/274). انتهى المقصود.
2 - المذهب الشافعي:
قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة نكول الورثة واختلافهم في القسامة ومن يدعى عليهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أدن يقسم خمسين يمينا ويستحق نصيبه من الميراث، وكذلك إذا كان الورثة عددا كثيرا ونكلوا إلا واحدا [الأم](6/82). .
3 - المذهب الحنبلي:
1 - قال الخرقي : (فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ).(2/369)
2 - وقال ابن قدامة : -على ذلك- هذا ظاهر المذهب، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي وأبو ثور، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد : أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار، وهو قول أصحاب الرأي.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأدب (5791),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن أبو داود الديات (4520),مسند أحمد بن حنبل (4/142),موطأ مالك القسامة (1631). فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم أي: يتبرءون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 218)
منكم، وفي لفظ قال: مسند أحمد بن حنبل (4/3). فيحلفون خمسين يمينا ويبوءون من دمه . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود، وأنه أداها من عنده.
ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان؛ ولأن ذلك إعفاء لمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل، فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق، ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق [المغني] (8/497). .
3 - قال الخرقي : (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال).
4 - وقال ابن قدامة : - على ذلك- يعني: أدى ديته' لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا، وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهة أن يطل دمه.
فإن تعذر فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شيء؛ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين, وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال [المغني] (8/498). .(2/370)
5 - قال ابن مفلح : ( وإن نكلوا أو كانوا نساء، أي: المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ، وعنه يغرم الدية من ماله، وعنه من بيت المال، اختاره أبو بكر، وقدم في [الموجز]: أنه يحلف يمينا واحدة، وهو رواية في [التبصرة] . . . فإن لم يرض الأولياء بيمين المدعى عليه فداه الإمام
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 219)
من بيت المال [الفروع] (3/456). .
نكول المدعى عليهم:
أ- قال شمس الدين السرخسي : ( فإن نكلوا -أي: المدعى عليهم- عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه، فإن امتنع منه فإنه يحبس ليوفي ككلمات اللعان ) [المبسوط](26/111). .
ب- وقال أيضا: ( وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا؛ لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصوده هاهنا فيحبسون لإيفائها ) [المبسوط] (26/121). .
ج- قال ابن الهمام على قول صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف) لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم؛ ولهذا يجمع بينه وبين الدية بخلاف النكول في الأموال؛ لأن اليمين بدل عن أصل حقه؛ ولهذا يسقط ببذل المدعى، وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم، والدعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنهم لا يتميزون عن الباقي. ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ، فكذلك الجواب يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب هكذا الجواب في [المبسوط]، وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل: أن في القياس تسقط
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 220)(2/371)
القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة, ويقال للولي: ألك بينة؟ فإن قال: لا، يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة، ووجهه أن القياس يأباه؛ لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم.
وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم؛ لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم تكن استحلفه يمينا واحدة؛ لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس، ثم إن حلف برئ، وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، إن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى [فتح القدير] (8/388, 389 ). .
قال قاضي زاده على صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف): قال تاج الشريعة: هذا إذا ادعى الولي القتل عمدا، أما إذا ادعاه خطأ فنكل أهل المحلة فإنه يقضي بالدية على عاقلته، ولا يحبسون ليحلفوا انتهى.
(وأما سائر الشراح فلم يقيد أحد منهم هاهنا مثل ما قيده تاج الشريعة إلا أن صاحبي [النهاية] و[العناية] قالا في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية إن حلفوا والحبس حتى يحلفو إن أبوا لو ادعى الولي العمد، ولو ادعى الخطأ فالقضاء بالدية عند النكول) انتهى.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 221)(2/372)
ولا يخفى أن ظاهر ما ذكراه يطابق تاج الشريعة هنا. أقول: لا يذهب عليك أن الظاهر من إطلاقه جواب مسألة الكتاب هنا, ومن اقتضاء دليلها الذي ذكره المصنف ومن دلالة قوله فيما بعد، هذا الذي ذكرناه إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذلك إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد والخطأ أن يكون الحبس إلى أن يحلف الناكل موجب النكول في كل واحدة من صورتي دعوى العمد ودعوى الخطأ، ومن هذا ترى أصحاب المتون قاطبة أطلقوا جواب هذه المسألة، وكذا أطلقه الإمام قاضي خان في [فتاواه] حيث قال: فإن امتنعوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا. انتهى.
وكذا حال سائر ثقات الأئمة في تصانيفهم، وكأن صاحب العناية تنبه لهذا حيث قال في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية على العاقلة في ثلاث سنين عندنا وعند الشافعي إذا حلفوا برئوا، وأما إذا أبوا القسامة فيحبسون حتى يحلفوا أو يقروا. انتهى، فإنه جرى في بيان حكمها أيضا على الإطلاق كما ترى.
ثم أقول: التحقيق هاهنا هو أن في جواب هذه المسألة روايتين إحداهما أنهم إن نكلوا حبسوا حتى يحلفوا على الإطلاق وهو ظاهر الروايتين عن أئمتنا الثلاثة، والأخرى أنهم إن نكلوا لا يحبسون، بل يقضي بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين بلا تقييد بدعوى الخطأ، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف، وقد أفصح عنه في المحيط البرهاني، حيث قال: ثم في كل موضع وجبت القسامة، وحلف القاضي خمسين رجلا فنكلوا عن الحلف حبسوا حتى يحلفوا، هكذا ذكر في الكتاب، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: لا يحبسون ولكن يقضي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 222)
بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين، وقال ابن أبي مالك : هذا قوله الآخر، وكان ما ذكر في هذه الرواية قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، إلى هنا لفظ المحيط.(2/373)
ثم أقول: بقي هاهنا إشكال وهو أنه قد مر في باب اليمين من كتاب الدعوى أن من ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد : لزمه الأرش في النفس وفيما دونها. انتهى.
فمقتضى إطلاق ذلك أن يكون موجب النكول في القسامة أيضا هو القضاء بالدية دون الحبس عند أبي يوسف ومحمد، وإن ادعى ولي القتيل القصاص مع أن المذكور في عامة الكتب أن يكون موجب النكول في القسامة هو الحبس إلى الحلف بلا خلاف فيه من أبي يوسف ومحمد، كما هو ظاهر الرواية، نعم، قد ذكر أيضا في المحيط والذخيرة. أنه روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف : أنه يقضى بالدية في القسامة أيضا عند النكول. لكن يبقى إشكال التنافي بين ما ذكر في المقامين على قول أبي يوسف في ظاهر الرواية، وعلى قول محمد مطلقا، فتأمل في الدفع [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار], وهو تكملة [فتح القدير] (8/388, 389). .
وقال أيضا على قوله: ( وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فتوجبه بالنص لا بالقياس) قوله فيه بحث؛ لأنه إن أراد بإطلاق النصوص إطلاقها
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 223)(2/374)
بحسب لفظها فهو مسلم، لكن لا يجدي هنا نفعا، إذ من القواعد المقررة عندهم أن النص الوارد على خلاف القياس يختص بمورده، والنصوص فيما نحن فيه واردة على خلاف القياس كما صرحوا به، فلا بد وأن تكون مخصوصة بموردها، وهو ما إذا وجد القتيل في مكان ينسب إلى المدعى عليهم، والمدعي يدعي القتل عليهم، كما ذكر في وجه القياس، وإن أراد إطلاقها بحسب المورد أيضا فهو ممنوع، إذ لم يسمع في حق القسامة نص ورد فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض أهل المحلة بعينه كما لا يخفى على من تتبع النصوص الواردة في هذا الباب . [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار], وهو تكملة [فتح القدير] (8/389, 390). .
المذهب المالكي:
قال الباجي : (فصل) وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبرئ . . وقوله: وبرئ: يريد: برئ من الدم، وعليه جلد مائة وسجن عام، قاله مالك وابن القاسم .
وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، وفي النوادر: وقد ذكر ابن القاسم فيه عن مالك قولا لم يصح عند غيره؛ أن المدعى عليهم إذا ردت عليهم الأيمان فنكلوا - فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة، ويقتص منه في الجرح، يريد: فيمن ثبت جرحه واحتيج إلى القسامة أنه من ذلك الجرح مات، وقال القاضي أبو محمد : في المدعى عليه القتل، وأتى المدعون بما يوجب القسامة، ونكلوا عن اليمين حلف المدعى عليه القتل، وتسقط عنه الدعوى نكل ففيها روايتان:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 224)
إحداهما: يحبس إلى أن يحلف. والثانية: تلزمه الدية في ماله وأراه أشار لرواية ابن القاسم (فرع) فإذا قلنا: أنه يحبس إلى أن يحلف، فإن حبس وطال حبسه فقد روى القاضي أبو محمد : يخلى سبيله، وفي [العتبية]، و[الموازية]: يحبس حتى يحلف، قال ابن المواز : فقد اتفقوا على أن هذا إن نكل سجن أبدا حتى يحلف [المنتقى] (6/61). .
المذهب الشافعي:(2/375)
قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة: ( فإذا حلفوا برئوا، وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية إن كانت عمدا، ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين - برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل، ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمدا، وعلى عاقلته إن كان خطأ، أنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه ) [الأم] (6/85) في اختلاف المدعي والمدعى عليه في الدم. .
وقال الشافعي في (باب الإقرار والنكول والدعوى في الدم): وإذا ادعوا على عشرة فيهم صبي رفعت حصة الصبي عنهم من الدية إن استحقت، وإن نكلوا حلف ولاة الدم وأخذوا منه تسعة أعشار الدية، فإذا بلغ الصبي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 225)
حلف فبرئ أو نكل فحلف الولي وأخذ منه العشر إذا كان القتل عمدا ، قال الشافعي : وإذا ادعوا على جماعة فيهم معتوه فهو كالصبي لا يحلف ، وذلك أنه لا يؤخذ بإقراره على نفسه ، فإن أفاق من العته أحلف وتسعه اليمين بعد مسألته عما ادعوا عليه ، وإن نكل حلف ولاة الدم واستحقوا عليه حصته من الدية ، وإن ادعوا على قوم فيهم سكران لم يحلف السكران حتى يفيق ثم يحلف ، فإن نكل حلف أولياء الدم واستحقوا عليه حصته من الدية .
المذهب الحنبلي :(2/376)
1 - قال ابن قدامة : وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا ، وعن أحمد رواية أخرى : أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة ، ولنا : أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان ، إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول ؛ لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم ، كالشاهد واليمين ، قال القاضي : ويديه الإمام من بيت المال ، نص عليه أحمد ، وروى عنه حرب بن إسماعيل : أن الدية تجب عليهم ، وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار أبي بكر ؛ لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى ، ولأن وجوبها في بيت المال يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره ، فلم يجز كسائر الدعاوى ، ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 226)
بها ، فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه ، كما في سائر الدعاوى ، وها هنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ، ولم يجبر على اليمين ؛ لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية ، وقال أصحاب الشافعي : إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين ، إن قلنا : موجبها المال ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا فلا شيء لهم .
وإن قلنا : موجبها القصاص فهل ترد على المدعين ؟ فيه قولان :
وهذا القول لا يصلح ؛ لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي ، فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعوى ، ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين ، فلا ترد على من ردها كدعوى المال [المغني] ( 8/ 498 ) . .(2/377)
2 - قال ابن مفلح : وإن نكل - أي : المدعى عليه - فعنه كذلك - أي : فداه الإمام من بيت المال - وعنه : أنه يحبس حتى يقر أو يحلف ، وعنه يلزمه الدية ، وهي أظهر ، ولو رد اليمين على المدعي فليس له أن يحلف ، وفي [الترغيب] على القول بالرد فيه وجهان وهما في كل نكول عن اليمين مع القود إليها في مقام آخر ، هل له ذلك لتعدد المقام ؟ أو لا لنكوله مرة [الفروع] ( 3/ 456 ) . .
قال علي بن سليمان المقدسي : مسألة ( 6 ، 7 ) قوله : وإن لم يرض الأولياء يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ، وإن نكل فعنه كذلك ، وعنه يحبسه حتى يقر أو يحلف ، وعنه تلزمه الدية ، وهي أظهر .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 227)
انتهى ، اشتمل كلامه على مسألتين .
المسألة الأولى : إذا طلبوا أيمانهم ونكلوا فهل يحبس حتى يقر أو يحلف أم لا ؟ أطلق الخلاف وأطلقه الزركشي :
( أحدهما ) : لا يحبس ، وهو الصحيح ، جزم به في [الهداية] و[المذهب] و[الخلاصة] ، و[المقنع] و[الهادي] و[الوجيز] وغيرهم ، وقدمه في [المغني] و[الشرح] و[النظم] و[الرعايتين] و[الحاوي الصغير] ، وغيرهم .
( الرواية الثانية ) : يحبس حتى يقر أو يحلف .
تنبيه : ظهر أن في إطلاق المصنف شيئا ، وأن الأولى أنه كان يقدم أنه لا يحبس .
المسألة الثانية : إذا قلنا : لا يحبس فهل تلزمه الدية ، أو تكون في بيت المال ؟ أطلق الخلاف وأطلق في [الهداية] و[المذهب] و[مسبوك الذهب] و[المستوعب] و[الخلاصة] و[الهادي] و[الزركشي] وغيرهم :
( إحداهما ) : تلزمه الدية ، وهو الصحيح . قال المصنف هنا : وهو أظهر ، واختاره أبو بكر ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيخ الموفق وغيرهم ، وصححه الشارح ، والناظم ، وقدمه في [الرعايتين] .
والرواية الثانية : ( يكون في بيت المال قدمه في [المحرر] و[الحاوي الصغير] ) [الفروع] ( 3/ 456 ) . .(2/378)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 228)
الثامن : ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية وذكر مستند كل مع المناقشة :
اختلف القائلون بمشروعية القسامة :
فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود ، ومنهم : من ذهب إلى أنه لا يجب بها إلا الدية .
أما القائلون بوجوب القود فقالوا : إن دعوى القتل إما أن تكون موجهة على أنه عمد أو خطأ ، فإذا كان القتل خطأ فليس فيه إلا الدية اتفاقا ، وإذا كان القتل عمدا :
أ- فقال الأبي ( ع ) : وعلى إثباتها فالمستحق بها في الخطأ الدية ، واختلف في العمد ، فقال مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه : يجب فيها القصاص [الأبي] ( 4/ 395 ) . .
ب- وقال النووي : نقلا عن القاضي عياض : واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها ؟ فقال معظم الحجازيين : يجب ، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود ، وهو قول الشافعي في القديم وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، قال أبو الزناد : قلنا بها وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان [شرح النووي على مسلم] ( 11/ 143 ، 144 ) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] ( 8/ 416 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 229)
ج- وقال ابن مفلح : ويجب القود في قسامة العمد بشرطه ، نص عليه كسائر قتل العمد ، قال أحمد : الذي يدفع القتل في هذا قد يبيحه بأيسر منه فيبيحه بغلبة الظن ، فلو حمل عليه السلاح ليأخذ متاعه أليس دمه هدرا ؟ وإنما هو شيء وقع في نفسه لم ينله بشيء ، فكذا بما دفع في أنفسهم وعرفوه ويقسمون عليه [الفروع] ( 3/ 454 ) . .(2/379)
د- وأجاب شيخ الإسلام - رحمه الله - عن سؤال وجه إليه فقال : إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان ولم يثبت عدالتهما فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينا - أيمان القسامة - على واحد بعينه حكم لهم بالدم ، وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع ، وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد ، مثل : أن يضربوه بعصا ضربا لا يقتل مثله غالبا ، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة ، ويستحقون الدية [مجموع الفتاوى] ( 34/ 150 ، 151 ) . .
واحتجوا على ذلك بالسنة والأثر :
أما السنة :
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم .
قال الباجي : نص على أن المستحق هو الدم ، ولا خلاف أنه أظهر في القصاص [المنتقى شرح الموطأ] ( 7/ 55 ) . .
وقال ابن قدامة : أراد دم القاتل ، لأن دم القتيل ثابت لهم قبل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 230)
اليمين [المغني] ( 8/ 497 ) . .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي :(2/380)
1 - أجاب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة عنه بقوله : إنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم يعني : بالدية ليس بالقود ، وإنما يدل ذلك على أنه إنما أراد الدية دون القود ، قوله في أول الحديث : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630). إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب فهذا يدل على آخر الحديث وهو قوله : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم لأن الدم قد يستحق بالدية كما يستحق بالقود ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لهم : تحلفون وتستحقون دم من ادعيتم ، فيكون هذا على القود ، وإنما قال لهم : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فإنما عنى به : تستحقون دم صاحبكم بالدية ؛ لأن أول الحديث يدل على ذلك وهو قوله : إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب وقد قال عمر بن الخطاب : القسامة توجب العقل ، ولا تشيط الدم في أحاديث كثيرة فبهذا نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا .(2/381)
2 - وأجاب السرخسي بقوله : أما قوله : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فلا تكاد تصح هذه الزيادة ، وقد قال جماعة من أهل الحديث : أوهم سهل بن أبي حثمة ، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677). أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم [المبسوط] ( 26/ 8109 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 231)
3 - وأجاب أيضا بقوله : ( ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار لا على طريق الأمر لهم بذلك ، فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول : أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم ) فأما قوله : أتحلفون وتستحقون ؟ فعلى سبيل الإنكار ، كقوله تعالى : سورة الشعراء الآية 165 أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ سورة الشعراء الآية 166 وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ الآية ، وكذلك قوله : تحلفون معناه : أتحلفون ، كقوله تعالى : سورة الأنفال الآية 67 تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا معناه : أتريدون ، وكان - عليه الصلاة والسلام - رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود بقولهم : ( لا نرضى بأيمان قوم كفار ) فقال ذلك على سبيل الزجر ، فلما رأوا كراهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك رغبوا عنه بقولهم : كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد [المبسوط] ( 26/ 8109 ) . . وقد أيد ذلك الطحاوي [شرح معاني الآثار] ( 3/ 302 ) وما بعدها . .
4 - وأجاب أيضا بقوله : ( ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين [المبسوط] ( 26/ 8109 ) . .(2/382)
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته .
قال القاضي عياض : أي : بالحبل الذي ربط به هذا أصله ثم استعمل فيمن دفع للقود [مشارق الآثار على صحاح الآثار] ( 1/ 291 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 232)
وقال ابن دقيق العيد : يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل ، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ فيها وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام] ، وعليه [العدة] ( 4/ 311 ) ، و[المغني] ( 8/ 77 ) . .
وقال ابن قدامة بعد أن ذكره دليلا لوجوب الدم قال : والرمة : الحبل الذي يربط به من عليه القود [المغني] ( 8/ 77 ) . .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الدليل : بقول النووي : وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ؛ ليستوفي منه الدية ؛ لكونه ثبتت عليه [شرح النووي على مسلم] ( 11/ 149 ) . .
ومن ذلك ما رواه أبو داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك .
ومن هذا الطريق رواه البيهقي [السنن الكبرى] للبيهقي ( 8/ 127 ) . ، وأورده المنذري ، وبناء على هذا الطريق : فقد أعله البيهقي بالانقطاع ، والمنذري بقوله : ( هذا معضل ، وعمرو بن شعيب اختلف في الاحتجاج بحديثه ) .
ويجاب عن هذا الاعتراض بوجوه :(2/383)
أحدها : أن هذا الحديث ورد في [سنن أبي داود ] هكذا : حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد ، قالا : نا ، ح ، ونا محمد بن الصباح بن سفيان أنا الوليد ، عن أبي عمرو ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 233)
الثاني : أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة . قال بذلك ابن العربي [أحكام القرآن] ( 1/ 12 ) . والدارقطني وابن عبد البر [الجامع لأحكام القرآن] ( 1/ 459 ) . ، قال البخاري : رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به [سنن الدارقطني] ( 2/ 310 ) . .
ومنها : ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670),سنن النسائي القسامة (4708),مسند أحمد بن حنبل (4/62). أن القسامة كانت في الجاهلية ، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر .(2/384)
واعترض عليه بقول ابن حجر : وهذا - أي : الاستدلال بهذا الحديث على القود - يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة [فتح الباري] ( 12/ 198 ) . . ويجاب عن هذا : بقول البيهقي : أخبرنا أبو الحسن بن عبد الله ، أنبأنا أحمد بن عبيد ، حدثنا ابن ملحان ، حدثنا يحيى هو ابن بكير ، أنبأنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ، عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670),سنن النسائي القسامة (4708),مسند أحمد بن حنبل (4/62). أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية ، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود [السنن الكبرى] للبيهقي ( 8/ 122 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 234)
وأما الأثر :(2/385)
فمن ذلك ما ذكره البيهقي قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي بخسروجرد ، أنبأ أبو عمرو عثمان بن بشر ، ثنا إسماعيل بن إسحاق ، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن أباه قال : كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم ، يعني : من أهل المدينة يقولون : يبدأ باليمين في القسامة الذين يجيئون من الشهادة على اللطخ والشبهة الخفية ما لا يجيء خصماؤهم وحيث كان ذلك كانت القسامة لهم . قال أبو الزناد : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران رجلا ضربه بشوبق ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبهة ذلك وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة ويرونها للذي يأتي به من اللطخ والشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره . ثم قال البيهقي : ( ورواه ابن وهب عن ابن أبي الزناد وزاد فيه : أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلم إلينا . أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا بحر بن نصر ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن هشام بن عروة أخبره أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينهم وبين رجل من آل صهيب منازعة فذكر الحديث في قتله قال : فركب يحيى بن عبد الرحمن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 235)(2/386)
ابن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب فثنى عليهم الأيمان ، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما ، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد ليقتلوه ، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه . قال هشام : فلم ينكر ذلك عروة ، ورأى أن قد أصيب فيه الحق . وروينا فيه عن الزهري وربيعة ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير أنهما أقادا بالقسامة ) [السنن الكبرى] ( 8/ 137 ) . اهـ كلام البيهقي .
وما ذكره عن أبي الزناد من القتل بالقسامة بمحضر عدد كبير من الصحابة - رضي الله عنهم - ذكره القاضي عياض بلفظ : ( وقتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان ) وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله : ( قلت : إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت ، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف ) [فتح الباري] ( 12/ 197 ) . .
وأما ما ذكره البيهقي عن معاوية أنه أقاد بالقسامة ، فقد نقل الحفاظ عن ابن بطال أنه قال : وصح عن معاوية بن أبي سفيان أنه أقاد بالقسامة ، ذكر ذلك عن أبي الزناد في احتجاجه على أهل العراق ، ثم قال الحافظ بن حجر العسقلاني : ( قلت : هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال : - أي : أبو الزناد - حدثني خارجة بن زيد بن ثابت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 236)
قال : قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ - فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه ، فركبت إلى معاوية في ذلك ، فكتب إلى سعيد بن العاص : إن كان ما ذكره حقا ، فافعل ما ذكروه ، فدفعت الكتاب إليه فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا ) [فتح الباري] ( 12/ 193 ) . .(2/387)
وقد جمع الحافظ بين ما رواه حماد بن سلمة في [مصنفه] ومن طريق ابن المنذر قال : عن ابن أبي مليكة : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ، فأخبرته : أن عبد الله بن الزبير أقاد بها ، وأن معاوية - يعني : ابن أبي سفيان - لم يقد بها ، وهذا سند صحيح ، وجاء في باب القسامة من [صحيح البخاري ] بلفظ : ( وقال ابن أبي مليكة : لم يقد بها معاوية ) جمع الحافظ بين هذا وبين ما تقدم عن معاوية أنه أقاد بها ، بقوله : ( قلت : يمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك ، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك ) قال : ( ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو بالعكس ) المرجع السابق ( 12/ 193 ) . .
وأما ما ذكره البيهقي عن ابن الزبير أنه أقاد بالقسامة ، فقد قال ابن حزم : ( صح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة وأنه رأى القود بها في قتيل وجد ، وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان ، وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد ، وروى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب ، وقد شاهد تلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 237)
القصة كلها عبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير ) [المحلى] ( 11/ 70 ) . .
أما ما ذكره البيهقي عن عمر بن عبد العزيز أنه أقاد بالقسامة ، فقد قال ابن حزم : ( صح عنه - أي : عن عمر بن عبد العزيز - أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها [المحلى] ( 11/ 111 ) . .
وقد مضت مناقشة ما نقل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز عند الكلام عن حكم القسامة .(2/388)
وقال النووي نقلا عن القاضي عياض : وقال الكوفيون والشافعي - رضي الله عنه - في أصح قوليه : لا يجب بها القصاص ، وإنما تجب الدية ، وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي كذا في الأصول . والحسن بن صالح ، وروي أيضا عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - [شرح النووي على مسلم] ( 11/ 144 ) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] ( 8/ 416 ) . .
واحتجوا لذلك بالسنة والأثر :
أما السنة : ما رواه مالك في [الموطأ] عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل ، عن سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4710),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر : أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير بئر أو عين ، فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، فقالوا : والله ما قتلناه ، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ، ثم أقبل هو وأخوه حويصة ، وهو أكبر منه ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 238)(2/389)
وعبد الرحمن ، فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كبر كبر يريد : السن ، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يأذنوا بحرب فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فكتبوا : إنا والله ما قتلناه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ فقالوا : لا ، قال : أفتحلف لكم يهود ؟ قالوا : ليسوا مسلمين . فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار ، قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء ) [الموطأ بشرح الزرقاني] ( 4/ 52 ) من رواية يحيى الليثي . .
قال القرطبي : ( قالوا : - أي : الذين لا يرون سوى الدية في القسامة - هذا يدل على الدية لا على القود ) [الجامع لأحكام القرآن] ( 1/ 159 ) . .
ومنها : ما رواه البخاري في ( باب القسامة ) قال : ( حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ، حدثني أبو رجاء من آل أبي قلابة : حدثني أبو قلابة ، أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا ، فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول : القسامة القود بها حق وقد أقاد بها الخلفاء . قال لي : ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 239)(2/390)
على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه ؟ قال : لا ، قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا ، قلت : فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث ، فقال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام . إلى آخر الحديث [صحيح البخاري] ( 12/200-204 ) . .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث الطويل : ما جاء في رواية أبي قلابة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم .(2/391)
وأما قصة الهذليين فليس فيها تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية ؟ كذا في [فتح الباري] ( 12/ 204 ) ثم وجدنا في [مصنف عبد الرزاق ] ( 10/ 48 ) ما يدل على أن عمر حكم بالدية في هذه القضية ، فقد روى عبد الرزاق في ( باب الخلع ) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : ( خلع قوم هذليون سارقا منهم كان يسرق الحاج ، قالوا : قد خلعناه فمن وجده يسرق فدمه هدر ، فوجدته رفقة من أهل اليمن يسرقهم ، فقتلوه ، فجاء قومه عمر بن الخطاب فحلفوا بالله : ما خلعناه ، ولقد كذب الناس علينا ، فأحلفهم عمر خمسين يمينا ، ثم أخذ عمر بيد رجل من الرفقة فقال : أقرنوا هذا إلى أحدكم حتى تؤتوا بدية صاحبكم ، ففعلوا ، فانطلقوا حتى دنوا من أرضهم . . . أصابهم مطر شديد فاستنزوا بجبل طويل وقد أمرسوا ، فلما نزلوا كلهم انقض الجبل عليهم فلم ينج منهم أحد ولا من ركابهم إلا التريك وصاحبه ، فكان يحدث بما لقي قومه ) اهـ .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 240)
ومما أجيب به عن قوله - صلى الله عليه وسلم - للحارثيين : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630). إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب .(2/392)
وما ذكره الباجي قال : يحتمل أن يريد بقوله : أن تدوا صاحبكم إعطاء الدية ؛ لأنه قد جرى في كلام الحارثيين أنهم طلبوا الدية دون القصاص ، ويحتمل أنهم لم يكونوا ادعوا حينئذ قتله عمدا ، ويحتمل أنهم لما لم يعينوا القاتل ، وإنما قالوا : إن بعض يهود قتله ، ولا يعرف من هو - لم يلزم في ذلك قصاص ، وإنما يلزم فيه الدية ، كالقتيل بين الصفين لا يعرف من قتله ، ولا يقول : دمي عند فلان ، ولا يشهد شاهد بمن قتله ، فإن ديته على الفرقة المنازعة له دون قسامة ؛ ولذلك لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة في هذا المقام ، ولعل هذا كان يكون الحكم إن لم يقطع يهود بأنها لم تقتل ولم تنف ذلك عن أنفسها وتقول : لا علم لنا ، وإنما أظهر في المقام ما يجب من الحق إن لم يقع النفي للقتل الموجب للقسامة أن عليهم أن يؤدوا الدية ، فإن امتنعوا من الواجب عليهم في ذلك فلا بد من محاربتهم في ذلك حتى يؤدوا الحق ويلتزموا من ذلك حكم الإسلام [المنتقى شرح الموطأ] ( 8/ 53 ) . . اهـ .
ومنهم من طعن في هذا الحديث لما جاء فيه : وإما أن تؤذنوا بحرب قال الخطابي : وقد أنكر بعض الناس قوله : وإما أن تؤذنوا بحرب وقال : إن الأمة على خلاف هذا القول ، فدل على أن خبر القسامة غير معمول به .
وقد أجاب الخطابي عن هذا بقوله بعد ما ذكرت ( قلت : ووجه الكلام بين ، وتأويله صحيح ، وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 241)
فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنون بها إذا منعوا الجزية ) .(2/393)
وأما استدلال أبي قلابة بترك القود بالقسامة ، لقوله : صحيح البخاري الديات (6503). فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، ورجل حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وارتد عن الإسلام . فقد قال فيه الحافظ ابن حجر : ( لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاث لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة ، وإنما النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك ) [فتح الباري] ( 12/ 204 ) . .
وأما قول أبي قلابة : صحيح البخاري الديات (6503). وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه نفر من الأنصار فتحدثوا عنده فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل ، فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم ، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، صاحبنا كان تحدث معنا فخرج بين أيدينا ، فإذا نحن به يتشحط في الدم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من تظنون أو ترون قتله ؟ قالوا : نرى أن اليهود قتلته ، فأرسل إلى اليهود فدعاهم ، فقال : أنتم قتلتم هذا قالوا : لا ، قال : أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه ؟ فقالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون ، قال : فتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟ قالوا : ما كنا لنحلف ، فوداه من عنده - قلت : وقد كانت هذيل خلعوا خليعا لهم في الجاهلية فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 242)
فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله ، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم إلخ .
فقد أجاب البيهقي عن ذلك بقوله : ( وحديث - أي : أبي قلابة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتيل مرسل ، وكذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة الهذلي [السنن الكبرى] ( 8/ 129 ) . .(2/394)
ومما استدلوا به من السنة : ما رواه أبو داود في المراسيل ، عن هارون بن زيد عن أبي الزرقاء عن أبيه عن محمد بن راشد بن مكحول : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود . ومن هذا الطريق أخرجه البيهقي في باب ترك القود بالقسامة ، قال : أخبرنا محمد بن محمد ، أنبأنا الفسوي ، ثنا اللؤلؤي ، ثنا أبو داود فذكره المرجع السابق ( 8/ 129 ) . .
والجواب عن هذا الحديث : أنه منقطع ، قال ابن القيم : وأما حديث محمد بن راشد المكحول عن مكحول : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود - فمنقطع [تهذيب سنن أبي داود] ( 6/ 352 ) . .
وما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وإسحاق بن راهويه والبزار في [مسانيدهم] والبيهقي في [سننه] من طريق أبي إسرائيل الملائي ، واسمه : إسماعيل بن إسحاق عن عطية عن أبي سعيد الخدري : مسند أحمد بن حنبل (3/89). أن قتيلا وجد بين حيين ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أقربهما فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر ، قال الخدري : كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم ، ورواه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 243)
ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بلفظ : فألقى ديته على أقربهما [نصب الراية] ( 4/ 396 ) . .
والجواب قد أعله ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بأبي إسرائيل ، فضعفه ابن عدي عن قوم ووثقه عن آخرين ، وقال فيه البزار : أبو إسرائيل قال النسائي فيه : ليس بثقة ، كان يسب عثمان - رضي الله عنه - قال : وثقه ابن معين المرجع السابق ( 4/ 396 ، 397 ) . .
وقال ابن حجر : قال العقيلي : لا أصل له [التلخيص الحبير] ( 4/ 39 ) . .(2/395)
وقال ابن حزم : هالك ؛ لأنه انفرد به عطية بن سعيد العوفي ، وهو ضعفه هشيم وسفيان الثوري ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، وما ندري أحدا وثقه ، وذكر عن أحمد بن حنبل : أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد ، ويحدث بها عن أبي سعيد فيوهم الناس أنه الخدري ، وهذا من تلك الأحاديث . والله أعلم ، فهو ساقط ، ثم أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي هو إسماعيل بن إسحاق فهو بلية عن بلية ، والملائي هذا ضعيف جدا ، وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا لا مسندا ولا مرسلا [المحلى] ( 11/ 86 ) . .
وقال البيهقي تحت عنوان ( باب ما روي في القتيل يوجد بين القريتين ولا يصح ) : أخبرنا أبو بكر بن فورك ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود ، ثنا أبو إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد : مسند أحمد بن حنبل (3/89). أن قتيلا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 244)
وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب ، فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر ، قال أبو سعيد : كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم . وأخبرنا أبو سعد الماليني ، أنبأ أبو أحمد بن عدي ، أنبأ الفضل ابن الحباب ، ثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي إسرائيل الملائي بنحوه .
تقول به أبو إسرائيل عن عطية العوفي .
وكلاهما لا يحتج بروايتهما . اهـ نص كلامه في [السنن الكبرى] [السنن الكبرى] ( 8/ 126 ) . . وقال في [المعرفة] : ( إنما روى هذا الحديث أبو إسرائيل الملائي عن عطية العوفي ، وكلاهما ضعيف ) اهـ [نصب الراية] ( 4/ 397 ) . .(2/396)
وقال ابن القيم : ( وأما حديث أبي سعيد الخدري : مسند أحمد بن حنبل (3/89). أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر فألقى ديته عليهم - فرواه أحمد في [مسنده] وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي عن عطية العوفي فيه ضعف ) . اهـ . .
ولو لم يكن في إسناد هذا الحديث سوى البلية أبي إسرائيل لكفى ذلك في تضعيفه ، فقد قال ابن عدي : حدثنا الآجري ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا عفان قال : قال لي بهز : قال لي أبو إسرائيل الملائي : عثمان كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، روى ذلك الحافظ الذهبي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 245)
عن ابن عدي بسنده إليه [ميزان الاعتدال] ( 4/ 390 ) . .
هذا وعند ابن عدي هذا الحديث أيضا من رواية الصبي بن أشعث بن سالم السلولي ، سمعت عطية العوفي عن الخدري به ، ولكن الصبي هنا لينه ابن عدي ، وقال : إن في بعض حديثه ما لا يتابع عليه ، قال : ولم أر للمتقدمين فيه كلاما ، ورواه عن عطية أبو إسرائيل . اهـ [نصب الراية] ( 4/ 397 ) . .
وقال ابن القيم : لا تجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به ، وهو ابن صبيح الذي لم يسفر صباح صدقه [تهذيب السنن] ( 6/ 324 ) . .
وأما الآثار :
فمنها ما ذكره ابن حزم قال :
قال ابن أبي شيبة : نا عبد السلام بن حرب عن عمرو هو ابن عبيد عن الحسن البصري ، أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة .
وما ذكره البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر الأردستاني ، أنبأنا أبو نصر العراقي ، أنبأنا سفيان بن محمد الجوهري ، ثنا علي بن الحسن ، ثنا عبد الله بن الوليد ، ثنا سفيان عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 246)
الدم [السنن الكبرى] ( 8/ 129 ) . .(2/397)
وما ذكره ابن حزم : قال أبو بكر بن أبي شيبة ، نا وكيع ، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : ( انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت ، ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن ابن عم لنا قتل ، نحن إليه شرع سواء في الدم ، وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا حتى ناشداه الله ، فحمل عليهما ، ثم ذكراه الله فكف عنهما ، قال عمر بن الخطاب : ويل لنا إذا لم نذكر بالله ، وويل لنا إذا لم نذكر الله . فيكم شاهدان ذوا عدل يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه . وإلا حلف من بيدكم بالله : ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا ، فإن نكلوا حلف منكم خمسون ثم كانت لكم الدية . إن القسامة قد تستحق بها الدية ولا يقاد بها نقله ابن حزم عن ابن أبي شيبة في [المحلى] ( 11/ 65 ) . .
وما ذكره ابن حجر قال : أخرج الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال : وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر : قيسوا ما بينهما ، وأيهما وجدتموه إليه أقرب ، فحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية . وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي : أن عمر كتب في قتيل بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر ، فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية فقال : حقنت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 247)
أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم [فتح الباري] ( 12/ 198 ، 199 ) . .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن عمرو وغيره عن الحسن قال : يستحقون بالقسامة الدية ، ولا يستحقون بها الدم [المصنف] ( 10/ 41 ) . .(2/398)
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر قال : قلت لعبد الله بن عمر العمري : أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر . قال : لا ، قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت [فتح الباري] ( 12/ 199 ) . .
والجواب عنه :
أولا : أنه معارض بما أخرجه أبو عوانة في [صحيحه] وأصله عند الشيخين من طريق حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء : أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم : هي حق قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضى بها الخلفاء .
وثانيا : أن من قال : إنه قضى بها مثبت ، ومن قال : لم يقض بها ناف ، والمثبت معه زيادة علم فيقدم على النافي .
وثالثا : كونه لا يعلم ، لا يلزم منه عدم الوقوع ، فعدم علمه ليس بدليل .
ورابعا : هو معلول بالإرسال ، قال ابن حزم : لا يصح ؛ لأنه مرسل ، إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص .
وما أخرجه الدارقطني ، ومن طريقه البيهقي ، قال الدارقطني : نا محمد بن القاسم بن زكريا ، نا هشام بن يونس ، نا محمد بن يعلى ، عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 248)(2/399)
عمر بن صبيح ، عن مقاتل بن حيان ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن المسيب : أنه قال : لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها ، غودر رجل من المسلمين قتيلا في بني وادعة ، فبعث إليهم عمر ، وذلك بعدما قضى النسك ، فقال لهم : هل علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم ؟ قال القوم : لا ، فاستخرج منهم خمسين شيخا ، فأدخلهم الحطيم ، فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام ، ورب هذا البلد الحرام ، ورب هذا الشهر الحرام أنكم لم تقتلوه ، ولا علمتم له قاتلا ، فحلفوا بذلك ، فلما حلفوا قال : أدوا دية مغلظة في أسنان الإبل أو من الدنانير والدراهم دية وثلثا ، فقال رجل منهم ، يقال له : سنان : يا أمير المؤمنين ، أما تجزيني من مالي ؟ قال : لا ، إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فأخذ ديته دنانير دية وثلث دية [سنن الدارقطني] ( 2/ 355 ) . .
والجواب عن هذا الحديث : بأن فيه عمر بن صبيح ، وهو متروك ، قال ذلك الدارقطني والبيهقي وابن القيم ، فقال الدارقطني : في سنده عمر بن صبيح ، متروك المرجع السابق ( 2/ 355 ) . .
وقال البيهقي : رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني : قوله : ( إنما قضيت فيكم بقضاء نبيكم ) منكر ، وهو مع انقطاعه من رواية من أجمعوا على تركه [السنن الكبرى] ( 8/ 125 ) . . ونقل الزيلعي عن البيهقي أنه قال في كتاب [المعرفة] : أجمع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بعمر بن صبيح ، وقد خالفت روايته هذه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 249)
رواية الثقات الأثبات [نصب الراية] ( 4/ 395 ) . .
وذكر ابن حزم : أن ذلك صحيح عن الحسن ونصه : وأما الحسن فصح عنه أنه قال : لا يقاد بالقسامة ، لكن يحلف المدعى عليهم بالله : ما فعلنا ، ويبرءون ، فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية ، هذا في القتيل يوجد ، كما ذكر ابن حزم أنه صح عن قتادة : أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها . اهـ [المحلى] ( 11/ 70 ، 71 ) . .(2/400)
والجواب عن هذه الآثار ما يأتي :
أما ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري : أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة فهو مرسل . قال : إنه لا يصح ، لأنه عن الحسن وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب المرجع السابق ( 11/ 69 ) . .
وأما ما رواه الثوري عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فقد قال البيهقي فيه : ( هذا منقطع ) [السنن الكبرى] ( 8/ 129 ) . ، وقال ابن القيم : أما ما رواه الثوري في [جامعه] عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فمنقطع موقوف [تهذيب السنن] ( 6/ 324 ) . . اهـ كلام
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 250)
ابن القيم .
وقد رواه ابن أبي شيبة ، ومن طريقه ابن حزم قال ابن أبي شيبة : نا وكيع ، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب ، فذكر الحديث المتقدم ، وفيه : ( أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها ) .
ثم ذكر ابن حزم : في رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب منقطعة قال : لم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر ) [المحلى] ( 11/ 69 ) . .
وأما الأثر الذي أخرجه الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة عن منصور بسند صحيح إلى الشعبي : أنه وجد قتيل بين حيين من العرب ، فقال : عمر : قيسوا ما بينهما ، الحديث ، وأخرجه الشافعي ، وفي روايته : تسمية الحيين : خيوان ووادعة - فقد قال فيه ابن حزم : ( إنه مرسل ؛ لأنه عن عمر من طريق الشعبي ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها ) المرجع السابق ( 11/ 69 ) . .(2/401)
وقال البيهقي في الجواب عنه من ناحية ما فيه من مخالفة النصوص الدالة على البدء بولاة الدم في الأيمان - قال : أما الأثر الذي أخبرنا أبو حازم الحافظ ، أنبأ أبو الفضل بن خميرويه ، أنبأ أحمد بن نجدة ، ثنا سعيد بن منصور ، ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر - يعني : الشعبي - أن قتيلا وجد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 251)
في خربة وادعة همدان فرفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يمينا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، ثم غرمهم الدية ثم قال : يا معشر همدان ، حقنتم دماءكم بأيمانكم فما يطل دم هذا الرجل المسلم . وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنبأ الربيع بن سليمان ، أنبأ الشافعي ، ثنا سفيان عن منصور عن الشعبي : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة : أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليهم منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم بالدية ، فقالوا : ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا ، قال عمر - رضي الله عنه - ، كذلك الأمر . قال الشافعي : وقال غير سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : حقنتم بأيمانكم دماءكم ولا يطل دم مسلم . فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - في الجواب عنه ما يخالفون عمر - رضي الله عنه - في هذه القصة من الأحكام ثم قيل له : أفثابت هو عندك ؟ قال : لا ، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث مجهول ، ونحن نروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدأ بالمدعين ، فلما لم يحلفوا قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا وإذا قال : تبرئكم فلا يكون عليهم غرامة ، ولما لم يقبل الأنصاريون أيمانهم وداه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئا ، قال الربيع : أخبرني بعض أهل العلم عن جرير عن مغيرة عن(2/402)
الشعبي قال : حارث الأعور كان كذابا ، وروي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر - رضي الله عنه - ومجالد غير محتج به . وروى عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر ، وأبو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 252)
إسحاق لم يسمع من الحارث بن الأزمع ، قال علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة قال : سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع : أن قتيلا وجد بين وادعة وخيوان فقلت : يا أبا إسحاق ، من حدثك ؟ قال : حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع ، فعادت رواية أبي إسحاق إلى حديث مجالد ، واختلف فيه على مجالد في إسناده ، ومجالد غير محتج به والله أعلم . هذا كلام البيهقي في [السنن الكبرى] [السنن الكبرى] ( 8/ 124 ) . .
وأخرج في [المعرفة] عن ابن عبد الحكم أنه قال : سمعت الشافعي يقول : سافرت إلى خيوان ووادعة أربع عشرة سفرة وأنا أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل وأنا أحكي لهم ما روي فيه ، فقالوا : هذا شيء ما كان ببلدتنا قط [نصب الراية] ( 4/ 355 ) . . اهـ .
وفي هذا دليل على عناية الشافعي - رحمه الله - بحالة هذا الأثر .
وقد ناقش ابن التركماني ما ذكره البيهقي في [السنن الكبرى] عن الشافعي من ناحية كون الأثر من رواية الحارث الأعور ، وادعوا جهالته فقال : قلت : لم يذكر أحد فيما علمنا : أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي ، ولم يذكر سنده في ذلك ، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي عن الحارث الوادعي ، هو ابن الأزمع ، وسيأتي : أن مجالدا رواه عنه الشعبي كذلك . ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا عن عمر أمارة على أنه الواسطة ، لا الحارث الأعور ، كما زعم الشافعي ، ورواه أيضا عبد الرزاق [المصنف] ( 10/ 35 ) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 253)(2/403)
عن الثوري عن منصور عن الحكم عن الحارث بن الأزمع ، والحارث هذا ذكره أبو عمر وغيره في الصحابة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي ، بل هو معروف روى عنه الطحاوي والشعبي والسبيعي وغيرهم [الجوهر النقي] بذيل [السنن الكبرى] ( 8/ 120 ) . . اهـ .(2/404)
التاسع : خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة :
فمنهم من ذهب إلى أنه لا يقتل إلا واحد ، ومنهم من ذهب إلى أنه يستحق بها قتل جماعة ، ومنهم من ذهب إلى العدول إلى الدية .
أما المذهب الأول : فقال مالك - رحمه الله - : لا يقتل في القسامة إلا واحد ، لا يقتل فيها اثنان ، وقال الباجي - رحمه الله - على ذلك : لا خلاف في المذهب : أنه لا يستحق بالقسامة إلا قتل رجل واحد ، خلافا للشافعي في أحد قوليه .
والدليل على ما نقوله : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صحيح البخاري الأحكام (6769),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4718),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630). وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم .
ومن جهة المعنى : أن القسامة أضعف من الإقرار والبينة وفي قتل الواحد ردع ، قاله القاضي أبو محمد [المنتقى] ( 7/ 54 ) ويرجع إلى [عارضة الأحوذي] ( 7 / 193 ) . .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - : لا يختلف المذهب : أنه لا يستحق بالقسامة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 254)
أكثر من قتل واحد ، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي - قال بعد ذكر مذهب آخر سيأتي .(2/405)
ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353). يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته فخص بها الواحد ، ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد ، فيقتصر عليه ويبقى الأصل فيما عداه ، وبيان مخالفة الأصل بها أنها ثبتت باللوث ، واللوث شبهة فغلبه على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها ؛ ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه ، وهذا بخلافه ، وبيان ضعفها : أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره فلأن يمنع منه قبول قوله وحده في إثبات حقه أولى وأحرى [المغني] ( 8/ 506 ) . .
أما المذهب الثاني : فقال ابن قدامة - رحمه الله - ، وقال بعضهم - أي : بعض أصحاب الشافعي - : يستحق بها قتل الجماعة ؛ لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة ، وهذا نحو قول أبي ثور .
وقد ناقش ابن قدامة ذلك فقال : وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين وفي كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعوا عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ؛ ولهذا لا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنفي الشبهات المرجع السابق ( 8/ 508 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 255)
وأما المذهب الثالث : فقال النووي : قال الشافعي : إذا ادعوا على جماعة حلفوا عليهم ، وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي ، وعلى قول : إنه يجب القصاص [شرح النووي على صحيح مسلم] ( 11/ 149 ) . .(2/406)
وقد مضى أن الشافعي - رحمه الله - لم يوجب الدم في القسامة ، ومضت أدلة ذلك ومناقشتها . هذا ما تيسر ذكره .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على محمد ، وعلى آله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(2/407)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 256)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 41 ) وتاريخ 13/4/1396هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد ، وآله وصحبه ، وبعد .
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - اطلع المجلس على ما سبق أن أجله من الدورة السابعة إلى الدورة الثامنة من بحث القسامة ، هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين عقلاء ؟ .
وبعد استماع المجلس ما سبق أن أعد في ذلك من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وتداول الرأي - قرر المجلس بالأكثرية : أن الذي يحلف من الورثة هم الذكور البالغون العقلاء ولو واحدا ، سواء كانوا عصبة أو لا ؛ لما ثبت في [الصحيحين] من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل اليهود لعبد الله بن سهل : صحيح البخاري الأحكام (6769),سنن النسائي القسامة (4710),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630). أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل : تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ ، قالوا : لا - وفي رواية - : يقسم منكم خمسون رجلا ، ولأنها يمين في دعوى حق ، فلا تشرع في حق غير المتداعين كسائر الأيمان .
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
متوقف
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
متوقف
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان
عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(2/408)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 257)
(3)
هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 258)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 259)
(3)
هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 260)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 261)
بسم الله الرحمن الرحيم
هدي التمتع والقران نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص 183- 231، سنة 1398 هـ.
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع (هدي التمتع والقران، ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
هدي التمتع والقران
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 262)
الطائف في شعبان عام 1395 هـ من الموافقة على إعداد بحث (هدي التمتع والقران)- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على الأمور الآتية:
أولا : ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثانيا : نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثالثا : الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة.
رابعا : مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة.
خامسا : حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة.
سادسا : علاج مشكلة اللحوم في منى.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(2/409)
أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة
اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟
القول الأول : يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية .
قال النسفي والزيلعي : وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط، وفي [بداية المبتدئ]: ( ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر ) وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية، تركنا ذكرها اختصارا.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 263)
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة .
وقال ابن العربي : ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه.
وقال الباجي : ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر.
وقال المزني : فإن كان معتمرا نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه، وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق. انتهى المقصود.
وقال الرملي : (ووقته -أي: وقت ذبح الهدي- كوقت ذبح الأضحية على الصحيح. وصححه أيضا النووي والرافعي ... وقال الفتوحي : ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل. انتهى كلامه.
ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب : أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه.
واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى :
أما الكتاب فمنه دليلان :
الأول : قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 264)(2/410)
وجه الدلالة: ما ذكره الباجي رحمه الله بقوله: لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر، ولا سيما على القول بدليل الخطاب، ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية، وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا.
ومما يدل على هذا حديث حفصة وهو قولها: صحيح البخاري الحج (1491),صحيح مسلم الحج (1229),سنن النسائي مناسك الحج (2781),سنن أبو داود المناسك (1806),سنن ابن ماجه المناسك (3046),موطأ مالك الحج (897). يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟! فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر".
وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة ولو كان النحر مباحا لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به.
ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية: بأنها في الإحصار، فإن قبلها قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار.
الثاني : قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
وجه الدلالة: أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي، وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: سورة الحج الآية 28 فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الآية.
وجه الدلالة: ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 265)
البدن دل أنها بدن القران والتمتع؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر.(2/411)
وقد نوقش هذا الاستدلال : بقول الجصاص رحمه الله: (إذا كان الصيام بدلا من الهدي ، والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟).
وأجاب عن ذلك بقوله : لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر، وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر، وأحدها: ثابت بالاتفاق، وبدليل قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ والآخر: ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط.
وأيضا : فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان: أحدهما: إتمام العمرة والحج في أشهر الحج، والثاني: ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة، فلذلك اختص بيوم النحر.
واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله تعالى قال: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فلا يجوز تقديمه على الحج.
وأجاب عن ذلك بقوله : لا يخلو قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ من أحد معان: إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وما سماه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 266)
النبي صلى الله عليه وسلم حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: سنن الترمذي الحج (889),سنن النسائي مناسك الحج (3016),سنن أبو داود المناسك (1949),سنن ابن ماجه المناسك (3015),مسند أحمد بن حنبل (4/335),سنن الدارمي المناسك (1887). الحج عرفة أو في أشهر الحج؛ لأن الله قال: سورة البقرة الآية 197 الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ(2/412)
وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به؛ لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال، ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة، فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج، وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان؛ لمطابقته اللفظ في الآية. وأيضا قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه، فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: سورة النساء الآية 92 وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي الزكاة (632). ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب، فكذلك قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج.
ثم نقده رحمه الله بقوله: لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا عن الهدي لم يجز تقديمه عليه.
وأجاب عن ذلك بقوله : هذا اعتراض على الآية؛ لأن نص التنزيل قد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 267)
أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر.
وأيضا : فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه تعالى قال: سورة البقرة الآية 196 وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي، وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه. انتهى كلامه.(2/413)
ونوقش الاستدلال بالآية على أن (ثم) للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه).
وأجيب عنه : بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة فلو جاز الذبح قبل يوم النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة وليس كذلك.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي :
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صحيح البخاري الحج (1606),صحيح مسلم الحج (1227),سنن النسائي مناسك الحج (2732),سنن أبو داود المناسك (1805). تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا، فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله الحديث.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 268)
ولهما عن جابر رضي الله عنه قال: صحيح مسلم الحج (1216),مسند أحمد بن حنبل (3/302). أهللنا بالحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فقال: "يا أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم" قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج .(2/414)
ولهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صحيح البخاري الحج (1637),صحيح مسلم الحج (1221),سنن الدارمي المناسك (1815). قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: "بم أهللت؟" قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "سقت من هدي؟"، قلت: لا، قال: "فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل" فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي .
وروى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا، وعلينا الهدي، كما قال تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 269)
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صحيح مسلم الحج (1247),مسند أحمد بن حنبل (3/5). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج .(2/415)
وروى البزار في [مسنده] عن أنس رضي الله عنه: مسند أحمد بن حنبل (3/142). أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا، فلولا أن معي الهدي لأحللت، فحلوا حتى خلوا إلى النساء .
وروى أبو داود عن أنس قال: صحيح البخاري الحج (1476),سنن النسائي مناسك الحج (2931),سنن أبو داود المناسك (1796),مسند أحمد بن حنبل (3/268). بات رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: بذي الحليفة - حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، فحمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما، فلما قدم أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج نحر سبع بدنات بيده قياما . وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنن أبو داود المناسك (1765),مسند أحمد بن حنبل (4/350). إن أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر ثم يوم القر قال ثور : وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، قال. فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفيفة لم أسمعها ، فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع .
وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر بن عبد الله رضي عنه: سنن أبو داود الأطعمة (3747),مسند أحمد بن حنبل (3/301). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن نسائه في حجه بقرة .
وفي رواية: قال: صحيح مسلم الحج (1319). نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر .
وروى البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن عمرة بنت عبد الرحمن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 270)(2/416)
قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: صحيح البخاري الحج (1623). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل . قالت عائشة : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال: أتتك بالحديث على وجهه. ولهما صحيح البخاري الحج (1485),سنن أبو داود المناسك (1782),مسند أحمد بن حنبل (6/219). عن عائشة رضي الله عنها قالت: فلما دخلنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي قالت: سنن أبو داود المناسك (1782),مسند أحمد بن حنبل (6/219),سنن الدارمي المناسك (1904). وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر .
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صحيح البخاري الأيمان والنذور (6288),صحيح مسلم الحج (1306),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),سنن ابن ماجه المناسك (3051),مسند أحمد بن حنبل (2/217),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907). وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "اذبح ولا حرج" ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج " فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "ولا حرج .
وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر رضي الله عنه قال: صحيح مسلم الحج (1318),سنن ابن ماجه الأضاحي (3132). أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم .(2/417)
وروى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: صحيح مسلم الحج (1239),سنن النسائي مناسك الحج (2871),سنن أبو داود المناسك (1804). أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بالحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم .
وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: صحيح مسلم الحج (1236),سنن النسائي مناسك الحج (2992),سنن ابن ماجه المناسك (2983),مسند أحمد بن حنبل (6/350). خرجنا محرمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 271)
لم يكن معه هدي فليحل فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل .
وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: صحيح مسلم الحج (1213),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1785). أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: يا رسول الله، حل ماذا؟ قال: "الحل كله " فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية الحديث.
وله أيضا من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: صحيح مسلم الحج (1213),سنن أبو داود المناسك (1785). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحل. قلنا: يا رسول الله، أي الحل؟ فقال: "الحل كله " قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج الحديث.(2/418)
وروى الإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه قال: مسند أحمد بن حنبل (3/148). خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة .
وله أيضا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مسند أحمد بن حنبل (2/28). قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج، فقال: "من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالوا: يا رسول الله، أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: "نعم ". وسطعت المجامر .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 272)
وله أيضا وابن ماجه، عن البراء بن عازب قال: سنن ابن ماجه المناسك (2982). خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: " اجعلوا حجكم عمرة". قال: فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: "وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا أتبع .
وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: سنن أبو داود المناسك (1801),مسند أحمد بن حنبل (3/405). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان، قال له سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: "إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل، إلا من كان معه هدي .(2/419)
فهذه الأحاديث منها: ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها: ما يدل عليه بمفهوم أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى، فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وأما الإجماع : فقد قال ابن عابدين على قول صاحبي [تنوير الأبصار] وشرحه [الدر المختار]: ويتعين يوم النحر، أي: وقته، هو والأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: (فلم يجزئ) أي: بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء.
وأما الأثر : فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 273)
واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس .
وأما المعنى : فقد ذكره ابن قدامة بقوله: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة [المغني] (5/ 359، 360). .
القول الثاني: أنه يجوز قبل يوم النحر، وهو منقول عن بعض المالكية، وبه قال الشافعي وبعض أصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض أصحابه.
والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر، وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج.
وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها :(2/420)
أ- نقل الأبي عن القاضي عياض رحمه الله - في الكلام على قول جابر رضي الله عنه (فأمرنا إذا أحللنا)- أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل- من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو إحدى الروايات عندنا -أي: المالكية - والأخرى: أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا.
والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى تقديم الزكاة على الحول.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 274)
وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث؛ لقوله: (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي).
وقد ناقش محمد بن أحمد بن يوسف الرهوني، ما نقله الأبي عن القاضي عياض، فقال: وأما ما نقله، ويعني: أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى على أن قوله: وفي الحديث حجة لمن نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في [الإكمال] فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها، ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضوع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي: النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره، ونصه: وقوله للمتمتعين: فمن لم يجد هديا فليصم سورة البقرة الآية 196 ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع.
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة :(2/421)
فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة، وهو قول مالك، وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة، وبدنة دون بدنة، وقيل: المراد: بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، وهذا عند مالك للحر والعبد، إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده، وله الصوم وإن كان واجدا الهدي، ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج. اهـ منه بلفظه.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 275)
ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض ) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي: القاضي عياض ) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج، وكذا بعده مالك وأبو حنيفة، خلافا للشافعي، فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج؟!
ويؤيد ذلك أيضا : أن اللخمي إنما ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر، ونصه: (ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج وكذلك القارن، واختلف: إذا قلد وأشعر قبل إحرام بالحج فقال أشهب وعبد الملك في كتاب ابن حبيب : لا يجزئه، وقال ابن القاسم : يجزئه، فلم يجزئ في القول الأول، لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج وإذا قلد وأشعره قبل ذلك كان تطوعا، والتطوع لا يجزئ عن الواجب، وأجزأ في القول الأخير قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول، والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك) اهـ منه بلفظه.
ولا يخفى على منصف وقف على كلام اللخمي هذا، وعلى كلام عياض : أن الصواب هو ما وجدته في [الإكمال] لا ما نقله عنه الأبي، ونص [الإكمال] قوله: ( فأمرنا حين أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدي ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم لوجوب الهدي على المتمتع، كما قال الله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ؛ لأن هؤلاء صاروا بإحلالهم في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين.(2/422)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 276)
وقد تقدم الكلام عليها في أول الكتاب، ويحتج به من يجيز الاشتراك في الهدي الواجب ومن يجيز تقليد هدي التمتع عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهي إحدى الروايتين عندنا، والأخرى لا يجوز إلا بعد الإحرام؛ لأنه حينئذ صار متمتعا ووجب عليه الدم، والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث وتقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها، وقد يفرق بين هذه الأصول إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه. اهـ محل الحاجة منه بلفظه.
ب- قال خليل : (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله):
لقد ناقش الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله هذه الجملة عن خليل فقال: واعلم أن قول من قال من المالكية : إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزئ قبله، كما هو ظاهر قول خليل في [مختصره] الذي قال في [ترجمته] مبينا لما به الفتوى (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله) فقد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي.
والتحقيق : أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي وصاحب [الطراز] وابن عرفة، قال ابن عرفة : سمع ابن القاسم إن مات- يعني: المتمتع- قبل رمي جمرة العقبة فلا دم عليه) ابن رشد، لأنه إنما يجب في الوقت الذي يتعين فيه نحره وهو بعد رمي جمرة العقبة فإن مات قبله لم يجب عليه، ابن عرفة، قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر عن كتاب محمد بن القاسم وعن سماع عيسى : من مات يوم النحر ولم يرم فقد لزمه دم، ثم قال ابن عرفة : فقول ابن الحاجب : يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 277)
مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه فعليه الدم. انتهى من الخطاب.(2/423)
فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول بلزومه إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه إن مات بعد الوقوف بعرفة .
أما لو مات قبل الوقوف بعرفة فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء إلا جواز إشعاره وتقليده، وعليه فلو أشعره أو قلده قبل إحرام الحج كان هدي تطوع فلا يجزئ عن هدي التمتع، فلو قلده وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه؛ لأنه قلده بعد وجوبه، أي: بعد انعقاد الوجوب في الجملة. اهـ، وعن ابن القاسم أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ثم أخر ذبحه إلى وقته أنه يجزئه عن هدي التمتع وعليه فالمراد بقول خليل : وأجزأ قبله، أي: أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده وإشعاره على إحرام الحج، هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية . فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج أو بعده قبل وقت النحر فقد غلط غلطا فاحشا.
قال الشيخ المواق في [شرحه]: قول خليل : وأجزأ قبله. ما نصه: ابن عرفة يجزئ تقليده وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم . انتهى.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في [مختصره]، ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه : فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف بعرفة أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 278)
الوجوب هنا. قلت: يظهر في جواز تقليده وإشعاره بعد الإحرام للحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان.(2/424)
وقال الشيخ الحطاب أيضا : والحاصل: أن دم التمتع والقران يجوز تقليدها قبل وجوبها على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف، فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة، لا سيما على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج، تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج وجوبا غير متحتم؛ لأنه معرض للسقوط بالموت والفوات فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب فلا يسقط بالموت، كما نقول في كفارة الظهار: أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم، بمعنى: أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها، فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ولو ماتت الزوجة وطلقها. إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك، والله أعلم، ونصوص المذهب شاهدة لذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في [المعونة]: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران قبل يوم النحر، خلافا للشافعي، لقوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ .
وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 279)
محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في [التلقين]: الواجب بكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر وله مثله في [مختصر عيون المجالس]، ثم قال الحطاب رحمه الله: فلا يجوز الهدي عند مالك حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة، وجوزه الشافعي من حيث يحرم بالحج، واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج.(2/425)
ودليلنا : أن الهدي متعلق بالتحلل وهو المفهوم من قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ اهـ. منه، وكلام العلماء المالكية بنحو هذا كثير معروف.
والحاصل : أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، وإن قولهم: إنه يجب بإحرام الحج لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج لا شيء آخر فيما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر، كله غلط، إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق ولا تغتر بغيره.
قال الشافعي : وإذا ساق المتمتع الهدي أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأه من قبل أن على الناس فرضين: فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت، وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض، وهكذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 280)
إن ساقه مفردا متطوعا به، والاختيار إذا ساقه معتمرا أن ينحره بعدما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة، وحيث نحره من فجاج مكة أجزأه، والاختيار في الحج أن ينحره بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق.
وقال الشيرازي : ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج، وفي وقت جوازه قولان: أحدهما : لا يجوز قبل أن يحرم بالحج، والثاني : يجوز بعد فسخ الإحرام من العمرة، وقال النووي : ووقت وجوبه عندنا الإحرام بالحج بلا خلاف، وأما وقت جوازه فقال أصحابنا: لا يجوز قبل الشروع بالعمرة بلا خلاف، ويجوز بعد الإحرام بالحج بلا خلاف، ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران، لكن الأفضل ذبحه يوم النحر.(2/426)
وهل تجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مشهوران، وحكاهما جماعة وجهين والمشهور قولان وذكرهما المصنف- يريد: الشيرازي في كتابه [المهذب]- بدليليهما أصحهما الجواز.
فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة؟ فيه طريقان:
أحدهما : لا يجوز قطعا، وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين، ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه.
والثاني : فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز، والثاني: يجوز بوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون وصاحب البيان.
فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة أوجه: أحدها: بعد الإحرام بالعمرة، وأصحها: بعد فراغها، والثالث: بعد الإحرام بالحج.
قال ابن قدامة : أما وقت وجوبه: فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 281)
وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة وهو قول مالك واختيار القاضي، وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي- قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر نحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا ... انتهى، وقال أيضا: وقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج. انتهى.
وذكر صاحب [الفروع] رواية عن الإمام أحمد أنه يجب بإحرام العمرة.
وقال صاحب [الفروع] أيضا: أما وقت ذبحه فجزم جماعة منهم [المستوعب] و[الرعاية]: أنه لا يجوز نحره قبل وقت وجوبه، وقاله القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحو (و، هـ، م) فظاهره يجوز إذا وجب.
أدلة هذا القول :
نظرا إلى اختلاف القائلين بهذا القول في تحديد بدء وقت جواز ذبحه فإننا نذكر أدلة كل قول على حدة مع المناقشة:(2/427)
أ- أما رواية أبي طالب عن الإمام أحمد : أنه إن قدم به قبل عشر ذي الحجة جاز ذبحه، وإن قدم به بعد دخول العشر فإنه لا يذبحه إلا يوم النحر، فهذه الرواية مبنية على مصلحة مرسلة، وذلك أنه جاء في رواية أبي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 282)
طالب كما في [المغني]، أنه قال: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي، قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق. انتهى المقصود.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور ثلاثة:
أحدها : أن العمل بالمصلحة المرسلة مشروط بعدم مخالفتها نصا، وقد خالفت النص هنا، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذبح الهدي إلى يوم النحر قصدا، وقال صلى الله عليه وسلم: سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم .
الثاني : أنها منتقضة، فإن التعليل بخوف الموت والضياع والسرقة وارد أيضا على الهدي إذا قدم به بعد دخول العشر؛ لأن العشر يحتمل أن يموت فيها الهدي أو يضيع أو يسرق.
الثالث : أن التحديد بالعشر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
ب- وأما من قال بجواز ذبحه بعد الإحرام بالعمرة، وهو قول عند الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وقول أبي الخطاب من الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم، فاستدل له بالكتاب، وهو قوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
وجه الدلالة : ما ذكره الشيرازي وغيره: أن هدي التمتع والقران له سببان: هما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة، فجاز الإتيان بالمسبب كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان؛ لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 283)
كفى في وجوب الصوم وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ولم تنتف الموانع؛ لأن قضاء الصوم فرع من وجوب سابقه في الجملة.(2/428)
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص، ومن القواعد المقررة في باب الاجتهاد: أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، والنص هو قوله تعالى: سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وقد سبق الاستدلال بهذه الآية مع مناقشتها في القول الأول فلا نطيل الكلام بالإعادة.
ج- وأما من قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو قول للشافعية ومن وافقهم من أهل العلم، فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب : فقوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تقدم الاستدلال بها. ووجه الاستدلال بها مع المناقشة يقال فيه ما قيل عند الاستدلال بها للقول قبل هذا.
وأما السنة : فما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: صحيح مسلم الحج (1318). فأمرنا إذا أحللنا أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 284)
نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث.
وجه الدلالة: قال النووي : فيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بثلاثة أمور :(2/429)
أحدها : أن يقال: لا منافاة بين هذا الحديث وبين ما سبق من أدلة السنة للقول الأول وما جاء في معناها؟ فإن جميعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي بالتحلل، وأمر بالهدي وأمر باشتراك السبعة في البدنة، إلا أنه في هذا الحديث نسق أمرهم بالهدي، وأمرهم بأن يشترك السبعة في البدنة على أمره إياهم بالفسخ بدون فاصل؛ متبعا ذلك قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) وليس في تلك الأحاديث هذه اللفظة ولا ذلك التنسيق؛ فمن هنا نشأ الخطأ في استدلال من استدل بهذا الحديث حيث لم يفرق بين زمن الأمر بالشيء وبين زمن فعل المأمور به فظن أن الإشارة في قوله: (وذلك) إلى زمن الذبح وإنما هي إشارة إلى زمن الأمر، والمراد: أن زمن الأمر بالفسخ وزمن الأمر بالهدي والاشتراك فيها زمن واحد، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم، وذلك إنما وقع يوم النحر؛ لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر، فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم وهذا يسمى عند الأصوليين بالقلب.
الثاني : أنه على تقدير أن قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) هذا الحديث مخالف لما سبق، فيقال فيه: إن هذه الزيادة شاذة، ووجه شذوذها مخالفتها لما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 285)
الزيادة، ومدارها على محمد بن بكر البرساني، وقد رواه عن جابر عدول عن طريق أبي الزبير المكي أئمة: مالك بن أنس والليث بن سعد وأبو خيثمة ومطر الوراق وسفيان بن عيينة، وجميع رواياتهم خالية من هذه الزيادة.(2/430)
الثالث : أن هذا من الأمور التي تتوافر الهمم والداوعي على نقلها، فلو وقع أمره صلى الله عليه وسلم للصحابة بأن يذبحوا الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج- لسارعوا إلى الامتثال، كما سارعوا إلى امتثال أوامره من لبس الثياب والتطيب ومجامعة النساء وغير ذلك، ولو وقع ذلك لنقل، فلما لم ينقل دل على عدم وقوعه ولم يأمرهم بالتحلل من العمرة إلا أنهم ليس معهم هدي.
وأما المعنى : فقال الشيرازي : إنه حق مالي يجب بشيئين، فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب.
ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص ولا اجتهاد مع النص، وقد مضى ذلك.
د- وأما من قال من الشافعية ومن وافقهم بأنه يجوز بعد الإحرام بالحج فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب : فقوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي وغيره من أن الله أوجب الهدي على المتمتع، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا، فوجب حينئذ؛ لأنه يطلق على المتمتع وقد وجد، ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله، كقوله تعالى: سورة البقرة الآية 187 ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ سبق الاستدلال بها. فالصيام ينتهي بأول جزء من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 286)
الليل، فكذلك التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية : بما أجيب به عن الاستدلال بها لمن قال بجواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة أو بعد تحلله منها وقد سبق.
ويجاب أيضا : بأن المتمتع لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال أن الحج قد يفوته بسبب عائق عن الوقوف بعرفة؛ لأنه لو فاته لا يسمى متمتعا.
أما السنة فقد استدلوا بأدلة :(2/431)
الأول : ما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صحيح مسلم الحج (1318). فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث.
وجه الدلالة : قد يقال: إن هذا الحديث يدل على جواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، فيدل بطريق الأولى على جوازه بعد الإحرام بالحج.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به لمن قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة، وبهذا يتبين أنه لا دلالة فيه، ويجاب ثانيا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الاستدلال بالآية.
الدليل الثاني : ما أخرجه الحاكم في [المستدرك] قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن جابر بن عبد الله قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 287)
أمرنا بالإحلال ... الحديث إلى أن قال: قال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف، فقام تحت يدي ناقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصرخ، أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا؟ الحديث ثم قال الحاكم بعد إخراجه هذا الحديث: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على تصحيحه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث: قوله: (فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ...) إلخ.(2/432)
وجه الدلالة قد يقال : إن عطف الوقوف بالفاء على ذبح سعد تيسه عن نفسه يدل على جواز ذبح الهدي بعد الإحرام بالحج.
والجواب : أن ذبح سعد للتيس كان يوم النحر، بدليل ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] قال: (حدثنا حجاج بن محمد عن
ابن جريج قال: أخبرني عكرمة مولى ابن عباس، زعم أن ابن عباس أخبره: مسند أحمد بن حنبل (1/307). أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنما يوم النحر في أصحابه، وقال: اذبحوها لعمرتكم، فإنها تجزئ فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس وقد ذكره الهيثمي في [مجمع الزوائد] وقال: أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، فرواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم، حينئذ لا دلالة في الحديث.
وأما المعنى فمن وجوه :
أحدها : ما ذكره الشيرازي بقوله: إن شرائط الدم إنما توجد بوجود ا لإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به، انتهى.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 288)
ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي ولا اجتهاد مع النص، وقد سبق ما يدل على خلاف ذلك عند الكلام على أدلة المذهب الأول.
الثاني : ويجاب أيضا: بما أجيب به من الوجه الثاني عن الآية التي استدل بها أهل هذا القول. ما سبق من المناقشة لاستدلال أهل القول الأول بقوله تعالى: سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والمحل المقصود من المناقشة جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر قياسا على جواز الصيام؛ لأنه بدله، والبدل له حكم المبدل منه.
الثالث : ويجاب عنه هنا بما أجيب به عنه هناك، تركنا إعادته هنا اختصارا. ما ذكره النووي بقوله: (ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران).
ويناقش ذلك : بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد]، من أنه دم شكران لا دم جبران [زاد المعاد] (1/ 217).
ويمكن أن يناقش ثانيا : بأنه قياس مع النص، فقد وردت أدلة دالة على ذبحه يوم النحر وسبقت من أدلة القول الأول، فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار.(2/433)
ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:
اختلف أهل العلم في تحديد نهاية أيام النحر: هل هي يوم العيد ويومان بعده، أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده، أو يوم العيد فقط؟.. إلخ ما ستأتي الإشارة إليه من الأقوال التي لا تعتمد على دليل شرعي.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 289)
وفيما يلي ذكر المذاهب ومن قال بكل مذهب منها ومستنده مع المناقشة في حدود ما يسره الله :
القول الأولى : ينتهي وقت النحر بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق ، وممن قال بهذا القول : الحنفية وهو مذهب مالك وأحمد .
قال الجصاص : ذهب أصحابنا والثوري إلى أنه يوم العيد ويومان بعده .
وقال القرطبي : قال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده .
وقال ابن قدامة : قال أحمد : أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن القيم : هذا مذهب أحمد .
وقال في [الإنصاف] ، : هذا هو الصحيح من المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
وجه الدلالة : ما ذكره القرطبي بقوله : (وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به) .
وأما السنة : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث .
وجه الدلالة : ما ذكره الباجي بقوله : ومعلوم أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح فلو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 290)
يأكل من أضحيته . انتهى كلام الباجي ، وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لانتهاء وقت الذبح .(2/434)
وأما الإجماع : فقد قرره الجصاص بقوله- بعد ذكره هذا الرأي عن بعض الصحابة قال : قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة ، واستفاض ذلك عنهم ، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرد عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته .
وأيضا : فإن سبيل تقدير النحر التوقيف أو الاتفاق ، إذ لا سبيل إليها من طريق القياس فلما قال : من ذكرنا قوله من الصحابة الثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض ، وتقدير المهر ، ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق ، وإذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته ، وكان ذلك توقيفا .
وأما الأثر : فقد نقله الجصاص وغيره عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب .
وأما المعنى : فمن وجهين :
أحدها : ما ذكره الجصاص بقوله : قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق ؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق ، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر يوم النحر ، وقال قائلون : إلى آخر أيام التشريق ، وقلنا نحن : يومان بعده وجب أن نوجد فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها .
الثاني : ما ذكره الباجي بقوله : هو يوم مشروع النفر قبله فلم يكن من أيام
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 291)
الذبح كالخامس .
القول الثاني : أن وقت الذبح ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق .(2/435)
وبهذا قال الشافعي : واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم من أهل العلم ، قال الشافعي : والأضحية جائزة يوم النحر وأيام منى كلها . وقال المرداوي في [الإنصاف] : قال في [الإيضاح] : آخره آخر يوم من أيام التشريق ، واختاره ابن عبدوس في [تذكرته] بأن آخره آخر اليوم الثالث من أيام التشريق واختاره الشيخ تقي الدين قاله في [الاختيارات] وجزم به ابن رزين في [نهايته] . والظاهر أنه مراد صاحب [النهاية] فإن كلامه محتمل .
وقال ابن القيم في [زاد المعاد] : وهو مذهب إمام أهل الهجرة الحسن وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله ، واختاره ابن المنذر .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى .
أما الكتاب : فقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الآية .
وجه الدلالة : أن المراد بالمعلومات أيام النحر ، يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، واستدلوا لهذا التوجيه بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 203 وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الآية .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 292)
قال ابن القيم رحمه الله : هذه الأيام الثلاثة تختص بأنها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق ، ويحرم صيامها فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع ؟ !
وأما السنة : فقد استدلوا بأدلة :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه يوم النحر ضحى .(2/436)
وجه الدلالة : ما ذكره الشافعي بقوله : فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقا لليومين قبله ؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما .
الثاني : ما رواه سليمان بن أبي موسى ، عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مسند أحمد بن حنبل (4/82). كل عرفات موقف ، وارتفعوا عن عرنة ، وكل مزدلفة موقف ، وارتفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح .
وهذا نص في الدلالة أن كل أيام النحر بأنها ثلاثة بعد العيد .
وأجيب عن هذا الحديث : بما نقله الرازي عن الإمام أحمد : أنه قال جوابا لمن سأله عن هذا الحديث قال : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم ، وأكثر روايته عنه سهو .
قال الرازي : وقد قيل : إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح ، وعطاء يسمع قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879). كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه : " وكل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 293)
أيام التشريق ذبح " ، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه ؛ لأنه لم يذكره .
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله : وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مسند أحمد بن حنبل (4/82). كل منى منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ، وروي من حديث جبير بن مطعم ، وفيه انقطاع ، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان : أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون . انتهى .(2/437)
وقد تكلم الزيلعي على هذا الحديث في [نصب الراية] فقال : رواه أحمد في [مسنده] وابن حبان في [صحيحه] في النوع الثالث والأربعين من القسم الثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مسند أحمد بن حنبل (4/82). كل أيام التشريق ذبح ، وعرفة كلها موقف إلى آخره ، وقد ذكرناه بتمامه في الحج ، ورواه البزار في [مسنده] وقال : ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم ، ورواه البيهقي في [المعرفة] ، ولم يذكر فيه انقطاعا ، وأخرجه الدارقطني في [سننه] عن أبي معيد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار عن جبير بن مطعم مرفوعا ، وأبو معيد بمثناة فيه لين ، وأخرجه هو والبزار عن سويد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا ، قال البزار : لا نعلم قال فيه عن نافع بن جبير عن أبيه إلا سويد بن عبد العزيز ، وهو ليس بالحافظ ، ولا يحتج به إذا انفرد ، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب ، مع أن ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم . انتهى .
وأخرجه أحمد أيضا والبيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 294)
مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال البيهقي : وسليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم ، وأخرج ابن عدي في [الكامل] عن معاوية بن يحيى الصدفي عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيام التشريق كلها ذبح انتهى .
وضعف معاوية بن يحيى عن النسائي والسعدي وابن معين وعلي بن المديني ووافقهم ، وقال ابن أبي حاتم في [كتاب العلل] قال أبي : هذا حديث موضوع بهذا الإسناد . انتهى . وقيل : معاوية محمد بن شعيب .
وأما الأثر : فقد أخرج البيهقي عدة آثار في ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى ، وذكر ابن قدامة أنه مروي عن علي .(2/438)
وأما المعنى : فإنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين ، ذكر ذلك ابن قدامة .
وأما ما عدا هذين القولين من الأقوال فقد تركنا ذكرها ؛ لعدم جدوى البحث فيها ، فإنها أقوال مبنية على مدارك اجتهادية ولا محل للاجتهاد مع الأدلة ، قال ابن عبد البر : ولا يصح عندي في هذا إلا قولان . أحدهما : قول مالك والكوفيين ، والثاني : قول الشافعي والشاميين ، وهذان القولان مرويان عن الصحابة ، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة وما خرج عن هذين فمتروك . انتهى المقصود . بواسطة نقل القرطبي عنه في [جامعه] .(2/439)
ثالثا : ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة :
اختلف أهل العلم في جواز الذبح ليلا : فمنهم من يرى أنه لا يجوز ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 295)
ومنهم من قال بجوازه .
وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة :
القول الأول : لا يجوز الذبح ليلا .
وممن قال به مالك وأصحابه إلا أشهب ، وهو رواية عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي ، قال الباجي : ولا يجوز نحر الهدي ليلا ، وعلى هذا قول مالك وأصحابه ، إلا أشهب فقد روى عنه ابن الحارث أنه يجوز نحر الهدي أو ذبحه ليلا ، وقال ابن قدامة : ولا يجزئ- أي : الذبح- في ليلتهما في قول الخرقي ، قال : واختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق ففيه لا يجزئ نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الأثرم .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
وجه الدلالة : قد يقال : إن الله ذكره بلفظ الأيام وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك . ومن وجه آخر قال الباجي : إن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرعية لا طريق له غير ذلك ، فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص ؛ كقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ وبنحر النبي صلى الله عليه وسلم وذبحه أضحيته نهارا علمنا جواز ذلك نهارا ، ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل .
وقد طلبنا في الشرع فلم نجد دليلا ، ولو كان لوجدناه مع البحث
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 296)
والطلب ، فهذا من باب الاستدلال بعدم الدليل فيما تتوقف شرعيته على وجود الدليل .(2/440)
وأجاب ابن حزم عن هذا الاستدلال بقوله : هذا إيهام منهم يمقت الله عليه ؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحا ولا تضحية ولا نحرا ، لا في نهار ولا في ليل ، إنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات ، أفترى يحرم ذكره في لياليه إن هذا لعجب! ومعاذ الله من هذا ، وليس هذا النص بمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل ونهار في العام كله ، ولا يختلفون فيمن حلف ألا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك مع النهار .
وأما السنة : فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الذبح ليلا .
وهذا نص في الدلالة على عدم جواز الذبح ليلا .
وقد أجاب عنه ابن حزم بقوله : وذكروا حديثا لا يصح رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالليل وبقية ليس بالقوي ، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدا ثم هو مرسل . انتهى كلام ابن حزم . وقال ابن حجر في مبشر بن عبيد : هو متروك .
ويجاب عن ذلك : بأن البيهقي أخرج في [سننه] حديثا فيه النهي عن الذبح ليلا قال : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا الحسن بن علي بن عفار ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا حفص بن عياش عن شيث بن عبد الملك عن الحسن قال : نهى عن جذاذ الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 297)
وأجاب عنه البيهقي بقوله : إنما كان ذلك من شدة حال الناس كان الرجل يفعله ليلا فنهى عنه ثم رخص في ذلك .
وأما المعنى : فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة :
أحدهما : أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر .(2/441)
الثاني : أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود . وأجاب ابن حزم عن الدليل الأول فقال : هذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا من عين الباطل ؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية وما قبله ليس وقتا للتضحية ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد ابيضاضها وارتفاعها وقت واسع من يوم النحر لا يجوز فيه التضحية ، فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم ، وما نعلم أحدا من السلف قبل مالك منع من التضحية ليلا .
القول الثاني : أنه يجوز الذبح ليلا بمنى :
قال ذلك أبو حنيفة ، وروي عن مالك : إن فعل ذلك أجزأه ، وقال به أشهب من المالكية ، والشافعي ، وهو رواية عن أحمد ، وقول أكثر الصحابة ، وبه قال ابن حزم ، قال الباجي نقلا عن القاضي أبي الحسن : وقد روي عن مالك فيمن فعل ذلك أجزأه ، ونقل الباجي القول عن أشهب فيه : أنه يجوز الذبح ليلا ، وقال الشافعي رحمه الله : ويذبح في الليل والنهار ، وإنما أكره ذبح الليل لئلا يخطئ رجل في الذبح ، أو لا يوجد مساكين حاضرون ، فأما إذا أصاب الذبح ووجد مساكين فسواء .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 298)
وقال النووي مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام ، لكن يكره ليلا ، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور ، وهو الأصح عن أحمد .
وقال ابن قدامة بعد ذكره لرأى الخرقي : وقال غيره من أصحابنا : يجوز ليلتي يومي التشريق الأوليين ، وهو أكثر الفقهاء ، وقال في الشرح ، وروي عن أحمد : أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون ، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه ، انتهى كلامه .
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى :(2/442)
أما الكتاب : فقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
وجه الدلالة : يمكن أن يقال : إن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن حمل الآية على ظاهرها ، وهو أنها تتناول الأيام دون الليالي أحوط من حملها على تناول الليل والنهار .
وأما المعنى : فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة :
أحدهما : أن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح ، فجاز الذبح فيهما كالأيام .
الثاني : أن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار .(2/443)
رابعا : مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة :
لم نطلع على كلام أحد من أهل العلم ، أن هدي التمتع والقران يجوز ذبحه خارج الحرم ، ولم يرد في القرآن ، ولم نطلع على شيء من السنة يدل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 299)
على جواز ذبحه خارج الحرم ، وقد جاءت أدلة من القرآن ، خاصة في غير هدي التمتع والقران وجاءت آية دالة بعمومها على محل هدي التمتع والقران ، وجاءت أدلة من السنة تدل على ذبحه في أي موضع من الحرم .
وفيما يلي بيان هذه الأدلة :
قال تعالى في المحصر : سورة البقرة الآية 196 وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وفسر محله بأنه الحرم عند القدرة على إيصاله ، وقوله تعالى في جزاء الصيد : سورة المائدة الآية 95 هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ومعلوم أنه لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، وقال : سورة الحج الآية 33 ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
وهذا عام في الهدايا ، ومنها هدي التمتع والقران .
وأما الأحاديث فقد روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879). كل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر .
ولتمام الفائدة نورد ما ذكره الزيلعي على هذا الحديث قال : روي من حديث جابر ومن حديث أبي هريرة ، فحديث جابر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879). كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر انتهى بلفظ أبي داود ، ومثله لفظ ابن ماجه .
إلا أن فيه تقديما وتأخيرا ، ولاختلاف لفظهما فرقهما ابن عساكر في موضعين من ترجمة عطاء عن جابر في أطرافه فجعلها حديثين وليس
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 300)(2/444)
بجيد ، والصواب : ما فعله شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه ، فإنه ذكره في ترجمة واحدة ، والشيخ زكي الدين المنذري قلد ابن عساكر فلم يعزه في [مختصر السنن] لابن ماجه ، والله أعلم .
وأسامة بن زيد الليثي قال في [التنقيح] : روى له مسلم متابعة فيما أرى ، ووثقه ابن معين في روايته ، انتهى . فالحديث حسن . واعلم أن بعض الحديث في مسلم أخرجه عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم الحج (1218),مسند أحمد بن حنبل (3/321). نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود في الصوم ، عن محمد بن المنكدر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سنن الترمذي الصوم (697),سنن أبو داود الصوم (2324),سنن ابن ماجه الصيام (1660). وفطركم يوم تفطرون ، وأضحاكم يوم تضحون ، وكل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل جمع موقف انتهى .
قال المنذري في [مختصره] : قال ابن معين : محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : أبو زرعة لم يلق أبا هريرة ، انتهى .
ورواه البزار في [مسنده] وقال : محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة . انتهى .
وروى الواقدي في كتاب [المغازي] : حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمرة القضية- وهديه عند المروة - : مسند أحمد بن حنبل (1/98). هذا المنحر ، وكل فجاج مكة منحر فنحر عند المروة ، انتهى كلام الزيلعي .
وقال ابن حجر في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي مولاهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 301)
أبو إسماعيل المدني : ضعيف من السابعة ، روى له أبو داود والترمذي والنسائي .(2/445)
خامسا : حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة :
دل الكتاب والسنة والإجماع وسد الذرائع على أنه لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته :
أما الكتاب : فقوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
وجه الدلالة : أن الله جل وعلا أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه ، فإذا لم يجد هديا أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام ، ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام ، ولا بدلا عن الصيام عند العجز عنه وما كان ربك نسيا ، وقد بين الله ما يجب على المريض إذا عجز مطلقا عن الصيام من الإطعام- بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 184 وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
وإذا كان قادرا على القضاء فقد بين حكمه بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 185 وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وبين في كفارة اليمين : أنه يجب العتق أو الإطعام أو الكسوة ، وعند العجز يصوم ثلاثة أيام متتاليات ، وبين في كفارة من أصيب بمرض أو أذى في رأسه واحتاج إلى ارتكاب محظور ؛ ليتخلص مما أصيب به- بقوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 302)
وقال في كفارة القتل خطأ : سورة النساء الآية 92 وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ إلى أن قال : سورة النساء الآية 92 فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ(2/446)
وقال في كفارة الظهار : سورة المجادلة الآية 3 وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ سورة المجادلة الآية 4 فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا الآية .
وأما السنة : فإن أدلتها في هذا الموضوع متفقة مع القرآن .
وأما الإجماع : فإن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين أخذوا بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن ، فإذا لم يجد هديا أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام : ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، ومن قال بالتصدق فإنه يطالب بدليل يخالف ذلك .
وأما سد الذرائع : فإنه لو أجيز القول بالاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته- لأدى ذلك إلى التوسع في أبواب الشريعة ، فمثلا يقال : تخرج نفقة الحج بدلا من الحج نظرا لصعوبته في هذا العصر .
وهناك شبه قد يتعلق بها من تسول له نفسه القول بالجواز نذكرها فيما يلي ، ثم نتبع كل شبهة بجوابها .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 303)
الشبهة الأولى : قد يقال بالجواز نظرا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر مع بقاء المفسدة على حالها ، بل وربما زادت مع تزايد عدد الحجاج .
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بأمور :
أحدها : أن سوء تطبيق الناس لأمر كلفوا به لا يجوز نقلهم عنه إلى أمر لم يشرع لهم بدعوى أنه يسهل عليهم تطبيقه ، بل يجب السعي في تسهيل الذبح عليهم وحسن تطبيقه .(2/447)
الثاني : أن هذا حكم مبني على مصلحة ملغاة ، وقد قرر العلماء على أن المصالح ثلاثة أقسام : مصلحة معتبرة فيعمل بها بالإجماع ، ومصلحة ملغاة فلا يعمل بها بالإجماع ، ومصلحة مرسلة ، وفي العمل بها خلاف ، والمصلحة المذكورة هنا مصلحة ملغاة ، فإن الشرع لم يعتبرها بعد ذكره للهدي ، وفي حالة عدم القدرة عليه أو على ثمنه ينتقل إلى الصيام .
الثالث : أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم ، وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني ، قال تعالى : سورة الحج الآية 37 لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول .
الشبهة الثانية : ما يجري عليه بعض الحجاج من تسليم ثمن الهدي الواجب عليهم للمطوفين وعمالهم بأنفسهم بصفة التوكيل حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم ؛ لتعذر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 304)
ذلك عليهم ، وخوف الهلاك من ممدة الازدحام أو المشقة والحرج .
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الأولى ، ويضاف إلى ذلك أن الحاج إذا وكل شخصا يشتري عنه هديا ويذبحه ويوزعه على المستحقين على الصفة الشرعية- فقد خرج بذلك عن عهدة الهدي ، وصارت العهدة على من صار وكيلا للقيام بالشراء والذبح والتصدق ، فإن هذا مما يجوز التوكيل فيه شرعا .
الشبهة الثالثة : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وبالتالي فإن هذا درء للمفاسد عن الأمة وجلب لمصالحها .
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ، ويضاف إلى ذلك :(2/448)
أولا : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، لكن لا يصح أن يقال : أن ذبح الهدايا مفسدة ، وأن درءها بما ذكروه من إلغاء هذه الشعيرة والتصدق بثمنها ؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة : أن المفاسد درجات ، وأن المصالح درجات ، وأنه يجوز تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ، وارتكاب أخف المفسدتين لاجتناب كبراهما ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فيما ليس فيه دليل شرعي ، وفيما إذا كانت المفسدة أرجح من المصلحة وما نحن فيه ليس كذلك ، بل قام الدليل على خلافه ، والمصلحة أرجح مما ظن مفسدة بتحريف النصوص عن مواضعها ومقاصدها .
ثانيا : أن هذا يفتح باب تلاعب في الشريعة ، فلا يكون للنصوص قيمة ، وإنما القيمة لما يصدر من سفهاء العقول من تصورات يزعمون أنها مصالح
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 305)
تستحق أن تقدم على الأدلة .
ثالثا : أن النسك عبادة ، والعبادات مبنية على التوقيف ، فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه ، وكل تشريع مبني على التوقيف فإنه لا يدخله الاجتهاد ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا .
رابعا : أن من وجب عليه الهدي يجب عليه إيصاله إلى مستحقه ، كما في قوله تعالى : سورة الحج الآية 28 فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ وكذلك سائر ما يجب عليه من الحقوق ؛ كالزكاة والنذر والكفارات وغيرها .
خامسا : أن الشارع لم يمنع الذبح في أي محل من الحرم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الحج (1218). نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، وفجاج مكة طريق ومنحر فالحاج ينحره في أي موضع من فجاج مكة ويوزعه على الفقراء .(2/449)
سادسا : علاج مشكلة اللحوم في منى :
مشكلة اللحوم يمكن أن تعالج بالأمور الآتية :
الأول : الكشف على ما يباع للتأكد من صلاحيته هديا من حيث السن والسمن والسلامة من الأمراض وموانع الإجزاء ، وتوضع علامة يعرف بها أن هذه الذبيحة تجزئ وما عدا ذلك يمنع .
الثاني : التوسع في توعية الحجاج ببيان المجزئ وما لا يجزئ حتى لا يقدموا إلا على بصيرة .
الثالث : الإكثار من عدد المجازر في أماكن مختلفة من منى ، وفجاج مكة ، وإرشاد الناس إليها .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 306)
رابعا : تسهيل طريق الحصول على هذه اللحوم للفقراء ، وذلك بما يأتي :
أ- إيصاله إليهم إن أمكن .
2 - معاونتهم على إيصاله إلى منازلهم .
3 - التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم خارج الحرم ، ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء بلد المال إذا أعطى فقراء بلد المال حاجتهم ولم يوجد أحد يستحق ، فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة .
التوسع في التوكيل على ذبح الهدي بطرق منظمة تضمن مصلحة صاحب الهدي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة ، ويكون فيه أناس يشرفون من قبل الدولة على تطبيق ذلك .
هذا ما تيسر ذكره .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(2/450)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 307)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (43) وتاريخ 13 / 4 / 1396 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في النصف الأول من شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع (هدي التمتع والقران) في جدول أعمال الدورة الثامنة ، وإعداد بحث في ذلك ، فقد اطلعت الهيئة في الدورة الثامنة المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في وقت الذبح ومكانه ، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم .
وبعد تداول الرأي تقرر بالإجماع ما يلي :
1 - لا يجوز أن يستعاض عن ذبح هدي التمتع والقران بالتصدق بقيمته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على منع ذلك مع أن المقصود الأول من ذبح الهدي هو التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء ، كما قال تعالى : سورة الحج الآية 37 لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ؛ ولأن من القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع ، والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة فيقال- مثلا- : تخرج نفقة الحج بدلا من الحج لصعوبته في هذا العصر ، ولأن المصالح ثلاثة أقسام : مصلحة معتبرة بالإجماع ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 308)
ومصلحة ملغاة بالإجماع ، ومصلحة مرسلة ، والقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة ؛ لمعارضتها للأدلة ، فلا يجوز اعتبارها .(2/451)
2 - قرر المجلس بالأكثرية أن أيام الذبح أربعة : يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، ويجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ؛ لقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
فإن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح الهدي دل على أنه هدي القران والتمتع ؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال ، ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذبح هديه يوم العيد ، وكذلك ذبح هدي التمتع والقران عن نسائه يوم العيد ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه ذبح قبل يوم العيد ولا بعد أيام التشريق ، ولما روى سليمان بن موسى ، عن ابن أبي حسين ، عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مسند أحمد بن حنبل (4/82). كل عرفات موقف الحديث . . . إلى أن قال : مسند أحمد بن حنبل (4/82). وكل أيام التشريق ذبح .
قال ابن القيم رحمه الله روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر ، انتهى المقصود .
3 - لا يخصص الذبح بمنى ، بل يجوز الذبح في مكة ، وفي أي موضع من الحرم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879). كل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 309)
4 - ما ترك من اللحوم في المجازر فإن على الحكومة حفظه على وجه يحفظ نفعه حتى يوزع بين فقراء الحرم .(2/452)
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل : الجلد والعظام والصوف ، ونحو ذلك بما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه .
6 - ينبغي للحكومة- وفقها الله- أن تعنى بتكثير المجازر في منى ومكة وبقية الحرم على وجه يمكن الحجاج من ذبح هداياهم بيسر وسهولة ، وأن يستفيدوا من لحومها ما شاءوا .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن لي وجهة نظر لابتداء وانتهاء وقت ذبح هدي التمتع والقران ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع لي وجهة نظر بالنسبة لوقت ذبح هدي التمتع والقران(2/453)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 310)
وجهة نظر
لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع
إن وجهة نظري تتلخص في الملاحظات الآتية :
أولا : جاء في الصفحة الثالثة من البحث الاستدلال على تحديد وقت ذبح هدي التمتع والقران بالإطلاق في قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وبالتقييد في قوله تعالى : سورة الحج الآية 28 فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الآية ، ولا شك أن بعض أهل العلم استدل بهذا ، ولكن الأمانة العلمية تقتضي مناقشة هذا الاستدلال .
إذ يمكن مناقشته بما يلي :
إن كمال الآية المراد بها تقييد عموم قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وقوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ سورة الحج الآية 29 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الآية ، وقد ذكر جمع كثير من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء : أن المراد بالأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، فقد ذكر الجصاص في كتابه [أحكام القرآن] أنه روى عن ابن عباس بإسناد صحيح : أن المعلومات : العشر ، والمعدودات : أيام التشريق ، وهو قول الجمهور من التابعين منهم :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 311)
الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم ، وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : أن المعلومات : العشر ، والمعدودات : أيام التشريق [أحكام القرآن] (5 / 67) .(2/454)
وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال : الأيام المعلومات : أيام العشر كلها ، والمعدودات : أيام منى فقط . اهـ [أحكام القرآن] للشافعي ، جمع البيهقي (1 / 134) .
وقال النووي في [المجموع] : وأما الأيام المعلومات فمذهبنا : أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر . . . إلى أن قال : وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في [تفسيره] : قال أكثر المفسرين : الأيام المعلومات : هي عشر ذي الحجة . اهـ [المجموع] (8 / 295) .
فعلى هذا لا حجة في الآية على قول بتحديد وقت الذبح بيوم النحر وأيام التشريق ، بل قد يكون فيه دليل على القول بذبح هدي التمتع والقران في الأيام المعلومات التي هي العشر الأوائل من ذي الحجة ؛ لأن المقصود بذكر الله على بهيمة الأنعام في هذه الآية التسمية عند ذبحها ، وعلى القول الآخر لأهل العلم بأن المقصود بالمعلومات : يوم النحر وأيام التشريق فليس في الآية أمر صريح بتحديد وقت الذبح ، وإذا كان الدليل يفهم من ترتيب قضاء التفث على ذكر الله على بهيمة الأنعام- فإن هذا يعني بطلان أعمال الحج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة إذا فعل ذلك قبل الذبح أو النحر . ولا يخفى ما عليه إجماع أهل العلم قاطبة من أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 312)
الترتيب فيها مستحب ، وأنه لا حرج في تقديم واحد منها على الآخر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعض قال : صحيح البخاري العلم (124),صحيح مسلم الحج (1306),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),سنن ابن ماجه المناسك (3051),مسند أحمد بن حنبل (2/202),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907). افعل ولا حرج فدل ذلك على أن غاية الأمر أن يكون مفهوم الترتيب الاستحباب ، وبذلك ينتفي الاستدلال بالآية .(2/455)
ثانيا : جاء في الصفحة الثالثة من البحث مناقشة الجصاص الاعتراض على منع تقديم ذبح هدي التمتع والقران بإجازة الصوم الذي هو بدل عنه قبل يوم النحر ، وقد كانت مناقشة في حاجة إلى مناقشة بما يلي :
أ- جاء في قوله : إنه ثبت في السنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر .
ويرد على ذلك : بأنه لو كان الأمر كما ذكر من ثبوت امتناع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر بالسنة لما حصل الخلاف كما هو الحال في الأضحية ، فقد ثبت بالسنة بدء وقت ذبحها ، فانتفى الخلاف في ذلك .
والثابت بخصوص الهدي إنما هو في الهدي المسوق تطوعا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ، أما هدي المتعة والقران فإن القائلين بجواز ذبحه قبل يوم النحر يطالبون بالنص الصريح الثابت في امتناع ذبحه قبل يوم النحر من كتاب أو سنة ، بل إنهم يستدلون بهما على جواز ذلك .
ب- ما ذكر : بأن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان إلى آخر قوله) . هذا القول يمكن أن يقال في هدي المتعة . وأيضا فإذا وجد المعنيان إتمام الحج والعمرة صح الهدي عن المتعة ، وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون هدي متعة وصار هدي تطوع كصيام التطوع .
ج- قوله : بأن الهدي رتب عليه أفعال أخرى من حلق وقضاء تفث وطواف زيارة فلذلك اختص بيوم النحر . مناقشة ذلك ما مر في الملاحظة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 313)
الأولى .
ثالثا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث ما نصه : فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى ، ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ، ونحر أصحابه كذلك ، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة .
إن ذلك ممكن أن يناقش بما يلي :(2/456)
أ- إن المتتبع لجميع ألفاظ الأحاديث الواردة في البحث لا يجد فيها نصا على تحديد بدء وقت نحر هدي التمتع والقران بيوم الأضحى ، وإنما النص في بعضها على أن من ساق الهدي فلا يجوز له الإحلال حتى ينحر هديه ، ولا شك أن الهدي الذي ساقه صلى الله عليه وسلم وساقه بعض أصحابه ودخلوا به مكة في حجهم معه صلى الله عليه وسلم- هدي تطوع ، دخل فيه هدي التمتع أو القران ، فهو متصل به اتصال الجزء بكله بحيث لا يمكن فصله عنه .
ب- إن القول : بأن منها- أعني : الأحاديث الواردة في البحث- ما يدل مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه مناسكنا على بدء التحديد بيوم النحر- يرد عليه بإجماع الأمة على جواز ذبح هدي التمتع أو القران في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق ، وهو صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد وقال : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم فلو كان عموم قوله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم واردا على ذلك- لكان الذبح في أيام التشريق غير جائز للمخالفة ، وقد لا يمكن القول بأن العموم مخصص بقوله صلى الله عليه وسلم : مسند أحمد بن حنبل (4/82). وكل أيام التشريق ذبح فقد تكلم رجال الحديث في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 314)
هذه الزيادة بما لا يتسع المقام لذكره ، وبما يبطل الاستدلال به للتخصيص ، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم عام في جميع أفعال النسك من ركن وواجب ومستحب ، وفي قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تخصيص لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم .(2/457)
ج- إن ما نحره نفسه هو هديه الذي ساقه صلى الله عليه وسلم تطوعا ودخل به مكة محرما ، . وكان سوقه سبب امتناع عن الإحلال ، وأما نحره صلى الله عليه وسلم عن أزواجه في حجه فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك أضحية منه عنهن .
قال ابن حزم : ووجدنا ما رويناه من طريق مسلم ، نا أبو بكر بن أبي شيبة ، نا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : صحيح البخاري الحج (1694),صحيح مسلم الحج (1211). خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فقدمنا مكة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي وأهلي بالحج " قالت : ففعلت ، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني ، وخرج بي إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة ، وقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم . . . إلى أن قال : فإن قيل : قد صح أنه عليه السلام أهدى عن نسائه البقر ، قلنا : نعم ، وقد بين معنى ذلك الإهداء سفيان بن عيينة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أنه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 315)
كان أضاحي ، لا هدي متعة ، ولا هديا عن قران . اهـ [المحلى] (7 / 193 ، 194) . .
وعلى فرض أن ما ذبحه صلى الله عليه وسلم عن نسائه هدي تمتع أو قران فقد فعل الأفضل ، ولا شك أن الأفضل ذبح ذلك يوم العيد .(2/458)
د- وأما القول بأنه لم يعرف أحد من أصحابه نحر هدي تمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى- فإنه يمكن مناقشته : بأن عدم معرفة أحد من الصحابة نحر هديه قبل يوم الأضحى لا يعني منع ذلك ، ولا نفي أن أحدا من الصحابة فعله ، ثم إن الحديث الذي أخرجه الحاكم في [مستدركه] وذكر أنه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي - صريح في أن سعد بن أبي وقاص ذبح هديه قبل يوم النحر ، وقد أخرجه الطبراني في [الكبير] وذكر : أن رجاله ثقات ، وسيأتي مزيد من نقاش لهذا الحديث والاعتراض عليه بما في [مجمع الزوائد] عن عكرمة .
رابعا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج لذلك القول بالإجماع بما ذكره ابن عابدين ، ويمكن أن يناقش ذلك بما يلي :
لعل ابن عابدين رحمه الله يقصد بالإجماع : إجماع أهل مذهبه ، مع أن ابن قدامة رحمه الله نسب إلى أبي حنيفة القول بوجوب هدي التمتع بالإحرام بالحج ، وذلك في كتاب [المغني] كما نسب ذلك إليه ابن العربي في كتاب [أحكام القرآن] وابن مفلح في كتابه [الفروع] .
أما أن يقصد ابن عابدين إجماع الأمة على منع ذلك فبعيد جدا ؛ لوجود الخلاف القوي في المسألة بين العلماء من مالكيين ، وشافعيين ، وحنابلة ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 316)
وغيرهم ، ولأن مثل ابن عابدين لا يخفى عليه الخلاف في المسألة ، لا سيما وهو خلاف مشهور ، وعلى فرض أن ابن عابدين يقصد بالإجماع إجماع الأمة فما ذكره غير صحيح ، والخلاف في ذلك مشهور يعرفه الخاص والعام .
خامسا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج بالمعنى بما ذكره ابن قدامة رحمه الله بقوله : لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه . . . إلى آخره .
ويمكن نقاش ذلك بما ذكره ابن قدامة نفسه توجيها للقول بجواز تقديم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حيث قال :(2/459)
ووجه جوازه : أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام ، فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب ، واللباس ؛ ولأنه يجوز إبداله قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات . اهـ [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (3 / 505) .
وبما ذكره في توجيه رواية الوجوب بعد الإحرام بالحج بقوله ؛ لأن الله تعالى قال : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وهذا قد فعل ذلك ؛ ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف ، كقوله تعالى : سورة البقرة الآية 187 ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (3 / 503) . .
وبما ذكره الشافعي رحمه الله بقوله : وإذا ساق المتمتع الهدي معه أو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 317)
القارن لمتعته أو قرانه ، فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي ، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأ عنه من قبل أن على الناس فرضين : فرضا في الأبدان ، فلا يكون إلا بعد الوقت ، وفرضا في الأموال ، فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض ، اهـ [الأم] للشافعي (2 / 217) . .
وبما ذكره ابن رجب في [قواعده] قال : العبادات كلها- سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما- لا يجوز تقديمها على سبب الوجوب ، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب ، أو قبل شرط الوجوب ، ويتفرع على ذلك مسائل كثيرة ، وذكر منها ما ذكرتم قال : ومنها صيام التمتع والقران ، فإن سببه العمرة السابقة للحج في أشهره ، فبالشروع في إحرام العمرة قد وجد السبب فيجوز الصيام بعده ، وإن كان وجوبه متأخرا عن ذلك ، وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره ، ولنا رواية : أنه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر لمشقة حفظه عليه إلى يوم النحر . اهـ [القواعد] لابن رجب ص 6 ، 7 . .(2/460)
كما أنه يمكن مناقشة ما ذكره ابن قدامة رحمه الله من قياسه الهدي على الأضحية بما ذكره ابن مفلح في [الفروع] حيث قال : وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى . اهـ الفروع ، (2 / 249) .
سادسا : جاء في الصفحة التاسعة من البحث : اعتراض الرهوني على ما ذكره الأبي عن القاضي عياض في شرحه رواية مسلم : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 318)
حجهم . مع أن في الحديث حجة لمن يجيز للمتمتع نحر هديه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلى آخره ، حيث ذكر الرهوني أن لديه نسخة عتيقة مظنونا فيها الصحة ، وليس فيها جواز نحر هدي المتمتع بعد التحلل من العمرة ، وإنما ذكر فيها جواز تقليد الهدي قبل الإحرام بالحج إلى آخر ما ذكره الرهوني .
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي :
أ- إن عبارة القاضي عياض في جواز نحر الهدي قبل الإحرام بالحج قد تناقلها شيوخ كبار في مذهب الإمام مالك ، فقد نقلها عنه الأبي والسنوسي والدسوقي والبناني ومحمد عابد - فلم يعترض عليها واحد منهم ، بل احتج بها بعضهم على رد تأويلات بعض شراح مختصر خليل في قوله : وأجزأ- أي : دم التمتع- قبله- أي : قبل يوم النحر- حينما قال بعضهم : إن المقصود بذلك تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه .
ب- إن احتجاج الرهوني لدعواه التصحيف بما لديه من نسخة يدعي قدمها والوثوق بها- فيه نظر ، ولو سلم له احتجاجه لكان ذلك من أقصر الطرق لرد آراء العلماء وأقوالهم بإنكار نسبتها إليهم بالتصحيف فيما كتب عنهم ، ثم هل يمكن أن تكون نسخة الرهوني هي الصحيحة الثابتة دون ما عداها مما لدى شيوخه وشيوخهم ، إن العكس هو القريب الممكن المعقول .
ج- إن اللجنة أيدت دعوى التصحيف بما ذكره بأن اللخمي ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر ، وهذه الحجة ليست أكثر عجبا من سابقتها ، فإن عدم ذكر الشخص الشيء لا يعني نفيه من الوجود واللخمي(2/461)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 319)
كغيره من عباد الله ينطبق عليه القول : (علمت شيئا وغابت عنك أشياء) .
على أن المرء يقف حائرا في تكييف وجه الخلاف بين علماء المذهب المالكي في جواز تقليد الهدي وإشعاره بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلا أن يكون المراد بذلك مآل التقليد والإشعار ، وهو الذبح حسبما يفهم من التمثيل على جواز ذلك بقياسه على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة قبل الحول ، وأن ذلك مما تقتضيه السنة توسعة في جميع ذلك ، فإن اقتضاء السنة التوسعة على العباد لا يعني الحرج وإيجاد العسر والمشقة في رعاية الهدي المقلد والمشعر حتى يأتي يوم النحر ، فإن الحاج في شغل عنه بتهيئة أسباب حجه ، من زاد وراحلة وغير ذلك ، وإنما التوسعة عليه في إراحته من ملازمته ورعايته بذبحه بعد وجوبه ، ولا شك أن المتتبع بإنصاف لنصوصهم يقوى لديه الظن بأنهم يقصدون بذلك الذبح ؛ لما في جميع ذلك من التوسعة التي تقتضيها السنة .
د- إن الرهوني تعقب ما نقله الأبي عن المازري من قوله : مذهبنا : أن هدي التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه : فالصحيح والذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج . اهـ [إكمال إكمال المعلم] (3 / 451) . .
فقال : ليس فيه أن المراد بالجمهور جمهور أهل المذهب ، وقد تقدم : أن المراد بهذه العبارة حيث أطلقها أهل الخلاف الكبير : جمهور المجتهدين ، وإن كانت تشمل الإمام مالكا ، لكن لا تصريح بنسبة ذلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 320)
إليه . ا هـ [حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي مختصر خليل] (2 / 434) . .
وهذا ما يفرح به القائلون بتقديم ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر ، فلأن يكون هذا القول قول جمهور المجتهدين من علماء الإسلام أمثال الإمام مالك أحب إليهم من أن يكون قول جمهور المالكيين من أمثال الرهوني وأترابه .(2/462)
هـ- إن المتتبع لحواشي الرهوني يخرج من تتبعها بالحكم عليه بأنه ليس في مستوى قيادي في مذهبه يريد أن يقلل من شأن القول بجواز الذبح قبل يوم النحر بإنكار أن الجمهور القائلين به حسبما ذكره المازري جمهور المالكيين ، وإنما هم جمهور المجتهدين أمثال مالك وغيره ، وهذا تقوية للقول من حيث لا يدري مع أن المتتبع لقول المازري يخرج من تتبعه أنه يتحدث عن مذهبه وعن فقهاء مذهبه وأقوالهم ، مما يدل على أن ما ذكرنا في الرهوني وارد ، وإذا كان الرهوني على مستوى يسمح باعتباره إماما في مذهبه ومحققا ، وإذا كانت نسخته هي المظنون بها الصحة ، فكيف لنا تفسير نقله من نسخته ، هذه التي لم يجد غيرها في ذلك الوقت حسبما ذكر ، نقله آية من كتاب الله تعالى وأوردت خطأ دون أن يشير إلى تصحيحها ، فقد جاء في [حاشيته] ونقلته اللجنة عنه في السطر الثامن من الصفحة التاسعة من البحث ما نصه : ونصه : وقوله للمتمتعين : (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم التمتع . إن صحة الآية : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 321)
سابعا : جاء في الصفحتين العاشرة والحادية عشرة من البحث نقل طويل لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وفيه يشير إلى تغليط من يجيز على المذهب المالكي ذبح الهدي قبل الإحرام بالحج بعد أن أورد مجموعة نصوص لشراح [ مختصر خليل ] يؤولون قوله : وأجزأ بما قبله .
ويمكن مناقشة ما ذكره بعض شراح المختصر من التأويلات بما قاله الدسوقي بعد أن أورد قول بعضهم : إن المراد بذلك : تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه .(2/463)
قال : فيه نظر ، فقد قال الأبي في [ شرح مسلم ] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي : وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ما نصه : ( عياض ) في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد الإحلال بالعمرة وقبل الإحرام بالحج ، وهي إحدى الروايتين عندنا ، والأخرى : أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج ؛ لأنه بذلك يصير متمتعا ، وذكر بعضهم : أنه بعد الإحرام بالعمرة . اهـ .
وبه تعلم أنه يتعين صحة إبقاء كلام المصنف - أي : خليل - على ظاهره ، وسقوط تعقب الشراح عليه ، وتأويلهم له من غير داع لذلك . اهـ [ حاشية الدسوقي على شرح الدردير على مختصر خليل ] ( 2/ 27 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 322)
وقال الشيخ محمد عابد في شرح قول الماتن : ولا يجوز نحر هدي التمتع . قال : تبع في ذلك الحطاب في [ مناسكه ] والدردير وعبد الباقي على خليل عند قوله : وأجزأ قبله ، حيث قال كل منهم : أي : إشعاره وتقليده لا نحره إذ لم يقل به أحد ، وفي البناني ما يخالف ذلك ، وحاصل ما فيه : أنه أطبق كثير من شراح خليل على تأويل قوله : أجزأ قبله - أي : الإشعار والتقليد - محتجين بأنه لم يصرح أحد من أهل المذهب بأن نحر الهدي قبل الإحرام بالحج مجزئ ، وهو غير ظاهر ؛ لقول الأبي في [ شرح مسلم ] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي : وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ما نصه : عياض في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، ثم ساق بقية كلام القاضي ( عياض ) وكلام المازري عن طريق الأبي [ هداية المناسك ] . .(2/464)
ثامنا : جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الرواية عن الإمام أحمد بجواز ذبح هدي من قدم به مكة قبل العشر خشية ضياعه أو سرقته ، ويمكن نقاش ذلك بأن هذه المسألة خارجة عن موضوعنا ؛ لأنها خاصة فيمن قدم مكة ومعه هدي ، وموضوعنا خاص فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج فاستوجب الهدي أيذبحه بعد وجوبه أم يؤخر ذبحه حتى يوم النحر ؟
تاسعا : جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال على جواز الذبح قبل يوم النحر بآية : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 323)
بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص ، هو قوله تعالى : سورة الحج الآية 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ الآية .
وقد سبق مناقشة الاستدلال بهذه الآية في الملاحظة الأولى مما يغني عن إعادته .
عاشرا : جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث أبي الزبير عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدي ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم .
في هذا الحديث أمور ثلاثة يمكن أن تناقش بما يلي :
أ - التسليم بنفي التعارض بينه وبين الأحاديث الواردة في البحث ، إذ ليس فيها ما يدل بصريح العبارة على منع تقديم ذبح هدي التمتع أو القران على يوم النحر ، وقد سبقت مناقشة القول بدلالتها على المنع في الملاحظة الثالثة ، وعليه فإن دلالة الحديث على إجازة الذبح بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج - قد فهمها علماء كبار من رجال الحديث وشراحه ، أمثال : النووي والقاضي عياض والمازري والأبي والسنوسي وغيرهم .(2/465)
ب - إن القول : بأن المقصود بقول جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي . التحلل من الحج يرده مزيد التأمل والتدبر في نهاية الحديث ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم ، فلقد أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين أحرموا بالحج معه أن يحلوا منه إلى عمرة واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم على قوم ترددوا في الأخذ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 324)
بقوله وأمره . أما التحلل من الحج يوم العيد فإنه لا يكون بأمر ، وإنما يحصل بأفعال يفعلها الحاج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة ، وفضلا عن ذلك كله فإن راوي الحديث عن جابر - وهو : أبو الزبير - قد أبان المقصود من ذلك ، فقد ذكر أبو عبد الله الأبي في شرحه [ صحيح مسلم ] عند كلامه على حديث جابر ما نصه : ويعني بقوله حين أمرهم : يعني : إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع . اهـ .
إن القول : بأن في الحديث زيادة شاذة لمخالفتها ما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة ، وأن مدارها على محمد بن بكر البرساني - يمكن أن يناقش بما يلي :
1 - نفي الشذوذ في هذه الزيادة ، إذ هي لم تخالف غيرها من الروايات ، فليس هناك حديث صحيح ينص على بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر ، وإنما غاية ما في الأمر مفاهيم لا يجوز أن يحكم بها على زيادة من عدل رواها مسلم في [ صحيحه ] إذ الزيادة من العدل مقبولة .(2/466)
2 - إن القول : بأن مدار هذه الزيادة على محمد بن بكر البرساني غير صحيح ، فقد روى الإمام أحمد في [ مسنده ] هذا الحديث بكامل هذه الزيادة عن محمد بن بكر وروح بن عبادة القيسي فقال : حدثنا محمد بن بكر وروح قالا : حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : مسند أحمد بن حنبل (3/378). فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في البدنة وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم . اهـ [ مسند الإمام أحمد ] ( 3/ 378 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 325)
وروح هو : روح بن عبادة القيسي ، قال الحافظ ابن حجر : كان أحد الأئمة ، وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين ويعقوب بن شيبة وأبو عاصم وابن سعد والبزار ، وأثنى عليه أحمد وغيره ، وقال يعقوب بن شيبة : قلت لابن معين : زعموا أن ابن القطان كان يتكلم فيه فقال : باطل ما تكلم فيه . . إلى أن قال الحافظ : قلت : احتج به الأئمة كلهم . اهـ . [ هدي الساري ] ( 2/ 127 ) . .
وقال الحافظ ابن حجر في محمد بن بكر ما نصه : وثقه أبو داود والعجلي ، وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين : ثقة ، وقال أبو حاتم : شيخ محله الصدق . إلى آخر ما قال [ هدي الساري ] ( 2/ 159 ) . .(2/467)
وقال في [ تهذيب التهذيب ] : قال حنبل بن إسحاق عن أحمد : صالح الحديث ، وقال الدوري عن ابن معين : ثنا البرساني ، وكان والله ظريفا صاحب أدب ، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين : ثقة ، وقال أبو داود والعجلي : ثقة . قال الحافظ : وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال هو وابن سعد وآخرون : مات سنة ثلاث ومائتين ، زاد ابن سعد : بالبصرة في ذي الحجة وكان ثقة ، وذكر الحافظ أنه أجاب عن قول الذهبي في البرساني ، روى عن عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة في حديث بسرة في مس الذكر : أو أنثييه أو فرجه فرفع الزيادة ، وإنما هي من قول عروة قال : قد أوضحت ذلك في المدرج وذكرت فيه من شاركه في رفع هذه الزيادة لكن عن غير شيخه وبينت سبب الإدراج ومستنده [ تهذيب التهذيب ] ( 9/ 78 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 326)
3 - إن هذه الزيادة غير شاذة ، ففضلا عن أن محمد بن بكر لم ينفرد بها ، بل اشترك معه في روايتها عند أحمد روح بن عبادة وأنه ليس في الروايات الأخرى نص صريح في مخالفتها فقد تأيدت بما روى الحاكم في [ مستدركه ] والطبراني في [ الكبير ] من مسند أحمد بن حنبل (1/307). أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحلال من الحج وفسخه إلى عمرة إلا من ساق معه الهدي ، ثم قسم صلى الله عليه وسلم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه . وسيأتي مزيد نقاش لحديث الحاكم .(2/468)
ج - إن القول : بأن مسألة ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها لو كان فيها نص بالجواز ، يمكن نقاشه : بأن الهمم والدواعي تتوافر أيضا على نقل ما فيها من نصوص تقتضي المنع لو كانت هناك نصوص في ذلك ، وحيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح في منع ذلك ، وتعيين البدء بيوم النحر حتى يمكن أن يكون مخصصا لعموم قوله تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ - تعين الأخذ بعموم الآية ، مع ما هناك من أدلة أخرى تسند الجواز ، فمتى دخل الحاج في معنى التمتع وجب عليه الهدي ، واستقر في ذمته حتى يؤديه ؛ كاستقرار الكفارات في ذمة مستوجبها ، وكوجوب الدماء في ذمة من استوجبها .
الحادية عشرة : جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث الاستدلال للقائلين بجواز تقديم الذبح قبل يوم النحر بما ذكره الشيرازي . ولو أضيف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 327)
إليه ما ذكره الشافعي في [ الأم ] وابن قدامة في [ المغني ] وابن رجب في [ قواعده ] مما تقدم لنا ذكره في الملاحظة الخامسة - لكان ذلك من إيفاء البحث حقه . ومع ذلك فإن مناقشته بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص قد تقدم ردها بالمطالبة بالنص الصريح الثابت من كتاب أو سنة أو قول صحابي في تحديد بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر .
جاء في الصفحة السادسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بآية سورة البقرة الآية 187 ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ في أن التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام إلى آخره . من أن التمتع قد لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال فوات الوقوف بعرفة .
ويمكن نقاش ذلك : بأن هذا لا يمنع من لم يجد هديا أن يعدل إلى بدله وهو الصوم مع احتمال عدم التمكن من إكمال التمتع ، فإذا جاز ذلك في البدل جاز في المبدل عنه .(2/469)
الثانية عشرة : جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث الحاكم بما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] عن طريق عكرمة مولى ابن عباس ، وفيه : مسند أحمد بن حنبل (1/307). أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما يوم النحر في أصحابه وقال : " اذبحوهما لعمرتكم فإنها تجزئ إلى آخره . من أن رواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم .
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي : إن الروايتين لا يصلح أن تكون إحداهما مفسرة للأخرى ؛ لانتفاء الإجمال في رواية الحاكم ، فإنها صريحة في أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 328)(2/470)
النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنم في أصحابه بعد الإحلال من العمرة وقبل الوقوف بعرفة ، كما يتضح ذلك من سياق الحديث الذي لم تذكره اللجنة بتمامه . وتأسيسا عليه في النقاش فإنه يتعين ذكر نصه بتمامه . روى الحاكم في [ مستدركه ] قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ، ثنا حمد بن النضر بن عبد الوهاب ، ثنا يحيى بن أيوب ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن جابر بن عبد الله قال : صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6933),سنن النسائي مناسك الحج (2805),مسند أحمد بن حنبل (3/366). كثرت القالة من الناس : فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال ، فيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقام خطيبا فقال : " أبالله تعلموني أيها الناس ، فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ، ولحللت كما أحلوا ، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله ، ومن وجد هديا فلينحر " فكنا ننحر الجزور عن سبعة ، قال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما ، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اصرخ أيها الناس ، هل تدرون أي شهر هذا ؟ ! إلى آخر الحديث ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وأقره الذهبي على تصحيحه .
فقوله صلى الله عليه وسلم : " أبالله تعلموني أيها الناس " . . . إلى قوله : " ومن وجد هديا فلينحر " صريح في الأمر بالنحر في ذلك الوقت الذي ألقى فيه كلمته التوجيهية . وقول جابر : فكنا ننحر الجزور عن سبعة ، صريح في الامتثال(2/471)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 329)
لأمره صلى الله عليه وسلم يومئذ . وقول ابن عباس : مسند أحمد بن حنبل (1/307). إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه - بين أن ذلك هو زمن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من الحج وفسخه إلى عمرة ، ويؤيد ذلك روايتا مسلم وأحمد عن أبي الزبير عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم .
ورواية عكرمة عن ابن عباس صريحة في أن الغنم التي قسمها صلى الله عليه وسلم في أصحاب سعد كان يوم النحر .
وبذلك يتضح التعارض بين الروايتين ويتعين المصير إلى الترجيح .
وعليه فيمكننا ترجيح رواية الحاكم على رواية الإمام أحمد بالأمور الآتية :
أ - إن رواية الحاكم فيها قصة ، ورجال الحديث وحفاظه متفقون على أن القصة في الحديث من أدلة حفظه . قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض توجيهه القول بالأخذ بحديث عائشة في إنكارها على زيد بن أرقم بيعه بالعينة - قال : وأيضا فإن في الحديث قصة . وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ [ إعلام الموقعين ] ( 3/ 217 ) . .
ب - إن دلالة رواية الحاكم على أن سعد بن أبي وقاص ذبح تيسه بعد إحلاله من العمرة - مؤيدة برواية مسلم وأحمد عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم . قال أبو الزبير راوي الحديث عن جابر : ويعني بقوله : حين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 330)
أمرهم ، يعني : إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع . اهـ .
ج - إن رجال رواية الحاكم ثقات ، وعلى شرط مسلم ، كما ذكر ذلك الحاكم ، وأقره الذهبي ، وفيهم عطاء أفقه الناس في المناسك ، ومن أكثرهم علما وورعا وتقى . وقد روى صدرها عن جابر عطاء ومجاهد ، وروى عجزها عن ابن عباس عطاء .(2/472)
د - إن رواية الحاكم مؤيدة بما روى الطبراني عند الهيثمي في [ مجمع الزوائد ] في باب الخطب في الحج حيث قال : وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما ، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه ، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف ، فقام تحت يدي ناقته وكان رجلا صيتا ، فقال : " اصرخ : أيها الناس ، أتدرون أي شهر هذا ؟ ! . . . إلى آخره ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في [ الكبير ] ورجاله ثقات [ مجمع الزوائد ] ( 3/271 ) . ، فقد رتب رواية وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة وخطبته في الناس على رواية تقسيمه صلى الله عليه وسلم الغنم في أصحابه وإصابة سعد بن أبي وقاص تيسا منها وذبحه ، كما هو الحال في رواية الحاكم .
هـ - إن رواية الإمام أحمد التي فيها : قسم غنما يوم النحر في أصحابه . من طريق عكرمة مولى ابن عباس ، ولا يخفى ما لعطاء على عكرمة من الفضل والتقديم والثقة . فإن عكرمة وإن اعتبره بعض أهل العلم ، فيكفينا لرد الاحتجاج بروايته إذا عارضت رواية رجال ثقات أمثال عطاء وغيره ممن اعتبرهم أهل العلم ووثقوهم - يكفينا لذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 331)
كتابه [ ميزان الاعتدال ] حيث قال عن عكرمة ما يلي :
قال محمد بن سيرين : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ، ولكنه كذاب ، وقال ابن المسيب لمولاه برد : لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ، وقال وهيب : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ذكر عكرمة فقال : كذاب . وروى جرير عن يزيد بن أبي زيادة عن عبد الله بن الحارث قال : دخلت على علي بن عبد الله ، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له : ألا تتق الله ، فقال : إن هذا الخبيث يكذب على أبي . وقال ابن أبي ذئب : رأيت عكرمة وكان غير ثقة . وقال مطرف بن عبد الله : سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ولا رأى أن يروى عنه .(2/473)
قال أحمد بن حنبل : ما علمت أن مالكا حدث بشيء لعكرمة إلا في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة ، رواه عن ثور عن عكرمة . وقال محمد بن سعد : كان عكرمة كثير الحديث والعلم بحرا من البحور ، وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه ، وقال خالد بن خداش : شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه فقال : أحدثكم بحديث لم أحدث به قط ؛ لأني أكره أن ألقى الله ولم أحدث به . سمعت أيوب يحدث عن عكرمة أنه قال : إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به ، قلت - القائل الحافظ الذهبي - : ما أسوأها عبارة وأخبثها ، بل أنزله ليهدي به ويضل الفاسقين ، وقال قطر بن خليفة : قلت لعطاء : إن عكرمة يقول : قال ابن عباس : سبق الكتاب الخفين . فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : لا بأس بمسح الخفين وإن دخلت الغائط ، قال عطاء : والله إن كان بعضهم ليرى أن المسح على القدمين يجزئ ، وثبت عن أحمد بن حنبل أنه قال في عكرمة : كان يرى رأي الصفرية ، وقال ابن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 332)
المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري ، وقال عطاء : كان أباضيا . وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج . وقال يحيى بن بكير : قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب ، قال : فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا . إلى آخر ما ذكره [ ميزان الاعتدال ] ( 3/ 93 - 96 ) . .(2/474)
و - ما في رواية عكرمة من الإشكال في قوله : " اذبحوها لعمرتكم ، فإنها تجزئ " إذ ليس على العمرة دم ، والتمتع والقران لا يسمى أحدهما عمرة فما نوع هذه العمرة المستوجبة للدم ؟ ثم إن التعبير بلفظ : فإنها تجزئ ، تعبير رديء ركيك ساذج ينزه الأسلوب النبوي عن مستواه . إنه يشبه من يقدم لشخص جائع طعاما ثم يقول له : كله فإنه يرفع الجوع ويدفعه . اللهم إلا أن يكون الغرض من ذلك أنه قسم غنما رديئة لا يجزئ مثلها هديا فاعتبر لها حكما خاصا في الإجزاء كعناق خال البراء بن عازب . وهذا مما لا نستطيع اعتباره والقول به ، فمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفع وأعلى من أن يرتضي لربه نسائك رديئة يتقرب بها إليه . وقد تقرب صلى الله عليه وسلم لربه بهدي جزل بلغ مائة بدنة .
الثالثة عشرة : جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة ما ذكره الشيرازي من الأمر المعنوي في جواز الذبح قبل يوم النحر بأمور ثلاثة يمكن نقاش أحدها بنفي وجود النص الصريح المقتضي منع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حتى يقال بمصادمته للاجتهاد فضلا عن أن القول بالجواز مؤيد بالكتاب والسنة وعمل الصحابة ، وقد مر بسط ذلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 333)
مما يغني عن إعادته .
كما يمكن نقاش الأمر الثاني بما ذكره في الملاحظة الثانية .
ويمكن نقاش الأمر الثالث بأن ما يذكره ابن القيم - رحمه الله - أو غيره من أهل العلم لا يكون حجة حتى يستند قوله على ما يؤيده من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح . أما إذا كان قوله مجرد رأي فإنه رجل وغيره رجال .
الرابعة عشرة : جاء في الصفحة الثامنة عشرة من البحث نفي الفرق بين الأضحية والهدي في الوقت .(2/475)
ويمكن نقاش ذلك : بأنه قياس مع الفارق ، فالأضحية عبادة مستقلة جاء النص الصريح بتحديد بدء وقت جواز ذبحها ، وكاد الإجماع ينعقد على تحديد نهاية الوقت بنهاية اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق على خلاف بين أهل العلم ، أما الهدي الواجب للتمتع أو القران فليس عبادة مستقلة ، وإنما هو جزء من أعمال الحج لم يرد نص صريح من كتاب أو سنة بتحديد انتهاء وقته ، وقد جاء النص بوجوبه عند حصول التمتع ، قال تعالى : سورة البقرة الآية 196 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فقد وجب عليه الهدي واستقر في ذمته حتى يؤديه ، قال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر أن هدي التمتع يجب بالإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة - قال ما نصه :
وأما ذبحه ونحره بعد ذلك فلأن هذا الهدي قد بين الله تعالى أول وقت وجوبه ، ولم يحدد آخر وقت وجوبه بحد ، وما كان هكذا فهو دين باق أبدا حتى يؤدى ، والأمر به ثابت حتى يؤدى ، ومن خصه بوقت محدود فقد قال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 334)
على الله ما لم يقله عز وجل ، وهذا عظيم جدا . اهـ [ المحلى ] ( 7/ 155 ) . .
وقد رد بعض أهل العلم قياس هدي التمتع والقران على الأضحية أو هدي التطوع ، فقال ابن مفلح : وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى [ الفروع ] ( 2/ 249 ) . . ا هـ .
وقال النووي : ويخالف الأضحية ؛ لأنه منصوص على وقتها . اهـ [ المجموع ] ( 7/ 180 ) . .
الخامسة عشرة : جاء في الصفحة الثامنة عشرة الاحتجاج على تحديد وقت انتهاء الذبح باليوم الثاني من أيام التشريق بالإجماع بما ذكره الجصاص عن بعض الصحابة ، وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم .
ويمكن نقاش ذلك بأمرين :
أحدهما : أن المقصود بالذبح ذبح هدي التطوع والأضاحي لا ذبح هدي المتعة والقران ؛ لورود النص فيهما دون هدي المتعة والقران ولاختلافه عنهما .(2/476)
الثاني : استبعاد أن الجصاص يقصد بقوله : وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم ؛ انعقاد الإجماع على ذلك ، وعلى فرض أنه يقصد الإجماع فإن النقل عن بعض الصحابة في حكم مسألة لا يعني إجماع كل الصحابة على القول به حتى يرد النص بنفي الخلاف بينهم فيها ما لم تكن مبنية على نص صريح ثابت من كتاب أو سنة .
السادسة عشرة : جاء في الصفحة الثانية من البحث نقول عن الرملي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 335)
والفتوحي من الشافعية : بأن وقت ذبح الهدي محدود بوقت ذبح الأضحية على الصحيح ، وصحح ذلك النووي والرافعي .
ويمكن نقاش ذلك : بأن مقصود الرملي والنووي والرافعي بالهدي هو هدي التطوع .
وفيما يلي بعض النصوص في بيان ذلك :
قال النووي : ( فرع ) في وقت ذبح الأضحية والهدي المتطوع بهما والنذور ، فيدخل وقتهما إذا مضى قدر صلاة العيد وخطبتين معتدلتين بعد طلوع الشمس يوم النحر ، سواء صلى الإمام أو لم يصل ، وسواء صلى المضحي أو لم يصل ، ويبقى إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ، ويجوز في الليل لكنه مكروه . . . إلى أن قال : وأما الدماء الواجبة في الحج بسبب التمتع أو القران أو اللبس أو غير ذلك من فعل محظور أو ترك مأمور ، فوقتها من حين وجوبها بوجود سببها ، ولا تختص بيوم النحر ولا غيره . اهـ [ الإيضاح ] ص 375 ، 376 . .
وقال في موضع آخر : ووقت وجوب دم التمتع إذا أحرم بالحج ، فإذا وجب جازت إراقته ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات . اهـ . [ الإيضاح ] ص 522 . .
وقال الشربيني : وسيأتي في آخر الباب محرمات الإحرام على الصواب ما نصه : ووقته وقت الأضحية على الصحيح هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا المساق تقربا إلى الله تعالى فاعترضه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 336)(2/477)
هنا ، وفي [ الروضة ] و [ المجموع ] واعترض الأسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم الجبرانات والمحظورات ، وهذا لا يختص بزمان ، وهو المراد هنا ، وفي قوله : أولا ثم يذبح من معه هدي ، وعلى ما يساق تقربا إلى الله ، وهذا هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح ، وهو المذكور في آخر باب محرمات الإحرام فلم يتوارد الكلامان على محل واحد حتى يعد ذلك تناقضا . وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدي من [ الشرح الكبير ] فذكر : أن الهدي يقع على الكل ، وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم ، لكنه لم يفصح في [ المحرر ] عن المراد كما أفصح عنه في [ الكبير ] فظن المصنف - هو النووي - أن المسألة واحدة فاستدرك عليه ، وكيف يجيء الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد ؟ ! . اهـ [ مغني المحتاج ] ( 1/ 504 ) . .
وبهذا يتضح أن النووي والرافعي والرملي يقصدون بتوقيت ذبح الهدي بوقت الأضحية ما يساق هديا تقربا إلى الله تعالى على سبيل التطوع أو النذر ، أما هدي المتعة والقران فنصوصهم صريحة متضافرة على جواز ذبحها بعد وجوبها .
هذا ما تيسر إيراده ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(2/478)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 337)
مصادر ومراجع هذا البحث ( باب الهدي من كتاب الحج )
1 - المذهب الحنفي : [ أحكام القرآن ] للجصاص ، [ لباب المناسك ] للسندي ، [ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ] ، [ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ] ، [ المبسوط ] للسرخسي ، [ كتاب الآثار ] لأبي يوسف ، [ فتح القدير ] .
2 - المذهب المالكي : [ المدونة ] للإمام مالك ، [ المنتقى ] للباجي ، [ حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل ] ، [ أحكام القرآن ] للقرطبي ، [ أضواء البيان ] للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، [ شرح الرسالة ] لابن أبي زيد ، [ شرح الأبي على مسلم ] .
3 - المذهب الشافعي : [ الأم ] للشافعي ، [ شرح صحيح مسلم ] للنووي ، [ فتح الباري ] ، [ المجموع شرح المهذب ] ، [ الإيضاح ] للنووي ، [ المنهاج ] وشرحه [ مغني المحتاج ] ، [ الأشباه والنظائر ] للسيوطي ، [ أحكام القرآن ] للشافعي ، [ القرى لقاصد أم القرى ] للطبري .
4 - المذهب الحنبلي : [ تفسير ابن كثير ] ، [ المغني ] لابن قدامة ، [ الشرح الكبير ] لابن قدامة ، [ حاشية المقنع ] ، [ زاد المعاد ] لابن قدامة ، [ الإنصاف ] للمرداوي ، [ مسائل الإمام أحمد ] لابنه عبد الله ، [ القواعد ] لابن رجب ، [ الفروع ] لابن مفلح ، [ المحرر ] لمجد الدين أبي البركات ، [ تحفة الودود في أحكام المولود ] لابن قيم الجوزية ، [ القياس في الشرع الإسلامي ] .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 338)
5 - كتب أخرى : [ المحلى ] لابن حزم ، [ السنن الكبرى ] للبيهقي ، [ سنن الدارقطني ] ، [ نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ] للزيلعي ، [ التلخيص الحبير ] لابن حجر العسقلاني ، [ الدراية ] ، [ شرح معاني الآثار ] للطحاوي ، [ سنن أبي داود ] ، [ معالم السنن ] للخطابي ، [ بلوغ المرام ] لابن حجر العسقلاني .(2/479)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 339)
( 4 )
حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد
ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال
وحكم الرمي ليالي أيام التشريق
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 340)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 341)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد
ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال
وحكم الرمي ليالي أيام التشريق
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الخامس ، ص 19 - 50 ، عام 1405 هـ . :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في مدينة الرياض في المدة من 1/ 8/ 1392 هـ إلى 13/ 8/ 1392 هـ .
موضوع ( حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق . وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال . وحكم الرمي ليالي أيام التشريق ) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 342)
أما بعد : فهذا بحث في بيان حكم رمي جمرة العقبة ليلة النحر ، ورميها ليلة القر ، وتقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق ، والرمي في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر ، وبيان أدلة الترخيص للرعاة .
وطريقة البحث هي : تحرير محل الخلاف ، وذكر المذاهب ، وبعض القائلين بكل مذهب وبيان مآخذهم ، ومناقشة هذه المآخذ ، والمقارنة بينها على القدر الذي يسره الله جل وعلا وترك الترجيح لأصحاب السماحة والفضيلة أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء .(2/480)
وقد روعي في إعداد هذا البحث نسبة كل قول إلى من قال به مع ذكر المصدر الذي أخذ منه .
وسيكون في آخر البحث قائمة تشتمل على بيان كاف للمصادر التي أخذ منها حتى يتيسر الأمر لمن أراد الاطلاع عليها .
والله ولي التوفيق .(2/481)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 343)
رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد
ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
المسألة الأولى : حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد
القول الأول : اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها :
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز رميها بعد منتصف الليل من ليلة النحر ، وممن قال به الشافعي [ الأم ] ( 2/ 180 ) . ، وقال المرداوي [ الإنصاف ] ( 4/ 37 ) . : وهو الصحيح من المذهب مطلقا ، وقول أكثر الأصحاب ، وقال ابن قدامة [ المغني والشرح ] ( 3/ 49 ) . : وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد .
أدلة هذا المذهب :
الدليل الأول : عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سنن أبو داود المناسك (1942). ( أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم ، اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تعني : عندها . رواه أبو داود وسكت عنه . قال أبو حازم [ شروط الأئمة الخمسة ] ص 54 . : قال أبو داود في رسالته لأهل مكة : وليس في كتاب [ السنن ] الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ، وقال ابن كثير [ البداية والنهاية ] ( 5/ 182 ) . : انفرد به أبو داود ، وهو إسناد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 344)
جيد ، وقال ابن حجر [ الدراية في تخريج أحاديث الهداية ] ( 2/ 24 ) . : إسناده صحيح ، وقال ابن قدامة [ المغني والشرح ] ( 3/ 49 ) . : واحتج به أحمد .
وجه الدلالة : قال الشافعي [ الأم ] ( 2/ 180 ) . : وهذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة .
وقد اعترض على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ودلالته :(2/482)
أما الاعتراض عليه من جهة سنده : فإنه روي مرسلا وموصولا مسندا ، قال القرطبي [ تفسير القرطبي ] ( 3/ 625 ) . : روى معمر قال : أخبرني هشام بن عروة ، عن أبيه قال : مسند أحمد بن حنبل (6/291). أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة : أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها قال أبو عمر : اختلف على هشام في هذا الحديث ؛ فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا ، كما رواه معمر ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمر أم سلمة بذلك ) مسندا ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا ، وكلهم ثقاة . انتهى .
قال العراقي [ شرح ألفية العراقي ] ( 1/ 174 ) . : إذا اختلف الثقات في حديث فرواه بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فاختلف أهل الحديث هل الحكم لمن وصل أو لمن أرسل أو للأكثر أو للأحفظ ؟
على أربعة أقوال : أحدها : الحكم لمن وصل ، وهو الأظهر الصحيح ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 345)
كما صححه الخطيب ، وقال ابن الصلاح : إنه الصحيح في الفقه أصوله ، وقد اعتضد هذا الحديث بما رواه الخلال [ زاد المعاد ] ( 1/ 470 ) . بسنده عن سليمان بن داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أخبرتني أم سلمة قالت : قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى .
قال ابن القيم : قلت : سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني ، ويقال : ابن داود ، قال أبو زرعة عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء ، وقال عثمان بن سعيد : ضعيف . انتهى .(2/483)
قال ابن حجر [ تهذيب التهذيب ] ( 4/ 189 ، 190 ) . : قال فيه ابن حبان : سليمان بن داود الخولاني ، من أهل دمشق ثقة مأمون ، وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ ، ثم قال أيضا : قلت : أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب أنه صدوق . انتهى .
قال الخطيب البغدادي [ الكفاية في علم الرواية ] ص 107 . : إذا عدل جماعة رجلا وجرحه أقل عدد من المعدلين فإن الذي عليه جمهور العلماء : أن الحكم للجرح والعمل به أولى ، وقالت طائفة : بل الحكم للعدالة ، وهذا خطأ ؛ لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر ، ويقولون : عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره ، وقد اعتلت هذه الطائفة بأن كثرة المعدلين تقوي حالهم وتوجب العمل بخبرهم ، وقلة الجارحين تضعف خبرهم ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 346)
وهذا بعد ممن توهمه ؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك ، وقالوا : نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح ؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه . وقال أيضا : والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما .(2/484)
وقد أبطل ابن القيم - رحمه الله - حديث أم سلمة بما ثبت في [ الصحيحين ] عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : صحيح البخاري الحج (1597),صحيح مسلم الحج (1290),سنن النسائي مناسك الحج (3049),سنن ابن ماجه المناسك (3027),مسند أحمد بن حنبل (6/164),سنن الدارمي المناسك (1886). استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة : أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس ، وكانت امرأة ثبطة ، قالت : فأذن لها ، فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروح به [ زاد المعاد ] ( 1/470 ، 471 ) . .
وجه الدلالة : أن الحديث الصحيح يبين : أن نساءه غير سودة إنما دفعن معه .
وقد رد هذا الاستدلال بما رواه الدارقطني وغيره ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن النسائي مناسك الحج (3066). أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ، فيرمين الجمرة ، ثم تصبح في منزلها ، وكانت تصنع ذلك حتى ماتت .
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الرد فقال : يرده محمد بن حميد أحد رواته ، كذبه غير واحد ، ويرده أيضا : حديثها الذي في [ الصحيحين ] وقولها : ( وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 347)
وقد أورد على جواب ابن القيم : بأنه ثبت في [ صحيح مسلم ] عن أم حبيبة : صحيح مسلم الحج (1292),مسند أحمد بن حنبل (6/427),سنن الدارمي المناسك (1885). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل .
فأجاب عنه : بأنها من الضعفة التي قدمها صلى الله عليه وسلم .
ثم أورد ابن القيم اعتراضا فقال : فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس : مسند أحمد بن حنبل (1/320). أن النبي صلى الله عليه وسلم ( بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر ، فرموا الجمرة مع الفجر ) .(2/485)
فأجاب عنه بقوله : قيل : نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضا الإمام أحمد والترمذي وصححه : سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941). أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله ، وقال : " لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، ولفظ أحمد فيه : سنن أبو داود المناسك (1940),سنن ابن ماجه المناسك (3025),مسند أحمد بن حنبل (1/311). قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا ، من جمع - قال سفيان : بليل - فجعل يلطخ أفخاذنا ، ويقول : أي بني ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس لأنه أصح منه ، وفيه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس وهو محفوظ بذكر القصة فيه ، والحديث الآخر : إنما فيه : أنهم رموها مع الفجر . انتهى كلام ابن القيم .
وأما الاعتراض عليه من جهة متنه :
فقال ابن القيم : وأما حديث عائشة رضي الله عنها - سنن أبو داود المناسك (1942). أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني : عندها ، رواه أبو داود - فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره ، ومما يدل على إنكاره أن فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة ) وفي رواية : ( توافيه بمكة ، وكان يومها فأحب أن توافيه ) وهذا من المحال قطعا ، قال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 348)(2/486)
الأثرم : قال لي أبو عبد الله : حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة مسند أحمد بن حنبل (6/291). أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة لم يسنده غيره وهو خطأ ، وقال وكيع عن أبيه مرسلا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة أو نحو هذا ، وهذا أعجب ، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة ؟ ينكر ذلك ، قال : فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته ، فقال عن هشام عن أبيه ( أمرها أن توافي ) ليس ( توافيه ) قال : وبين ذين فرق ، قال : وقال لي يحيى : سل عبد الرحمن عنه ، فسألته ، فقال : هكذا سفيان عن هشام عن أبيه ، قال الخلال : سها الأثرم في حكايته عن وكيع ( توافيه ) وإنما قال وكيع : ( توافي منى ) وأصاب في قوله : ( توافي ) كما قال أصحابه وأخطأ في قوله : ( منى ) . انتهى المقصود .
فقد اعتمد ابن القيم - رحمه الله - في إنكار هذا الحديث على إنكار الإمام أحمد ، كما اعتمد عليه ابن التركماني [ الجوهر النقي على سنن البيهقي ] ( 5/ 132 ) . ، والطحاوي [ شرح معاني الآثار ] ( 2/ 221 ) . .
ولكن يرد استنكار الإمام أحمد - رحمه الله - لهذا الحديث قول ابن قدامة [ المغني والشرح الكبير ] ( 3/ 449 ) . - رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث : واحتج به أحمد . وقد سبق ذكر طائفة من أهل العلم بالحديث ورجاله أنهم صححوه ، واعتماد ابن القيم - رحمه الله - ، وكذلك الطحاوي وابن التركماني على استنكار الإمام أحمد غير صحيح فقد تبين أنه احتج به فبطل الأصل ، وببطلانه يبطل قول من اعتمد عليه . وصرح ابن حجر [ التلخيص الحبير ] ( 2/ 258 ) . في [ التلخيص الحبير ] بسلامته من الزيادة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 349)
التي استنكرها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ، أي : سلامة رواية أبي داود .
وأما الاعتراض على حديث أم سلمة من ناحية الدلالة فمن وجهين :(2/487)
أحدهما : أنه خاص بها .
قال الخطابي [ معالم السنن ] ( 2/ 405 ) . : وقال غيره - أي : الشافعي - إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمى قبل الفجر .
وقال الزرقاني [ شرح المواهب اللدنية ( 8/ 188 ) . : ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه صلى الله عليه وسلم ، وله أن يخص من شاء بما شاء .
ويجاب عن هذا : بأن القاعدة المقررة في علم الأصول : أن خطاب المواجهة يعم إلا إذا أول الدليل على الخصوص [ روضة الناظر ] ( 2/ 100 ، 101 ) . .
ويرد ذلك : بورود الأدلة الدالة على نهي ابن عباس وأمثاله عن الرمي قبل طلوع الشمس ، وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم ضحى مع قوله : سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم .
ويمكن أن يجاب عن هذا : بأن حديث عائشة محمول على الجواز ، وحديث ابن عباس محمول على الأفضل .
أو أن حديث ابن عباس محمول على غير أهل الأعذار ، وحديث عائشة محمول على أهل الأعذار .
الوجه الثاني : أن الرخصة لأم سلمة رضي الله عنها أن ترمي في الليل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 350)
عام في النساء فقط ، لكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن [ الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير ] للسياغي ( 3/ 53 ) . .
وقد يفهم تخصيص ذلك بالنساء من تصرف النسائي حيث ترجم هذه الترجمة ( الرخصة في ذلك للنساء ) وساق حديث عائشة ، وذلك بعد روايته لحديث ابن عباس الذي في ( النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ) .
وقال محمد شمس الحق العظيم أبادي [ عون المعبود ] ( 2/ 139 ) . : وهذا الحكم مختص بالنساء ، فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت ؛ لورود الأدلة بخلاف ذلك ، لكنه يجوز لمن ذهب معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن ، ويجري في هذا الوجه من المناقشة والمقارنة ما جرى في الوجه الذي قبله .(2/488)
الدليل الثاني : عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر صحيح البخاري الحج (1595),مسند أحمد بن حنبل (6/347). أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي فصلت ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، ثم حلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ فقلت : نعم ، قالت : ( فارتحلوا ) فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت : يا هنتاه ، ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني ، إن رسول الله قد أذن للظعن هذا لفظ البخاري ، وعن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال : إن مولاة أسماء بنت أبي بكر أخبرته قالت : موطأ مالك الحج (889). جئنا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 351)
مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما منى بغلس ، قالت : فقلت لها : لقد جئنا منى بغلس ، فقالت : ( كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك أخرجه مالك في [ الموطأ ] والنسائي في [ السنن ] .
وأخرج أبو داود : قال عطاء : أخبرني مخبر سنن أبو داود المناسك (1943). عن أسماء : أنها رمت الجمرة قلت : إنا رمينا الجمرة بليل ، قالت : ( إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أسماء رضي الله عنها : ( كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك ) و ( كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) له حكم الرفع ، كما هو مقرر في علم أصول الحديث [ شرح ألفية العراقي ] ( 1/ 128 ) . .
وجه الدلالة [ عون المعبود ] ( 2/ 139 ) . : في هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل [ الروض النضير ] ( 3/ 53 ) . ، وحد القبلية : نصف الليل بشهادة العرف وظاهره ، سواء كان ثمة عذر أم لا ، ولذلك قالت أسماء : كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطاب المواجهة يعم كما سبق ، وقد سبق في رواية البخاري ( قد أذن للظعن ) .(2/489)
وقد رد هذا الوجه : بأن أسماء إنما رمت بعد طلوع الفجر فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز رميها قبل طلوع الفجر .
قال ابن القيم [ تهذيب السنن ] ( 2/ 406 ) . : ليس في هذا - يعني : حديث أسماء - دليل على جواز رميها - أي : جمرة العقبة - بعد نصف الليل ، فإن القمر يتأخر في الليلة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 352)
العاشرة إلى قبيل الفجر ، وقد ذهبت أسماء بعد غيابه من مزدلفة إلى منى فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده فهي واقعة عليه ، ومع هذا فهي رخصة للظعن ، وإن دلت على تقدم الرمي فإنما تدل على الرمي بعد طلوع الفجر . انتهى .
وقال الطحاوي [ شرح معاني الآثار ] ( 2/ 216 - 218 ) . متعقبا الاستدلال بحديث أسماء على جواز الرمي بعد نصف الليل قال : فقد يحتمل - أي : قول مولى أسماء لها : قد غلسنا - أن يكون أراد التغليس في الدفع من مزدلفة ، ويجوز أن يكون أراد التغليس في الرمي ، فأخبرته أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في التغليس لما سألها عن التغليس به من ذلك ، وقال بعد ذلك في ( باب رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر ) قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث - أسماء أنها رمت ثم رجعت إلى منزلها فصلت الفجر ، فقلت لها : قد غلسنا ، فقالت : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للظعن ) فأخبرت : أن ما قد كان رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك للظعن هو الإفاضة من المزدلفة في وقت ما يصيرون إلى منى في حال مآلهم أن يصلوا صلاة الصبح . انتهى .
وتعقبه أيضا ابن كثير [ البداية والنهاية ] ( 5/ 182 ) . فقال : إن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس كما ذكر هاهنا عن توقيف فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس ؛ لأن إسناد حديثها أصح من إسناد حديثه ، اللهم إلا أن يقال : إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط ؛ فلهذا أمر الغلمان بألا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 353)(2/490)
يرموا قبل طلوع الشمس، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس؛ لأنهم أثقل حالا وأبلغ في التستر، وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف فحديث ابن عباس مقدم على فعلها، لكن يقوي الأول قول أبي داود . . . سنن أبو داود المناسك (1943). عن أسماء أنها رمت الجمرة بليل قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: (إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى كلام ابن كثير .
والغلس: - محركة- ظلمة آخر الليل [القاموس المحيط] (2/ 232). ، والليل والليلات من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو الشمس [القاموس المحيط] (4/ 48). . انتهى. وإذا كان رميها قد وقع قبل الفجر فتجري فيه المناقشة والمقارنة التي مضت في الجواب عن الاعتراض الثاني على حديث أم سلمة من جهة دلالته.
الدليل الثالث: القياس، ونصه: ولأنه وقت للدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس [المغني] لابن قدامة (3/ 449). .
ويجاب عن [بدائع الصنائع] (2/ 138). هذا: بأن أوقات المناسك لا تعرف قياسا.(2/491)
القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها .
وقال القرطبي [تفسير القرطبي] (3/ 5). : قال الإمام مالك : لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 354)
الفجر أعادها . انتهى كلام القرطبي .
وكذلك قال بالمنع أبو حنيفة وأصحابه [بدائع الصنائع] (2/ 137)، و [المغني والشرح] (3/ 449). .
واستدل لهذا القول بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: عن كريب عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله من صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، وأن لا يرموا الجمرة إلا مصبحين أخرجه البيهقي في [السنن الكبرى] والطحاوي في [شرح معاني الآثار].
وعن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل وقال: سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941). لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا أخرجه الطحاوي في [شرح معاني الآثار].
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن رمي جمرة العقبة إذا قدموا منى حتى يصبحوا [الروض النضير] (3/ 53). ، إذ المعنى: حتى تدخلوا في الصباح وهو يحصل بأول الفجر، ورد [الروض النضير] (3/ 54). هذا الاستدلال بأن اللفظ مطلق يدل على فرد شائع مما يحتمله اللفظ، ومن جملة ما تصح إرادته الوقت الذي بعد طلوع الشمس لدخوله في مطلق الإصباح فيكون مجملا، وقد بين بفعله صلى الله عليه وسلم حيث رماها ضحى، فكان هو المراد، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941). حتى تطلع الشمس لعدم التفاوت بين طلوعها ووقت الضحى الذي هو انبساطها وإشراق نورها إذ فيه تحقيق للبعدية. انتهى.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 355)
الدليل الثاني: وأما قول مالك رحمه الله: (لم يبلغنا) يعارض بما سبق في حديث أم سلمة وأسماء .(2/492)
القياس، وهو [المنتقى] للباجي (2/22) : أن النصف الآخر من الليل وقت الوقوف فلم يكن وقتا للرمي كالنصف الأول.
ويجاب عنه: بأن [بدائع الصنائع] (2/ 138) أوقات المناسك لا تعرف قياسا.(2/493)
القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهو قول النخعي والثوري [المغني والشرح] (3/ 449) ، واختيار ابن القيم زاد المعاد (1/ 471) .
واستدل لهذا القول بأدلة:
الدليل الأول: عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابرا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول. صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337). لتأخذوا مناسككم, فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه رواه مسلم .
وجه الدلالة: قال النووي [شرح النووي على صحيح مسلم] (9/ 43) : وأما قوله صلى الله عليه وسلم: صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337). لتأخذوا مناسككم فهذه اللام لام الأمر، ومعناه : خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي. مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، وهذا الحديث
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 356)
أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: صحيح البخاري أخبار الآحاد (6819),سنن الدارمي الصلاة (1253). صلوا كما رأيتموني أصلي انتهى.
الدليل الثاني: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941),سنن ابن ماجه المناسك (3025). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس . رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي [جامع الترمذي مع التحفة] (2/ 103) والنووي [المجموع شرح المهذب] (8/ 180) وابن القيم [زاد المعاد] (1/ 471) .(2/494)
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، وقد مضى إيراد ابن القيم على هذا الحديث ودفعه ومناقشته لحديث أم سلمة وأسماء .
الدليل الثالث: حديث أسماء المتفق عليه، وقد سبق، قال فيه: قالت: (يا بني هل غاب القمر؟) قلت: نعم، قالت: (فارتحلوا) فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: صحيح البخاري الحج (1595),صحيح مسلم الحج (1291),مسند أحمد بن حنبل (6/347). يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن اهـ.
وجه الدلالة: هذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس وهو بقية الظلام.
وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظعن، ومفهومه: أنه لم يأذن للذكور الأقوياء [أضواء البيان] (5/ 279) انتهى.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به للمذهب الأول.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 357)
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، وفيه: أنه كان يقدم ضعفة أهله وأن منهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (رخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وجه الدلالة [أضواء البيان] (5/ 279). : حديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس، كما ترى ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك.
وقد جمع ابن القيم بين أدلة هذا الباب فقال [زاد المعاد] (1/ 471). : لا تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم، وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق معه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك . انتهى.(2/495)
وبعد سرده للمذاهب في هذه المسألة قال [زاد المعاد] (1/ 472). : والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر؛ لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي [أضواء البيان] (5/ 280). : الذي يقتضي الدليل رجحانه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 358)
في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس؛ لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم - أعني: الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر- فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه. والقاعدة المقررة في علم الأصول هي : أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين وقت فضيلة ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز، وله وجه من النظر.
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس؛ لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور . انتهى المقصود.(2/496)
المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر
في هذه المسألة مذهبان:
المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها.
قال الطحاوي : وقال أبو حنيفة : إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 359)
النحر ثم رماها في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ [شرح معاني الآثار]، (1/ 415). .انتهى.
وقال الكاساني : فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأ، ولا شيء عليه في قول أصحابنا [بدائع الصنائع] (2/ 137). . انتهى.
هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وأما مذهب مالك فقد جاء في [المدونة]، [المدونة] (1/ 323). هذا النص: ما قول مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر حتى الليل؟ قال مالك : من أصابه مثل ما أصاب صفية حين احتبست على ابنة أخيها، فأتت بعد ما غابت الشمس فرمت، ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرهما في ذلك بشيء . . . قال مالك : وأما أنا فأرى على من كان في مثل حال صفية ولم يرم حتى غابت الشمس أن عليه الدم . . . قال مالك : من ترك رمي جمرة العقبة حتى تغيب الشمس فعليه دم.
قلت: أرأيت إن ترك بعض رمي جمرة العقبة من يوم النحر ترك حصاة أو حصاتين حتى غابت الشمس؟ قال: قال مالك : يرمي ما ترك من رميه ولا يستأنف جميع الرمي ولكن يرمي ما نسي من عدد الحصا، قلت: فهل عليه دم؟ قال ابن القاسم : قد اختلف قوله في هذا وأحب إلي أن يكون عليه دم .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 360)
قلت: فيرمي ليلا في قول مالك هذا الذي ترك من رمي جمرة العقبة شيئا أو ترك الجمرة كلها؟ قال: نعم، يرميها في قول مالك ليلا، قلت فيكون عليه الدم؟ قال: كان مالك مرة يرى ذلك عليه ومرة لا يرى ذلك عليه . انتهى.(2/497)
وأما المذهب الشافعي: فقد نص الشافعي [الأم] للشافعي (2/ 181) على أنه يرمي ليلا ولا شيء عليه، وقال النووي [الإيضاح] ص406 : لو ترك رمي جمرة العقبة فالأصح أنه يتداركه في الليل وفي أيام التشريق ويشترط فيه الترتيب فيقدمه على أيام التشريق، ويكون أداء على الأصح، وإذا قلنا بالأصح: إن المتدارك أداء لا قضاء كان تعجيل كل يوم للمقدار المأمور به وقت اختيار وفضيلة كأوقات الاختيار للصلاة . انتهى.
هذا ما تيسر تفصيله للمذاهب الثلاثة، فهم متفقون على رميها، لكن هل هو قضاء أو أداء، وهل فيه دم أو لا شيء فيه؟ بينهم خلاف كما سبق. واستدل لقولهم بجواز رميها بعد غروب الشمس بأدلة:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: "لا حرج"، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج " فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: " لا حرج رواه البخاري .
وقد بسط الشيخ محمد الأمين الشنقيطي [أضواء البيان] (5/ 281- 285). الكلام على هذا الدليل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 361)
فنسوق المقصود من كلامه: فقالوا: قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
ورد هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله: (بعدما أمسيت) يعني به:
بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل.
قالوا: والدليل الواضح على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى ) الحديث.
فتصريحه بقوله (يوم النحر) يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لأن الإمساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.(2/498)
قال ابن حجر في [فتح الباري] في شرح الحديث المذكور، قال: (رميت بعدما أمسيت) أي: بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام فلم يتعين؛ لكون الرمي المذكور كان بالليل. انتهى.
وقال ابن منظور في [لسان العرب]: المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل.
قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا.
وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة:
الأول: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291). "لا حرج بعد قول السائل: (رميت بعدما أمسيت)، يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 362)
ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار.
الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ما هو أعم من يوم النحر وهو صادق قطعا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيه لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق: (رميت بعدما أمسيت) لا ينصرف إلا إلى الليل؛ لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.(2/499)
قال أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه]: أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد- هو: ابن زريق- قال: حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول: "لا حرج "، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "لا حرج "، فقال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ قال: "لا حرج وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى؛ لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة معروف، وهو من رجال مسلم في [صحيحه]، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا، وقوله في هذا الحديث الصحيح: (أيام منى ) بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل . . . فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به، ويؤيد ذلك أن في رواية أبي داود وابن ماجه؛ لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 363)
فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور يريد بذلك. أنه لا يخصصه إذا كان متفقا معه في حكمه. ، سواء كان العام وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين.(2/500)
وللمخالفين القائلين: لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا: رواية النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول: صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291). "لا حرج وأنه صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050). سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: "لا حرج ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت؟ وعموم أيام منى صادق بيوم النحر، وقد بينت رواية البخاري : أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر أيام منى، ولا ينافي ذلك أنه قال: صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291). "لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى، وغاية ذلك أن أيام منى عام، ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه: (رميت بعدما أمسيت).
الثالث: هو ما قدمناه في [الموطأ] عن ابن عمر من أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز. انتهى.
وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر؛ لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها [أضواء البيان] (5/ 285- 288). . انتهى المقصود.
الدليل الثاني: عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن ابنة أخ لصفية بنت أبي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 364)(3/1)
عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرها عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا. رواه مالك في [الموطأ]، وابن أبي شيبة في [المصنف] وقد سبق بيان وجه الاستدلال منه.
الدليل الثالث: عن ابن جريج عن عمرو قال: أخبرني من رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ترمي غربت أو لم تغرب، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في [المصنف].
الدليل الرابع: ما رواه الثوري عن رجل عن نافع، قال: قال ابن عمر : (إذا نسيت رمي الجمرة يوم النحر إلى الليل فارمها بالليل، وإذا كان من الغد فنسيت الجمار حتى الليل فلا ترمي حتى يكون من الغد عند زوال الشمس ارم الأول فالأول)، ورواه عبيد الله عن نافع عن عمر مختصرا بلفظ: من نسي أيام الجمار وقال: رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد رواه البيهقي في [السنن الكبرى].
الدليل الخامس: عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراعي يرمي بالليل ويرمى بالنهار رواه البيهقي في [السنن] والطحاوي في [شرح معاني الآثار] [المنتقى] (3/ 51). ، وأورد على هذا الاستدلال بأنه رخص لهم للعذر.
وأجيب [بدائع الصنائع] (2/ 137). : بأنه ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكن أن يستنيب بعضهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 365)
بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر فيدل على الجواز مطلقا.(3/2)
المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال، وهذا مذهب أحمد والرواية الثانية عن الشافعي .
واستدل لهذا: بأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) وقد سبق أنه رواه البيهقي، وهذا الأثر معارض بما تقدم ذكره عن ابن عمر، ففيه فرق بين رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي غيرها، وهو الدليل الرابع من أدلة القائلين بجواز رميها في ليلة القدر.(3/3)
المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة :
وفيه مذاهب:
المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة، ومن رمى قبل الزوال أعاده، وممن ذهب إلى هذا مالك [المدونة] (2/ 183) ، والشافعي [الأم] (2/ 180) ، وهو الصحيح من مذهب أحمد [المغني والشرح] (3/ 476), و[الإنصاف] (4/ 45) .
ويستدل لهذا المذهب بما يأتي:
الدليل الأول: ما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر من حديث جابر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 366)
رضي الله عنه صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337). لتأخذوا عني مناسككم .
وقد مضى بيان معنى هذه الجملة وهو وجه الاستدلال من الحديث بصفة عامة، وأن هذه اللام لام الأمر، وقد [فتح الباري] (3/ 579) جاء في بعض الروايات التصريح بالأمر، وكونه صلى الله عليه وسلم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس في هذه الأيام الثلاثة. هذا بيان لوقت بدء الرمي، وهذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم . صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337). لتأخذوا عني مناسككم وقد تقرر في علم الأصول: أن البيان تابع للمبين في الحكم، والحكم هنا هو الأمر، والأمر في الأصل يقتضي الوجوب إلا بقرينة تصرفه عنه، فيكون الرمي بعد الزوال واجبا، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فلا يجوز الرمي قبل الزوال.(3/4)
ومن الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال: ما رواه جابر رضي الله عنه قال: صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896). رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال رواه مسلم في الصحيح، ورواه الترمذي والنسائي وأبو داود، وقال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح، وأخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم.
قال ابن حجر [فتح الباري] (3/579) : وقد وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر . اهـ .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها سنن أبو داود المناسك (1973),مسند أحمد بن حنبل (6/90). ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات الحديث رواه أحمد في [المسند]، وأبو داود والبيهقي في [السنن الكبرى]
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 367)
والحاكم في [المستدرك]، وابن حبان في [صحيحه].
الدليل الثاني: عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: (إذا رمى إمامك) فأعدت عليه المسألة قال: (كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا) أخرجه البخاري في [الصحيح].
ورواية مالك في [الموطأ] عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا ترمى الجمار حتى تزول الشمس. وجه الاستدلال قال ابن الأثير [جامع الأصول] (3/ 278). : (نتحين) تحينت الوقت، أي: طلبت الحين وهو الوقت. وقال ابن حجر [الفتح] (3/ 580) : فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .(3/5)
المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا : ونسب ابن حجر [الفتح] (3/ 580) والعيني [عمدة القاري] (10/ 86) هذا المذهب إلى عطاء وطاوس، ولكن بالنسبة لعطاء قد ورد عنه ما يدل على خلاف هذا المذهب المنسوب إليه، فقد روى الحاكم في [المستدرك] بسنده عن ابن جريج عن عطاء : أنه قال: (لا أرمي حتى تزيغ الشمس: إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر قبل الزوال، فأما بعد ذلك فعند الزوال قال الحاكم بعد سياق سنده ومتنه: هذا صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في تلخيصه.(3/6)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 368)
المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل، هذا بيانه مع المستند، وجوابه عن أدلة الجمهور.
قال الكاساني [بدائع الصنائع] (2/ 136, 137) : وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق، وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي- فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة : أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، فإن رمى قبله جاز.
ووجه هذه الرواية: أن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر، فكذا في اليوم الثاني والثالث " لأن الكل أيام النحر.
وجه الرواية المشهورة: ما روي عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896). رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، وهذا باب لا يعرف بالقياس، بل بالتوقيف. وأما وقت الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق- وهو اليوم الرابع من أيام الرمي- فالوقت المستحب له بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد : لا يجوز، واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896). رمى الجمرة يوم النحر ضحى، ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، وأوقات المناسك لا تعرف قياسا، فدل أن وقته بعد الزوال، ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 369)(3/7)
ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال (إذا انتفخ النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي)، والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث، أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب، ولأن له أن ينفر قبل الرمي، ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا، فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى . انتهى.
قال الزيلعي [نصب الراية] (3/85) : ورواية البيهقي عن ابن عباس (إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر) انتهى في [مسند طلحة بن عمر ] وضعفه البيهقي، قال: والانتفاخ: الارتفاع. انتهى.
وقال ابن منظور [لسان العرب] (4/ 31) : وانتفخ النهار علا قبل الانتصاف بساعة.
وقال البابرتي [العناية على الهداية] (2/ 185) : قوله في المشهور من الرواية احتراز عما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان من قصده أن يتعجل في النفر الأول- فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعده فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده فلا يجوز أن يرمي إلا بعد الزوال، وذلك لدفع الحرج؛ لأنه إذا نفر بعد الزوال لا يصل إلى مكة إلا بالليل فيحرج في تحصيل موضع المنزل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 370)
وقال ابن الهمام [فتح القدير] (2/ 185) : وقوله في المشهور من الرواية احتراز عما روي عن أبي حنيفة رحمه الله: قال: أحب إلي ألا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، فإن رمى قبل ذلك أجزأه.
وحمل المروي من قوله عليه السلام على اختيار الأفضل، وجه الظاهر: ما قدمناه من وجوب اتباع المنقول؛ لعدم المعقولية، ولم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك لينفتح باب التخفيف بالتقديم وهذه الزيادة يحتاج إليها أبو حنيفة وحده . انتهى.(3/8)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطى [أضواء البيان] (5/ 295) : بعد سياقه للأدلة الدالة على أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق، قال: وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه - كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك خالف في الترخيص أبا حنيفة صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله .(3/9)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 371)
المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها :
في هذه المسألة مذهبان:
المذهب الأول: الجواز. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية .
أما الحنفية : فقال السندي [لباب المناسك وشرحه المسلك في المنسك المتوسط] ص 161. : ( ولو لم يرم يوم النحر) أي: اليوم الأول أو (الثاني أو الثالث رماه في الليلة المقبلة) أي: الآتية لكل من الأيام الماضية (ولا شيء عليه سوى الإساءة) أي: لتركه السنة (إن لم يكن عذر) أي: ضرورة (ولو رمى ليلة الحادي عشر أو غيرها من غدها) أي: من أيامها المقبلة لم يصح؛ لأن الليالي (في الحج) أي: في حقه (في حكم الأيام الماضية لا المستقبلة) أي: فيجوز رمي اليوم الثاني من أيام النحر ليلة الثالث، ولا يجوز فيها رمي اليوم الثالث، كما أن الوقوف جائز في ليلة العاشر، ولا يجوز فيها من أفعال ذلك اليوم من الوقوف بمزدلفة والرمي ونحوهما (ولو لم يرم في الليل) أي: من ليالي أيامها الماضية أداء (رماه في النهار) أي: في نهار الأيام التالية على التأليف (قضاء) أي: اتفاقا (وعليه الكفارة) الدم عند الإمام ولا شيء عليه عندهما . انتهى.
وأما المالكية : ففي [المدونة] [المدونة] (1/ 323) قلت: فإن ترك رمي جمرة من الجمار في اليوم الذي بعد يوم النحر ما عليه في قول مالك؟ قال: قد اختلف قول مالك : مرة يقول: من نسي رمي الجمار حتى تغيب الشمس فليرم ولا شيء
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 372)
عليه، ومرة قال: ليرم وعليه دم، قال: وأحب إلي أن يكون عليه الدم، قلت: وكذلك اليوم الذي بعده؟ قال: نعم . انتهى.
وفي [الموطأ] [الموطأ مع المنتقى] (3/ 53). : قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي؟ قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا . انتهى المقصود.(3/10)
وفي [مختصر خليل وشرحه] للدردير [مختصر خليل وشرحه] للدردير (2/ 48). : (والليل) عقب كل يوم (قضاء) لذلك اليوم الذي يجب فيه الدم .
وقال الباجي [المنتقى] (3/ 51). بعد سياقه للدليل الدال على مشروعية الرمي بعد الزوال وكلامه عليه- قال: إذا ثبت ذلك فإن أول أداء الرمي لكل يوم من أيام التشريق زوال الشمس منه وآخره غروب الشمس، ووقت القضاء: من غروب الشمس إلى بقية أيام التشريق، الليل والنهار سواء في القضاء، يبين ذلك ما روي عن مالك في رمي رعاء الإبل الجمار أنهم لا يرمون اليوم الذي يلي يوم النحر إلا في اليوم الذي بعده " لأنه لا يقضي شيء حتى يجب، فإذا وجب ومضى كان القضاء بعد ذلك.
وأما الشافعية : فقال النووي [الإيضاح] ، ص 406. : إذا ترك شيئا من الرمي نهارا فالأصح أنه يتدراكه ليلا أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدا أو سهوا، وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء . انتهى المقصود .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 373)
وقال الرملي [ نهاية المحتاج ] ( 2/315 ) : وإذا ترك رمي يوم أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا تداركه في باقي الأيام منها في الأظهر بالنص في الرعاء وأهل السقايا وبالقياس في غيرهم، إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والمتدارك أداء كما مر، ولو تدارك قبل الزوال أو ليلا أجزأه، كما جزم به في الأول في أصل [الروضة] و [المجموع] و [المناسك] واقتضاه نص الشافعي رحمه الله، وبالثاني لابن الصباغ في [شامله] وابن الصلاح والمصنف في [مناسكهما]، وإن جزم ابن المقري تبعا لجمع بخلافه فيهما إذ جملة أيام الرمي كوقت واحد وكل يوم لرميه وقت اختيار، لكن لا يجوز تقديم رمي كل يوم عن زوال شمسه كما مر . انتهى.(3/11)
الأدلة: قد بنى الحنفية مذهبهم على الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا، وعندهم أنه ليس خاصا بهم، بل هو عام، كما سيأتي في الكلام على أدلة الرخصة للرعاة، وهي المسألة الخامسة.
وبنوه أيضا على أن الليلة في حكم اليوم الذي قبلها في الحج كما سبق عن السندي .
وأما المالكية : فأما مالك فإنه يقوله في الناسي فقط، حسبما اطلعنا عليه.
وقد بناه قياسا على من نسي صلاة أخذا من حديث: سنن الترمذي الصلاة (177),سنن النسائي المواقيت (615),سنن ابن ماجه الصلاة (698). من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها الحديث.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 374)
وأما الباجي ومن وافقه: فقد استدل بحديث الرعاء، وسيأتي في كلام الباجي مع بيان وجه الاستدلال به عند الكلام على أدلة الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا.
وأما الشافعية : فإنهم يقولون به بالنص للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس في غيرهم، وسيأتي الكلام على أحاديث الرخصة للرعاء ومناقشتها.
وأما أهل السقاية: فإن الرخصة التي وردت في حقهم هي الرخصة في المبيت لا الرخصة في الرمي هذا حسبما وقفنا عليه، وفي حالة عدم ثبوت دليل يدل على الرخصة لهم في الرمي فلا يصح القياس عليهم، وقد مضت مناقشة الاستدلال بالقياس في العبادات، ويمكن أن يستدل للقول بجواز الرمي ليلا عن اليوم الذي قبله- برواية النسائي التي سبقت، وقد جاء فيها: كان يسأل أيام منى، فسأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ قال: صحيح البخاري العلم (83),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),مسند أحمد بن حنبل (2/217),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907). ارم ولا حرج ، وقد مضى الكلام على هذا الدليل.
المذهب الثاني: ومن غربت عليه الشمس في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق وهو لم يرم الجمار لذلك اليوم فإنه يرميها من الغد بعد الزوال.(3/12)
وهذا مذهب أحمد ومن وافقه، واستدل به كذا بالأصل، ولعلها: (واستدل له). الناشر. ابن قدامة في [المغني] بقول ابن عمر رضي الله عنهما: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد. وقد مضى هذا الأثر.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 375)
قال المرداوي [الإنصاف] (4/ 37) : وقال ابن عقيل: نصه للرعاة خاصة الرمي ليلا، نقله ابن منصور . انتهى.(3/13)
المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي :
عن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069),سنن أبو داود المناسك (1975),سنن ابن ماجه المناسك (3037),موطأ مالك الحج (935),سنن الدارمي المناسك (1897). رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر ، هذا لفظ [الموطأ].
قال مالك : (تفسير ذلك فيما نرى- والله أعلم- أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، ويرمون لليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك " لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم في النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا) وأخرجه في [الموطأ].
قال الباجي [المنتقى] (3/ 51) : قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يقتضي أن هناك منعا خاصا هذا منه؛ لأن لفظة: رخصة لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر، وذلك أن للرعاء عذرا في الكون مع الظهر الذي لا بد من مراعاته والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد، وقد قال تعالى:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 376)
سورة النحل الآية 7 وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى . انتهى.
قال الكاساني [بدائع الصنائع] (2/ 137). : ولا يقال: إنه رخص لهم ذلك لعذر، لأنا نقول ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر، فيدل على الجواز مطلقا، فلا يجب الدم . انتهى المقصود.(3/14)
وقال الباجي [المنتقى] (3/ 51). : وقوله: يرمون يوم النحر: أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافة إلى غيره، ثم يرمون الغد يريد أنه يرمي لليومين، فقال: يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد، وهما أول أيام التشريق وثانيهما، ولم يذكر وقت الرمي، وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال؛ ولذلك جمع بينهما في اللفظ، فقال: ليومين، وقد فسر ذلك مالك على ما تقدم ذكره، وفي رواية الترمذي قال: أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما.
قال: قال مالك : ظننت أنه قال في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر، وفي أخرى له ولأبي داود والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي الحج (954),سنن أبو داود المناسك (1976),سنن ابن ماجه المناسك (3036),مسند أحمد بن حنبل (5/450). رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 377)
وفي أخرى للنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069),سنن ابن ماجه المناسك (3037). رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر، واليومين اللذين بعده يجمعونه في أحدهما .
قال ابن الأثير [جامع الأصول] (3/ 281، 282). : إسناد هذا الحديث في [الموطأ] عن أبي البداح عاصم بن عدي عن أبيه، وفي نسخة أخرى عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
وفي الترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، وقال: وقد روى مالك بن أنس عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه، قال الترمذي : ورواية مالك أصح.
وأخرجه أبو داود عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه، وأخرجه هو أيضا، والترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه الرواية الثانية.(3/15)
وأخرج النسائي مرة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، ومرة عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
قال صاحب [التحفة] [تحفة الأحوذي شرح الترمذي] (2/ 121). عند الكلام على رواية الترمذي (رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما) قال: يعني: يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق، ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر الأول، ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رميهم لليوم الثالث، وفيه تفسير ثان: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 378)
فاتهم، ثم يرمون عن ذلك اليوم، كما تقدم، وكلاهما جائز. كذا في النيل.
وقال صاحب [عون المعبود] [عون المعبود] (2/ 148). عند الكلام على رواية أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن أبو داود المناسك (1975),سنن ابن ماجه المناسك (3037),موطأ مالك الحج (935),سنن الدارمي المناسك (1897). رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين ويرمون يوم النفر قال: فظاهر الحديث أنهم يرمون بعد يوم النحر، وهو اليوم الحادي عشر لذلك اليوم، ولليوم الآتي وهو الثاني عشر ويجمعون بين رمي يومين بتقديم الرمي على يومه، وفي الترمذي والنسائي وغيرهما من هذا الوجه بلفظ: سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069). رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما، وهذا الظاهر خلاف ما فسره مالك لهذا الحديث.
ويدل لفهم الإمام مالك رواية سفيان الآتية بلفظ: سنن الترمذي الحج (954),سنن أبو داود المناسك (1976),سنن ابن ماجه المناسك (3036),مسند أحمد بن حنبل (5/450). رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما .(3/16)
قال الخطابي : أراد يوم النفر هاهنا النفر الكبير. انتهى المقصود.
قال أيضا [عون المعبود] (2/ 148). : وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمى فيه : فقال مالك : يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى، ويرمون ليومهم ذلك " وذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 379)
وقال الشافعي نحوا من قول مالك، وقال بعضهم: هم بالخيار؛ إن شاءوا قدموا، وإن شاءوا أخروا. انتهى.
وقد وردت أدلة تدل على أن الرعاء يرمون ليلا في ليالي أيام التشريق، فروى مالك في [الموطأ] عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح : أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل يقول: في الزمان الأول.
قال الباجي [المنتقى] (3/ 52). : إنما أبيح لهم؛ ذلك؛ لأنه أرفق بهم، وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل؛ لأن الليل وقت لا ترعى فيه الإبل ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت.
وقال ابن المواز : إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به، ويحتمل أيضا: أن يرموا على هذا في كل ليلة لاستغنائهم في ذلك الوقت عن حفظ الإبل على وجه الرعي، ويحتمل إن كان ذلك عليهم مشقة أن يكون رميهم بالليل على حكم رميهم بالنهار من الجمع.
وقال الباجي أيضا [المنتقى] (3/ 52) : وقوله: في الزمان الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول زمان هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل.
ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا متصلا.
وقال الزرقاني [شرح الزرقاني على الموطأ] (2/ 260). على قوله : (يقول: في الزمان الأول) أي: زمن الصحابة وبهم القدوة، وبهذا قال محمد بن المواز، وهو كما قال بعضهم: وفاقا للمذهب؛ لأنه إذا أرخص لهم في تأخير اليوم الثاني فرميهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 380)
بالليل أولى.(3/17)
وقال القرطبي [تفسير القرطبي] (3/ 5) ط/ دار إحياء التراث العربي. بعد سياقه لرواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء المتقدمة وكلام الباجي قال: (قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في [المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ]) . انتهى المقصود.
والحديث الذي أشار إليه القرطبي رواه الدارقطني [ سنن الدارقطني ] ( 2/ 276 ) بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم موطأ مالك الحج (936). رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأي ساعة من النهار شاءوا .
وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله [ نصب الراية ](3/86). : قال ابن القطان في كتابه: وإبراهيم بن يزيد هذا إن كان هو الخوزي فهو ضعيف، وإن كان غيره فلا يدرى من هو؟ وبكر بن بكار قال فيه ابن معين : ليس بالقوي، ودون بكر بن بكار جعفر بن محمد الشيرازي، لا خالد، قال: وروى البزار هذا الحديث عن ابن عمر بإسناد أحسن من هذا.
والحديث الذي أشار إليه ابن القطان : أن البزار رواه قد أخرجه الزيلعي [ نصب الراية ](3/86). فقال: وأما حديث ابن عمر فرواه البزار في [مسنده]. . . (عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم موطأ مالك الحج (936). رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل .
وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله [نصب الراية] (3/ 86). : قال ابن القطان : ومسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي ضعفه قوم، ووثقه آخرون. قال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 381)
البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث.
وقال ابن حجر [تلخيص الحبير] (2/ 263) : رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي . انتهى. وذكر الزيلعي [نصب الراية] (3/ 85, 86) : أن الطبراني رواه، وذكر الحديث بسند الطبراني .
وقال الهيثمي [مجمع الزوائد] (3/ 260) : رواه الطبراني في [الكبير] وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. انتهى.(3/18)
وقال الزيلعي [نصب الراية] (3/ 86) : ورواه ابن أبي شيبة في [مسنده] حدثنا محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم . . . إلى آخره، وفيه أن يرموا الجمار، رواه في [مصنفه]: حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا. انتهى.
قال ابن حجر [ الدراية في تخريج أحاديث الهداية ] ( 2/28 ، 29 ). : وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء مرسلا مثله ووصله في [مسنده] بذكر ابن عباس، لكنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء، ولم يسمع عبد الرحمن من عطاء، وإنما رواه عن إسحاق بن أبي فروة أحد المتروكين، رواه مسدد والطبراني عن طريقه. انتهى.
وإلى هنا انتهى ما يسره الله جل وعلا من الكلام على هذا البحث.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 382)
وترى اللجنة أن يضاف إلى هذا البحث ما كتبه سماحة المفتي رحمه الله في رسالته التي سماها [تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك] وحيث إن الرخصة للرعاة فرع من فروع قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وأنه قد يتمسك بالمشقة في مناسك الحج ويجري فيها التغيير عما تقتضيه الأدلة الشرعية- فقد رأت اللجنة أن تلحق بهذا البحث خاتمة تشتمل على أصل هذه القاعدة، وأسباب تخفيف المشقة، وأقسام المشقة، وضابط المشقة المؤثرة، وموضع اعتبار الحرج والمشقة، وأنواع تخفيفات الشرع، وموارد هذه القاعدة من الشريعة.(3/19)
المشقة تجلب التيسير أصل هذه القاعدة الكتاب والسنة . أما الكتاب : فقوله تعالى: سورة المائدة الآية 6 مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ سورة المائدة، الآية 6 . , وقوله تعالى: سورة البقرة الآية 286 لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا سورة البقرة، الآية 286 .
وأما السنة : فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412). يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا رواه البخاري ومسلم .
قال ابن حجر : وقال النووي : لو اقتصر على "يسروا" لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: "ولا تعسروا" لنفي التعسير في جميع الأحوال.
وأخرجه أحمد في [المسند] من حديث جابر وأبي أمامة رضي الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 383)
عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مسند أحمد بن حنبل (5/266). بعثت بالحنيفية السمحة .
وأخرج أحمد في [مسنده] والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال: مسند أحمد بن حنبل (1/236). قيل: يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة ، وروى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: مسند أحمد بن حنبل (5/69). إن دين الله يسر ثلاثا، وروى أحمد أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح: مسند أحمد بن حنبل (3/479). خير دينكم أيسره .
أسباب التخفيف :
ذكر ابن نجيم [لأشباه والنظائر] ص 75- 82. أنها سبعة: وهي: السفر، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، والنقص، وأمثلتها ظاهرة.
أقسام المشقة : قال القرافي [الفروق] (1/ 118، 119). : المشاق قسمان:
أحدهما : لا تنفك عنه العبادة؟ كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، ونحو ذلك، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة؛ لأنه قرر معها.(3/20)
وثانيهما : المشاق التي تنفك عنها العبادة، وهي ثلاثة أنواع:
في الرتبة العليا؛ كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع فيوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 384)
ونوع في المرتبة الدنيا : كأدنى وجع في إصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة؛ لشرف العبادة وخفة هذه المشقة.
النوع الثالث : مشقة بين هذين النوعين: فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط يختلف فيه؟ لتجاذب الطرفين، فعلى تحرير هاتين القاعدتين تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات . انتهى.
ثم قال: فائدة [الفروق] (1/ 119) : قال بعض العلماء: المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات، فما كان في نظر الشرع أهم يشترط في إسقاطه أشد المشاق أو أعمها، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم، كما يسقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أهم العبادات بسبب التكرار؛ كثوب المرضع، ودم البراغيث، وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم " لكثرة عدم الماء والحاجة إليه، أو العجز عن استعماله، وما لم تعظم مرتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة، وتحرير هاتين القاعدتين يطرد في الصلاة وغيرها من العبادات وأبواب الفقه، وكما جدت المشاق في الوضوء ثلاثة أقسام: متفق على عدم اعتباره، ومتفق على اعتباره، ومختلف فيه، فكذلك تجده في الصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل، وغضب الحكام وجورهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك، وكذلك الغرر والجهالة في البيع ثلاثة أقسام، واعتبر ذلك في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 385)
جميع أبواب الفقه . انتهى.(3/21)
وقد بسط العز بن عبد السلام [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 9- 17. الكلام على أقسام المشاق الموجبة للتخفيف في الشريعة.
ضابط المشقة المؤثرة : قال القرافي [الفروق] (1/120). : يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة، فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما رود عليه بعد ذلك من المشاق، مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطا، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطا، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق .
موضوع اعتبار الحرج والمشقة قال ابن نجيم [الأشباه والنظائر] ص 83. : المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلا الإذخر، وجوز أبو حنيفة رعيه للحرج، ورد عليه بما ذكرنا . انتهى.
أنواع تخفيفات الشرع :
ذكر العز بن عبد السلام [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] (2/8، 9). ستة أنواع:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 386)
1 - تخفيف الإسقاط؛ كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفة.
2 - تخفيف التنقيص؛ كقصر الصلاة، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات؛ كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك.
3 - تخفيف الأبدال؛ كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء، وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار.
4 - تخفيف التقديم؛ كتقديم العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها، والكفارة على حنثها.
5 - تخفيف التأخير؛ كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء، ورمضان إلى ما بعده.(3/22)
6 - تخفيف الترخيص؛ كصلاة التيمم مع الحدث، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع أو بالإجابة مع قيام الحاظر.
مورد هذه القاعدة من الشريعة :
قال الشاطبي [الموافقات] (2/ 11). : وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 387)
والجنايات، ففي العبادات؛ كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات؛ كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك، وفي المعاملات، كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات؛ كثمرة الشجرة ومال العبد، وفي الجنايات، كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(3/23)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 388)
قرار هيئة كبار العلماء رقم (3) وتاريغ 13/ 8/ 1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
بناء على خطاب المقام السامي رقم (22310) تاريخ 4/ 11/ 1391 هـ المتضمن الموافقة على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بحث موضوع (حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال، وحكم الرمي ليالي أيام التشريق) من قبل هيئة كبار العلماء- عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392 هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الرمي المشتمل على المسائل الآتية:
أ- حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد.
ب- حكم رمي جمرة العقبة ليلة القر.
ح- حكم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال.
د- حكم رمي الجمار ليلتي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
وبعد دراسة المجلس للمسائل المذكورة واطلاعه على أقوال أهل العلم وتداوله الرأي فيها قرر- ما يلي:
1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة يوم النحر للضعفة من النساء وكبار السن والعاجزين ومن يلازمهم للقيام بشؤونهم؛ لما ورد من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 389)
الأحاديث والآثار الدالة على جواز ذلك.
2 - عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم ، ولقول ابن عمر أيام التشريق: كنا نتحين الرمي فإذا زالت الشمس رمينا.
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس وأنصح الناس وأرحمهم، فلو كان ذلك جائز قبل الزوال لبينه - صلى الله عليه وسلم -.(3/24)
3 - أما ما عدا ذلك من المسائل الخلافية من أعمال المناسك المشار إليها أعلاه، فإن الخلاف فيها معروف بين العلماء، ومدون في كتب المناسك وغيرها، وما زال عمل الناس جاريا على ذلك، وينبغي للحاج أن يحرص على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: سنن النسائي مناسك الحج (3062). خذوا عني مناسككم .
ويرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته وعلمه في تلك المسائل، ومذهب العامي مذهب من يفتيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الله بن حميد ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد المجيد حسن ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن منيع ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان(3/25)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 390)
مصادر البحث وملحقاته
1 - [الجامع لأحكام القرآن] للإمام القرطبي : طبعة دار الكتب المصرية سنة 1936 م.
2 - [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن] للإمام الشنقيطي .
3 - [صحيح البخاري مع فتح الباري] لابن حجر العسقلاني، طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها.
4 - [صحيح البخاري مع فتح الباري] عمدة القاري للبدر العيني طبعة منيرية.
5 - [صحيح مسلم ] وعليه [شرح النووي ] الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية بالأزهر سنة 1347 هـ.
6 - [موطأ مالك ] وعليه [شرح الزرقاني ] طبع مطبعة الاستقامة بمصر والأزهر، الأولى عام 1332 هـ.
7 - [المنتقى على موطأ مالك ] للإمام الباجي ، طبع مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى عام 1332 هـ.
8 - [تهذيب السنن على المختصر] لابن القيم ، طبعة مطبعة السنة المحمدية، سنة 1367 هـ.
9 - [معالم السنن] للخطابي على [مختصر السنن] طبعة مطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1367 هـ.
10 - [عون المعبود على سنن أبي داود ] لمحمد شمس الحق آبادي نشر صاحب دار الكتاب العامة، ببيروت لبنان (مصور).
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 391)
11 - [جامع الأصول] لابن الأثير ، نشر وتوزيع مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، سنة 1390 هـ.
12 - [جامع الترمذي ] مع [التحفة] لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوي طبعة حيدر آباد، سنة 1346 هـ.
13 - [سنن البيهقي ] وعليها [الجوهر النقي] لابن التركماني، طبعة حيدر آباد .
14 - [سنن الدارقطني ] طبعة دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، سنة 1386 هـ.
15 - [شرح معاني الآثار] لأحمد بن محمد الأزدي الطحاوي طبع مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة .
16 - [شرح المواهب اللدنية] للقسطلاني طبع المطبعة الأزهرية المصرية، عام 1328 هـ.
17 - [نصب الراية لأحاديث الهداية] للزيعلي، الطبعة الأولى المجلس العلمي، سنة 1357 هـ. طبع مطبعة دار المأمون.(3/26)
18 - [التلخيص الحبير] لابن حجر العسقلاني طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة .
19 - [الدراية في تخريج أحاديث الهداية] طبع مطبعة الفجالة الجديدة، سنة 1384 هـ.
20 - [البداية والنهاية] لابن كثير طبع مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، سنة 1351 هـ.
21 - [الكفاية في علم الرواية] للخطيب البغدادي، طبع دائرة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 392)
المعارف العثمانية، سنة 1357 هـ.
22 - [شرح ألفية العراقي ] له- طبع بالمطبعة الجديدة بطالعة فاس عدد 64 سنة 1354 هـ.
23 - [شروط الأئمة الخمسة] لأبي حازم، ومعه [شروط الأئمة الستة] نشر مكتبة القدسي بالقاهرة، سنة 1357 هـ. 24- [تهذيب التهذيب] لابن حجر، طبع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند، عام 1326 هـ.
25 - [بدائع الصنائع] للكاساني طبع في مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر، الطبعة الأولى عام 1327 هـ.
26 - [فتح القدير على الهداية] لابن الهمام، الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، سنة 1315 هـ.
27 - [العناية على الهداية] مع [فتح القدير] للبابرتي .
28 - [المسلك المتقسط في المنسك المتوسط] لباب المناسك، الأصل للسندي، والشرح لملا علي قاري، وعليه حاشية تسمى [إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ].
29 - [المدونة] للإمام مالك الطبعة الأولى.
30 - [مختصر خليل وشرحه] للدردير، طبعة الحلبي .
31 - [الأم] للإمام الشافعي، الطبعة الأولى طبعة أميرية، سنة 1331 هـ.
32 - [الإيضاح] للنووي، الطبعة الثانية، مطبعة دار التأليف.
33 - [المجموع شرح المهذب] مطبعة التضامن الأخوي بمصر .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 393)
34 - [نهاية المحتاج] للرملي، الطبعة الحلبية، سنة 1386 هـ.
35 - [المغني والشرح الكبير] لابن قدامة الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة 1346 هـ.
36 - [الإنصاف] للمرداوي الطبعة الأولى، عام 1375 هـ.
37 - [زاد المعاد] لابن قيم الجوزية مطبعة السنة المحمدية.(3/27)
38 - [الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير] للسباعي الطبعة الأولى مطبعة السعادة، سنة 1348 هـ.
39 - [روضة الناظر] وعليها [حاشية بدران ].
40 - [الأشباه والنظائر] لابن نجيم، الناشر مؤسسة الحلبي، عام 1387 هـ.
41 - [الفروق] للقرافي، طبعة أولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عام 1344 هـ.
42 - [الموافقات] للشاطبي، طبع مطبعة الشرق الأدنى.
43 - [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] للعز بن عبد السلام، طبعت بمطبعة دار الشرق للطباعة، عام 1388 هـ. 44- [لسان العرب] لابن منظور، الطبعة الأميرية، عام 1300 هـ.
45 - [القاموس المحيط] للفيروز آبادي طبع بالمطبعة الأميرية، عام 1301 هـ.(3/28)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 394)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 395)
(5)
الطلاق المعلق
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 396)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 397)
بسم الله الرحمن الرحيم
الطلاق المعلق نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 58- 94، سنة 1400 هـ.
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد ...
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة الرياض في الفترة من 29 / 10 / 1393 هـ إلى 12 / 11 / 1393 هـ. موضوع (حكم الطلاق المعلق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الطلاق المعلق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد :
فبناء على اقتراح اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن يصدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم الطلاق المعلق- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الطلاق المعلق، هل يعتبر ويقع عند وقوع المعلق عليه طلاقا أو يمينا تلزم فيها الكفارة، أو يكون لغوا؟
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 398)
وقد تضمن البحث ما تيسر مما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك وأقوال فقهاء المذاهب الأربعة، وفيما يلي ذكر ذلك على الترتيب:(3/29)
أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار :
أ- قال نافع باب الطلاق في الإغلاق والكره ... إلخ : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس (بشيء) رواه البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر معلقا بصيغة الجزم، استدل بهذا الأثر من قال باعتبار تعليق الرجل طلاق زوجته على شيء وبوقوعه عند حصول المعلق عليه، وحمله ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما على ما إذا قصد الزوج الطلاق لا الحلف؛ جمعا بين الآثار الواردة في ذلك.
ب- وروى البيهقي من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها.
نوقش هذا الأثر : بأنه منقطع؛ لأن إبراهيم الراوي عن ابن مسعود هو ابن يزيد النخعي، وقد ولد بعد وفاة ابن مسعود بسبع عشرة سنة تقريبا، وبأنه على تقدير قبوله وهو مرسل يمكن حمله على قصد الرجل الطلاق بتعليقه دون الحلف.
ج- وقال البيهقي : أخبرنا أبو الحسن الرفا، أخبرنا عثمان بن بشر، أخبرنا إسماعيل القاضي، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الستة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 399)
قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت، أو قال ذلك في غلامه فخرج قبل الليل بغير علمه- طلقت امرأته، وعتق غلامه؛ لأنه ترك أن يستثني، لو شاء قال: إلا بإذني لكنه فرط في الاستثناء فإنما يجعل تفريطه عليه.(3/30)
ونوقش : بأن في سنده إسماعيل بن أويس، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الحديث، بل رماه بعضهم بوضع الحديث، وبأنه اعترف بأنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، وعابوا على الشيخين إخراجهما حديثه في [صحيحيهما]، قال ابن حجر : لعل ذلك كان منه في شبيبته ثم انصلح، قال: وأما الشيخان فما أظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات.. انظر بقية الكلام عليه في [تهذيب التهذيب] وفي مقدمة [فتح الباري] لابن حجر؛ لاستيفاء ما قيل فيه من توثيق وتجريح، وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن مهدي وغيرهم، وقال فيه أحمد : إنه مضطرب الحديث، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة يعني الفقهاء وقال: أين كنا عن هذا.. انظر ترجمته في [تهذيب التهذيب].
د- وقال البيهقي السنن الكبرى، للبيهقي (7/ 356) باب الطلاق بالوقت والفصل. : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الحسن بن علي بن عفان، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في رجل قال لامرأته:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 400)
هي طالق إلى سنة، قال: هي امرأته يستمتع منها إلى سنة، ويروى مثل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال عطاء وجابر بن زيد . اهـ.(3/31)
ونوقش بأن الإمام أحمد قال : حماد بن سلمة عنده عن حماد بن أبي سليمان تخليط كثير. وقال شعبة في حماد بن أبي سليمان : كان لا يحفظ. وقال حبيب بن أبي ثابت : كان حماد يقول: قال إبراهيم، فقلت: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو أن إبراهيم ليخطئ، وقال الذهبي فيه: كثير الخطأ والوهم، وقال ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث، واختلط في آخر أمره.. انظر بقية ترجمته في [تهذيب التهذيب]، وقد وثقه بعض أئمة الحديث، إلا أن الجرح إذا بين كما هنا مقدم على التعديل، ومع ذلك فهذا مما قصد به الطلاق من غير شك دون الحلف فلو صح لم يكن معارضا لما قيل من أن تعليق الطلاق يعتبر طلاقا عند القصد إلى الطلاق.. أما إن قصد الحث أو المنع فيعتبر يمينا تلزم فيها الكفارة.
وجملة القول : أن هذه الآثار استدل بها من قال باعتبار تعليق الطلاق على شيء وبوقوعه طلاقا عند حصول المعلق عليه، وقد عرف ما تأولها به من فصل بين قصد الطلاق وقصد الحلف وما قيل في أسانيدها، وسيأتي..
هـ وروى عبد الرزاق في [مصنفه] [المصنف] (8/486). عن ابن التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 401)(3/32)
إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب، قال: فجاءت معي إليها، فقالت: أفي البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، قال: فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة، فأرسلت معي إليها، فقالت أم المؤمنين- جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة : يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها، فلما سلم عرفت صوته، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك، فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينت، وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما، قالت: يا أبا عبد الرحمن، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: يهودية ونصرانية؟ كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته. اهـ.
وقد ذكر ابن القيم : أن له طرقا أخرى تدل على أن التيمي لم ينفرد برواية هذا الأثر، وسيأتي تمام البحث في هذا الأثر في التعليق على مذهب الحنابلة .
وجه الدلالة : أن هذا الأمر وإن لم يكن فيه ذكر للطلاق إلا أن من تمسك به في اعتبار الطلاق المعلق لغوا أو يمينا مكفرة قاس الطلاق على ما ذكر فيه من المال والعتق في أنه لم يلزمه المعلق عند تحقق ما علق عليه، بل كان لغوا إن اعتبرنا سكوت حفصة وزينب - رضي الله عنهما - عن الإلزام به،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 402)
أو بكفارة دليلا على الإلغاء، أو تلزم فيه الكفارة إن نظرنا إلى ما أفتى به ابن عمر - رضي الله عنهما -.
وفيما يأتي من أقوال الفقهاء استدلال بآيات وأحاديث وآثار أخرى مع مناقشتها إن شاء الله ... والله الموفق .(3/33)
ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة :
أ- مذهب الحنفية :
1 - قال البرهان علي بن أبي بكر المرغيناني في [الهداية]: وإذا أضافه- أي: الطلاق- إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، قال الشارح [الهداية] (3/128). : وهذا بالاتفاق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط، فيصبح يمينا أو إيقاعا .
قال ابن الهمام في [فتح القدير]: فيصبح يمينا أو إيقاعا، أي: فيصح التعليق المذكور يمينا عندنا؛ لأنه لا يعمل عندنا في الحال، أو إيقاعا عند الشافعي؛ لأنه عنده سبب في الحال ). اهـ.
2 - وفي [مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر] ما نصه : ( إنما يصح التعليق حال كونه في الملك- أي: القدرة على التصرف في الزوجية بوصف الاختصاص وذلك عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، فإنه لو وجد أحدهما والمرأة مدخولة محرمة بالمصاهرة- لم يصح التعليق فيه، فمن بعض الظن تأويل الملك بوجود النكاح والمتبادر أن الملك لم يشترط لصحة التنجيز وليس كذلك، وبقاء الملك في عدة الرجعي مما لا خلاف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 403)(3/34)
فيه، وأما في عدة البائن ففيه خلاف، كما في القهستاني - كقوله لمنكوحته أو لمعتدته: إن زرت فأنت طالق- فيقع بعد وجود الشرط وهو الزيارة ولو كان المعلق عاقلا عند التعليق ثم جن عند الشرط؛ لأنه إيقاع حكما، ألا يرى أنه لو كان عنينا أو مجنونا يفرق بينهما، ويجعل طلاقا (أو مضافا إلى الملك) بأن يعلق على نفس الملك، نحو: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، أو على سبب، كقوله لأجنبية: إن نكحتك- أي: تزوجتك- فأنت طالق، فإن النكاح سبب للملك؛ فاستعير السبب للمسبب- أي: ملكتك بالنكاح- فيقع إن نكحها، لوجود الشرط، وفي الزاهدي : قد ظفرت بروايتين عن محمد أنه لو أضاف إلى سبب الملك لم يصح التعليق، كما قال بشر المريسي؛ لأن الملك يثبت عقيب سببه، والجزاء يقع عقيب شرطه، فلو صح تعليقه به لكان الطلاق مقارنا لثبوت الملك، والطلاق المقارن لثبوت الملك أو زواله لم يقع، كما لو قال: أنت طالق مع نكاحك أو في نكاحك أو مع موتي أو مع موتك، (وتمامه في التبيين فليطالع)، ولا فرق بين ما إذا خصص أو عمم كقوله كل امرأة خلافا لمالك فإنه قال إذا لم يسم امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضا أو نحو هذا فلا يلزمه ذلك.
وقال الشافعي : (لا يصح التعليق المضاف إلى الملك).
مما تقدم يتبين :
1 - أن تعليق الطلاق صحيح عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، وأنه يقع المعلق عند وجود المعلق عليه باتفاق عند الحنفية، وأنه يصح تعليق الطلاق على ملك الطلاق، مثل: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، وتعليقه على سبب الملك، كقوله: إن تزوجتك فأنت طالق، ويقع الطلاق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 404)
إن نكحها أو ملك طلاقها، وخالف محمد بن الحسن في اعتبار التعليق على ملك الطلاق أو النكاح- فلم يوقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، لما ذكر من التعليل بمقارنة الطلاق، لوجود الملك والطلاق المقارن غير معتبر.(3/35)
2 - أنه لا فرق في التعليق على الملك بين ما إذا عمم في النساء أو خصص خلافا للمالكية في التعميم، أما إذا خصص امرأة أو قبيلة مثلا فمعتبر ويقع الطلاق عند وقوع المعلق عليه عندهم كالحنفية ..(3/36)
ب- مذهب المالكية :
قال ابن رشد [المقدمات] (2/ 119، 120). : فصل: فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق لا اختلاف بين أحد من العلماء: أن الرجل حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله: أن اليمين لازمة له، وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا أو أن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أن لا شيء عليه، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده: (أنت حر إن فعلت كذا وكذا) ففعله، وبالله سبحانه التوفيق .
ثم قال ابن رشد [المقدمات] (2/ 122، 123). في الفصل الذي عقده لما لا يلزمه باتفاق: وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 405)
ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه كان مباحا أو معصية كقوله في المعصية: علي ضرب فلان أو إني أفعل كذا وكذا، أو في المباح: علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا، أو ما أشبه ذلك ما عدا الطلاق، فإن اليمين به تلزمه، وإن كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره، وهو: أن الحالف به مطلق على صفة ما .
ثم عقد ابن رشد فصلا خاصا فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه [المقدمات] (2/ 122، 123). ، وقسم فيه الطلاق إلى مطلق وإلى مقيد بالصفة قال فيه: وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم إلى وجهين:
أحدهما : أن يقيد ذلك فيها بلفظ الشرط.
والثاني : أن يقيده فيها بلفظ الوجوب.(3/37)
فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا أو أن لا أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز؛ لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو: أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة، ومن ذلك أيضا: أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى، ويكون في الماضي إما واقع كذا وإما ساقط، كاليمين بالله الذي يكون في الماضي إما لغو، أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن يكون فيه كفارة، يأثم إذا حلف على الغيب، أو على الكذب،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 406)
أو على الشك، كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما بحقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل: وحق الطلاق لأفعلن كذا وكذا، وبالله سبحانه التوفيق.
ثم قال ابن رشد من كتاب [المقدمات] (2/ 122، 123). : فصل فيما تقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه، وهو - أعني اليمين بالطلاق - على ما ذكرته من المجاز تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها : أن يحلف بالطلاق على نفسه.
والثاني : أن يحلف على غيره.
والثالث : أن يحلف على مغيب من الأمور.
فالأول : وهو حلفه بالطلاق على نفسه، فهو ينقسم على قسمين:
أحدهما : أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا.
والثاني : أن يحلف به أن يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا.
فأما الوجه الأول : وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها : أن يكون الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني : أن يكون مما لا يمكنه تركه.
والثالث : أن يكون مما لا يمكنه فعله.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 407)(3/38)
فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا أن يفعل ذلك الفعل، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي، أو دخلت الدار، أو ركبت الدابة، أو ما أشبه ذلك، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا، وفيها اختلاف، وهو مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء من كتاب [المقدمات]. (الناشر).
وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يجعل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في [المدونة] مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك.
وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في [المدونة]، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم، مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها : أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني : أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال.
والثالث : أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال ... وقال أيضا:
فصل : فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 408)(3/39)
أدخل الدار وإن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء، فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء، فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك، ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه ؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت، وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا، ولا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين:
إحداهما : أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها.
والثانية : يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها.
فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف.
ووجه ذلك : أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة.
والثاني : أن الطلاق يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوجه.
والثالث : أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله ولم يمكن من الوطء؛ لأنه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 409)
لا يجوز له من أجل أنه على حنث وإن اجترأ فوطيء سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان، وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول- وإن لم يمكن من الفيء بالوطء- رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء.(3/40)
وأما إذا قال : امرأتي طالق إن لم أحبلها، فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها، وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك، له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما، وقال ابن القاسم : لا إيلاء عليه، وهو الصواب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من [المدونة] ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من [العتبية].
والثاني : أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل.
والثالث : أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل.
والرابع : أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.
وقال أيضا : فصل : فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت- ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها : أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا.
والثاني : أنها تطلق عليه.
والثالث : أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى وقد زدنا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 410)
هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء من كتاب [المقدمات] (الناشر).
وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك أو لمنع الشرع منه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما القسم الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين:(3/41)
أحدهما : أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا.
والثاني : أن يحلف عليه ليفعلنه، فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا، فهو كالحالف على فعل نفسه، سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك، وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال:
أحدها : أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء، ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل.
والثاني : أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف: هل يطأ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 411)
في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجل؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء.
والثالث : الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما القسم الثالث: وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعلم صدقه من كذبه كالقائل امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل، وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأذن به، واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه، فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها : أن يطلق عليه.
والثاني : أنه لا يطلق عليه.
والثالث : أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا، فإنه ينقسم على أربعة أقسام:(3/42)
أحدها : أن تكون الصفة آتية على كل حال.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 412)
والثاني : أن تكون الصفة غير آتية على كل حال.
والثالث : أن تكون مترددة بين أن تأتي وأن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي.
والرابع : أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي، والأغلب منهما أنها تأتي.
فالأول : يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق.
والثاني : يتخرج على قولين.
والثالث : لا يعجل عليه الطلاق باتفاق.
والرابع : يختلف فيه على قولين منصوصين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق . اهـ نص [مقدمات ابن رشد ].
مما تقدم : يتبين أنه لا خلاف بين المالكية في اعتبار تعليق الزوج الطلاق على أمر ما فعل أو ترك، مباح أو معصية، ماض أو مستقبل، ولا خلاف بينهم أيضا في وقوع الطلاق عند حصول ما علق عليه، سواء أكان المعلق عليه من فعله أو فعل غيره إلا فيما نقل عن أشهب بن عبد العزيز في الحالف على امرأته بالطلاق ألا تفعل فعلا ففعلته قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليه، بناء منه على قاعدة المعاملة بنقيض القصد، وقد اعتبر المالكية ذلك منه شذوذا، وما ذكر من الخلاف في فروع هذه المسألة وتفاصيل وجوهها فإنما هو في تعجيل حنثه أو كونه على بر حتى يحنث وفي اعتباره موليا أو غير مول من زوجته، ونحو ذلك مما لا تعلق له بأصل البحث الذي نحن بصدد إعداده، وكذا يعتبر تعليق الرجل طلاق امرأة أجنبية منه على زواجه بها، كما لو قال: إن تزوجت فلانة أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا فهي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 413)
طالق، فيقع الطلاق عند عقد النكاح عليها، ولو عمم في التعليق لم يعتد به، لا لأن التعليق من حيث هو غير معتبر؛ بل لأن الأمر كلما ضاق اتسع، فإلغاء التعليق خاص بصورة التعميم لما ذكر.(3/43)
ج- مذهب الشافعية :
1 - قال النووي [المنهاج] ص (422، 423). بعد ذكره لأدوات التعليق : ولا يقتضين فورا إن علق بإثبات في غير خلع، إلا (أنت طالق إن شئت)، ولا تكرارا، ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلق أو علق بصفة فوجدت فطلقتان، أو كلما وقع طلاقي فطلق فثلاث في ممسوسة، وفي غيرها طلقة ... ولو علق بنفي فعل فالمذهب: أنه إن علق ب (إن) كإن لم تدخلي، وقع عند اليأس من الدخول، أو بغيرها فعند مضي زمن يمكن فيه ذلك الفعل ولو قال: أنت طالق إن دخلت أو أن لم تدخل بفتح (أن) وقع في الحال. قلت: إلا في غير نحوي فتعليقة في الأصح .
2 - وقال [المنهاج] ص 413. أيضا : خطاب الأجنبية بطلاق وتعليقه بنكاح وغيره لغو، والأصح صحة تعليق العبد ثالثة، كقوله إن عتقت، أو إن دخلت فأنت طالق ثلاثا فيقع إذا عتق أو دخلت بعد عتقه، ويلحق رجعية لا مختلعة. انتهى المقصود .
3 - قال الشيرازاي [المهذب] وعليه [شرح المجموع] (16/ 152). : إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع: لما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 414)
روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمنون عند شروطهم ولأن الطلاق كالعتق؛ لأن لكل واحد منهما قوة وسراية، ثم العتق إذا علق بشرط وقع بوجوده ولم يقع وجوده فكذلك الطلاق .(3/44)
4 - قال تقي الدين السبكي انظر [المحقق في الطلاق المعلق] ص 56 ضمن مجموعة [رسائل السبكي]. : مسألة: إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا اليمين، إما لحث أو منع، أو تصديق، ثم وجد ذلك الشرط- وقع الطلاق وبيان ذلك: أن مقتضى القضية الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية، والمعلق فيها هو نسبة أحد الجزءين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء؛ لأن كلا منهما يستحيل تعليقه، فالمعلق في مسألتنا هو الطلاق، وأما التطليق فهو فعل الزوج، يوقعه منجزا أو معلقا، ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة، فإن لم يجز التعليق يخرج الذي حصل مقتضاه عن الشرط، ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها المعلقة بالشروط.
ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس عليه التعليق بتعليق الإنشاء فظن أن تعليق الطلاق من الثاني وإنما هو من الأول.. وقد علق الله إحلال المرأة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على هبتها نفسها له وإرادته استنكاحها، وإن خرج مخرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه:
أحدها : أنه تعليق خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له.
الثاني : قوله تعالى: سورة النور الآية 7 وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 415)
ووجه الاستدلال : أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله: أنها موجبة، وبأنه لو كان المترتب على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى.
الثالث : أن في القرآن والسنة وأشعار العرب الفصحاء من التعليقات التي فيها الحث أو المنع أو التصديق ما لا يحصى مع القطع بحصول الشروط فيها.(3/45)
الرابع : أن تسمية التعليق يمينا لا يعرفه العرب، ولم يتفق عليه الفقهاء، ولم يرد به الشرع، وإنما سمي بذلك على وجه المجاز، فلا يدخل تحت النصوص الواردة في الأيمان، وأنها قابلة للتكفير.
الخامس : أن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على ذلك التقدير، ولذلك نصبه الزوج مانعا له من ذلك الفعل، ولولا ذلك لما امتنع، ولا استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر، ومقصودا له على تقدير، وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه وقصده.
السادس : أنه عند الشرط يصح اسم التطليق؛ لما تقدم، فيندرج تحت قوله تعالى: سورة البقرة الآية 230 فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 416)
السابع : أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى: سورة الطلاق الآية 1 فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية .(3/46)
5 - وقال [الدرة المضيئة] ص13، طبع مطبعة الترقي بدمشق/ 12. أيضا : وقد نقل إجماع الأمة على ذلك، أي: إيقاع الطلاق المعلق، سواء كان على وجه اليمين أو لا- أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وناهيك به قال: وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه [التمهيد] و[الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى] وغير هؤلاء من الأئمة.
وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة، وذكر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 417)
العتق وذكر الأثر الذي استدل به ابن تيمية فيه ، وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي يبني ابن تيمية حجته عليه ، ورده بأثر آخر صح عنده ، وهو أثر عثمان بن حاضر ، وفيه فتوى ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر رضي الله عنهم : بإيقاع العتق على الحانث في يمينه ، ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء ولم يبق في المسألة إلباسا ، رضي الله عنه .
6 - وقال السبكي أيضا انظر [الملحق في الطلاق المعلق ] ص 57 ، 58 : فإن قلت : يرد عليك أمران :(3/47)
أحدهما : طلب الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين .
والثاني : في دعوى الإجماع ، وقد نقل بعض الناس قولين آخرين : أنه لا يلزمه به شيء ، والثاني : أنه يلزمه به كفارة .
قلت : أما الأول : فالجواب عنه : أن الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا الشرط ، ولم يأذن الشرع فيه ، وليس للعبد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله ، وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل ، فإن دل دليل على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل ، وأما أن يجعل اللجاج المختلف فيه الخارج عن الأصل أصلا ، ويلحق به الجاري على وفق الأصل فغير سديد .
وأما الثاني : فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من الصحابة ولا من التابعين ، إلا أن طاوسا نقل عنه لفظ محتمل ؛ لذلك أولناه ، ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه ، وأما القول بالكفارة في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 418)
ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية ، وإن كان مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الإجماع نقل ذلك ، إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه في مسألة التعليق ، فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الحلف . . . انتهى .
وقول السبكي بشأن رأي طاوس (أولناه) يريد : تأويله في [الدرة المضيئة] بالإكراه [الدرة المضيئة] ص15 ، يقول : ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره ، وذكر أنه قد أجاب عنه أجوبة كثيرة غير هذا في بعض مصنفاته ، كما ذكر أن طاوسا قد صح النقل عنه بخلاف ذلك ، قال : قد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة ، ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها [كتاب السنن] لسعيد بن منصور ، ومنها [مصنف عبد الرزاق ] .(3/48)
وقال المرجع السابق ص18 أيضا : بعد ذكر الوارد عن الصحابة في الوقوع قال : ( فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الوقوع ، وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون ، وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم ) قال : ( وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة كـ [ جامع عبد الرزاق ] و [مصنف ابن أبي شيبة ] و [سنن سعيد بن منصور ] و [السنن الكبرى] للبيهقي ، وغيرها- فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد ، وكلهم بالأسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ، ولم يقضوا بالكفارة وهم : سعيد بن المسيب أفضل التابعين ، والحسن البصري ، وعطاء ، والشعبي ، وشريح ، وسعيد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 419)(3/49)
ابن جبير ، وطاوس ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، وأبو مخلد , والفقهاء السبعة- فقهاء المدينة - وهم . عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وخارجة بن زيد ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وسليمان بن يسار ، وهؤلاء إذا أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدما على غيرهم ، وأصحاب ابن مسعود السادات ، وهم : علقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة السلماني ، وأبو وائل شقيق بن سلمة ، وطارق بن شهاب ، وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين ، مثل : ابن شبرمة ، وأبي عمرو الشيباني ، وأبي الأحوص ، وزيد بن وهب ، والحكم ، وعمر بن عبد العزيز ، وخلاس بن عمرو ، وكل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك ، ومنهم علماء التابعين غير هؤلاء ، فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإيقاع ، ولم يقل أحد : أن هذا مما يجري به الكفارة ، وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة ، كلها تشهد بصحة هذا القول ؛ كأبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وابن جرير الطبري ، وهذه مذاهبهم منقولة بين يدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة .
يتبين مما تقدم أمران :
الأول : أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء فتعليقه معتبر ويقع طلاقه عند وجود ما علق به ، سواء قصد بذلك إيقاع الطلاق أم قصد اليمين حثا أو منعا أو تصديقا لخبر أو تكذيبا له .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 420)
واستدلوا على ذلك بأدلة :
منها : حديث : المؤمنون عند شروطهم .
ومنها : قياس الطلاق على العتق بجامع ما لكل منهما من قوة وسراية .
ومنها : اعتبار الكتاب والسنة للتعليقات مطلقا من القطع بحصول المشروع فيها عند وجود شرطه .(3/50)
ومنها : ما نقله الأئمة من إجماع الأمة على إيقاع الطلاق المعلق عند وجود المعلق محليه سواء كان التعليق على وجه اليمين أم لا . . . إلى آخر الوجوه التي ذكرها تقي الدين السبكي في الاستدلال على ما تقدم ، ويناقش ذلك بما يأتي نقله عن ابن تيمية وابن القيم .
الأمر الثاني : أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على نكاحها فتعليقه لغو ، ولا يقع طلاقه عند زواجه بها بناء على أنها أجنبية منه وقت التعليق ، وأن التعليق إيقاع لا يمين ، كما تقدم بيانه نقلا عن ابن الهمام عند ذكر مذهب الحنفية . وما وراء هذا من اقتضاء صيغ التعليق للفور أو التكرار وعدم اقتضائها لذلك ، ومن وقوع المعلق على نفي الفعل عند اليأس منه أو عند مضي زمن يمكن فيه الفعل فلا تعلق له بأصل البحث المطلوب إعداده .(3/51)
د- المذهب الحنبلي :
1 - قال شيخ الإسلام [القواعد النورانية] ص 258 ، تحقيق/ محمد حامد الفقي- ط / مكتبة المعارف . : قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه : (إن كلمتك فامرأتي طالق ، وعبدي حر) قال : لا يقوم هذا مقام اليمين ، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 421)
2 - وقال المرجع السابق ص 259 ، 260 . أيضا : وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد ، فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال : كل مملوك له حر ، فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة ، وقال : ليس يقول : كل مملوك لها حر- في حديث ليلى بنت العجماء - حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب ، وذكرت العتق ، فأمروها بالكفارة إلا التيمي ، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق ، قال : سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع - قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته ، وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين - قلت : فيها شيء ؟ قال : نعم ، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين ، قال أبو عبد الله : ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي ، قلت : فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث ؟ قال : يعتق ، كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : (الجارية تعتق) ثم قال : ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر . قلت : فإيش إسناده ؟ قال : معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس ، وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى : وهما مكيان ، وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق ، والحلف بالنذر ؟ لأنهما لا يكفران ، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة ، وقال صالح بن أحمد : قال أبي : وإذا قال : جاريتي حرة إن كان كذا وكذا ، قال : قال ابن عمر وابن عباس : تعتق ، وإذا قال : كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته ، فإن هذا لا(3/52)
يشبه هذا ، ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما : العتق والطلاق لا يكفران .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 422)
3 - وقال [نظرية العقد] ص 136 ، 137 . أيضا : وأما قول القائل : إن العتق انفرد به التيمي فعنده جوابان :
أحدهما : أنه لم ينفرد به ، بل تابعه عليه أشعث ، وجسر بن الحسن ، وأحمد ذكر أنه لم يبلغه العتق إلا من طريق التيمي وقد بلغ غيره من طريق أخرى ثانية ، ومن طريق ثالثة أيضا شاهدة وعاضدة .
الثاني : أن التيمي أجل من روى هذا الأثر عن بكر وأفقههم فانفراده به لا يقدح فيه ، ألا ترى أن منهم من ذكر فيه ما لم يذكره الآخرون ، ومنهم من بسطه ، ومنهم من استوفاه ، وقد روى عن التيمي مثل يحيى بن سعيد القطان ، ومثل ابنه المعتمر وغيرهما ، واتفقوا عنه على لفظ واحد ، فدل على ضبطه وإتقانه .
4 - وقال المرجع السابق ص 118 . أيضا : وأما أحمد فبلغه أثر في الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء ، لكن لم يبلغه إلا من وجه واحد ، فظن أن التيمي انفرد به ، فكان ذلك علة فيه عنده ، وعارضه بأثر آخر روي عن ابن عمر وابن عباس .
وقد ذكرت في غير هذا الموضع حديث ليلى بنت العجماء ، وأنه روي من ثلاثة أوجه ، وأنه على شرط [ الصحيحين] ، وممن رواه أبو بكر الأثرم في [مسائله] عن أحمد . . . إلخ .
5 - وقال نفس المرجع ص 137- 139 . أيضا : وأما معارضة ذلك بما روي عن ابن عمر وابن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 423)
عباس فعنه أجوبة- هذا ملخصها :
أحدها : أن ذلك المنقول ليس فيه حجة ، فإن فيه : أنها حلفت بالعتق وأيمان أخرى فأفتيت في الجميع باللزوم ليس فيه أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بالفرق بين العتق وبين غيره من الأيمان ، بل فيه أنهم سووا بين ذلك ، وفي بعض طرقه : أنه كان معهم ابن الزبير . . . إلخ .(3/53)
الثاني : أن هذا الحديث هو الذي ذكره الهندواني من الحنفية . أن لزوم نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة . ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ، وأنكر الناس ذلك عليه ، وطعنوا في ذلك ، فإن كان هذا الحديث صحيحا ثبت ما نقله الهندواني ، وإن لم يكن صحيحا لم يكن لأحد أن يحتج به .
الثالث : أنه- بتقدير ثبوته- يكون الصحابة متنازعين في جنس هذه التعليقات التي هي من جنس نذر اللجاج والغضب . . . إلخ .
الرابع : أن هؤلاء الذين نقل عنهم في هذا الجواب : أنهم ألزموا الحالف ما حلف به . قد ثبت عنهم نقيض ذلك ، فثبت عن ابن عباس من غير وجه . أنه أفتى بكفارة يمين في هذه الأيمان ، وكذلك ابن عمر فغاية الأمر أن يكون عنهما روايتان ، وأما عائشة وحفصة وزينب وعمر بن الخطاب فلم ينقل عنهم إلا أنها أيمان مكفرة ، فمن اختلف عنه سقط قوله ، ويبقى الذين لم يختلف عنهم .
الخامس : أن هذا الحديث لا تقوم به حجة ؛ لأن راويه لم يعلم أنه حافظ وإنما كان قاصا ، وإذا لم يثبت حفظ الناقل لم يؤمن غلطه ، فلا يقبل ما ينفرد به ، لا سيما إذا خالف الثقات .
السادس : أنه قد ثبت عن هؤلاء الصحابة بنقل الثقات من الطرق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 424)
المتعددة : ما يخالف نقل عثمان بن حاضر ، فدل ذلك على أنه غلط فيما رواه .
السابع : أن غاية هذا : أنه نقل عن بعض الصحابة الفرق بين العتق وغيره ، وقد نقل عن هذا وعن غيره التسوية بينهما ، فلو كان النقلان ثابتين لكان مسألة نزاع بين الصحابة ، فكيف إذا كان هذا النقل ؟ ! أثبت والصحابة الذين فيه أكثر وأفضل ؟ ! والذين في ذلك هم هذا وزيادة .
الثامن : أن فيه من الخطأ ما يدل على أنه لم يحفظ ، فلفظ حديث عبد الرزاق . . . وساقه إلى آخره .
وقال بعد ذلك : وهذا اللفظ فيه : (أنهما أفتيا بلزوم ما حلفت به) فأوقعا العتق ، وقالا في المال بإجزاء زكاته لا بكفارة يمين .(3/54)
وهذا القول لا يعرف عن أحد قبل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، بل أهل العلم بأقوال العلماء كالمتفقين على أنه لم يقله أحد قبل ربيعة .
وقد ثبت بالنقول الصحيحة عن ابن عباس : أنه كان يأمر في ذلك بكفارة يمين ، وكذلك عن ابن عمر .
6 - قال ابن قدامة [المغني ومعه الشرح] (8/ 334) . : اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق : فقال القاضي في [الجامع] وأبو الخطاب هو تعليقه على شرط ، أي شرط كان ، إلا قوله : إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك ، وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة ، وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة ، وهذا قول أبي حنيفة ؟ لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق به الحكم ، كما لو قال : إن دخلت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 425)(3/55)
الدار فأنت طالق ، ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله : والله وبالله وتالله ، وقال القاضي في [المجرد] : هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو إن لم تدخلي فأنت طالق ، أو على تصديق خبره مثل قوله : أنت طالق قدم زيد أو لم يقدم ، فأما التعليق على غير ذلك ، كقوله : أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان- فهو شرط محض ليس بحلف ؛ لأن حقيقة الحلف القسم ، وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور ، وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر ، نحو قوله : والله لأفعلن أو لا أفعل أو قد فعلت أو لم أفعل ، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي ، فإذا قال لزوجته : إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ، ثم قال : إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني ؛ لأنه ليس بحلف ، وتطلق على الأولى ؛ لأنه حلف ، وإن قال : كلما كلمت أباك فأنت طالق طلقت على القولين جميعا ؛ لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا ، كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، وإن قال : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد ذلك طلقت واحدة كلما أعاد مرة طلقت حتى تكمل الثلاث ؛ لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة أخرى ، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي .
وقال أبو ثور : ليس ذلك بحلف ، ولا يقع الطلاق بتكرار ؛ لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا حلفا . . . ولنا : أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا ، كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق . وقوله :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 426)(3/56)
إنه تكرار للكلام حجة عليه ، فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى ، فإذا كان في الأولى حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى ، وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده ، وهاهنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء ، كما لو قال . أنت طالق أنت طالق ، يعني بالثانية إفهامها ، فأما إن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة ، ولم يقع أكثر منها ، فإذا قال لها ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة ، فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها ، أو قال لها : إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك -لم تطلق بذلك ؛ لأن شرط طلاقها إنما كان بعد بينونتها .
7 - وقال أيضا : باب تعليق الطلاق بالشروط . يصح ذلك من الزوج ، ولا يصح من الأجنبي فلو قال : إن تزوجت فلانة ، أو إن تزوجت امرأة فهي طالق- لم تطلق إذا تزوجها ، وعنه تطلق ، وإن قال لأجنبية : إن قمت فأنت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق ، رواية واحدة .
8 - ومن [حاشية المقنع] ما نصه [المقتع وحاشيته] بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (3/ 177) : قوله : ولا يصح من الأجنبي ، فلو قال . . . إلخ ، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في هذه المسألة ، فالمشهور عنه أنه لا يقع ، وهو المذهب ، وهو قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، وبه قال عطاء والحسن ، وعروة ، وجابر بن زيد ، وسوار القاضي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، وعلي بن الحسين وشريح ، وروي عن أحمد ما يدل على وقوع الطلاق ، قال في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 427)(3/57)
الفروع ، : وعنه صحة قوله لزوجته : من تزوجت عليك فهي طالق أو قوله لعتيقته : إن تزوجتك فأنت طالق ، أو قال لرجعيته : إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا أراد التغليظ عليها ، وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي ؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار ، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية ، والأول أصح ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : سنن الترمذي الطلاق (1181),سنن أبو داود الطلاق (2190),سنن ابن ماجه الطلاق (2047),مسند أحمد بن حنبل (2/190). لا طلاق ولا عتاق لابن آدم فيما لا يملك رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب ، قال الترمذي : حديث حسن ، وهو أحسن شيء في الباب ، ورواه الدارقطني وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وزاد : وإن عينها ، وعن المسور مرفوعا قال : سنن ابن ماجه الطلاق (2048). لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك رواه ابن ماجه بإسناد حسن ، قال أحمد رحمه الله تعالى : هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أصحابه .
9 - وقال علي بن سليمان المرداوي على قول الموفق : (ولا يصح من الأجنبي إلخ) [الإنصاف] (9/ 59) . قال : هذا المذهب ، وعليه الأصحاب ، ونص عليه ثم ساق ما يدل على الوقوع .
10 - وقال عبد الله بن محمد بن مفلح [الفروع] (5/ 424) وما بعدها . : (يصح مع تقدم الشرط) و(كعتق على وجه النذر) أشار بها صاحب كتاب [الفروع] إلى أنها علامة ما أجمع عليه . أولا ، وكذا إن تأخر ، وعنه يتنجز . ونقله ابن هانئ في العتق ، قال شيخنا : وتأخر القسم ، كأنت طالق لأفعلن كالشرط ، وأولى بأن لا يلحق ، وذكر ابن عقيل في أنت طالق وكرره أربعا ثم قال عقب الرابعة : إن قمت طلقت ثلاثا ؛ لأنه لا يجوز تعليق ما لم يملك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 428)(3/58)
بشرط ، ويصح بصريحه وبكنايته ، مع قصده من زوج ، وتعليقه من أجنبي كتعليقه عتقا بملك والمذهب لا يصح مطلقا ، قاله القاضي وغيره ، وعنه صحة قوله لزوجته : من تزوجت عليك فهي طالق ، أو لعتيقته : إن تزوجتك فأنت طالق ، أو لرجعيته : إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا وأراد التغليظ عليها ، وجزم به في [الرعاية] وغيرها في الأوليين ، قال أحمد في العتيقة قد وطئها والمطلق قبل الملك لم يطأ ، وظاهر أكثر كلام أصحابه التسوية ، ويقع بوجود شرطه نص عليه ، وقال : الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان ، واحتج بابن عمر وابن عباس ، وأن حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع لم يقل فيه : وكل مملوك لها حر ، وأنهم أمروها بكفارة يمين ، إلا سليمان التيمي انفرد به ، واحتج في رواية أبي طالب بهذا الأثر على أن من حلف بالمشي إلى بيت الله ، وهو محرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة يكفر واحدة ، وأن فيه اعتقي جاريتك ، ولا أعلم أحدا قال فيه : يجزئ عنه في العتق والطلاق كفارة يمين ، ورواه أيضا الأثرم من حديث أشعث الحمراني بإسناد صحيح ، وذكر ابن عبد البر أنهما تفردا به ، وذكر ابن حزم وغيره : أنه صحيح فيه ، وذكر البيهقي وغيره : أنه روى عنهما فيه : أما الجارية فتعتق . فكأن الراوي اختصر . واختار شيخنا إن أراد الجزاء بتعليقه كره الشرط أولا ، وكذا عنده الحلف به ، وبعتق ، وظهار ، وتحريم ، وأن عليه دل كلام أحمد ، وقال : نقل حرب أنه توقف عن وقوع العتق ، وما توقف فيه يخرجه أصحابه على وجهين ، قال : ومنهم من يجعله رواية ، قال شيخنا : كما سلم الجمهور أن الحالف بالنذر ليس ناذرا ، ولأنه لو علق إسلامه أو كفره لم يلزمه ، وإن قصد الكفر تنجز وما لزم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 429)(3/59)
منجزا مع تعليقه أبلغ ، فإذا كان هذا إذا قصد اليمين به معلقا لا يلزم فذاك أولى ، فعلى هذا إذا حنث فإنه في العتق إن لم يختره لزمه كفارة يمين ، وفي غيره مبني على نذره فيكفر وإلا التزم ذلك بما يحدثه من قول أو فعل يكون موفيا لموجب عقده ، ولا يجيء التخيير بينه وبين الكفارة عند من يوجب الكفارة عينا في الحلف بنذر الطاعة ، وأما إنه لا شيء عليه ولا تطلق قبله في الهامش بعد قوله : (قبله) في مخطوط الدار : (وإن قال) . ذهب أحمد إلى قول أبي ذر : أنت حر إلى الحول ، وعنه : بلى مع تيقن وجوده ، وخصها شيخنا بالثلاث ؛ لأنه الذي يصير كمتعة ، ونقل مهنا في هذه الصورة تطلق إذن ، قيل له فتتزوج في : قبل موتي بشهر ؟ قال : لا ، ولكن يمسك عن الوطء حتى يموت وذكر في [الرعاية] تحريمه وجها . انتهى المقصود .(3/60)
11 - قال شيخ الإسلام [مجموع الفتاوى] (33/ 45) . : وأما صيغة القسم ، فهو أن يقول : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا أفعل كذا ، فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره ، أو منع لنفسه أو لغيره ، أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان ، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم ، وهو يمين أيضا في عرف الفقهاء ، لم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا في حكمها ، فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث ، ومنهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق ، بل قال : عليه كفارة يمين ، أو قال : لا شيء عليه بحال .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 430)
12 - وقال [مجموع الفتاوى] (33/45) أيضا : والثالث صيغة تعليق ، كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة ، فإما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة ، وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة .
فالأول : حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء ، ولو قال : إن حلفت يمينا فعلي عتق رقبة ، وحلف بالطلاق- حنث ، بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين ، وكذلك ما يعلق بالشرط لقصد اليمين ، كقوله : إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة ، أو فعبيدي أحرار ، أو فعلي الحج ، أو علي صوم شهر ، أو فمالي صدقة ، أو هدي ونحو ذلك- فإن هذا بمنزلة أن يقول : العتق يلزمني لأفعل كذا ، أو علي الحج لا أفعل كذا ، أو نحو ذلك ، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم ، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة .(3/61)
وقال أيضا : والثاني : وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة ، كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف ، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله : أنت طالق عند رأس الشهر ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق ، ولم يعلم فيه خلاف قديم ، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق ، وهو قول الإمامية ، مع أن ابن حزم ذكر في [كتاب الإجماع] إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق ، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 431)
هل يقع الطلاق أو لا يقع أو لا شيء عليه ؟ أو يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال ، كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة ، وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض أو المنع كقوله : إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين ؟ فيه قولان : أحدهما : هو يمين ، كقول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد ، والثاني : أنه ليس بيمين ، كقول الشافعي ، والقول الآخر في مذهب أحمد ، وهذا القول أصح شرعا ولغة ، وأما العرف فيختلف .
ثم ذكر [مجموع الفتاوى] (33/ 49) وما بعدها . أنواع الأيمان جملة ، وتكلم على كل نوع منها تفصيلا قال : والثاني : أن يكون مقصوده الحض أو المنع ، أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله : إن فعلت كذا فعلي الحج ، وصوم سنة ، ومالي صدقة ، وعبيدي أحرار ، ونسائي طوالق - فهذا الصنف يدخل في مسائل (الأيمان) ويدخل في مسائل (الطلاق والعتاق والنذر والظهار) وللعلماء فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث ؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط ، وقد وجد الشرط ، فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط .(3/62)
والقول الثاني : هذه يمين غير منعقدة ، فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع ؛ لأن هذا حلف بغير الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الشهادات (2533),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن الترمذي النذور والأيمان (1534),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),مسند أحمد بن حنبل (2/11),موطأ مالك النذور والأيمان (1037),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341). من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت وفي رواية في الصحيح : سنن النسائي الأيمان والنذور (3769),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248). لا تحلفوا إلا بالله .
والقول الثالث : إن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 432)
ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر ، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق ، فقالوا في الأول : عليه كفارة يمين إذا حنث ، وقالوا في الثاني : يلزمه ما علقه ، وهو الذي حلف به إذا حنث ؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة ، وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة .
والقول الثالث : هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ، وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة ، كما بسط ذلك في موضعه ، وذلك أن الله تعالى قال في كتابه : سورة المائدة الآية 89 وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلى قوله سورة المائدة الآية 89 ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وقال تعالى : سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ(3/63)
وثبت في [الصحيحين ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034). من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه .
وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى : أما اللفظ : فلقوله : سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وقوله : سورة المائدة الآية 89 ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
وهذا خطاب للمؤمنين ، فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا ، والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251),مسند أحمد بن حنبل (2/69). من حلف بغير الله فقد أشرك رواه أهل [السنن] أبو داود وغيره ، فلا تدخل هذه في أيمان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 433)
المسلمين ، وأما ما عقده بالله والله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك ؛ ولهذا لو قال : أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق - دخل في ذلك ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، ولا أعلم فيها نزاعا ، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات ، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب .
أما من جهة المعنى : فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم ، لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أو ل الإسلام قبل أن تشرع الكفارة ، لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت المفسدة موجودة .(3/64)
وأيضا : فقد قال تعالى : سورة البقرة الآية 224 وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها ، فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به .
وأيضا : فقد قال تعالى : سورة البقرة الآية 226 لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ سورة البقرة الآية 227 وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (والإيلاء) هو الحلف والقسم ، والمراد بالإيلاء هنا : أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته ، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا ، وإن حلف بما عقده
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 434)
لله ؛ كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق- كان موليا عند جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي - في قوله الجديد- وأحمد .(3/65)
ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا ، كابن المنذر وغيره ، وذكر عن ابن عباس أنه قال : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين : إما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، والفيئة : هي الوطء ، خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان ، فإن فاء فوطئها حصل مقصودها ، وقد أمسك بمعروف ، وقد قال تعالى : سورة البقرة الآية 226 فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقا امرأته ، ولا تسقط الكفارة ، كما في قوله : سورة التحريم الآية 1 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان ، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين وإن كان المولي لا يفيء ، بل قد عزم على الطلاق فإن الله سميع عليم ، فحكم المولي في كتاب الله : أنه إما أن يفيء ، وإما أن يعزم الطلاق ، فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق ، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى .
وأما اليمين بالطلاق فمن قال : إنه يقع به الطلاق فلا يكفر ، فإنه يقول :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 435)(3/66)
إن فاء المولي بالطلاق وقع به الطلاق ، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به الطلاق ، فالطلاق على قوله لازم ، سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان ، والقرآن يدل على أن المولي مخير : إما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، فإذا فاء لم يلزمه الطلاق ، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل : بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة ، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء ، وفيه قول شاذ : أنه لا شيء عليه بحال ، وقول الجمهور أصح ، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034). من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه .
فإن قيل : المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة ، وإن وقع به الطلاق ، ورحمه بذلك .
قيل : هذا لا يصح ، فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل : أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال ، فإنه إذا أولج حنث ، وكان النزاع في أجنبية ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين في مذهب مالك .
والثاني : يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها ، وتحرم بها عليه امرأته ، ومعلوم : أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء ، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذا الفيئة .
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا فائدة في التأجيل ، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره ، فإن كان لا بد لها من الطلاق على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 436)
التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها ، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة لا لضرها .(3/67)
وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس ، فأفتوا من حلف فقال : إن فعلت كذا فمالي هدي ، وعبيدي أحرار ، ونحو ذلك- بأن يكفر عن يمينه ، فجعلوا هذا يمينا مكفرة ، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان ، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت ، وقد ظن طائفة من العلماء : أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان ، وليس كذلك ، بل هذه أيمان محضة .
وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر ، ولكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيئين :
أحدهما : فعل المحلوف عليه .
الثاني : عدم إيقاع المحلوف به .
فقول القائل : إن فعلت كذا فعلي الحج هذا العام بمنزلة قوله : والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام ، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام ، كذلك إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام ، وكذلك إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق عبدي أو أطلق امرأتي- فإنه لا تلزمه الكفارة إلا فعله ولم يطلق ولم يعتق ، ولو قال : والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 437)(3/68)
ولأعتقن عبدي ، وكذلك إذا قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبدي حر- هو بمنزلة قوله : والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق ، ولأوقعن الطلاق والعتاق ، وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة وإلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق ، وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث ؛ لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا ، وقد يكون وقوعا ، فإذا قال : إن فعلت كذا فعلي صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم ، وإذا قال : فعبدي حر وامرأتي طالق ، فالمعلق وقوع العتاق والطلاق ، وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع ، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق فقال : إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق .
وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط فهذا حالف ، كما لو قال : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا .
وأما قول القائل : إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه :
أحدها : أن الحالف بالكفر والإسلام- كقوله : إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني ، وقول الذمي : إن فعلت كذا فأنا مسلم- هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط ، ولا يلزمه ذلك بالاتفاق ؛ لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط ، بل قصد الحلف به ، وهذا المعنى موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق .
الثاني : أنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله .
الثالث : أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 438)
أحدهما : أن يكون الملتزم قربة .(3/69)
الثاني . أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه ، ولو التزم قربة كالصلاة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم يلزمه ، بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد ، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة ، وقول المحققين من أصحاب مالك .
وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين ، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط ، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به ، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها .
وأما قول القائل : إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة .
فيقال . النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات ، ولهذا جعله شركا ؛ لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين ، فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله .
13 - وقال أيضا [مجموع الفتاوى] (33/64) : فصل : في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين .
فالأول : أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط ، وإن كان الشرط مكروها له ، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق ؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق ، فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط ، لكن إذا وجد الشرط
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 439)(3/70)
فإنه يختار طلاقها : مثل : أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها ، لكن إذا فعلت هذه الأمور اختار طلاقها ، فيقول : إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ، ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها : إما عقوبة لها ، وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال ، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر ، وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا : أنه لا يقع به الطلاق ، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة ، وطائفة من الظاهرية ، وهذا ليس بحالف ، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة ، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا ، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا ، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا ، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع ، ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة .
وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول ، فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم ، وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء ، وهو أكره إليه من الشرط فيكون كارها للشرط ، وهو للجزاء أكره ، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين ، فيقول : إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار أو علي الحج ، ونحو ذلك ، أو يقول لامرأته : إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ، يقصد : زجرها أو تخويفها باليمين ، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت ؛ لأنه يكون مريدا لها ، وإن يقصد ذلك لكون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 440)(3/71)
طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال ، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع ، لا لقصد الإيقاع ، فهذا حالف ليس بموقع ، وهذا الحالف في الكتاب والسنة ، وهو الذي تجزئه الكفارة ، والناس يحلفون بصيغة القسم ، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء .
14 - وقال أيضا [مجموع الفتاوى] (33/ 74) : إذا حلف الرجل بالحرام فقال : الحرام يلزمني لا أفعل كذا ، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا ، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا ، أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة- ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف ، ولكن القول الراجح : أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق ، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق ، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه ، حتى لو قال : أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده ، ولو قال : أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء ، وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا ، والإيلاء طلاقا ، فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى ، وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر- فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان ، كذلك قال كثير من السلف والخلف- إنه إذا كان متزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا ، وهذا مذهب أحمد ، وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 441)(3/72)
الكفارة في مذهبه ، لكن قيل : إن الواجب كفارة ظهار ، سواء حلف أو أوقع ، وهو المنقول عن أحمد ، وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره ، فالحلف بالحرام يجزيه كفارة يمين ، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج ، أو مالي صدقة ، كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين ، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف ، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك ، بل معناه يوافقه ، فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر ، فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين .(3/73)
15 - وقال ابن القيم [إعلام الموقعين] لابن قيم الجوزية - تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل (3/ 69- 80) . : ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة ، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا ، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في [صحيح البخاري ] عن نافع قال : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء ، فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا ، وأما من يفصل بين القسم المحض ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 442)
والتعلق الذي يقصد به الوقوع ، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب ، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور ، وقد صح عنهم عدم الوقوع في صور ، والصواب : ما أفتوا به في النوعين ، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ، ويترك بعضها . فأما الوقوع : فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر ، وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته : إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ففعلته ، قال : هي واحدة ، وهو أحق بها على أنه منقطع في سنده الجراح بن المنهال ، ضعفه غير واحد ، وقال ابن حبان : كان يكذب في الحديث ، ويشرب الخمر . .
وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته : هي طالق إلى سنة ، قال : يستمتع بها إلى سنة ، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته ، وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر ، فقال : إن عدت سألتيني فأنت طالق .
فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق .(3/74)
وأما الآثار عنهم في خلافه : فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ، ولا تفرق بينهما .
قال الأثرم في [سننه] ، : ثنا عارم بن الفضل ، ثنا معمر بن سليمان ، قال أبي : ثنا بكر بن عبد الله ، قال : أخبرني أبو رافع ، قال : قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 443)
وهي نصرانية ، إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك ، قال . فأتيت زينب بنت أم سلمة ، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب ، قال : فأتيتها ، فجاءت معي إليها ، فقالت : في البيت هاروت وماروت ؟ فقالت : يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت : إن كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ونصرانية ، فقالت : (يهودية ونصرانية ! خلي بين الرجل وامرأته) فأتيت حفصة أم المؤمنين ، فأرسلت إليها ، فأتتها ، فقالت : يا أم المؤمنين ، جعلني الله فداك ، إنها قالت : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية ! ؟ ، فقالت : (يهودية ونصرانية ! ؟ خلي بين الرجل وامرأته) ، قالت : فأتيت عبد الله بن عمر ، فجاء معي إليها ، فقام معي على الباب ، فسلم فقالت . بأبي أنت وبأبي أبوك ، فقال : (أمن حجارة أنت ، أم من حديد أنت ، أم أي شيء أنت ؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين ، فلم تقبلي فتياهما) فقالت : يا أبا عبد الرحمن - جعلني الله فداك- إنها قالت : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية وهي نصرانية ، فقال . (يهودية ونصرانية ! ؟ كفري عن يمينك ، وخلي بين الرجل وامرأته) .(3/75)
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له : ثنا صفوان بن صالح ، ثنا عمر بن عبد الواحد ، عن الأوزاعي ، قال : حدتني حسن بن الحسن قال : حدثني بكر بن عبد الله المزني ، قال : حدثني رفيع ، قال : كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار ، فحلفت بالهدي والعتاقة : أن تفرق بيننا ، فأتيت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت لها ذلك ، فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك ، فأبت ، ثم أتيت زينب وأم سلمة ، فذكرت ذلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 444)
لهما ، فأرسلتا إليها . أن كفري عن يمينك ، فأبت ، فأتيت ابن عمر ، فذكرت ذلك له ، فأرسل إليها ابن عمر : أن كفري عن يمينك ، فأبت ، فقام ابن عمر فأتاها ، فقال : أرسلت إليك فلانة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزينب أن تكفري عن يمينك ، فأبيت ، قالت : يا أبا عبد الرحمن ، إني حلفت بالهدي والعتاقة . قال : وإن كنت قد حلفت بهما .
وقال الدارقطني . ثنا أبو بكر النيسابوري ، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري ، ثنا أشعث ، ثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي رافع : أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته ، فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم ، فكلهم قالوا لها : أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت ؟ فأمروها أن تكفر عن يمينها ، وتخلي بينهما .(3/76)
وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري : ثنا أشعث ، ثنا بكر ، عن أبي رافع : أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته ، فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة ، فكلهم قالوا لها : أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما . رواه روح والأنصاري واللفظ له ، وحديث روح مختصر .
وقال النضر بن شميل : ثنا أشعث ، عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع ، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا : تكفر يمينها .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 445)
وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي : ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع : أن ليلى بنت العجماء مولاته ، قالت : هي يهودية وهي نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة ، وقال : فأتيت ابن عمر ، فجاء معي ، فقام بالباب ، فلما سلم قالت : بأبي أنت وأبوك ، قال : أمن حجارة أنت أم من حديد ؟ أتتك زينب ، وأرسلت إليك حفصة ، قالت : قد حلفت بكذا وكذا . قال : كفري عن يمينك ، وخلي بين الرجل وامرأته .
فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا ، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق ، كذا قال الإمام أحمد : لم يقل : (وكل مملوك لها حر) إلا التيمي ، وبرئ التيمي من عهدة التفرد .
وقاعدة الإمام أحمد : أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ، فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر ؛ لصحته وانتفاء علته .(3/77)
فإن قيل : للحديث علة أخرى ، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به ، وقد أشار إليها في رواية الأثرم ، فقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا ، وكل مملوك لها حر ، فأفتيت بكفارة يمين ، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته ، وأيمان ، فقال : أما الجارية فتعتق .
قلت : يريد بهما : ما رواه معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال : حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت : مالها في سبيل الله ، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها ، فحلف زوجها
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 446)
أن لا تفعله ، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر ، فقالا : أما الجارية فتعتق ، وأما قولها : مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها ، فقيل : لا ريب أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك ، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان .
هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان ، فإن رواته حفاظ أئمة ، وقد خالفوا عثمان ، وأما ابن عباس فقد روي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله ، قال : يكفر يمينه ، وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان ، ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة .(3/78)
قال أبو محمد بن حزم : وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين ، وعن ابن عمر : أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك- كفارة يمين واحدة . فإذا صح هذا عن الصحابة ، ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر في قول الحالف : عبده حر إن فعل ، أنه يجزيه كفارة يمين ، وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى ، فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى ، وكيف وقد أفتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق : أنه لا شيء عليه ، ولم يعرف له في الصحابة مخالف .
قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزه في شرحه لأحكام عبد الحق : (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه) وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك : هل يلزم أم لا ؟ فقال أمير المؤمنين علي كرم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 447)
الله وجهه وشريح وطاوس : لا يلزمه من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث ، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة ، هذا لفظه بعينه ، فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق .(3/79)
وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط ، ولا تعارض بين ذلك ، فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق ، وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه ، فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال ، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر ، فإن كراهته لذلك كله ، وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه ، وهذه علة صحيحة ، فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة ، والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها ، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم ، بل لزوم الإعتاق ، والتطليق ، بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى ، أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين ، وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى ، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء ، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق ، فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء : وهي : وجوب التطليق ، وفعله ، وحصول أثره ، وهو الطلاق ، فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى .
أما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة ، وبالقول تارة ، وبالشك تارة ، ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه ، فلأن يمنع من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 448)
وقوع الطلاق أولى وأحرى ، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله ، ويسري في ملك الغير ، وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ، ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه ، كما أفتى به الصحابة ، فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع ، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف : (أيمان المسلمين تلزمني) عند من ألزمها بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ أولى وأحرى .(3/80)
وإذا دخلت في قول الحالف : إن حلفت يمينا فعبدي حر ، فدخولها في قول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الأيمان (1651),سنن النسائي الأيمان والنذور (3786),سنن ابن ماجه الكفارات (2108),مسند أحمد بن حنبل (4/378),سنن الدارمي النذور والأيمان (2345). من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير أولى وأحرى .
وإذا دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي النذور والأيمان (1532),سنن ابن ماجه الكفارات (2104). من حلف فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك فدخولها في قوله : صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034). من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه أولى وأحرى ، فإن الحديث أصح وأصرح .
وإذا دخلت في قوله : صحيح البخاري المساقاة (2229),صحيح مسلم الإيمان (138),سنن الترمذي تفسير القرآن (2996),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3243),سنن ابن ماجه الأحكام (2323),مسند أحمد بن حنبل (1/379). من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فدخولها في قوله تعالى سورة المائدة الآية 89 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أولى وأحرى بالدخول أو مثله .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 449)
وإذا دخلت في قوله تعالى: سورة البقرة الآية 226 لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فلو حلف بالطلاق كان موليا، فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى؛ لأن الإيلاء نوع من اليمين، فإذا دخل في الحلف في الطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس.(3/81)
وإذا دخلت في قوله: صحيح مسلم الأيمان (1653),سنن الترمذي الأحكام (1354),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255),سنن ابن ماجه الكفارات (2121),مسند أحمد بن حنبل (2/228),سنن الدارمي النذور والأيمان (2349). يمينك على ما يصدقك به صاحبك فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان، وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص؟! وإذا دخلت في قوله: صحيح مسلم المساقاة (1607),سنن النسائي البيوع (4460),سنن ابن ماجه التجارات (2209),مسند أحمد بن حنبل (5/297). إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله سورة المائدة الآية 89 وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ فهلا دخلت في قوله: سورة المائدة الآية 89 ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وإذا دخلت في قول الحالف: (أيمان البيعة تلزمني) وهي الأيمان التي رتبها الحجاج، فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله؟! فإذا كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى: أن الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الأيمان، وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع، فلا يلزم الحالف بها شيئا، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه: (ليس الحلف بالطلاق شيئا)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 450)(3/82)
وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه: أنها من خطوات الشيطان، لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود : أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إن كلمت فلانا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت، وإن شاءت أمسكت، وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه:
أحدها : أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية.
الوجه الثاني : أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته، وهذا اختيار الروياني، ووجهه: أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية.
الوجه الثالث : أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القفال في [فتاويه].
ووجهه : أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة، كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو قد طلقتك، أو يقول: امرأتي طالق أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني؛ ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاقا، وقال عطاء: الله بوأها، وتبعه على ذلك الأئمة، فإذا قال: الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله، وإن لم يضفه فلا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 451)
يقع، والموقعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم، ولمن نصر قول القفال : أن يقول: إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه؛ لأنه نذر أن يطلق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع.(3/83)
وقوله : الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق، وقوله: (الطلاق يلزمني) لا يصلح أن يكون سببا (إذ) لم يضف فيه الطلاق إلى محله (فهو كما لو قال: (العتق يلزمني) ولم يضف فيه العتق إلى محله) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة دار الفكر 1397 هـ (الناشر). بوجه، ونظير هذا أن يقول له: بعني أو أجرني، فيقول: البيع يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الإجارة حتى يضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: الظهار يلزمني لم يكن ذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله، كما لو قال: العتق يلزمني، ولم يضف فيه العتق إلى محله، وهذا بخلاف ما لو قال: الصوم يلزمني أو الحج، أو الصدقة، فإن محله الذمة، وقد أضافه إليها.
فإن قيل : وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة؟
قيل : هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك، وهو التطليق والإعتاق، وحينئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا: أنه لو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 452)
قال: أنا منك طالق، لم تطلق بذلك؛ لإضافة الطلاق إلى غير محله.
وقيل : تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك؛ تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات، فهذا كشف سر هذه المسألة.
وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في [شرح التنبيه]. انتهى المقصود .
وقال ابن القيم [إعلام الموقعين] (3/83). أيضا : قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان :
إحداهما : إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق.
والثانية : الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وإن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا .(3/84)
16 - قال السبكي : ردا على استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الفصل الثالث في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل:
أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: سورة المائدة الآية 89 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وساق الآية إلى قوله: سورة المائدة الآية 89 لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثم قال: وإنما الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: سورة المائدة الآية 89 ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه، والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة، قال الله تعالى: سورة البقرة الآية 224 وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ وساق الآية إلى قوله تعالى: عليم . . . ثم قال: وللمفسرين في معنى قوله تعالى:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 453)
سورة البقرة الآية 224 وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا قولان:
أحدهما : أن المراد: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى عرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا، لا تفعلوا فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى، فنهاهم الله عن اليمين على ذلك، ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع ليكون طريقا للحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري كفارات الأيمان (6342),سنن النسائي الأيمان والنذور (3780). إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير .(3/85)
والقول الثاني : أن المراد: لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء، وقوله: سورة البقرة الآية 224 أَنْ تَبَرُّوا معناها: إرادة أن تبروا، يعني: إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم، ولا شك أن اليمين بالله تعالى مرادة في الآيتين، وهي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا، فإذا قال: (والله لا أفعل) أو (والله لأفعلن) فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم؛ ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء: أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها.
ومن هنا قال أهل الظاهر : لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك، وممن قال بهذا القول: الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، نقله ابن عبد البر وقال: هو الصواب عندنا والحمد لله .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 454)
وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل الإلحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم ، هذه أقوال المعتبرين من العلماء . . . هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:
أحدهما : أن يمين الطلاق لا كفارة فيها، ولو قلنا: هي يمين .(3/86)
والثاني : أن عموم الآية مخصوص، فلا تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه اسم اليمين لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء، فإذا كان للفظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه، ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع، فإن تعذر حملناه على معناه في اللغة والعرف، وهاهنا في الآية زيادة وهي: أن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به، أو لم يكره ولم يحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري المناقب (3624),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),مسند أحمد بن حنبل (2/76),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341). من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 455)(3/87)
كان حالفا فلا يحلف إلا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: صحيح البخاري المناقب (3624),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن الترمذي النذور والأيمان (1534),سنن النسائي الأيمان والنذور (3766),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),سنن ابن ماجه الكفارات (2094),مسند أحمد بن حنبل (2/76),موطأ مالك النذور والأيمان (1037),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341). لا تحلفوا بآبائكم وفي [سنن النسائي ] من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنن النسائي الأيمان والنذور (3769),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248). لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى عنه لم يكن شرعيا، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا، والكل شرعي ينعقد، فقد صحيح البخاري القدر (6243),سنن الترمذي النذور والأيمان (1540),سنن النسائي الأيمان والنذور (3761),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263),سنن ابن ماجه الكفارات (2092),مسند أحمد بن حنبل (2/68),سنن الدارمي النذور والأيمان (2350). كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول: "لا، ومقلب القلوب . سنن النسائي الأيمان والنذور (3763),سنن أبو داود السنة (4744),مسند أحمد بن حنبل (2/333). وفي حديث صفة الجنة: أن جبريل قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها سنن النسائي الأيمان والنذور (3773). ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ورب الكعبة فكل أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله : أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى، فإذا كانت اليمين الشرعية : هي اليمين بالله عز وجل أو صفاته كانت الآية محمولة على ذلك، فدلت الآية على(3/88)
أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي، فيحمل على المعنى الشرعي، وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية، فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية، وهي: الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته، ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 456)
ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك؛ لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله، وعند هذا اختلف نظرهم: فمنهم من يلحق أنواعا كثيرة، ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف بالصحابة والتابعين ومن بعدهم ... ... ومضى إلى أن قال: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة، فلا معدل عن الإجماع، إذ لا يعارض الإجماع بدليل غيره، هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين ، ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها تسمى أيمانا، قال ابن عبد البر : وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر، وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء كل على أصله، وقول المتقدمين: الأيمان بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل، فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 457)(3/89)
وأما الآية الثانية: وهي: قوله تعالى: سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ فإن المستدل تعلق بها بناء على أن الكفارة وجبت في التحريم، خاصة وأن الله سبحانه جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين في الكفارة، ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك، فإن هذه الواقعة قد قيل: إنها في قصة مارية، وقيل: في قصة العسل، ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى، وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب مما تقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما قال، فلو كان الحرام يسمى حقيقة لعلم دخوله في الآية الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء، وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق، فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريما .
وأما من لم يقل بذلك فيقول: الكفارة ليمين بالله اقترنت بالتحريم، وقد قال بعض من استدل بالآية على أن التحريم يمين: (من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد) وقد روى البيهقي بإسناده إلى
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 458)(3/90)
عائشة رضي الله عنها قالت: سنن الترمذي الطلاق (1201),سنن ابن ماجه الطلاق (2072). آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة . وروى أبو داود مرسلا عن قتادة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فدخلت فرأت معه جاريته فقالت: في بيتي وفي يومي، فقال: أسكتي، فوالله لا أقربها وهي علي حرام وروى البيهقي مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: "هي علي حرام " فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله ما ذكره من مرسل قتادة ومسروق لا حجة فيهما لمطلوبه؛ لما فيهما من الإرسال. .
وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية، فروى البيهقي : صحيح البخاري الطلاق (4966),صحيح مسلم الطلاق (1474),سنن النسائي الأيمان والنذور (3795),سنن أبو داود الأشربة (3714),مسند أحمد بن حنبل (6/221). أن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة تخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 459)(3/91)
زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له، فقال: "بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له " فنزلت: سورة التحريم الآية 1 لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى سورة التحريم الآية 4 إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لعائشة وحفصة سورة التحريم الآية 3 وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لقوله: " بل شربت عسلا قال البيهقي : رواه البخاري في [الصحيح] عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء في هذا الحديث صحيح البخاري الأيمان والنذور (6313). ولن أعود له، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا قال ابن عبد البر : وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: سورة التحريم الآية 1 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ والله لا أشرب العسل بعدها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة، سنن الترمذي الطلاق (1201),سنن ابن ماجه الطلاق (2072). فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة، فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية، انتهى المقصود .(3/92)
يتلخص المقصود مما تقدم في أمور :
الأول : الاختلاف في ضابط ما يسمى حلفا بالطلاق، فقيل: هو كل طلاق علق على شرط أيا كان هذا الشرط، وقيل: كل طلاق علق على شرط، وقصد به الحث على الفعل أو المنع منه، أو قصد به تصديق خبر أو تكذيبه، مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإلا كان شرطا محضا، مثل: إن طلعت الشمس فأنت طالق، والحلف بالطلاق على الأول أعم منه على الثاني، وذكر ابن تيمية أن الضابط الثاني أصح لغة وشرعا، وأما العرف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 460)
فيختلف.
الثاني : أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء اعتبر تعليقه، ووقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، ولو كان قاصدا الحث على فعل أو المنع منه أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولا كفارة عليه في ذلك، واستدل الإمام أحمد لذلك: بما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اعتبار التعليق ووقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، ورد ما زاده سليمان بن طرخان التيمي في روايته لقصة ليلى بنت العجماء من قوله فيها: (كل مملوك لها حر) لتفرده بهذه الزيادة، وعارضه بما رواه عبد الرزاق من طريق عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعلى ذلك لا يتم لمن جعل الطلاق المعلق يمينا تلزم فيها الكفارة قياسه على ما جاء من الفتوى في قصة ليلى بنت العجماء في لزومه الكفارة دون وقوع الطلاق.
ونوقش : بأن سليمان لم ينفرد بالزيادة، وبأنه على تقدير تفرده فهو ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض رواية من هو أوثق منه معارضة لا يمكن معها الجمع، ونوقشت المعارضة بإمكان الجمع، وعلى تقدير عدم إمكانه فرواية سليمان أرجح من رواية عثمان بن حاضر؛ لما سبق من النقل عن ابن تيمية وابن القيم من مبررات الترجيح.(3/93)
الثالث : أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على زواجه بها كان تعليقه لغوا، ولا تطلق بذلك إذا تزوجها ؛ إما لأنها أجنبية منه وقت التعليق كما علل به الشافعية، وإما لمقارنة وقوع الطلاق عقد الزواج، كما علل به محمد بن الحسن من الحنفية .
وروي عن الإمام أحمد : أنه يصح تعليق طلاق الأجنبية على الزواج
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 461)
بها؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار فيصح تعليقه على الملك كالوصية، وهذه الرواية موافقة لمذهب المالكية والحنفية سوى محمد بن الحسن .
هذا وجملة القول : أنه لم يثبت نص صريح لا في الكتاب ولا في السنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، فكانت المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال، من أجل هذا اختلفت الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في حكمها، فمن قائل: إن تعليق الطلاق على شرط لغو؛ لأنه حلف خالف ما جاءت به الأحاديث من النهي عن الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، ومن قائل: إنه معتبر، ويقع به الطلاق عند حصول المعلق عليه ؛ لقوله تعالى: سورة المائدة الآية 1 أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ولحديث المسلمون عند شروطهم وللآثار الواردة في اعتباره طلاقا، بل ادعى أنه مجمع عليه، وقد سبقت مناقشته، ومن قائل: إنه داخل في جنس الأيمان إن قصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه دون إيقاع الطلاق، فتلزم فيه الكفارة عند الحنث، كما تلزم في سائر الأيمان، واستندوا إلى القياس على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، ورأوا أن الإلزام بالكفارة فيه جمع بين ما ورد عن السلف من الآثار المختلفة، فكان أولى من إلغائه أو اعتباره طلاقا، إلى آخر ما تقدم من الاستدلال ومناقشة كل فريق لمخالفه. هذا ما تيسر جمعه.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة(3/94)
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(3/95)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 462)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (16) وتاريخ 12/11/1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14) الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1/4/1393 هـ و 17/4/1393 هـ القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة- فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة الرابعة المنعقد فيما بين 29/10/1393 هـ و12/11/1393 هـ، وفي هذه الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال- بعد ذلك توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد من علق طلاقه على شرط الطلاق المحض، أو كان قصده الحث أو المنع، أو تصديق خبر أو تكذيبه؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 463)(3/96)
1 - ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في [صحيحه] معلقا بصيغة الجزم من أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق. فتفعله، قال: هي واحدة وهو أحق بها، وما رواه أيضا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه: أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت طلقت امرأته، إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضا.
2 - لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل مع القطع بأنه لم يقصد الطلاق، وذلك استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول من أن سنن الترمذي الطلاق (1184),سنن ابن ماجه الطلاق (2039). ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد : الطلاق، والنكاح، والعتاق . فإن كلا من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذكر الطلاق وإن لم يقصده، فلا وجه للتفريق بينهما بإيقاعه على الهازل به وعدم إيقاعه على الحالف به.
3 - لقوله تعالى: سورة النور الآية 7 وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ووجه الاستدلال بها: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقديم الكذب.
4 - إن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 464)(3/97)
5 - إن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم، قال تقي الدين السبكي في رسالته [الدرة المضيئة]: وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به. وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهم، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه: [التمهيد] و [الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى]. . . إلى أن قال: وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأئمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة . ا هـ .
وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي رحمه الله من الإجماع بأنه خاص فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط.
وفي [القواعد النورانية] لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 465)
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا . ا هـ.(3/98)
وقال أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد . فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال: كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة . ا هـ.
أما المشايخ: عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان - فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلق على شرط يقصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق يمينا مكفرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
.... .... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير(3/99)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 466)
وجهة نظر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :
فبناء على دراسة موضوع تعليق الطلاق من قبل مجلس هيئة كبار العلماء، واختيار أكثرية الأعضاء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد الزوج الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه أو قصد إيقاع الطلاق.
وقد وجه مختارو هذا القول اختيارهم، وذكروا مستندهم من كلام أهل العلم إذ لا نعلم وجود نص من كتاب ولا سنة في الموضوع؛ ولذلك حصل الاختلاف في وقوع الطلاق من عدمه.
ورأينا نحن الموقعين أدناه: أن الطلاق المعلق إن قصد الزوج بتعليقه على شيء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه - اعتبر طلاقا، كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. وإن قصد بتعليق الطلاق الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه - لم يقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، وإنما يكون يمينا تجب فيها الكفارة للأمور الآتية:
الأول : أنه لم يقصد الطلاق، وإنما قصد الحث أو المنع مثلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43). إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .
الثاني : الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يمينا في اللغة وفي عرف الفقهاء؛ ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 467)(3/100)
الاستثناء في اليمين، وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرئ مسلم بيمين فاجرة، وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث: صحيح مسلم الأيمان (1653),سنن الترمذي الأحكام (1354),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255),سنن ابن ماجه الكفارات (2121),مسند أحمد بن حنبل (2/228),سنن الدارمي النذور والأيمان (2349). يمينك على ما يصدقك به صاحبك وفي عموم حديث: صحيح مسلم المساقاة (1607),سنن النسائي البيوع (4460),سنن ابن ماجه التجارات (2209),مسند أحمد بن حنبل (5/297). إياكم والحلف في البيع كما ذكر ذلك: العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من المحققين، وإذا كان يمينا دخل في عموم قوله تعالى: سورة التحريم الآية 2 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وقوله تعالى: سورة المائدة الآية 89 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ الآية فتجب فيها الكفارة.(3/101)
الثالث : قياس الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، وهي ما رواه عبد الرزاق في [مصنفه] عن سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة . إلخ- ثم ذكر أنه أتى حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكلهم أفتاها بأن تكفر عن يمينها، وتخلي بين الرجل وامرأته، مع أن الهدي والصدقة والعتق أمور محبوبة لله تعالى يثيب فاعليها، ولم يأمرها أولئك بإنفاذ مقتضى حلفها، بل اكتفوا منها بالكفارة، فكيف يقال: إن الطلاق الذي هو مكروه عند الله تعالى، ولا يحبه من عباده- يقع عند التعليق للحث والمنع . . . إلخ.
ولا يقع العتق والصدقة والهدي المحبوبة لله تعالى يكون ذلك يمينا.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 468)
مكفرة، وقد اختار عدم وقوع الطلاق المعلق إذا أريد به الحث أو المنع مثلا جماعات من المحققين من السلف والخلف، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهما هما في العلم والمعرفة والبصيرة.
الرابع : ما قيل عن تفرد سليمان التيمي بزيادة العتق في يمين ليلى بنت العجماء مردود برواية هذه الزيادة من طريقين غير طريق سليمان التيمي، ولو فرضنا تفرد سليمان التيمي بهذه الزيادة لم يضره ذلك ؛ لأن زيادة الثقة مقبولة كما هو معلوم في مصطلح أهل الأثر، كيف وهو لم ينفرد بها؟! ومع ذلك فهو أجل من روى أثر ليلى بنت العجماء عن بكر بن عبد الله وأفقههم.
وما قيل من التعارض بين رواية عثمان بن حاضر للقصة دون هذه الزيادة وبين رواية سليمان التيمي التي فيها الزيادة- فمردود بأن هذا لا يسمى تعارضا؛ لأن الزيادة التي ثبتت في رواية سليمان التيمي لا تتنافى مع أصل الأثر، ولو فرض وجود التعارض، فإن رواية سليمان أرجح من رواية عثمان .(3/102)
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم البحث في هذا المقام بحيث لم يبق معه لباحث مجال، وقد ذكر بعضه في إعداد البحث.
الخامس : ما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه، فإنه إما غير صحيح نقلا، وإما صحيح معارض بمثله، وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل أو المنع منه، فهو في غير محل النزاع، فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده، والصواب التفصيل كما ذكرنا.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 469)
وعلى هذا لا تصح دعوى الإجماع على وقوع الطلاق المعلق .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 - عبد الله خياط
عضو هيئة كبار العلماء
2 - عبد الرزاق عفيفي
عضو هيئة كبار العلماء
3 - عبد العزيز بن باز
عضو هيئة كبار العلماء
4 - عبد الله بن حميد
عضو هيئة كبار العلماء
5 - صالح بن لحيدان
عضو هيئة كبار العلماء
6 - محمد بن جبير
عضو هيئة كبار العلماء
7 - إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عضو هيئة كبار العلماء(3/103)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 470)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 471)
(6)
تحديد المهور
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 472)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 473)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد المهور
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 95- 108، سنة 1400 هـ :
فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم (4/هـ24185) وتاريخ شوال 1396 هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من عرض موضوع تحديد المهور على هيئة كبار العلماء في الدورة القادمة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في ذلك، مشتملا على العناصر الآتية:
أولا : مهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته.
ثانيا : ما عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم.
ثالثا : هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور؟
رابعا : قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تحديد المهور.
خامسا : ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 474)
سادسا : مبررات التحديد ومضار عدمه.
سابعا : هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج؟(3/104)
تحديد المهور
أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم :
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن صحيح مسلم النكاح (1426),سنن النسائي النكاح (3347),سنن أبو داود النكاح (2105),سنن ابن ماجه النكاح (1886),مسند أحمد بن حنبل (6/94),سنن الدارمي النكاح (2199). قال: سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم .
وقال عمر رضي الله عنه: سنن الترمذي النكاح (1114),سنن أبو داود النكاح (2106),سنن ابن ماجه النكاح (1887),سنن الدارمي النكاح (2200). ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية، قال الترمذي : حديث صحيح. انتهى.
وروى أبو داود والنسائي، عن أم حبيبة رضي الله عنها: سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2107),مسند أحمد بن حنبل (6/427). أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، وفي رواية: سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2108),مسند أحمد بن حنبل (6/427). أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل، وعند النسائي : سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2086),مسند أحمد بن حنبل (6/427). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة، زوجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهور(3/105)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 475)
نسائه أربعمائة درهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: صحيح البخاري النكاح (4798),صحيح مسلم النكاح (1365),سنن الترمذي النكاح (1115),سنن أبو داود النكاح (2054),سنن ابن ماجه النكاح (1957),مسند أحمد بن حنبل (3/181),سنن الدارمي النكاح (2243). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حيي، وجعل عتقها صداقها . أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم .(3/106)
ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم :
روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: صحيح البخاري النكاح (4799),صحيح مسلم النكاح (1425),سنن الترمذي النكاح (1114),سنن النسائي النكاح (3280),سنن أبو داود النكاح (2111),سنن ابن ماجه النكاح (1889),مسند أحمد بن حنبل (5/336),موطأ مالك النكاح (1118),سنن الدارمي النكاح (2201). جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: "وهل عندك من شيء؟ " قال: لا، والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ " فذهب ثم رجع. فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انظر ولو خاتما من حديد"، فذهب ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل : ماله رداء، فلها نصفه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي، فلما جاء. قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 476)(3/107)
هذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في [الصحيح] ومالك في [الموطأ] وأبو داود والترمذي في [السنن] وهذا لفظ البخاري . وفي رواية لأبي داود أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نحو هذه القصة، ولم يذكر الإزار والخاتم، إلى أن قال: سنن أبو داود النكاح (2111). وما تحفظ من القرآن؟ " قال سورة البقرة والتي تليها قال: " قم، فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك وفي سنده: أبو قرة البصري وهو ضعيف، ولكن للحديث شواهد بمعناه، فهو حسن.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سنن أبو داود النكاح (2110),مسند أحمد بن حنبل (3/355). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل وفي رواية: قال: صحيح مسلم النكاح (1405). كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة [سنن أبي داود] (2/585). . ، وفي سنده موسى بن مسلم وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص]: وروي موقوفا وهو أقوى، وقال المنذر في [مختصر سنن أبي داود ]: في إسناده موسى بن مسلم، وهو ضعيف، وذكر أبو داود أن بعضهم رواه موقوفا وقال: رواه أبو عاصم عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر، ثم ذكر الرواية الأخرى، قال أبو داود : رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر على معنى أبي عاصم، وهذا الذي رواه أبو داود معلقا قد أخرجه مسلم في [صحيحه] من حديث ابن جريج عن أبي الزبير قال: صحيح مسلم النكاح (1405). سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو بكر البيهقي : وهذا وإن كان في نكاح المتعة، ونكاح المتعة قد صار منسوخا،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 477)
فإنما نسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقا فإنه لم يرد فيه النسخ.(3/108)
وروى الترمذي عن عبد الله بن عامر عن أبيه: سنن الترمذي النكاح (1113),سنن ابن ماجه النكاح (1888). أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه . أخرجه الترمذي، وفي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ضعيف، وقال الترمذي : حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح، قال الحافظ في [بلوغ المرام] بعد أن حكى تصحيح الترمذي هذا: إنه خولف في ذلك.
وروى النسائي في [سننه] قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا محمد بن موسى عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم، قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما، وفي رواية: أخبرنا محمد بن النضر بن مساور، قال: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره فأسلم، وكان ذلك مهرها، قال ثابت : فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام، فدخل بها فولدت له .
وروى أبو داود بسنده، عن أنس رضي الله عنه: صحيح البخاري البيوع (1944),صحيح مسلم النكاح (1427),سنن الترمذي البر والصلة (1933),سنن النسائي النكاح (3373),سنن أبو داود النكاح (2109),سنن ابن ماجه النكاح (1907),مسند أحمد بن حنبل (3/205),موطأ مالك النكاح (1157),سنن الدارمي النكاح (2204). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران. فقال صلى الله عليه وسلم : "مهيم؟ "، فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، قال "ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 478)(3/109)
ذهب، قال: " أولم ولو بشاة وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (الردع). هو أثر الطيب. (مهيم): أي: ما شأنك أو ما هذأ؟ أو هي كلمة استفهام مبنية على السكون. .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صحيح مسلم النكاح (1424). جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فأعني على مهرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا"، قال: قد نظرت إليها، قال: "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق، قال: "وعلى أربع أواق؟ كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه ". قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعثه معهم .
وروى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: سنن أبو داود النكاح (2117). أترضى أن أزوجك من فلانة؟ " قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ " قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا. ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة- يعني: امرأته- ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وأني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذته فباعته بعد موته بمائة ألف، قال أبو داود : وزاد عمر بن الخطاب (وحديثه أتم) في أول الحديث، سنن أبو داود النكاح (2117). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير النكاح أيسره وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل، ثم ساق معناه.
قال أبو داود : يخاف أن يكون هذا الحديث ملزقا؛ لأن الأمر على غير هذا.(3/110)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 479)
ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور :
لا نعلم دليلا لا من القرآن ولا من السنة يدل على تحديد المهور، فالأدلة التي جاءت في القرآن: منها: ما فيه التنبيه على جواز دفع المهر الكثير، ومنها: ما هو عام يشمل القليل والكثير، والأدلة التي جاءت من السنة دالة على تفسير هذا العموم بجوازه بالقليل والكثير.
ونحن نذكر فيما يلي نقولا عن أهل العلم بعدم التحديد ثم نتبعها بالأدلة من القرآن ثم الأدلة من السنة:
أما النقول عن أهل العلم فمن ذلك :
1 - قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن لا تحديد في أكثرالصداق [الجامع لأحكام القرآن] (5/101). .
2 - قال ابن قدامة : وأما أكثر الصداق فلا توقيت فيه بإجماع أهل العلم، قاله ابن عبد البر [المغني] (7/138). انتهى.
وأما الدليل من القرآن المنبه على جواز كثرة المهر : فهو قوله تعالى: سورة النساء الآية 20 وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا الآية .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : فهو دليل على جواز المغالاة في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 480)
المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح [تفسير القرطبي] (5/99). انتهى.
وقال ابن كثير : في الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الكثير [تفسير ابن كثير] (2/466). انتهى.(3/111)
وأما ما جاء من القرآن عاما يشمل القليل والكثير، فمن ذلك قوله تعالى: سورة النساء الآية 24 وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
وقوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ
فإن لفظ الأموال ولفظ الأجور عام يشمل القليل والكثير.
وأما الأدلة التي جاءت من السنة دالة على وقائع مختلفة حصل فيها تفاوت كبير في المهور، كمهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته رضي الله عنهن، وما عرف من مهور زوجات أصحابه رضي الله عنهم، كالتزويج على ما مع المتزوج من القرآن، والتزويج على النعلين، وعلى وزن نواة من ذهب، وعلى أربع أواق، فقد سبق ذكر ذلك في الأمرين الأول والثاني.(3/112)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 481)
رابعا : قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور :
روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي العجفاء السلمي قال : خطبنا عمر يوما فقال : ( ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) هذه رواية أبي داود .
وفي رواية الترمذي بعد قوله : ( كان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) .
وأخرج النسائي الأولى ، وزاد عليها : ( وإن الرجل ليغلي بصدقة المرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول : كلفت لكم علق القربة - وكنت غلاما عربيا مولدا فلم أدر ما علق القربة ) انتهى المقصود .
وقال القرطبي في [تفسيره] : وخطب عمر فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة ، فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا ؛ أليس الله سبحانه وتعالى يقول : سورة النساء الآية 20 وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا قال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وفي رواية : فأطرق عمر . ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ، وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ والله المستعان .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 482)(3/113)
وترك الإنكار ، أخرجه أبو حاتم البستي في [صحيح مسنده] عن أبي العجفاء السلمي ، قال : خطب عمر الناس فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية ، ولم يذكر : فقامت امرأة إلى آخره ، وأخرجه ابن ماجه في [سننه] عن أبي العجفاء ، وزاد بعد قوله : أوقية : وإن الرجل ليغلي صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، ويقول : وقد كلفت إليك علق القربة أو عرق القربة وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة [تفسير القرطبي] ( 5/99 ) . .
وقال ابن كثير في [تفسيره] : وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ، ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء ، واسمه هرم بن سيب البصري ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
طريق أخرى عن عمر ، قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن خالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : ركب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 483)(3/114)
عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم ، قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ، قال : وأي ذلك . قالت : أما سمعت الله يقول : سورة النساء الآية 20 وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الآية فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي ، طريق أخرى قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله يقول : سورة النساء الآية 20 وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا - من ذهب - قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود ، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا ، فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته .
( طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع ) قال الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تزيدوا في مهور النساء ، وإن كانت بنت ذي القصة . يعني : يزيد بن الحصين الحارثي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 484)(3/115)
فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس : ما ذاك لك ، قال : ولم ؟ قالت : إن الله قال : سورة النساء الآية 20 وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الآية ، فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ [تفسير ابن كثير] ( 1/ 466 ) وما بعدها . .(3/116)
خامسا : ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور :
تحديد الأسعار بالنسبة للأعيان والمنافع محل خلاف بين أهل العلم :
وقد سبق أن أعد في ذلك بحث ، ووزع على أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس في الدورة الثامنة ، وبإمكانهم الرجوع إليه .
ولكن الفرق بين تحديد الأسعار في الأعيان والمنافع عند من يقول به ، وتحديد المهور يمكن أن يقال : بأن تحديد أسعار الأعيان والمنافع يمكن ضبطه ، أما تحديد المهور فلا يمكن ضبطه ؛ لأن العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب متفاوتة ، وظروف الناس وإمكاناتهم وقدراتهم تختلف ، فيعطي كل بحسب حاله ، ومع ذلك فقد ورد التنبيه في السنة إلى اليسر في ذلك ، وعدم التغالي فيه ، ومنه حديث : إن من خير النساء أيسرهن صداقا رواه ابن حبان في [صحيحه] من حديث ابن عباس ، وحديث : إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير إصداقها رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة .
ويمكن أن يقال : إن الفرق بينهما : أن المعاوضة في السلع والمنافع يغلب عليها المغالبة ، أما بذل المال في النكاح فيغلب عليه قصد التكرم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 485)
دون المغالبة .
ويمكن أن يقال : أيضا أن هناك فرق آخر ، وهو : أن المقصود في المعاملات المالية - سواء أكانت أعيانا أو منافع - هو المال ، أما في النكاح فالمقصود ذات المرأة والاستمتاع بها ، وذات الزوج لا المال .(3/117)
سادسا : مبررات التحديد ومضار عدمه :
أ- مبررات التحديد : قد يقال : إن للتحديد مبررات كثيرة منها :
1 - تيسير الزواج .
2 - بقاء النسل وتكثيره بطريق شرعي .
3 - خلو المجتمع من العناصر الفاسدة ومن الفساد .
4 - عمار الأرض بآلات صالحة .
5 - حفظ كيان الأسرة والعمران بنسل شرعي .
6 - تحصين الفروج وغض البصر .
7 - استفراغ الشهوة ، واستنزاف المواد المضرة ، وإصلاح الجسد بالطريق الشرعي .
ب- مضار عدمه : قد يقال : إن لعدم التحديد مضارا كثيرة : منها :
1 - قلة الزواج ؛ لأن الغلو في المهور يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به .
2 - قلة الزواج تؤدي إلى انتشار الفساد بين الرجال والنساء ، وبين الرجال أنفسهم ، وبين النساء أنفسهن ، فتكثر الفواحش بسبب ذلك .
3 - وجود شيء من هذه المفاسد في شخص ما تجعله عضوا أشل ، لا ينتفع به في مجال البناء السليم ، دينيا ، واجتماعيا ، وثقافيا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، وعسكريا ، وصناعيا ، وغير ذلك من الأمور التي تنفع دنيا وأخرى .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 486)
4 - المجتمع الذي تنتشر به هذه المفاسد مجتمع غير مترابط .
5 - يضاف إلى ما سبق : أن الشخص إذا تعذر عليه الزواج من بلده نتيجة غلاء المهور اضطر إلى أن يتزوج من الخارج ، والزواج بالأجنبية في هذا الوقت له آثاره السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة .
6 - قد يؤدي عدم التحديد إلى أن المرأة هي التي تخطب الرجل مستقبلا ، وتدفع له المهر ، كما هي عادة غير المسلمين .
7 - من النتائج السيئة لعدم التحديد أن الآباء قد يمنعون الأكفاء ؛ لأنهم لا يستطيعون دفع مهر كثير ويزوجون غير الأكفاء ، لأنهم يدفعون ما يرضي الآباء من المهر .(3/118)
إذا علم ما سبق من المصالح المترتبة على التحديد والمفاسد الناشئة عن عدم التحديد ، فإن من القواعد المقررة في الشريعة أن المصالح إذا تعارضت قدم أرجحها ، وأن المفاسد إذا لم يمكن تركها كلها وجب ترك أعظمها ضررا ، ولو بارتكاب أقلها ضررا . وإذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها ، وإذا تساوت في نظر المجتهد فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .(3/119)
سابعا : هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج :
قد يقال : إن تحديد المهور ليس بعلاج عملي ناجح في دفع مغالاة الناس فيها ؛ لأمور :
أحدها : أن الناس جبلوا على التقليد ، فينظر الضعيف منهم للقوي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 487)
والفقير للغني ، فإذا وجدوا الوجهاء والأغنياء غلوا في مهور بناتهم أو من يتزوجونهن مجاملة أو إكراما أو فخرا قلدوهم في ذلك .
الثاني : أن النقود اليوم قد هبطت قيمتها نتيجة لعدة عوامل فالشيء الذي يساوي مائة ريال سابقا - مثلا - يساوي اليوم عشرين ألفا تقريبا ، فإذا قيست على المهور سابقا فقد لا تعتبر مغالى فيها ، وربما تعلل أولياء البنات بهذا وادعوا أن ما تعطاه البنت من المهر لا يقوم بما تحتاجه لتستعد بما يلزم لزواجها من الأثاث والملابس وغيرها .
الثالث : الإبقاء على النكاح والتخلص منه بيد الزوج ، فإذا حددت المهور بمبلغ قليل فربما يسهل على الزوج أمر الطلاق ويكثر منه ، وهذا مما لا يتفق مع مقاصد الشريعة في النكاح من الاستقرار وطمأنينة النفس وبناء الأسرة .
وقد يقال : إن العلاج ممكن بدون تحديد ، وذلك بما يأتي :
أ- توعية الناس بطرق الإعلام والخطابة في الجوامع والمجامع المناسبة ، ويركز على تحذير الأولياء من العضل ويرغب الناس في الاصطلاح بينهم على مهر معين ، وذلك بأن يتفق أهل كل بلد أو كل قبيلة على مقدار معين .
ب- منع الناس من الإسراف في مراسم الزواج .
ج- التطبيق العملي من الطبقة الواعية من الناس بأن يزوجوا مولياتهم من الأكفاء ويقتنعوا بما تيسر ، هذا ما تيسر ذكره .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 488)
وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/120)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 489)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 52 ) وتاريخ 4/4/1397هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته العاشرة المعقودة في مدينة الرياض فيما بين يوم 21/3/1397 هـ و4/4/ 1397 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في موضوع ( تحديد مهور النساء ) بناء على ما قضى به أمر سمو نائب رئيس مجلس الوزراء من عرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء لإفادة سموه بما يتقرر .
وجرى استعراض بعض ما رفع للجهات المسئولة عن تمادي الناس في المغالاة في المهور والتسابق في إظهار البذخ والإسراف في حفلات الزواج وبتجاوز الحد في الولائم ، وما يصحبها من إضاءات عظيمة خارجة عن حد الاعتدال ولهو وغناء بآلات طرب محرمة بأصوات عالية قد تستمر طول الليل ، حتى تعلو في بعض الأحيان على أصوات المؤذنين في صلاة الصبح وما يسبق ذلك من ولائم الخطوبة وولائم عقد القران .
كما استعرض بعض ما ورد في الحث على تخفيف المهور والاعتدال في النفقات ، والبعد عن الإسراف والتبذير .
فمن ذلك : قول الله تعالى : سورة الإسراء الآية 26 وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا سورة الإسراء الآية 27 إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 490)(3/121)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : صحيح مسلم النكاح (1426),سنن النسائي النكاح (3347),سنن أبو داود النكاح (2105),سنن ابن ماجه النكاح (1886),مسند أحمد بن حنبل (6/94),سنن الدارمي النكاح (2199). سألت عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، قالت : أتدري ما النش ؟ قلت : لا ، قالت : نصف أوقية ، فذلك خمسمائة درهم . وقال عمر رضي الله عنه : سنن الترمذي النكاح (1114),سنن أبو داود النكاح (2106),سنن ابن ماجه النكاح (1887),سنن الدارمي النكاح (2200). ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وقد ثبت في [الصحيحين] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه : صحيح البخاري النكاح (4799),صحيح مسلم النكاح (1425),سنن الترمذي النكاح (1114),سنن النسائي النكاح (3280),سنن أبو داود النكاح (2111),سنن ابن ماجه النكاح (1889),مسند أحمد بن حنبل (5/336),موطأ مالك النكاح (1118),سنن الدارمي النكاح (2201). أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج امرأة رجلا بما معه من القرآن .
وروى الترمذي وصححه : أن عمر - رضي الله عنه - قال : لا تغلوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت لك علق القربة . والأحاديث والآثار في الحض على الاعتدال في النفقات والنهي عن تجاوز الحاجة كثيرة معلومة .(3/122)
وبناء على ذلك ولما يسببه هذا التمادي في المغالاة في المهور والمسابقة في التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة وتعدادها قبل الزواج وبعده ، وما صاحب ذلك من أمور محرمة تدعو إلى تفسخ الأخلاق ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 491)
من غناء واختلاط الرجال بالنساء في بعض الأحيان ، ومباشرة الرجال لخدمة النساء في الفنادق إذا أقيمت الحفلات فيها ، مما يعد من أفحش المنكرات ، ولما يسببه الانزلاق في هذا الميدان من عجز الكثير من الناس عن نفقات الزواج فيجرهم ذلك إلى الزواج من مجتمع لا يتفق في أخلاقه وتقاليده مع مجتمعنا ، فيكثر الانحراف في العقيدة والأخلاق ، بل قد يجر هذا التوسع الفاحش إلى انحراف الشباب من بنين وبنات .
ولذلك كله فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى : ضرورة معالجة هذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي :
1 - يرى المجلس : منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت ؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه ، ومعاقبة فاعله .
2 - منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها ، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات ، ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا من منكر .
3 - منع الإسراف ، وتجاوز الحد في ولائم الزواج ، وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام ، وأن يرغب الناس في تخفيف المهور ، ويذم لهم الإسراف في ذلك على منابر المساجد ، وفي مجالس العلم ، وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام .
4 - يرى المجلس بالأكثرية : معاقبة من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا ، وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزر من يثبت مجاوزته الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعة زاجرة تكبح جماح
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 492)(3/123)
الناس عن هذا الميدان المخيف ؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة ، وولي الأمر وفقه الله عليه أن يعالج مشاكل الأمة بما يصلحها ويقضي على أسباب انحرافها ، وأن يوقع على كل مخالف من العقوبة ما يكفي لكفه .
5 - يرى المجلس : الحث على تقليل المهور ، والترغيب في ذلك على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام ، وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة ؛ لما في القدوة من التأثير .
6 - يرى المجلس : أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم ، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير ، فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك ؛ لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم .
فعلى ولاة الأمر أن يبدءوا في ذلك بأنفسهم ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم ، ويؤكدوا على ذلك ؟ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم ، واحتياطا لمجتمعهم ؛ لئلا تتفشى فيه العزوبة التي ينتج عنها انحراف الأخلاق وشيوع الفساد .
وولاة الأمر مسئولون أمام الله عن هذه الأمة ، وواجب عليهم كفهم عن السوء ومنع أسبابه عنهم ، وعليهم تقصي الأسباب التي تثبط الشباب عن الزواج ؛ ليعالجوها بما يقضي على هذه الظاهرة ، والحكومة أعانها الله ووفقها قادرة بما أعطاها الله من إمكانات متوفرة ورغبة أكيدة في الإصلاح أن تقضي على كل ما يضر بهذا المجتمع ، أو يوجد فيه أي انحراف .
وفقها الله لنصرة دينه ، وإعلاء كلمته ، وإصلاح عباده ، وأثابها أجزل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 493)
الثواب في الدنيا والآخرة .
وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة العاشرة
عبد الرزاق عفيفي(3/124)
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد لنا وجهة نظر مرفقة بهذا فيما يتعلق بالمادة الرابعة ... عبد الله خياط
محمد الحركان أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد ... عبد المجيد حسن أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن صالح موافق على القرار باستثناء المادة الرابعة فمتوقف
صالح بن غصون أوافق على وجهة نظر الشيخ عبد الله بن حميد ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع(3/125)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 494)
وجهة نظر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
بالنسبة لما جاء في المادة الرابعة من هذا القرار من إيقاع العقوبات على المسرفين في ولائم العرس التي قال بها الأكثرية عندي فيها نظر لما يلي :
أولا : أن حد الإسراف في تلك الولائم غير منضبط لاختلافه باختلاف الناس والبلدان ، فقد يكون سبع الذبائح مثلا أو الثمان أو التسع وما يلحق بها من الكلف -إسراف في حق بعض الناس ، لأنها أكثر من مستواهم . وهي في حق آخرين ليست بإسراف ؛ لكثرة أسرهم وأصدقائهم وجيرانهم .
وقد يكون مثل هذا المقدار إسرافا في بلدة ، وليس بإسراف في أخرى ، فحيث كان الإسراف غير منضبط لا أرى داعيا لإيقاع العقوبات في هذا وأمثاله .
ثانيا : أن العقوبات تختلف وليس لها حد تنتهي إليه فإطلاقها للأمراء وأمثالهم غير مناسب ؛ لعدم معرفتهم من يستحق العقوبة ، ومن لا يستحق فربما يعاقبون من لا يسرف في ولائم العرس ، بناء على ما يقتضيه نظرهم أنه إسراف ، ولا يعاقبون آخرين بناء على ما في نظرهم أنهم غير مسرفين ، وإن تماثلوا في الولائم .
ثالثا : أرى أنه يكتفى بمن عرف منه الإسراف في الولائم بنصيحته من قبل الأمير والقاضي والأعيان ، والتغليظ عليه بالكلام بدون إيصال إلى
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 495)
سجن أو جلد أو تغريم .
هذا ما نراه ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن أوافق على ما قرره سماحته بالنسبة للعقوبة ... محمد بن علي الحركان أوافق على ما قيده فصيلته ... عبد الله بن محمد بن حميد(3/126)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 496)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 497)
( 7 )
تحديد النسل
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 498)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 499)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد النسل نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الخامس ، ص 109-128 ، سنة 1400 هـ .
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان سنة 1395هـ من إدراج موضوع ( تحديد النسل ) في جدول أعمال الدورة الثامنة للهيئة المزمع عقدها في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي :
1 - ترغيب الشريعة الإسلامية في التناسل .
2 - الفرق بين منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه .
3 - البواعث التي تدعو إلى الأخذ بها مع مناقشتها .
4 - الوسائل التي تتخذ لمنع الحمل أو تحديد النسل أو تنظيمه مع بيان آثارها .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 500)
5 - بيان الحكمة مع الأدلة .
والله الموفق .(3/127)
1 - الترغيب في النكاح وبيان مقاصده :
شرع الله - جلت حكمته - الزواج لحكم كثيرة :
منها : أنه أحصن للفرج وأغض للبصر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري النكاح (4779),صحيح مسلم النكاح (1400),سنن الترمذي النكاح (1081),سنن النسائي النكاح (3211),سنن أبو داود النكاح (2046),سنن ابن ماجه النكاح (1845),مسند أحمد بن حنبل (1/378),سنن الدارمي النكاح (2166). يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن .
ومنها : الإبقاء على الجنس البشري في الأرض لعمارتها وإصلاحها ؛ تحقيقا لما أراده الله تعالى ، قال سبحانه : سورة البقرة الآية 30 وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ سورة البقرة الآية 31 وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ سورة البقرة الآية 32 قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ سورة البقرة الآية 33 قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
ومنها : كثرة الأولاد الذين يتم بهم بناء الأسرة ، وتقوى بهم الأمة ، ويتحقق التعاون بينهم لعمارة الأرض .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 501)(3/128)
ولذا عد الله سبحانه الذرية نعمة منه على الناس تستوجب منهم أن يشكروه ولا يكفروه ، وأن يتقوه رجاء رحمته وخوف عذابه ، وأن يصلوا أرحامهم ؛ أداء لحق القرابة ، وتقوية لأواصرها ، حتى يكونوا عباد الله إخوانا متحابين .
قال الله تعالى في بيان كمال قدرته ، وعظيم منته على عباده : سورة النساء الآية 1 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل ، وأمر بالزواج ، وحبب إلى الرجال التزوج بالودود الولود خاصة ؛ تحقيقا لرغبته في المباهاة بأمته يوم القيامة . فعن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالباءة ، وينهى عن التبتل نهيا شديدا ، ويقول : سنن النسائي النكاح (3227),سنن أبو داود النكاح (2050). تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة رواه الإمام أحمد ، وأخرجه ابن حبان وصححه . وعن عبد الله بن عمرو : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مسند أحمد بن حنبل (2/172). انكحوا أمهات الأولاد ، فإني أباهي بهم يوم القيامة رواه الإمام أحمد ، وأشار إليه الترمذي في [جامعه] ، وقال في [مجمع الزوائد] : فيه جرير بن عبد الله العامري ، وقد وثق وهو ضعيف . وعن معقل بن يسار قال : سنن النسائي النكاح (3227),سنن أبو داود النكاح (2050). جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، فأتزوجها ؟ قال : " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم . وفي الباب أحاديث كثيرة ، وفي بعضها ضعف ، لكن مجموعها(3/129)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 502)
يدل على المقصود من الترغيب في النكاح . وخاصة نكاح الولود .
وقد بين الغزالي مقاصد النكاح وفوائده : فقال : إن النكاح معين على الدين ، ومهين للشياطين ، وحصن دون عدو الله حصين ، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين ، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه ، وتشرح مقاصده وآدابه [إحياء علوم الدين] للإمام الغزالي - ط/ دار الباز ، مكة المكرمة ( 2/ 21 ) . .
ثم قال : في الزواج فوائد خمسة : الولد ، وكسر الشهوة ، وتدبير المنزل ، وكثرة العشيرة ، ومجاهدة النفس بالقيام بهن .
ثم ذكر أنه إذا قصد بالزواج - التناسل كان قربة يؤجر عليها من حسنت نيته . وبين ذلك بوجوه :
أولا : موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان .
ثانيا : طلب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير من به مباهاة .
ثالثا : طلب البركة ، وكثرة الأجر ، ومغفرة الذنب بدعاء الولد الصالح له بعده .
وأكد الغزالي : أن الوجه الأول أقواها وأظهرها لذوي الألباب ، وضرب لذلك مثلا خلاصته : سيد أعطى عبده بذورا وآلات حراثة وأرضا صالحة للزراعة ، ووكل به رقيبا يستحثه ، فإن تراخى العبد في الحراثة والزرع ونحى ذلك الوكيل الذي يستحثه فقد استوجب غضب سيده وطرده ، والله تعالى خالق الزوجين الذكر والأنثى ، وزود كلا منهما بخواصه . وجعل الشهوة فيهما قوة دافعة إلى إظهار حكمته تعالى في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 503)
التناسل والإنجاب ، فمن انحرف عن ذلك أو عارضه فهو متحد لسنن الله في الكون مستوجب لغضبه وسخطه [إحياء علوم الدين] ( 2/ 24- 26 ) . .(3/130)
ومن المعلوم : أن الأولاد منذ القديم كانوا أمنية الناس حتى الأنبياء المرسلين وسائر عباد الله الصالحين ، وسيظلون كذلك ما سلمت فطرة الإنسان ، قال تعالى : سورة الأعراف الآية 189 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
ولما دعا إبراهيم قومه إلى توحيد الله وعبادته دون سواه ، وصبر على أذاهم وثابر على دعوتهم - ألقوه في النار ، وأنجاه الله منها ، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله - وهب له إسماعيل ثم إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب استجابة لقوله : سورة الصافات الآية 100 رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بشره بإسماعيل أولا ، ولما بلغ معه السعي ابتلاه فيه ، وأمره بذبحه ، وآثر امتثال أمر ربه على حبه لولده ، وصدق في تنفيذ أمره ، فبشره ثانيا بإسحاق نبيا من الصالحين ، وجعل النبوة في ذرية خليله من بعده ؛ جزاء كريما لصبره على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله ، ونجاحه أتم نجاح فيما ابتلاه الله به من كلمات .
فالأولاد نعمة تتعلق بها قلوب البشر وترجوها ، لتأنس بها من الوحشة ، وتقوى بها عند الوحدة ، وتكون قرة عين لها في الدنيا والآخرة ؛ ولذا طلبها إبراهيم الخليل عليه السلام فقال : سورة الصافات الآية 100 رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 504)(3/131)
وطلب زكريا عليه السلام من ربه ذرية طيبة ، قال تعالى : سورة الأنبياء الآية 89 وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ وقال : سورة مريم الآية 2 ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا سورة مريم الآية 3 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا سورة مريم الآية 4 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا سورة مريم الآية 5 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا سورة مريم الآية 6 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا سورة مريم الآية 7 يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
وأثنى سبحانه على عباده الصالحين بمحامد كثيرة : منها : قوله : سورة الفرقان الآية 74 وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
وأخبر تعالى : أن شعيبا عليه السلام أمر قومه أن يذكروا نعمة الله عليهم إذ جعلهم كثرة بعد قلة ،
قال
: سورة الأعراف الآية 86 وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وذلك لتشكروه ولا تكفروه ، وليعرفوا لله حقه وللعباد حقوقهم ، فاعتبر تكثيرهم بعد القلة نعمة عظمى توجب عليهم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .(3/132)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 505)
2 - الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل
أ- منع الحمل : هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل ؛ كالعزل ، وتناول العقاقير ، ووضع اللبوس ونحوه في الفرج ، وترك الوطء في وقت الإخصاب ، ونحو ذلك .
ب- تحديد النسل : هو الوقوف بالإنسال عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يظن أنها تمنع من الحمل .
ج- تنظيم الحمل : هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل ، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان أو من يثقان به من أهل الخبرة .
فالقصد من الأول : عدم التناسل أصلا ، سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا .
والقصد الثاني : تقليل عدد النسل بالوقوف به عند غاية ، سواء أصيب جهاز التناسل بعد هذه الغاية بعقم أم لا .
والقصد من الثالث : مراعاة حال الأسرة وشئونها من صحة أو قدرة على الخدمة مع مراعاة الإبقاء على استعداد جهاز التناسل للقيام بوظيفته .(3/133)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 506)
3 - بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة :
إن الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل قد اعتمدوا على عدة دوافع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له - نذكرها فيما يلي مع مناقشتها :
الأول : أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكنى الناس وللزراعة وإنتاج ما يحتاجه الناس محدود ، وأن وسائل المعاش الأخرى من الصناعة والصيد ، وتربية المواشي ، والتجارة ، ونحوها محدودة أيضا .
أما تناسل الناس : فهو في نمو مستمر وزيادة غير محدودة ، فإذا استمر الحال على ذلك ضاقت الأرض بسكانها ، ولم تسعهم وسائل المعاش ، ولم تكف لقوتهم وكسوتهم ، وهبط مستواهم في جميع النواحي صحة وعلما وثقافة ، وانتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عيشة بؤس وشقاء أو أن يهلكوا نتيجة للعري والجوع والنزاع والتناحر على لقمة العيش ، وما يدفع عنهم غائلة الحر والبرد ، فوجب أن يتخذ ما يلزم من الوسائل لتحديد النسل والوقوف به عند غايته ، إنقاذا للناس من خطر داهم قد ظهرت بوادره وأنذرتهم سوء المصير .
المناقشة :
أ- الحكم في أن زيادة التناسل وتضاعف عدد الناس في المستقبل يفضي إلى ضيق الأرض عن سكناهم وضيق وسائل المعاش العديدة عن أن تسعهم وتكفي لسد حاجتهم - حكم مبناه الخرص والتخمين والنظر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 507)
الاقتصادي الخاطئ الذي كذبه الواقع أن الأرض لم تضق بسكانها مع كثرة نموهم وتزايدهم ، ولم تزل وسائل المعاش تتسع لهم منذ خلقوا إلى يومنا الحاضر ، وقد قرر ذلك كثير من علماء الاقتصاد وخطئوا النظرية الاقتصادية التي يبني عليها دعاة تحديد النسل رأيهم .(3/134)
ب- إن دعوى أن مساحة الأرض التي تصلح للسكنى والزراعة والإنتاج محدودة - دعوى غير صحيحة ؛ فإن ما سكن من الأرض وما استثمر منها في الزراعة والإنتاج وإخراج دفائنه وخاماته قدر ضئيل بالنسبة لما لم يسكن وما لم يستغل غير أنه يحتاج إلى تهيئة للسكنى والاستثمار وسعة للعلم بالكونيات ، وما أودعه الله في الأرض ، ومعرفة بطرق استخراجها وتخليصها وخبرة بخواصها وكيفية استغلالها والانتفاع بها ، فعلى تقدير وجود مشكلة فهي لم تنشأ عن كثرة تناسل وتكاثف السكان ، وإنما نشأت من الجهل بما أودعه الله في الأرض من خيرات ، وقلة العلم بطرق الاستغلال وإهمال الناس أو إعراضهم عن العمل والسعي لكسب ما فيه سعة ورخاء ونهوض بهم وارتقاء .
ج- إن ضرورة الناس وشدة حاجاتهم ألجأتهم إلى تهيئة ما يستطيعون من الأرض وإصلاحه للسكنى والزراعة ، واضطرتهم أن يتعلموا من العلوم الكونية ما يساعدهم على التوسع في ذلك ، ويفتح لهم أبوابا كثيرة لمعرفة الوسائل العديدة التي تقوم عليها حياة الناس ، وتجعلهم مترفين منعمين ، ولا يزالون يجدون في العمل ويدأبون فيه بدافع فطرتهم وغرائزهم حتى تكشفت لهم وسائل عمرانية لم يعهدوها من قبل ، وعرفوا كثيرا من طرق الكسب والمعاش والنهوض والرخاء لم تكن تخطر لهم ببال ، وليس ببعيد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 508)
لو عرضت عليهم من قبل أن يقول قائلهم : إنها سحر أو ضرب من ضروب الخيال ، وما ندري ما يسفر عنه المستقبل من شئون الحياة التي قدرها الله لعباده ، وأودع لهم أصولها في أبواب السماء وخزائن الأرض ، وجعل لهم من الأفكار والعلوم ما به يتمكنون من تسخيرها لمصالحهم وسعادتهم .
قال الله تعالى : سورة الذاريات الآية 20 وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ سورة الذاريات الآية 21 وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ سورة الذاريات الآية 22 وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(3/135)
ومن نظر في زيادة المساحة المعمورة من الأرض وتحويلها إلى قصور شاهقة وزروع مثمرة وجنات فيحاء ممتعة ، ونظر إلى زيادة وسائل العيش وكثرتها وتنوعها - وجدها تتضاعف مضاعفة مطردة مع نمو السكان وزيادة عددهم ، ولا عجب في ذلك ، فإنهم الأيدي العاملة التي خلقها الله لعمارة الأرض وإنها لسنة الله سبحانه في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولولا ذلك لكانت الأرض خرابا يبابا ، أو وقف بها العمران عند غاية تتفق مع عدد السكان وقدراتهم ومحارفهم حسبما تقضي به سنة الله سبحانه في الأسباب العادية ونتائجها ، وإن الواقع لأقوى وأعدل شاهد لما تقدم ، وإنه لدليل واضح على خطأ النظرية الاقتصادية التي بنى عليها دعاة تحديد النسل مقالتهم ، وقد اضطر هذا الواقع كثيرا من علماء الاقتصاد أن يردوا على إخوانهم دعاة تحديد النسل مذهبهم ، وأن يبينوا لهم مخالفته لواقع الحال وحقيقة الأمر ؛ ولذلك أيضا رجع عن هذا الرأي كثير ممن كانوا يدعون إليه حينما أحسوا بعواقبه السيئة من ضعف في قوى حماية البلاد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 509)
والدفاع عنها ، وفي قوى الإنتاج لقلة الأيدي العاملة . إلخ ، ودعوا إلى التناسل ، ورغبوا في كثرته بإعطاء المكافآت ؛ إنقاذا لأنفسهم من الخطر الذي أصابهم من جراء الدعوة المشئومة إلى تحديد النسل ، وبهذا يعرف فساد ما زعمه بعضهم من أن عدم تحديد النسل يخرج للأمة أولادا لا حاجة إليهم ، ولا يفيدونها في ميدان الحياة ، وربما ولدوا مرضى فيكونون كلا على أولياء أمورهم أو على حكومتهم ، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الكلام على مضار وسائل تحديد النسل أو منعه أو تنظيمه .(3/136)
د- إن الدعاة إلى تحديد النسل خشية أن تضيق الأرض بالسكان ، وخشية أن تضيق بهم وسائل العيش من كثرتهم مع خطئهم في تقديرهم وقصور عقولهم يظنون بالله الظنون ، ويتدخلون في تقديره لشئون عباده ، وهذا هو الضلال البعيد ، فإن الله هو الذي خلق عباده ، وهو الذي يدبر معايشهم ، وهو الرزاق ذو القوة المتين ، وقد قدر أرزاقهم وما يجري عليهم في جميع أحوالهم قبل أن يكونوا ، قال تعالى : سورة القمر الآية 49 إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وقال : سورة الرعد الآية 8 وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ وقال : سورة هود الآية 6 وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
وقد أنكر على المشركين قتلهم أولادهم خشية الفقر ؛ لاحتماله على جرائم : جريمة قتل النفس ، وجريمة ظن السوء بالله ، ودخول الإنسان فيما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 510)
لا يعنيه مما هو شأن من شئون الله ، وكل من قتل النفس ، وظن السوء بالله ، والدخول فيما هو من شئون الله وحده جريمة ، قال الله تعالى : سورة الأنعام الآية 151 وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال : سورة الإسراء الآية 31 وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وقال تعالى : سورة الإسراء الآية 36 وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
فمن حدد النسل بإجهاض قد يكون مرتكبا لهذه الجرائم الثلاث أو لبعضها ، ومن حدده بمنع الحمل بوسيلة غير الإجهاض فهو مرتكب لجريمة ظن السوء بالله ، وجريمة الدخول فيما هو من شئونه وحده ، وكفى بذلك عدوانا وضلالا مبينا .(3/137)
الثاني : ذكر دعاة تحديد النسل : أن الفطرة وضعت حدا مناسبا لتنظيم النسل والمنع من تضخمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان ، وذلك بالقضاء على كثير من أسباب التوالد والتناسل ابتداء ، وبالموت والفناء بعد الوجود في أطوار وأزمان مختلفة ، فليس بعجيب أن يقال بتحديد النسل أو تنظيمه بالوسائل الحديثة المتبعة اليوم ، بل في ذلك مجاراة للفطرة ، وسير معها إلى الهدف المنشود من التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش والنهوض بالإنسان إلى مستوى يكفل له الراحة وطمأنينة النفس والشعور بمتعة الحياة ولذاتها .(3/138)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 511)
المناقشة :
أ- إن كان المراد بالفطرة في نظر دعاة تحديد النسل : طبيعة الأحياء وخواصهم وغرائزهم التي أودعت فيهم لتقوم الحياة ويعمر الكون - فما ذكروه مبررا لتحديد النسل أو تنظيمه مناقض للفطرة ، وحرب على ما أودعه الله في الإنسان من طبائع وخواص ، فإن الإنسان مجبول على الرغبة الملحة في التزاوج ، مجبول على حب التناسل ، تواقة نفسه إلى الذرية مسلما كان أو كافرا ، حتى إن من حرم الذرية أو أصيب فيما رزق منها بآفات قضت عليها ليكاد يتقطع أسى وحسرة على ما فاته من نعمة الذرية ، واعتبر ذلك بلاء نزل به ، وقضى على سعادته ، إلا من عصمه الله بالإيمان ورضي بقضاء الله وقدره فيه ، ومن آتاه الله الذرية عد نفسه سعيدا ، وتجلت فيه عاطفة الأبوة أو الأمومة وحنانها ، وبذل جهده فيما يلزم لسعادة أولاده مع ارتياح ورحابة صدر ، وسهر الليالي لسهرهم ؛ عملا على راحتهم ، وتحقيقا لمصلحتهم .
وبهذا اتضح أي الأمرين جرى على سنن الفطرة ، ومقتضى الطبيعة البرية ، الإبقاء على النسل وعدم الوقوف في طريق ازدياده ، أم العمل على منعه والقضاء عليه بعد الحمل بإجهاض ونحوه . أضف إلى ذلك ما في كلامهم من الزيغ ، حيثما نسبوا إلى فطرة الأحياء وطبائعهم تحديد النسل أو تنظيمه بالعقم أو بالموت والقضاء على كثير من أسباب التناسل ، وذلك لا يصدر إلا عن جاهل فاسد العقيدة ، قال تعالى : سورة الشورى الآية 49 لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ سورة الشورى الآية 50 أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 512)
وقال : سورة يونس الآية 56 هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(3/139)
ب- وإن زعموا أن المراد بالفطرة : ما يسمى في شريعة الإسلام بالله رب العالمين : ففيه أولا : سوء أدب في التعبير ، وثانيا : التدخل في شأن من شئون الله وحده ، وليس مما يعود إليهم تدبيره ، وثالثا : قياس في تقديرهم لتحديد النسل على الله في تدبيره وتعريفه لشئون عباده ، وشتان ما بين عبد مملوك خطاء قاصر الفكر والتقدير والتدبير . إلخ ، ورب حكيم ، له كمال القدرة وإحكام التدبير ، وله الخلق والأمر ، وكمال الاختيار ، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد . إلخ .
لقد فشلت نظرية تحديد النسل أول الأمر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ؛ لمناقضتها مقتضى الفطرة وطبيعة البشر ، وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع ، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة ، وعواقب وخيمة ، ومضار فادحة ، كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك ، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات ، ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى ؛ كالتقدم الصناعي ، وإقبال الناس على الصناعة ، وانتقالهم إلى المدن لذلك ، وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم ، وكثرة الكماليات ، والأثرة المادية ، فارتفعت الأسعار ، وكثرت التكاليف ، وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك ، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل ، وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم ، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 513)
منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة.(3/140)
الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم، فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها، أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتت ثروتهم، وهبط مستواهم، وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالهم وحال الأمة، ويضعف شأنها، وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء؛ فلهذا وجب الحد من التناسل ؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه [حركة تحديد النسل].
المناقشة :
هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها، ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس؛ ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم. ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء ؛ فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 514)(3/141)
وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع مرافق حياتها، وكثيرا ما وجدنا بيوتا قد فتحت على أيدي الأولاد، وعمها الخير والرخاء، وكثيرا ما شاهدنا العلماء من أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة، وأنهم نهضوا بأممهم، وقاموا بمصالحهم، وكانوا ملاك سعادتها، وزهرة حياتها، وعنوان مجدها، فإن تخلف شيء من ذلك فهو من الفوضى والإهمال والتفريط لا من زيادة التناسل، ومن المعروف أن النهوض وليد الطموح ويقظة النفس وشعورها بالحاجة، وأن الفساد والهبوط وليد الدعة، وتبلد النفس، وعدم الإحساس بالحاجة، وقد يكون ذلك مع الغني كما يكون مع الفقير، وإذا فليست المشكلة من كثرة التناسل وزيادة الأولاد حتى يسعى في حلها بتحديد النسل أو منع الحمل.
الرابع : زعموا: أن تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها، وأن تتابع الحمل والولادة وما يتبع ذلك من رعايتها لأولادها وقيامها بشئونهم ورعايتها لهم وسهرها على مصالحهم يهدم كيانها ويذهب قواها وجمالها، ويهدد حياتها الزوجية، فقد يزهد فيها زوجها، فيطلقها أو ينصرف عنها إلى غيرها؛ لسوء حالها واشتغالها عنه بأولادها.
المناقشة :
أ- إن هذه الشبهة إنما يتشدق بها ويروج لها من طغت عليه شهوته الحيوانية، وانحرفت فطرته الإنسانية فلا هم له إلا الاستمتاع بزوجته، وقضاء وطره منها، ويفر من تكاليف الذرية وتحمل أعبائها، استجابة لدواعي الشهوة البهيمية، وإيثارا لجانب اللذائذ الحيوانية التي لا تعدل في نفس من سلمت فطرته من الناس، أو تقارب إرواء عاطفة الأبوة والأمومة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 515)
الكامنة في أعماق النفوس وحياة القلوب.
ب- إن عزل المرأة عن وظيفة الحمل والولادة التي هي من أجل ما خلقها الله لها يحدث فيها كبتا، ويولد فيها عقدا نفسية، ويورثها بؤسا وكآبة تذهب بجمالها وحسن رونقها، وإذا استعملت لمنع الحمل أو إسقاطه العقاقير وأمثالها زادها ذلك هما، وضاعف آفاتها ومضارها.(3/142)
ولا شك أن هذا الخطر يزيد على ما يذكره دعاة تحديد النسل في شبهتهم من المضار الناشئة عن كثرة الحمل والولادة، مع ما في زيادة التناسل من النماء في الإنتاج وزيادة وسائل المعيشة والنفع الخاص بالأسرة والعام للأمة، فأي الأمرين أحق بالحرص عليه والدعوة إليه؟!
قال الدكتور ( الكسيس كارل ) في كتابه [الإنسان ذلك المجهول]:
إنه حتى هذه الأيام لم ينضج فكر الإنسان ولم يشعر على الوجه التام بما لوظيفة التوليد من الأهمية في حياة المرأة، إن قيام المرأة بهذه الوظيفة مما لا مندوحة عنه لكمالها القياسي، فما تحريف النساء عن التوليد ورعاية الطفل إلا حماقة شنيعة لا يقدم عليها عاقل. وقال الدكتور ( أزوالد شوارز ) أحد علماء النفس في كتابه [نفسية الجنس]: أي شيء يا ترى يدل عليه وجود الغريزة الجنسية في الإنسان؟ ولأي غرض قد وضعت فيه؟ ومن الحقيقة التي لا غبار عليها: أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل؛ إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندت إليه، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلا بد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعدة، ومما يتعلق بهذا البحث أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 516)
جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد، فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة، وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه.(3/143)
وقال أيضا: إن كل عضو في جسدنا يجب أن يقوم بوظيفته، وعلى هذا فإنه إذا حيل بينه وبين أن يقوم بوظيفته فلا بد أن يختل به التوازن في نظامنا الجسدي، إن المرأة ليست بحاجة إلى إنجاب ذرية لمجرد أن ذلك تقتضيه عاطفة الأمومة التي قد فطرت عليها، أو لمجرد أنها ترى القيام بهذه الخدمة واجبا عليها، بناء على ضابط خلقي مفروض عليها، وإنما هي بحاجة إليها؛ لأن نظامها الجسدي ما بني كله إلا للقيام بها، فهي إذا منعت أن تقوم بها فلا بد أن تتأثر شخصيتها كلها بالانقباض والحرمان والهزيمة واليأس المميت. أهـ.
إن الذين بدؤوا بالدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل، وروجوا دعوتهم بما تقدم من الشبه وأمثالها- جماعة لا يؤمنون بأن للعالم ربا عليما خبيرا بشئون عباده، حكيما في تدبير أمورهم وتصريف أحوالهم ولا يرضون بشريعة الإسلام دينا ولا بمحمد رسولا، فلا عجب أن يظنوا بالله الظنون الكاذبة، وأن يدخلوا تفكيرهم القاصر المحدود فيما هو من شأنه وحده، وأن يناقضوا شريعة الإسلام ويكونوا حربا على مقاصدها، ولا عجب أيضا أن يسير في ركابهم، ويدعو بدعوتهم بعض جهلة المسلمين وأرباب الهوى منهم، فإن الجهل قتال يقذف بصاحبه في لجج الضلال
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 517)
والهلاك وأن الهوى يعمي ويصم، وإنما العجب أن يناقضوا ما يدعون أنهم قتلوه بحثا، وأحاطوا به علما من نظريات الاقتصاد وأصول علم النفس وعلم الأحياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.
ونختم الكلام على ما ذكروا من البواعث والدواعي لمنع الحمل أو تحديد النسل بذكر بعض دواع أخرى تقع قليلا أو نادرا فيحكم فيها بما يناسبها من الأحكام، فإنها تختلف عما تقدم في أهدافها ومقاصدها وربما كان لمن ألمت به العذر في منع الحمل أو تنظيمه.(3/144)
ا- قد يكون بالمرأة ما تتعذر معه الولادة العادية، فيخرج الولد بإجراء عملية جراحية، وربما كان في ذلك خطورة، كما أن تكرر ذلك خطر على المرأة، وقضاء على حياتها، ففي هذا يمكن أن يقال بوجوب منع الحمل أو المنع من تكراره، محافظة على حياة المرأة، وذلك راجع إلى مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة، وهو المحافظة على النفس، ولكن من الواضح أن هذا وأمثاله ليس من تحديد النسل ولا من تنظيمه ولا يتفق معه في الدواعي أو الغرض الذي ألجأ إليه، فلا يصح أن يخلط بينهما تلبيسا على الناس، ولا أن يحتج بمثل هذا على تحديد النسل أو منعه للدواعي الأخرى.
2 - وقد يضر المرأة تتابع الحمل لضعف بها أو مرض، ويقرر أهل الخبرة: إن كان عليها من تتابعه خطورة، فلها أن تتخذ وسائل غير ضارة لتنظيم الحمل وتأخيره فترة من الزمن تستجم فيها، وتسترد نشاطها وقوتها، ويرجع فيما تستخدمه من الوسائل لأهل الخبرة، مخافة أن تصاب بعقم أو مرض آخر من جراء استخدام الوسائل لتنظيم الحمل، وليس هذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 518)
من باب تحديد النسل، ولا في معنى ما تقدم من منع الحمل للبواعث الأخرى التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل فلا مستند فيه لهم.(3/145)
3 - وقد يظن الرجل أن وطأه امرأته أو أمته وهي ترضع يضر بالولد، فيمتنع من ذلك محافظة على صحة الرضيع وحرصا على سلامته، سواء قلنا: تغير لبن المرأة وتضرر الرضيع بنفس الجماع أو بالحمل المتوقع منه، فعلى تقدير أن ذلك يعتبر عذرا للرجل في ترك الجماع أو للزوجة في الامتناع منه- فإنه ليس من باب تحديد النسل أصلا ولا من جنس منع الحمل للدواعي المنكرة التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل أو منعه، على أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن ينهى عن الغيلة محافظة على الرضيع، ثم رجع عن ذلك وبين السبب، روى أحمد ومسلم عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول. صحيح مسلم النكاح (1442),سنن الترمذي الطب (2077),سنن النسائي النكاح (3326),سنن أبو داود الطب (3882),سنن ابن ماجه النكاح (2011),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الرضاع (1292),سنن الدارمي النكاح (2217). لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت إلى الروم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا ... الحديث.(3/146)
4 - ربما يحتاج الرجل إلى العزل عن أمته أو زوجته حرة أو أمة .
وقد اختلف العلماء في حكم ذلك اختلافا كثيرا :
فمنهم من حرم ذلك مطلقا عن أمته وزوجته حرة أو أمة.
ومنهم من أجازه مطلقا ، وفرق جماعة بين الأمة والحرة.
وفرق آخرون بين حالة الإذن وعدمه، فأباحه في الأولى دون الثانية. وتفصيل الخلاف في ذلك معروف في كتب الفقه، ومنشؤه: اختلاف العلماء في فهم ما ورد في ذلك من الأحاديث واختلافهم فيمن له الحق في الوطء والولد ومن لا حق له في ذلك.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 519)
ولما كان كلام ابن القيم مستوفيا لتفصيل القول في حكم العزل مع الأدلة والمناقشة اكتفينا بذكره هنا ، قال رحمه الله [زاد المعاد] (4/ 30) طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية. : فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في العزل .
ثبت في [الصحيحين] ، عن أبي سعيد قال: صحيح البخاري النكاح (4912),صحيح مسلم النكاح (1438),سنن ابن ماجه النكاح (1926),موطأ مالك الطلاق (1262). أصبنا سبيا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "وإنكم لتفعلون؟ " قالها ثلاثا "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ، وفي [السنن] عنه: أن رجلا قال: سنن أبو داود النكاح (2171). يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه .
وفي [الصحيحين]: عن جابر : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي [صحيح مسلم] عنه: صحيح البخاري النكاح (4911),صحيح مسلم النكاح (1440),سنن ابن ماجه النكاح (1927),مسند أحمد بن حنبل (3/309). كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا .(3/147)
وفي [صحيح مسلم] أيضا عنه قال: صحيح مسلم النكاح (1439). سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله ، قال: فجاء الرجل فقال: صحيح مسلم النكاح (1439). يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا عبد الله ورسوله .
وفي [صحيح مسلم] أيضا عن أسامة بن زيد : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صحيح مسلم النكاح (1443),مسند أحمد بن حنبل (5/203). يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، أو قال: على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كان ضارا ضر فارس والروم وفي [مسند أحمد] و[سنن ابن ماجه] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنن ابن ماجه النكاح (1928). نهى رسول
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 520)
الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها وقال أبو داود : سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنن ابن ماجه النكاح (1928). لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها فقال: ما أنكره.
فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل. وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة . علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم.
قال ابن حزم : وجاءت الإباحة للعزل صحيحة. عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وهذا هو الصحيح.(3/148)
وحرمه جماعة ، منهم: أبو محمد بن حزم وغيره، وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة فيباح، أو لا تأذن فيحرم. وإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه. وهذا منصوص أحمد . ومن أصحابه من قال: لا يباح بحال، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة.
فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال.
ومن حرمه مطلقا: احتج بما رواه مسلم في [صحيحه] من حديث عائشة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: صحيح مسلم النكاح (1442),سنن ابن ماجه النكاح (2011). حضرت رسول الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 521)(3/149)
صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك الوأد الخفي ، وهي قوله تعالى: سورة التكوير الآية 8 وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية ، قالوا: وقول جابر : صحيح البخاري النكاح (4911),صحيح مسلم النكاح (1440),سنن الترمذي النكاح (1137),سنن ابن ماجه النكاح (1927). كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى القرآن عنه. فيقال: قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله: سنن الترمذي النكاح (1136). إنه الموءودة الصغرى والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري المغازي (3907),صحيح مسلم النكاح (1438),سنن النسائي النكاح (3327),مسند أحمد بن حنبل (3/68),موطأ مالك الطلاق (1262),سنن الدارمي النكاح (2224). لا عليكم ألا تفعلوا. ذاكم إنما هو القدر ، قال ابن عون : فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر. قالوا: ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها، قالوا: ولهذا كان ابن عمر لا يعزل، وقال: الو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته) وكان علي يكره العزل. ذكره شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عنه، وصح عن ابن مسعود أنه قال في العزل: سنن الترمذي النكاح (1136). هو الموءودة الصغرى . وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه ، فقال: ما كنت أرى مسلما يفعله.
وقال نافع عن ابن عمر : (إن عمر ضرب على العزل بعض بنيه) قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب : (كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل) وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 522)(3/150)
أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه، وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى : أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه: أن رفاعه حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا قال: سنن أبو داود النكاح (2171). يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها. وأنا أكره أن تحمل. وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكلهم ثقات حفاظ، وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب، فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فقيل عنه: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي، وقيل فيه: عن أبي مطيع بن رفاعة، وقيل: عن أبي رفاعة . وقيل: عن أبي سلمة عن أبي هريرة . وهذا لا يقدح في الحديث. فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر . وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد . ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة : هل هو أبو رافع، أو ابن رفاعة، أو أبو مطيع ؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة .
ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل، وقد قال الشافعي : ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك، ولم يروا به بأسا.
قال البيهقي : وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم. وهو مذهب مالك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 523)
والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم.(3/151)
وقد أجيب عن حديث جدامة : بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفة، وقالوا: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك، ثم يخبر به كخبرهم؟ هذا من المحال البين. وردت عليهم طائفة أخرى، وقالوا: حديث تكذيبهم فيه اضطراب. وحديث جدامة في الصحيح.
وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهود كانت تقول: إن العزل لا يكون معه حمل أصلا. فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : سنن أبو داود النكاح (2171). لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه وقوله: صحيح مسلم النكاح (1442),سنن ابن ماجه النكاح (2011),مسند أحمد بن حنبل (6/434). إنه الوأد الخفي ، فإنه وإن لم يمنع الحمل بالكلية، كترك الوطء، فهو مؤثر في تقليله. قالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان. ولكن حديث التحريم ناسخ. وهذه طريقة أبي محمد بن حزم . قالوا: لأنه ناقل عن الأصل. والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق، يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به؟
وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما: أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر : علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتذاكروا العزل ، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي : لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر : صدقت. أطال الله بقاءك) وبهذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 524)
احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.(3/152)
وأما من جوزه بإذن حرة، فقال: للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه؛ ولهذا كانت أحق بحضانته ، قالوا: ولم يعتبروا إذن السرية فيه؛ لأنها لا حق لها في القسم؛ ولهذا لا تطالبه بالفيئة. ولو كان لها حق في الوطء لطولب المولي منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها؛ صيانة لولده عن الرق. ولكن يعتبر إذن سيدها؛ لأن له حقا في الولد. فاعتبر إذنه في العزل كإذن الحرة، ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة. فكان إذنه في العزل كإذن الحرة. قال أحمد في رواية أبي طالب، في الأمة إذا نكحها: يستأذن أهلها، يعني: في العزل؛ لأنهم يريدون الولد، والمرأة لها حق تريد الولد، وملك يمينه لا يستأذنها، وقال في رواية صالح وابن منصور وحنبل وأبي الحرث والفضل بن زياد والمروذي: يعزل عن الحرة بإذنها، والأمة بغير إذنها، يعني: أمته، وقال في رواية ابن هانئ: إذا عزل عنها لزمه الولد، قد يكون الولد مع العزل، وقد قال بعض من قال: ما لي ولد إلا من العزل، وقال في رواية المروذي في العزل عن أم الولد: إن شاء. فإن قالت: لا يحل لك، ليس لها ذلك. اهـ.
ومهما يكن من الاختلاف في حكم عزل الرجل عن زوجته حرة أو أمة أو عزله عن سريته من الإباحة مطلقا أو المنع مطلقا أو إباحته مع الإذن ومنعه بدونه فليس من باب تحديد النسل، فإنه إن كان بالنسبة للأمة إنما كان خشية أن تحمل منه وهو يكره أن يكون له منها ولد، أو خشية أن تصير أم ولد وهو في حاجة إلى خدمتها أو ثمنها، كما هو واضح من الأحاديث المتقدمة، وأما بالنسبة للزوجة فقد يكون للمحافظة على رضيعها، وقد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 525)(3/153)
يكون خشية أن تحمل وهي مريضة أو ضعيفة فيضرها الحمل أو يضرها تتابعه، وقد يكون لأسباب أخرى دعتهم إلى ذلك، غير أنها ليس منها تحديد النسل؛ لسلامة فطرهم، وقوة توكلهم على الله، وثقتهم به، ومزيد حبهم للنسل ورغبتهم فيه، فلا يفعلون ما يناقض فطرهم وما تهواه قلوبهم من الذرية، ولا يخوضون في شئون المستقبل وما يكون فيه من غبن وفقر، ولا يتشاءمون منه، ولا يظنون بالله الظنون.
وبالجملة: ما عهد فيهم من الاعتصام بالدين، وحسن الظن بالله ليبعدهم كل البعد عن القصد إلى العزل من أجل تحديد النسل.
وعلى هذا لا حجة فيما ذكر من الأحاديث لمن تعلق بها ممن يرون تحديد النسل.(3/154)
4 - وسائل تحديد النسل وبيان مضارها :
لتحديد النسل ومنع الحمل وسائل عديدة: منها: الرهبنة، وترك الزواج، وكبت النفس وحبسها عن الجماع، والإجهاض (إسقاط الحمل) أو وضع اللبوس في الفرج. وتعاطي العقاقير، ونحوها مما يمنع الحمل أو يقضي عليه بعد وجوده.
ولكل من هذه الوسائل آثار سيئة وعواقب وخيمة، وفيما يلي بيان شيء من ذلك :
أ- انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده خوفه من الله أولا.
وقد ذهب ذلك بالإلحاد أو ضعف الوازع الديني، وخوفه من العار ثانيا.
وقد ذهب ذلك بانتشار وسائل منع الحمل وتحديد النسل، حيث أمنت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 526)
المرأة من الحمل وعرفت طريق التخلص منه باستعمال هذه الوسائل فاجترأت هي ومن يهواها على قضاء الوطر وإشباع الغريزة الجنسية دون خوف أو حياء.
ب- انتشار الزنا سبب لانتشار الأمراض الخبيثة؛ كمرض الزهري والسيلان، وهما من أفتك الأمراض وأشدها خطرا على حياة الناس.
ج- انتزاع جلباب الحياء، وفساد الأخلاق، وضياع الأنساب، وضعف الروابط بين الأسر، وبذلك تعم الفوضى ويكثر الهرج والمرج ويشتد البلاء.
د- نقص الأيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل والوقوف به عند غاية، وبذلك يقل الإنتاج، وتنقص وسائل المعيشة، وتشتد الأزمات، وتضعف سيطرة الأمة وقوة الدفاع عنها.
هـ- ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين؛ لعدم الأولاد أو قلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداء أو تقف بالتناسل عند حد، فإن الأولاد تقوى بهم أواصر المحبة والوئام بين الزوجين وتضطر كلا منهما على الصبر على متاعب الحياة الزوجية وتحمل ما قد يصدر من أحدهما للآخر من الأذى وتعكير الصفو، فإذا لم تكن بينهما هذه الروابط ضعفت عرى الزوجية أو انحلت، وكثرت وقائع الطلاق، ودب دبيب الشر والفساد بين الأسر، وفي ذلك ضعف المجتمع وفساده.(3/155)
و- في الرهبانية كبت للنفس وخروج بها عن فطرتها ومقتضى ما أودع فيها من الغرائز، وهذا مما يورثها ضيقا وقلقا وأمراضا عصبية وتبرما بالحياة، ولهذا وغيره نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 527)
ز- سقوط الرحم وحدوث أمراض أخرى تكاد تفتك بالمرأة من جراء إسقاطها الحمل تخلصا من النسل أو من كثرته.
وقد ذكر كثير من الأطباء وعلماء النفس مضار وسائل منع الحمل وتحديد النسل إجمالا وتفصيلا.
من ذلك ما جاء عن الدكتور: كلير فولسوم، قال: ليست عندنا حتى اليوم أية وسيلة سهلة أو رخيصة غير ضارة يمكن استخدامها لتحديد النسل
ولما تقدم وغيره من المضار قام كثير من الأطباء وعلماء النفس في دولهم بدعوة مضادة، وحذروا الناس من استعمال وسائل منع الحمل وتحديد النسل، وشرحوا لهم مضار ذلك علما وتجربة واستجابت لهم حكوماتهم، فحظرت الاتجار في هذه الوسائل، وأعطت المكافأة على كثرة النسل، ورفعت الضرائب عمن كثرت أولادهم، وفرضت العقوبات على من ثبت عليه استعمال هذه الوسائل أو الاتجار فيها أو الترويج لها والدعاية لاستعمالها.(3/156)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 528)
5 - الحكم مع الدليل :
تبين مما تقدم أن ما ذكره الدعاة إلى تحديد النسل أو منع الحمل من البواعث التي اعتمدوا عليها في ترويج ذلك والدعاية له لا تصلح مبررا له، بل هي غير صحيحة لمناقضتها الواقع، ومنافاتها مقتضى الفطرة والإسلام، وتبين أيضا أن لتحديد النسل أو منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل مضارا كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وجسمية.
وعلى هذا يكون تحديد النسل محرما مطلقا، ويكون منع الحمل محرما إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها، كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، فيستثنى مثل هذا منعا للضرر، وإبقاء على النفس.
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح، ودرء المفاسد، وتقديم أقوى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين عند التعارض.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.(3/157)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 529)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (42) وتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد :
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - بحث المجلس موضوع ( منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه )؛ بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس المنعقد في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة.
وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي:
نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده- فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها.
ونظرا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 530)
الرب تعالى لعباده.
ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد وأهلها.
وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، إضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن المجلس يقرر: بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.(3/158)
أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة؛ ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان- فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل، أو تأخيره؛ عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة.
وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 531)
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة الثامنة
.... .... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان
متوقف عن الاستثناء ... راشد بن خنين
.... صالح بن لحيدان المصلحة التي يراها الزوجان غير مقيدة ولا أراها ... عبد الله بن منيع(3/159)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 532)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 533)
(8)
حكم التسعير
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 534)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 535)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم التسعير نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، ص 51- 95، سنة 1400 هـ.
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثامنة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول عام 1396 هـ. من إعداد بحث في التسعير- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على: .
تعريف التسعير، وهل يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه؟ ومن أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كما يبيع الناس؟
وبيان من يختص به التسعير من البائعين، وما يدخله التسعير من المبيعات.
وهل يجوز إلزام الناس بسعر محدد في تأجير عقاراتهم؟(3/160)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 536)
معنى التسعير :
نذكر فيما يلي معنى التسعير، ثم نذكر المسائل الخمس، ثم الكلام المذكور:
معنى التسعير لغة واصطلاحا
أما معناه لغة : فقد قال فيه ابن منظور : التسعير الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه أسعار، وقد أسعروا، وسعروا بمعنى واحد اتفقوا على سعر ... والتسعير التقديم [لسان العرب] (6/ 30). .
وأما معناه اصطلاحا : فقد قال فيه الشوكاني : هو أن يأمر السلطان ونوابه- أو كل من ولي من أمور المسلمين أمرا- أهل السوق أدت أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة [نيل الأوطار] (3/ 233). .(3/161)
المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه :
اختلف أهل العلم في ذلك:
فمنعه قوم، وجوزه آخرون. وفيه من قال بجوازه إذا تعدى أرباب الطعام، ومن أهل العلم من قال بجوازه عام الغلاء.
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الموضوع كلام عرض فيه حكم التسعير، إذا كان يتضمن العدل، وحكمه إذا كان يتضمن جورا، وذكر نظائر لهذه المسألة، ثم تكلم على مسألتين:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 537)
الأولى: إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع على من ذلك.
الثانية: هل يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب؟ وكذلك لابن القيم كلام في ذلك يتفق من حيث الجملة مع كلام شيخ الإسلام، ثم لسماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله كتابة في الموضوع رأت اللجنة ذكر جميع ذلك، وبالله التوفيق.
أما المانعون : فبعض الحنفية، وقال به مالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعية، وهو المقدم عند الحنابلة .
جاء في [بداية المبتدي]: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس [البداية] ومعها [الهداية] (4/ 93). .
وقال محمد بن الحسن الشيباني بعد سياقه لأثر عمر مع حاطب بن أبي بلتعة قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي أن يسعر على المسلمين، فيقال لهم: بيعوا كذا وكذا بكذا، أو يجبرون على ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا [الموطأ] رواية محمد بن الحسن، ص 341/ طبعة هندية. .
وجاء في [المنتقى شرح الموطأ] بعد ذكره لصورة المسألة قال: فهذا منع منه مالك، وبه قال ابن عمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد [المنتقى شرح الموطأ] (5/ 18). .
وجاء في [المهذب]: لا يحل للسلطان التسعير [المهذب وشرحه] (13/ 29). .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 538)
وقال عبد الرحمن بن قدامة : وهذا مذهب الشافعي [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4/ 51). .(3/162)
وقال الرملي : ويحرم على الإمام أو نائبه ولو قاضيا التسعير في قوت أو غيره. انتهى [نهاية المحتاج] (3/ 273). .
وقال النووي : ومنها- أي: المناهي- التسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح [روضة الطالبين]ص 411، 412. .
وقال عبد الرحمن بن قدامة : وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم بما يختارون [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4/ 51). .
وقال في [لإنصاف]: يحرم التسعير، ويكره الشراء به على الصحيح من المذهب [لإنصاف] (4/ 338). .
وقال محمد بن الحسن الفراء : ولا يجوز أن يسعر على الناس بالأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء. اهـ. [نيل الأوطار] (5/ 232، 233) ويرجع أيضا إلي [الدارية في تخريج أحاديث الهداية](2/224 ، 225). .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى:
أما السنة: فما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في [مسانيدهم] وأبو داود والترمذي وصححه، وابن ماجه في [سننهم] عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إن الله هو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 539)
المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال .(3/163)
قال ابن حجر : وإسناده على شرط مسلم، وصححه أيضا ابن حبان، وفي الباب عن أبي هريرة عن أحمد وأبي دواد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل ادعو الله ، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337). بل الله يخفض ويرفع ، وقال الحافظ : وإسناده حسن، وعن أبي سعيد عن ابن ماجه والبزار والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه، وعن ابن عباس عند الطبراني في [الصغير]، وعن أبي جحيفة عنده في [الكبير]. انتهى.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسعر، وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه، وأنه علل ذلك بكونه مظلمة والظلم حرام، ذكره عبد الرحمن بن قدامة [الشرح الكبير] (4/ 51). ، وبسط الشوكاني هذا الوجه الثاني، فقال: الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف ؛ لقوله تعالى: سورة النساء الآية 29 إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
وقال الشوكاني أيضا: وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 540)
وحالة الرخص، ولا فرق بين المجلوب وغيره، وإلى ذلك مال الجمهور ... وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات، وبين ما كان من غير ذلك من الإدامات وسائر الأمتعة [نيل الأوطار] (5/ 233)، ويرجع إلى [فتح العلام] (2/ 20). .
ويمكن أن يجيب المجيزون عن الاستدلال بهذه الأحاديث بوجهين:(3/164)
الأول: يحتمل أن يكون هذا من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الأمانة وأنه عليه الصلاة والسلام راعى المصلحة التي كانت تدعو إليها تلك الظروف، ويمكن أن يدفع ذلك بأن القاعدة العامة في الشريعة: أن النصوص عامة في التشريع من حيث الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأنها وحي من الله عز وجل، وحملها على صورة معينة يكون بها الدليل خاصا بزمان ومكان وشخص وحال- خلاف الأصل، فيحتاج إلى دليل، وكذلك حمل الأحاديث على أنها من تصرفاته الاجتهادية عليه الصلاة والسلام.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ، دليل صريح على أن علة ما قرره في أمر التسعير هو: مراعاة أن لا يظلم أحدا من الناس، سواء كان بائعا أو مشتريا، وهو يكون بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد، كذلك يكون بحماية المشتري من إلزام البائع إياه بالغبن الفاحش واستغلال ضرورته لإيقاع المظلمة به، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لو رأى من الباعة ميلا إلى هذا الظلم لأخذ على أيديهم وألزمهم بحد لا يتجاوزونه، وذلك بمقتضى قوله: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إني لأرجو أن ألقى الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 541)
وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال وبمقتضي حديث. سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327). لا ضرر ولا ضرار .(3/165)
وأما المعنى: فإنه مال فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما لو اتفق الجماعة عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم على بلد يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها المحتاج ولا يجدها إلا قليلا فيرفع عنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين ؛ جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، فيكون حراما. انتهى. ذكر ذلك ابن قدامة [الشرح الكبير] (4/ 51). .
القول الثاني: أنه يجوز التسعير، وهذا القول رواه أشهب عن مالك . قال الباجي : وروى أشهب عن مالك في [العتبية] في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق [المنتقى شرح الموطأ] (5/18).
ووجه هذا القول: ما يجب النظر في مصالح العامة والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 542)
للباع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس . انتهى [المنتقى شرح الموطأ] (5/ 18). .
القول الثالث: أنه يجوز إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا، وبهذا قال بعض الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، جاء في [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق]: ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا. انتهى [كنز الدقائق وشرحه] (1/ 28) ويرجع إلى [ الدر المنتقى] (2/ 48). .(3/166)
وفي [إتحاف ذوي الأبصار والبصائر بتبويب كتاب الأشباه والنظائر]: وقال في [التنبيه]: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وعليه فروع: منها التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش [الإتحاف] ص 466 ، وجاء في توجيه ذلك، أن الثمن حق البائع فكان إليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] (6/ 28) . انتهى.
ويمكن أن يستدل لذلك أيضا: بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار، وعلة النهي ظلم الناس بمنعهم عن الوصول إلى ما يحتاجونه من أقوات وشبهها، وهي علة منصوصة في هذا الباب، فيقاس التسعير على الاحتكار بجامع هذه العلة وهي رفع الأسعار دون موجب.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 543)
القول الرابع: أنه يجوز في وقت الغلاء دون الرخص، وهذا قول في مذهب مالك والشافعي، جاء في [الدر المنتقى شرح الملتقى]: وقال مالك : على الوالي التسعير عام الغلاء [الدر المنتقى] (2/ 548). .
وقال النووي : والثاني يجوز في وقت الغلاء دون الرخص [الدر المنتقى] (2/ 548). .(3/167)
المسألة الثانية : من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس؟
في المسألة خلاف: فقوم قالوا: إنه يلزم بأن يبيع كالناس، وآخرون قالوا: إنه لا يلزم، وممن قال بأنه يلزم مالك، ووجه في مذهب أحمد، قال الباجي تحت ترجمة: الباب الأول في تبيين السعر الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به، قال: أي: يختص به في ذلك من السعر هو الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد بحط السعر أو من حطه باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع.
مسألة: فإن زاد في السعر أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره أو الامتناع من البيع؛ لأن من باع به من الزيادة ليس بالسعر المتفق عليه ولا بما تقام به المبيعات، وإنما يراعى في ذلك حال الجمهور ومعظم الناس، وفي [المدونة] من رواية ابن القاسم عن مالك : لا يقام لخمسة، قال القاضي أبو الوليد : وعندي أنه يجب النظر في ذلك إلى قدر الأسواق [المنتقى] (5/ 17). .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 544)
وقال ابن العربي : وإذا كان السعر فأراد أحد أن يزيد فإن كان جالبا فله أن يبيع كيف شاء، وإن كان بلديا قيل له : بع بسعر الناس أو تخرج من السوق، وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو إلى القدر الذي يصلح بالناس ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره [الأبي على مسلم] (4/ 304). .
وقال عبد الرحمن بن قدامة : وكان مالك يقول لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كالناس وإلا فاخرج عنا [المغني] ومعه [ الشرح الكبير] (4/ 51). ، وقال في [الإنصاف]: وفي وجه لا يحرم [الإنصاف] (4/ 338). ، وقال أيضا: وأوجب الشيخ تقي الدين إلزامهم المعاوضة بمثل الثمن، وقال: لا نزاع فيه؛ لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى [الإنصاف] (4/ 338). .(3/168)
واستدل لهذا القول: بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح الثمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك كيف شئت.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 545)
ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة :
الأول : أن هذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه في مقابل نص ، وهو ما يدل على امتناعه صلى الله عليه وسلم عن التسعير ولا اجتهاد مع النص .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه رجع عن قوله هذا .
قال ابن قدامة : فأما حديث عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي : أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال : إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع كيف شئت ، وهذا رجوع إلى ما قلنا [ المغني والشرح الكبير ] ، ( 4 / 45 ) . ، أي : القول بعدم التسعير .
الثالث : أن هذا السند عن عمر ضعيف ؛ لانقطاعه ، فإن القاسم لم يدرك عمر رضي الله عنه .
واستدل لذلك من جهة المعنى : بأن في ذلك إضرارا إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع .
وأجاب ابن قدامة عن ذلك فقال : وما ذكره من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه [ المغني والشرح الكبير ] ، ( 4 / 45 ) . .
القول الثاني : أنه لا يلزم بأن يبيع كالناس ، وهذا هو المقدم عند الحنابلة ، قال في [ الإنصاف ] : ويحرم قوله : بع كالناس على الصحيح من المذاهب [ الإنصاف ] ، ( 4 / 338 ) . ، وقال أيضا : وكره الإمام أحمد البيع والشراء من مكان ألزم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 546)
الناس بهما فيه ، لا الشراء ممن اشترى منه [ الإنصاف ] ، ( 4 / 338 ) . .
ويستدل لذلك بالأدلة الدالة على منع التسعير ، وقد سبقت مع مناقشتها .(3/169)
المسألة الثالثة : في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير :
سبق الخلاف في التسعير ، وهذه المسألة مبنية على قول القائلين بالتسعير ، وقد بسط الكلام عليها الباجي رحمه الله ، فقال : لا خلاف في أن ذلك حكم أهل السوق والباعة ، وأما الجالب ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ، وقال ابن حبيب : لا يبيعون ما عدا القمح والشعير إلا بمثل سعر الناس ، وإلا رفعوا كأهل الأسواق ، وجه ما في كتاب محمد : أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه ، مع أن ما يجلب ليس من أقوات البلد ، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلب ، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة ، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم ولا يقدر على العدول بها عنهم في الأغلب ؛ ولهذا فرقنا بينهما في الحكرة وقت الضرورة ، ووجه ما قاله ابن حبيب : أن هذا بائع في السوق فلم يكن له أن يحط عن سعره ؛ لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد ، قال : فأما جالب القمح والشعير ، فقال ابن حبيب : يبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر ، وإن كثر المرخصون قيل لمن بقي : إما أن تبيع كبيعهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 547)
وإما أن ترفع .
مسألة : إذا ثبت ذلك فإن كان البائع للطعام من أهل السوق هل يمنع من بيعه في داره بسعر السوق ؟
وقال ابن حبيب : وينبغي في الطعام أن يخرج إلى السوق ، كما جاء الحديث .
ووجه ذلك : أن بيعه في الدور إعزاز له وسبب إلى غلائه ، وتطرق لبيع البائع كيف شاء بدون سعر أهل السوق إذا لم يعرف له ذلك في السوق ، فإن كان جالبا فليبعه في السوق أو في الدار إن شاء على يده [ الدر المنتقى ] ، ( 5 / 18 ) . .(3/170)
المسألة الرابعة : بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات ؟
اختلف في تحديد ذلك :
فالحنفية : يقولون بالتعميم في كل ما أضر بالعامة .
والمالكية : يخصونه بالمكيل والموزون .
ويرى الشافعية : أنه في الأقوات خاصة ، سواء كانت للآدميين أو للبهائم .
القول الأول : أن التسعير يجري في كل ما أضر بالعامة :
جاء في [ الدر المنتقى شرح الملتقى ] بعد كلام سبق : إلا إذا تعدى أرباب الطعام وغيره في القيمة للقوتين ، ومضى إلى أن قال : وأفاد أن التسعير في القوتين فقط لا غير ، وبه صرح العتابي والحسامي وغيرهما ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 548)
لكنه إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا على العادة فيسعر عليهم الحاكم ، بناء على ما قال أبو يوسف : ينبغي أن يجوز ، ذكره القسهتاني ، قلت : وقد قدمنا أن أبا يوسف يعتبر حقيقة الضرر فتدبر الدر المنتقى ، ( 2 / 548 ) . ، وجاء أيضا في [ رد المختار ] على قوله : ( في القوتين ) أي : قوت البشر وقوت البهائم ؛ لأنه ذكر التسعير في بحث الاحتكار تأمل ، وقال أيضا بناء على قوله : بناء على ما قال أبو يوسف ( أي : من أن كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار ولو ذهبا أو فضة أو ثوبا ) قال : ( ط ) وفيه : أن هذا في الاحتكار لا في التسعير . اهـ . قلت : نعم ، ولكنه يؤخذ منه قياسا واستنباطا بطريق المفهوم ؛ ولذا قال بناء على ما قال أبو يوسف ، ولم يجعله قوله . تأمله على أن ما تقدم : أن الإمام يرى الحجر إذا عم الضرر ، كما في المغني الماجن ، والمكاري المفلس ، والطبيب الجاهل ، وهذه قضية عامة فتدخل مسألتنا فيها ؛ لأن التسعير حجر معنى ؛ لأنه منع عن البيع بزيادة فاحشة ، وعليه فلا يكون مبنيا على قول أبي يوسف فقط ، كذا ظهر لي فتأمل [ رد المختار ] ( 5 / 265 ) . .
القول الثاني : أنه خاص بالمكيل والموزون :
وبه قال المالكية :(3/171)
قال الباجي : قال ابن حبيب : إن ذلك في المكيل والموزون مأكولا كان أو غير مأكول ، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن .
ووجه ذلك : أن المكيل والموزون مما يرجع فيه إلى المثل ؛ فلذلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 549)
وجب أن يحمل الناس فيه على سعر واحد ، وغير المكيل والموزون لا يرجع فيه إلى المثل ، وإنما يرجع فيه إلى القيمة ويكثر اختلاف الأغراض في أعيانه ، فلما لم يكن متماثلا لم يصح أن يحمل الناس فيه على سعر واحد ، وهذا إذا كان المكيل والموزون متساويين في الجودة ، فإذا اختلف صنفه لم يؤمر من باع الجيد أن يبيع بمثل سعر ما هو أدون ؛ لأن الجودة لها حصة من الثمن كالمقدار .
القول الثالث : أنه خاص بالأقوات :
قال النووي : وحيث جوز التسعير فذلك في الأطعمة ، ويلحق بها علف الدواب . ذكر ذلك في [ الروضة ] ، [ روضة الطالبين ] ( 3 / 411 ) . .
تحديد أجور العقارات
يتضح من كلام الحنفية جوازه عند الحاجة إليه إذا رأى ولي الأمر ذلك ؛ لأنهم عمموا التسعير بالأطعمة وغيرها مما يدفع الضرر عن المسلمين . وأما عند من يخص التسعير بالأقوات أو بالمكيل والموزون فإنه يلزم على قوله : تحريم تسعير أجور العقارات ، من البيوت وغيرها ، وسيأتي التصريح بحكم ذلك فيما كتبه سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله .
وفيما يلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، ثم كلام ابن القيم ، ثم كتابة سماحة المفتي رحمه الله .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 550)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(3/172)
ومثل ذلك : الاحتكار لما يحتاج الناس إليه ، روى مسلم في [ صحيحه ] ، عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح مسلم المساقاة (1605),سنن الترمذي البيوع (1267),سنن أبو داود البيوع (3447),سنن ابن ماجه التجارات (2154),مسند أحمد بن حنبل (6/400),سنن الدارمي البيوع (2543). لا يحتكر إلا خاطئ فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه ويريد إغلاءه عليهم ، وهو ظالم للخلق المشترين ؛ ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه ، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة ، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ، ولهذا قال الفقهاء : من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله ، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره .
ومن هنا يتبين : أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباحه الله لهم - فهو حرام ، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل : إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز ، بل واجب .
فأما الأول : فمثل ما روى أنس قال : سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، لو سعرت ؟ فقال : إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال رواه أبو داود والترمذي وصححه .
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر ؛ إما لقلة الشيء ، وإما لكثرة الخلق ، فهذا إلى الله ، فإلزام(3/173)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 551)
الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق .
وأما الثاني : فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به ، وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون ، لا تباع تلك السلع إلا لهم ، ثم يبيعونها هم ، فلو باع غيرهم ذلك منع ، إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع ، أو غير ظلم ؛ لما في ذلك من الفساد ، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه ، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا - كان ذلك ظلما للخلق من وجهين : ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال ، وظلما للمشترين منهم ، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه ، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع ، وحقيقته : إلزامهم أن يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل .
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة ، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق : يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع ، مثل : بيع المال لقضاء الدين الواجب ، والنفقة الواجبة ، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ، ويجوز في مواضع مثل : المضطر إلى طعام الغير ، ومثل : الغراس ، والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر ، ونظائره كثيرة .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 552)(3/174)
وكذلك السراية في العتق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري العتق (2386),صحيح مسلم العتق (1501),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504). من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق .
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات ؛ كآلة الحج ، ورقبة العتق وماء الطهارة ، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل ، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار ، وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل ، لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره ، ونظائره كثيرة ؛ ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر ، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى ، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن لا يشتركوا ، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا ، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف ، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف ، وينمو ما يشترونه - كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع ، ومن بيع الحاضر للبادي ، ومن النجش ، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل ، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه ، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس - فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل ، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة ، ومن ذلك
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 553)(3/175)
أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس ، مثل : حاجة الناس الفلاحة والنساجة والبناية - فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها ، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم ، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار ، وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه ، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب ، ولا بد لهم من طعام ؛ إما مجلوب من غير بلدهم ، وإما من زرع بلدهم ، وهذا هو الغالب ، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها ، فيحتاجون إلى البناء ؛ فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم ؛ كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم : إن هذه الصناعات فرض على الكفاية ، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية ، إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان ، مثل : أن يقصد العدو بلدا ، أو مثل : أن يستنفر الإمام أحدا ، وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين ، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه ، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في [ الصحيحين ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح البخاري العلم (71),صحيح مسلم الإمارة (1037),سنن ابن ماجه المقدمة (221),مسند أحمد بن حنبل (4/93),موطأ مالك الجامع (1667),سنن الدارمي المقدمة (226). من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين ، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا ، والدين ما بعث الله به رسوله ، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به ، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما ، وطاعة عامة ، ثم إذا ثبت عنه خبر ، كان عليه أن يصدق به مفصلا ، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر(3/176)
معين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 554)
كان عليه أن يطيعه مفصلة ، وكذلك غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ، فرض على الكفاية ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية ، والولايات كلها : الدينية ، مثل : إمرة المؤمنين وما دونها من ملك ، ووزارة ، وديوانية ، سواء كانت كتابة خطاب ، أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم ، ومثل إمارة حرب ، وقضاء وحسبة ، وفروع هذه الولايات ، إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية ، يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ، ويولي في الأماكن البعيدة عنه ، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد ، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص ، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص ، وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن ، وكذلك كان يؤمر على السرايا ، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة ، فيأخذونها ممن هي عليه ، ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن ، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط ، لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد لها موضعا يضعها فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال ، يحاسبهم على المستخرج والمصروف ، كما في [ الصحيحين ] ، عن أبي حميد الساعي : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقات ، فلما حاسبه ، فقال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الأيمان والنذور (6260),صحيح مسلم الإمارة (1832),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946),مسند أحمد بن حنبل (5/424),سنن الدارمي الزكاة (1669). ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ، والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا(3/177)
الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته . إن كان بعيرا له
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 555)
رغاء ، وإن كانت بقرة لها خوار ، وإن كانت شاة تيعر ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ قالها مرتين أو ثلاثا .
والمقصود هنا : أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه ، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها ، فإن كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم ، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم ، فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح ، كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند ، والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء ، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين ، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين ، وهي قول أكابر الصحابة ، كابن مسعود ، وهي مذهب فقهاء الحديث ؛ كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن خزيمة ، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم ، ومذهب الليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن وغيرهم من فقهاء المسلمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات ، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر من خيبر ، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم ، وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل ، بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر إلا من العامل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 556)(3/178)
والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة ، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء ، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة ، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق ؛ لأن المعاملة مبناها على العدل ، وهذه المعاملات من جنس المشاركات ، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف ، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا ، بل كان ظلما ، وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعوض مجهول ، فقالوا : القياس يقتضي تحريمها ، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة وأباح المضاربة استحبابا للحاجة ؛ لأن الدراهم لا يمكن إجارتها ، كما يقول أبو حنيفة ، ومنهم من أباح المساقاة ، إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي ، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي ، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض ، وأباحوا إليه من المزارعة تبعا للمساقاة ، فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة ، كقول الشافعي : إذا كانت الأرض أغلب ، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك ، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا : هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل ، فإن مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع ، وهما متشاركان هذا ببدنه ، وهذا بماله ، كالمضاربة ؛ ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء : أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل ، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه ، كما جرت العادة في مثل ذلك ، ولا يجب أجرة مقدرة ، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه ، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 557)(3/179)
في الصحيح ، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة ، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسد نظير ذلك ، والمزارعة أصل من المؤاجرة ، وأقرب إلى العدل والأصول ، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، بخلاف المؤاجرة ، فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل ، والعلماء مختلفون في جواز هذا وجواز هذا : والصحيح : جوازهما ، وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة ، وما علمت أحدا من علماء المسلمين - لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم - قال : إن إجارة الإقطاع لا تجوز ، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا ، ولكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول ، قالوا : لأن المقطع لا يملك المنفعة ، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المستعارة ، وهذا القياس خطأ لوجهين :
أحدهما : أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له ، وإنما تبرع له المعير بها ، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين ، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعا لهم كالمعير ، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق ، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى ، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء ، فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى .
الثاني : أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة ، مثل الإجارة في الإقطاع ، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة ، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها ؛ إما بالمزارعة ، وإما بالإجارة ، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 558)(3/180)
والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم ، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة ، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة وبالمزارعة والمساقاة في الأمر العام ، والمرابعة نوع من المزارعة ، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها ، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس ، لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء ، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المنفعة والمغرم ، فهو أقرب إلى العدل ؛ فلهذا تختاره الفطر السليمة ، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر .(3/181)
والمقصود هنا : أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم - كالفلاحة والحياكة والبناية - فإنه يقدر أجرة المثل ، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل ، وهذا من التسعير الواجب ، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك - فيستعمل بأجرة المثل ، لا يمكن المستعملون من ظلمهم ، ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم ، فهذا تسعير في الأعمال ، وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل ، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون ، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الحج (1737),صحيح مسلم الحج (1353),سنن الترمذي السير (1590),سنن أبو داود الجهاد (2480),سنن ابن ماجه الجهاد (2773),مسند أحمد بن حنبل (1/316). وإذا استنفرتم فانفروا أخرجاه في [ الصحيحين ] ، وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال : صحيح البخاري الفتن (6647),سنن النسائي البيعة (4154),سنن ابن ماجه الجهاد (2866),مسند أحمد بن حنبل (5/325),موطأ مالك الجهاد (977). على المرء المسلم السمع والطاعة ، في عسره ويسره ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 559)
ومنشطه ومكرهه ، وأثرة عليه .(3/182)
فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله ، فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه في الجهاد بعوض المثل ؟! والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن ، وقد قال الله تعالى : سورة التغابن الآية 16 فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858),صحيح مسلم الحج (1337),سنن النسائي مناسك الحج (2619),سنن ابن ماجه المقدمة (2),مسند أحمد بن حنبل (2/508). إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أخرجاه في [ الصحيحين ] ، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال ، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن ، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ، وأوجب الحج على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض ، ومن ذلك : إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت ، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ، ولا من يبيع طحينا ولا خبزا ، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم ، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير ، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : سنن ابن ماجه التجارات (2153),سنن الدارمي البيوع (2544). الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون ، وقال : صحيح مسلم المساقاة (1605),سنن الترمذي البيوع (1267),سنن أبو داود البيوع (3447),سنن ابن ماجه التجارات (2154),مسند أحمد بن حنبل (6/400),سنن الدارمي البيوع (2543). لا يحتكر إلا خاطئ رواه مسلم في [ صحيحه ] ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن قفيز الطحان فحديث ضعيف ، بل باطل ، فإن المدينة لم يكن(3/183)
فيها طحان ولا خباز ؛ لعدم حاجتهم إلى ذلك ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 560)
كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا ؛ لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد .
ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة ؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها ؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها ، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة ، وكانوا نحو ألف وأربعمائة ، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر ، فهؤلاء هم الذين قسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أرض خيبر ، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم ، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : صحيح البخاري المزارعة (2213). نقركم فيها ما شئنا - وفي رواية - صحيح البخاري الشروط (2580). ما أقركم الله وأمر بإجلائهم منها عند موته صلى الله عليه وسلم فقال : مسند أحمد بن حنبل (1/195),سنن الدارمي السير (2498). أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب .
ولهذا ذهب طائفة من العلماء - كمحمد بن جرير الطبري - إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم ، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر ، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه .
والمقصود هنا : أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين :
أحدهما : أن يحتاجوا إلى صناعتهم ، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت ، فهؤلاء يستحقون الأجرة ، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 561)(3/184)
والثاني : أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع ، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها ، وإلى من يخبزها ويبيعها خبزا ؛ لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق ، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة النار المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما ، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين ، كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح ، سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل ، وسواء اشترى طعاما أو ثيابا أو حيوانا ، وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد ، أو كان متربعا به يحبسه إلى وقت النفاق ، أو كان مديرا يبيع دائما ويشتري كأهل الحوانيت ، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار ، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم ، أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه ، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح المعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس .(3/185)
وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين :
المسألة الأولى : إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك - فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك ، وهل يمنع النقصان ؟ على قولين لهم .
وأما الشافعي وأصحاب أحمد ؛ كأبي حفص العكبري ، والقاضي أبي يعلى ، والشريف أبي جعفر ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك ، واحتج مالك بما رواه في [ موطئه ] ، عن يونس بن يوسف عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 562)
سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق ، فقال له عمر : ( إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا ) وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال : حدثنا الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد ، عن عمر : أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأل عن سعرهما ؟ فسعر له مدين لكل درهم ، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك . فإما أن ترفع السعر ، وأما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه . ثم أتى حاطبا في داره فقال : إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع .
قال الشافعي : هذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك ، ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه ، وهذا أتى بأول الحديث وآخره ، وبه أقول ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم ، إلا في المواضع التي تلزمهم ، وهذا ليس منها ، قلت : وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي : الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس ، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور ؛ لأن المراعى حال الجمهور ، وبه تقوم المبيعات .(3/186)
وروى ابن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة . قال : وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق ، وهل يقام من زاد في السوق - أي : في قدر المبيع - بالدرهم مثلا كما يقام من نقص منه ؟ قال أبو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 563)
الحسن بن القصار المالكي : اختلف أصحابنا في قول مالك لكن من حط سعرا فقال البغداديون : أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية ، وقال قوم من المصريين : أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة . قال : وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان ؛ لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم ، فربما أدى إلى الشغب والخصومة ففي منع الجميع مصلحة ، قال أبو الوليد : ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق .
وأما الجالب ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس ، وقال ابن حبيب : ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا ، قال : وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، إن أرخص بعضهم تركوا ، وإن كثر المرخص قيل لمن بقي : إما أن تبيعوا كبيعهم ، وإما أن ترفعوا ، قال ابن حبيب : وهذا في المكيل والموزون مأكولا أو غير مأكول ، دون ما لا يكال ولا يوزن ، لأن غيره لا يمكن تسعيره ؛ لعدم التماثل فيه . قال أبو الوليد : يريد إذا كان المكيل والموزون متساويا ، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون .
قلت : والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير : أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب فهذا منع منه جمهور العلماء . حتى مالك نفسه في المشهور عنه ، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر ولسالم والقاسم بن محمد ، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه ، ولم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 564)(3/187)
يذكر ألفاظهم ، وروى أشهب عن مالك ، وصاحب السوق يسعر على الجزارين ، لحم الضأن ثلث رطل ، ولحم الإبل نصف رطل ، وإلا خرجوا من السوق . قال : إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق .
واحتج أصحاب هذا القول : بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا فساد عليهم قالوا : ولا يجبر الناس على البيع ، وإنما يمنعوا من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري ، ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس .
وأما الجمهور : فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه أيضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337). جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاء رجل فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة .
قالوا : ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعا : ظلم لهم ، والظلم حرام .
وأما صفة ذلك عند من جوزه : فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم ، فيسألهم : كيف يشترون ؛ وكيف يبيعون ؛ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا ، ولا يجبرون على التسعير ، ولكن عن رضا . قال : وعلى هذا أجازه من أجازه .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 565)
قال أبو الوليد : ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه إجحاف بالناس وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس .(3/188)
قلت : فهذا الذي تنازع فيه العلماء ، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ، ويعاقبون على تركه ، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه ، فهنا يؤمر بما يجب عليه ، ويعاقب على تركه بلا ريب .
ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال فقد غلط ، فإن هذه قضية معينة ليست لفظا عاما ، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه ، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل ، ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم ، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبا من الجلب ، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها ، وإنما كان يزرع فيها الشعير ، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسا معينين ، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله ليجبر على عمل أو على بيع ، بل المسلمون كلهم من جنس واحد ، كلهم يجاهد في سبيل الله ، ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو ، وكل منهم يغزو بنفسه وماله ، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء ، أو ما يجهزه به غيره ، وكان
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 566)
إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراها بغير حق ، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز .(3/189)
وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قدر له الثمن الذي يبيع به وشعر عليه ، كما في [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح البخاري العتق (2386),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504). من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه - حصصهم وعتق عليه العبد . فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ، لا وكس ولا شطط ، ويعطى قسطه من القسمة ، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء ، كمالك وأبي حنيفة وأحمد ، ولهذا قال هؤلاء : كل ما لا يمكن قسمته فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع ، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا ؛ لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح ، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع ، فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك ، وليس لمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة ، فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب ؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك .
وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير ، فكذلك يجوز للشريك أن ينزع النصف المشفوع من يد المشتري
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 567)(3/190)
بمثل الثمن الذي اشتراه به ، لا بزيادة للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة ، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء ، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة ، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء ، بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به ، وهذا في الحقيقة من نوع التولية ، والتولية أن يعطي المشترك السلعة لغيره بمثل الثمن الذي اشتراها به ، وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل ، ومع هذا فلا يجبر المشتري من أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء إذ لا حاجة بذلك إلى شرائه كحاجة الشريك .
فأما إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانا يأوون إليه إلا ذلك البيت - فعليه أن يسكنهم ، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد ، أو إلى آلات يطبخون بها ، أو يبنون أو يسقون - يبذل هذا مجانا ، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به ، أو قدرا يطبخون فيها ، أو فأسا يحفرون به ، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة ؟
فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره :
والصحيح : وجوب بذل ذلك مجانا إذا كان صاحبها مستغنيا عن تلك المنفعة وعوضها ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : سورة الماعون الآية 4 فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ سورة الماعون الآية 5 الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ سورة الماعون الآية 6 الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ سورة الماعون الآية 7 وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وفي [ السنن ] ، عن ابن مسعود قال : كنا نعد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 568)(3/191)
( الماعون ) عارية الدلو والقدر والفأس ، وفي [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الخيل قال : صحيح البخاري تفسير القرآن (4678),صحيح مسلم الزكاة (987),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636),سنن النسائي الخيل (3563),سنن ابن ماجه الجهاد (2788),مسند أحمد بن حنبل (2/384). هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر : فرجل ربطها في سبيل الله . . . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر وفي [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح مسلم الزكاة (988),سنن النسائي الزكاة (2454),مسند أحمد بن حنبل (3/321),سنن الدارمي الزكاة (1616). من حق الإبل إعارة دلوها ، وإضراب فحلها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الإجارة (2164),سنن الترمذي البيوع (1273),سنن النسائي البيوع (4671),سنن أبو داود البيوع (3429),مسند أحمد بن حنبل (2/14). أنه نهى عن عسب الفحل ، وفي [ الصحيحين ] عنه أنه قال : صحيح البخاري المظالم والغصب (2331),صحيح مسلم المساقاة (1609),سنن الترمذي الأحكام (1353),سنن أبو داود الأقضية (3634),سنن ابن ماجه الأحكام (2335),مسند أحمد بن حنبل (2/327),موطأ مالك الأقضية (1462). لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره وإيجاب بذل المنفعة مذهب أحمد وغيره ، ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض ، فهل يجبر ؟ على قوليين للعلماء ، هما روايتان عن أحمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للممتنع : والله لتجرينها ولو على بطنك ، ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين : أن زكاة الحلي عاريته ، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره .(3/192)
والمنافع التي يجب بذلها نوعان : منها ما هو حق المال ، كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي ، ومنها ما يجب لحاجة الناس ، وأيضا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم ، وإفتاء الناس ، وأداء الشهادة ، والحكم بينهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد ، وغير ذلك من منافع الأبدان ، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج ، وقد قال تعالى : سورة البقرة الآية 282 وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقال : سورة البقرة الآية 282 وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ(3/193)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 569)
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال ، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره :
أحدها : أنه لا يجوز مطلقا .
والثاني : لا يجوز إلا عند الحاجة .
الثالث : يجوز إلا أن يتعين عليه .
والرابع : يجوز ، فإن أخذ أجرا عند العمل لم يأخذ عند الأداء ، وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر .
والمقصود هنا : أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر ، إما بثمن المثل ، وإما بالثمن الذي اشتراه به ، لم يحرم مطلقا تقدير الثمن ، ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية ، وذلك حق الله ، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ؛ ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى ، وحدودا لله ، بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم ، وذلك مثل : حقوق المساجد ومال الفيء والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك ، ومثل : حد المحاربة والسرقة والزنى وشرب الخمر ، فإن الذي يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء ، وليس لورثة المقتول العفو عنه ، بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص ، مثل خصومة بينهما ، فإن هذا حق لأولياء المقتول ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين ، وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ، ليس الحق فيها لواحد بعينه ، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية ، لكن تكميل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 570)
الحرية وجب على الشريك المعتق ، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء ، وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم ، فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم .(3/194)
ولهذا قال الفقهاء : إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل ، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع ، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي ، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل ، وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة ، ولهم فيه وجهان ، وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة ، فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار ، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رأيه ، زجرا له أو دفعا للضرر عن الناس ، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير - سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة ، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي ، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر ، حيث لا يرى الحجر على الحر ، وكذا عندهما - أي : عند أبي يوسف ومحمد - إلا أن يكون الحجر على قوم معينين ، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح ، لأنه غير مكره عليه .
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه ؟
قيل : هو على الاختلاف المعروف في مال المديون ، وقيل : يبيع ههنا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 571)(3/195)
بالاتفاق ؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام ، والسعر لما غلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه ، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق ، لكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد : نهاه أن يكون له سمسارا وقال : سنن الترمذي البيوع (1223),سنن النسائي البيوع (4495),سنن أبو داود البيوع (3442),سنن ابن ماجه التجارات (2176). دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة ؛ لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري ، فنهاه عن التوكل له - مع أن جنس الوكالة مباح - لما في ذلك من زيادة السعر على الناس ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب ، وهذا أيضا ثابت في الصحيح من غير وجه ، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار ، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لهذا البائع ، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو إذا غبن ؟ قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد ، أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن ، والثاني يثبت له الخيار مطلقا ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وقالت طائفة : بل نهى عن ذلك ؟ لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه .(3/196)
وفي الجملة : فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر ، وهو ثمن المثل ، ويعلم المشتري بالسلعة ، وصاحب القياس الفاسد يقول : للمشتري أن يشتري حيث شاء ، وقد اشترى من البائع كما يقول ، وللبادي أن يوكل الحاضر ، لكن الشارع رأى المصلحة العامة ، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 572)
المشتري غارا له ؛ ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل ، والمسترسل : الذي لا يماكس الجاهل بقيمة المبيع ، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف ، وهو ثمن المثل ، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع ، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له ، والبيع يعتبر فيه الرضا ، والرضا يتبع العلم ، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك ، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه .(3/197)
لهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس ، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر ، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك ، فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما وصفها بصفة وتبينت بخلافها ، فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإن رضي وإلا فسخ البيع ، وفي [ الصحيحين ] عن حكيم بن حزام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح البخاري البيوع (1973),صحيح مسلم البيوع (1532),سنن الترمذي البيوع (1246),سنن النسائي البيوع (4464),سنن أبو داود البيوع (3459),مسند أحمد بن حنبل (3/402),سنن الدارمي البيوع (2547). البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما وفي [ السنن ] : أن رجلا كان له شجرة في أرض غيره ، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل ، فأذن لصاحب الأرض في قلعها ، وقال لصاحب الشجرة : سنن أبو داود الأقضية (3636). إنما أنت مضار فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها ، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري ، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام ؟ ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز ، ونظير هؤلاء
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 573)(3/198)
صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك ، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها ، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل ، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها ، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده ، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى ، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم ، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف - لم يحتج إلى تسعير ، وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل - سعر عليهم تسعير عدل ، لا وكس ، ولا شطط [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ، ( 28 / 75 ) وما بعدها . انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى الطرق الحكمية ، ص 244 من الهامش . :
وأما التسعير : فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز .
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباح الله لهم - فهو حرام ، وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل : إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز ، بل واجب .
فأما القسم الأول :
فمثل : ما روى أنس قال : سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/156),سنن الدارمي البيوع (2545). غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 574)(3/199)
يا رسول الله ، لو سعرت لنا ، فقال : إن الله هو القابض الرازق ، الباسط المسعر ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال رواه أبو داود والترمذي وصححه ، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم ، وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله . فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها : إكراه بغير حق .
وأما القسم الثاني : فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها ، مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، والتسعير ههنا إلزام - بالعدل الذي ألزمهم الله به .
فصل : ومن أقبح الظلم : إيجار الحانوت على الطريق ، أو في القرية ، بأجرة معينة على أن لا يبيع أحد غيره ، فبهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر ، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا ، وأكلها بالباطل ، وفاعله قد تحجر واسعا ، فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته كما حجر على الناس فضله ورزقه .
فصل : ومن ذلك أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون ، فلا تباع تلك السلع إلا لهم ، ثم يبيعونها هم بما يريدون ، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب ، فهذا من البغي في الأرض والفساد والظلم الذي يحبس به قطر السماء ، وهؤلاء يجب التسعير عليهم ، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل ، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل ، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ؛ لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 575)
يشتريه ، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا : كان ذلك ظلما للناس : ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع ، وظلما للمشترين منهم .(3/200)
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع . وحقيقته إلزامهم بالعدل ، ومنعهم من الظلم . وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق ، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق ، مثل : بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة ، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس ، ومثل : الغراس والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل ، ومثل : الأخذ بالشفعة ، فإن للشفيع أن يتملك الشقص بثمنه قهرا ، وكذلك السراية في العتق . فإنها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا . وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا . وكل من وجب عليه شيء من الطعام واللباس والرقيق والمركوب - بحج أو كفارة أو نفقة - فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه وأجبر على ذلك . ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا أو بدون ثمن المثل .
فصل : ومن ههنا : منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة : أن يشتركوا ، فإنهم إذا اشتركوا - والناس يحتاجون إليهم - أغلوا عليهم الأجرة .
قلت : كذلك ينبغي لوالي الحسبة : أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك ، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم ، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم ، كالشهود والدلالين وغيرهم ، على أن في شركة الشهود مبطلا آخر ، فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 576)(3/201)
الآخر ، لا يمكن الاشتراك فيه . فإن الكتابة متميزة ، والتحمل متميز ، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون فبأي وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه ؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصناع ، فإنه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه ؛ ولهذا إذا اختلفت الصنائع : لم تصح الشركة على أحد الوجهين لتعذر اشتراكها في العمل ، ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة ، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما ، وإن لم يقع في عين العمل . وأما شركة الدلالين : ففيها أمر آخر ، وهو : أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها ، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه ، فإن قلنا : ليس للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة ، وإن قلنا : له أن يوكل صحت ، فعلى والي الحسبة أن يعرف هذه الأمور ويراعيها ، ويراعي مصالح الناس ، وهيهات هيهات ذهب ما هنالك .
والمقصود : أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة ، لما فيه من التواطؤ على إغلاء الأجرة ، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى ، وكذلك يمنع والي الحسبة المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم ؛ لما في ذلك من ظلم البائع ، وأيضا : فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها : قد تواطئوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل ، ويبيعون ما يبيعونه بأكثر من ثمن المثل ، ويقتسمون ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان ، وقد قال الله تعالى : سورة المائدة الآية 2 وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 577)
ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش.(3/202)
فصل: ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة- كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك- فلولي الأمر: أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي : إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية، لحاجة الناس إليها، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الإمامة إلا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى أمر ما يليه بنفسه ، ويولي فيما بعد عنه ، كما ولى على مكة : عتاب بن أسيد، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى قرى عرينة : خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية، فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا سوطه، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه.
فصل: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في [الصحيحين] عن أبي حميد الساعدي : صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2457),صحيح مسلم الإمارة (1832),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946),مسند أحمد بن حنبل (5/424),سنن الدارمي الزكاة (1669). أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية، على الصدقات فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 578)(3/203)
ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر: أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء، وقال اللهم هل بلغت قالها مرتين أو ثلاثا .
والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها ألزم الجند بأن لا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح، ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين : ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى لهم جهلهم وظلمهم إلا أن يركبوا الظلم والإثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا.
فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله ؟ قيل: المزارعة العادلة ، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 579)
سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام، وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.(3/204)
وهذه المزارعة العادلة: هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهم، وهي مذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، وهي مذهب عامة أئمة المسلمين؛ كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر، وكان قد شاطرهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم، لا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء: أن البذر يجوز أن يكون من العامل؛ كما مضت به السنة، بل قد قالت طائفة من الصحابة: لا يكون البذر إلا من العامل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء، والصحيح: أنه يجوز أن يكون من رب الأرض، وأن يكون من العامل، وأن يكون منهما، وقد ذكر البخاري في [صحيحه]: (أن عمر بن الخطاب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 580)(3/205)
رضي الله عنه عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده: فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا) والذين منعوا المزارعة: منهم من احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري المساقاة (2252),صحيح مسلم البيوع (1536),سنن النسائي البيوع (4523),سنن أبو داود البيوع (3404),مسند أحمد بن حنبل (3/392). نهى عن المخابرة ولكن الذي نهى عنه: هو الظلم: فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها. ويشترطون ما على الماذيانات وإقبال الجداول، وشيئا من التبن يختص به صاحب الأرض، ويقتسمان الباقي، وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع، فإن المعاملة مبناها على العدل من الجانبين وهذه المعاملات من جنس المشاركات، لا من باب المعاوضات، والمشاركة العادلة: هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلما .
فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الليث بن سعد : الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: أمر إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه علم أنه لا يجوز، وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه.(3/206)
فصل: وقد ظن طائفة من الناس: أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة، وأباح المضاربة استحسانا للحاجة ؛ لأن الدراهم لا تؤجر كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أباح المساقاة ؛ إما مطلقا، كقول مالك والشافعي في القديم، أو على النخل والعنب خاصة، كالجديد له؛ لأن الشجر لا يمكن إجارته، بخلاف الأرض، وأباح ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة ، ثم منهم من قدر ذلك بالثلث، كقول مالك، ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب كقول الشافعي، وأما جمهور السلف
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 581)
والفقهاء، فقالوا: ليس ذلك من باب الإجارة في شيء، بل هو من باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه، بخلاف الإجارة، فإن هذا مقصوده العمل، وهذا مقصوده الأجرة؛ ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها، لا أجرة مقدرة، فإن لم يكن ربح ولا نماء لم يجب شيء، فإن أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع، فإن قاعدة الشرع: أنه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها، كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل، وهو نظير ما يجب في الصحيح، وفي البيع الفاسد إذا فات ثمن المثل، وفي الإجارة الفاسدة أجرة المثل، فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة نصيب المثل، فإن الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة، فيجب في فاسدها أجرة المثل، بل هو جزء شائع من الربح، فيجب في الفاسدة نظيره.(3/207)
قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء: والمزارعة أحل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل، فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة، والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا، والصحيح جوازهما، سواء كانت الأرض إقطاعا أو غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وما علمت أحدا من علماء الإسلام- من الأئمة الأربعة ولا غيرهم- قال: إجارة الإقطاع لا تجوز، ومازال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن، من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، حتى حدث بعض أهل زمننا فابتدع القول
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 582)
ببطلان إجارة الإقطاع، وشبهته: أن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير لا يجوز أن يكري الأرض المعارة.
وهذا القياس خطأ من وجهين:
أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له، إنما تبرع المستعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم، ليس متبرعا لهم كالمعير، والمقطع مستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقف عليه منافع الوقف وأولى، إذا جاز للموقف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح - فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى .(3/208)
الثاني: أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة، وولي الأمر يأذن للمقطع في الإجارة ، فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها إما بالمزارعة، وإما بالإجارة، ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين، وفي ذلك من الفساد ما فيه، وأيضا: فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت، لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، فإذا لم تصح إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية، وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد معرضا لرجوع الوالد فيه، وكون الصداق قبل الدخول معرضا لرجوع نصفه أو كله إلى الزوج، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق، فليس مع المبطل نص ولا قياس، ولا مصلحة، ولا نظير، وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة ولم يبق مع الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 583)
الأرض ويقوم عليها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس؛ لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهي أقرب إلى العدل، وهذه المسألة ذكرت استطرادا، وإلا فالمقصود: أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات- كالفلاحين وغيرهم- أجبروا على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال.
وأما التسعير في الأموال : فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟! ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو الصواب.(3/209)
فصل: وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم. وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين. ولهذا جاء في الحديث: سنن ابن ماجه التجارات (2153),سنن الدارمي البيوع (2544). الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون .
وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها.
فصل: وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 584)
إحداهما: إذا كان للناس سعر غالب، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك، فإنه يمنع من ذلك عند مالك، وهل يمنع من النقصان؟ على قولين لهم: واحتج مالك رحمه الله بما رواه في [موطئه] عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة ، وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر : (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا).
قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط من سعر الناس، لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، أما أن يقول للناس كلهم- يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا- فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة ، حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب (خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله).(3/210)
قال ابن رشد في كتاب [البيان]: أما الجالبون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع إنما يقال لمن شذ منهم فباع بأغلى مما يبيع به العامة: إما أن تبيع بما تبيع به العامة، وإما ترفع من السوق، كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له: (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أغلى مما كان يبيع به أهل السوق، وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا، مثل اللحم والأدم، والفواكه- فقيل: إنهم كالجلابين لا يسعر لهم شيء من بياعتهم، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إما أن تبيع كما يبيع الناس، وإما أن ترفع من السوق، وهو قول
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 585)
مالك في هذه الرواية.
وممن روي عنه ذلك من السلف: عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، قيل: إنهم في هذا بخلاف الجالبين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبهه، وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترونه به، فيجعل لهم من الربح ما يشبهه وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبدا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق، وهذا قول مالك في رواية أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب . وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد، وربيعة .(3/211)
ولا يجوز عند أحد من العلماء: أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه: لا تبيعوه إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترونه: لم يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم، وأما الشافعي : فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردي عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه (أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما، فقال له: مدين لكل درهم، فقال عمر : قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك. فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه. ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 586)
لك ليس عزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع ).
قال الشافعي، وهذا الحديث مستفيض، وليس بخلاف لما رواه مالك، ولكنه روى بعض الحديث، أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها، وهذا ليس منها، وعلى قول مالك : فقال أبو الوليد الباجي : الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به: هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر، أمروا باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع، فإن زاد في السعر واحد، أو عدد يسير، لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره؛ لأن المراعى حال الجمهور وبه تقوم المبيعات.(3/212)
وهل يقام من زاد في السوق- أي: في قدر المبيع بالدراهم- كما يقام من نقص منه؟ قال ابن القصار المالكي : اختلف أصحابنا في قول مالك : (ولكن من حط سعرا) فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم، والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة، قال: وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان؛ لأن من باع ثمانية- والناس يبيعون خمسة- أفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة، فمنع الجميع مصلحة، قال أبو الوليد : ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.
وأما الجالب: ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 587)
دون بيع الناس، وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير بسعر الناس، وإلا رفعوا، وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن أرخص أكثرهم، قيل لمن بقي إما أن تبيعوا كبيعهم، وإما أن ترفعوا.
قال ابن حبيب : وهذا في المكيل والموزون، مأكولا كان أو غيره، دون ما يكال ولا يوزن؛ لأنه لا يمكن تسعيره ، لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد : هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين، أما إذا اختلفا، لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون.(3/213)
فصل: وأما المسألة الثانية- التي تنازعوا فيها من التسعير: فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور، حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم، والقاسم بن محمد . وروى أشهب عن مالك - في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم، فلا بأس به، ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق، واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم. ولا يجبر الناس على البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر، على حساب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، وأما الجمهور: فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337). جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، سعر لنا فقال: بل أدعو الله ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 588)
يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة . قالوا: ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم.
فصل: وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم، استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضى.(3/214)
قال أبو الوليد : ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضى، بما لا ربح لهم فيه: أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس. قال شيخنا: فهذا الذي تنازعوا فيه، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه، فهنا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع.
ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال قيل له: هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه- كما جرت العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه- فهنا لا يسعر عليهم، وقد ثبت في [الصحيحين] أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 589)(3/215)
صحيح البخاري العتق (2386),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504). من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس لا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد فلم يكن للمالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد، قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور، وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا، وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن الثمن، وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه، للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة، وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن .
والمقصود: أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل ، لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره، وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير، وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه، لأجل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي وقع عليه العقد لا بما شاء المشتري من الثمن، لأجل هذه المصلحة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 590)(3/216)
الجزئية فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟! وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها، فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن، وحديث العتق أصل في ذلك كله.
فصل: فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان، لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك- وجب على صاحبه بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا؟ فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل، قال شيخنا: والصحيح: أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: سورة الماعون الآية 4 فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ سورة الماعون الآية 5 الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ سورة الماعون الآية 6 الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ سورة الماعون الآية 7 وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة: (وهو: إعارة القدر والدلو والفأس ونحوها) وفي [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الخيل قال: صحيح البخاري المساقاة (2242),صحيح مسلم الزكاة (987),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636),سنن النسائي الخيل (3563),سنن ابن ماجه الجهاد (2788),مسند أحمد بن حنبل (2/384),موطأ مالك الجهاد (975). هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله..، وأما الذي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها . وفي[الصحيحين] عنه أيضا: صحيح مسلم الزكاة (988),سنن النسائي الزكاة (2454),مسند أحمد بن حنبل (3/321),سنن الدارمي الزكاة (1616). من حق الإبل إعارة دلوها، وإطراق فحلها . وفي [الصحيحين] عنه: صحيح البخاري الإجارة (2164),سنن الترمذي البيوع(3/217)
(1273),سنن النسائي البيوع (4671),سنن أبو داود البيوع (3429),مسند أحمد بن حنبل (2/14). أنه نهى عن عسب الفحل أي: عن أخذ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 591)
الأجرة عليه، والناس يحتاجون إليه، فأوجب بذله مجانا ومنع من أخذ الأجرة عليه، وفي [الصحيحين] عنه: أنه قال: صحيح البخاري المظالم والغصب (2331),صحيح مسلم المساقاة (1609),سنن الترمذي الأحكام (1353),سنن أبو داود الأقضية (3634),سنن ابن ماجه الأحكام (2335),مسند أحمد بن حنبل (2/327),موطأ مالك الأقضية (1462). لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره .
ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره، من غير ضرر لصاحب الأرض فهل يجبر على ذلك ؟ روايتان عن أحمد، والإجبار: قول عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين (أن زكاة الحلي عاريته، فإذا لم يعره فلا بد من زكاته)، وهذا وجه في مذهب أحمد، قلت: وهو الراجح، وأنه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية، والمنافع التي يجب بذلها نوعان منها: ما هو حق المال، كما ذكرنا في الخيل، والإبل، والحلي، ومنها: ما يجب لحاجة الناس.
وأيضا: فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء الناس، والحكم بينهم وأداء الشهادة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من منافع الأبدان، وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه، فإن ترك ذلك- مع قدرته عليه- أتم وضمنه، فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى.
سورة البقرة الآية 282 وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقال: سورة البقرة الآية 282 وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ(3/218)
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال ، وهي أربعة أوجه في مذهب أحمد :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 592)
أحدها: أنه لا يجوز مطلقا.
والثاني: أنه يجوز عند الحاجة .
والثالث: أنه يجوز إلا أن يتعين عليه.
والرابع: أنه يجوز. فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء، والمقصود: أن ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن في سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية، وهو حق الله، وما احتاج الناس إليه حاجة عامة فالحق فيه لله، وذلك في الحقوق والحدود، فأما الحقوق: فمثل: حقوق المساجد، ومال الفيء، والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات، والمنافع العامة. وأما الحدود: فمثل، حد المحاربة، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر المسكر، وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس، وغير ذلك- مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، ولو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر، فإنه يطلب ما يشاء، وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لأنفسهم وغيرهم، فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء، كان ضرر الناس أعظم؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير وجب عليه بذله له بثمن المثل، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو: الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه : أن يبذله بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز تسعير
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 593)
الطعام، إذا كان بالناس إليه حاجة ولهم فيه وجهان.(3/219)
وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي: أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه ؛ زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس. قالوا: فإن تعدى أرباب الطعام، وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره عليه.
قالوا: وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه ؟ فعلى الخلاف المعروف في بيع مال المدين، وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام، والسعر لما غلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، أي: أن يكون له سمسارا، وقال: سنن الترمذي البيوع (1223),سنن النسائي البيوع (4495),سنن أبو داود البيوع (3442),سنن ابن ماجه التجارات (2176). دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنه إذا توكل له- مع خبرته بحاجة الناس- أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح؛ لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى عن تلقي الجلب، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار؛ ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا، فإذا لم يكن قد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 594)(3/220)
عرف السعر، وتلقاه المتلقي قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لهذا البائع الخيار، ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم: إحداهما: أن الخيار يثبت له مطلقا، سواء غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي .
والثانية: أنه إنما يثبت له عند الغبن، وهي ظاهر المذهب.
وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي، فاشترى متاعه في الجملة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال، حتى يعلم البائع السعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة.
وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول: له أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشتري غارا له، وألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل ، فإنه بمنزلة الجاهل بالسعر، فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف- وهو ثمن المثل-، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة، أو غير مماكسين ، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم ، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وفي [السنن ]: أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل بدلها، أو يتبرع له بها، فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض أن يقلعها،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 595)
وقال لصاحب الشجرة: إنما أنت مضار .(3/221)
وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته، ولا يتبرع بها، ولا يجوز لصاحب الأرض أن يقلعها، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يقلعها لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرض (بخلاصه من تأذيه) بدخول صاحب الشجرة، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم، فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه.
والمقصود: أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره ؟ والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها- كمنافع الدور، والطحن، والخبز، وغير ذلك- حكم المعاوضة على الأعيان.
وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير : سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: الحمد لله وحده، وبعد:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 596)
فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في مسألة التسعير وحكمه، ورغب إلي الكتابة فيه، فاستفتيت الله تعالى وأمليت فيها ما يلي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء.(3/222)
فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقا، مستدلين على ذلك بما روى أبو داود وغيره، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337). جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل أدعو الله ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال. بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة وبما روى أبو داود والترمذي وصححه ، عن أنس قال: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا. يا رسول الله، لو سعرت فقال: " إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة .
وهذا قول الشافعي، وهو قول أصحاب الإمام أحمد ؛ كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، قال في [الشرح الكبير]: وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول : يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح عن القاسم بن محمد عن عمر، أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 597)
مدين بكل درهم، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت؛ لأن في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.(3/223)
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، أنه غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله.
فوجه الدلالة من وجهين:
أحدهما: أنه لم يسعر، وقد سألوه، ذلك ولو جاز لأجابهم إليه.
والثاني: أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام إلى آخر ما ذكره.
وأجابوا عن منع عمر رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة : أن يبيع زبيبه بأقل من سعر السوق، بأن في الأثر: أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. وقالوا بعد ذلك في توجه المنع: بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعا ظلم لهم، والظلم حرام، فالتسعير بمثابة الحجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري، برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 598)
من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: سورة النساء الآية 29 إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وذهب بعضهم: إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك أو بأنقص.(3/224)
واحتجوا: بما رواه مالك في [موطئه] عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له في بالسوق، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا، قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم، يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب.
كما ذهب بعضهم: إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، روى أشهب عن مالك : في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق.
واحتجوا على جواز ذلك: بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم، ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 599)(3/225)
وردوا على المانعين منه مطلقا: أن الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545). إن الله هو المسعر القابض الباسط إلى آخره، قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع عن بيع ما الناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير، وهو ارتفاع السعر في ذلك، وقد ثبت في [الصحيحين]: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال: صحيح البخاري العتق (2386),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504). من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد .
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه [الطرق الحكمية]: فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد: قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور.
وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا.
وصار ذلك أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن الثمن.
وصار أصلا، في جواز إخراج الشيء عن ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة.
وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 600)(3/226)
والمقصود : أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر؟ مثل: حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره.
وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير [الطرق الحكمية] لابن قيم الجوزية- تحقيق/ محمد حامد الفقي، ص259. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على التسعير في الجزء الثامن والعشرين من [فتاواه الكبرى].
والمقصود هنا: أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به - لم يحرم مطلقا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ... إلى أن قال: وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية .... إلى أن قال: وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 601)(3/227)
للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة ... فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير- سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي. اهـ. كلامه رحمه الله [مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية] (28/100، 101). والذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم : من التسعير ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضون أو منعهم مما أباحه الله لهم- فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب، فما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية وهو حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الأمور مصلحة عامة ليس فيها الحق لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية.
فالتسعير جائز بشرطين:
أحدهما: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس .
والثاني : ألا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 602)
فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلا وضربا من ضروب الرعاية العامة للأمر؛ كتسعير اللحوم والأخباز والأدوية ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعارها وظلم الناس في بيعها، وإن تخلفا أو أحدهما كان ذلك ظلما وداخلا فيما نص عليه حديثا أنس وأبي هريرة المتقدمان، وهو عين ما نهى عنه عمر بن عبد العزيز عامله على الأبلة حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب إليه: خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله.(3/228)
الخلاصة
أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
بقيت الإشارة إلى حكم التسعير في أجور العقار وهل هو داخل في حكم الممنوع أم الجائز؟
تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقق شرطين:
أحدهما: أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس.
الثاني: أن لا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب.
والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة، بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها، وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع أجار سكناها ولا الامتناع من تأجيرها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء، أو الكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار، أو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 603)
هما جميعا، فتسعير إجار العقار بهذا ضرب من الظلم والعدوان، فضلا على أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد، وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها، وبالله التوفيق.
قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصليا على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا ما تيسر إيراده.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
حرر في 21/ 7/ 1396 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/229)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 604)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 605)
(9)
حكم الذبائح المستوردة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 606)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 607)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الذبائح المستوردة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، ص197- 189، عام 1400هـ. :
ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداء من يوم السبت الموافق 1 من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اقترح المجلس إعداد بحث في حكم الذبائح التي تستورد إلى المملكة العربية السعودية من بلاد الكفار، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
1 - تمهيد يعتبر مدخلا للموضوع.
2 - ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح.
3 - ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية الذبح في تلك البلاد.
4 - تطبيق القواعد الشرعية على هذه الذبائح على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 608)
5 - حل المشكلة وطريق الخلاص منها.
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وتوفيقه.(3/230)
حكم الذبائح المستوردة
أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع
إن الحكم على ما يقع في الكون من جزئيات يتوقف على تشخيصها وشرح حالاتها ثم تطبيق القواعد الكلية التي تناسبها عليها ثم إبداء الحكم عليها وصدوره ممن نظر فيها، فالحكم على الذبائح المستوردة من دول كافرة بحل أو حرمة يتوقف:
أولا : على معرفة الذبائح .
* كيفية الذبح ونوع الآلة التي بها ذبحت.
* ذكر اسم الله أو غيره عليها أو عدم ذكر شيء من ذلك.
* الغرض الذي من أجله حصل الذبح إلى غير ذلك مما له صلة بحل الذبيحة أو حرمتها.
ثانيا : معرفة ضوابط الذبح الشرعي وما يشترط فيه من شروط بتطبيق ذلك على ما عرف من واقع الذبائح يمكن الحكم عليها بحل أو حرمة؛ لذا كان الحديث على هذه الأمور لزاما ليصدر الحكم عليها عن بينة وبصيرة.
ثالثا : ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح من علماء العصر، صدر في ذلك بيان عن طريقة الذبح، وفتاوى من علماء العصر مستقاة من فقه الشريعة الإسلامية فيما يحل وما يحرم من الذبائح المستوردة من بلاد الكفار نثبتها فيما يلي:(3/231)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 609)
ثانيا : ذكر طريقة الذبح الشرعية ، وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة :
الصفة المشروعة في الذبح والنحر
بين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة العربية السعودية - سابقا - صفة الذكاة الشرعية - فقال :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الناصح الأمين ، وعلى آله وأصحابه الغر المحجلين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإنه يرد إلى هذه الدار أسئلة عن الصفة المشروعة في الذبح والنحر ، ويذكر من سأل عن ذلك أنه شاهد وعلم ما لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ونظرا إلى أن هذا يشترك فيه الخاص والعام رأينا أن تكون الإجابة خارجة مخرج التبليغ للعموم ؛ أداء للأمانة ، ونصحا للأمة فنقول :
اعلم وفقنا الله وإياك : أن الذكاة المشروعة لها شروط وسنن ، ونقدم لذلك حديثا عاما ، ثم نذكر بعده الشروط ثم السنن .
أما الحديث : فروى مسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955),سنن الترمذي الديات (1409),سنن النسائي الضحايا (4411),سنن أبو داود الضحايا (2815),سنن ابن ماجه الذبائح (3170),مسند أحمد بن حنبل (4/125),سنن الدارمي الأضاحي (1970). إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته .(3/232)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 610)
وأما الشروط فأربعة :
الأول : أهلية المذكي : بأن يكون عاقلا ولو مميزا مسلما أو أبواه كتابيان ، والأصل في هذا ما ثبت في [ الصحيحين ] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43). إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى الحديث ، وما ثبت في [ مسند الإمام أحمد ] و [ سنن أبي داود ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن أبو داود الصلاة (495),مسند أحمد بن حنبل (2/187). مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع فكل من البالغ والمميز يوصف بالعقل ؛ ولهذا يصح من المميز قصد العبادة ، وقوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وقد ثبت في [ صحيح البخاري ] عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه ( فسر طعامهم بذبائحهم ) .
الثاني : الآلة : فتباح بكل ما أنهر الدم بحده ، إلا السن والظفر ، والأصل في هذا : ما أخرجه البخاري في [ صحيحه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5190),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن النسائي الضحايا (4410),سنن أبو داود الضحايا (2821). ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ، ليس السن والظفر .(3/233)
الثالث : قطع الحلقوم ، وهو : مجرى النفس ، والمريء ، وهو : مجرى الطعام ، والودجين ، والأصل في هذا : ما ثبت في [ سنن أبي داود ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سنن أبو داود الضحايا (2826),مسند أحمد بن حنبل (1/289). نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، وهي : التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الأوداج ، ومعلوم أن النهي في الأصل يقتضي التحريم ، وفي [ سنن سعيد بن منصور ] عن ابن عباس
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 611)
رضي الله عنهما قال : ( إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل ) إسناده حسن ، ومحل قطع ما ذكر الحلق واللبة وهي : الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، ولا يجوز في غير ذلك بالإجماع ، قال عمر : النحر في اللبة والحلق ، وثبت في [ سنن الدارقطني ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة .
الرابع : التسمية ، فيقول الذابح عند حركة يده بالذبح : بسم الله ، الأصل في هذا قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وقال تعالى : سورة الأنعام الآية 118 فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فالله جل وعلا غاير بين الحالتين ، وفرق بين الحكمين ، لكن إن ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته ؛ لما رواه سعيد بن منصور في [ سننه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ذبيحة المسلم حلال ، وإن لم يسم إذا لم يتعمد فإن اختل شرط من هذه الشروط فإن الذبيحة لا تحل .(3/234)
وأما السنن فهي ما يلي :
1 ، 2 - أن تكون الآلة حادة ، وأن يحمل عليها بقوة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955),سنن الترمذي الديات (1409),سنن النسائي الضحايا (4405),سنن أبو داود الضحايا (2815),سنن ابن ماجه الذبائح (3170),مسند أحمد بن حنبل (4/125),سنن الدارمي الأضاحي (1970). وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته .
3 ، 4 - حد الآلة والحيوان الذي يراد ذبحه لا يراه ، ومواراة الذبيحة عن البهائم وقت الذبح ؛ لما ثبت في [ مسند الإمام أحمد ] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه : سنن ابن ماجه الذبائح (3172),مسند أحمد بن حنبل (2/108). أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار ، وأن توارى عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 612)
البهائم وما ثبت في [ معجمي الطبراني الكبير والأوسط ] ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها ، قال : أفلا قبل هذا أوتريد أن تميتها موتتين .
5 - توجيهها إلى القبلة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذبح ذبيحة أو نحر هديا إلا وجهه إلى القبلة ، وتكون الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى ، والغنم والبقر على جنبها الأيسر .
6 - تأخير كسر عنقه وسلخه حتى يبرد - أي : بعد خروج روحه - لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات منها : لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق رواه الدارقطني .
هذا ونسأل الله أن يرزق المسلمين التمسك بدينهم على الوجه الذي يرضاه حتى يلقوه . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه .(3/235)
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره آية سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ بعد ذكر مناسبتها لما قبلها : وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم ؛ لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل ، ولم تحرم من المشركين ، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها ، ومذهب الشيعة : أن المراد بالطعام الحبوب أو البر ؛ لأنه الغالب فيه ، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية ، فقلت : ليس هذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 613)(3/236)
هو الغالب في لغة القرآن ، فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة : سورة المائدة الآية 96 أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ولا يقول أحد : أن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب ، وقال : سورة آل عمران الآية 93 كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ولم يقل أحد : إن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا ، إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها . فالطعام في الأصل : كل ما يطعم ، أي : يذاق أو يؤكل ، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت : سورة البقرة الآية 249 فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي وقال : سورة الأحزاب الآية 53 فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي : أكلتم ، وليس الحب مظنة التحليل والتحريم ، وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي : كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه ، أو معنوي : كالتقريب إلى غير الله عليه؛ ولذلك قال تعالى : سورة الأنعام الآية 145 قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا الآية ، وكله يتعلق بالحيوان ، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص .
وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للأصنام ؛ لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 614)(3/237)
وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله ، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام ، وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم ، حتى إن ابن جرير روى عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس ؟ فأفتيا بأكله ، قال ابن زيد : أحل الله طعامهم ، ولم يستثن منه شيئا ، وأما أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها : جرجس أهدوه لها ، أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل : اللهم عفوا ، إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم ، وأمره بأكله ، وروى ابن جرير أيضا وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في [ سننه ] عن ابن عباس في قوله : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ قال : ذبائحهم .
وروى مثله عبد بن حميد عن مجاهد وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي ، وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا ، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ووضعت له السم في ذراعها ، وكان الصحابة يأكلون من طعام النصارى في الشام بغير نكير ، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف إلا في بني تغلب وهم بطن من العرب انتسبوا إلى النصارى ولم يعرفوا من دينهم شيئا ، فنقل عن علي كرم الله وجهه : أنه لم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم ، معللا ذلك بأنهم لم يأخذوا من النصارى إلا شرب الخمر ، يعني : أنهم على شركهم لم يصيروا أهل كتاب ، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية ، روى ابن جرير عن عكرمة قال :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 615)(3/238)
سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب ؟ فقرأ هذه الآية سورة المائدة الآية 51 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وفي رواية له عنه : أنه قال : كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم ، فإن الله تعالى قال : وقرأ الآية ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم ، أي : يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب ، ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين ، استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد ، وهل هي العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب ( كالتوراة والإنجيل ) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم ، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود ، المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة : أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل ، فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ، ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل ، وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن ، وكان أهل الكتاب من شعوب شتى ، وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم ، ونسوا حظا مما ذكروا به في هذه السورة نفسها ، كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها ، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك . وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : سورة البقرة الآية 256 لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أن سبب نزولها : محاولة بعض الأنصار
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 616)(3/239)
إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام ، فلما نزلت أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتخييرهم ، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بينهم في حكم من الأحكام .
واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم ، وهي : إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى : سورة التوبة الآية 31 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مع قوله في سورة البقرة : سورة البقرة الآية 221 وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وهذا هو عمدة الشيعة في هذه المسألة .
وأجيب عنه :
أولا : بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب ، بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف ، كما قال تعالى : سورة البينة الآية 1 لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وقال : سورة الحج الآية 17 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية .
وثانيا : بأننا إذا فرضنا أن المشركين في آية البقرة عام . فلا مندوحة لنا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 617)(3/240)
عن القول بأن هذه الآية قد خصصته أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ولجريان العمل عليها ، ومنه : أن حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج بيهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، ثم قال : مجمل معنى الآية : سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ من الطعام ، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم بمقتضى الأصل لم يحرم الله عليكم قط ، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا ، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم ، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون ، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه ، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم كالمنذور على أناس معينين بالذوات أو بالوصف ، والمحصنات من المؤمنات ومن الذين أوتوا الكتاب من قبلكم حل لكم كذلك ، بمقتضى الأصل ، وما قرره في آية النساء : سورة النساء الآية 24 وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد - وإلا وجب لهن مهر المثل - بشرط أن تكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن ، لا الفجور المراد به : سفح الماء جهرا ولا سرا ، وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان في المسألة ، والتعبير بقوله : سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إنشاء لحلها العام الدائم ، كما تقدم ، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده ، بل قال : سورة المائدة الآية 5 حِلٌّ لَكُمْ وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين : مسألة مواكلة أهل الكتاب ، ومسألة نكاح نسائهم ، فلم يكن شيء منها
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 618)(3/241)
محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم لا بتحريم من الله ولا بتحريم من الناس على أنفسهم كما حرموا بعض الطيبات فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير ، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم .
وحكمة النص على هذا الحل : قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم أو أهوائهم ، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح ، ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا ، فليس لنا أن نزوجهم منا ؛ لأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة لسلطان الرجل عليها ، هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقاليد المذاهب ، فمن فهم مثل فهمنا ففهمه حاكم عليه ولا نجيز أحدا أن يقلدنا فيه تقليدا .(3/242)
فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم :
أخذ الجماهير من مفهوم أهل الكتاب : أن طعام الوثنيين لا يحل للمسلمين ، وكذا نكاح نسائهم ، سواء منهم من يحتج بمفهوم المخالفة في اللقب كالدقاق وبعض الشافعية ، ومن لا يحتج به وهم الجمهور ، والقرآن لم يحرم طعام الوثنيين ولا طعام مشركي العرب مطلقا ، كما حرم نكاح نسائهم ، بل حرم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم ، كما حرم ما كان يأكله بعضهم من الميتة والدم المسفوح ، وحرم لحم الخنزير .
واختلف الفقهاء في المجوس والصابئين : فالصابئون عند أبي حنيفة كأهل الكتاب والمجوس ، كذلك عند أبي ثور ، خلافا للجمهور الذين يقولون : إنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط ، ويروون
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 619)(3/243)
في ذلك حديثا : موطأ مالك الزكاة (617). سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير آكلي ذبائحهم ، ولا ناكحي نسائهم ، ولا يصح هذا الاستثناء كما صرح به المحدثون ، ولكنه اشتهر عند الفقهاء ، ويقال : إن الفريقين كانا أهل كتاب فقدوه بطول الأمد ، وهذا ما كنت أعتقده قبل أن أرى فيه نقلا عن أحد من سلفنا وعلماء الملل والتاريخ منا ، وذكرته في المنار غير مرة ، ثم رأيت في كتاب [ الفرق بين الفرق ] لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي ( المتوفى سنة 429 ) في سياق الكلام على الباطنية ( أن المجوس يدعون نبوة ( زرادشت ) ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى ، والصابئين يدعون نبوة ( هرمس ) و ( أليس ) و ( دوريتوس ) و ( أفلاطون ) وجماعة من الفلاسفة ، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم ، ويقولون : ( إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة الموت وعن ثواب وعقاب وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة ، ثم ذكر أن الباطنية ينكرون ذلك ) . ثم قال : ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب ، ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء رضي الله عنهم لا يقبلونها من مشركي العرب ، وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس ، كما في [ الصحيحين ] وغيرهما من كتب الحديث ، وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر : أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، وغيرهم - من حديث عبد الرحمن بن عوف : أنه شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه ، وروى مالك والشافعي عنه أنه قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 620)(3/244)
يقول : موطأ مالك الزكاة (617). سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي سنده انقطاع ، واستدل به صاحب [ المنتقى ] وغيره على أنهم لا يعدون أهل كتاب ، وليس بقوي ، فإن إطلاق كلمة أهل الكتاب على الطائفتين من الناس لتحقق أصل كتبهما وزيادة خصائصهما - لا يقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم ، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلا مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، كما أن إطلاق لقب ( العلماء ) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم .
وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب قال في [ نيل الأوطار ] عند قول صاحب [ المنتقى ] واستدل بقوله : سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب ما نصه : لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي ( كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم ، وقال : إن آدم كان ينكح أولاده بناته ، فأطاعوه وقتل من خالفه ، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه ، فلم يبق عندهم من شيء ) وروى عبد بن حميد في تفسير سورة ( البروج ) بإسناد صحيح عن ابن أبزى لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر : اجتمعوا ( أي : قال للصحابة : اجتمعوا للمشاورة كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة ) فقال : إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية ، ولا من عبدة الأوثان فنجري عليهم أحكامهم ، فقال علي : بل هم أهل كتاب فذكر نحوه ، لكن قال : فوقع على ابنته ، وقال في آخره : فوضع الأخدود لمن خالفه فهذه حجة من قال : كان لهم كتاب ، وأما قول ابن بطال : لو كان لهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 621)
كتاب ورفع لرفع حكمه ، ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم فالجواب : أن الاستثناء وقع تبعا للأمر الوارد ؛ لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم بخلاف النكاح فإنه يحتاط له .(3/245)
وقال ابن المنذر : ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه ، ولكن الأكثر من أهل العلم عليه . اهـ .
إذا علمت هذا تبين لك : أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين و الذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا ، ولم يدخلوا في ديننا ، ولا جميع من عدا اليهود والنصارى منهم ، فهذا نقل صحيح في المجوس ، ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالا لجعل لفظ المشركات والمشركين في القرآن خاص بوثني العرب ، وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب ولا شبهه كتاب يقربهم من الإسلام ، كما أن أهل الكتاب فيه خاصة باليهود والنصارى ، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها ، ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم ، وقد صرح قتادة من مفسري السلف بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية العرب ، كما سيأتي .(3/246)
مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب :
ثم ذكر آراء الفقهاء في الموضوع ، فقال : جاء في ( ص 97 من الجزء الثاني من [ العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية ] لابن عابدين الشهير صاحب الحاشية الشهيرة على [ الدر المختار ] ما نصه :
وسئل في ذبيحة العربي الكتابي ، هل تحل مطلقا أو لا ؟
الجواب : تحل ذبيحة الكتابي ؛ لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 622)
التوحيد حقيقة كالمسلم أو دعوة كالكتابي ؛ ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى ، وتحل مناكحته ، فصار كالمسلم في ذلك ، ولا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميا يهوديا حربيا أو عربيا أو تغلبيا ؛ لإطلاق قوله تعالى :
سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والمراد بطعامهم : مذكاهم .
قال البخاري رحمه الله تعالى في [ صحيحه ] : قال : ابن عباس رضي الله عنهما : وطعام ذبائحهم ، ولأن مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان بالإجماع ، فوجب تخصيصه بالمذكى ، وهذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله كالمسيح والعزيز ، وأما لو سمع فلا تحل ذبيحته ؛ لقوله تعالى : سورة المائدة الآية 3 وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وهو كالمسلم في ذلك .
وهل يشترط في اليهودي أن يكون إسرائيليا ، وفي النصراني أنه لا يعتقد أن المسيح إله له ؟
مقتضى إطلاق ( الهداية ) وغيرها ، وعدم الاشتراط به أفتى به الجد في الإسرائيلي ، وشرط في [ المستصفى ] لحل مناكحهم عدم اعتقاد النصراني ذلك ، وكذلك في [ المبسوط ] فإنه قال : ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إن اعتقدوا أن المسيح إله ، وأن عزيزا إله ، ولا يتزوجوا نساءهم ، لكن في [ مبسوط شمس الأئمة ] : وتحل ذبيحة النصراني مطلقا ، سواء قال : ثالث ثلاثة أو لا ، ومقتضى إطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في [ فتاواه ] والأولى أن لا تؤكل ذبيحتهم ، ولا يتزوج منهم إلا لضرورة كما حققه الكمال بن الهمام .(3/247)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 623)
والله ولي الإنعام ، والحمد لله على دين الإسلام ، والصلاة والسلام ، على محمد سيد الأنام .
وقال العلامة قاسم في [ رسائله ] : قال الإمام : ومن دان دين اليهود والنصارى من الصابئة والسامرة أكل ذبيحته ، وحل نساؤه ، وحكي عن عمر رضي الله عنه : أنه كتب إليهم فيهم أو في أحدهم ، فكتب مثل ما قلنا ، فإذا كانوا يعترفون باليهودية والنصرانية فقد علمنا أن النصارى فرق ، فلا يجوز إذا اجتمعت النصرانية بينهم أن تزعم أن بعضهم تحل ذبيحته ونساؤه ، وبعضهم يحرم - إلا بخبر ملزم ، ولا نعلم في هذا خبرا ، فمن جمعته اليهودية والنصرانية فحكمه واحد ، اهـ بحروفه ، اهـ ما في [ تنقيح الفتاوى الحامدية ] بحروفه ، وبهذه الفتوى أيد بعض علماء الأزهر الفتوى الترنسفالية للأستاذ الإمام .(3/248)
حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية :
ذكر الشيخ محمد بيرم الخامس الفقيه الحنفي في كتابه [ صفوة الاعتبار ] مبحثا طويلا في ذبائح أهل أوربة ، ونقل عن علماء مذهبه : أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقا ، وجاء بتفصيل أنواع المأكول في أوربة ، ثم قال ما نصه : ( وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم ، وإن كان لتحقق فلم أر حكم المسألة مصرحا به عندنا ، وقياسها على تحقيق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية ، وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة والمجتهدين ، فالقياس عليها يفيد الحلية حيث خصصوا بآية : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وآية : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 624)
سورة المائدة الآية 3 وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة ، ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين والإباحة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين ما أهل لغير الله وما خنق ، فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني ، وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذاهبه بما يثلج به الصدر السليم إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم ، وأن المقصود التوصيل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس ، مستندين في ذلك لقول الإنجيل ، على زعمهم ، فلا مرية في الحلية على هاته المذاهب ، فإن قلت : كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه ؟(3/249)
قلت : أما إن كان المقلد من أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان ، فهذا ربما يقال : إنه لا يسوغ له ذلك - أي : إلا أن يظهر له ترجيح دليل الحل ثانيا - وأما إن كان من أهل التقليد البحت - كما هو في أهل زماننا - فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء ، والعامي لا مذهب له ، إنما مذهبه مذهب مفتيه ، وقوله : أنا حنفي أو مالكي ، كقول الجاهل : أنا نحوي ، لا يحصل منه سوى مجرد الاسم ، فبأي العلماء اقتدى فهو ناج على أن الكلام وراء ذلك ، فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره ، والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه ، وقد حرر البحث أبو السعود في [ شرح الأربعين حديثا النووية ] وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي ، فليراجعهما من أراد الوقوف على التفصيل .
فإن قيل : قد ذكرت أن الخنزير محرم وهو من طعامهم ، فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية بهذه الآية - أي : آية طعامهم - وإذا جعلت آية تحريمه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 625)
محكمة غير منسوخة ، فكذلك تكون المخنقة ، ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجح لذلك ؟
فالجواب : أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره ، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها ، وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله والمنخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل ، ثم أتى نص آخر عام في طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالإجماع أيضا وبقي المحرم لغيره .
وهو مسألتان :
إحداهما : مسألة التسمية .
والثانية : مسألة المنخنقة .(3/250)
فبقينا في محل الشك لتجاذب كل من نص التحريم والإباحة لهما ، فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم ، وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة ، وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا عنها فكان قياسها على مسألة التسمية هو المتعين لاتحاد العلة ، وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح إذا ؛ لأن شرط القياس المساواة ، وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال ؛ لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه كثير ، والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل . اهـ .
مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب :
جاء في كتاب الذبائح من [ المدونة ] ما نصه :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 626)
قلت : أفتحل لنا ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم ؟
قال : ما سمعت من مالك فيه شيئا ، ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح .
قلت : أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل ؟
قال : قال مالك : أكرهه ولا أحرمه . وتأول مالك فيه سورة الأنعام الآية 145 رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ وكان يكرهه من غير أن يحرمه .
قلت : أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه فاسدا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة وما أشبهها التي يحرمونها في دينهم أيحل أكله للمسلمين ؟ .
قال : كان مالك يجيزه فيما بلغني . اهـ .
[ والمدونة ] عند المالكية أصل المذهب فهي كالأم عند الشافعية .
وجاء في كتاب [ أحكام القرآن ] للإمام عبد المنعم بن الفرس الخرزجي الأندلسي ( المتوفى سنة 599 هـ ) ما نصه سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فلا خلاف في أنها حلال لنا .
وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه كالخمر والخنزير فاختلف فيه :
فذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم .(3/251)
وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل لنا ذبائحهم ، فأما ما خيف منهم استعمال النجاسة فيه فيجب اجتنابه .
وإذا قلنا : إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل لفظه على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 627)
عمومه أم لا ؟
فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما ذبحوه مما أحل الله لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم ، وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم : ما أحل الله خاصة ، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا ، وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم ، وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام : ذبائحهم جميعا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب أشهب .
والذين قالوا : إن الله يجوز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله ، اختلفوا هل ذلك على جهة المنع أو الكراهة ؟
وهذا الخلاف كله موجود في المذهب .
واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم وسموا عليه اسم المسيح هل هو داخل تحت الإباحة أم لا ؟
فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليلا وأن أكله جائز ، وكره مالك رحمه الله ، وتأول قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ على ذلك ، والذين أوتوا الكتاب اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى من هم ؟ وقد اختلف في المجوس والصابئة والسامرة هل هم ممن أوتي كتابا أم لا ؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم . اهـ ملخصا .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 628)(3/252)
وفي كتاب [ أحكام القرآن ] للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي في تفسير هذه الآية أيضا ما نصه : هذا دليل قاطع على أن الصيد : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق ، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول ، ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما - وهي المسألة الثامنة - فقلت : تؤكل ؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقا ، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ، لقد قال علماؤنا : إنهم يعطوننا نسائهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن ، فكيف لا تؤكل ذبائحهم ، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة . اهـ .
وفيما قاله القاضي نوع من التقييد والتشديد إذا اعتبر في طعامهم ما يأكله أحبارهم ورهبانهم ، وهذا ما اعتمده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، مفتي مصر في فتواه الترنسيفالية .
وقد أفتى المهدي الوزاني من علماء فاس بما أفتى به مفتي مصر ، ولما علم بمشاغبة أهل الأهواء في فتوى مفتي مصر ، كتب رسالة تأييد الفتوى بنصوص كتب المالكية المعتبرة نشرناها في آخر جزء من مجلد [ المنار ] السادس ، ومنها قوله : ج : والدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها ، وقيدوه بما لم يأكلوه وإلا كان حلالا لنا ، قال الشيخ بناني على قول [ المختصر ] : ( وذبح لصنم ) ما نصه : الظاهر أن المراد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 629)(3/253)
بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى ، بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما ، وأن هذا شرط في أكل ذبيحة الكتابي ، كما في التتائي والزرقاني ، وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في [ شرح المدونة ] وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ، ونصه : كره مالك رحمه الله ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم ؛ لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة ، وإنما رآها مضاهية له ؛ لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون . وقال : وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك . اهـ .
وقال في سماع عبد الملك عن أشهب : وسأله عما ذبح للكنائس قال : لا بأس بأكله . قال ابن رشد : كره مالك في [ المدونة ] أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ، ووجه قول أشهب : ما ذبحوا لكنائسهم لما يأكلونه وجب أن تكون حلالا لنا ؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وإنما تأول قول الله عز وجل : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه ، فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا . اهـ .
فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل ؛ لأنهم لا يأكلونه فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته ، وهذا هو المراد هنا ، وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح الصليب فالمراد به : ما ذبحوه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 630)(3/254)
لأنفسهم لكن سموا عليه آلهتهم فهذا يؤكل بكره ؛ لأنه من طعامهم : هذا الغرض من كلام بناني وسلمة الرهوني بسكوته عنه فهذا شاهد لابن العربي قطعا ؛ لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك ، وأيضا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم ، كمتروك التذكية عمدا ، فإنها لا تؤكل بذبيحتنا ، وتؤكل بذبيحتهم حسبما تقدم ، فإذا المدار على كونها من طعامهم لا غير ، والله أعلم . اهـ . المراد ما كتبه المفتي الوازني .
وقد أطال علماء الأزهر في [ إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية ] القول في مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب ، وفصلوه في بضعة فصول ، الفصل السابع منها في بيان أن ما أفتى به ابن العربي ( أي : من حل ما خنقه أهل الكتاب بقصد التذكية لأكله ) هو مذهب المالكية قاطبة ، والفصل الثامن في رد الرهوني برأيه عليه ، والتاسع في تفنيد كلام الرهوني وبيان بطلانه ، قالوا في أول الفصل السابع ما نصه : ( اعلم أنه أقر ابن العربي على ما أفتى به الوزاني وصاحب المعيار وأحمد بابا وابن عبد السلام وابن عرفة وغيرهم من محققي المالكية كالزياتي ، وقال : وكفى بهم حجة وإن رده الرهوني بالأقيسة وما توهمه ابن عبد السلام من التناقض بين كلامي ابن العربي في [ أحكام القرآن ] من قوله : ما أكلوه على غيره وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ميتة حرام ، وقوله : أفتيت بأن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها تؤكل ؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن ذكاة عندنا ؛ لأن الله أباح طعامهم مطلقا ، وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ، دفعه ابن عرفة بما حاصله : أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 631)(3/255)
ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله ، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة ، وما لا يرونه مذكى لا يحل ، ويرجع إلى قصد تذكيته لتحليله وعدمه ، كما يعلم ذلك من التتائي على المختصر عند قول المصنف ، أو مجوسيا تنصر وذبح لنفسه إلخ ، ولم يفهم من عبارة أحد من هؤلاء المحققين أن ما أفتى به ابن العربي مذهب له وحده ، بل كل واحد وافقه على أنه مذهب المالكية .
وبيان ذلك : أن مذهب المالكية جميعا العمل بعموم قوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فكل ما كان من طعامهم فهو حل لنا ، سواء كان يحل لنا باعتبار شريعتنا أو لا ، فالمعتبر في حل طعامهم ما هو حلال لهم في شريعتهم ، ولا يعتبر ذلك بشريعتنا ، ويدل لذلك النصوص والتعاليل الآتية وهو : ما جرى عليه مالك وأصحابه فيما ذبحوه للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم ، قال الزياتي في شرح القصيدة : الرابع : لما ذبح للصليب أو لعيسى أو كنائسهم يكره أكله ، بهرام عن ابن القاسم : وما ذبحوه وما سموا عليه باسم المسيح فهو بمنزلة ما ذبحوه لكنائسهم ، وكذلك ما ذبحوه للصليب ، وقال سحنون وابن لبابة : هو حرام ؛ لأنه مما أهل لغير الله به ، وذهب ابن وهب للجواز من غير كراهة . اهـ . وفي القلشاني : أن أشهب يرى أيضا الكراهة فيما ذبح للمسيح كابن القاسم ، وقال : يباح أكله ، وقد أباح الله ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلونه . وذكر القلشاني أيضا فيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة أقوال : التحريم ، والكراهة ، والإباحة ، وأن مذهب [ المدونة ] الكراهة ، ونقل المواق عن مالك كراهة ما ذبح لجبريل عليه السلام . اهـ .
وفي [ منح الجليل ] عن الرماصي : أجاز مالك رضي الله عنه [ المدونة ]
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 632)
أكل ما ذكر عليه اسم المسيح مع الكراهة ، والإباحة لابن حارث عن رواية ابن القاسم ، مع رواية أشهب ، وعنه : أباح الله لنا ذبائحهم وعلم ما يفعلون . اهـ .(3/256)
وسيقول المصنف فيما يكره : وذبح لصليب أو عيسى وليس تحريم المذبوح للصنم ؛ قال التونسي : وقال ابن عطية في قوله : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وشرع ، وقال قوم - نسخ من هذه الآية حل ذبائح أهل الكتاب ، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن ، وقال في قوله تعالى : سورة المائدة الآية 3 وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قال ابن عباس وغيره رضي الله عنهم : المراد : ما ذبح للأصنام والأوثان أهل معناه : صيح ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة وغلب في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم ، ثم قال : والحاصل : أن ذكر اسم غير الله لا يوجب عن مالك ، وفيه عن البناني ، وصرح ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ، ونصه : كره مالك ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم ؛ لأنه رآه مضاهيا لقول الله عز وجل : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له ، وإنما رآها مضاهية ؛ لأنها عنده إنما معناها فيما ذبحوه لآلهتهم مما لا يأكلونه ، قال : وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك من كتاب [ الضحايا ] ، وقال في سماع عبد الملك من أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال : لا بأس بأكله ، قال ابن رشد : كره مالك في [ المدونة ] أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم ، ووجه قول أشهب : أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 633)(3/257)
وجب أن يكون حلالا ؛ لأن الله قال : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه - فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا . اهـ . فتبين أن ذبح أهل الكتاب إن قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل ؛ لأنهم لا يأكلونه فهو ليس من طعامهم ولم يقصدوا بذكاته إباحة ، وهذا هو المراد هنا ، وأما ما يأتي من المكروه في ذبح الصليب إلخ ، فالمراد به : ما ذبحوه لأنفسهم ، وسموا عليه باسم آلهتهم فهذا يؤكل بكره ؛ لأنه من طعامهم . اهـ . ( شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل ) ( 1/569 ، 570
وذكر العلامة التتائي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة : جواز أكل ما ذبح للصنم . اهـ . وأنت لا يذهب عليك أن ( ما ) ذبح للصنم مما أهل به لغير الله ، وإنما جوزه هؤلاء الصحابة الأجلاء لكونه من طعام أهل الكتاب ، تأمله ، وقال العلامة التتائي عند قول المصنف : ( وذبح لصليب أو لعيسى ) أي : يكره أكل مذبوح لأجله ، قال محمد وابن حبيب : هو مما أهل به لغير الله ، وما ترك مالك العزيمة بتحريمه فيما ظننا إلا للآية الأخرى سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فأحل الله تعالى لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلونه وترك ذلك أفضل ، وقال محمد أيضا : كره مالك ما ذبحوه للكنائس أو لعيسى أو للصليب أو ما مضى من أحبارهم أو لجبريل أو لأعيادهم من غير تحريم . اهـ . ووجه الكراهة قصدهم به تعظيم شركهم مع قصد الذكاة . اهـ . منه بلفظ ، وفي بهرام : وذهب ابن وهب إلى جواز
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 634)
أكل ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظرا إلى أنه من طعامهم . اهـ .(3/258)
وقال في [ منح الجليل ] عند كراهة شحم اليهودي عن البناني ثلاثة أقوال : في شحم اليهود : الإجازة ، والكراهة ، والمنع ، وأنها ترجع إلى قولين : المنع ، والإجازة ؛ لأن الكراهة من قبيل الإجازة ، قال : والأصل في هذا : اختلافهم في تأويل قوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ هل المراد بذلك : ذبائحهم أو ما يأكلون ؟ فمن ذهب إلى أن المراد به ذبائحهم أجاز أكل شحومهم ؛ لأنها من ذبائحهم ، ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة مثلا دون بعض ، ومن قال : المراد : ما يأكلون ، لم يجز أكل شحومهم ؛ لأن الله تعالى حرمها عليهم في التوراة على ما أخبر به في القرآن ، فليست مما يأكلون . [ شرح منح الجليل ] ( 1 / 572 ) . .
وفي [ منح الجليل ] أيضا بعد الكلام على التسمية ما نصه :
وقال في [ البيان ] : ليست التسمية شرط في صحة الذكاة ؛ لأن قول الله تعالى : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ معناه : لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها ؛ لأنها فسق ، ومعنى قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 118 فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كلوا مما قصدتم إلى ذكاته ، فكنى عز وجل عن التذكية بالتسمية ، كما كنى عن رمي الجمار بذكره تعالى حيث يقول : سورة البقرة الآية 203 وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ اهـ . المقصود منه [ شرح منح الجليل ] ( 1 / 580 ) . .
وقال في [ كبير الخرشي ] : ودخل في قول المؤلف ( يناكح ) أي : يحل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 635)(3/259)
لنا وطء نسائه في الجملة : المسلم والكتابي ، معاهدا أو حربيا ، حرا أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم ، خلافا للطرطوشي في اختصاصه بمن تقدم فإن هؤلاء قد بدلوا فلا نأمن أن تكون الذكاة مما بدلوا ، ورد بأن ذلك لا يعلم إلا منهم فهم مصدقون فيه . اهـ . ومثله في التتائي بلا فرق .
وقال في [ شرح اللمع ] عند قول المصنف : وأما من يذكي فمن اجتمعت فيه أربعة شروط : أن يكون مسلما أو كتابيا إلخ : واعلم أن المؤلف قد أطلق الكلام على صحة ذكاة الكتابي ، ولا بد من التفصيل في ذلك ليصير كلامه موافقا للمشهور من المذهب ، وتلخيص القول في ذلك أن الكافر إن كان غير كتابي لم تصح ذكاته ، وإن كان كتابيا كاليهودي والنصراني ، سواء كان بالغا أو مميزا ، ذكر أو أنثى ، ذميا كان أو حربيا ، فإن كان ما ذكاه مما يستحل أكله فذكاته له صحيحة ، ويجوز لنا الأكل منها ، وإن كان مالك قد كره الشراء من ذبائحهم ، والأصل في ذلك : أن الله تعالى قد أباح لنا أكل طعامهم ، ومن جملة طعامهم ما يذكونه ، وإن كان ما ذكاه مما لا يستحله ، بل مما يقول : إنه حرام عليه ، فإن ثبت تحريمه عليه بنص شريعتنا كذي الظفر في قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 146 وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ فالمشهور : عدم جواز أكله ، وقيل : يجوز ، وقيل : يكره ، وإن لم يثبت تحريمه عليهم بشرعنا ، بل لم يعرف ذلك إلا من قولهم كالتي يسمونها بالطريلة ( بالطاء المهملة ) ففي جواز أكلنا منه وكراهته
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 636)(3/260)
قولان وهما لمالك في [ المدونة ] ، وقال اللخمي : ثبت على الكراهة ولم يحرمه ، واقتصر الشيخ خليل في [ مختصره ] على القول بالكراهة ، وجهه ابن بشير باحتمال صدق قولهم ، وهذا كله إذا كان الكتابي لا يستبيح أكل الميتة ، وأما إن كان ممن يستحل أكلها ، فقال ابن بشير : فإن غاب الكتابي على ذبيحته ، فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى أو شككنا في ذلك - لن نأكل ما غابوا عليه ، وإن علمنا أنهم يذكون أكلناه . اهـ .
وأما ما يذبحه الكتابي لعيده أو للصليب أو لعيسى أو للكنيسة أو لجبريل أو نحو ذلك - فقد كرهه مالك ؛ مخافة أن يكون داخلا تحت قوله تعالى : سورة المائدة الآية 3 وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ولم يحرمه ؛ لعموم قوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وهذا من طعامهم ، قال ابن يونس واستخفه غير واحد من الصحابة والتابعين ، وقالوا : قد أحل لنا ذلك وهو عالم بما يفعلونه . اهـ .
وأما ما ذبحوه للأصنام فلا يجوز أكله ، قال ابن عبد السلام : باتفاق ؛ لأنه مما أهل لغير الله به . قال اللخمي في [ تبصرته ] فيما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم وكنائسهم وصلبانهم والأصنام ، وما أشبه ذلك : الصحيح : أنه حلال ، والمراد بما أهل لغير الله به : ما ذبح على النصب والأصنام ، وهي ذبائح المشركين ، قال أصبغ في ثمانية أبي زيد : وما ذبح على النصب هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية ، قال : وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام ، وفي البخاري : قال زيد بن عمرو بن نفيل : إنا لا نأكل مما تذبحون لأنصابكم يعني : الأصنام . وأما ما ذبحه أهل الكتاب فلا يراعى ذلك فيهم ، وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة ، فأجاز مناكحتهم وذبائحهم ؛ لتعلقهم بشيء من الحق وهو الكتاب الذي أنزل عليهم وإن كانوا كافرين ، ولو كان يحرم ما
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 637)(3/261)
ذبح باسم المسيح لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم إلا أن يسأل : هل سمى عليه المسيح أو ذبح للكنيسة ، بل لا يجوز ، إن أخبر أنه لا يسمى المسيح ؛ لأنه غير صادق ، وإذا لم يجب ذلك حلت ذبائحهم كيف كانت . اهـ .
فانظر كيف تضافرت كل هذه النصوص كباقي نصوص جميع المالكية على إناطة الحل والحرمة بكونه حلالا عندهم ، أي : يأكلونه وعدمه ، وهذا بعينه ما قصد إليه ابن العربي والحفار ، وقال أهل المذهب : كلهم يقولون ويفتون بحل طعام أهل الكتاب ، ومن جهة أخرى تعلم أن الذبح للصليب لم يكن من الشريعة المسيحية الحقة ؛ لأنه حادث بعده ، إذ منشؤه حادثة الصلب المشهورة ، فكل هذا يفيد أن المعتبر عند المالكية هو حلال عند أهل الكتاب في شريعتهم التي هم عليها ، ومنه يعلم أيضا ما هو المراد من الميتة في قوله تعالى : سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وأنها التي لم يقصد ذكاتها ، كما يعلم أنه يجب تقييد المنخنقة وما معها بما لم تقصد ذكاته ويكون هذا في المنخنقة وما معها بدليل سورة المائدة الآية 3 إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ كما سبق ، ومنه يتضح : أن المراد بالميتة في قولهم : ( إن كان الكتابي يأكل الميتة فلا تأكل ما غاب إلخ ) إنها ما لم تقصد ذكاتها ؛ لأن القصد إلى الذكاة لا بد منه من مسلم أو كتابي حتى لو قطع رقبة الحيوان بقصد تجريب السيف أو اللعب - لا يحل كما تقدم ، ومنه يعلم أن الميتة المذكورة بالنسبة للكتابي هي الميتة عنده ، وهي التي لم يقصد ذكاتها ، لا الميتة عندنا ، ويتبين منه أيضا : أن الشروط المذكورة للفقهاء في الذبائح والذكاة إنما هي بيان ما يلزم في الإسلام بالنسبة للمسلم لا لغيره . اهـ .(3/262)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 638)
مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب :
قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب الصيد والذبائح من [ الأم ] ما نصه :
1 - أحل الله طعام أهل الكتاب ، وكان طعامهم عند بعض من حفظت عنه من أهل التفسير ذبائحهم وكانت الآثار تدل على إحلال ذبائحهم ، فإن كانت ذبائحهم يسمونها لله تعالى فهي حلال ، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله ، مثل اسم المسيح ، أو يذبحونه باسم دون الله تعالى - لم يحل هذا من ذبائحهم ، ولا أثبت أن ذبائحهم هكذا ، فإن قال قائل : وكيف زعمت أن ذبائحهم صنفان وقد أبيحت مطلقة ؟ !
قيل : قد يباح الشيء مطلقا ، وإنما يراد بعضه دون بعض فإذا زعم زاعم أن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته ، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته ، وهو لا يدعه للشرك ، كان من يدعه على الشرك أولى أن تترك ذبيحته - وقد أحل الله عز وجل لحوم البدن ( الإبل ) مطلقة ، فقال : سورة الحج الآية 36 فَإِذَا وَجَبَتْ أي : سقطت سورة الحج الآية 36 جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أن لا يؤكل من البدنة التي هي نذر ولا جزاء صيد ولا فدية ، فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة ، لا أنها خلاف للقرآن ، ولكنها محتملة ، ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن له أن يأخذ منه شيئا ؛ لأنا إذا جعلنا أن يأخذ منه شيئا فلم نجعل عليه الكل إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى ، فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ، ما قلنا ، اهـ بحروفه [ الأم ] ( 2 / 196 ) . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 639)(3/263)
أقول : إنه رحمه الله تعالى حرم ما ذكروا اسم غير الله عليه بأقيسة على مسائل خلافية جعلها نظيرا للمسألة ، وقيد بها إطلاق القرآن ، ومخالفوه في ذلك - كمالك وغيره - لا يجيزون تخصيص الآية بمثل هذه الأقيسة التي غاية ما تدل عليه أن تخصيص القرآن جائز بالدليل ، ولهم أن يقولوا لنا : لا نسلم أن المسلم الذي يترك التسمية تهاونا واستخفافا لا تحل ذبيحته ، وإذا سلمناه جدلا نمنع قياس الكتابي عليه فيما ذكره ، ولا محل هنا لبيان المنع بالتفصيل في هذا القياس وفيما بعده وهو أبعد منه ، والظاهر ما تقدم من نصوص المالكية من أن ما ذبحوه لغير الله إن كانوا لا يأكلونه فهو غير حل للمسلم ، وإن كانوا يأكلونه فهو من طعامهم الذي أطلق الله تعالى حله وهو يعلم ما يقولون وما يفعلون ، وهذا القول يظهر لنا نكتة التعبير بالطعام دون المذبوح أو المذكى ؛ لأن من المذكى ما هو عبادة محضة لا يذكونه لأجل أكله .
2 - ذهب الشافعي : إلى أن ذبائح نصارى العرب لا تؤكل ، واحتج بأثر رواه عن عمر رضي الله عنه قال : ( ما نصارى العرب بأهل كتاب ، وما تحل لنا ذبائحهم ، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم ) وبقول علي المشهور في بني تغلب [ الأم ] (2 / 196 ) . .
فأما أثر علي كرم الله وجهه - وقد تقدم - فهو حجة على الشافعي لا له ؛ لأنه خاص ببعض العرب مصرح فيه بأنهم ليسوا نصارى ، وأما أثر عمر رضي الله عنه فرواه في [ الأم ] عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وقد ضعفه الجمهور ، وصرح بعضهم بكذبه ، وممن طعن فيه مالك وأحمد ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 640)
ومما قيل فيه : أنه جمع أصول البدع ، فكان قدريا جهميا معتزليا رافضيا ،
وقد سئل الربيع حين نقل عن الشافعي أنه كان قدريا : ما حمل الشافعي على أنه روى عنه ؟(3/264)
فأجاب : بأنه كان يبرئه من الكذب ، ويرى أنه ثقة في الحديث ، أي : والعبرة في الحديث بالصدق لا بالمذهب ، وقال ابن حبان بعد أن وصفه بالبدعة وبالكذب في الحديث : وأما الشافعي فإنه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه ، فلما دخل مصر في آخر عمره وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار ولم تكن كتبه معه فأكثر ما أودع الكتب من حفظه وربما كنى عن اسمه ، وقال إسحاق بن راهويه : ما رأيت أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي ، قلت للشافعي : وفي الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى ؟ اهـ . ملخصا من [ تهذيب التهذيب ] [ تقريب التهذيب ] لابن حجر العسقلاني ( 1 / 158 - 161 ) . .
ومما يدل على عدم صحة الأثر عدم العمل به ، على أنه رأي صحابي خالفه فيه الجمهور فلا يحتج به وإن صح .
3 - قال الشافعي في ( باب الذبيحة وفيه من يجوز ذبحه ) من [ الأم ] : وذبح كل من أطاق الذبح من امرأة حائض وصبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني ، وكل حلال الذبيحة ، غير أني أحب للمرء أن يتولى ذبح نسكه - أي : كالأضحية والهدي - فإنه يروى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من أهله فاطمة أو غيرها : احضري ذبح نسيكتك ، فإنه يغفر لك عند أول قطرة منها .(3/265)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 641)
قال الشافعي : وإن ذبح النسيكة غير مالكها أجزأت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه ونحر بعضه غيره, وأهدى هديا , فإنما نحره من أهداه معه, غير أني أكره أن يذبح شيئا من النسائك مشرك؛ لأن يكون ما تقرب به إلى الله على أيدي المسلمين, فإن ذبحها مشرك تحل ذبيحته أجزأت مع كراهتي لما وصفت ونساء أهل الكتاب إذا أطقن الذبح كرجالهم, وما ذبح اليهود والنصارى لأنفسهم مما يحل للمسلمين أكله من الصيد أو بهيمة الأنعام , وكانوا يحرمون منه شحما أو حوايا ـ أي : ما يحوي الطعام كالأمعاء ـ أو ما اختلط بعظم أو غيره إن كانوا يحرمونه فلا بأس على المسلمين في أكله؛ لأن الله عز وجل إذا أحل طعامهم فكان ذلك عند أهل التفسير : ذبائحهم , فكل ما ذبحوا لنا ففيه شيء مما يحرمون , فلو كان يحرم علينا إذا ذبحوه لأنفسهم من أصل دينهم بتحريمهم لحرم علينا إذا ذبحوه لنا ,ولو كان يحرم علينا بأنه ليس من طعامهم , وإنما أحل لنا طعامهم, وكان ذلك على ما يستحلون كانوا قد يستحلون محرما علينا يعدونه لهم طعاما , فكان يلزمنا لو ذهبنا هذا المذهب أن نأكله؛ لأنه من طعامهم الحلال لهم عندهم , ولكن ليس هذا معنى الآية, معناها ما وصفنا , والله أعلم [ الأم] (1 /205 , 206)
هذا نص الشافعي , فمذهبه: أن المراد بطعامهم في الآية: ذبائحهم خاصة لا عموم الطعام, فما ذبحوه مما هو حلال لنا, كذبائحنا لا فرق بين ما حرم عليهم منه وما حل لهم, وما حرم علينا لا يحل إذا كان من طعامهم, وهو مخالف في هذا للمذاهب الأخرى التي أخذت بعموم لفظ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 642)(3/266)
الآية وعدتها كالاستثناء مما حرم علينا, إلا الميتة ولحم الخنزير فإنهما محرمان لذاتهما لا لمعنى يتعلق بالتذكية أو بما يذكر عليها, وقد تقدم ذلك, وقد شرح كون ما أحل لنا مما حرم عليهم, لا يحرم من ذبائحهم في موضع آخر [ الأم] (2/209, 210) وبين هنا أنه يجب على كل عاقل بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعه في أصول شرعه وفروعه وحلاله وحرامه, فما كان حراما عليهم صار حلا لهم بشرعه, وحلا لنا بالأولى .(3/267)
مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة :
قال الشيخ الموفق عبد الله بن قدامة في [ المقنع] [ المقنع ](2 /531 ) ما نصه :
( ويشترط للذكاة شروط أربعة :
أحدها : أهلية الذبح, وهو أن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا , فتباح ذبيحته ذكرا كان أو أنثى , وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب , ولا من أحد أبويه غير كتابي) وذكر في حاشيته: أن الصحيح من المذاهب ذبائح بني تغلب , قال : ( وأما من أحد أبويه غير كتابي فقدم المصنف أنها تباح, وبه قال مالك وأبو ثور , واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم ) . والثانية: لا تباح , وهو المذهب, وبه قال الشافعي؛ لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم فغلب التحريم كما لو جرحه( أي : الصيد) مسلم ومجوسي. ا.هـ .
أقول : وللشافعي قول آخر: هو أن العبرة بالأب, وكان اللائق بقول الشافعية : أن الوليد يتبع أشرف الأبوين في الدين أن يجعلوا ذبح الصغير
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 643)
كذبح أشرف والديه, وأما البالغ فلا وجه للبحث عن أبويه فإذا كان كتابيا كان داخلا في عموم الآية .
ثم قال [ المقنع ] (2 /537 ) : ثالثا : ( وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر ـ أي : عند اليهود ـ لم يحرم علينا ـ وإذا ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم , وهو شحوم الثرب ( أي : الكرش) والكليتين في ظاهر كلام أحمد رحمه الله , واختاره ابن حامد , وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد, واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه, وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه لم يحرم, نص عليه ) ا. هـ. أي نص عليه الإمام أحمد , وهو المذهب , وإن روي عنه التحريم, وهو موافق فيه لمذهب مالك رحمهم الله تعالى .(3/268)
وقال المقنع (2 /535 ) : الرابع ( أي : من شروط التذكية : أن يذكر اسم الله عند الذبح , وهو أن يقول : باسم الله, لا يقوم غيرها مقامها إلا الأخرس, فإنه يومئ إلى السماء, فإن ترك التسمية عمدا لم تبح, وإن تركها ساهيا أبيحت , وعنه تباح في الحالين وعنه : لا تباح فيهما) قال في حاشيته: ( قوله: فإن ترك التسمية عمدا لم تبح وإن تركها ساهيا أبيحت, وعنه تباح في الحالين , وعنه لا تباح فيهما ) قال في [ حاشيته ] : ( قوله : فإن ترك التسمية عمدا إلخ , هذا هو المذهب فيهما, وذكره ابن جرير إجماعا في سقوطها سهوا, وروي ذلك عن ابن عباس , وبه قال مالك والثوري وأبو
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 644)
حنيفة وإسحاق , وممن أباح ما نسيت التسمية عليه: عطاء , وطاوس، وسعيد بن المسيب , وعبد الرحمن بن أبي ليلى , وجعفر بن محمد , وعن أحمد تباح في الحالين, وبه قال الشافعي . واختاره أبو بكر؛ لحديث البراء مرفوعا: المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في قلب كل مسلم رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي وضعفه .
ولنا ما روى الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرفوعا: ذبيحة المسلم حلال, وإن لم يسم ما لم يتعمد رواه سعيد وعبد بن حميد , لكن الأحوص ضعيف, وعن أحمد : لا تباح, وإن لم يتعمد ؛ لقوله تعالى سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وجوابه : إنها محمولة على ما إذا ترك اسم التسمية عمدا, بدليل قوله : سورة الأنعام الآية 121 وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق؛ لقوله عليه السلام: سنن ابن ماجه الطلاق (2045). عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ا . هـ .(3/269)
أقول : من عجائب انتصار الإنسان لما يختاره جعل الفسق هنا بمعنى ترك التسمية عمدا, والظاهر فيه ما قاله الشافعي من أنه ما أهل لغير الله به أخذا من قوله تعالى : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقد تقدم , وفي الباب من كتاب [ بلوغ المرام ] للحافظ ابن حجر ما نصه : وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والمسلم يكفيه اسمه, فإن نسي أن يسمي الله حين يذبح فليسم ثم ليأكل أخرجه الدارقطني , وفيه راو في حفظه ضعف, وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان , وهو صدوق ضعيف الحفظ, وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس , موقوفا عليه , وله شاهد عند
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 645)
أبي داود في [ مراسيله] بلفظ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر ورجاله موثوقون . اهـ . وتقدم حديث عائشة عند البخاري قالت : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الذبائح والصيد (5188),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). سموا الله عليه أنتم وكلوه ا هـ.(3/270)
وجعل علماء الأزهر الفصل الأول من كتاب [ إرشاد الأمة الإسلامية ] الذي تقدم ذكره في بيان مذهب الحنابلة في الذبيحة التي أفتى به مفتي مصر قالوا : ذهب الحنابلة إلى أن المعتبر في حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع: أن تذكى وفيه حياة, وإن قلت كالمريض, وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة , والسيدين: الباقر و الصادق، و إبراهيم و طاوس والضحاك وابن زيد , والتسمية عندهم ليست بشرط فيحل متروك التسمية عمدا أو سهوا من مسلم أو من كتابي على رواية, وفي رواية عن أحمد تشترط من مسلم لا من كتابي وعنه عكسها, ثم أيدوا هذه الخلاصة بنقل من كتاب[ دقائق أولي النهى على متن المنتهى ] ومن غيره.(3/271)
صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب .
من تأمل ما نقلناه من كتب المذاهب الأربعة المشهورة, وما تخلله وسبقه من كلام غيرهم من أئمة السلف ـ يظهر لك أن المتفق عليه أنه يحرم علينا من طعام أهل الكتاب ما حرم علينا في ديننا لذاته, وهو الميتة ولحم الخنزير, وكذا الدم المسفوح قطعا, وإن لم يذكر فيما تقدم من النقل, ولا نعلم أن أحدا منهم يأكله أو يشربه, وكذلك الميتة كلها يحرمونها, ولحم الخنزير محرم بنص التوراة إلى اليوم , وقد استباحه النصارى بإباحة مقدسهم بولس .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 646)(3/272)
وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك, كما علمت, فكل ما أكلناه مما عدا ذلك من طعامهم نكون موافقين فيه لقول بعض فقهائنا الذين شدد بعضهم فخفف بعض في هذه المسائل, وأشد الفقهاء تشديدا في ذلك وفي أكثر الأحكام : الشافعية , ومن تأمل أدلة الجميع رأى أن أظهرها قول الذين أخذوا بعموم قوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ولم يخصصوه بذبائحهم فضلا عن تخصيصه بحبوبهم كالشيعة , ولا يشترط في حل طعامهم أن يأكل منه أحبارهم ورهبانهم كما قال ابن العربي , واختاره شيخنا الأستاذ مفتي مصر في الفتوى الترنسفالية فهو تشديد لا مستند له ـ وفي غير ما أهل به لغير الله ـ إلا الثقة بأن ما يأكلونه غير محرم عليهم في كتبهم , وقد نسخت شريعتنا كتبهم, كما قال الشافعي وغيره فلا عبرة بما حرم عليهم فيها, وقد قال الله تعالى في صفات خاتم النبيين : سورة الأعراف الآية 157 وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ولا يشترط أيضا أن يكون طعامهم موافقا لشريعتنا سواء كانوا مخاطبين بفروعها قبل الإيمان كما يقول الشافعي أو غير مخاطبين بها إلا بعد الإيمان كما يقول الجمهور , إذ لو كان هذا شرطا لما كان لإباحة طعامهم فائدة.
وقال ابن رشد في [ بداية المجتهد ] ما نصه : ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم , قال : ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة, وما حرموا على أنفسهم أمر باطل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 647)(3/273)
فتعمل فيه التذكية , قال القاضي: والحق أن ما حرم أو حرموه على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع, فيجب أن لا يراعى اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم ؛ لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه؛ لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم ـ وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم ـ والله أعلم ـ جائزة على الإطلاق, وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم . ا . هـ.
والأمر كما قال القاضي رحمه الله تعالى , ومراده بذبائحهم : مذكاهم كيفما كانت تذكيته عندهم.
وقد تقدم تحقيق معنى التذكية , وأنها عبارة عن قتل الحيوان بقصد أكله, وأقوال علماء السلف ومحققي المالكية في ذلك, فلله در مالك والمالكية ، إن كلامهم في هذه المسألة أظهر من كلام مخالفهم دليلا , وأليق بيسر الحنيفية السمحة.
ومن العجائب : أن كثيرا من الناس يحبون أن تكون الشريعة عسرا لا يسرا, وحرجا لا سعة, وإن هم لم يلتزموها إلا فيما يوافق أهواءهم , فمن شدد على نفسه فذاك ذنب عقابه فيه, ومن شدد على الأمة حثونا التراب في فيه, والله أعلم وأحكم.(3/274)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 648)
بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى :
ورد إلى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر سابقا أسئلة من شاب مسلم مقيم بالولايات المتحدة عن حكم أكل الدم وذبائح أهل الكتاب .
نصها: أنه يجد في لحوم البقر التي تقدم إليه للغذاء شيئا من الدم, فهل يحل أكلها مع ذلك؟ ثم هو لا يدري أذكر على الذبيحة اسم الله أم لا , والقوم في تلك البلاد أهل كتاب, فهل يحل أكل ذبائحهم مع ذلك؟
وقد يكون الذبح عندهم ببتر الرأس مرة واحدة بآلات حادة دون مراعاة الذبح المعروفة عندنا بمصر , فهل يحل أكل الذبيحة مع ذلك؟
( الجواب) نقصر الكلام في هذه الفتيا على ما أباح الله تعالى أكله من الحيوان البري المقدور عليه, فنقول :
1 - تحريم الدم : قد جعل الله تعالى الذكاة شرطا لحل الأكل من هذا الحيوان ـ كالإبل والبقر والغنم والأوز والبط ونحوها ـ والذكاة الاختيارية إنما تكون بالذبح فيما يذبح من الغنم والبقر ونحوهما , وبالنحر فيما ينحر وهو الإبل , وبها يطيب اللحم ويحل لخروج الدم بها من الحيوان, وهو مادة مستقذرة بالطبع حرمها الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم , فقال الله تعالى : سورة البقرة الآية 173 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وفي سورة المائدة : سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وفي سورة النحل :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 649)(3/275)
سورة النحل الآية 115 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقال في سورة الأنعام : سورة الأنعام الآية 145 قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فنفى سبحانه في هذه الآية حرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحا, والمسفوح هو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبح أو النحر ونحوه وكان العرب في الجاهلية يضعونه في أمعاء الحيوان ويشوونه ثم يأكلونه , فحرم الله أكله والانتفاع به , روي عن قتادة أنه قال : حرم الله من الدم ما كان مسفوحا, وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به, وعن عكرمة أنه قال: لولا آية الأنعام لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود , وسئلت عائشة عن الدم يكون في اللحم المذبوح؟ فقالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح, وسئلت عن الدم في أعلى القدر فلم تر به بأسا, وقرأت آية الأنعام حتى بلغت ( مسفوحا) ولتخصيص التحريم بالمسفوح أحل الله دمين غير مسفوحين, وهما : الكبد والطحال, كما في الحديث المشهور, وأحل أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق؛ لأنه غير مسفوح, وقال الإمام الجصاص : لا خلاف بين الفقهاء في جوازه . ا . هـ.
وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة , فقالوا: إن الدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم, فيحمل الدم المطلق في الآيات السابقة على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 650)
المقيد في آية الأنعام .(3/276)
وذهب ابن حزم إلى أن جملة الدم محرم مسفوحا وغير مسفوح, وأن الله تعالى حرم المسفوح منه في مكة بآية الأنعام , ثم حرم بالمدينة الدم جملة بآية المائدة وهي آخر سور القرآن نزولا , ومع هذا وافق الجمهور في أن ما يبقى من الدم في الحيوان المذكى في عروقه وفي خلال لحمه ليس من الدم المحرم , وقال : إنه حلال . ا.هـ . ولولا ذلك لوجب تتبعه في العروق واللحم لاستئصاله , وفي ذلك عسر يأباه يسر الشريعة السمحة, فلا جناح في أكل اللحم المذكى مع وجود بقايا الدم فيه؛ لأن ذلك معفو عنه شرعا. والله أعلم .
2 - التسمية على الذبيحة : وحرم الله تعالى من الذبائح في الآيات السابقة سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وهو ما ذكر عليه غير اسمه تعالى ـ وأصل الإهلال رفع الصوت , وكل رافع صوته فهو مهل , وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم , فذلك هو الإهلال, والمراد من الغير في الآية : الصنم والوثن وغيرهما كالعزير والمسيح والصليب والكعبة, فلا يحل شيء من الذبائح التي أهل بها لغير الله تعالى , ومنه سورة المائدة الآية 3 وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهي أحجار كانت لهم منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها , ولعل ذبحهم عليها كان علامة ؛ لكونه للأصنام ونحوها, وقيل : هي الأصنام تنصب فتعبد من دون الله تعالى .
وقد روي عن عمر وابنه وعلي وعائشة كراهة ما أهل به لغير الله ( والمراد حرمته ) وعن النخعي والحسن والثوري مثله, وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل ما سمي المسيح عليه , وقال الشافعي وأحمد : لا يحل ما ذبح لغير
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 651)(3/277)
الله ولا ما ذبح للأصنام . ا هـ ، وقد سمى الله ذلك فسقا أي : خروجا من الحلال إلى الحرام, قال الله تعالى : سورة الأنعام الآية 145 أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وكما حرم الله ما أهل به لغير الله حرم ما لم يذكر اسم الله عليه, وجعل ذكر اسمه تعالى وحده على الذبيحة شرطا في حل أكلها , سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا , إليه ذهب الحنفية وأحمد والثوري والحسن بن صالح؛ لقوله تعالى : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فنهى عن الأكل من متروك التسمية وعن تركها, وأخبر بأنه فسق, وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدا لا سهوا ؛ لأن الناسي لا تلحقه سمة الفسق, كما ذكره الجصاص وغيره, وذهب داود والشعبي ، وهو مروي عن مالك وأبي ثور إلى أن التسمية شرط مطلق؛ لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمد والسهو, وإليه ذهب ابن حزم في [المحلى] , وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي أيضا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطا لحل الأكل, بل هي سنة, فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح ذلك في حل أكل ذبيحته؛ لحديث عائشة : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5188),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). أن قوما قالوا يا رسول الله : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا وكانوا حديثي عهد بكفر , رواه البخاري والنسائي وابن ماجه , كما في [ المنتقى ] ؛ وذلك لأن التسمية على الأكل سنة, فلو كانت التسمية على الذبيحة فرضا لم تنب السنة عن الفرض؛ لأن السنة لا تنوب عن الفرض كما في الشوكاني .(3/278)
ولعل حكمة تحريم ما أهل به لغير الله, وما لم يذكر اسم الله عليه أن الحيوان مملوك لله تعالى كسائر المخلوقات, وليس للعبد أن يتصرف في ملك سيده بغير إذنه وإباحته, وإذ قد أذن الله تعالى للإنسان أن يقتات ببعض
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 652)
الحيوان, أوجب عليه إذا أراد الانتفاع به على الوجه الأكمل أن يذكيه ليكون له منه قوت طيب خالص من شوائب القذر والدنس, وتلك نعمة يجب عليه أن يشكر المنعم المتفضل بها, وهو إنما يكون بتمجيد الله تعالى وذكر اسمه وحده عند الذبح, والإعلام بأنه إنما أقدم عليه بإذن الله وإباحته.
وروي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة الترخيص في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم غير الله, وإليه ذهب عطاء والشعبي والليث وفقهاء الشام : الأوزاعي ومكحول وسعيد بن عبد العزيز، وقالوا: إن التحريم في قوله تعالى: سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ مقصور على ذبائح عبدة الأوثان الذين يهلون عند الذبح بأوثانهم, كما كان يفعله العرب, أما أهل الكتاب فإن الله سبحانه أحل ذبائحهم بقوله: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ والمراد: ذبائحهم, كما ذهب إليه ابن عباس وجمهور المفسرين, مع علمه تعالى بأنهم يهلون على ذبائحهم باسم المسيح وأنهم لا يزالون يقولون ذلك.
فعلى هذا القول تحل ذبيحة الكتابي, سواء سمى المسيح أو الصليب, ذبحها لعيد أو كنيسة؛ لأنه كتابي قد ذبح لدينه, وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلها في كتابه. اهـ. من [العمدة] للعيني , و [أحكام القرآن] للجصاص , و [المغني] لابن قدامة , و[المحلى] لابن حزم , و [روح المعاني] للألوسي المفسر ، وغيرهم.(3/279)
وقد رجح مذهب الجمهور بأن حل ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة مشروط بالإهلال عليها باسم الله وحده جمعا بين الآيتين, فإذا أهل باسمه تعالى حلت ذبيحته كالمسلم سواء, وإذا أهل بغيره تعالى حرمت كالمسلم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 653)
سواء, وإذا لم يعلم هل سمى الله وحده أو سمى الله مع غيره أو سمى غير الله فقط حلت ذبيحته, ففي الألوسي : قال الحسن : إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل , فإذا غاب عنك فكل, فقد أحل الله ذلك لك. اهـ, أي: بقوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وفي [صحيح البخاري] عن الزهري قال: لا بأس بذبيحة نصارى العرب, وإن سمعته يسمي غير الله فلا تأكل, وإن لم تسمعه فقد أحله الله وعلم كفرهم اهـ. رواه مالك في [الموطأ] مرفوعا , وعن النخعي : إذا توارى عنك فكل، وعن حماد : كل ما لم تسمعه أهل به لغير الله, وفي [البدائع] للكاساني من أئمة الحنفية : وتؤكل ذبيحة الكتابي, لقوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ والمراد: ذبائحهم, وإنما تؤكل ذبيحته إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء, أو سمع وشهد تسمية الله تعالى وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيء, يحمل على أنه سمى الله تعالى وجرد التسمية تحسينا للظن به كما بالمسلم, فأما إذا سمع منه أنه سمى المسيح وحده أو مع الله فإنه لا تؤكل ذبيحته؛ لقوله تعالى: سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ اهـ. ملخصا.(3/280)
وفي [المغني] لابن قدامة : فإن لم يعلم أسمى الذابح أم لا , أو ذكر اسم غير الله أم لا, فذبيحته حلال؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي, وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح . اهـ. وفي [المحلى] لابن حزم : وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله؛ لما أخرجه البخاري عن عائشة : أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 654)
والسلام: سموا الله أنتم وكلوا قالت عائشة : وكانوا حديثي عهد بكفر اهـ. حيث أباح لهم أكله بدون اهتمام بالسؤال عنه, والتحقق من حصول التسمية وندبهم إلى التسمية عند الأكل إقامة للسنة, كما أشار إليه الطيبي .
وجملة القول في ذبيحة الكتابي : أنها تحل, ولو علم أنه سمى عليها غير الله فيما ذهب إليه بعض الأئمة, وتحل عند الجمهور إذا لم يسمع وهو يهل بها لغير الله, بخلاف ما إذا سمع فإنها تحرم, فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذكر اسم الله عليه أو لم يذكره حلال باتفاق, والله أعلم.
3 - كيفية الذبح: وقد اختلفت أقوال الأئمة والفقهاء في كيفية الذبح وآلته اختلافا كثيرا .
وللإمام ابن حزم في ذلك قول حقيق بالقبول مؤيد بالدليل القوي من السنة الصحيحة.(3/281)
قال: إن كمال الذبح باتفاق هو: أن يقطع الودجان (عرقان في جانبي ثغرة النحر) والحلقوم والمريء (مجرى الطعام والشراب من الحلق) فإن قطع بعض من هذه الأراب, فأسرع الموت كما يسرع في قطع كلها فأكلها حلال, فإن لم يسرع الموت فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئا, وأكله حلال سواء ذبح من الحلق أعلاه وأسفله سواء, وسواء رميت العقدة إلى فوق أو أسفل أو قطع كل ذلك من العنق, وسواء أبين الرأس أم لم يبن, كل ذلك حلال, وممن ذهب إلى حل الذبيحة إذا أبين رأسها: ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين وأنس وابن عباس وعطاء ومجاهد وطاوس والحسن والنخعي والشعبي والزهري والضحاك , وبعضهم أكل ما لم يقطع أوداجه وما ذبح من قفاه.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 655)
وأما آلة التذكية فهي كل شيء يقطع قطع السكين, أو ينفذ نفاذ الرمح, سواء في ذلك كله العود المحدود والحجر الحاد والقصب الحاد, وكل شيء سوى السن والظفر, وما عمل منها إلى آخر ما ذكره في [المحلى] ج 7 فالذبح بآلة حادة تقطع العنق وتفصل الرأس، ولو كان من القفا جائز شرعا عنده, والله أعلم.(3/282)
وسئل سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية : الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن حكم اللحوم المستوردة من الخارج معلبة وغير معلبة والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها فلا يكاد بيت يسلم منها, هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر, نرجو بيان ذلك مفصلا ولكم الأجر؟
فأجاب حفظه الله: الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم, فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه, كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن أهل للتذكية, فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي, فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم, وهو: مجرى النفس, والمريء, وهو: مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم, فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيرادها من بلاد إسلامية أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل الكتاب وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله, وإن كانت تلك اللحوم المستوردة تستورد من بلاد جرت عادتهم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 656)
أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصاعقة الكهربائية ونحو ذلك فلا شك في تحريمها, وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم فلا يباح ما ذكوه؛ لأن التذكية المبيحة لأكل ما ذكي لا بد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم.(3/283)
أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم هل يذبحون بالطريقة الشرعية أو بغيرها, ولم يعلم حالة المذكين وجهل الأمر - فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح؛ تغليبا لجانب الحظر, وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر, سواء أكان في الذبائح أو الصيد, ومثله النكاح, كما قرره أهل العلم, منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة , وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي , وغيرهم كثير مستدلين بما في [الصحيحين] وغيرهما من حديث عدي بن حاتم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: صحيح البخاري الذبائح والصيد (5168),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929),سنن الترمذي الصيد (1470),سنن النسائي الصيد والذبائح (4274),سنن أبو داود الصيد (2848),سنن ابن ماجه الصيد (3208). إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل, فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل ، فالحديث يدل على أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلبا آخر أنه لا يأكله تغليبا لجانب الحظر, فقد اجتمع في هذا الصيد: مبيح وهو: إرسال الكلب المعلم إليه, وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر؛ لهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكله, وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي الصيد (1469). إذا أصبته بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل متفق عليه، وفي رواية عند الترمذي : سنن الترمذي الصيد (1468). إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل وقال: حسن صحيح عن عدي بن حاتم .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 657)(3/284)
قال ابن حجر في الصيد : إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام وآخر, أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد, وقال أيضا عند قوله (وإن وقع في الماء فلا تأكل)؛ لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء, فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله.
قال النووي في [شرح مسلم]: إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق. اهـ ، وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته, ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929),سنن الترمذي الصيد (1469). فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل، انتهى ملخصا من [فتح الباري], وقال الخطابي : إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء قد أغرقه, فيكون هلاكه من الماء لا من قبل الكلب الذي هو آلة الذكاة.
وكذلك إذا وجد فيه أثرا لغير سهمه, والأصل: أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي: اهـ.
مما تقدم: يتضح تحريم اللحوم المستوردة من الخارج على الصفة التي سبق بيانها؛ وأن مقتضى قواعد الشرع يدل على تحريمها, كما في حديث عدي وغيره في اشتراك الكلب المعلم مع غيره, وفيما رماه الصائد بسهمه فوق في الماء لاحتمال أن الماء قتله, وفيما رواه الترمذي وصححه: سنن الترمذي الصيد (1468). إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع أنه لا يأكله, فإنك ترى من هذا أنه إذا تردد الأمر بين شيئين مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر, وليس في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 658)(3/285)
حديث عائشة في [الصحيحين] وغيرهما: صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). أن قوما حديثي عهد بإسلام يأتوننا باللحوم فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سموا الله أنتم وكلوا ؛ لأن الحديث في قوم مسلمين إلا أنهم حديثو عهد بكفر بخلاف تلك اللحوم المستوردة من الخارج فإن الذابح لها ليس بمسلم ولا كتابي, بل مجهول الحال.
كما بينا فيما تقدم من أهل البلد إذا كانت حالتهم أو معظمهم يذبحون بالطريقة الشرعية وهم مسلمون أو أهل كتاب فيباح لنا ما ذبحوه وإن كانوا يذبحون بغير الطريقة الشرعية, بل بخنق أو بضرب رأس أو بصاعقة كهربائية فهو محرم، وإن جهل أمرهم ولم تعلم حالتهم بما يذبحونه فلا يحل ما ذبحوه تغليبا لجانب الحظر, ولا عبرة بما عليه أكثر الناس اليوم من أكلهم لتلك اللحوم من غير مبالاة بتذكيتها من عدمها, والله المستعان.(3/286)
ولفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى تحت عنوان:
حكم ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الكفار
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم . . سلمه الله وتولاه آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد.
فقد وصلني كتابكم المؤرخ 5 / 3 / 1386 هـ وصلكم الله بهداه, وما تضمنه السؤال عن حكم اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 659)
وما يعانيه موظفو السفارات الإسلامية والطلبة المسلمون من المشقة في هذا الباب (وما تضمنه من السؤال) كان معلوما.
والجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس , وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار:
فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها, إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب, وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب ، وهذا قول ضعيف جدا ، بل باطل .
والصواب : ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين, لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط, والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم من سورة المائدة: سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ الآية فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبائحهم ، كما قال ابن عباس وغيره من أهل العلم ، ومفهوم الآية : أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا, وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس .(3/287)
إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 660)
أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين, إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها, أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين, ولا يجوز لهم أكلها, أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله, صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سموا عليه أنتم وكلوا رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها , وبذلك يعلم أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة؛ لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك, ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان, لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل أكل لحم الدجاج ونحوه - فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة, ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين, فينبغي التنبه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 661)(3/288)
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي قد عمت بها البلوى.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم, وأن يعمر قلوبهم بخشيته وتعظيم حرماته, والحذر مما يخالف شرعه, إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولفضيلته فتوى أخرى في الموضوع نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم . . . زاده الله من العلم النافع والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . . أما بعد:
فقد وصلني كتابكم في 5 / 11 / 1387 هـ وصلكم الله بهداه, وما تضمنه من السؤال كان معلوما.
وقد تضمن خطابكم المذكور السؤال عن مسألتين:
إحداهما: عما يتعلق بذبح الغنم والدجاج ونحوهما في المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية, وقد ذكرتم: أنها درجت في ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة.
والثانية: عن حكم شحم الخنزير , وذكرتم أنه بلغكم عن بعض علماء العصر حل ذلك.
والجواب عن المسألة الأولى: أن يقال: قد دل كتاب الله العزيز وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 662)
سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ الآية ، هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب, والمراد من ذلك: ذبائحهم, وهم بذلك ليسوا أعلى من المسلمين, بل هم في هذا الباب كالمسلمين فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت, كما لو فعل ذلك المسلم لقول الله عز وجل: سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ الآية.(3/289)
فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة أو الموقوذة أو المتردية أو النطيحة فهو ذبح يحرم البهيمة ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة, وهذه الآية يخص بها عموم سبحانه: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه الذبح على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة.
أما قولكم: إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف؛ لأنكم لم توضحوا معناها, فأجابنا المسئول: بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي.
وأما القصف فهو قطع الرقبة مرة واحدة, فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة؛ لكونها لم تذبح الذبح الشرعي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 663)
الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء, وإسالة الدم, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: صحيح البخاري الذبائح والصيد (5190),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن النسائي الضحايا (4410),سنن أبو داود الضحايا (2821). ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل , ليس السن والظفر .
وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة؛ لأنه مشتمل على الذبح الشرعي, وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين, وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه, أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا, فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك, وفق الله الجميع لإصابة الحق.(3/290)
المسألة الثانية: وهي الخنزير, فالجواب عن ذلك أن الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم: هو تحريم شحمه تبعا للحمه, وحكاه الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم, ولأن الشحم تابع للحم عند الإطلاق ، فيعمه النهي والتحريم ، ولأنه متصل به اتصال خلقة فيحصل به الضرر ما يحصل بملاصقه وهو اللحم, ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه, والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه, ولم يخالف في هذا أحد فيما نعلم ، ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس ، فهو خلاف شاذ, مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله, فلا يلتفت إليه, ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن جابر رضي الله عنه: صحيح البخاري البيوع (2121),صحيح مسلم المساقاة (1581),سنن الترمذي البيوع (1297),سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256),سنن أبو داود البيوع (3486),سنن ابن ماجه التجارات (2167),مسند أحمد بن حنبل (3/324). أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم عليكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام الحديث, فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة لم يستثن شحمه, بل أطلق تحريم بيعه, كما أطلق تحريم الخمر
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 664)
والميتة, وذلك نص ظاهر في تحريمه كله, والأحاديث في ذلك كثيرة, وقد كتبنا جوابا في حكمة تحريم الخنزير نرسل لكم نسخة منه مع نسختين من كتابين آخرين في الموضوع للاطلاع عليها.
والله المسئول أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والنصح له ولعباده والدعوة إليه على بصيرة, إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/291)
جاء إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء الآتي:
س: ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج , هل يجوز الأكل منه أو لا ؟
ج: فأجابت عنه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما نصه في الفتوى رقم (1216) وتاريخ 20 / 1396 هـ:
إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي, ككفار روسيا وبلغاريا وما شابههم في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته, سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص, وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى؛ فإن كانت تذكيته إياها بذبح في رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا؛ لقوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره, ففي جواز أكلها خلاف.
وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة؛ لقوله تعالى: سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 665)(3/292)
ولو قطع رقبتها بعد ذلك, وقد حرمها الله في قوله: سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية: سورة المائدة الآية 3 وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة أما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق ، وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أو عند أكله, أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). سموا الله وكلوا فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا لكنهم حديثو عهد بجاهلية ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.(3/293)
س: وجاء أيضا في استفسار آخر مضمونه: أن جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير اسم الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله إذا ذكروا عليها اسم الله, مستدلين بعموم قوله تعالى: سورة الأنعام الآية 118 فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية, وقوله تعالى: سورة الأنعام الآية 119 وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ويرون من يحرم ذلك من المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير علم, ويقولون: إن الله
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 666)
فصل لنا ما حرم علينا في قوله: سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الآية ، وقوله: سورة النحل الآية 115 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الآية ... إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه, ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا, ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا اسم الله, فهل قولهم هذا صحيح؟ وما نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين؟ وما هو الحق في ذلك مع الدليل؟
ج: وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالفتوى رقم (1423) وتاريخ 28 / 12 1396 هـ بما يلي:(3/294)
يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين, فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه وذكر اسم الله على ذبيحته أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا فذبيحته حلال بإجماع المسلمين, ولعموم قوله تعالى: سورة الأنعام الآية 118 فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ سورة الأنعام الآية 119 وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الآية .
وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بالإجماع, ولقوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وإن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 667)
لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره ففي حل ذبيحته خلاف, فمن أحلها استدل بعموم قوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية, وهذا هو الظاهر, وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها كأن يقول: باسم العزير أو باسم المسيح أو الصليب لم يحل الأكل منها؛ لدخولها في عموم قوله تعالى في آية ما حرم من الطعام سورة المائدة الآية 3 وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إذ هي مخصصة لعموم قوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ(3/295)
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل, سواء ذكر اسم الله عليها أم لا بلا خلاف فيما نعلم , إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: موطأ مالك الزكاة (617). سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية, كأهل الكتاب, فيباح صيدهم وذبائحهم, وقد أنكر عليه العلماء ذلك واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف, قال ابن قدامة في [المغني]: قال إبراهيم الحربي : خرق أبو ثور الإجماع, قال أحمد : هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا يعرف بأبي ثور , وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم: ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومرة الهمذاني ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي, قال أحمد : ولا أعلم أحدا قال بخلافه, إلا أن يكون صاحب بدعة, ولأن الله تعالى قال: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار, ولأنهم لا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 668)
كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان . . ثم قال: (وإنما أخذت منهم الجزية؛ لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم؛ احتياطا للتحريم في الموضعين, وأنه إجماع فإنه قول من سمينا, ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم, إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها) انتهى من [المغني].(3/296)
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم, سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا , ودل قوله تعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار, وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة, وكذا من انتسب إلى الإسلام وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله, ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار والوثنيين والزنادقة فلا تحل ذبائحهم, ولأدلة مفهوم الآية على ذلك ، كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى: سورة الأنعام الآية 118 فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقوله: سورة الأنعام الآية 119 وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية.
فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم بعد البيان له وإقامة الدليل عليه بأن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى, كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم واستنجد بغيره فيما هو من اختصاص الله إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية:
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 669)(3/297)
سورة النحل الآية 115 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة, فإن ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة؛ لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينافي أصل إيمانهم وإصرارهم على ذلك بعد البيان ، ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين, ومجرد دعوى لا يشهد لها نقل عنه رحمه الله, بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله, من ملك مقرب, أو نبي مرسل, أو عبد لله صالح فيما لا يقدر عليه إلا الله , بأنه مشرك مرتد عن الإسلام بل شركه أشد من شرك أهل الجاهلية, فالحكم فيه وفي ذبائحه كالحكم فيهم أو أشد, وقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائح الكفار غير أهل الكتاب , وإن ذكروا عليها اسم الله؛ لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله سبحانه سورة الأنعام الآية 88 وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.(3/298)
ونشرت مجلة الدعوة في عددها (697) يوم الاثنين الموافق 26 من جمادى الأولى عام 1399 هـ مقالا حول (اللحوم المستوردة) بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد رئيس هيئة التمييز. نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وآله وصحبه . . . أما بعد:
فقد وردت عدة أسئلة عن اللحوم التي ترد في علب ونحوها من
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 670)
الخارج , فأقدمت على الإجابة, وإن كنت لست أهلا لذلك لقصر باعي, وقلة اطلاعي, فأقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى: سورة المائدة الآية 3 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا وهذه الآية العظيمة من آخر ما نزل . . تدل على إحاطة الشريعة وكمالها, فلم تحدث حادثة ولن تحدث إلا والشريعة المحمدية قد أوضحت حكمها وبينته, ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بين البيان المبين, وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: سنن ابن ماجه المقدمة (44),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95). تركتكم على المحجة البيضاء , ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك . . . وقال أبو ذر : (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما . . . ) وقال العباس : (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا) فهذه اللحوم المستوردة من الخارج , والمحفوظة في علب أو نحوها قد بينت الشريعة الإسلامية حكمها غاية البيان, فإن اللحوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتحقق أنها من ذبائح أهل الكتاب , فهذه حلال بنص الكتاب والسنة والإجماع, ولم يقل بتحريمها أحد يعتد بخلافه, قال سبحانه: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ(3/299)
قال ابن عباس وغيره: طعامهم ذبائحهم, وهذا دون باقي الكفار فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين؛ لأن أهل الكتاب يتدينون بتحريم الذبح لغير الله, فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم, وروى سعيد عن ابن مسعود
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 671)
رضي الله عنه قال: (لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب ) , وفي حديث أنس : مسند أحمد بن حنبل (3/211). أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير , وإهالة سنخة . رواه أحمد , والإهالة: الودك، والسنخة: المتغيرة, وحديث اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم الشاة المصلية, وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال: صحيح البخاري فرض الخمس (2984),صحيح مسلم الجهاد والسير (1772),سنن النسائي الضحايا (4435),سنن أبو داود الجهاد (2702),مسند أحمد بن حنبل (4/86),سنن الدارمي السير (2500). أدلي جراب يوم خيبر فاحتضنته, وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا, والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم , وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر من جرة نصرانية.
القسم الثاني: أن تكون هذه اللحوم من ذبائح غير أهل الكتاب؛ كالمجوس , والهندوس , وعبدة الأوثان, ونحوهم فهذه اللحوم حرام, ولم يقل بإباحتها أحد يعتد به، ولما اشتهر قول أبي ثور بإباحتها أنكره عليه العلماء, فقال الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه , وقال إبراهيم الحربي : خرق أبو ثور الإجماع, وكل قول لا يؤيده الدليل لا يعتبر, وليس كل خلاف جاء معتبرا حتى يكون له حظ من النظر.(3/300)
قال الله سبحانه وتعالى: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ مفهومه: أن غير أهل الكتاب لا تباح ذبائحهم, وروى أحمد بإسناده عن قيس بن السكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم نزلتم بفارس من النبط, فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا, وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا ، ولأن أهل الكتاب يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم, كما ذكره ابن كثير وغيره بخلاف غيرهم, والمجوس وإن أخذت منهم الجزية تبعا لأهل الكتاب وإلحاقا بهم فإنهم لا تنكح نساؤهم, ولا تؤكل ذبائحهم, وأما ما يروى موطأ مالك الزكاة (617). سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلم يثبت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 672)
بهذا اللفظ, على أنه لا دليل فيه, إذ المراد: سنوا بهم سنة أهل الكتاب فيما ذكر من أخذ الجزية منهم, ولو سلم بصحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ(3/301)
القسم الثالث: أن لا يعلم هل هي من ذبائح أهل الكتاب أو غيرهم: فالقواعد الشرعية تقضي بالتحريم, فإن القاعدة الشرعية: أنه إذا اشتبه مباح بمحرم حرم أحدهما بالأصالة والآخر بالاشتباه , والقاعدة الأخرى: إذا اجتمع مبيح وحاظر قدم الحاظر؛ لأنه أحوط وأبعد من الشبهة. والأدلة دلت على البعد عن مواضع الشبهة, كما في الحديث: صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531). الحلال بين والحرام بين, وبينهما أمور متشابهات لا يعرفهن كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه , وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532). دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي وصححه، ومما استدلوا به على التحريم في موضع الاشتباه: حديث عدي رضي الله عنه: صحيح البخاري الذبائح والصيد (5159),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929),سنن الترمذي الصيد (1470),سنن النسائي الصيد والذبائح (4269),سنن أبو داود الصيد (2854),مسند أحمد بن حنبل (4/256),سنن الدارمي الصيد (2002). وإذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلبا آخر فلا تأكل, فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وفي رواية: صحيح البخاري الذبائح والصيد (5168),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929),سنن الترمذي الصيد (1470),سنن النسائي الصيد والذبائح (4263),سنن أبو داود الصيد (2847),سنن ابن ماجه الصيد (3208),مسند أحمد بن حنبل (4/257),سنن الدارمي(3/302)
الصيد (2002). إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل, فإنك لا تدري أيهما قتله متفق عليه .
أما هذه اللحوم فإنها وإن كانت تستورد من بلاد تدعي أنها كتابية فإنها حرام وميتة ونجسة, فلا يجوز بيعها ولا شراؤها, وتحرم قيمتها, كما في الحديث إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وذلك لوجوه عديدة:
أولا: أن هذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان وخرجت
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 673)
عليها ، وكون الشخص يهوديا أو نصرانيا هو بتمسكه بأحكام ذلك الدين ، أما إذا تركه ونبذه وراء ظهره فلا يعد كتابيا ، والانتساب فقط دون العمل لا ينفع ، كما أن المسلم مسلم بتمسكه بدين الإسلام ، فإذا تركه فليس بمسلم ، ولو كان أبواه مسلمين ، فإن مجرد الانتساب لا يفيد . وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في نصارى بني تغلب : إنهم لم يأخذوا من دين النصرانية سوى شرب الخمر .
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله - بعد كلام : وكون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم يستفيد بنفسه لا بنسبه ، فكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم ، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل ، وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك ، وهو المنصوص الصريح عن أحمد وكان بين أصحابه خلاف ، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم ، وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم .(3/303)
الثاني : أن ذبائح المذكورين الآن إما موقوذة أو مختنقة ، والمختنقة التي تخنق فتموت والموقوذة التي تضرب فتموت ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وقد تحقق أن هذه الدول الآن تقتل البهيمة إما بواسطة تسليط الكهرباء فتموت خنقا ، وإما بضربها بمطرقة في مكان معروف لديهم فتموت حالا وهذا محقق عنهم لا يمتري فيه أحد فقد كتبت عنهم عدة كتابات في هذا الصدد .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 674)
فتحقق أن ذبائحهم ما بين منخنقة وموقوذة ، وهذه لا يمتري أحد بتحريمها ، فقد حرمها الله في كتابه ، وقرن تحريمها بتحريم الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله ، وهذا غاية في التنفير والتحريم فلا يبيحها كون خانقها أو واقذها منتسبا لدين أهل الكتاب .
وقد صرح العلماء : أن من شروط صحة الذبح الآلة ، وللآلة شرطان :
أحدهما : أن تكون محددة تقطع ، أو تخرق بحدها ، لا بثقلها ، وفي حديث عدي قال : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5158),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929),سنن الترمذي الصيد (1471),سنن النسائي الصيد والذبائح (4274),سنن ابن ماجه الصيد (3214),مسند أحمد بن حنبل (4/256). سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال : ما أصاب بحده فكله ، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ .
والثاني : أن لا تكون سنا ولا ظفرا ، فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5190),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن النسائي الضحايا (4410),سنن أبو داود الضحايا (2821). وما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ، ليس السن والظفر متفق عليه .(3/304)
وقال في [المغني] : وأما ( المحل ) أي : محل الذبح فالحلق واللبة ، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع .
الثالث : أن الله أباح ذبائح أهل الكتاب ؛ لأنهم يذكرون اسم الله عليها ، كما ذكره ابن كثير وغيره ، أما الآن فقد تغيرت الحال ، فهم ما بين مهمل لذكر الله ، فلا يذكرون اسم الله ولا اسم غيره ، أو ذاكر لاسم غيره ؛ كاسم المسيح ، أو العزير ، أو مريم ، ولا يخفى حكم ما أهل لغير الله به في سياق المحرمات سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وفي حديث علي صحيح مسلم الأضاحي (1978),سنن النسائي الضحايا (4422),مسند أحمد بن حنبل (1/118). لعن الله من ذبح لغير الله الحديث . رواه مسلم والنسائي ، أو ذاكر عليه اسم الله واسم غيره ، أو ذابح لغير الله كالذي يذبح للمسيح أو عزير أو باسمهما ، فهذا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 675)
لا يشك مسلم بتحريمه ، وأنه مما أهل به لغير الله ، وذكر إبراهيم المروذي : أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه ؛ لأنه مما أهل لغير الله . اهـ . فمن ذبح للصنم أو لموسى أو لعيسى أو غيرهما فكل هذا حرام ، ولا تحل الذبيحة ، سواء كان الذابح مسلما أو كافرا ، وبعضهم أباح هذه الذبائح مستدلا بقوله : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وهذه ذبائحهم ، والصحيح : ما ذكرنا ؛ لما أشرنا إليه من الأدلة ، ولا مخالفة حتى يطلب الجمع ، إذ ذبيحة الكتابي مباحة ، فلا تباح المنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله ؛ لأن خانقها وواقذها وذابحها من أهل الكتاب .(3/305)
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية بعد كلام في الجمع بين قوله : سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وقوله : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ قال : والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه كلام أحمد من الحظر ، وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال ؛ وذلك لأن قوله : سورة البقرة الآية 173 وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب ، فإنه يشرط له الذكاة المبيحة ، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ، ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم ، والمسلم لو ذبح لغير الله وذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك ، فكذلك الذمي ؛ لأن قوله : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ سواء ، وهم وإن كانوا يستحلون هذا ، ونحن لا نستحله ، فليس كل ما استحلوه يحل لنا ، ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح ، فالحاظر أولى أن يقدم ، ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام - فهو من الشرك الذي قد
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 676)
أحدثوه ، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا ، والله أعلم . اهـ .
وأما حكم متروك التسمية فقط عمدا أو سهوا فهذه المسألة الخلاف فيها شهير والحكم ولله الحمد واضح .(3/306)
الرابع : أن موضوع الذبح الاختياري معروف ، وهو في الحلق واللبة ، ولا يجوز في غير ذلك إجماعا ، وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بديل بن ورقاء يصيح في فجاج مكة : ألا إن الذكاة في الحلق واللبة رواه الدارقطني بإسناد جيد ، وروي عن أبي هريرة قال : سنن أبو داود الضحايا (2826),مسند أحمد بن حنبل (1/289). نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج . رواه أبو داود . وروى سعيد في [سننه] عن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل . إسناده حسن ، والودجان : عرقان بالحلقوم ، وهذا معدوم في ذبائح المذكورين كما ذكرناه سابقا فلا تحل ، قال في [مغني ذوي الأفهام] : الثالث : أن يقطع الحلقوم والمريء بالآلة ، فإن خنقها أو عصر رأسها بيده أو ضربها بحجر أو عصا على محل الذبح - لم يحل أكلها .
الخامس : لو فرضنا أنه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحا شرعيا ، ويوجد من يذبح ذبحا آخر كالخنق والوقذ ، فلا تحل للاشتباه ، كما هي قاعدة الشرع المعروفة ، ولحديث عدي المتقدم ، قال ابن رجب بعد كلام : وما أصله الحظر ؛ كالأبضاع ، ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإن تردد في شيء من ذلك لسبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه ، فما أصله الحرمة بني على التحريم ؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم أو كلب غير كلبه . اهـ .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 677)
أما حديث عائشة : أن أناسا يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). سموا الله أنتم وكلوا أخرجه البخاري .(3/307)
فالجواب : أن هؤلاء مسلمون ولكنهم في الحديث حديث عهدهم بالإسلام ، وإنما أشكل هل يسمون أم لا والتسمية سهلة بالنسبة إلى غيرها فإن المذكورين في حديث عائشة مسلمون ، والأصل في ذبحهم الإباحة ، وكذلك فيما جلب من بلاد المسلمين كان هو معروفا ومصرحا به في كلام أهل العلم .
وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذه العجالة .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وآله وصحبه أجمعين .(3/308)
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم أكل اللحوم الواردة من الخارج .
فقال : هذا سؤال كثر التساؤل فيه وعمت البلوى به وحكمه يتبين بتحرير ثلاث مقامات :
المقام الأول : حل ذبيحة أهل الكتاب ، وهم : اليهود والنصارى .
المقام الثاني : إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل .
المقام الثالث : الحكم على هذا اللحم الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته .
فأما المقام الأول : فإن ذبيحة أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) حلال دل على حلها الكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 678)
طعامهم : ذبائحهم ، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم النخعي ، ولا يمكن أن يكون المراد بطعامهم التمر والحب ونحوهما فقط ؛ لأن قوله : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لفظ عام فتخصيصه بالتمر والحب ونحوهما خروج عن الظاهر بلا دليل ، ولأن التمر ونحوه من الطعام حلال لنا من أهل الكتاب وغيرهم ، فلو حملت الآية عليه لم يكن لتخصيصه بأهل الكتاب فائدة .(3/309)
وأما السنة : فقد ثبت في [صحيح مسلم ] [صحيح مسلم] ( 7/14 ) ط / صبيح . عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2474),صحيح مسلم السلام (2190),سنن أبو داود الديات (4508),مسند أحمد بن حنبل (3/218). أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة وأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك فقال : ما كان الله ليسلطك على ذاك وفي [مسند الإمام أحمد ] عن أنس أيضا : مسند أحمد بن حنبل (3/211). أن يهوديا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة ، فأجابه ، والإهالة السنخة : ما أذيب من الشحم والإلية وتغيرت رائحته ، وفي [صحيح البخاري ] عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال : صحيح البخاري فرض الخمس (2984),صحيح مسلم الجهاد والسير (1772),سنن النسائي الضحايا (4435),سنن أبو داود الجهاد (2702),مسند أحمد بن حنبل (5/56),سنن الدارمي السير (2500). كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه ، فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستحييت منه ، وفي رواية لمسلم عنه قال : أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته ، فقلت : لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبتسما . فهذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقراره في حل ذبائح أهل الكتاب .
وأما الإجماع : فقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 679)(3/310)
غير واحد من أهل العلم منهم : صاحب [المغني] [المغني] ( 8/ 567 ) ط / دار المنار . ، ومنهم : شيخ الإسلام ابن تيمية قال [مجموع الفتاوى] ( 35/ 232 ) . : ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع ، وقال : مازال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم ، فمن خالف ذلك فقد أنكر إجماع المسلمين . اهـ .
ونقل الإجماع ابن كثير في [تفسيره] [تفسير ابن كثير] ( 3/ 8 ) . المطبوع مع [تفسير البغوي ] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا [مجموع الفتاوى] ( 35/ 223 ، 224 ) . : بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه ، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم ، سواء كان أبوه أو جده داخلا في دينهم أو لم يدخل ، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك ، وهذا مذهب جمهور العلماء ؛ كأبي حنيفة ، ومالك ، والمنصوص الصريح عن أحمد - وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف - وهذا القول هو الثابت عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولا أعلم في ذلك بين الصحابة نزاعا ، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم . اهـ . كلامه - رحمه الله - .
وبهذا تحدد المقام الأول : وهو حل ذبيحة أهل الكتاب : ( اليهود والنصارى ) بالكتاب والسنة والإجماع ، فأما غيرهم من المجوس والمشركين وسائر أصناف الكفار - فلا تحل ذبيحتهم ؛ لمفهوم قوله تعالى : سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فإن مفهومها : أن غير أهل الكتاب لا يحل لنا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 680)(3/311)
طعامهم ، أي : ذبائحهم ؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - لما فتحوا الأمصار امتنعوا عن ذبائح المجوس ، وقال في [المغني] [المغني] ( 8/ 570 ) . : أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له ؛ كالسمك والجراد ، وقال : وأبو ثور أباح صيده وذبيحته ، وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به ، ثم نقل عن أحمد أنه قال : لا أعلم أحدا قال بخلافه أي بخلاف تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا أن يكون صاحب بدعة . اهـ . قال : وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان ، والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم ، لكن ما لا يشترط لحله الذكاة كالسمك والجراد فهو حلال من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم .
المقام الثاني : إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل .
وهذا المقام له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن نعلم أن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية : بأن يكون ذبحه في محل الذبح ، وهو الحلق ، وأن ينهر الدم بمحدد غير العظم والظفر ، وأن يذكر اسم الله عليه ، فيقول الذابح عند الذبح : بسم الله ، ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك ؛ لأنه ذبح وقع من أهله على الطريقة التي أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - المذبوح بها حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الشركة (2372),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491),سنن النسائي الضحايا (4410),سنن أبو داود الضحايا (2821),مسند أحمد بن حنبل (3/463). ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ، ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدي الحبشة رواه الجماعة ، واللفظ للبخاري ، وفي رواية له : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5224),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن أبو داود الضحايا (2821),مسند أحمد بن حنبل (3/463). غير السن والظفر ، فإن السن عظم ، والظفر مدي الحبشة وطريق
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 681)(3/312)
العلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية : أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من حصل العلم بخبره .
الحال الثانية : أن نعلم أن ذبحه على غير الطريقة الإسلامية ، مثل : أن يقتل بالخنق ، أو بالصعق ، أو بالصدم ، أو يضرب الرأس ونحوه ، أو يذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه - ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك ؛ لقوله تعالى : سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وقوله تعالى : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ولمفهوم ما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الشركة (2372),صحيح مسلم الأضاحي (1968),سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491),سنن النسائي الضحايا (4410),سنن أبو داود الضحايا (2821),مسند أحمد بن حنبل (3/463). ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا وطريق العلم بأنه ذبح على غير الطريقة الإسلامية أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من يحصل العلم بخبره .
الحال الثالثة : أن نعلم أن الذبح وقع ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس ، ولا نعلم على أي صفة ذبحوها ، ولا هل سموا الله عليها أم لا ؟ .(3/313)
ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد ، ولكن النصوص الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقتضي حله ، وأنه لا يجب السؤال تيسيرا على العباد ، وبناء على أصل الحل ، فقد سبق : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية ، وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة ، وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الذبح ، ولا هل ذكر اسم الله عليه أم
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 682)
لا ؟ وفي [صحيح البخاري ] عن عائشة - رضي الله عنها - : صحيح البخاري الذبائح والصيد (5188),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن قوما أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر ، فقد أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه وهو شرط لحله ، وقرينة الشك موجودة وهي كونهم حديثي عهد بالكفر ، فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام ، وإحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك مع الشك في وجود شرط الحل ( وهي التسمية ) وقيام قرينة على هذا الشك ( وهي كونهم حديثي عهد بالكفر ) دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل ؛ لأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة ، قال في [المنتقى] بعد أن ذكر حديث عائشة السابق : وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد . اهـ .
وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أ والنصارى غالبه ما جهل كيف وقع ذبحه ، فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه .
المقام الثالث : الحكم على هذا الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته .(3/314)
وهذا المقام له ثلاث حالات أيضا .
الحال الأول : أن نعلم أن من ذبحه تحل ذبيحته وهم المسلمون وأهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لوقوع الذبح الشرعي من أهله ، وطريق العلم بذلك أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره ، أو يكون مذبوحا في محل ليس
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 683)
فيه إلا من تحل ذبيحته .
الحال الثانية : أن نعلم أن من ذبحه لا تحل ذبيحته كالمجوس وسائر الكفار غير أهل الكتاب ، ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لوقوع الذبح من غير أهله ، وطريق العلم بذلك : أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره ، أو يكون مذبوحا في محل ليس فيه من تحل ذبيحته .
الحال الثالثة : أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أو لا ؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج ، فالأصل هنا التحريم فلا يحل الأكل منه ؛ لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله .
ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثاني ، حيث حكمنا هناك بالحل مع الشك ؛ لأننا هناك عملنا بصدور الفعل من أهله ، وشككنا في شرط حله ، والظاهر صدوره على وجه الصحة والسلامة حتى يوجد ما ينافي ذلك ، بخلاف ما هنا : فإننا لم نعلم صدور الفعل من أهله ، والأصل التحريم ، لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها .
فمن القرائن :
أولا : أن يكون مورده مسلما ظاهره العدالة ، ويقول : إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية فيحكم بالحل هنا ؛ لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية .
ثانيا : أن يرد من بلاد أكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم فيحكم ظاهرا بحل الذبيحة تبعا للأكثر ، إلا أن يعلم أن المتولي الذبح ممن لا تحل ذبيحته فلا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 684)
يحكم حينئذ بالحل لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر .(3/315)
قال في [المنتهى وشرحه] : ويحل حيوان مذبوح منبوذ بمحل يحل ذبح أكثر أهله بأن كان أكثرهم مسلمين أو كتابيين ولو جهلت تسمية ذابح . اهـ .
وإذا كان الحل في هذا الحال مبنيا على القرائن فالقرائن إما أن تكون قوية فيقوى القول بالحل ، وإما أن تكون ضعيفة فيضعف القول بالحل ، وإما أن تكون بين ذلك فيكون الحكم مترددا بين الحل والتحريم ، والذي ينبغي حينئذ سلوك سبيل الاحتياط واجتناب ما يشك في حله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532). دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531). الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ؛ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وفي رواية : صحيح البخاري البيوع (1946). ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان متفق عليه .
والله الموفق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
مهره الفقير إلى الله : محمد بن صالح العثيمين .(3/316)
ثالثا : ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية :
نثبت تحت هذا العنوان ما ورد إلى هذه الرئاسة من معالي وزير التجارة والصناعة ، وما ورد إليها من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الموضوع ، ثم ما ورد من الدعاة المبعوثين للدعوة في
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 685)
تلك البلاد عن كيفية التذكية فيها ، ثم ما كتبه بعض أهل الغيرة في المجلات الإسلامية عن كيفية الذبح في تلك البلاد .
أ- كتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ سابقا كتابا برقم ( 2029/1 ) في 23/5/1393هـ إلى معالي وزير التجارة والصناعة يستفسر فيه عن كيفية ذبح اللحوم المستوردة هل هو بالصعق الكهربائي أو بالخنق ؟ .
فأجاب معالي الوزير بما نصه :
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموقر .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نشير إلى خطابكم رقم ( 3745 ) وتاريخ 20/8/1393هـ المعطوف على سابقه رقم ( 2029/1 ) في 23/5/1393هـ الذي تستفسرون فيه عن كيفية الذبح : هل بالصعق الكهربائي أو بالخنق أو بالمقصلة ؟ وكذلك أنواع اللحوم المستوردة معلبة وغير معلبة .
نفيد سماحتكم : أنه بناء على تقصي هذه الوزارة من المصادر العديدة اتضح لها : أن اللحوم المستوردة إلى المملكة والتي ترد من بلدان مختلفة يتم الذبح فيها بالطرق الآتية :
( 1 ) هنغاريا : ذبح الطيور الداجنة والأبقار المصدرة للدول العربية يتم حسب التعاليم الإسلامية ، وأن كل إرسالية معدة للتصدير مرفقة بما يسمى ( شهادة حلال ) ، وأن هنغاريا تقوم بتصدير مسالخ كاملة معدة للعمل حسب التعاليم الإسلامية .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 686)(3/317)
( 2 ) الدانمرك : ذبح الكميات الكبيرة من الأبقار والطيور الداجنة يتم بواسطة الآلات ، وذلك في مسالخ عدة ، ويتم الذبح حسب التعاليم الإسلامية بالنسبة للمصدر للدول الإسلامية .
( 3 ) الولايات المتحدة الأمريكية : للذبح أربع طرق : الأولى : كيميائية بواسطة ثاني أكسيد الكربون ، الثانية : ميكانيكية بواسطة آلة حادة ، الثالثة : ميكانيكية بواسطة قذيفة نارية ، الرابعة : كهربائية بواسطة التيار الكهربائي ، وهذه الطرق لا تتبع إلا بعد نزف دم الحيوان .
( 4 ) هولندا : الطيور تصعق بتيار كهربائي ثم يتم ذبحها من العنق .
( 5 ) بلجيكا : تتعرض الحيوانات المعدة للاستهلاك لعملية فقد الوعي قبل إسالة دمائها ؛ إما عن طريق التيار الكهربائي ، أو عن طريق آلات حادة أو مسدسات خاصة .
( 6 ) ألمانيا الغربية : الطيور المعدة للذبح تبقى 24 ساعة قبل ذبحها في حالة استرخاء وراحة تعطى خلالها ماء للشرب ثم تتعرض قبل إسالة الدماء منها خلال أوردتها إلى عملية إفقاد الوعي عن طريق التيار الكهربائي أو الغازات الخاصة أو الأدوات الحادة .
( 7 ) السويد : المواشي المعدة للذبح تستريح لمدة 24 ساعة قبل الذبح ثم يتم إفقادها الوعي ( لأسباب إنسانية لا علاقة لها بجودة اللحم ) بواسطة آلة حادة ( مسدس ) فتصعق تمهيدا لعملية إخراج الدم منها بواسطة ضربها بآلة حادة ( سكين ) .
( 8 ) بلغاريا : ذبح الطيور والمواشي يتم حسب الطريقة الإسلامية بموجب شهادة خاصة من السلطات الإسلامية يتم إصدارها لكل شحنة .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 687)
ونقترح : إيفاد ثقات من أصحاب الفضيلة العلماء لزيارة الدول التي يوجد بها مصانع لإعداد اللحوم المستوردة بأنواعها للوقوف على حقيقة الذبح ولتقرير أيها يمكن التعامل معه ، وربما يرى سماحتكم أن تكون هذه الزيارة للتأكد من استمرار تلك المصانع باتباع الطريقة الإسلامية في الذبح .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(3/318)
وزير التجارة والصناعة
محمد العوضي
وكتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كتابا برقم ( 737/2 ) في 28/3/1398هـ إلى معالي وزير التجارة والصناعة بشأن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار ، فأجابه معالي الوزير بما نصه :
صاحب المعالي فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . . وبعد .
إشارة لخطاب معاليكم رقم 737/2/ في 28/3/1398هـ بشأن اتصالات بعض الناس بكم حول وجود كميات من اللحوم ترد البلاد من بعض الدول الاشتراكية ، وما ذكرتموه من أن ذبيحة الشيوعيين وغيرهم من الكفار غير أهل الكتاب - وهم : اليهود والنصارى - حرام على المسلمين ، أرجو إحاطة معاليكم : أن الأجهزة المختصة في هذه الوزارة وفي مصلحة الجمارك تحرص دائما على التثبت من صحة شهادات الذبح على الطريقة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 688)
الإسلامية وكونها مصدقة من سفارات المملكة إن وجدت أو سفارات الدول الإسلامية الأخرى ، كما أن هذه السفارات على معرفة بالجهات التي تصدر هذه الشهادات ، سواء كانت جمعيات إسلامية أو مؤسسات فردية معترف بها ، كما لا يخفاكم أن البلدان التي ذكرتموها فيها الكثيرون من أهل الكتاب ومن المسلمين على الرغم من أن نظامها السياسي نظام ماركسي ، بل إن المعلومات التي لدى الوزارة تدل على أن الكثير من الأتراك المسلمين يقومون بالذبح في هذه البلدان ، ولا يخفى معاليكم أن هذه البلدان عندما توفر الذبح على الطريقة الإسلامية فإنما تفعل ذلك حرصا على تصريف منتجاتها في العالم الإسلامي الواسع ، ولحاجتها الماسة إلى العملة الصعبة ، ولأنهم يدركون أن لهم منافسين من بلدان أخرى يعملون عادة على الكتابة للجهات الرسمية في البلدان الإسلامية لاستشارتهم ضد منتجاتهم عن طريق التشكيك بطريقة الذبح .(3/319)
وأود بهذه المناسبة أن أؤكد لمعاليكم بأن هذه الوزارة حريصة على أن يهنأ المواطنون والمقيمون بطعامهم لا عن طريق التأكد من توافر الشروط الصحية والذي تهتم به مختبرات الجودة النوعية بالتعاون مع وزارة الزراعة فقط ، وإنما كذلك بالحرص على توافر الشروط الشرعية في الذبح ، وفي نفس الوقت يقع على عاتق هذه الوزارة تأمين أكثر ما يمكن من مصادر السوق العالمية لرجال الأعمال السعوديين لتوفير جو المنافسة ومنع حدوث نقص في المعروض من المواد الغذائية وخاصة اللحوم ، وهو الأمر الذي حدث قبل سنوات قليلة ، عندما كان اعتماد المملكة كليا تقريبا على الصومال فكانت النتيجة حدوث نقص في المعروض من الأغنام
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 689)
والأبقار والإبل عندما أصيب ذلك البلد بالجفاف .
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه ، إنه سميع مجيب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وزير التجارة
سليمان السليم
ب- وكتب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد الحركان كتابا إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في موضوع اللحوم المستوردة نصه :
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - بالرياض . . . الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد :(3/320)
فيطيب لي أن أبعث لسعادتكم بخالص التحية وأطيب الأمنيات ، كما أود أن أحيطكم علما بأنه قد وردت إلينا عدة تقارير رسمية وغير رسمية تفيد بأن بعض الشركات الاسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة ( حلال الصادق ) التي يملكها القادياني ( حلال صادق ) لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح المواشي ( الأبقار والأغنام والطيور ) وحرصا من الأمانة العامة للرابطة على تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الموضوع فقد قررنا التعاون مباشرة مع الاتحاد الاسترالي للجمعيات الإسلامية ليقوم بالإشراف الكامل على جميع المذابح وإعطاء شهادات معتمدة للشركات المصدرة للحوم وختمها بخاتمه الرسمي .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 690)
لهذا نأمل التكرم بالإيعاز إلى الجهات المختصة والفرق التجارية في بلادكم الشقيقة للتعاون معنا وأخذ الحيطة لعدم دخول أية لحوم مستوردة من هذا البلد إلا عن طريق وبشهادة الاتحاد المذكور ؛ ضمانا لشرعية الذبح ، وتفاديا لعدم الوقوع في الأخطاء التي تتنافى مع الإسلام .
أسأل المولى عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى .
والله يحفظكم
الأمين العام
محمد علي الحركان
ج- ورد إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد تقارير من المبعوثين من قبل الرئاسة - الدعوة في الخارج - عن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار ، نورد فيما يلي نصوصها ثم تلخيصها ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحكم عليها على ضوء ما عرف من القواعد الشرعية في تذكية الحيوانات .
أ- تقرير من الداعية الأستاذ أحمد بن صالح محايري ، عن اللحوم المستوردة من البرازيل إلى المملكة العربية السعودية - نصه :
تقرير في كيفية ذبح الطيور والمواشي الواردة إلى المملكة من البرازيل .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
معالي الرئيس العام العلامة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز المحترم . . حفظه الله تعالى .(3/321)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 691)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد .
فتنفيذا لما جاء في رسالة سماحتكم السرية رقم ( 3442/4 ) وتاريخ 21/6/1398هـ بشأن التحري عن كيفية ذبح الطيور والمواشي الموردة إلى المملكة فيشرفني أن أرفع لمعاليكم ما يلي :
قمت في الفترة الواقعة ما بين 14 رجب ( 20 حزيران ) 1398 إلى ( 30 من رجب 1398هـ ) في جولة بطريق البر إلى سبع مدن برازيلية فيها شركات مصدرة للحوم والدواجن ، وهذه المدن هي :
كورتيبا - وتبعد عن لوندرينا 450 كيلو مترا .
بومطا كروسا - وتبعد 210 كيلو مترا .
وكامبوكراندي - وتبعد 750 كيلو مترا .
وكويابا - وتبعد 1250 كيلو مترا .
وغويانا - وتبعد 110 كيلو مترا .
وبروذينتي برودينتي - وتبعد 250 كيلو مترا .
وسان جوزيف - وتبعد 375 كيلو مترا .
ومع أنني اتصلت بكافة الشركات المصدرة للحوم في هذه المدن واطلعت على كيفية الذبح فيها إلا أنني أقتصر في تقريري هذا - إن شاء الله - على الكلام عن الشركات الموردة للمملكة العربية السعودية ، وعن ملاحظاتي واقتراحاتي على ضوء ما وصلت إليه من معلومات خلال جولتي هذه .
شركة برنسيسا للدجاج والدواجن :
ومكانها في مدينة بونتا كروسا بولاية بارانا في البرازيل ، تقوم هذه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 692)
الشركة بتربية الدواجن في مزارعها الخاصة وتذبح ما ينوف عن ( 150 ) طن في الشهر وتقوم بتغليفها وتصديرها إلى عدة بلدان عربية ؛ كمسقط ، وعمان ، والكويت ، والمملكة العربية السعودية ، وذلك عن طريق شركة بتروبراز البرازيلية ، وذلك ضمن أكياس نايلون وكراتين كتب عليها باللغة العربية ذبح على الطريقة الإسلامية . ( وقد أدرجت طيه أحد الأكياس للإحاطة ) .(3/322)
ولما طلبت وزارة التجارة في بعض الدول الإسلامية من المستوردين أن يكون مع أوراق الاستيراد ما يثبت أن اللحم المورد ذبح على الطريقة الإسلامية قامت الشركة المذكورة بالاتصال برئيس الجمعية الإسلامية في مدينة كورتيبا القريبة منها والمدعو حسين العميري واتفقت معه أن يشهد خطيا عند كل شحنة : أن الذبح جرى وتم على الطريقة الإسلامية ، وذلك لقاء نسبة 1% من قيمة الشحن تدفعها الشركة للمذكور لقاء شهادته هذه ، ( وتجدون طيه صورة لإحدى الشهادات التي يوقعها المذكور باللغتين العربية والبرتغالية ) .
وفي 14 رجب 1398هـ توجهت من لوندرينا لهذه الشركة مارا بمدينة كورتيبا لأصطحب معي في الزيارة حسين العميري رئيس الجمعية ، وفعلا وصلت إلى مقر الشركة بصحبته في مدينة بونتاكروسا فبعد أن رحب بنا المسئولون طلبت مشاهدة عملية الذبح ، وفعلا فقد رأيت بنفسي ما يلي :
تعلق الطيور ( في هذه الشركة ) من أرجلها حية منكوسة الرأس على آلة متحركة تسوقها إلى مكان فيه رجل قائم بسكينة يقطع بها وريد كل دجاجة قادمة ، ويبالغ في السرعة ليتمكن من قطع وريد الطير الذي يليه وهكذا . .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 693)
ونفس الآلة تسوق الطير المعلق بعد عملية الذبح إلى مكان فيه ماء ساخن لتغمسه فيه كي يتم نتفه وتنظيفه وتعبئته بالأكياس النايلون الآنفة الذكر .
والمحظور في عملية الذبح المذكورة : أنه لا يتحقق في الغالب قطع الوريدين لعامل السرعة المفروضة على الذابح ، كما أن الدجاج المذبوح يغمس في الماء المغلي بعد مدة وجيزة من الذبح قد لا يكون الطير خلالها قد فارق الحياة فيحصل أنه يموت خنقا ، كما يجب التأكد من عقيدة الذابح هل هو كتابي أو وثني ؟ .(3/323)
بعد خروجنا من المسلخ عقدت اجتماعا مع مدير وأعضاء الشركة المذكورة وبينت لهم المحاذير الشرعية ، والتي لاحظتها في طريقة الذبح ، وشرحت لهم كيفية الذبح الإسلامي ، وطلبت منهم تطبيقه وخاصة بالنسبة للكميات التي تصدر إلى البلاد الإسلامية .
فقال لي مدير الشركة ما يلي :
إن شركتنا على استعداد تام لتعديل عملية الذبح كي تصبح على الشريعة الإسلامية تماما ، كما يمكننا إجراء تعديل آلات الذبح نفسها وتوظيف رجل مسلم يقوم بعملية الذبح بنفسه ، ولكن لا يتحقق هذا الأمر إلا بناء على طلب مسبق بين الكمية اللازمة للتصدير ، وعلى ضوئه يمكننا تعديل الأمر حسب الشريعة الإسلامية .
وبعد أن غادرنا مكتب الشركة بينت بحكمة ووضوح لرئيس الجمعية خطأه في التوقيع على أن عملية الذبح تمت على الشريعة الإسلامية ، وطلبت منه الإقلاع عن ذلك الأمر بالكلية ريثما يشرف بنفسه ، أو يوظف من يشرف على عملية الذبح لتكون على الطريقة الإسلامية ، فوعدني خيرا
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 694)
والله أعلم .
شركة ساديا أويسته للبقر والدواجن :
من أكبر الشركات العالمية للحوم البقر والدواجن ، ولها ما ينوف عن عشرين فرعا في الولايات البرازيلية ، وتصدر إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج ، ولها مذابح حديثة في كل من سان باولو ، وكويابا ، وبورت اليكري ، وكامبو كراندي ، والريو دي جانيرو ، ويبلغ تصدير هذه الشركات من الطيور فقط نحو 300 طن في الشهر ، وتحصل على شهادات خطية : أن الذبح على الشريعة الإسلامية ، من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو ، وأشهرها : جمعية السانتوا مارو الإسلامية ، والجمعية الخيرية الإسلامية ، لقاء مساعدة مالية تدفعها الشركة للجمعيتين الموقعتين .(3/324)
وتختلف طريقة ذبح الدواجن في هذه الشركة عن الشركة الآنفة الذكر أعني : شركة برنسيسا أن الأولى تذبح الطير المعلق من قدمه في الآلة المتحركة بطريقة أكثر تؤدة مما يجعل قطع الوريدين قد يتحقق في الغالب ، ولكن المحظور يبقى قائما ، وهو أن الآلة تغمس الذبيحة في الماء الساخن المغلي قبل أن تفارق الروح ، كما ليس من المؤكد في هذه الشركة أن يكون الذابح كتابيا ، هذا فيما يتعلق بذبح الدواجن في هذه الشركة ، أما فيما يتعلق بذبح الأبقار وتصديره إلى المملكة بواسطة هذه الشركة ( ساديا ) فأرفع لمعاليكم ما يلي :
في يوم الأحد 20 رجب - الموافق 25 حزيران - 1398هـ سافرت إلى مدينة كويابا مارا بمدينتي ( بريزيدنتي ) و ( كامبوا كراندي ) ، وفي يوم الخميس 24 رجب - 29 حزيران - 1398هـ ذهبت بصحبة رئيس الجمعية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 695)(3/325)
الإسلامية في مدينة كويابا الأستاذ خالد القرعاوي مع سكرتير الجمعية الأخ فيصل فارس لزيارة هذه الشركة ، وبعد أن عقدنا اجتماعا مع مدير الشركة المدعو أديسون جواو فرانيسكون ولفيف من المسئولين وبينت لهم في الاجتماع محاسن الذبح على الطريقة الإسلامية ، فأخبرني مدير الشركة بأن الشركة كانت تصعق بالكهرباء الذبائح ، وتقوم بسلخها بعد ذلك دون أن يخرج الدم ، إلا أن الشركة اكتشفت بأن اللحوم التي تذبح بطريقة الصعق الكهربائي سريعا ما تفسد ، ولو كانت في الثلاجات ، وسريعا ما يتغير لونها إلى رمادي قاتم ، حتى أوصى الأطباء البيطريون العاملون في الشركة بوجوب قتل الذبيحة بطريقة يخرج فيها كل الدم ، فقاطعته قائلا : والدم لا يخرج من الذبيحة كلية إلا إذا مر من الوريدين بقطعهما ، وليس من مكان آخر ، فقال : وهكذا نفعل هنا ، إذ نذبح يوميا ( 1500 ) ألف وخمسمائة رأس بقر للتصدير ، فطلبت منه أن أرى بنفسي طريقة الذبح ، فألبسونا ألبسة خاصة ، وأدخلونا إلى المسلخ ، وهو مكان فسيح جدا مقسم إلى أقسام وعند المدخل يساق الثور إلى مكان ضيق ثم يغلق عليه بطريقة لا يستطيع الخلاص ، ثم يقوم أحدهم بمطرقة في يده بضرب رأس الثور ضربة غير مميتة بقصد أن يغيب الثور عن وعيه ليمكن السيطرة عليه أثناء الذبح ، وفعلا يسقط الثور على الأرض ، وفي نفس الثانية واللحظة تتناول قدمه رافعة ترفعها أوتوماتيكيا إلى الأعلى ورأسه منكس في الأسفل فيأتي رجل بسكين ، فيشق حلق الرقبة ليصل إلى الوريد ، ثم يبدل السكين بمدية أكبر ، ويقطع الوريد فينزل الدم بغزارة ، وكأنه ينزل من صنبور إلى أن يفارق الحياة ، والمهم في هذه الطريقة أن تثار مسألة هذه الضربة الغير مميتة قبل
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 696)(3/326)
الذبح ، أتقاس في الجواز على صيد الحيوان الشارد الآبق الذي لا يمكن السيطرة عليه ؟ وهل يجوز شق جلد الرقبة قبل الذبح أعني قبل قطع الوريدين ، ثم إن الذي يباشر عملية الذبح كتابي أو وثني ؟ .
ولما طلبنا من مدير الشركة أن يطلعنا على كيفية حصولهم على الشهادة الخطية التي تشهد بأن الذبح تم على الطريقة الإسلامية قال : نحصل عليها من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو ، فقلت له : وكيف ذلك وبينكم وبين سان باولو ( 1800 ) كيلو مترا .
الشركة الأرجنتينية للأغنام :
أثناء وجودي في مدينة بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين مع فضيلة الشيخ صالح المزروع والدكتور أحمد باحفظ أثناء جولتنا على دول أمريكا اللاتينية - قمنا بزيارة الشركة الأرجنتينية للأغنام التي تصدر لحم الغنم معلبا ، ومهروسا ، ومقطعا إلى المملكة العربية السعودية .
وفي صباح الخميس 10 ذي القعدة 1398هـ توجهنا بصحبة وفد من المركز الإسلامي الأرجنتيني إلى مقر الشركة ، وأطلعنا على كيفية ذبح الأغنام ، فوجدنا أن آلة تعلق الأغنام إلى أعلى ، ويقوم رجل بسكين حادة ليذبح رأس الذبيحة تماما على الشريعة الإسلامية ؛ لأنه يقطع الوريدين والمريء معا ، إلا أن الأمر لنعته ذبحا شرعيا متوقف على الذابح أكتابي هو أم لا ؟ ويقوم المركز الإسلامي الأرجنتيني بتقديم شهادة خطية على أن الذبح جرى على الطريقة الإسلامية عند كل شحنة مصدرة ( وطيه تجدون نموذجا من الشهادات التي يصدرها المركز المذكور أدرجها طيه للتكرم بالإحاطة ) .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 697)
الشركة الدانماركية للحوم :(3/327)
وهذه الشركة الدانماركية بأوربا وليست في البرازيل ، ولكن إتماما للفائدة أدرج طيه قصاصة من ( مجلة الوطن العربي ) التي تصدر عن الجالية العربية في فرنسا - باريس باللغة العربية ، وتجدون في القصاصة مقابلة أجرتها الصحيفة مع أحد العمال العرب في الدانمرك المدعو محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في مصنع لتعليب اللحوم ، فيقول عن اللحوم والدواجن المصدرة إلى البلاد العربية : إنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية ، وهذا غير صحيح ؛ لأن القتل يتم كهربائيا في كل الحالات .
سماحة الرئيس العام : بعد أن عرضت على معاليكم صورة من عملية الذبح في البرازيل يشرفني أن أرفع أن المركز الإسلامي في برازيليا الذي تم تأسيسه بعضوية السفراء العرب والمسلمين ، والذي ليس له حتى الآن منفذ معتمد أو مدير دائم ، هذا المركز الإسلامي الذي بنى مدرسة للمسلمين في برازيليا وسرعان ما أغلقها ثم سلمها دون قيد أو شرط لبعض البرازيليين ليفتحا مدرسة برازيلية - نعم ، برازيلية المنهج والإدارة - وذلك لفشله في اتخاذ ولو قرار واحد فيما يتعلق بالمسلمين بالمنطقة ، هذا المركز الإسلامي قد اتخذ قرارا ليشرف بنفسه على عملية الذبح ، وهذه خطوة لو تحققت فإنها جيدة ، ولكن كيف يشرف وبينه وبين أماكن الذبح مئات الأميال وليس عنده موظفون ليستخدمهم في هذا ؟ .
لذا فأقترح أن يصلكم عن طريق وزارة التجارة السعودية أسماء
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 698)(3/328)
الشركات الموردة للحوم وعناوينها وأسماء المستوردين ؛ وذلك لتعميد مبعوثكم للدعوة في تلك البلاد بزيارة الشركات الموردة ؛ لدراسة إمكانية ترشيح مسلم مقيم في تلك المدينة مستعد ليذبح بنفسه أو تحت إشرافه لقاء جعل يكفيه للتفرغ لهذا ، على أن تدفع هذا الجعل الشركة نفسها أو المورد ، وفي هذه الحالة يشهد مبعوثكم وتحت مسئوليته أن الذبح قد تم بمعرفته وإشراف ( فلان ) الذي اعتمد للتفرغ والإقامة في مكان الذبح ، وبذلك تتوحد الجهود المبذولة ، وتصبح الرئاسة هي المعتمدة إن شاء الله للإشراف على جميع أعمال الذبح ، علما بأن العدو الإسرائيلي يرسل دوريا مبعوثين من قبله - يهودا - إلى البلاد الموردة للحوم ليذبحوا بأنفسهم ويقيموا بصورة دائمة في أماكن الذبح بأجر يتقاضونه من الشركة الموردة ، وقد وصلت مجموعات منهم إلى سان باولو والريو دي جانيرو وكورتيبا وبعض المدن البرازيلية الأخرى لهذا الغرض ، كما يوجد في الأرجنتين عناصر يهودية مقيمة لهذا الغرض تتقاضى رواتبها من الشركات الموردة .
والله أعلم . وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . . والله ولي التوفيق .
تلميذكم / الداعية
أحمد صالح محايري
يتلخص التقرير فيما يلي :
طريقة شركة برنسيسا في ذبح الدجاج
1 - يعلق الدجاج من أرجله بآلة تسير به إلى رجل بيده سكين يقطع به
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 699)
رقابها بسرعة بالغة ، وتمشي بها الآلة إلى ماء ساخن تغمس فيه لينتف ريشها وتنظف ، ثم تعد للتصدير .
2 - قد يقطع أحد الوريدين دون الآخر ، وقد يغمس الدجاج في الماء الساخن قبل انتهاء موته لزيادة سرعة الذابح وسرعة سير الآلة .
3 - أشك في الذابح هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد .(3/329)
4 - يكتب على الغلاف ذبح على الطريقة الإسلامية ، ويصدق على ذلك من لم يشاهد الذبح بنفسه ، ولا بنائب عنه ، ويأخذ ذلك أجرة ، وذلك بناء على طلب وزارة التجارة من المستوردين كتابة ما يثبت أن الذبح إسلامي .
5 - طلبت من مدير الشركة تعديل طريقة الذبح حتى يكون إسلاميا فوافق على شرط أن نبين له الكمية اللازمة أولا .
طريقة الذبح في شركة ساديا أويسته :
1 - طريقتها في ذبح الدجاج كطريقة الشركة السابقة في تعليقها من أرجلها وغمسها بماء ساخن يغلي قبل انتهاء حياتها وكتابة ذبح على الطريقة الإسلامية ، والتصديق عليها من جمعيتين إسلاميتين بأجرة ، إلا أن الذبح بتؤدة بشق الجلد أولا ثم قطع الوريدين غالبا ، وهل الذابح كتابي أو وثني ؟ .
2 - أما الأبقار فكانت أولا تصعق بكهرباء ثم تسلخ دون أن يخرج منها دم ، ولما بين لهم الأطباء ما في بقاء الدم من الخطر صاروا يضربونها ضربة غير مميتة بمطرقة في رأسها ، فإذا سقطت علقت من أرجلها بآلة رافعة ، ثم يشق جلد الرقبة ثم يقطع الوريد بسكين آخر ، وينزل الدم بغزارة إلى أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 700)
يفارق الحياة ، أما حال الذابح والشاهد فكما مضى في ذبح الدجاج .
طريقة الشركة الأرجنتينية في ذبح الأغنام :
1 - هناك آلة ترفع الأغنام إلى أعلى ويقطع رجل الوريدين والمريء بسكين على الطريقة الإسلامية .
2 - يكتب الشهادة المركز الإسلامي الأرجنتيني .
3 - لم يعرف حال الذابح .
طريقة الشركة الدانماركية للحوم :
يقول محمد الأبيض الذي يعيش في الدانمارك ويعمل في مصنع لتعليب اللحوم : إنهم يصعقون الأغنام بالكهرباء على كل حال ، يكتبون على صناديقها : مذبوحة على الطريقة الشرعية .
أقترح إرسال من يذبح ذبحا شرعيا ، أو يشرف على الذبح ، فإن اليهود يفعلون ذلك محافظة على موافقة الذبح لما يرونه ، ونحن أولى بذلك .(3/330)
تقرير من الشيخ عبد الله بن علي الغضيه مرشد الرئاسة بالقصيم عن اللحوم المستوردة من لندن وفرنسا نصه :
أما عن موضوع الدجاج المستورد وذبحه ، فقد حاولت في لندن التعرف على طريقة الذبح فاتصلت بمدير شركة مكائن الذبح متظاهرا أني أريد إقامة مصنع ذبح في المملكة ، فأعطاني كتلوجا مصورا عن المصنع الذي تنتجه شركته ، فلما قام يشرح لي كيفية العملية ، قلت له : إن الدجاجة ظهرت لجهاز التغليف دون قطع رأسها ، فسألني مستفهما : ولماذا قطع الرأس ؟ فقلت : إننا في الشرق الأوسط لا نأكل رءوس الطيور ، وأرفق لسماحتكم صورة فوتوغرافية للمصنع ، وفيه أولا : تقف السيارة عند باب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 701)(3/331)
المصنع ، كما يتضح لكم في الرسم المترجم ، ثم ينزل الدجاج منها فيعلق بأرجله ، ثم يمر بآلة مستديرة تنفتح من النصف ، فيدخل به رأس الدجاجة ، ومكتوب عليه : الذبح بطريقة التدويخ ؛ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار ، فتصبح الدجاجة بعد لا تسمع ولا ترى ، وتنتظر الموت بعد لحظات ، ثم تمر بجهاز آخر يقطر فيه ، إن ظهر منها سائل دم أو غيره ، بعده تمر على جهاز يعمل بالبخار أو الماء الحار جدا ، وفيه تموت إن كان بها حياة وتخرج منه لأجهزة النتف والتنظيف ، إلى أن تخرج لأكياس النايلون ، ثم للكرتون الذي كتب عليه باللغة العربية : ذبح على الطريقة الإسلامية ، وهذا المصنع صغير ، وينتج في الساعة ( 2000 ) ألفين دجاجة ، ويقول من سألت : إن في فرنسا نفس الطريقة ، إلا أنهم يزيدون أن الدجاج إذا اكتمل نموه فإنهم يضعونه في مستودعات شديدة البرودة ، ويسحب منها حسب طلب الأسواق ، وبالطبع تخرج الدجاجة من هذه المستودعات ميتة ، ثم توضع في برك حارة استعدادا للنتف والتصدير ، وهذا لم أره ، إنما ذكره كل من سافر لفرنسا وأمريكا ، وأتمنى لو انتدب أحد لغرض الاطلاع ونقل الحقيقة ، وباطلاع سماحتكم على صور المصنع يتضح لكم منه ما ذكرت أسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه ، وأن يصلح أحوال المسلمين ، وأن يصلحهم حكاما ومحكومين ، والله يحفظكم .
وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
ثم نشرت له ( مجلة الدعوة ) السعودية مقالا في عددها ( 676 ) بتاريخ 27 من ذي الحجة 1398هـ تحت عنوان : ( معلومات عن الدجاج المستورد ) جاء فيه ما نصه :
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 702)
الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث ، والصلاة والسلام على هادي الخلق إلى الحق نبينا محمد ، وآله وصحبه الطيبين .(3/332)
اطلعت على مقال الشيخ الأخ عبد الرحمن بن محمد الإسماعيل المنشور في ( مجلة الدعوة ) عدد ( 668 ) بتاريخ 16 شوال 1398هـ بعنوان ( لئلا نأكل حراما ) وإنني إذ أشكره لا يفوتني أن أشكر القائمين على شأن ( مجلة الدعوة ) التي تصدر بالرياض عاصمة المملكة العربية السعودية أعزها الله بطاعته ، أضم صوتي مع الشيخ عبد الرحمن ، ومع كل المسلمين الذين أصبحوا في حيرة من هذه اللحوم المستوردة التي ملأت أسواقنا ، فإذا ما ذهب أحدنا إلى علمائنا الأجلاء مستفتيا عن هذه الذبائح من الدجاج وغيرها - كان جوابهم محيرا ، فتارة يقولون : طعام أهل الكتاب حل لنا ، وهذا صحيح كما هو نص القرآن ، لكن يبرز سؤال آخر : وهل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى ؟ فإن وجد يهودي أو نصراني فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها ؟ إذ أنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوعت ، وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح ؛ من إراقة الدم ، وقطع الودجين ، وتوجيه الذبيحة إلى القبلة . . إلخ القواعد الشرعية المنصوص عليها .
وهناك بعض العلماء إذا سئل عن الدجاج مثلا قال : سم الله وكل ، مستدلا بحديث عائشة - رضي الله - عنها جاء فيه : صحيح البخاري البيوع (1952),سنن النسائي الضحايا (4436),سنن أبو داود الضحايا (2829),سنن ابن ماجه الذبائح (3174),موطأ مالك الذبائح (1054),سنن الدارمي الأضاحي (1976). إن أناسا قالوا : يا رسول الله ،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 703)(3/333)
إن قوما حديثي العهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : سموا الله وكلوه رواه البخاري من كتاب [الإسلام في مواجهة التحديات] للمودودي صـ 141 . ، ففي هذا الحديث الشريف لم يكن هناك شك إلا هل ذكر اسم الله أم لا ؟ وإلا فالذبح شرعي لا شك في ذلك ، مع أن معظم العلماء من السلف والخلف لا يجيز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، مستدلين بقول الله تعالى : سورة الأنعام الآية 121 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وهذا مع الذكر ، أما إن ذبح ونسي أن يذكر الله غير عامد لذلك - فقد ورد تفصيل ذلك عن بعض الأئمة - رضي الله عنهم - فيما يلي [الإسلام في مواجهة التحديات] صـ 140 ، [مجموع الفتاوى] شيخ الإسلام ابن تيمية ( 35/240 ) . :
يقول الإمام أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر وأصح الروايات عنهم : أن التسمية إذا تركت على الذبيحة عمدا لم يحل أكلها ، وإذا تركت نسيانا حل أكلها ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قد سئل عن الذبيحة التي يتيقن أنه لم يسم عليها هل يجوز أكلها ؟ فأجاب بقوله : ( الحمد لله ، التسمية واجبة عليها بالكتاب والسنة ، وهو قول جمهور العلماء ، لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها ، وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل ، وكذلك الأضحية ) . ويقصد بذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - : إذا كان الذابح أهلا للذبح ، وهو المسلم الذي
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 704)(3/334)
يذبح على الطريقة الشرعية ، ويذكر اسم الله عليها ، فإن نسي ذكر اسم الله جاز الأكل ، كما في الحديث المشهور صحيح البخاري الأطعمة (5061),صحيح مسلم الأشربة (2022),سنن أبو داود الأطعمة (3777),سنن ابن ماجه الأطعمة (3267),مسند أحمد بن حنبل (4/26),موطأ مالك الجامع (1738),سنن الدارمي الأطعمة (2019). سم الله وكل لكن إذا تركت التسمية عمدا لا تؤكل ، أو أن يكون الذابح كتابيا لم ينحرف عن اعتقاده باليهودية إن كان يهوديا أو نصرانيا محافظا على معتقده ، إذ كثرت في العالم الغربي الانحرافات ، وانتشرت عندهم المذاهب المعارضة لكل الديانات ، مثل : الشيوعية الخبيثة التي تنكر وجود الله ، وجميع الديانات السماوية ، ولا يوجد في اليهود والنصارى الذين أبيح لنا طعامهم - أي : ذبائحهم - لا يوجد فيهم من هو معتقده إلا شرذمة قليلة يدعون برجال الدين ، وهم بعيدون كل البعد عن الذبح والذبائح ، إذ أن لهم مناصب رفيعة ومكانة عالية ، فلا يتولى الذبح هناك إلا بعض صغار العمال من الشباب المنحرف الذي لا يلتزم بدين ، ومعظمهم دهري وثني .
هذا ولا يخفى على مسلم أن أي ذبيحة ذبحت على غير الطريقة الإسلامية ؛ كالغطس بالماء الحار ، أو الضرب حتى تدوخ وتموت ، أو أي نوع من أنواع القتل المخالف للشرع ، فلا يخفى أنها حرام وإن ذكر اسم الله عليها ، إذ أن الله تعالى يقول : سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ الآية .
فبعد ما ذكر الله هذه الأنواع القاتلة للحيوان ، وأنها محرمة ، والحالة هذه ، قال جل وعلا : سورة المائدة الآية 3 إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ أي : إذا حصلت هذه الأنواع على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 705)(3/335)
حيوان مما أحل الشرع أكله ثم لم يمت ووجدت به حياة مستقرة ثم ذبح وذكر اسم الله عليه - فحلال وإلا فلا.
هذا الدجاج المستورد مذبوحا هل نأكله؟
إن من يلقي نظرة على أسواقنا وبقالاتنا يجد بها أعدادا كبيرة جدا من الدجاج المستورد والمذبوح خارج بلادنا، والذي لا يصل إلينا إلا بعد مدة طويلة من ذبحه، ويكتب على ظروفه (ذبح على الطريقة الإسلامية) فهل يا ترى إذا كتبت هذه العبارة يحل أن نأكل بموجبها دون تحر وتقص؟ أو أن المسلم مأمور بالابتعاد عن المتشابهات؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532). دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/269),سنن الدارمي البيوع (2531). الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه (الحديث)
وأنا أكتب هذا المقال اطلعت على ما نشر في (مجلة المجتمع) بعددها(414) في 1/11/1398 هـ صفحة (20) بعنوان: (حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمارك ) والذي وجهته جمعية الشباب المسلم، وخلاصته: أن الدجاج هناك لا يذبح على الطريقة الإسلامية المشروعة، ولا يحل لمسلم أن يأكله، ولو كتب على الكرتون (ذبح على الطريقة الإسلامية) ومن المعلوم أن الدجاج يذبح هناك بالآلاف، فأنا أقدم صورة مصنع لذبح الدجاج، وهو من أصغر المصانع الأوربية وينتج في الساعة الواحدة (2000) ألفي دجاجة.
(قصة وصول صورة المصنع إلي):
كنت في لندن في أول هذا العام، وحرصت أن أرى مصنعا من مصانع ذبح الدجاج، فاتفقت مع شركة إنجليزية لتطلعني على ما أردت،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 706)(3/336)
ودفعت رسم زيارة المصنع مبلغ مائة وخمسون جنيها، واصطحبت المترجم، وتركنا لندن إلى إحدى ضواحيها التي تبعد مسافة قطعتها السيارة بساعة، فلما وصلنا هناك فوجئت بأنني خدعت إذ لم أر ما أريد؛ لأنني متظاهر أنني تاجر سعودي لدي مؤسسة في السعودية، وأرغب إقامة مشروع دواجن، وأريد مصنعا أوتوماتيكيا لذبح وتغليف الدجاج، ومما يظهر أنهم لا يرغبون أن يطلع على ذبحهم أحد، كما حصل للشبيبة المسلمة في الدانمارك، فقد حاولوا عدة مرات الاطلاع على طريقة الذبح فلم يسمح لهم بذلك، ولو كان موافقا للطريقة الإسلامية كما يقولون لاطلعوا عليها، المهم أننا دخلنا محلا صغيرا به حوالي عشرة عمال من المسلمين الباكستانيين يذبحون بأيديهم بالطريقة المعروفة لدينا هنا، ثم بعد الذبح على الطريقة المعتادة المعروفة لدينا هنا يضعون الدجاج في ماء حار، وبعد ذلك ينتف بواسطة النتافة المعروفة، والتي هي عبارة عن دائرة تدار بالكهرباء، ولها أصابع من الكاوتشوك لينة تضرب الدجاج بقوة فتنزع الريش منه، وهي معروفة وموجودة عندنا في المملكة، فبعد ذلك عرفت أن هؤلاء يتبعون لتاجر باكستاني مسلم غيور على إسلامه التقيت به في محله، وفي المركز الإسلامي بلندن، وهو يذبح الدجاج والأغنام للمسلمين في لندن ويبيعها عليهم، وكنا نشتري منه.
فقلت للمترجم: هذا موجود عندنا الذبح باليد والنتف بالآلة، فرد الإنجليزي الخبيث: أنا عرفت أنه مسلم من السعودية، ولا يصلح أن يقيم في بلده مصنعا يذبح الدجاج فيه كالذي عندنا في أوربا، فقوانين بلاده لا تسمح بمثل هذا، فقلت: أنا رغبتي بمشاهدة المصنع الأوتوماتيكي،
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 707)(3/337)
ولا دخل له فيما أريد، فقال: حسنا، إذا ترتب له زيارة ثانية لأحد مصانع الدجاج الأوتوماتيكية، وكان هذا الكلام قبل سفري راجعا إلى المملكة بيومين، فقلت: إني مسافر، وقد انتهى وقتي، حيث مضيت شهرا، ولكني أرغب ( بكتالوج) المصنع الأوتوماتيكي لأطلع عليه، وأدرسه، فسلمني كتالوجا من حقيبة كانت معه، وقال: هذا المصنع صغير يكفيه من الكهرباء كذا، ومن الأرض كذا، والعمال والماء كذا، وهو ينتج بالساعة(2000) ألفي دجاجة مذبوحة معلقة، فأخذته (وأرفق صورة منه للاطلاع، وقد طبعت منه خمسة عشر ألف نسخة).
(نبذة عن المصنع):
1 - تحضر السيارة الدجاج من الحظائر الذي ربما مات بعضه فيها قبل أن ينزل، أو نتيجة البرد أو التحميل أو التنزيل ومعروف سرعة موت الدجاج.
2 - كما يتضح من الصورة تعلق الدجاج بأرجلها ثم يحيط بها حزام متحرك فوق الرأس، فتذهب بطريقة آلية حيث تمر بجهاز كتب تحته (الذبح بطريقة التدويخ).
3 - هناك حوض يستقبل السوائل من الدجاج إن خرج منها شيء.
4 - وهو بيت القصيد، مغطس ضخم كتب عليه (جهاز محرق جدا) يعمل بالبخار أو الماء الحار، فتغطس فيه الدجاجة المسكينة لتفقد فيه آخر رمق من الحياة، ثم بعد ذلك تخرج منه جثة هامدة بعد أن تعرضت للخنق والوقذ والتردي، والله تعالى قد قال: سورة المائدة الآية 3 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 708)(3/338)
وهذا الدجاج قد تعرض لشيء مما ذكر الله، ثم بعد نتفه وتنظيفه من الرأس يغلف بكراتين كتب عليها: (ذبح على الطريقة الإسلامية) وتلاحظ قارئي العزيز: أن الدجاجة دخلت المذبح وخرجت منه ميتة، منتوفة الريش، منظفة الأحشاء، مقطعة الأرجل، إلا أن رأسها قد صحبها منذ أن خلقها الله، ولا يقطع منها إلا إذا كانت سوف تصدر للشرق الأوسط، وقد سألت الإنجليزي لما خرجت من المذبح ورأسها موجودة فيها، قال لي: أما رأيت أن الطيور عندنا والذبائح رؤوسها موجودة لا تقطع، وفعلا رأيت الطيور والذبائح بأسواقهم رؤوسها معلقة فيها، وهي معروضة للبيع دون أن ترى رقابها أثرا للذبح، وهذا يشاهده كل من زار لندن أو غيرها من البلاد الأوربية، إذ أنهم يعتبرون أن الذكاة الشرعية الإسلامية طريقة وحشية لا يقرها القانون، كما أنهم لا يتركون الحيوان ينزف دمه مدعين أنه يفقد وزنه، وهذا يلاحظ في الدجاج المستورد منتفخة، أما ما تذبحه أنت فتراه ينقص ويقل وزنه، وهم لا يريدون ذلك، بل يريدون الوزن الكثير للحصول على الربح الوفير.
وبعد فماذا يرى علماؤنا الأجلاء؟ أصحاب الفضيلة العلماء، قد كتبت لمعنيين منكم تقريرا مفصلا إثر عودتي من لندن عن كل ما رأيت، وأهم ذلك الدجاج، وقلت: إنه لا ينبغي للعالم أن يسكت عن مثل هذه المواضيع الهامة كالمطعم والمشرب الذي يرد معظمه من بلاد كافرة، وطلبت أن ينتدب أناس للوقوف على الحقيقة، وأن لا يكتفي بقول التجار ولا الشركات الموردة بأنه ذبح على الطريقة الإسلامية، ثم بعد ذلك يبين للناس هل يأكلون أم لا ؟
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 709)(3/339)
وأن لا يكتفي بقول الله: سورة المائدة الآية 5 وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فالشريعة بينت معنى ذلك, فالميتة والدم والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إذا لم تدرك فيها الحياة وتذكى ويذكر اسم الله عليها- فهي حرام , ولو كانت عند المسلم وفي بلد إسلامي, فكيف بالذبائح والدجاج يتعرض لبعض هذه الأمور في بلاد كافرة, وعند أناس كفار قد فارقوا دينهم, وارتدوا عن البقية الباقية منه , فبعضهم دهري, والآخر علماني, ومعظم شبابهم قد اعتنق الشيوعية, فمع هذه المصائب كلها لا يذبحون على الطريقة الإسلامية, ولا يذكرون اسم الله, ومعلوم أن المسلم لو ذبح على غير الطريقة الإسلامية بأن خنق أو وقذ ذبيحته فهي لا تحل، وإن ذكر اسم الله, فذكر الله لابد أن يقترن مع التذكية الشرعية, وقد نشرت مجلة (المجتمع) عن ذلك أكثر من مرة, آخر ذلك ما جاء في عددها (414) في 1 ذي القعدة سنة 1398هـ حيث نشرت نداء جمعية الشباب المسلم بالدانمرك , خلاصته: أن الدجاج الدانمركي يذبح على غير الشريعة الإسلامية, وأنه لا يحل أكله والحالة هذه.
ما يقال عن اللحوم يقال عن الدهون أيضا:
كذلك هذه الدهون التي غزت أسواقنا, ألا يحق لنا نسأل عنها؟! فقد كثر الكلام عن الدهون, وأن معظمها يحتوي على شحوم الخنزير, وغيره من الحيوانات المحرمة؛ كالكلاب, والحمير, وقد ذكر لي أحد تجارنا المعروفين: أنه ذهب إلى هولندا لغرض التعاقد مع شركة هناك لتوريد دهون منها للمملكة العربية السعودية يقول: وقبل إبرام العقد اطلعت على المصنع فإذا بجواره محل كبير جدا فيه أكوام هائلة من الشحوم والعظام
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 710)(3/340)
تصهر بمصاهر خاصة, ثم تتحول إلى سمن صاف يوضع عليه علامة شوكة وملعقة أو غير ذلك من العلامات التجارية, وهذه الدهون قد استخرجت من شحوم الخنازير والكلاب والحمير والبقر والغنم الميتة وغيرها, التي هي حرام وإن ذكيت مثل: الخنزير والكلب, وحرام لعدم التذكية من البقر والغنم. وقد أثارت هذا الموضوع (مجلة المجتمع) بالنسبة للجبن الكرافت وكذلك عن الدهون وذلك بعددها (412) في 17/10/ 1398 هـ بالنسبة للدهون المستوردة.
وبعد: فإني أرجو من العلماء والتجار إرشاد الناس, وجلب ما هو حلال نافع لهم ولأمتهم وبلادهم, فإن لم نفعل فقد ضيعنا الأمانة, وأهملنا قول الله تعالى سورة المائدة الآية 2 وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: سنن الترمذي البر والصلة (1926),سنن النسائي البيعة (4199). الدين النصيحة قالها ثلاثا, قلنا: لمن يا رسول الله, قال: لله, ولرسوله, وكتابه, ولأئمة المسلمين وعامتهم .
اللهم وفقنا لفعل الخيرات , وجنبنا المنكرات, وأصلحنا اللهم حكاما ومحكومين, وأمراء ومأمورين, اكفنا اللهم بحلالك عن حرامك , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين, نبينا محمد, وآله وصحبه أجمعين.(3/341)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 711)
ملخص مقال الشيخ عبد الله الغضية
1 - هل بقي أحد على كتابه من اليهود والنصارى محافظا على معتقده ولم يلحد أو يعتنق الشيوعية ؟
2 - معظم من يتولى الذبح هناك من الشباب المنحرف الدهري والوثني.
3 - هل نأكل من الذبائح المستوردة بمجرد أن نرى على غلافها: (ذبح على الطريقة الإسلامية) أو نتحرى لحديث: سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532). دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وحديث التحذير من المشتبهات.
4 - خدعوه عن المذبح الأوتوماتيكي, وأروه مذبحا يذبح فيه قلة من المسلمين يذبحون لمسلمين بالداخل, ولم يمكنوه من الاطلاع على المذبح الأوتوماتيكي, ولو كانت طريقة الذبح شرعية لمكنوه من مشاهدته.
5 - تخرج الدجاجة من المذبح ميتة منتوفة, ورأسها لم يقطع, وليس في رقبتها أثر ذبح, وأقر بذلك إنجليزي من جماعة المذابح, ويرون أن الذكاة الإسلامية وحشية, وأن بقايا الدم فيها أثقل لوزنها وأربح.
6 - كذلك الأدهان تخلط بشحم الخنزير وشحم الميتة.
7 - اقتراح إرسال من يطلع ويقف على الواقع في الذبائح والأدهان.
أما تقريره فخلاصته:
1 - يعلق الدجاج بأرجله, ثم يمر بآلة تنفتح من النصف فيدخل في الفتحة رؤوس الدجاج, ومكتوب على هذا الجهاز: (الذبح بطريقة التدويخ) ؛ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار, فتصبح الدجاجة بعده لا تسمع ولا ترى, وتنتظر الموت بعد لحظات, ثم تمر بجهاز آخر يقطر منه إن ظهر منها سائل أو غيره, بعدها تمر على جهاز بخاري أو ماء حار جدا,
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 712)
وفيه تموت إن كان بها حياة, ثم تخرج منه إلى أجهزة النتف والتنظيف والتغليف, ويكتب على الغلاف: (ذبح بالطريقة الإسلامية).(3/342)
2 - ذكر أنه سمع أن نفس الطريقة تتبع في فرنسا, إلا أنهم يزيدون وضع الدجاج المراد ذبحه في مستودعات شديدة البرودة, ويسحب منه حسب طلب الأسواق, وبالطبع يخرج الدجاج من هذه المستودعات ميتا, ثم توضع في برك حارة تمهيدا للنتف والتصدير.
3 - اقتراح إرسال من يشاهد وينقل الحقيقة.(3/343)
تقرير من مبعوث الرئاسة في اليونان للدعوة الأستاذ جمال إدريس اليوناني هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من جمال بن حافظ إدريس المبعوث في اليونان .
إلى سماحة صاحب الفضيلة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وفقه الله في الدارين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلتني رسالتكم الكريمة, تطلبون بيان الطريقة التي تذبح بها الحيوانات- قد زرت بعض الأماكن المشهورة في اليونان فرأيت كما يلي:
الأول: فيها مكان تذبح الحيوانات فيه كما نذبح نحن المسلمون, تذبح بعد خروج دمائها ثم تسلخ وتقطع.
والثاني: الحيوان إذا كان كبيرا يضرب من رأسه بآلة كمسدس فيسقط
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 713)
ويذبح قبل مماته, وهذا القبيل أو الأصول مشكوك أن روح المذبوح بهذه الطريقة تخرج قبل خروج دمه, أما الطيور: فيتم نتف ريشها قبل ذبحها, فتذبح بالآلات الأوتوماتيكية.
أخبرني أحد الأطباء: أننا أردنا أن نعرف ما كان الذبح على الطريقة الشرعية, فننظر إلى عظام ذلك الحيوان في أثناء التناول, فإذا كان يميل لون العظام إلى البياض فهذا أكبر دليل على أن دم هذا الحيوان قد خرج بالكامل, أي: ذبح بالطريقة الشرعية, وإذا كان يميل اللون إلى السواد فهذا دليل على أن الحيوان لم يذبح بالطريقة الشرعية.
والأماكن التي زرتها هي في اليونان فقط, بناء على عدم توضيح في رسالتكم المباركة الأماكن خارج اليونان , ولم أفهم هل أردتم أماكن اليونان فقط أم خارج اليونان أيضا, فنرجو التوضيح من سيادتكم, إنني مستعد أزور أماكن كثيرة إذا أردتم ذلك, أطال الله عمركم ويوفقنا لما فيه الخير للإسلام والمسلمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابنكم المخلص
جمال بن إدريس اليوناني
خلاصته
إن للذبح حالتين:
الأولى: إنه على الطريقة الإسلامية.
الثانية: أن يضرب الحيوان الكبير في رأسه بمسدس فيسقط ويذبح, وفي هذه الطريقة شك في كون التذكية حصلت والحيوان حي أو بعد موته.(3/344)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 714)
ورد تقرير من الشيخ صهيب حسن عبد الغفار مبعوث الرئاسة في لندن نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاء
أرجو من مجلس أعضاء لجنة الفتوى التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إصدار الفتوى الشرعية في اللحوم المستوردة من الخارج, وذلك بعد النظر في طريقة ذبح الحيوانات في المجازر الغربية حسبما جاء في مشاهداتي الشخصية, وما ذكر في التقرير المرفق الذي نشرته (مجلة المجتمع) الكويتية في عددها رقم (414) بتاريخ أول ذي القعدة 1398هـ وما يترتب على هذه الطريقة من آثار سيئة حسب تحقيق بعض الأطباء المسلمين في بريطانيا.
(أ) طريقة الذبح في مذابح بريطانيا خاصة:
أولا: الخرفان والأبقار : يؤتى بالخروف والبقر إلى مكان مخصوص, حيث يقوم رجل بإيصاله صدمة كهربائية بواسطة آلة خاصة أشبه بالمقص توضع على مقدم رأسه مما يجعل الحيوان يفقد حواسه ويسقط على الأرض, وهناك طريقة أخرى لا تزال تتبع في كثير من الأمكنة, وهي ضرب الحيوان بمطرقة حديدية على الرأس, ويتم ذلك بطريق مسدس يتعلق بفوهته قطعة حديدية مثل الرصاص, فإذا أصاب الرأس سقط الحيوان مغشيا عليه, ثم يعلق رأسا على عقب برافعة, ويدفع إلى الجزار, فإذا كان الجزار مسلما- وذلك في مجازر معينة تستأجر للجزارين المسلمين لذبح كمية محدودة للاستهلاك المحلي للسكان المسلمين فقط- قام بذبح
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 715)
الحيوان المعلق بسكين حاد على الطريقة المألوفة لدى المسلمين فيخرج منه الدم بعد ذلك إلى المرحلة التالية من السلخ والقطع, وأما إذا كان الجزار غير مسلم قام بغرز السكين داخل الحلق من الطرف ثم أخرجه بقوة إلى الخارج, مما يقطع بعض أوداجه ليسيل منه الدم.(3/345)
ثانيا: الدجاج: أما الدجاج فإنما يتم تخديره بصدمة كهربائية أيضا, ولكن على قاعدة الغسيل بالماء الذي يمر به التيار الكهربائي, ثم يجرح رقبته بسكين حاد أتوماتيكيا ليخرج منه الدم, إلى أن تتم المراحل الباقية من النتف والتصفية؛ ليكون جاهزا للتصدير.
(ب) الآثار التي تترتب على هذه الطريقة:
أن المجازر الغربية اتخذت الطرق المذكورة للذبح رحمة بالحيوانات حسب ادعاء جمعيات الرفق بالحيوانات, ولكن من البديهي أن الغربيين اختاروا هذه الطرق للحصول على أكبر كمية من اللحم في مدة قصيرة, أو بعبارة أخرى لأجل تحقيق مكاسب تجارية على مستوى واسع, وقد قام عدد من الأطباء المسلمين بإجراء تحقيق كامل في مثل هذه اللحوم, ووصلوا إلى النتائج التالية؛ كما ورد في كتاب الدكتور غلام مصطفى خان رئيس جمعية أطباء المسلمين في بريطانيا , وتقرير الدكتور محمد نسيم رئيس وقف المسجد الجامع في مدينة برمنجهام .
أولا: تحذير الحيوان قبل الذبح يسبب فتورا لدى الحيوان, وانكماشا في قلبه, فلا يخرج منه الدم عند الذبح بالكمية التي تخرج عادة, ومن المشاهد أن طعم اللحم الذي خرج منه الدم كاملا غير طعام الحيوان الذي بقيت فيه كمية من الدم, وأخبرني أحد المشرفين على مجزرة إسلامية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 716)
كبرى في برمنجهام أن من الإنجليز من يفضل الحيوان المذبوح بالطريقة الإسلامية للأكل؛ وذلك لأجل طعمه المتميز عن بقية اللحوم.
ثانيا: أن الصدمة الكهربائية لا تؤدي مقصودها في جميع الأحوال, فإذا كانت الصدمة مثلا خفيفة بالنسبة لضخامة الحيوان بقي مفلوجا بدون أن يفقد الحواس ويشعر بالألم مرتين: الأولى: بالصدمة الكهربائية أو بضربة المسدس, والثانية: عند الذبح , أما إذا كانت الصدمة الكهربائية شديدة لا يتحملها الحيوان أدت إلى موته بتوقف القلب, فيصير ميتة لا يجوز أكله بحال من الأحوال.(3/346)
ثالثا: أن الطريقة المتبعة لدى المسلمين أرحم بالحيوانات؛ وذلك لأن الذبح يتم بسكين حاد بسرعة فائقة, ومن الثابت أن الشعور بالألم ناتج عن تأثير الأعصاب الخاصة بالألم تحت الجلد, وكلما كان الذبح بالطريقة المذكورة خف الشعور بالألم أيضا, ومن المعروف أن قلب الحيوان الذي لم يفقد حسه أكثر مساعدة على إخراج الدم كما مر آنفا.
خلاصته
1 - صعق الأبقار بكهرباء أو بضرب رأسها بمطرقة.
2 - استئجار مسلم لذبح كمية منها ذبحا شرعيا لاستهلاك المسلمين المحلي.
3 - أما الجزار غير المسلم فيغرز طرف السكين في الحلق لإخراج الدم بقطع الأوداج.
4 - أما الدجاج فيخدر بتيار كهربائي, ثم تجرح رقبته بسكين حاد أوتوماتيكي؛ ليخرج الدم.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 717)
الآثار السيئة المترتبة على ذلك
1 - تخدير الحيوان قبل الذبح يحدث ضعفا وانكماشا في قلبه؛ لذا لا تخرج كمية كثيرة من دمه وينشأ عن ذلك ضعف تغذيته والتلذذ بطعمه.
2 - الصدمة الكهربائية إن كانت خفيفة تألم منها الحيوان وتألم من الذبح، وإن كانت قوية مات منها الحيوان قبل ذبحه لوقوف قلبه.
3 - دعوى أن التخدير أو الصعق فيه راحة للحيوان ليست صحيحة, وإنما القصد ذبح الكثير في زمن قليل رغبة في زيادة الكسب.(3/347)
تقرير من الشيخ عبد القادر الأرناؤوط المبعوث من الرئاسة إلى يوغوسلافيا للدعوة نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد القادر الأرناؤوط إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله من كل سوء, ووقاه من كل مكروه, ووفقه لما فيه خير الدنيا والآخرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية من عند الله مباركة طيبة. وبعد:
فإني أرجو الله عز وجل أن تكونوا بخير وعافية يا سماحة الشيخ, وإني أرسل لكم هذه الرسالة من يوغوسلافيا جوابا على رسالتكم الكريمة التي أرسلت إلي من قبلكم بتاريخ 21/6/1398 هـ.
وإني قد درست موضوع اللحوم في يوغوسلافيا وإني أكتب لكم خلاصة ما توصلت إليه في هذا.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 718)(3/348)
أما في القرى فإنهم يذبحون الحيوانات من الغنم والبقر والماعز ذبحا شرعيا بأيديهم, وفي أمكنة خاصة, والذين يذبحون من المسلمين, وأما في المدن ففي مدينة ( سيراجيفو ) sarajevo التي هي عاصمة البوسنة والهرسك , وتسمى عندهم: جمهورية إسلامية, فكذلك يذبح بها المسلمون, لكن بطرق حديثة: يأتون بالبقر ويضربون البقرة بين عينيها بآلة كهربائية ضربا خفيفا كي تقع على الأرض؛ ثم يدخلونها وهي على قيد الحياة تحت المقصلة وهي آلة حادة فيقطعون رأسها ويسهل منها الدم ثم يدخلونها ضمن آلات تخرج معبأة ضمن علب (الكونسردة) فهذا أيضا لا شبهة فيها, ويكتب عليها صنع ( سيراجيفو ), وفي غيرها من المدن ربما يكون الذابح غير مسلم, ولكن يكون كتابيا, وقد يكون شيوعيا, ولكن حسبما ظهر لي أن أكثر الذين يدعون أنهم شيوعيون, إنما هم بالاسم لمصلحة خاصة, أو منفعة مادية, والشيوعي الحزبي لا يقوم بمثل هذه الأعمال، وهم كأنهم توافقوا بأن الحيوان إذا ضرب على رأسه مثلا وقتل بهذه الضربة وبقي دمه في جسمه ولم يسفح: أن اللحم يفسد, ويكون ضررا على آكله, إلا أنهم قد يذبحون بنفس الآلات الخنازير, ثم يذبحون بعدها مثلا البقر, وهذا هو المحظور في هذه المسألة, وهذه لم أستطع أن أتحقق منها, وقد قال لي بعضهم: يذبحون الخنازير بمحلات خاصة, والبقر في محلات خاصة, وعند ذلك يزول الإشكال.
وعلى كل فالأحسن أن يأخذ من علب (الكونسردة) التي تصنع في ( سيراجيفو ) المسلمة, أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية من الغنم مثلا والبقر فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا,
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 719)(3/349)
وبأيدي المسلمين, وكذلك في مدينة ( سيراجيفو ) المسلمة بأيدي المسلمين ذبحا شرعيا, وفي غيرها من المدن الذين يذبحون؛ إما من المسلمين, وإما من النصارى الكاثوليك , وقليل ما هم من الشيوعين أرباب المصالح الخاصة والأشياء المادية, فشيوعيتهم ليست دينا, وإنما هي مصلحة ووظيفة, وكما ذكرت لكم الشيوعي المادي الملحد الحزبي على الغالب لا يقوم بمثل هذه الأعمال الخسيسة في نظرهم, وعلى كل تذبح وتقطع رؤوسها ويخرج منها الدم المسفوح وترسل إلى البلاد العربية, وكثيرا ما يراعون الذبح إذا كان للسفر إلى خارج بلادهم.
وأرجو دعواتكم الصالحة, وإني أسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم, وأن ينصر الحق وأهله, وأن يعيننا على أداء مهمتنا على أحسن وجه, إنه على ما يشاء قدير, وبالإجابة جدير, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
أخوكم
عبد القادر الأرناؤوط - يوغوسلافيا - استوغ
خلاصته
1 - يذبح أهل القرى الأغنام ذبحا شرعيا بأيديهم في أماكن خاصة - والذابح مسلم.
2 - في مدينة ( سيراجيفو ) عاصمة البوسنة والهرسك يذبح فيها المسلمون الأنعام كذلك بالطريقة الشرعية, غير أنهم يضربونها بآلة كهربائية ضربا خفيفا لتقع على الأرض, ثم يدخلونها وهي حية تحت المقصلة, ويقطع رأسها ويسيل منها الدم, ثم تعلب, ويكتب على الشحنة ( سيراجيفو ).
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 720)
3 - في غير هذه المدينة من المدن قد يكون الذابح غير مسلم كتابيا أو شيوعيا بالاسم لا بالحقيقة من أجل الوظيفة أو المصلحة.
4 - أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا بأيدي المسلمين.
5 - قد يكون ذبح الأنعام بالآلة التي تذبح بها الخنازير.
6 - النصح بالاقتصار على شراء علب اللحوم التي ذبحت في سيراجيفو لما تقدم.(3/350)
ونشرت (مجلة الدعوة) بالرياض مقالا للدكتور محمود الطباع بأبها في عددها (673) بتاريخ 21 من ذي القعدة 1398هـ تحت عنوان (لئلا نأكل حراما) جاء فيه ما نصه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: قرأت في (مجلة الدعوة) العدد (667) تاريخ 9 شوال 1398هـ المقال الذي كتبه عبد الرحمن المحمد الإسماعيل جزاه الله خيرا بعنوان (لئلا نأكل حراما) وأرغب أن أوضح ما يلي:
أن الدكتور محمود الطباع طبيب بيطري, درست في ألمانيا الغربية , وفي بدء دراستي تعرضت مع إخوتي المسلمين لمشكلة اللحوم المذبوحة, وهل يجوز الأكل منها, ولنتأكد من طريقة الذبح ذهبت مع عدد من الإخوان لزيارة المسلخ في مدينة ( هانوفر ) فشاهدنا الجزارين يحضرون قطيعا من الأبقار يطلقون على رأسها من مسدس خاص , وبعد أن وقعت جميعها على الأرض بدون حراك أخذ العمال استراحة يأكلون فيها ما يقارب الثلث ساعة, ثم قاموا وعلقوا الأرجل الخلفية في الرافعات
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 721)
المتحركة, وقطعوا الرأس, ثم نزعوا الجلد وشقوا البقرة إلى نصفين وغسلوها بالماء بعد إخراج المعدة, فكانت مياه الغسيل بلون الدم, وقبل أن ينتهي العمال من فترة الاستراحة يبدأون بقطع رأس الأبقار, تأكدنا أن جميع الأبقار كانت ميتة, ولا يحل أكلها في ديننا الحنيف, وقد نبهنا على الطلبة المسلمين وشرحنا لهم ما شاهدنا, ولكن مع الأسف الشديد فقد كان أغلبهم لا يتوانون عن أكل لحم الخنزير فكيف بلحم الميتة.
الدكتور محمود الطباع
أبها - المديرية العامة للشئون البلدية والقروية بالجنوب - صحة البيئة
خلاصته:
أنه شاهد الجزارين في ألمانيا الغربية يطلقون المسدس على رأس الأبقار ثم يستريحون ثم يقطعون رؤوسها بعد ألا يكون بها حراك, وتأكد أنها ما ذبحت إلا بعد أن صارت ميتة.(3/351)
ونشرت (مجلة المجتمع) الكويتية الصادرة يوم الثلاثاء الموافق 1 من ذي القعدة سنة 1398 هـ عدد (414) من السنة التاسعة. مقالا عن جمعية الشباب المسلم بالدانمارك؛ لذلك فقد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه دائرة الدانمرك تحت عنوان (حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمارك ) جاء فيه ما نصه:
نظرا للاستفسارات العديدة التي وردت إلى جمعيتنا من المسلمين المقيمين في الدول العربية للتأكد من كيفية ذبح اللحوم والدجاج المصدر من الدانمارك؛ لذلك فقد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه في دائرة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 722)
الدانمرك إلى عدة نتائج نوردها فيما يلي:
لقد علمنا من مصادر رسمية أن الفئة القاديانية بالدانمارك قامت منذ تأسيسها عام 1967م بتمثيل المسلمين والإسلام في هذه البلاد, فكانت تصادق على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية, وهي تتقاضى مقابل ذلك من الشركات المصدرة رسوما مقابل هذا التصديق, وعلمنا كذلك أن السفارات الإسلامية هنا كغيرها من السفارات في العالم لا تمثل الإسلام من قريب أو بعيد, بل تمثل الحكام الذين يرفعون ويخفضون, فضلا عن حرص هذه السفارات, البالغ على اتباع السنن الدبلوماسية في حفلاتها وسهراتها, هذا إذا استثنينا- خشية التعميم - بعض الأفراد القلائل العاملين في هذه السفارات والذين هداهم الله إلى التمسك بالدين بعيدا عن المؤتمرات المهنية . . وهم قلة.(3/352)
وعلمنا كذلك من خلال الأعوام الماضية: أن بعض هذه الشركات يتحايل لكي يبيع الدجاج الدانمركي للدول الإسلامية, ومن صور هذا التحايل, تشغيل عليه أشرطة القرآن الكريم داخل المجازر ظنا منهم أن هذه الطقوس تحل لنا أكل هذه اللحوم, كما يقوم بعضهم - ذرا للرماد في العيون- بتعيين عامل مسلم أو أكثر في المصنع يقوم بمهام عادية ليس لها علاقة بالذبح, وحتى لو قام بالذبح فلا يعقل أن يتمكن من ذبح الآلاف من الدجاج المنتج كل يوم, بل قل: كل ساعة, وقد كانت ليبيا من أول الدول التي اكتشفت هذه المهزلة في الدانمارك وخارج الدانمارك - فقررت منع استيراد اللحوم والدجاج من أوربا بالمرة . . والله أعلم إن كان هذا المنع ما زال ساري المفعول أم لا.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 723)
أما من جانب المستهلك المسلم, فخلال الأعوام العشرة الماضية كانت مشكلة الدجاج المستوردة من أوروبا لا تكاد تشغل بال السواد الأعظم من المسلمين ؛ لصغر حجمها بالقياس إلى المصائب والمؤامرات التي كانت وما زالت تحاك ضد الإسلام والمسلمين , ولكن كان من بينهم من يحاول ترويج هذه الذبائح, بحجة أنها من طعام أهل الكتاب , ونحن لا نقر هذا الرأي؛ لأنه يكفي أن ننظر من حولنا لنجد الزنا والعري والخمر والميسر والشذوذ الجنسي وقطع الأرحام وعقوق الوالدين والربا. . وغيرها من الموبقات والكبائر- مباحة بنص القانون في التشريعات المحلية الوضعية، فلا مجال هنا لتسميتهم بأهل الكتاب بحال من الأحوال, بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى .
واليوم كنتيجة طبيعية للغموض المكثف لهذه الأمور, ولشعورنا بمسئولية التحقق من هذا الأمر - قامت جمعيتنا بتوجيه خطاب إلى جميع المجازر الدانمركية التي تقوم بتصدير الدجاج إلى الخارج, وعددها (35) مجزرة للدجاج والطيور.
وفيما يلي ترجمة للخطاب:(3/353)
(وصلتنا في الشهور الماضية بصفتنا منظمة إسلامية ثقافية بالدانمارك عدة استفسارات من مسلمين مقيمين في داخل الدانمارك وخارجها عن الطرق المتبعة لذبح الدجاج والطيور المعدة للتصدير للدول العربية, إن الإجابة على هذه الاستفسارات تعتبر ذات أهمية كبيرة لنا نحن المسلمين, إذ أن طريقة الذبح يجب أن تكون تبعا لما ورد في القرآن الكريم من أحكام لها؛ لهذا نرجو منكم السماح لمجموعة من جمعيتنا (حوالي 3-4
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 724)
أشخاص ) بزيارة مجزرتكم للاطلاع على طريقة الذبح . . إلخ).
كما نود مستقبلا نشر هذا التحقيق في مجلتنا الشهرية (الصراط) حتى يطلع المسلمون عليها, مع مراعاة عدم التعرض لاسم شركتكم بسوء, راجين أن يصلنا ردكم في أقرب فرصة.
وعند استلامنا الردود اتضح أن بعض هذه المجازر لا يصدر إلى الدول الإسلامية بالمرة, وهذا النوع من المجازر لم يمانع من زيارتنا لأماكن الذبح, لكن الشركات التي تصدر إلى الدول الإسلامية لم توافق على الزيارة بالمرة, وبعضها أبدى صراحة عدم ترحيبه بقدومنا, وأحال البعض الآخر نظر هذه القضية إلى لجنة مهنية خاصة بتصدير الدجاج والطيور, بحجة أنها الجهة الممثلة لهم, والمتكفلة ببحث مشكلة الذبح الإسلامي وباتصالنا بهذه اللجنة رفضت- بعد محاولات استمرت فترة طويلة- السماح بأي نوع من المعاينة, بحجة أنها لا تجد أن منظمتنا تمثل الإسلام والمسلمين في الدانمارك , وأن هذه اللجنة على اتصال مع جهة إسلامية بالدانمارك , تمثل الإسلام في نظرهم، لاتصالها بعدد من السفارات العربية، وأن هذه الجهة الإسلامية توافق على طريقة الذبح, وتصادق على شهادات التصدير, مع علمها التام بأن الدجاج المصدر لا يفترق عن غيره من الدجاج المنتج, باستثناء المغلف المطبوع عليه عبارة: (ذبح على الطريقة الإسلامية).(3/354)
وبقيامنا بمزيد من التحريات وجدنا أن الجهة الإسلامية القائمة على التصديق ليست هي الفئة القاديانية, كما جرت العادة خلال العشر سنوات الماضية , لكنها جهة إسلامية انتزعت من القاديانية مهمة التصديق على
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 725)
شهادات التصدير وما يتبعها من مهام أخرى, كالدفاع عن مصالح شركات الدجاج , ومصالح المستوردين العرب, ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها.
وبحديث هاتفي مع مدير لجنة التصدير الدانماركية المذكورة اتضح لنا الآتي:
أولا: ليس لدى المذابح الدانمركية أي فكرة عن متطلبات الذبح الإسلامي والمعلومات التي لديها لا تعدو أن تكون شائعات وردت إليها بطريق الحديث العفوي مع فئات من المسلمين, بعض هذه المعلومات متضاربة, مما جعل الأمر في النهاية - في نظر المجازر الدانماركية - ليس له ضابط ديني محكم.
ثانيا: أن المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة: (ذبح إسلامي) ويجهزها له, والمصدر الدانمركي يوافق , طالما أن البيع في ازدياد والجهات الرسمية تصادق على شهادات التصدير.
ثالثا: أن الذبح يجري بطريقة قص الرأس بعد التخدير الذي يشترط قانون الطب البيطري, وأن الذبح بغير هذه الطريقة يتطلب الحصول على تصريح خاص.
رابعا: أن الذي يهم الشركات الدانماركية في الوقت الحضر هو موقف السفارات التي تتبع الدول المستوردة ؛ لأنها هي التي تصدق على توقيع الجهة الإسلامية التي تعاين الذبح, وطالما أن هذه الجهات متفقة فليس لأحد - في نظرهم - مصلحة في التدخل, وطلبنا من مدير اللجنة الرد كتابة على هذه النقاط, فوعد بذلك, ثم تأخر في الرد مدة طويلة, وفي النهاية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 726)
وصلنا منه رد دبلوماسي بعيد عن النقاط التي تحدثنا عنها هاتفيا.
مما سبق يتبين أن المسئول الأول عن هذه المهزلة ليس هو المصدر الدانمركي بل هو بالدرجة الأولى المستورد العربي, ومن ورائه السفارات التي تصدق على جريمته.(3/355)
وعليه فنحن جمعية الشباب المسلم بالدانمرك نعلن من هنا إلى كافة المسلمين أينما وجدوا: أن الذبائح التي تصدر إليهم من الدانمرك ليست مذبوحة بطريقة خاصة, ولا تختلف عن الذبائح التي تصدر إلى الدول الأخرى, وأن الذبح يتم بطريقة قص الرأس بعد التخدير, والفارق الوحيد: هو في الأغلفة التي تحمل عبارات عربية لخداع المستهلك والمسلم.
الحل: لم يكن الهدف الأساسي من التحريات التي قمنا بها إيجاد حل إسلامي لقضية الذبائح المستوردة , بل كانت الغاية المرجوة هو التأكد من طريقة الذبح, وإعلانها إلى المسلمين حتى يجتهدوا بأنفسهم للتوصل إلى الحل المرضي إسلاميا, إلا أن هناك بعض الفوائد التي يمكن الاستفادة منها قبل البحث عن حلول القضية , فمن خلال مباحثات تمت منذ سنوات مع أحد المجازر الدانمركية رغب بعض الإخوة في الاتفاق مع الشركة على ذبائح خاصة للتصدير إلى الدول الإسلامية, فوافقت هذه الشركة على ذلك بشرط أن يقوم الإخوة أنفسهم باستجلاب العمال المسلمين بمعرفتهم مع ضمان استمرارهم في العمل وحين البحث عمن يقوم بهذا العمل تبين أن هذه المجزرة تقع في قرية صغيرة بعيدة عن المدن الكبرى, وهذا الأمر لا يشجع أحدا على قبول هذا العمل لتعارضه مع ميول العمال الأجانب
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 727)(3/356)
عادة في السكنى في العاصمة أو على الأقل في المدن الكبيرة لأسباب تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية في الغربة ، وحرصهم على المجتمع ؛ لسهولة التفاهم وتبادل الأخبار والزيارات ، وهذا الأمر لا يتحقق بالسكنى في القرى النائية ، فالأمر إذن يتطلب إخلاصا وتفانيا من بعض المسلمين لإنجازه على الوجه المطلوب ، كما يتطلب إيفاد من له دراية شرعية بالقضية وتخصيص ميزانية مناسبة لإنشاء مجزرة إسلامية للتصدير للدول الإسلامية تتوفر فيها الشروط الشرعية والعصرية في آن واحد ، والجمعية من جانبها على استعداد للمساعدة في الاتصالات التمهيدية مع الشركات التي تصنع آلات الذبح والاتفاق مع إحدى شركات الاستشارة والتخطيط لعمل دراسة مستوفية لتكاليف المشروع واحتياجاته .
بقيت كلمة أخيرة لا تتعلق بالدجاج ذاته ، ولكن تتعلق بمن يأكل منه من المسلمين :
فالمعروف أن القلة من الناس هي التي تتحرى الحلال ، والأغلبية لا تفكر في ذلك ، بل تظن التحري في بعض الأحيان عسرا ومشقة ، وهي للأسف سمة العصر الذي نعيش فيه : الاهتمام بإشباع الغرائز والميول أولا ، ثم بعد ذلك يساء استخدام عبارة (إن الله غفور رحيم) .. كما يريد أغلبنا دخول الجنة ولقاء الله تعالى دون علم أو عمل أو تضحية ولو بسيطة ، فقد يلجأ الكثير من المسلمين إلى قطع مسافات طويلة - قد تصل إلى السفر - في سبيل الحصول على سلعة أو طعام معين بمواصفات معينة ، والتكبد في سبيل ذلك المشاق الكثيرة ، ليس إرضاء لله وللرسول ، ولكن إرضاء للهوى فحسب ، فإذا تعلق الأمر بحكم شرعي تحايلوا وتهربوا ، بحجة أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 728)(3/357)
(الدين يسر) ولم يقولوا مرة : (إن مع العسر يسرا) وإن دخول الجنة لن يتم إلا بتكبد الصعاب ، وأضرب على ذلك مثالا يتعلق بفئة (النباتيين) الذين يمنعون أنفسهم من أكل اللحوم ومشتقاتها ، فهؤلاء معروفون في العالم كله ، وحرصهم شديد على تحريم ما يأكلون ، حتى إن منهم من يبلغ به حد الورع مبلغا فلا يأكل الكعك والمربى المطروحة في الأسواق ؛ خشية أن تكون مصنوعة من دهون الحيوانات ، ويسألون قبل الشراء عن مكونات الطعام ، ولهم حوانيت خاصة بهم في كل مكان .
فهؤلاء وضعوا قوانينهم بأنفسهم ويحترمونها ، ويعتبرون التحري والدقة ضربا من التعصب أو تضييع الوقت والجهد، فما بال المسلمين ينزل عليهم كتاب من الله وتصلهم سنة نبيه فلا يهتمون ولا يتحرون ؟!
عسى أن ينفعنا الله بما قلنا ، وأن يكون ما بلغنا إبراء لذمتنا يوم القيامة ، وأن يتقبل عملنا خالصا لوجهه تعالى .
جمعية الشباب المسلم بالدانمرك
.
خلاصته :
1 - الذين يصدقون على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية بأنها ذبحت على الطريقة الشرعية - قاديانيون ، ويتقاضون على الشهادات أجرا ، ثم إن جهة أخرى إسلامية انتزعت التصديق على الشهادات من القاديانيين ، وقامت بذلك مع مهام أخرى ، كالدفاع عن مصالح وشركات الدجاج ومصالح المستوردين العرب ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 729)
2 - الذين يعملون في السفارات الإسلامية إلا القليل لا يمثلون الإسلام ، وإنما يحرصون على السنن الدبلوماسية .
3 - نصارى الدانمرك ومن في حكمهم خرجوا على مبادئ أهل الكتاب ، فلا مجال لتسميتهم أهل كتاب ، بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى .(3/358)
4 - امتناع من يقوم على المجازر المصدرة للحوم والدجاج من الدانمارك إلى الدول الإسلامية من تمكين جماعة من الشباب المسلم من مشاهدة طريقة الذبح في تلك المجازر ، بزعم أنهم لا يمثلون المسلمين ، وإنما تمثلهم السفارات الإسلامية التي تصدق على الشهادة عند التصدير ، أما الذين لا يصدرون اللحوم إلى الدول الإسلامية فقد مكنوهم من مشاهدة طريقة الذبح في مجازرهم .
5 - ليس عند المذابح الدانمركية معلومات عن الذبح الإسلامي مستقاة من مصدر إسلامي معتبر, وإنما لديها إشاعات عما يجب أن يكون عليه الذبح الإسلامي متضاربة؛ لذا لم تهتم بها المجازر لعدم وجود ضابط ديني محكم.
6 - المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة - ذبح إسلامي - ويجهزها, وما على المصدر الدانمركي إلا الموافقة ما دام ذلك في مصلحته.
7 - الذبح يجري بقص الرقبة بعد التخدير دون فرق بين ما يصدر إلى الدول الإسلامية وغيرها, ولا يختلف إلا في كتابة العبارة على الغلاف.
8 - الذي يهم الشركات الدانمركية المصدرة للحوم إلى الدول
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 730)
الإسلامية موافقة سفارات الدول الإسلامية المستوردة وتصديقها.
9 - الحل هو إيجاد مجازر إسلامية لتصدير اللحوم إلى الدول الإسلامية والتعاون في إتمام ذلك بالعلم والعمل والمادة.
قال الأستاذ عبد الله على حسين من علماء الأزهر , ولديه ليسانس في الحقوق. في كتابه [اللحوم - أبحاث مختلفة في الذبائح والصيد واللحوم المحفوظة]:(3/359)
وأما اللحوم المحفوظة في العلب مثل (بولي بيف) ومرقة الثور وهي المسماة (كيف أكسو) وشوربة الفراخ بالشعرية, وهكذا من اللحوم المحفوظة في علب صفيح وما يشتق منها أيا كان نوعها الذي يصدر إلى مصر من أوروبا واستراليا وأمريكا وحكمها: أن يحرم استعمالها قطعا؛ لأنها لحم حيوان موقوذ مضروب حتى مات, فإن طريقة الذبح في جميع هذه البلاد تكاد تكون واحدة, وهي ضرب الحيوان في مخه فيخر صريعا بلا حركة؛ لأنها تصيب المخ, ومتى وقع حمل إلى التقطيع بعد السلخ فيعمل من هذا الحيوان كافة أنواع اللحوم المحفوظة وما يخرج عنها, وقد أردت أن أعرف طريقة ذبحهم بطريقة رسمية لا تقبل الجدل أو الشك في تطبيق الأحكام الشرعية, فكتبت كتابا دوريا أرسلته لقناصل (14) دولة وهي 1- إنجلترا , 2- فرنسا , 3- أسبانيا , 4- هولندا , 5- إيطاليا , 6- تركيا , 7- جنوب أفريقيا , 8- الولايات المتحدة , 9- البرازيل , 10- استراليا , 11- روسيا , 12- الدانمرك , 13- سويسرا , 14-
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 731)
رومانيا .
ويتضمن هذا الكتاب ثلاثة أسئلة:
أولا: ما هي طرق الذبح في بلادكم (أو قتل الحيوان عندكم)؟
ثانيا: ما هو المكان الأول الذي يضرب فيه الحيوان من جسمه لقتله في بلادكم؟
ثالثا: ما هي الصناعات المختلفة من اللحوم المحفوظة التي تصنع وتصدر من بلادكم؟
ثم ذكر أن التي أجابت من تلك الدول هي: تركيا واليونان وهولندا وأسبانيا والدانمرك .
والذي يبدو واضحا في المخالفة للطريقة الشرعية ما جاء في إجابة هولندا والدانمرك فلذلك نسوقها فيما يلي:
1 - طريقة هولندا كما في إجابتها:(3/360)
تقتل البهائم بعد تدويخها بأسرع ما يمكن, بإسالة دمها, وتحصل عملية التدويخ بواسطة آلات تغيب المخ فتفقد البهيمة وعيها في الحال ( وقطع الرأس أو الرقبة ممنوع وكذلك الذبح بسكين بموجب مرسوم ملكي) إذن تقتل البهائم بواسطة خوذة بها مثقاب وهذه الآلة معمرة بالبارود الذي يشعل فيدفع مثقابا مجوفا إلى المخ , وهذا المثقاب يعود إلى مكانه قبل أن تسقط الرأس.
2 - طريقة الدانمرك كما جاء في نص إجابتها :
(الخيول والثيران والعجول الكبيرة تذبح بطريقة صعقها بإطلاق الرصاصة على رأسها في موضع المخ برصاص خاص لهذه
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 732)
العملية, أو بمسدس يقذف مسمارا نافذا والعجول الصغيرة والأغنام تذبح بطريقة الصعق إما بالرصاص أو بالضرب الشديد على جبهتها الأمامية بمطرقة, أما الدواجن فيشترط لذبحها أن يكون ذلك بطريقة الصعق السريع بالضرب الشديد بالمطرقة على رأسها, أو بقتلها قتلا سريعا بفصل رأسها, وعند ذبح الخيول والثيران والعجول الكبيرة بالطريقة المذكورة , تصفى دماؤها بإدخال سكين في أسفل رقبتها في الشريان الكبير الواقع في مدخل الصدر من أعلى, وتستعمل لهذا الغرض السكين العادية, أما العجول الصغيرة والأغنام فتصفى دماؤها بتشريطها من الجانب من الجانب الأسفل من رقبتها في الشريان الكبير الواقع خلف الرأس حول الرقبة, فتفصل شرايينها.ا هـ.(3/361)
ثم علق المؤلف بقوله:( وكل هذه أدلة رسمية قاطعة في صدق ما ندعيه من أن ذبائحهم موقوذة مقتولة - فطيس - نجسة محرمة, لا يصح لمسلم أن يتعاطاها أو يحملها أو يبيعها, وقد كنت أكتفي بما أعلمه شخصيا وأنا طالب بأوربا خمس سنوات من أن طريقة ذبح الحيوانات عندهم في المجازر هي القتل بضربها على رأسها على المخ من مقدم الرأس بين القرنين في الجبهة , وهي ضربة واحدة بآلة خصصت لذلك, فيخر الحيوان صريعا لوقته, ولكن خشية ادعاء مالا أعرف أقمت الدليل الكتابي من حكوماتهم أنفسهم وها هو ننشره ليعلمه الناس وكفى . . )
ثم قال: (وقد أرسلت لحضرة الدكتور العلامة الأستاذ عبد الحميد مصطفى فرغلي المتخصص في وظائف أعضاء الحيوان بأمريكا - الولايات المتحدة - جامعة جونس هوبكنز بمدينة بلتمور , أسأله عن كيفية قتل حيوانات الأكل عندهم في أمريكا , فورد منه جواب في 15/ 7سنة
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 733)
1947 م يقول: سألت عن طريقة الذبح الطريقة, الطريقة: أن يضربوا الحيوان بمطرقة مدببة في مخه فيموت, وبعد ذلك يقطعون رقبته, ولكنهم لا يذبحون كما يفعل المسلمون أو اليهود وهذا الإجراء يشمل جميع الحيوانات).(3/362)
رابعا: تطبيق القواعد الشرعية على الذبائح المستوردة على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها:
إن مجرد البيان لطريقة الذبح الشرعية دون الحكم بها على واقع اللحوم المستوردة إلى المملكة السعودية من دول أوربا وأمريكا وغيرها - لا تفيد من يتحرى الحلال فيما يأكل, ويجتهد في اجتناب ما حرم الله عليه من ذلك , إلا إذا عرف أحوال التذكية وأحوال المذكين في تلك الشركات الغربية وغيرها التي تستورد منها اللحوم إلى المملكة , وأنى له ذلك, فإن السفر إلى تلك البلاد فيه كلفة؛ لبعد الشقة, فلا يتيسر إلا للنزر اليسير, وأكثر من يسافر إليها يكون سفره لضرورة من علاج ونحوه, أو لإشباع رغبة وحب استطلاع, ولا يعني بهذا الأمر , ولا يكلف نفسه البحث عنه والوقوف على حقيقته.
ولذا كتبت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى المسئولين عن استيراد اللحوم وغيرها من المأكولات تستفسر منها عن الواقع, وتوصيها بالعناية بما تستورده من ذلك من الجهة الشرعية, محافظة على الدين, وعلى سلامة الرعية من تناول ما حرم الله عليهم من الأطعمة, وتوفير ما تحتاج إليه الأمة مما أحل الله.
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 734)
وجاء منهم إجابة مجملة لا تكفي لإزالة الشك وطمأنينة النفس, فكتبت إلى دعاتها في أوروبا وأمريكا ليطلعوا على كيفية الذبح وديانة الذابحين هناك - فأجاب منهم جماعة إجابة في بعضها إجمال, وكتب جماعة من أهل الغيرة في المجلات عن صفة الذبح والذابحين جزى الله الجميع خيرا, ولكن كل ذلك لم يستوعب الشركات التي يستورد منها المسئولون عن ذلك في المملكة , مع ما في بعضها من الإجمال, ومع ذلك فاللجنة تعرض خلاصة ما جاءها من التقارير وما اطلعت عليه في المجلات على ما تقدم من طريقة الذبح الشرعية وما صدر في الموضوع من فتاوى كلية؛ ليتبين الحكم على اللحوم المستوردة عن تلك البلاد, وعلى هذا يمكن أن يقال:(3/363)
أولا : بناء على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء من أنه قد وردت إلى معاليه تقارير تفيد أن بعض الشركات الاسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية, وخاصة شركة (الحلال الصادق) والتي يملكها القادياني ( حلال الصادق ) لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الأبقار والأغنام والطيور, ويحرم الأكل من ذبائح هذه الشركات, وتجب مراعاة ما قررته الرابطة وأوصت به في كتابها. انظر ص(689) .
ثانيا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ أحمد بن صالح محايري في طريقة الذبح في شركة برنسيسا من أن الذابح لا يدرى عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد , ومن الشك سفي قطع الوريدين أو أحدهما, ومن أن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 735)
شهادة المصدق على الشحنة لم تبن على معاينته بنفسه أو بنائبه للذبح, ولا على معرفته بالذابح, لا يجوز الأكل من هذه الذبائح , ويؤكد كون التذكية غير شرعية موافقة مدير الشركة على تعديل طريقة الذبح لتكون شرعية بشرط بيان الكمية اللازمة للجهة المستوردة أولا. انظر ص(691).
ثالثا: وبناء على ما جاء عنه أيضا في طريقة ذبح الدجاج والبقر في شركة ساديا أو يسته من أن الذابح مشكوك في ديانته هل هو كتابي أو وثني, ومن أن الأبقار تصعق بكهرباء, فإذا سقطت رفعت من أرجلها بآلة ثم شق جلد رقبتها بسكين, ثم قطع الوريد بسكين آخر, فينزل الدم بغزارة, لا يجوز الأكل من هذه الذبائح انظر ص (694).(3/364)
رابعا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد الله الغضبة عن الذبح في لندن من أن الذابحين من الشباب المنحرف الوثني أو الدهري, ومن أن الدجاجة تخرج من الجهاز ميتة منتوفة ورأسها لم يقطع, بل لم يظهر في رقبتها أثر الذبح, وإقرار إنجليزي من أهل المذبح بذلك, ومن خداع القائمين على المذبح, من أراد الاطلاع على طريقة الذبح عن المذبح الأوتوماتيكي الذي يذبح فيه للتصدير واطلاعهم على مذبح يذبح فيه قلة من المسلمين للمسلمين بالداخل, وذلك مما يبعث في النفس ريبة في كيفية الذبح وديانة الذابح؛ لذلك لا يجوز الأكل من هذه الذبائح انظر ص (701) .
خامسا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ جمال حافظ إدريس عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 736)
طريقة الذبح في بعض الأمكنة المشهورة في اليونان من أن ذبح الحيوان الكبير يكون بعد سقوطه من ضرب رأسه بمسدس, ومن الشك في كون الذبح حصل بعد موته من المسدس أو قبل موته - لا يجوز الأكل منه, وهناك طريقة أخرى قال فيها صاحب التقرير: إن الذبح فيها على الطريقة الإسلامية, ولم يبين كيفية الذبح ولا ديانة الذابح. كما أنه لم يبين أماكن الذبح ولا شركاته في اليونان انظر ص(712).
سادسا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن طريقة الذبح في يوغوسلافيا من أن الذبح في القرى, وفي ( سراجيفو ) على الطريقة الشرعية والذابح مسلم- يجوز الأكل مما ذبح فيها, وبناء على ما جاء فيه عن الذبح في غيرها من مدن يوغوسلافيا من أن الذابح قد يكون غير مسلم, كتابيا أو شيوعيا ظاهرا, لا في حقيقة الأمر, لا يجوز الأكل من ذبائح هذه المدن للشك في أهلية الذابح.
سابعا: بناء على ما جاء في تقرير الدكتور الطباع عن طريقة الذبح في ألمانيا الغربية من أن الأبقار تضرب بمسدس في رؤوسها أولا , ثم لا تذبح إلا بعد أن تصير ميتة ؛ لا تؤكل هذه الذبائح. انظر ص (718).(3/365)
ثامنا : بناء على ما جاء في المقال الذي نشرته (مجلة المجتمع) عدد (414) عن طريقة الذبح بالدانمرك من أن الذابح إلى الشيوعيين والوثنيين أقرب منه إلى النصارى , ومن أن الشركة هناك ليست عندها معلومات عن
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 737)
طريقة الذبح الإسلامية إلا من جهة الإشاعات, حتى يتأتى لها أن تراعي في ذبحها الطريقة الإسلامية, وأن تكتب على الطرود ذبح على الطريقة الإسلامية, وإنما تكتب هذه الصيغة الجهة المستوردة ليصدق عليها هناك من لا يؤمن, مع امتناعهم من تمكين من يريد معرفة كيفية الذبح في الشركة المصدرة من الاطلاع على ذلك. انظر ص (715)
وبناء على ما جاء أيضا عن الأستاذ أحمد صالح محايري عن محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في تعليب اللحوم بالدانمرك من أنهم يكتبون عليها: ذبحت على الطريقة الإسلامية , وهذا غير صحيح؛ لأن قتل الحيوان يتم كهربائيا على كل حال ؛ وبناء على هذا وذاك لا يجوز الأكل من تلك الذبائح.
تاسعا: ما ذكر عن ابن العربي من إباحة الأكل مما ذكاه أهل الكتاب من الأنعام والطيور ونحوها مطلقا, وإن لم توافق تذكيتهم التذكية عندنا, وأن كل ما يرونه حلالا في دينهم فإنه حلال لنا, إلا ما كذبهم الله فيه - مردود بما تقدم في بيان طريقة الذبح وفي الفتاوى.
عاشرا: مما تقدم في بيان كيفية الذبح وديانة الذابحين يتبين أن ما ذكر في كتاب انظر ص(685). وزارة التجارة والصناعة إلى الرئاسة لا يقوى على بعث الاطمئنان في النفس إلى أن الذبائح المستوردة يحل الأكل منها, بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 738)
والأصل المنع.
وعلى هذا لابد من البحث عن طريقة لحل المشكلة.(3/366)
خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة :
يتلخص ذلك فيما يأتي:
1 - الإكثار من تربية الحيوانات, والعناية بتنميتها, واستيراد ما يحتاج إليه منها إلى المملكة حيا, وتيسير أنواع العلف لها, وتهيئة المكان المناسب لتربيتها وتذكيتها بالمملكة , وبذل المعونة لمن يعنى بذلك من الأهالي شركات أو أفراد؛ تشجيعا له وتسهيل طريق توزيعها في المملكة .
وكذا الحال بالنسبة لإنشاء مصانع الجبن وتعليب اللحوم والزيوت والسمن وسائر الأدهان.
2 - إنشاء مجازر خاصة بالمسلمين في البلاد التي يراد استيراد اللحوم منها إلى البلاد الإسلامية أو المملكة العربية السعودية , ويراعى في تذكية الحيوانات بها الطريقة الشرعية.
3 - اختيار عمال مسلمين أمناء عارفين طريقة التذكية الشرعية ليقوموا بتذكية الحيوانات تذكية شرعية في ذلك الشركات بقدر ما تحتاج المملكة إلى استيراده منها.
4 - اختيار من يحصل به الكفاية من المسلمين الأمناء الخبيرين بأحكام التذكية الشرعية وأنواع الأطعمة ليشرف على تذكية الحيوانات, وعلى مصانع الجبن وتعليب اللحوم, ونحوها في الشركات التي تصدر ذلك إلى المملكة العربية السعودية .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 739)
وإذا كان اليهود حريصين على أن يكون الذبح متفقا مع عقيدتهم ومبادئهم - فخصصوا لذلك مجازر لهم وعمالا يذبحون لهم كما يريدون، فالمسلمون أحق بذلك منهم وأولى أن يستجاب لهم؛ لكثرة ما يستهلكون من اللحوم ومنتجات المصانع الغربية، وشدة حاجة أولئك إلى تصريف ما لديهم من لحوم ومنتجات أخرى.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/367)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 1)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 2)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله , نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فقد ظهرت في هذا العصر بعض المستجدات التي لم تكن موجودة, أو كانت موجودة ولكن الحاجة تتطلب البحث والتعمق فيها أكثر.
وفي ظل هذه الحاجة قامت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ببحث بعض هذه المسائل المهمة وإعطاء الرأي الراجح فيها بعد البحث والتقصي.
وهي أبحاث نافعة ومفيدة, مدعمة بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومن بعدهم, ومشتملة على الآراء الفقهية في المذاهب الأربعة, ومستنيرة برأي المختصين في تلك القضايا, وهي أبحاث يحتاجها طلبة العلم الذين تعرض لهم هذه القضايا وأمثالها.
واستكمالا لما سبق نشره فإنه يسر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء أن تقدم لطلبة العلم الجزءين: الثالث والرابع من هذه الأبحاث [ أبحاث هيئة كبار العلماء ] , وهما يشتملان على موضوعات سبق نشر بعضها في [ مجلة البحوث الإسلامية ] والبعض الآخر لم ينشر بعد.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 4)
سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها المسلمين .
كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم, وأن يثيب العاملين في إعداد وإخراج هذا الكتاب في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء , وفي الإدارة العامة لمراجعة المطبوعات الدينية, الذين قاموا بإعداد هذه الأبحاث وترتيبها وتصحيحها وطباعتها, وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في القول والعمل, والمتابعة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، والسير على نهج السلف الصالح.(3/368)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(3/369)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 5)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 6)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 7)
(1)
إثبات الأهلة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 8)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 9)
بسم الله الرحمن الرحيم
ملحق لبحث إثبات الأهلة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
تمهيد
يتعلق بالكلام على اعتبار قول المنجمين والحساب في إثبات الأهلة وعدم اعتباره أمور عامة يحتاج إليها في تحرير محل الخلاف بين علماء الشريعة في هذه المسألة واستدلالهم عليها, فرأينا تقديم الكلام فيها على البحث في الموضوع.
أولا : الفرق بين الحاسب والمنجم : أن الحاسب : هو الذي يدعي معرفة الأوقات بمنازل القمر وسيره, والمنجم: هو الذي يزعم معرفة الأوقات والأحداث بسير الكواكب .
والتنجيم نوعان :
حسابي : وهو الذي يعرف به الأوقات ؛ كطلوع الشمس , ودلوكها, وغروبها, ويعرف به كسوف الشمس , وخسوف القمر , وفصول السنة مثلا.
واستدلالي : وهو ما يزعمه المنجم من العلم بالحوادث التي ستقع في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 10)
المستقبل عن طريق معرفته بسير الكواكب في مجاريها , واجتماعها وافتراقها , وقد يعتقد أن لها تأثيرا في الأحداث , وهذا مع ما فيه من فساد العقيدة ليس من محل البحث.(3/370)
ثانيا: الفرق بين الشهر القمري عند علماء الشريعة وعلماء النجوم والحساب : أن الشهر يبدأ عند علماء الشريعة من غروب شمس اليوم التاسع والعشرين إذا رئي الهلال بعد غروبها, أو كماله ثلاثين من تاريخ الرؤية السابقة إلى بدء الشهر الذي بعده بمثل هذا. فالمدار فيه على الرؤية بالفعل مع الغروب عند الجمهور, أو إمكان الرؤية عند جماعة من الفقهاء, ويبدأ عند علماء النجوم والحساب من ولادة القمر بمفارقته للشمس وتأخره عنها في السير إلى اجتماعه بها ولو كانت ولادته نهارا, فالعبرة عندهم بالافتراق والاجتماع , ولا يكون ذلك إلا مرة واحدة في كل شهر قمري.
وبهذا يتبين : أن بدءه عند علماء الشريعة ونهايته لا يكون إلا بغروب الشمس , بخلاف بدئه ونهايته عند علماء النجوم والحساب, فإنه قد يكون نهارا أو ليلا.
ثالثا: للهلال عند علماء النجوم ثلاث حالات :
حال يقطع فيها بوجوده وبإمكان رؤيته , وحال يقطع فيها بوجوده وبامتناع رؤيته , وحال يقطع فيها بوجوده واحتمال رؤيته, وهذا راجع إلى بعده من الشمس وقربه منها عند الغروب, بعد مفارقته إياها .(3/371)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 11)
أقوال العلماء
في اعتبار كلام علماء النجوم والحساب في إثبات الأهلة
1 - اتفق الفقهاء على أنه لا يعتبر في ابتداء الشهر القمري مجرد ولادة القمر بمفارقته للشمس نهارا أو ليلا , وإنما يعتبر في ابتدائه غروب الشمس إذا رئي بعد غروبها بالفعل على رأي الجمهور, أو أمكنت رؤيته لولا المانع عند بعض الفقهاء؛ خلافا للمنجمين والحساب, حيث اعتبروا ولادته ليلا أو نهارا ابتداء للشهر, وقال بعض المعاصرين: أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس ولو بلحظة واحدة, فيجب إثبات الأهلة عنده بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به.
2 - ذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب منهم : مالك , والثوري , والشافعي , والأوزاعي , وأبو حنيفة , وأحمد , وعامة أهل الحديث ـ إلى اعتبار رؤية الهلال بالشهور القمرية ابتداء أو انتهاء في الصحو أو كمال العدة ثلاثين يوما, فإن حال دون رؤيته سحاب وجب إكمال العدة ثلاثين أيضا, إلا في رواية عن أحمد بجعل شعبان تسعة وعشرين يوما, واعتبار ليلة الثلاثين منه أول رمضان؛ احتياطا للصوم, وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين.
ومنشأ الخلاف بينهم في ذلك : احتياطهم في الغيم خاصة للصيام واختلافهم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فإن غم عليكم فاقدروا له , ففسره
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 12)(3/372)
الجمهور بما ورد في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الصوم (1808). فأكملوا العدة ثلاثين , وقال أحمد : معناه : فضيقوا ؛ أخذا من قوله تعالى : سورة الأنبياء الآية 87 وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومن قوله تعالى : سورة الطلاق الآية 7 وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ فيقدر وجود الهلال وراء السحاب , وبذلك يعتبر شعبان ثلاثين يوما, ولم ير هؤلاء جميعا الاعتماد في ثبوت الشهور القمرية على علم النجوم والحساب , وألغوا قولهم بالكلية , فلو قال المنجمون والحساب: إن الهلال لا تمكن رؤيته, أو رئي قبل طلوع شمس اليوم التاسع والعشرين, أو غاب ليلة الثالث من تاريخ الرؤية قبل دخول وقت العشاء ـ لم يعول على قولهم في ذلك, ولا يعتد به معارضا لما ثبت بالرؤية.
وذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وابن قتيبة وأبو العباس بن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب ومحمد بن مقاتل الرازي والقشيري والسبكي ـ إلى اعتبار قول علماء النجوم والحساب في جواز الصوم أو وجوبه على خلاف بينهم إذا كان هناك غيم أو نحوه ليلة الثلاثين, وعلم بالحساب تأخر الهلال عن الشمس عند غروبها مقدارا تمكن معه رؤيته لولا المانع .
ثم اختلفوا : هل يجوز لمن علم ذلك فقط بالحساب أن يصوم أو يجوز له ولمن صدقه وقلده, أو يجب عليه وحده الصوم, أو يجب عليه وعلى من قلده؟ إلى غير هذا من الخلاف في فروع المسألة.
وقالوا : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فاقدروا له قدروا له منازل القمر وسيره, أو
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 13)(3/373)
سير الكواكب؛ لتعرفوا وجوده أو عدمه, وإمكان رؤيته لولا المانع أو عدم إمكان رؤيته. قال النووي في [ المجموع ] ـ بعد أن ذكر خلاف العلماء في اعتبار الحساب وإثبات الأهلة وعدم اعتباره وجواز الصوم بذلك أو وجوبه أو منعه, وما يترتب على ذلك من إجزاء صوم من صام بالحساب عن الفريضة وعدم إجزائه ـ ما نصه :
( فحصل في المسألة خمسة أوجه:
أصحها: لا يلزم المنجم ولا الحاسب ولا غيرهما بذلك, لكن يجوز لهما دون غيرهما, ولا يجزئهما عن فرضهما.
والثاني : يجوز لهما ويجزئهما.
والثالث : يجوز للحاسب , ولا يجوز للمنجم.
والرابع: يجوز لهما ولغيرهما تقليدهما.
والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم ) ا هـ .
وليس يعنينا هنا ما ترتب على أصل الخلاف من تفريغ إجزاء صوم من صام عن فريضته أو عدم إجزائه عنها وإنما يعنينا هنا أصل الخلاف في اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وعدم اعتباره, وأدلة كل قول, ثم بالتفريع والتطبيق يعرف حكم الجزيئات والفروع؛ لذا اكتفينا بذكر أصل الخلاف .(3/374)
أدلة الأقوال ومناقشتها
أولا: أدلة من يقول بإثبات الشهور القمرية برؤية الهلال فقط :
أ - استدل الجمهور بأحاديث إثبات الهلال بالرؤية, ففيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم للرؤية والإفطار لها في قوله : صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685). صوموا لرؤيته, وأفطروا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 14)
لرؤيته , ونهى عن كل منهما عند عدمها في قوله: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). لا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه , وأمرهم إذا كان غيم أو نحوه ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة ثلاثين, ولم يأمرهم بالحساب, ولا بالرجوع إلى الحساب، بل حصر بطريق النفي والإثبات الشهر بالرؤية, فدل على أنه لا اعتبار شرعا لما سواها في إثبات الأهلة, وهذا تشريع من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عام للحاضر والباد, أبدا إلى يوم القيامة, ولو كان هناك أصل آخر للتوقيت لأوضحه لعباده؛ رحمة بهم, وما كان ربك نسيا.
واعترض عليه : بأن تعليق الحكم بثبوت رمضان والخروج منه بالرؤية معلل بوصف الأمة بأنها أمة أمية لا تحسب ولا تكتب, وقد زال عنها وصف الأمية بكثرة علماء النجوم وحساب منازل القمر, فيزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية, ويعتبر الحساب وحده أصلا أو يعتبر أصلا آخر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.(3/375)
وأجيب أولا : بأن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما اليوم بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر في الأغلب والكثير منها, كما كان قائما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرون الأولى في الأغلب منها بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر, فقد كان العلم بذلك معروفا عند العرب, لكن العارفون به قلة, كما أن العارفين به اليوم قلة بالنسبة لغيرهم, ومع ذلك لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم, فيجب أن يكون أمر المسلمين اليوم في هذا الحكم على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأجيب ثانيا : بأن الرؤية أمر عام؛ لتيسرها لسواد الأمة ومعظمها, فكان تعليق حكم صوم الشهر والإفطار منه بها أيسر للأمة, وأوفق بمقاصد
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 15)
الشريعة, فإنها الحنيفية السمحة, بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب, والعلماء به قليل بالنسبة لسواد الأمة, فإنه يلزمهم ما لا يخفى من الحرج الذي يتنافى مع مقاصد الشريعة.
واعترض عليها أيضا : بأن لفظ الرؤية وإن كان خاصا حسب ظاهره بما يكون بالبصر فإن معناه عام, إذا القصد العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال مفارقا للشمس بعد اجتماعه بها وتأخره عنها بعد الغروب أو بوجوده مع إمكان رؤيته, لا خصوص الرؤية بالبصر, فإن الرؤية اعتبرت لكونها وسيلة للعلم أو غلبة الظن, وهذا لا يمنع من أن تكون هناك وسيلة أخرى في معناها يعرف بها وجود الهلال فقط, أو وجوده مع إمكان رؤيته, فإذا وجدت اعتبرت, وقد تحقق هذا في علم النجوم ومنازل القمر.
ويمكن أن يجاب : بأن الرؤية في الحديث بصرية؛ لتعديها لمفعول واحد, ولأن الصحابة فهموا ذلك, وجرى عليه العمل في عهدهم, ولو كان معنى الرؤية أوسع من لفظها لكان الصحابة أفهم له منا, ولرجعوا عند الحاجة إلى الحساب؛ لوجودهم بين أظهرهم, وإن كانوا قلة.(3/376)
قال ابن بزيزة : نهت الشريعة عن الخوض في علوم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع, ولا ظن غالب, مع أنها لو ارتبط الأمر بها لضاق الأمر, إذ لا يعرفها إلا القليل.
وقال ابن بطال وغيره: معنى الحديث: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة, إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة, وأمور ظاهرة, يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم.
2 - واستدلوا أيضا : بقوله تعالى سورة البقرة الآية 189 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 16)
قال ابن تيمية رحمه الله : فجعل الله تعالى الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة في الشرع ابتداء أو سببا من العبادة, وللأحكام التي تثبت بشروط العبد, فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له, وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة, وخص الحج بالذكر؛ تمييزا له, ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم, ولأنه يكون في آخر شهور الحول, فيكون علما على الحول, كما كان الهلال علما على الشهر, ولهذا يسمون الحول حجة. ا هـ . بتصرف.
لكن توجيه الاستدلال بالآية مجمل؛ ولذلك يمكن للمخالف أن يقول: الأهلة مواقيت للناس والحج عن طريق معرفة وجود الهلال بحساب النجوم ومنازل القمر, كما يحتمل أن تكون مواقيت عن طريق رؤية الهلال بالبصر, ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال, وإذا لا بد من الرجوع في الاستدلال بالآية إلى الأحاديث التي أوضحت أن ثبوت الشهر القمري إنما هو برؤية الهلال وألغت اعتبار ما سواه, كما تقدم في الدليل الأول.(3/377)
3 - واستدلوا أيضا : بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإكمال العدة ثلاثين, إذا كان غيم أو نحوه مما يمنع عادة من رؤية الهلال, ولم يأمرهم بالحساب ولا بالرجوع إلى الحساب, ولو كان علم النجوم أو حساب سير القمر معتبرا شرعا وأصلا يرجع إليه ـ لعرفهم به, وأرشدهم إليه, إذ لا يجوز تأخير
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 17)
البيان عن وقت الحاجة.
واعترض عليه : بأن في الحديث أمرا بالرجوع إلى الحساب إذا كان غيم ليلة الثلاثين , فإن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فإن غم عليكم فاقدروا له : فإن حال دون الهلال سحاب أو نحوه فاقدروا منازل القمر وسير الكواكب, واعرفوا لحساب ذلك مفارقته الشمس بعد اجتماعه بها, وتأخره عنها بعد غروبها هذه الليلة.
وأجيب أولا : بأن تفسير هذه الرواية بما ورد في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصوم (1808). فأكملوا العدة الثلاثين يرد تفسيره بما ذكره المعترض.
وثانيا : بأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وخطابه للأمة يحمل على معهود العرب في كلامهم وخطابهم, ولم يعهد من الصحابة الرجوع إلى الحساب, ولا كان من عادتهم ذلك, فحمل كلامه على الأمر بتقدير سير الكواكب أو القمر بعيد عما ألف لديهم, وعما جرى به العمل عندهم.
4 - واستدلوا أيضا : بقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1814),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2140),سنن أبو داود الصوم (2319),مسند أحمد بن حنبل (2/43). إنا أمة أمية, لا نكتب ولا نحسب ... الحديث.(3/378)
قالوا : فلو جعل علم النجوم وحساب سير القمر ومعرفة منازله أصلا, يرجع إليه في بدء شهر الصوم ونهايته, وبدء شهر الحج ـ لكان فيه حرج ومشقة, والشريعة الإسلامية شريعة سمحة بنيت على التيسير ورفع الحرج, فلا تعلق أحكامها بما يشق على المسلمين معرفته؛ كعلم النجوم والحساب.
واعترض عليه بما تقدم في الاعتراض على الدليل الأول : من أن وصف الأمية قد زال؛ لكثرة علماء النجوم, وحساب منازل القمر, والحكم يدور
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 18)
مع علته وجودا وعدما, فوجب اعتبار علم النجوم والحساب فقط, أو اعتباره أصلا آخر في معرفة الشهور والسنين القمرية.
وأجيب عنه بما تقدم : قال ابن تيمية بعد أن ذكر أحاديث الاعتماد على الرؤية فقط في إثبات الشهور القمرية: ( فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور:
أحدها : أن قوله: صحيح البخاري الصوم (1814),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2140),سنن أبو داود الصوم (2319),مسند أحمد بن حنبل (2/43). إنا أمة أمية, لا نكتب ولا نحسب هو خبر تضمن نهيا, فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط, أمية لا تكتب ولا تحسب, فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم, بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة, فيكون قد فعل ما ليس من دينها, والخروج عنها محرم منهي عنه, فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما, وهذا كقوله صحيح البخاري الإيمان (10),صحيح مسلم الإيمان (40),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996),سنن أبو داود الجهاد (2481),مسند أحمد بن حنبل (2/192),سنن الدارمي الرقاق (2716). المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده أي : هذه صفة المسلم, فمن خرج عنها خرج عن الإسلام , ومن خرج عن بعضها خرج عن الإسلام في ذلك البعض ) انظر [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ] ( 25/164, 165 ) .(3/379)
ثم رد احتمال أن تكون هذه الجملة خبرا أريد به الإنشاء مجازا, وأن تكون خبرا محضا, واختار أن تكون خبرا حقيقة استلزم نهيا عن الاعتماد على كتابة الجداول وعلى حساب سير الكواكب؛ لمعرفة مواقيت العبادات ونحوها, وبين متى تكون الأمية محمودة ومتى تكون مذمومة.
ثم قال : ( إذا تبين هذا فكتاب أيام الشهر وحسابه من هذا الباب , كما
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 19)
قدمناه, فإن من كتب مسير الشمس والقمر بحروف ( أبجد) ونحوها, وحسب كم مضى من مسيرها, ومتى يلتقيان ليلة الاستسرار, ومتى يتقابلان ليلة الإبدار ونحو ذلك, فليس في هذا الكتاب والحساب من الفائدة إلا ضبط المواقيت التي يحتاج إليها الناس في تحديد الحوادث والأعمال، ونحو ذلك، كما فعل ذلك غيرنا من الأمم، فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب - كما يفعلونه بالجداول، أو بحروف الجمل، وكما يحسبون مسير الشمس والقمر، ويعدلون ذلك ويقومونه بالسير الأوسط، حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والإبدار، وغير ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب، ولا نحسب هذا الحساب، فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه.
وقد قدمنا فيما تقدم: أن النفي وإن كان على إطلاقه يكون عاما، فإذا كان في سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو أم عام؟ فلما قرن ذلك بقوله: "الشهر ثلاثون" و"الشهر تسعة وعشرون" بين أن المراد به: أنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك، والفارق بينهما هو الرؤية فقط، ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه، فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربون ذلك، فيصيبون تارة، ويخطئون أخرى ) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25/ 173، 174). .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 20)(3/380)
5 - واستدلوا أيضا : بإجماع الأمة قبل وجود المخالفين على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في ذلك عند الغيم ونحوه، وأما في الصحو فلم يعرف عن مسلم أنه قال باتباع الحساب في إثبات الأهلة، أو بتعليق عموم الحكم العام به [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25/133) من (رسالة الهلال). .(3/381)
ثانيا: أدلة من يعتبر الحساب في إثبات الشهور القمرية :
1 - استدل من اعتبر الحساب في إثبات الشهر : بأن الله تعالى جعل الشمس والقمر والنجوم آيات للناس، وامتن بذلك على عباده، ولفت النظر إلى الاعتبار بها والانتفاع بأحوالها وبجريانها بحساب لا خلل فيه ولا اضطراب، قال تعالى: سورة يونس الآية 5 هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وقال: سورة الإسراء الآية 12 وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا وقال: سورة الرحمن الآية 5 الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقينا بعد غروب شمس التاسع والعشرين وتأخره عنها أو وجوده مع إمكان رؤيته لولا المانع، وأخبرنا عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر- وجب قبول خبرهم؛ لبناء علمهم على الحس والمشاهدة، ولأنهم لا يمكنهم التواطؤ على
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 21)
الكذب؛ لبلوغ المخبرين منهم عدد التواتر، وعلى تقدير أن عددهم لم يبلغ مبلغ التواتر فخبرهم يفيد غلبة الظن بوجود الهلال، أو وجوده مع إمكان رؤيته بعد غروب الشمس، وغلبة الظن كافية لبناء العمل عليها، فوجب قبول قولهم، والتسليم لهم في التوقيت في العبادات والمعاملات.(3/382)
وأجيب : بأنا نسلم أن الشمس والقمر والنجوم آيات للناس، وأن الاعتبار بها والانتفاع بالتفكير في أحوالها وفي جريانها بنظام واجب؛ لنجد في ذلك من الدلائل ما ينير القلوب، ويثبت العقيدة الصحيحة، ويبعث في النفوس الطمأنينة إلى ربها، ونعتبر بما نراه من مشاهد الكون وعجائبه، لكنه سبحانه لم يكلفنا بمعرفة حساب سيرها؛ لنعرف منه مواقيت عباداتنا ومعاملاتنا، وليكون علما على تجديدها؛ رحمة منه تعالى بعباده، فإن حساب سيرها خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، ومع ذلك يكثر فيه الغلط والاضطراب، فأناط الشارع التكاليف بعلامات أخرى؛ كرؤية الهلال، وطلوع الشمس وغروبها، ومغيب الشفق، وانفلاق الفجر ونحوها مما يظهر لعامة الناس ويضبطون به مواقيت عباداتهم، وآجال معاملاتهم ومواعيدهم، وبذلك يعرف عدد السنين والشهور والأيام، لا بحساب سير الكواكب.
أما علم جماعة من الحساب وجود الهلال يقينا على الحال التي ذكر المستدل لبناء علمهم على الحس والمشاهدة - فممنوع؛ لوجود الاختلاف والاضطراب في حسابهم، وهذا مما يدل على غلطهم، وليس علمهم الحساب مبنيا على حس ومشاهدة، إذ المشاهد الذي أحسوه إنما هو أجرام الكواكب، أما تقدير سيرها فمن عمل العقل لا الحس، وكثيرا ما يقع فيه
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 22)
الخطأ والاضطراب، وعلى ذلك يكون إخبار عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر لا يفيد القطع واليقين بصحة ما أخبروا به؛ لأن من شرط إفادة المتواتر للقطع انتهاءه إلى الحس، وهؤلاء يستندون في خبرهم إلى تقدير سير الكواكب وحسابه، وهو عقلي لا يؤمن وقوع الغلط فيه، كما وقع في أخبار الفلاسفة بقدم العالم. ثم إعراض الشارع عنه دليل على إلغائه وعدم صلاحيته، وأنه لا يفيد ظنا غالبا، بل ينتهي بهم إلى خرص وتخمين في حسابهم وأحكامهم.
وإليكم جملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (رسالة الهلال) [مجموع الفتاوى] (25/181-186). .(3/383)
قال رحمه الله بعد بيان رأي من يعتمد في معرفة أول رمضان على معرفة رابع رجب في السنة أو معرفة خامس رمضان في العام السابق، أو يعتمد على جدول حسابي يصنعه لنفسه أو يصنعه غيره:
( وأما الفريق الثاني فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فاقدروا له تقدير حساب بمنازل القمر، وقد روي عن محمد بن سيرين قال: خرجت في اليوم الذي شك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ منه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلا كان يحسب ويأخذ الحساب، ولو لم يعلمه كان خيرا له، وقد قيل: إن الرجل: مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو رجل جليل القدر، إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء.
وقد حكي هذا القول عن أبي العباس ابن سريج أيضا. وحكاه بعض المالكية عن الشافعي : أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 23)
ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة، وغم عليه - جاز له أن يعتقد الصيام - ويبيته ويجزئه ، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة، وإنما كان قد حكي عن ابن سريج - وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي - نسبة ذلك إليه إذ كان هو القائل بنصر مذهبه.(3/384)
واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1814),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2140),سنن أبو داود الصوم (2319),مسند أحمد بن حنبل (2/43). إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب ، فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب. وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر ولياليه. وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلا، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها أيضا، فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما، بل لا يمكن أن يكون إلى معرفته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب، مثل أن يقال: إن رئي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام، وإن لم ير صبيحة ثمان وعشرين فهو ناقص. وهذا بناء على أن الاستسرار لليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليال أخرى.
وهذا الذي قالوه إنما هو بناء على أنه كل ليلة لا يمكث في المنزلة إلا ستة أسباع ساعة لا أقل ولا أكثر، فيغيب ليلة السابع نصف الليل ويطلع ليلة أربعة عشر من أول الليل إلى طلوع الشمس، وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل، وليلة الثامن والعشرين إن استسر فيها نقص وإلا كمل، وهذا غالب سيره، وإلا فقد يسرع ويبطئ.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 24)(3/385)
وأما العقل معطوف على قوله قبل: أما السمع. : فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة، أو لا يرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك، أو لا يمكن بعض الأوقات؛ ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم: الروم، والهند، والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء، ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا، ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام: مثل: كوشيار الديلمي، وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم. وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم مثل أبي علي المروزي القطان وغيره، وقالوا: إنه تشوق بذلك عند المسلمين، وإلا فهذا لا يمكن ضبطه.
ولعل من دخل في ذلك منهم كان مرموقا بنفاق، فما النفاق من هؤلاء ببعيد، أو يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال، ممن يحسن ظنه بالحساب، مع انتسابه للإسلام.
وبيان امتناع ضبط ذلك: أن الحاسب إنما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر، وجريهما أنهما يتحاذيان في الساعة الفلانية في البرج الفلاني في السماء المحاذي للمكان الفلاني من الأرض، سواء كان الاجتماع من ليل أو نهار وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار، وقبل الاستهلال، فإن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين، كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين؛ لمحاذاته لها، فإذا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 25)
خرج من تحتها جعل الله فيه النور ثم يزداد النور، كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها، إلى أن يجامعها؛ ولهذا يقولون: الاجتماع والاستقبال، ولا يقدرون أن يقولوا: الهلال وقت المفارقة على كذا. يقولون: الاجتماع وقت الاستسرار، والاستقبال وقت الإبدار.(3/386)
ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحساب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار، فإن هذا يضبط بالحساب.
وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط؛ لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة؛ وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة ؛ لتحول الأرض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين.
فنقول : الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلا أن القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية، وأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر، إما بعشر درجات مثلا، أو أقل أو أكثر، والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 26)
فإنهم قسموه اثني عشر قسما سموها: (الداخل): كل برج اثنتا عشرة درجة، وهذا غاية معرفته، وهي بتحديد كم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين. هذا الذي يضبطه بالحساب.
أما كونه يرى أولا يرى فهذا أمر حسي طبيعي، ليس هو أمرا حسابيا رياضيا، وإنما غايته أن يقول: استقرأنا: أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا أو لا يرى قطعا - فهذا جهل وغلط، فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات، بل إذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه .(3/387)
ثم ذكر اختلاف الرؤية باختلاف حدة البصر وكلاله، وباختلاف كثرة المترائين وقلتهم، وباختلاف مكان الترائي ارتفاعا وانخفاضا، وباختلاف وقت الترائي، وباختلاف صفاء الجو وكدره، ثم قال: ( فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب، فكيف يمكنه مع ذلك أن يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات أو تسع، أم كيف يمكنه أن يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا؟ !) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25/186- 190). إلى أن قال: ( فتبين بهذا البيان: أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام وأضعف ).
وبعد أن ذكر اعتراف حذاق المنجمين بأن أحكامهم مبناها على الحدس والوهم قال: ( فتبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 27)
واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ ولهذا قال من قال: إن كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وأن بعض الظن إثم ولقد صدق، فإن الإنسان الحاسب إذا قتل نفسه في حساب الدقائق والثواني كان غايته ما لا يفيد، وإنما تعبوا عليه؛ لأجل الأحكام، وهي ظنون كاذبة ) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25/200- 201). ا هـ.
2 - واستدلوا ثانيا : برجوع الفقهاء إلى أهل الخبرة في كثير من شئونهم، فنراهم يرجعون إلى الأطباء في جواز فطر المريض في رمضان، ويرجعون إلى علماء اللغة في فهم نصوص الكتاب والسنة، ورجعوا في تقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض وتقدير سن اليأس- إلى الحساب، إلى غير هذا من أمور، فيجب عليهم أن يرجعوا في بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى حساب النجوم ومنازل القمر.(3/388)
وأجيب : بوجود الفرق بين الرجوع إلى علماء الحساب والرجوع إلى الأطباء وعلماء اللغة فيما يخصهم .
وبيانه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في مسألتنا الرجوع إلى رؤية الأهلة ومنع الاعتماد على غيرها، فقال: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه ، ولم يمنع من الرجوع إلى الأطباء في تشخيص الأمراض وتقدير خطورتها وعلاجها، ولم يمنع من الرجوع إلى اللغة في فهم النصوص، بل
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 28)
أقر ذلك وجرى العمل عليه في عهده وعهد الصحابة، وكيف تفهم نصوص القرآن والسنة بدون اللغة العربية، وهي الوسيلة الوحيدة لذلك، أما ادعاء رجوع الفقهاء في تقدير مدة التأجيل فيما ذكر وفي تقدير سن اليأس إلى الحساب- فممنوع إن أريد به حساب النجوم ومنازل القمر وسيره، ومسلم إن أريد به الرجوع في تقدير ما ذكر إلى عد الشهور القمرية بناء على رؤية أهلتها، ويتبع هذا معرفة السنين، فإن السنة اثنا عشر شهرا بنص القرآن، وأما معرفة الأيام فراجعة إلى أمر حسي هو طلوع الشمس وغروبها.
وبهذا يتبين : أن الشرع لم يدلهم في ضبط شئونهم على أمر خفي، كحساب سير النجوم، بل دلهم على أمر ظاهر عام؛ كالرؤية، وطلوع الشمس وغروبها ودلوكها.
3 - واستدلوا أيضا : بقياس التوقيت في ثبوت شهر الصوم ابتداء وانتهاء على توقيت الصلوات الخمس، فكما جاز الاعتماد في معرفة أوقات الصلوات الخمس على الحساب فليجز الاعتماد عليه في معرفة وقت ابتداء صوم رمضان والفطر منه جملة، بل يجب عليهم أن يرجعوا إلى علماء حساب النجوم ومنازل القمر في بدء الشهور القمرية ونهايتها، كما رجعوا إلى الساعات الفلكية واعتمدوا عليها في معرفة الأوقات في البلاد التي يكون الليل أو النهار فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة.(3/389)
وأجيب : بما حكاه السبكي عن المانعين:
أولا : أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال الله تعالى:
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 29)
سورة الإسراء الآية 78 أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وفصلت السنة ذلك، وأناطه في الهلال برؤيته، فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر.
وثانيا : أن مقدمات الهلال خفية، ويكثر الغلط فيها، بخلاف الأوقات، ولا محذور في أن الهلال يعرف بالحساب وجوده وإمكان رؤيته، ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك، لكنه أناطه بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه.
وأما من يستمر الليل أو النهار عندهم أربعا وعشرين ساعة فأكثر فالصوم والصلوات واجبة عليهم، وأوقاتها في هذه البلاد منوطة بأوقات الصوم والصلوات في أقرب البلاد التي تتميز فيها مواقيت العبادات إليهم، وكذا تقدير مدة الإيلاء والعدة والآجال ونحوها.
4 - واستدلوا أيضا : بقوله تعالى: سورة البقرة الآية 185 فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إذ المعنى: فمن علم منكم دخول شهر رمضان بوجود الهلال بالأفق بعد غروب الشمس متأخرا عنها - وجب عليه الصوم، سواء أكان علمه بذلك عن طريق الرؤية أم عن طريق الحساب، مع إمكان الرؤية لولا المانع، وسواء أكان علمه بنفسه أم بإخبار غيره ممن يثق بخبره، وسواء أبلغ ذلك حد اليقين أم كان غلبة ظن.
وأجيب : بأن الشهود بمعنى: الحضور لا العلم، بدليل ذكر مقابله بعده، وهو قوله تعالى: سورة البقرة الآية 185 وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 30)(3/390)
وعلى تقدير تفسيره بالعلم - كما قيل- لم يكن في الآية حجة للمستدل؛ لأن المراد بالعلم: ما كان مستفادا من طريق الرؤية لا الحساب؛ لتعليق الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم والإفطار بالرؤية خاصة، ولجريان العمل على هذا خاصة، كما تقدم في أدلة من لا يعتبر علم الحساب في العبادات ونحوها.
5 - واستدلوا أيضا : بأن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان الاعتماد عليه في إثبات الأهلة ونحوها عند تيسره أقرب إلى الصواب في التوقيت، وأضمن لتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم، وأبعد عن الخلاف في معاملاتهم.
ويجاب بما تقدم : من أن اليقين في رؤيتهم للكواكب في السماء أو سماعهم بذلك، أما تقدير سيرها فعقلي عسير بعيد المنال وعر المسلك لخفائه؛ لهذا لم يعرفه إلا القليل، ووقع فيه الغلط والاضطراب فليس أقرب إلى الصواب، بل إنه لا يصلح الاعتماد عليه في إثبات الأهلة، وما وقع ويتوقع من الغلط ومن الاختلاف والاضطراب يمنع من تحقيقه للوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم ويبعد رفع الخلاف بينهم في المعاملات.
وأما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال من صحو وغيم، إلا لمن استعصى عليه العلم به - فمردود بالإجماع، وبما تقدم من الأدلة.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 31)
قال ابن تيمية : ( فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم ). [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25/133). .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
من أهم مراجع هذا البحث
1 - [المجموع] للنووي .
2 - [رسالة الهلال] لابن تيمية .
3 - [الموافقات] للشاطبي .(3/391)
4 - البحث التاسع من [مجموع رسائل الشيخ محمد بخيت المطيعي ].
5 - [رسالة ابن عابدين في الأهلة].(3/392)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 32)
قرار رقم (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناء على خطاب المقام السامي رقم (22451) وتاريخ 6/11/1391هـ المتضمن إحالة موضوع الأهلة إلى هيئة كبار العلماء نظرا إلى أن الموضوع عند دراسة مجلس رابطة العالم الإسلامي في جلسته المنعقدة في 15 شعبان عام 1391هـ واطلاعها على قرار اللجنة الفقهية المنبثقة من المجلس، قررت الموافقة على القول: بعدم اعتبار اختلاف المطالع، إلا أن بعض أعضاء المجلس التأسيسي رأى التريث في الأمر، وزيادة البحث والتقصي في هذا الموضوع.
بناء على ذلك عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع إثبات الأهلة المشتمل على الفقرتين التاليتين:
أ- حكم اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره .
ب- حكم إثبات الهلال بالحساب .
وكذا قرار رابطة العالم الإسلامي الصادر منها في دورتها الثالثة عشرة المنعقدة في شهر شعبان عام 1391هـ، ومرفقه بحث اللجنة الفقهية المشكلة من بعض أعضاء مجلس الرابطة في الموضوع. وبعد دراسة المجلس للموضوع وتداول الرأي فيه، قرر ما يلي :
أولا : اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 33)
وعقلا، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه .
ثانيا : مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجرا لاجتهاده.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره.(3/393)
واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: سورة البقرة الآية 189 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وبقوله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685). صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ... الحديث وذلك لاختلاف الفهم في النص، وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به.
وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرا لاعتبارات قدرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها. وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنا لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 34)
الأمية على رؤية واحدة - فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته .
ثالثا : أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب :(3/394)
فبعد دراسة ما أعدته اللجنة الدائمة في ذلك، وبعد الرجوع إلى ما ذكره أهل العلم- فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685). صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه الحديث.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
.... رئيس الدورة ... .
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... .(3/395)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 35)
قرار رقم (34) وتاريخ 14/2/1395هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد :
فبناء على خطاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم (4680) وتاريخ 23/2/1394هـ المتضمن: أمر جلالة الملك بإحالة خطاب أمين عام هيئة الدعوة والإرشاد في ( سورابايا ) بشأن توحيد مواقيت الصلاة والصوم والحج إلى هيئة كبار العلماء، وإشارة لخطاب سعادة وكيل وزارة الخارجية رقم (300/5/6 /855/3) في 15/1/1394هـ ومشفوعاته: ما تبلغته سفارة جلالة الملك في الجزائر من وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية من وثائق حول الاعتماد على الحساب الفلكي لتحديد مواقيت العبادات.
وبناء على المحضر رقم (7) من محاضر الدورة الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المشتمل على إعداد قرار مدعم بالأدلة يعرض على الهيئة في دورتها السادسة لإقراره.
وبعد دراسة المجلس للقرارات والتوصيات والفتاوى والآراء المتعلقة بهذا الموضوع وإعادة النظر في البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع توحيد أوائل الشهور القمرية، والاطلاع على القرار الصادر من الهيئة في دورتها الثانية برقم (2) وتاريخ 13/2/1393هـ ومداولة الرأي في ذلك كله- قرر ما يلي :(3/396)
أولا : أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل، وتقدير سير كل من الشمس والقمر وتحديد الأوقات بذلك؛ كوقت طلوع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 36)
الشمس ودلوكها وغروبها، واجتماع الشمس والقمر وافتراقهما، وكسوف كل منهما، وهذا هو ما يعرف بـ( حساب التسيير، وليس المراد بالتنجيم هنا الاستدلال بالأحوال الفلكية على وقوع الحوادث الأرضية؛ من ولادة عظيم أو موته، ومن شدة وبلاء، أو سعادة ورخاء، وأمثال ذلك مما فيه ربط الأحداث بأحوال الأفلاك علما بميقاتها، أو تأثيرا في وقوعها من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، وبهذا يتحرر موضوع البحث .(3/397)
ثانيا : أنه لا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءا وانتهاء بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعا، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله .(3/398)
ثالثا : أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين في إثبات بدء الشهور القمرية وانتهائها بالنسبة للعبادات فإن لم ير أكملت العدة ثلاثين بإجماع.
أما إذا كان بالسماء غيم ليلة الثلاثين: فجمهور الفقهاء يرون إكمال العدة ثلاثين؛ عملا بحديث: صحيح البخاري الصوم (1808). فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ، وبهذا تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فاقدروا له . وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه، وبعض أهل العلم إلى اعتبار شعبان في حالة الغيم تسعة وعشرين يوما احتياطا لرمضان، وفسروا رواية: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فاقدروا له : بضيقوا، أخذا من قوله تعالى: سورة الطلاق الآية 7 وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ أي: ضيق عليه رزقه.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 37)
وهذا التفسير مردود بما صرحت به رواية الحديث الأخرى الواردة بلفظ: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن أبو داود الصوم (2320). فاقدروا له ثلاثين ، وفي رواية أخرى: صحيح البخاري الصوم (1810). فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .(3/399)
وحكى النووي في شرحه على صحيح مسلم لحديث: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فإن غم عليكم فاقدروا له عن ابن سريج وجماعة، ومنهم مطرف بن عبد الله - أي: ابن الشخير - وابن قتيبة وآخرون- اعتبار قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري ابتداء وانتهاء، أي: إذا كان في السماء غيم.
وقال ابن عبد البر : روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه؛ لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله، وقال: ليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب. ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي، ثم قال ابن عبد البر : والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه. انتهى.
وبهذا يتضح: أن محل الخلاف بين الفقهاء إنما هو في حال الغيم وما في معناه. وهذا كله بالنسبة للعبادات، أما بالنسبة للمعاملات فللناس أن يصطلحوا على ما شاءوا من التوقيت .(3/400)
رابعا : أن المعتبر شرعا في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر لما يأتي:
أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685). صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ، وحصر ذلك فيها بقوله: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه ، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 38)(3/401)
الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم أصلا وحده أو أصلا آخر في إثبات الشهر- لأمر بالرجوع إليهم، فدل ذلك على أنه لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، سورة مريم الآية 64 وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية - مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة، وجرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت، ولا يصح أيضا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). فإن غم عليكم فاقدروا له أراد أمرنا بتقدير منازل القمر لنعلم بالحساب بدء الشهر ونهايته؛ لأن هذه الرواية فسرتها رواية: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن أبو داود الصوم (2320). فاقدروا له ثلاثين وما في معناه، ومع ذلك فالذين يدعون إلى توحيد أوائل الشهور يقولون بالاعتماد على حساب المنازل في الصحو والغيم، والحديث قيد القدر له بحالة الغيم.
ب - أن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة، ودعوى زوال وصف الأمية في علم النجوم عن الأمة لو سلمت لا يغير حكم الشرع في ذلك.(3/402)
ج - أن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 39)
ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فلم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه عول على الحساب في إثبات الأهلة أو علق الحكم العام به .(3/403)
خامسا : تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع، فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة؛ ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب .(3/404)
سادسا : لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد - كمكة مثلا - لتعتبر رؤية الهلال منه وحده، فإنه يلزم من ذلك أن لا يجب الصوم على من ثبتت رؤية الهلال عندهم من سكان جهة أخرى، إذ لم ير الهلال في المطلع المعين .(3/405)
سابعا : ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري . ويتبين ذلك بذكر أدلتهم ومناقشتها:
أ- قالوا : إن الله أخبر بأنه أجرى الشمس والقمر بحساب لا يضطرب، وجعلهما آيتين وقدرهما منازل؛ لنعتبر، ولنعلم عدد السنين والحساب، فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقينا وإن لم تمكن رؤيته بعد غروب شمس التاسع والعشرين أو وجوده مع إمكان الرؤية لولا المانع، وأخبرنا بذلك عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر - وجب قبول خبرهم؛ لبنائه على يقين، واستحالة الكذب على المخبرين؛ لبلوغهم حد التواتر، وعلى تقدير أنهم لم يبلغوا حد التواتر وكانوا عدولا فخبرهم يفيد غلبة الظن، وهي كافية في بناء أحكام العبادات عليها.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 40)
والجواب : أن يقال: إن كونها آيات للاعتبار بها والتفكير في أحوالها للاستدلال على خالقها ومجريها بنظام دقيق لا خلل فيه ولا اضطراب، وإثبات ما لله من صفات الجلال والكمال - أمر لا ريب فيه.
أما الاستدلال بحساب سير الشمس والقمر على تقدير أوقات العبادات فغير مسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بتفسير كتاب الله - لم يعلق دخول الشهر وخروجه بعلم الحساب، وإنما علق ذلك برؤية الهلال أو إكمال العدة في حال الغيم، فوجب الاقتصار على ذلك، وهذا هو الذي يتفق وسماحة الشريعة وسهولتها مع ما فيه من الدقة والضبط، بخلاف تقدير سير الكواكب فإن أمره خفي عقلي لا يدركه إلا النزر اليسير من الناس، ومثل هذا لا تبنى عليه أحكام العبادات.
ب - وقالوا : إن الفقهاء يرجعون في كثير من شئونهم إلى أهل الخبرة فيرجعون إلى الأطباء في فطر المريض في رمضان، وتقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض، وإلى أهل اللغة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشئون، فليرجعوا في معرفة بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى علماء النجوم.(3/406)
والجواب : أن يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الشرع إنما جاء بالرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم في المسائل التي لا نص فيها. أما إثبات الأهلة فقد ورد فيه النص باعتبار الرؤية فقط، أو إكمال العدة دون الرجوع فيه إلى غير ذلك.
ج- وقالوا : إن توقيت بدء الشهر القمري ونهايته لا يختلف عن توقيت الصلوات الخمس وبدء صوم كل يوم ونهايته، وقد اعتبر الناس حساب
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 41)
المنازل علميا في الصلوات والصيام اليومي فليعتبروه في بدء الشهر ونهايته.
وأجيب : بأن الشرع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: سورة الإسراء الآية 78 أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وقال: سورة البقرة الآية 187 وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وفصلت السنة ذلك، وأناطت وجوب صوم رمضان برؤية الهلال ولم تعلق الحكم في شيء من ذلك على حساب المنازل، وإنما العبرة بدليل الحكم.
د- وقالوا : إن الله تعالى قال: سورة البقرة الآية 185 فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إذ المعنى: فمن علم منكم الشهر فليصمه، سواء كان علم ذلك عن طريق رؤية الهلال مطلقا أو عن طريق علم حساب المنازل.
والجواب : أن يقال: إن معنى الآية: فمن حضر منكم الشهر فليصمه، بدليل قوله تعالى بعده: سورة البقرة الآية 185 وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وعلى تقدير تفسير الشهود بالعلم، فالمراد: العلم عن طريق رؤية الهلال، بدليل حديث: صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684). لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه .(3/407)
هـ- وقالوا : إن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 42)
الاعتماد عليه في إثبات الشهور القمرية أقرب إلى الصواب وتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم.
وأجيب : بأن ذلك غير مسلم؛ لأن الحس واليقين في مشاهدة الكواكب لا في حساب سيرها، فإنه أمر عقلي خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، كما تقدم؛ لحاجته إلى دراسة وعناية، ولوقوع الغلط والاختلاف فيه، كما هو الواقع في اختلاف التقاويم التي تصدر في كثير من البلاد الإسلامية، فلا يعتمد عليه ولا تتحقق به الوحدة بين المسلمين في مواقيت عباداتهم.
و- وقالوا : إن تعليق الحكم بثبوت الشهر على الأهلة معلل بوصف الأمة بأنها أمية، وقد زال عنها هذا الوصف، فقد كثر علماء النجوم، وبذلك يزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلا، أو يعتبر أصلا آخر إلى جانب الرؤية.
والجواب : أن يقال: إن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما بالنسبة لعلم سير الشمس والقمر وسائر الكواكب، فالعلماء به نزر يسير، والذي كثر إنما هو آلات الرصد وأجهزته، وهي مما يساعد على رؤية الهلال في وقته، ولا مانع من الاستعانة بها علة الرؤية وإثبات الشهر بها، كما يستعان بالآلات على سماع الأصوات، وعلى رؤية المبصرات، ولو فرض زوال وصف الأمية عن الأمة في علم الحساب - لم يجز الاعتماد عليه في إثبات الأهلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، أو إكمال العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب واستمر عمل المسلمين على ذلك بعده.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 43)
حرر في 14/2/1395هـ.
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة السادسة
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن ... عبد الله بن منيع(3/408)
له وجهة نظر مرفقة ... لي وجهة نظر مكتوبة ... له وجهة نظر مرفقة
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
محمد الحركان ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
صالح بن لحيدان ... عبد الله خياط ... راشد بن خنين(3/409)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 44)
وجهة نظر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد :
فقد استعرضنا البحوث المقدمة للمجلس في موضوع (حكم العمل بالحساب في ثبوت دخول الشهر أو خروجه ) وقرارات المؤتمرات المنعقدة؛ لبحث ذلك الموضوع، وأعدنا النظر في البحث المعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في ذلك، ولم نجد فيما اطلعنا عليه من البحوث المذكورة بحثا في الموضوع من أهل الاختصاص في علم الفلك.
وقد رأينا في تلك البحوث من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي قطعية الدلالة وينكر أن تكون مبنية على ظن أو تخمين، كما وجدنا فيهم من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي مبنية على الحدس والظن والتخمين وينكر قطعية نتائجها. وليس في الفريقين من يعتبر أهلا لقبول قوله في قطعية النتائج أو ظنيتها؛ لكونه ليس من علماء الفلك.
وحيث إن الحكم في رأينا يختلف بالنسبة للأمرين: قطعية النتائج أو ظنيتها، حيث إن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي يقضي برد الشهادة برؤية الهلال دخولا أو خروجا إذا تعارضت معها؛ لأن من شروط اعتبار الشهادة بالإجماع: أن تكون منفكة عما يكذبها حسا وعقلا، فإذا قرر الحساب الفلكي عدم ولادة الهلال، وجاء من يشهد برؤيته - كانت شهادته ملازمة لما يكذبها عقلا، وهو القول باستحالة الرؤية للقطع بعدم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 45)
ولادة الهلال، كما أن القول بظنية النتائج يقضي بردها - أي: النتائج - واعتبار الشهادة بالرؤية؛ لإمكانها، وظنية النتائج الفلكية، وذلك في حال تعارض الشهادة بالرؤية مع نتائج الحساب.(3/410)
ونظرا إلى أن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها من قبيل الدعوى من الطرفين، وأن القول في الأمور الشرعية يقتضي التحقق والتثبت والاستقصاء - فقد طلبنا من المجلس استقدام أصحاب اختصاص في علم الفلك؛ لمناقشتهم في ذلك والتحقق منهم فيما يدعيه الطرفان، كما تقضي بذلك المادة ( ) من لائحة أعمال المجلس، فرأى المجلس بالأكثرية عدم الحاجة إلى استقدامهم.
وعليه فإننا نؤكد ضرورة استقدام خبراء في علم الفلك لتحقق دعوى قطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها، وعلى ضوء ذلك نقرر ما نراه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 14/2/1395هـ.
عضو الهيئة ... عضو الهيئة ... عضو الهيئة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن(3/411)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 46)
قرار رقم (108) وتاريخ 2/11/1403هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الثانية والعشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداء من العشرين من شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403هـ بحث المجلس موضوع إنشاء مراصد فلكية يستعان بها عند تحري رؤية الهلال، بناء على الأمر السامي الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (4/ص/19524) وتاريخ 18/8/1403هـ، والمحال من سماحته إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (2652/1/د)، وتاريخ 1/9/1403هـ واطلع على قرار اللجنة المشكلة بناء على الأمر السامي رقم (6/2) وتاريخ 2/1/1403هـ، والمكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء وأعضاء الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، والشيخ محمد بن عبد الرحيم الخالد، ومندوب جامعة الملك سعود الدكتور فضل أحمد نور محمد، والتي درست موضوع الاستعانة بالمراصد على تحري رؤية الهلال، وأصدرت في ذلك قرارها المؤرخ في 16/5/1403هـ المتضمن:
أنه اتفق رأي الجميع على النقاط الست التالية:
1 - إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 47)
2 - إذا رئي الهلال بالعين المجردة، فالعمل بهذه الرؤية، وإن لم ير بالمرصد.(3/412)
3 - إذا رئي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية بواسطة المنظار تعين العمل بهذه الرؤية، ولو لم ير بالعين المجردة؛ وذلك لقول الله تعالى: سورة البقرة الآية 185 فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ولعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1808),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن ابن ماجه الصيام (1654),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1690). لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: سنن النسائي الصيام (2117). صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم . . . الحديث يصدق أنه رئي الهلال، سواء كانت الرؤية بالعين المجردة أم بها عن طريق المنظار، ولأن المثبت مقدم على النافي.
4 - يطلب من المراصد من قبل الجهة المختصة عن إثبات الهلال تحري رؤية الهلال في ليلة مظنته، بغض النظر عن احتمال وجود الهلال بالحساب من عدمه .
5 - يحسن إنشاء مراصد متكاملة الأجهزة للاستفادة منها في جهات المملكة الأربع، تعين مواقعها وتكاليفها بواسطة المختصين في هذا المجال.
6 - تعميم مراصد متنقلة؛ لتحري رؤية الهلال في الأماكن التي تكون مظنة رؤية الهلال، مع الاستعانة بالأشخاص المشهورين بحدة البصر، وخاصة الذين سبق لهم رؤية الهلال . ا هـ.
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 48)
وبعد أن قام المجلس بدراسة الموضوع ومناقشته ورجع إلى قراره رقم (2) الذي أصدره في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان من عام 1394هـ في موضوع الأهلة قرر بالإجماع: الموافقة على النقاط الست التي توصلت إليها اللجنة المذكورة أعلاه، بشرط أن تكون الرؤية بالمرصد أو غيره ممن تثبت عدالته شرعا لدى القضاء كالمتبع، وأن لا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر أو خروجه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(3/413)
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد المجيد حسن ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
محمد بن جبير ... عبد الله بن قعود ... .
أوافق على النقاط الخمس من قرار ... .... .
اللجنة أما النقطة الثانية فلا أوافق عليها ... .... .(3/414)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 49)
(2)
بيان حكم إحياء ديار ثمود
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 50)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 51)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
هذا بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود : فمن العلماء من منعه ، ومنهم من أجازه ، ولكل منهما مستند .
وفيما يلي بيان لبعض القائلين بكل قول ، وبيان أدلتهم ، ووجه الدلالة منها ، والمقارنة بين الأدلة ، وذكر بعض النظائر ، ويختم البحث بذكر حكمة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود ، ثم بعد ذلك قائمة بأسماء المصادر التي أعد هذا البحث منها ، والله ولي التوفيق .
أما القائلون بالمنع : فمنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي ، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، ومحمود بن أحمد العيني ، ومحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية ، والإمام أحمد ، والحارثي وغيرهم ، واستدلوا بما أخرجه البخاري في [ صحيحه ] بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : صحيح البخاري المغازي (4157),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/96). لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 52)(3/415)
قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي [ فتح الباري ] ، الجزء 8 ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك 125 ، رقم الحديث ( 4419 ) . وأخرج أيضا بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980). لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم [ فتح الباري ] ، الجزء 8 ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك 125 ، رقم الحديث ( 4420 ) . .
وأخرج البخاري أيضا بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصلاة (423). لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، لا يصيبكم ما أصابهم .
وأخرج البخاري في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198),مسند أحمد بن حنبل (2/117). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء .
وقال البخاري : ويروى عن سبرة بن معبد ، وأبي الشموس ، صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198). أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام ، وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198). من اعتجن بمائه .
ثم ساق البخاري بسنده ، عن عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره : أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 53)(3/416)
واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة ، تابعه أسامة عن نافع .
ثم ساق البخاري بسنده ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه رضي الله عنه ، صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3200),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/66). أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل .
ثم ساق البخاري بسنده عن سالم ، أن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3201),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/117). لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم .
هذه الأدلة التي سبقت ؛ منها ما أخرجه البخاري مسندا ، ومنها ما رواه معلقا بصيغة التمريض ، ومنها ما رواه بصيغة الجزم ، ومنها ما ذكره على سبيل المتابعة .
أما ما ذكره مسندا فقد أشير إليه فيما سبق ، وأما ما رواه معلقا بصيغة التمريض فإنه ذكر حديثين بين ابن حجر رحمه الله اتصال سند كل منهما فقال : أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة - وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة - الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 54)
راح من الحجر : من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة ، أو حاس به حيسا فليلقه .(3/417)
وأما حديث أبي الشموس - وهو بمعجمة ، ثم مهملة ، وهو بكري لا يعرف اسمه ، فوصل حديثه البخاري في [ الأدب المفرد ] والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - فذكر الحديث - وفيه فألقى ذو العجين عجينه ، وذو الحيس حيسه ، ورواه ابن أبي عاصم ، من هذا الوجه ، وزاد فقلت : يا رسول الله قد حسيت حيسة ، أفألقمها راحتلي ؟ قال : نعم .
وأما المعلق بصيغة الجزم فهو حديث واحد ، قال ابن حجر ، وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه ، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأتوا على واد ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنكم بواد ملعون ، فأسرعوا وقال : من اعتجن عجينة أو طبخ قدرا فليكبها الحديث ، وقال : لا أعلمه إلا بهذا الإسناد .
وأما ما أخرجه البخاري على سبيل المتابعة فقد قال ابن حجر [ فتح الباري ] ( 6 / 380 ) ، كتاب أحاديث الأنبياء . قوله : ( تابعه أسامة ) يعني : ابن زيد الليثي ، ( عن نافع ) أي : عن ابن عمر روينا هذه الطريق موصولة في حديث حرملة عن ابن وهب قال : أخبرنا أسامة بن زيد - فذكر حديث عبيد الله ، وهو ابن عمر العمري ، وفي آخره : وأمرهم أن ينزلوا على بئر ناقة صالح ويستقوا منها .
هذه أدلة القائلين بالمنع ، أما وجه استدلالهم بها فقد قال
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 55)
الخطابي [ الكرماني على البخاري ] ( 4 / 95 ) ، كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب . : وفيه دلالة على أن مساكن هؤلاء لا تسكن بعدهم ، ولا تتخذ وطنا ؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه دهره باكيا أبدا ، وقد نهي أن تدخل دورهم إلا بهذه الصفة ، وفيه المنع من المقام بها والاستيطان .
انتهى بواسطة نقل الكرماني عنه .(3/418)
وقال ابن حجر [ فتح الباري ] ، ( 1 / 531 ) ، كتاب الصلاة . : وفي الحديث الحث على المراقبة ، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين ، والإسراع عند المرور بها .
وذكر العيني [ عمدة القاري ] ( 4 / 191 ) كتاب الصلاة وجه الدلالة ، كما ذكره الخطابي ، إلا أنه أبدل لفظة ( مساكن ) التي ذكرها الخطابي - أبدلها بقوله : ( ديار ) ، كما ذكر الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر .
وقال ابن القيم [ زاد المعاد ] ( 3 / 26 ) غزوة تبوك . : ومنها : أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ، ولا يقيم بها ، بل يسرع السير ، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا .
وقال محمد بن مفلح [ الفروع ] ( 6 / 301 ) كتاب الأطعمة . : وسأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به ؟ قال : لا ، إلا من ضرورة ، لا يقيم بها . انتهى .
وقال مرعي بن يوسف [ غاية المنتهى ، وشرحها مطالب أولى النهي ] ( 4 / 179 ) ، باب إحياء الموات . ، ومصطفى السيوطي : ( قال الحارثي : مساكن ) ديار ( ثمود ) لا تملك ؛ لعدم دوام البكاء مع السكنى ، ( ومع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 56)
الانتفاع ) على رواية الأظهر خلافها . انتهى .
وكما استدل بتلك الأدلة التي سبقت على منع إحياء ديار ثمود أخذا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلا في حالة البكاء دائما ما دام فيها ، وأن هذا متعذر ، ومن كونه صلى الله عليه وسلم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي فقد أخذ منها أيضا منع الأحياء من وجه آخر ، وهو منع الصلاة فيها ، والطهارة من مائها ، والتيمم بترابها ، واستعمال مائها للشرب والطبخ ، وهذه الطائفة من كلام أهل العلم في ذلك :(3/419)
قال البخاري [ فتح الباري ] ( 1 / 530 ) . في [ صحيحه ] ، باب الصلاة في مواضع الخسف ، العذاب ، وذكر على أثر علي الدال على منع الصلاة في مواضع الخسف ، ثم ذكر حديث النهي عن دخول ديار ثمود إلا في حالة البكاء .
فهذا يدل على أن البخاري يرى منع الصلاة فيها .
ونقله العيني [ عمدة القاري ] ( 4 / 190 ) ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب . عن أبي بكر بن العربي المالكي .
وقال القرطبي [ تفسير القرطبي ] ( 10 / 47 ) سورة الحجر . : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع ، وقال : لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنها دار سخط ، وبقعة غضب .
وقد سبق قول الإمام أحمد رحمه الله ( لا يقيم فيها ) ، وهذا يدل على أن يرى منع الصلاة فيها .
هذا بالنسبة لمنع الصلاة فيها .
وأما عدم جواز استعمال مائها للطهارة والشرب والطبخ ، وكذلك
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 57)
استعمال التراب للتيمم - فقد قال القرطبي [ تفسير القرطبي ] ( 1 / 46 ) ، سورة الحجر . : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به ؛ لأنه ماء سخط ، فلم يجز الانتفاع به ؛ فرارا من سخط الله ، وقال : اعلفوه الإبل . قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ، إذا لا تكليف عليها .
وقال النووي [ المجموع شرح المهذب ] ( 1 / 137 ) ، كتاب الطهارة . بعد سياق الأدلة : قلت : فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام إلا لضرورة ؛ لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها ، وقد قال الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فيمنع استعمال آبار ثمود إلا بئر الناقة ، ولا يحكم بنجاستها ؛ لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة ، والماء طهور بالأصالة .
وقال موسى بن أحمد بن سالم المقدسي ، ومنصور بن يونس البهوتي [ الإقناع وشرحه ] ( 1 / 21 ، 22 ) كتاب الطهارة . : ( ولا يباح ماء آبار ) ديار ( ثمود غير بئر الناقة ) .(3/420)
( فظاهره ) أي : ظاهرة القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود ( لا تصح الطهارة ) أي : الوضوء والغسل ( به ) ؛ لتحريم استعماله كماء مغصوب أو ) ماء ( ثمنه المعين حرام ) في البيع فلا يصح الوضوء بذلك ولا الغسل به ؛ لحديث : ( صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256). من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
( فيتيمم معه ) أي : مع ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود ، ومع المغصوب وما ثمنه المعين الحرام ( لعدم غيره ) من المباح ، ولا يستعمله ؛ لأنه ممنوع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 58)
منه شرعا ، فهو كالمعدوم حسا ، انتهى .
وتقدم جواب الإمام أحمد رحمه الله لما سأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به ؟ قال : لا إلا من الضرورة ، لا يقيم بها .
وحاصل ما سبق : أن من ذكر من العلماء استدل بالأدلة التي سبقت على عدم جوازها إحياء ديار ثمود ، وأنه لا يجوز استعمال مائها للطهارة أو شرب أو طبخ ، ولا يجوز التيمم بترابها ، وأن الأدلة دلت على ذلك ، وأن توجيه الاستدلال منها كما يأتي :(3/421)
1 - نهى صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود ، إلا في حال البكاء ، وأنه لا بد من ملازمة البكاء ما دام باقيا فيها ، ولو أنه بقي في أي جزء منها بدون هذه الصفة صدق عليه أنه دخل ذلك الجزء وهو غير باك فيكون منهيا عن الدخول فيه ، فكما أنه منهي عن الدخول ابتداء إلا وهو متصف بالبكاء فنهيه عن الاستمرار بدون البكاء من باب أولى ، فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي يقتضي التحريم والفساد ، هذه هي القاعدة العامة في ذلك ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل يدل على ذلك ، وكما صدر القول منه صلى الله عليه وسلم في النهي عن دخول ديارهم إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ، فقد قنع رأسه ، وأسرع السير وهو على الرحل حتى اجتاز الوادي ، والإحياء يترتب عليه البقاء فيها وبناء المساكن ، ولا يمكن دوام البقاء مع ملازمة البكاء ، ودوام البقاء مع ملازمة البكاء ممتنع ، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم ، فيمتنع الإحياء لامتناع البقاء مع ملازمة البكاء .
2 - أمره صلى الله عليه وسلم بعدم الشرب من مائها ، وعدم الطبخ ، وأمره صلى الله عليه وسلم بطرح العجين الذي عجنوا به من مائها ، وبإهراق الماء الذي استقوا من الآبار ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 59)
وأمرهم بأن يستقوا من بئر الناقة .
والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل ، ولا نعلم دليلا يصرفه عن أصله واستعماله للطهارة أولى من استعماله للشرب والطبخ فيمنع ، وقيس التيمم بترابه على الطهارة من مائه فيمتنع التيمم بترابه .(3/422)
والإحياء لهذه البقعة بالزرع وبغرس النخل والأشجار يترتب عليه استعمال البقعة ، والبقاء فيها ، واستعمال الماء لما ذكره ، وهو مثل استعمال الماء الذي عجن به العجين ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإلقاء العجين ، فدل على أن فعلهم حرام ، فيحرم استعمال الماء للإحياء ، وأما البقاء فيها فقد سبق منعه إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها ، وأن استدامة البكاء متعذرة ، وإذا كان الأمر على ما وصف فكيف الإحياء والبقاء ؟ !(3/423)
المذهب الثاني : جواز الإحياء ، وهذا المذهب مأخوذ من عموم كلام الحنفية والمالكية ، والشافعي ، والثوري ، والرملي ، ونص عليه الماوردي ، وهو أظهر الروايتين في مذهب أحمد .
أما المذهب الحنفي : فقد قال محمد أمين الشهير بابن عابدين قال في [ الملتقي ] : الموات : أرض لا ينتفع بها عادية ، أو مملوكة في الإسلام ليس لها مالك معين مسلم أو ذمي ، وعند محمد : إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتا [ حاشية ابن عابدين ] ( 5 / 481 ) ، باب إحياء الموات . . اهـ .
ومثله في [ الدرر ] ، و [ الإصلاح ] ، و [ القدوري ] ، و [ الجوهرة ] ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 60)
وقوله : عادية أي تقدم خرابها ، كأنها ضربت في عهد عاد . انتهى المقصود .
وأما المذهب المالكي : فقال خليل : موات الأرض : ما سلم عن الاختصاص بعمارة ولو اندرست إلا الإحياء ، وبحريمها كمحتطب ومرعي . . [ مختصر خليل ] ( 2 / 202 ) . إلخ .
وقال محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب : والموات : بفتح الميم ، ويقال : موتان بفتح الميم والواو : الأرض التي ليس لها مالك ، ولا بها ماء ولا عمارة ، ولا ينتفع بها إلا أن يجري إليها ماء ، أو تستنبط فيها ، أو يحفر فيها بئر . [ مواهب الجليل على مختصر خليل ] ( 5 / 2 ) باب إحياء الموات . .
والتعريف المذكور تبع المصنف فيه ابن الحاجب ، وهو تبع ابن شاس ، وهو تبع الغزالي ، وهو قريب مما قال أهل اللغة في معناه ، وقال ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها ، وموات الأرض ، قال ابن رشد في رسم الدور من سماع يحيي بن القاسم ، من كتاب [ السداد والأنهار ] : روى ابن غانم : موات الأرض هي التي لا نبات فيها ؛ لقوله تعالى : سورة الجاثية الآية 5 وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا فلا يصح الإحياء إلا في البوار ، انتهى المقصود .(3/424)
ووجه دلالة هذا الكلام ، وكلام الحنفية قبله على جواز إحياء ديار ثمود أنه لم يرد عنهم استثناء ، فدل على أنها باقية على الأصل .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 61)
وأما المذهب الشافعي : فقد قال الشافعي : والموات الثاني : ما لم يملكه أحد في الإسلام بعرف ولا عمارة ، ملك في الجاهلية ، أو لم يملك ، فذلك الموات الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : من أحيا مواتا فهو له [ الأم ] ( 3 / 264 ) ، باب إحياء الموات . .
وقال النووي : وإن كانت عمارة جاهلية فقولان : ويقال وجهان : أحدهما : لا تملك بالإحياء ؛ لأنها ليست بموات ، وأظهرهما تملك كالركاز .
وقال ابن سريج وغيره : إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في الجاهلية قريبة لم تملك بالإحياء ، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها ملكت [ المجموع شرح المهذب ] ( 5 / 279 ) ، باب إحياء الموات . .
وقال الرملي : وإن كانت العمارة جاهلية جهل دخولها في أيدينا فالأظهر أنه - أي : المعمور - يملك بالإحياء ، إذ لا حرمة لملك الجاهلية ، والثاني : المنع ؛ لأنها ليست بموات [ نهاية المحتاج شرح المنهاج ] ( 5 / 233 ) ، باب إحياء الموات . .
وقال الماوردي : والضرب الثاني من الموات : ما كان عامرا فخرب فصار مواتا عاطلا ، وذلك ضربان : أحدهما : ما كان جاهليا كأرض عاد وثمود ، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عادي الأرض لله ولرسوله ، وثم هي لكم مني ، يعني : أرض عاد [ الأحكام السلطانية ] ص 190 ، باب إحياء الموات . .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 62)
وأما المذهب الحنبلي :
فقد قال عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة [ المغني والشرح ] وهذا النص من الشرح ( 6 / 148 ) ، باب إحياء الموات . :(3/425)
النوع الثاني : ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي ؛ كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم - فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين ؛ لما ذكرنا من الأحاديث . إلخ . إلى أن قال : والرواية الثانية : لا تملك ؛ لأنها إما لمسلم ، أو ذمي أو بيت المال ، أشبه ما لو تبين مالكه . انتهى المقصود .
وقال محمد بن الحسن الفراء الحنبلي [ الأحكام السلطانية ] ص ( 212 ) ، باب إحياء الموات . : الضرب الثاني من الموات : ما كان عامرا فضرب وصار مواتا عاطلا ، فذلك ضربان : أحدهما : ما كان جاهليا ؛ كأرض عاد وثمود ، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ، ويجوز إقطاعه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي لكم مني ، يعني : أرض عاد . انتهى .
وقال مصطفى السيوطي : [ الغاية وشرحها المطالب ] ( 4 / 179 ، 180 ) ، باب إحياء الموات . بعد ذكره جواز ملك ديار ثمود ، وقول الحارثي : إنها لا تملك ، وشيء من أدلة المذهب ، وقال بعد ذلك : ولم يذكر القاضي في [ الأحكام السلطانية ] ، والموفق في [ المغني ] خلافا في جواز إحيائه ، قال في [ الإنصاف ] : وهو طريقة صاحب المحرر والوجيز وغيرهما ، قال الحارثي : وهو الحق والصحيح من المذهب ، فإن أحمد وأصحابه لا يختلف قولهم في البئر العادية ، وهو نص منه في خصوص النوع ، وصحح الملك فيه بالإحياء صاحب [ التلخيص والفائق والفروع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 63)
والتصحيح ] وغيرهم . انتهى .
واستدل أهل هذا المذهب : بما ثبت في [ صحيح البخاري ] بسنده في المزارعة عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صحيح البخاري المزارعة (2210),مسند أحمد بن حنبل (6/120). من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق .
وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة ، ولكن معناها هو المعنى الذي دل عليه هذا الحديث ، وكذلك ورد آثار بهذا المعنى ، ترك ذكر الأحاديث والآثار اكتفاء بما أخرجه البخاري .(3/426)
وجه الدلالة : أن هذا الحديث دل بعمومه على أن الأصل في الأرض كلها اتصافها بعدم المانع من تملكها ، فمن أعمر أرضا ، أي : أحياها فهو أحق بها من غيره ، ويدخل في هذا العموم أرض الحجر فيجوز إحياؤها .
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث : بأن الأحاديث التي دلت على المنع من دخول ديار ثمود إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها ، وعلى منع استعمال الماء ، وقد سبق تقرير ذلك - جاءت تلك الأدلة خاصة ، وهذا الدليل عام ، والقاعدة المقررة : أنه إذا تعارض عام وخاص يخالف العام في الحكم فإنه يخرج الخاص من العام كذا هنا .
وأما من أجاز الصلاة فيها ، والتوضؤ من مائها والتيمم بترابها فقد استدل بالعموم ؛ كحديث : صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ، وكقوله تعالى : سورة المائدة الآية 6 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ الآية .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 64)(3/427)
قال القرطبي [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 10 / 48 ، 49 ) ، تفسير سورة الحجر . : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر : أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة ، وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : موطأ مالك وقوت الصلاة (26). إن هذا واد به شيطان ، وقد رواه معمر عن الزهري فقال : واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة ، وقول علي : سنن أبو داود الصلاة (490). نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة وقوله عليه الصلاة والسلام حين مر بالحجر من ثمود : صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980). لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، ونهيه عن معاطن الإبل . . إلى غير ذلك مما في هذا الباب ، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها ، والدلائل الصحيح مجيئها .(3/428)
قال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر : المختار عندنا في هذا الباب : أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيه نجاسة متيقنة تمنع من ذلك ، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان ، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة ، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل ، وغير ذلك مما في هذا المعنى - كل ذلك عندنا منسوخ ومرفوع ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله ومما خص به ، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص - قال صلى الله عليه وسلم مسند أحمد بن حنبل (5/145),سنن الدارمي السير (2467). أوتيت خمسا وقد روي : ستا وقد روي ثلاثا و صحيح البخاري الإيمان (34),صحيح مسلم الإيمان (58),سنن الترمذي الإيمان (2632),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020),سنن أبو داود السنة (4688),مسند أحمد بن حنبل (2/189). أربعا وهي تنتهي إلى أزيد من تسع . قال فيهن : صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي الغسل والتيمم (432),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). لم يؤتهن أحد قبلي : بعثت إلى
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 65)
الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب ، وجعلت أمتي خير الأمم ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا اهـ .
ويورد على دعوى النسخ : أن النسخ لا يثبت إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع .(3/429)
ونقل القرطبي [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 10 / 47 ، 48 ) ، تفسير سورة الحجر . عن ابن العربي أنه قال : فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فلا يجوز التيمم بترابها ، ولا الوضوء من مائها ، ولا الصلاة فيها . انتهى المقصود .
ذكر القرطبي هذا الكلام عن ابن العربي بعد قوله : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع ، وقال : لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنها دار سخط وبقعة غضب .
وأما النظائر فمن ذلك :
1 - إسراعه صلى الله عليه وسلم حينما مر بوادي محسر في حجة الوداع بعد دفعه من مزدلفة ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، سنن الترمذي الحج (886),سنن أبو داود المناسك (1944),سنن ابن ماجه المناسك (3023),سنن الدارمي المناسك (1899). أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر ، رواه داود والنسائي والترمذي ، قال ابن الأثير : أوضع : إذا أسرع السير .
قال ابن القيم [ زاد المعاد ] ( 1 / 474 ) . : فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه .
وكذلك فعل في سلوكه الحجر ( ديار ثمود ) فإنه تقنع بثوبه ، وأسرع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 66)
السير .
2 - قال تعالى : سورة التوبة الآية 107 وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا إلى قوله تعالى : سورة التوبة الآية 108 لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا(3/430)
قال ابن القيم رحمه الله [ زاد المعاد ] ( 3 / 35 ) ، غزوة تبوك ، فقه الغزوة . : ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار ، وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه - لما كان بناؤه إضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا ، ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله ، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطليه ؛ إما بهدمه وتحريقه ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له . انتهى .
3 - ثبت في [ صحيح مسلم ] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2595),سنن أبو داود الجهاد (2561),مسند أحمد بن حنبل (4/431),سنن الدارمي الاستئذان (2677). بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، وامرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرت ، فعلنتها ، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : خذوا ما عليها ، ودعوها ، فإنها ملعونة قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد .
وأما الحكمة ، فقد قال ابن حجر [ فتح الباري ] ( 1 / 530 ، 531 ) كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب . :
قول : ( لا يصيبكم ) بالرفع على أن لا نافية ، والمعنى : لئلا يصبكم ، ويجوز الجزم على أنها ناهية ، وهو أوجه ، وهو نهي بمعنى الخبر ، وللمصنف في أحاديث الأنبياء ( أن يصيبكم ) أي : خشية أن يصيبكم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 67)
ووجه هذه الخشية : أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار ، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر ، مع تمكينه لهم في الأرض ، وإمهالهم مدة طويلة ، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه ، وهو سبحانه مقلب القلوب ، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك .(3/431)
والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له ، فمن مر عليهم ، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه ، فلا يأمن أن يجره ذلك العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم . انتهى .
هذا ما تيسر ذكره ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 68)
مصادر بحث حكم إحياء ديار ثمود :
1 - [ تفسير القرطبي ] - طبع دار الكتب المصرية سنة 1365 هـ .
1 - [ فتح الباري ] - طبع المطبعة السلفية ومكتبتها بمصر .
2 - [ الكرماني على البخاري ] - طبع مؤسسة المطبوعات الإسلامية - مصر .
3 - [ عمدة القاري على البخاري ] - طبع دار الطباعة المنيرية .
4 - [ حاشية ابن عابدين ] .
5 - [ الأم ] .
6 - [ المجموع شرح المهذب ] .
7 - [ نهاية المحتاج ] .
8 - [ الأحكام السلطانية والولات الدينية ] .
9 - [ الإقناع وشرحه ] .
10 - [ المغني والشرح الكبير ] .
11 - [ مطالب أولى النهي ] .
12 - [ زاد المعاد ] .
13 - [ الأحكام السلطانية ] .
14 - [ كتاب الأموال ] .(3/432)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 69)
قرار رقم ( 7 )
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وآله وصحبه . وبعد :
اطلعت هيئة كبار العلماء على المعاملة المتعلقة بموضوع دراسة حكم إحياء أرض ديار ثمود الواردة إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رفق خطاب المقام السامي رقم ( 5576 ) وتاريخ 26 / 3 / 1392هـ المحالة إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ، بخصوص رغبة جلالة الملك حفظه الله في أن تقوم هيئة كبار العلماء بدراسة ( حكم إحياء أرض ديار ثمود ) وموافاة جلالته بما يتقرر .
جرى عرض ذلك على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في أول شهر شعبان حتى 13 منه عام 1392 هـ .
كما استعرض المجلس ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع ، وبعد دراسة مجلس الهيئة لذلك ، ولما أعد فيه من بحث ، وبعد تداول الرأي قرر ما يلي :
أولا : الاتفاق على أنه لا يجوز إحياء أراضي ديار ثمود ، للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي ، ولعدم ورود أدلة تدفعها .
ثانيا : نظرا لعدم وجود تحديد واضح للمحظور إحياؤه من غيره رأى المجلس تأجيل البت في تحديد الممنوع إحياؤه ، حتى يقدم له بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض ، بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 70)
وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك بما يجري بعد ذلك دراسته في دورة قادمة ؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
.... رئيس الدورة ... .
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح(3/433)
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... .(3/434)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 71)
قرار رقم ( 9 )
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 1 / 4 / 1393 هـ و 17 / 4 / 93 هـ، وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من القرار رقم ( 7 ) الصادر من هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية لمجلسها المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1392 هـ من إرجاء تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود حتى يقدم للمجلس بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك ؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره .
وبناء على البحث المقدم من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد شخوصها إلى أرض الحجر ومشاهدتها إياها ، واتصالها بأهل الخبرة في تلك الجهات ، وما اشتمل عليه البحث من وصف كامل لمشاهدتها ومن خارطة تقريبية لها ، ولما فيها من آثار وجبال ووديان ومزارع وغير ذلك في الدورة الثالثة لمجلس الهيئة - جرى استعراض النصوص الواردة في ذلك ؛ والتي يمكن أن يستند عليها في التحديد ، وهي ما يلي :
قال تعالى : سورة الأعراف الآية 74 وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 72)
وقال تعالى : سورة الفجر الآية 9 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(3/435)
وروى البخاري في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : صحيح البخاري المغازي (4157),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/117). لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأرض الحجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين . ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي ، وروى أيضا بسنده عن نافع ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3199),مسند أحمد بن حنبل (2/117). أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة .
وأخرج معلقا بصيغة الجزم ، قال ابن حجر في [ الفتح ] : وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه : أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأتوا على واد ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إنكم بواد ملعون ، فأسرعوا ، وقال : من اعتجن بمائه أو طبخ قدرا فليكبها الحديث ، وروى مسلم في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980). مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين ، حذر أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خلفها .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 73)
قال النووي في شرحه ، قوله : ( ثم زجر فأسرع حتى خلفها ) أي : زجر ناقته ، فحذف ذكر الناقة للعلم به ، ومعناه : ساقها سوقا كثيرا حتى خلفها وهو بتشديد اللام ، أي : جاوز المساكن .(3/436)
وروى الإمام أحمد في [ المسند ] بسنده عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : مسند أحمد بن حنبل (2/117). لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم رسول اله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا قال : إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم .
قال ابن كثير في [ البداية والنهاية ] بعد سياقه هذا الحديث : وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجاه . اهـ .
وبناء على ذلك ، وحيث إن موارد النهي من هذه الأحاديث تأتي على أمرين :
أحدهما : دخول مساكنهم ، سواء ما كان منها في الجبال أو كان في السهول مما في تلك الأرض .
الثاني : الاستقاء من آبارهم ، وقد وجد بين الآثار في الجبال والسهول آبار قديمة تواترت الأخبار فيما بين أهل المنطقة أنها آبار ثمودية .
كما أن بعض هذه الأحياء يدل على الأمر بالإسراع في الوادي عند المرور به حتى يتم اجتيازه وعلى التقنع فيه .
وحيث إن الهيئة لم تجد نصوصا صريحة تحدد المنقطة تحديدا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 74)
لا يكون للاجتهاد فيه مجال ، وحيث إن ما ذكره بعض أهل العلم بالتفسير والسير - كابن إسحاق وغيره - من تحديد أرض الحجر بثمانية عشر ميلا أو بخمسة أميال لا يمكن الاعتماد عليه في تحليل أو تحريم ما لم يكن معتمدا على ما ثبت من كتاب أو سنة .
وحيث إن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل ينقل ذلك الأصل عن حكمه .
بناء على ذلك فإن الهيئة تقرر ما يأتي :(3/437)
أولا : منع الإحياء والسكني فيما يلي :
أ - ما كان فيه آثار من جبال وسهول .
ب - الآبار الثمودية .
ج - مجرى الوادي ومفرشه .
وبناء على ما جاء في وصف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ضوء مشاهداتها لتلك المنقطة ، ما ذكرته في وصفها من آثار ومسميات وجبال ووديان ومساحات وآبار ، وحيث إن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الجنوبية من أرض الحجر هي البئر التي بجوار أحد جبال الصينيات ، وأن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الشمالية هي ( بئر مزيلقة ) وأن آخر جبل من الجهة الشرقية فيه آثار قائمة هو ( جبال الأثالث ) وأن آخر أثر سكني ظهر في الجهة الغربية هو في ( جبال الخريمات ) وحيث إن الوادي يأخذ مسماه بعد التقاء روافده السبعة ، فيكون تحديد الممنوع إحياؤه والسكني فيما يلي :
يحد جنوبا بجبل الصينيات ، ويمتد الحد شرقا بانعطاف إلى الشمال
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 75)
حتى يتصل بجبال الأثالث ، بحيث تكون هي وجبال الصانع وبثينة وأبو لوحة وغيرها مما فيه آثار داخلة في الحد ، ثم يمتد الحد من الشرق إلى الشمال بشكل دائري متمش مع حافة مفرش الوادي حتى يتصل بآخر بئر من آبار مزيلقة ، بحث يكون مفرش الوادي وآبار مزيلقة داخلين في هذا الحد ، ثم يمتد الحد غربا بانعطاف نحو الجنوب حتى يتصل بحافة الوادي الشمالية ، ثم يمتد حتى يتصل بمجمع روافد الوادي السبعة ، ويكون هذا الملتقى حدا غربيا للممنوع ، ثم ينعطف الحد نحو الشرق ، ممتدا مع حافة الوادي الجنوبية ، حتى يتصل بمفيض الوادي إلى أرض العذيب ثم يتجه الحد جنوبا مارا بجبال الخريمات بحيث تكون داخلة في المحدود حتى يتصل بجبال الصينيات .(3/438)
أما بئر الناقة فقد وردت الأحاديث الصحيحة في جواز الاستقاء منها والنزول حولها للاستقاء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نزل بأصحابه عندها ، واستقوا من مائها ، وكذلك المرور من أرض الحجر فقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كثير من أصحابه في طريقهم إلى تبوك ، إلا أنه ينبغي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقد قنع رأسه ، وزجر راحلته حتى اجتاز الوادي .(3/439)
ثانيا : ما عد ذلك مما كان خارجا عما هو منوه عنه أعلاه وداخلا في محيط سلسلة الجبال القائمة - فإن الهيئة تقرر بالأكثرية جواز إحيائه والسكنى فيه ؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر ، وبالله التوفيق .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 76)
هيئة كبار العلماء
.... .... رئيس الدورة الثالثة
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
عبد العزيز بن باز ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع
سليمان العبيد ... محمد الحركان ... محمد بن جبير
صالح بن لحيدان
إنني متوقف فيما زاد عن ما حدد بمنطقة الآثار إلى مجتمع الأودية من الجهة الغربية وموافق على ما فيه الآثار والآبار ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون لي وجهة نظر مرفقة
.... عبد الله بن غديان مع توقف فيما زاد عن المحدود داخل سلسلة الجبال المحيطة ... .(3/440)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 77)
وجهة نظر
الحمد لله : خلاصة رأيي في موضوع ديار ثمود .
بعد البحث والمراجعة أرى أن ما تناولت الأحاديث النبوية لا يجوز إحياؤه ولا سكناه ، غير أنه لم يظهر لي من الأحاديث ما يقضي بتحديد منقطة معينة ؛ لأن الأحاديث ليست صريحة ، ولأن الأصل الإباحة ، ولأن أهل العلم لم يذكروا حدودا معلومة ، ولأن بئر الناقة من أبرز المعالم الموجودة في المنطقة ، ولم أقف على دليل بتعيينها ، ولأنه لا يجوز الحكم مع وجود شك أو تردد .
لهذا وغيره من الاعتبارات حررت رأيي ، وأسأل الله للجميع التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
عضو هيئة كبار العلماء
صالح بن علي بن غصون(3/441)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 78)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 79)
( 3 )
تحديد الممنوع إحياؤه
من ديار ثمود
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 80)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 81)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان سنة 1392 هـ من ضرورة تقديم بحث مستوفي في تحديد الممنوع إحياؤه من أرض ديار ثمود من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك ؛ ليجري دراسة ذلك في الدورة القادمة إن شاء الله .
بناء على ذلك قامت اللجنة بما ذكر ، وأعدت فيه بحثا تشتمل على نصوص من الكتاب والسنة ، وعلى نقول من أقوال العلماء ، وعلى أقوال أهل الخبرة والمعرفة من سكان تلك الجهات ، وعلى مشاهدات اللجنة وما رسم تحت إشرافها بيد فني موظف ببلدية العلا شارك اللجنة في جولاتها في الوادي وأرض الحجر ، مع الأدلاء من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها في ديار ثمود .
وفيما يلي بيان ذلك :(3/442)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 82)
أولا النصوص :
قال الله تعالى سورة الأعراف الآية 74 وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وقال : سورة الحجر الآية 82 وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ وقال سورة الشعراء الآية 149 وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ وقال : سورة الفجر الآية 9 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، صحيح البخاري المغازي (4157). أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي انظر كتاب المغازي ، من [ صحيح البخاري ] ( 5 / 135 ) . .
وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى في دواوين السنة ، وتقدم ذكرها في بحث النهي عن إحياء ديار ثمود ، فاستغنينا بذلك عن إعادتها .
ومن هذه النصوص يتبين أن مساكن ثمود كانت بيوتا منحوتة في الجبال ، وقصورا مبنية في السهول ، وسواء أكانت سكناهم فيهما كل العام أم كانت سكناهم في القصور أيام الصيف ، وفي البيوت المنحوتة أيام الشتاء ، ومن شاهد الجوبة الفسيحة التي بداخل السلسلة الجبلية وجد السهول منتشرة بها ، وبهذا لا يستطيع أن يقطع بأن قصورهم كانت في المنطقة الأثرية الظاهرة اليوم فقط ، بل يمكن أن يكون بعض قصورهم وآبارهم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 83)
الأثرية لا تزال مدفونة بالرمال التي سفتها عليها الرياح على مر السنين ، بدليل ما انكشف أخيرا منها بعد هطول الأمطار العام الماضي ، والوادي منفرج بين الجبال أو تلال أو آكام ، كما في [ القاموس المحيط ] .(3/443)
وذكر القرطبي في تفسير آية : سورة الفجر الآية 9 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ أن كل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ، ومنفذا فهو واد ، اهـ . وعلى هذا يكون كل ما انفرج بين سلسلة جبال الحجر واديا .(3/444)
ثانيا : ما ذكره أئمة اللغة التفسير وشراح الحديث وعلماء التاريخ مما يتعلق بتحديد ديار ثمود : 1 - قال ابن منظور في [ لسان العرب ] : والحجر ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى .
2 - وقال الجوهري في [ الصحاح ] : والحجر منازل ثمود ناحية الشام عند وادي القرى .
3 - وقال ابن جرير : في تفسير سورة الأعراف عند كلامه على قصة ثمود : وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وكذا قال ابن كثير في تفسير سورة الأعراف .
4 - وقال القرطبي في [ تفسيره ] ( ج 17 ، ص 238 ) : وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وكذا قال كل من الشوكاني وأبي السعود في [ تفسيره ] .
5 - وقال القرطبي أيضا في تفسيره سورة الحجر بعد بيانه لمعاني كلمة الحجر : والحجر : ديار ثمود ، وهو المراد هنا ، أي : المدينة ، وقال الأزهري
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 84)
6 - وقال ابن الجوزي في [ تفسيره ] ( ج 4 ، ص411 ) : قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام .
ثم قال ابن الجوزي : وفي الحجر قولان :
أحدهما : أنه اسم الودي الذي كانوا به ، قاله قتادة والزجاج .
والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزهري ومقاتل .
7 - ونقل ابن جرير في تفسيره سورة الأعراف عن ابن إسحاق خبرا طويلا عن ثمود ، وفيه : ( وكانت منازلهم الحجر إلى قرح ، وهو وادي القرى ، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشام ) .
ونقل عنه أيضا في نفس القصة من طريق آخر كلاما كثيرا : وفيه : ( وتخلف رجل من أصحاب صالح يقال له : مبدع بن هرم فنزل قرح - وهو : وادي القرى - وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا ) .
8 - وقال السفاريني : في [ شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد ] ( 1 / 51 ) : وكانت منازلهم الحجر ، وبين الحجر وبين قرح ثمانية عشر ميلا ، - قرح : هي وادي القرى - .(3/445)
9 - وقال ياقوت الحموي في [ معجم البلدان ] ، ( ج 6 ، ص 221 ) : الحجر : اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام ، قال : الإصطخري : الحجر قرية صغيرة قليلة السكان ، وهو من وادي القرى على يوم بين جبال ، وبه كانت منازل ثمود قال تعالى : سورة الشعراء الآية 149 وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ وقال : ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 85)
أضعاف جبال ، وتسمى تلك الجبال : الأثالث ، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة ، فإذا توسطها رأي كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف ، وحواليها الرمل ، لا تكاد ترتقي كل قطعة قائمة بنفسها ، لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة ، وبها بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : سورة الشعراء الآية 155 لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
قال جميل :
أقول لداعي الحب والحجر بيننا ... ووادي القرى لبيك لما دعانيا
فما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا
10 - وقال صفي الدين البغدادي في [ مراصد الاطلاع ] ( 1 / 381 ) :
الحجر : بالكسر ثم السكون وراء : اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام ، كانت مساكن ثمود ، وفي بيوت منحوتة في الجبال مثل المقابر ، تسمى تلك الجبال : الأثالث ،كل جبل منقطع عن الآخر يطاف حوله ، وقد نقر فيه بيوت كثيرة ، وتقل على قدر الجبال التي تنقر فيها ، وهي بيوت في غاية الحسن ، فيها بيوت وطيقان محكمة الصنعة ، وفي وسطها البئر التي تردها الناقة ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب منها . اهـ .
لعله يريد من آبار ثمود ، وإلا فهو تحريف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في الشرب من بئر الناقة وأمر بإهراق ما استقي من غيرها
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 86)(3/446)
11 - وقال الفيروزآبادي في [ المغانم المطابة ] ، ص 106 : والحجر بالكسر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال ، وبها كانت منازل ثمود ، بيوتها في أضعاف جبال تسمى : الأثالث ، إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة ، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف ، وحواليها رمل لا يكاد يرتقى إلا بمشقة شديدة ، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : سورة الشعراء الآية 155 لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
12 - وذكر القرطبي في تفسير سورة الفجر : أن ثمود أول من نحت الجبال والصخور والرخام ، فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة ، كلها من الحجارة ، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف كلها من الحجارة ، وكانوا ينقبون بيوتا بالوادي ، أي : بوادي القرى .
13 - ونقل الحافظ ابن حجر في [ الفتح ] ( 6 / 380 ) عن شيخة البلقيني أنه سئل : من أين علمت تلك البئر - يعني : بئر الناقة ؟
فقال : بالتواتر ، إذ لا يشترط فيه الإسلام .
ثم قال الحافظ ابن حجر : والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها بالوحي ، ويحمل كلام الشيخ على من سيجيء بعد ذلك . اهـ .
14 - وقال ابن القيم في [ زاد المعاد ] ( 3 / 28 ) : وكانت البئر معلومة باقية إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا ، فلا يرى الراكب بئرا غيرها ، وهي مطوية محكمة البناء .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 87)
واسعة الأرجاء ، آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها .
15 - وقال السفاريني في [ شرح ثلاثيات المسند ] انظر ( 1 / 52 ) . : جزم علماؤنا بأنه لا يباح من ماء آبار ثمود غير بئر الناقة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هي البئر الكبيرة التي يردها الحجاج في هذه الأزمنة .(3/447)
16 - وقال العباسي في[ عمدة الأخبار ] ، ص 261 : والحجر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال ، وبها كانت منازل ثمود وبيوتها ، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : سورة الشعراء الآية 155 لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
17 - وقال ابن بليهد في [ صحيح الأخبار ] انظر ( 2 / 36 ) والحجر : هو الموضع الذي ذكره القرآن الكريم في شأن قوم صالح عليه السلام ، وبه بئر الناقة ، وهو يعد من وادي القرى معروف بهذا الاسم إلى هذا العهد ، ثم ذكر بيتي جميل المتقدمين ، ثم قال : وموضعه قرب العلا بينه وبين تبوك .
18 - وقال الحاكم في [ مستدركه ] ما نصه انظر ( 3 / 565 ) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا العباس بن محمد الدوري ، ثنا يحيي بن معين ، ثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن نوف الشامي : أن صالحا النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ، لما أهلك الله عادا وانقضى أمرها عمرت ثمود
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 88)
بعدها ، فاستخلفوا في الأرض ، فانتشروا ثم عتوا على الله ، فلما ظهر فسادهم وعبدوا غير الله بعث الله إليهم صالحا ، وكانوا قوما عربا ، وهو من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم موضعا ، وكانت منازلهم الحجر إلى قرع - وهو : وادي القرى - ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجر إلى الحجاز ، فبعثه الله غلاما شابا . . إلى آخر الآثر .
19 - وقال الهمداني في [ صفة جزيرة العرب ] ص 131 : وأما نجد ما بين مكة والمدينة من ذات عرق فإلى الجبلين ، فالمعدن معدن سليم فراجعا : إلى وادي القرى إلى الحجر موضع ثمود والناقة مرحلة ، وفيه آثار عظيمة ، وما بينهما العيص .(3/448)
20 - وقال ابن بطوطة في رحلته : وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود ، وهي كثيرة الماء ، ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم ؛ اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزة تبوك فأسرع براحلته ، وأمر ألا يستقي منها أحد ، ومن عجن به أطعمة الجمال ، وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة ، يظن رائيها أنها حديثة الصنعة ، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت ، إن في ذلك لعبرة ، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك ، وبينها أثر مسجد يصلي الناس فيه ، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه . اهـ .
21 - وقال الحطاب في كتابه [ مواهب الجليل ] في معرض كلامه على مياه آبار ثمود ( 1 / 48 ) : قال الشيخ زروق : وأمرهم بالتيمم وترك استعمالها لم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 89)
أقف عليه في الحديث ، وهو ما نقله ابن فرحون في [ الألغاز ] عن ابن العربي في باب التيمم ، ونصه : فإن قلت : أرض طاهرة مباحة مسيرة خمسة أميال لا يجوز التيمم منها ، قلت : هي أرض ديار ثمود ، نص ابن العربي في أحكامه على أنه لا يجوز التيمم منها .
22 - وقال السمهودي في كتابه [ وفاء الوفاء ] ( 2 / 1328 ) : سبق أن حجر ثمود على يوم من وادي القرى ، وأن العلا بناحية وادي القرى : وقال انظر ( 2 / 1184 ) : والحجر بالكسر أيضا : قرية على يوم من وادي القرى ، بين جبال كانت بها منازل ثمود ، وبيوتها في أضعاف جبال تسمى : الأثالث ، وهناك بئر ثمود ، وقال ( 2 / 1159 ) : قال أبو زياد : تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر ، نحو نصف طريق الشام .(3/449)
23 - وقال أبو إسحاق الفارسي المعروف بالكرخي في كتابه [ المسالك والممالك ] ص 24 ما نصه : والحجر : قرية صغيرة قليلة السكان ، وهي من وادي القرى على يوم بين جبال ، وبها كانت ديار ثمود الذين قال الله فيهم : سورة الفجر الآية 9 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ورأيت تلك الجبال ونحتهم الذين قال الله عنهم : سورة الشعراء الآية 149 وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ - ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في أضعاف جبال ، وتسمى
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 90)
تلك الجبال : الأثالث - إلى أن قال : - وتبوك بين الحجر وبين أول الشام على أربع مراحل نحو نصف طريق الشام .
24 - وقال المقدسي في كتابه [ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ] ص 84 : الحجر قرية صغيرة حصينة ، كثيرة الآبار والمزارع ، ومسجد صالح بالغرب على نشزة مثل الصفة ، قد نقر في صخرة ، وثم عجائب ثمود وبيوتهم .
25 - وذكر الأستاذ صلاح البكري : في مقال نشر في مجلة ( قافلة الزيت ) تحت عنوان ( الآثار في الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية ) عن حاجي خليفة من كتابه [ جهان نما ] - أنه على مسيرة نصف يوم تقريبا من العلا يوجد مسجد النبي صالح ، وهو منقور في الصخر ، وعن محمد أديب في كتابه [ المنازل ] - أن الحجر تعرف بـ : ( مدائن صالح ) أو ( قرى صالح ) أو ( عدال ) ، والمساكن في مدائن صالح منحوتة في الصخر : ولا يسكنها أحد ، ويقول : إن هناك جبلا يعرف باسم ( أنان ) في مرتفع منه يوجد مسجد صالح عليه الصلاة والسلام ، وهو منقور في الصخر .
صورة فتوى الشيخ عبد الله بن بليهد بصدد أرض الحجر .
يحظى ويتشرف بمطالعة عالي الجناب الشيخ المكرم عبد الله بن سليمان بن بليهد أدام الله تعالى بقاءه .
أما بعد : هذا سلام عليك ورحمة الله وبركاته على الدوام ، أدام الباري علينا وعليكم نعمته وإحسانه .(3/450)
بعده ، نرفع لجنابك العزيز بأن إحنا هاجرنا في وادي العذيب المعروف
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 91)
بـ : ( وادي الحشيش ) ، اعترض علينا بعض الناس حيث قالوا : أنتم في وادي العذاب التابع لمدائن صالح ، فإنا نسترحمكم أن تأمرونا في سكناه ، أو تنهانا نرحل نرحل عنه ، جزيتم خيرا .
وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
11 جمادى الثانية / 1345 هـ .
مقدمه
متعب بن صالح الفقير
سلمك الله : أذنا له ينزل بالهجرة إذا كان ما فيه من طرف الشرع شيء ، المقصود سلمك الله عرفوه بالحدود المحرمة .
عبد العزيز بن مساعد
الختم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 92)
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : إن الذي تحصل لنا من كلام المؤرخين : أن وادي الحجر الذي فيه ديار ثمود مقدار ثمانية عشر ميلا هي عبارة عن مسافة تسعة ساعات بدبيب الأقدام وسير الأثقال ، فإذا اعتبر المواضع المذكور من شمالي الحجر إلى الموضع وكان خارجا عن هذه المسافة - فلا بأس بسكناه والاستسقاء من مياهه . يكون معلوما .
رئيس القضاء
عبد الله بن بليهد
الختم
صورة طبق الأصل
مما تقدم يتبين ما يلي :
أولا - أن اسم الحجر يطلق على جميع الذي كانت ثمود تسكن به ، ويطلق على نفس مدنهم التي كانت بالحجر ، وهو بالمعنى الأول أعم منه بالمعنى الثاني .
ثانيا - أن وادي القرى طويل ممتد يمر ببلاد أماكن كثيرة ، وتسمى بأسمائها ، فيسمى بـ : ( وادي الحجر ) عند مروره به ، وبـ : ( وادي القرح ) وبـ : ( وادي العلا ) عند مروره بهما .
ثالثا - اختلف التعبير في بيان موقع ديار ثمود من وادي القرى : فمرة يعبر بأنها عند وادي القرى ، ومرة يعبر بأنها إلى وادي القرى ومرة بأنها بوادي القرى ، والذي يظهر : أنه لا تنافي بينهما ؛ لإمكان الجمع بأنه إن أريد بالوادي مجرى سيله فديار ثمود عنده وإلى جانبه ، وإن أريد
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 93)
بالوادي المنفرج الذي بين الجبال فديار ثمود به .(3/451)
رابعا - قدر الوادي بثمانية عشر ميلا ، وبخمسة أميال وبمرحلة أو مسير يوم ، وهذه التقادير مبنية على أن المراد بالحجر المنفرج بين الجبال ، أي : الوادي الذي كانت ثمود تسكن به ، ولا تنافي بين هذه التقادير ؛ لإمكان الجمع بحمل أحد التقادير على العرض والآخرين على الطول .
خامسا - قال ابن إسحاق : كانت منازلهم الحجر إلى قرح ، وهو وادي القرى وبين ذلك 18 ميلا ، وقال الحاكم في [ المستدرك ] : كانت منازلهم الحجر إلى قرح - وهو : وادي القرى - 18 ميلا ، ويمكن أن يقال : إن الظاهر هو ما ذكره الحاكم من أن طول الحجر 18 ميلا ، وما نقل عن ابن إسحاق ؛ إما محرف ، وإما مئول بأن بين قرح ومبدأ الحجر شمالا 18 ميلا . والله أعلم .(3/452)
ثالثا : أقوال أهل الخبرة ومشاهدات اللجنة :
قامت اللجنة بجولات فيما يسمى بـ ( أرض الحجر ) وما يسمى بـ : ( أرض العذيب ) ومعها خبراء بالمواقع وبأسمائها : وبالحدود المشهورة عند أهل هذه الجهات حاليا ، ومع اللجنة مندوب فني أيضا من بلدية العلا ، وأشرفت على هذه الأراضي وما فيها من جبال ووديان ومزارع وآثار وما يحيط بذلك من سلسلة الجبال ، وأخذت مقادير المسافات التي قد يحتاج إليها في التحديد عند مقارنتها بما ذكر من التقدير في النقول عن العلماء .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 94)
وفيما يلي بيان لما شاهدته اللجنة في جولاتها :
1 - يحيط بأرض المنقطة سلسلة جبال متصل بعضها ببعض إلا في منافذ محدودة يأتي بيانها ، وتبدأ هذه السلسلة من الجنوب من عند مفيض وادي المعتدل في نخيل العلا متجهة نحو الجنوب الشرقي ، ثم إلى الشرق ثم إلى الشمال الشرقي ، ثم إلى الشمال ، ثم إلى الشمال الغربي ، وإلى هنا تعرف بـ ( جبال الركب ) ، ثم تتجه غربا ، ثم إلى الجنوب الغربي ، ثم إلى الجنوب إلى ما يسمى من هذه السلسلة بـ : ( بأبي القناطير ) ، وهو يوازي كثيب الرمل المسمى بـ : ( النثلة ) عند مفيض وادي المعتدل ، ويسمى هذا الجزء من السلسلة بـ : ( حرة عويرض ) .
2 - يوجد فيما يسمى بـ ( جبال الركب ) المنافذ الآتية على الترتيب :
مصيعب ، فالشجرة ، فأم عاذر ، فمهج ظفير ، فمهج ظفير ، فأبو حماطة ، فالرماحية ، فأبو الحمام ، فأم جرفان ، فالمقتل ، فالفج ، فمزيلقة ، فمزيلقة الثانية ، فالشليل ، فالمزحم ، فخور الحمار ، ومنه تخرج سكة حديد من الحجر إلى الشام ، ثم وادي الصريط ، فالبويب ، وبه ينتهي ما يسمى من السلسلة بـ : ( الركب ) ويبدأ ما يسمى من السلسلة بـ : ( حرة عويرض ) ، وبها وادي الصدير فوادي حوضاء ، فوادي ثربة ، فوادي المنقى الأول ، فوادي المنقى الثاني ، فوادي شلال ، وينزل من تلاع هذه السلسلة في الجنوب الغربي منها وادي عشار .(3/453)
وبهذا يتبين أن المنقطة كلها تحد من جميع جهاتها بسلسلة جبال .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 95)
3 - يفيض في أرض هذه المنطقة ثمانية وديان : وادي الصريط ، ويأتي من خارج سلسلة جبال الركب من الجهة الشمالية منها ، ووادي الصدير ، فوادي حوضاء ، فوادي ثربة ، فوادي المنقى الأول ، فوادي المنقى الثاني ، فوادي شلال ، وهذه الوديان الستة تفيض على أرض الحجر ، من تلاع داخل حرة عويرض من الجهة الشمالية الغربية والجهة الغربية منها لأرض الحجر ، وتجتمع هذه الوديان السبعة في مفرش واسع في الشمال الغربي من أرض الحجر ، ثم يتفرع من هذا المفرش ثلاثة وديان : اثنان منها غرب سكة الحديد ، وما يسمى بـ : ( بئر الناقة ) وواحد منها يتجه إلى الجهة الشرقية من أرض الحجر ، ثم ينعطف جنوبا ، ثم إلى الجنوب الغربي إلى أن يجتمع بالواديين في مفرش غرب سكة الحديد ، فيما بين الخريمات غربا وجبل بثنية وجبال الأثالث شرقا ، ويتكون منها واد واحد جنوب هذا المفرش يتجه جنوبا مع تعرجات فيه ، حتى يلتقي بمفيض وادي المعتدل ، ويفيض وادي عشار من الجهة الغربية من حرة عويرض ، ويلتقي بمضيق وادي الحجر قبل أن يفيض على العلا ، ويبدأ وادي المعتدل من الجهة الشرقية تقريبا متجها إلى الغرب حتى يلتقي بوادي الحجر ، ويكون معه واديا واحدا يتجه إلى العلا جنوبا .
4 - يقع في الأرض المحاطة بسلسلة الجبال المتقدمة كثير من الجبال المتفرقة المنتشرة من أشهرها : جبال الأثالث ، وجبل بثينة ، وجبل بيت الصانع ، وجبل أبي لوحة ، وجبال الخريمات ، وبكل من هذه الجبال المشهورة بيوت منحوتة ، ومن أشهرها جبل عكما ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 96)(3/454)
وجبل دنان ، وبكل منها كتابة أثرية ، ومن أشهرها أيضا : جبل الحوارة ، وجبل الحوير ، وجبل الجميل ، وجبال الصقليات ، وجبال الصينيات ، ومما بداخل السلسلة أيضا من الآثار : بئر الناقة ، وخريبة الحجر التي أظهرها السيل العام الماضي ، على ما قاله مأمور مركز الحجر وغيره ، وتقع هذه الخريبة قريبا من جبال الأثالث ، وبثنية كما هو موضح بالرسم ، كما أن بأرض الحجر مزارع وأشجار وآبارا حديثة وقديمة أثرية ، ويوجد قريبا من جنوب مفيض وادي المعتدل مكان أثري يعرف بـ : ( خريبة العلا ) ، وبخشم الجبل المشرف عليها وعلى مفيض المعتدل نحوت وكتابة أثرية .
5 - إن أريد بأرض الحجر جميع الأرض التي أحاطت بها سلسلة جبال الركب وحرة عويرض - فحده من الجهات الأربع طبيعي - وقد تبين مما تقدم - وعلى هذا أخذت اللجنة المساحة من الشمال إلى الجنوب بكيلو السيارة فوجدتها ( 34 .5 ) أربعة وثلاثين كيلو مترا ونصف كيلو مع وجود تعرجات اقتضاها خط سير السيارة ، وهذا التقدير بعد طرح التعرجات يقرب من تقدير أهل العلم لها قديما بثمانية عشر ميلا ، وهو الذي بنى عليه الشيخ عبد الله بن بليهد فتواه في تحديد الحجر .
أما إن أريد بأرض الحجر خصوص ما به بناء أثري وآبار أثرية وجبال أثرية - فالتحديد يحتاج إلى القيام بحفريات في جميع الأراضي التي تحيط بها سلسلة الجبال التي تقدم ذكرها للوقوف على ما اندفن من البيوت والآثار والأسوار ، وعند ذلك يمكن التحديد بغير سلسلة الجبال ، وإن أريد بالحجر مجرى الوادي فحده طبيعي واضح .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 97)
6 - تقسيم المنطقة التي بداخل سلسلة الجبال المتقدمة إلى ما يسمى بـ : ( أرض الحجر ) ، وما يسمى : بـ ( أرض العذيب ) تقسيم حديث ، كما سيجيء بيانه في إجابة عرفاء البلاد في جهة المنطقة .(3/455)
رابعا - رأت اللجنة بعد أن جالت في المنطقة وعرفت جماعة من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها من سكان هذه الجهات - أن تدعوهم إلى الاجتماع لسؤالهم عن المواقع وأسمائها ، وعن المتعارف عليه عندهم في حدود الحجر ؛ زيادة في الإيضاح ، وتأكيدا لما عرفته في جولاتهم مع الأدلاء في الحجر ، ورأت أن يكون المجتمعون من العلا ، ومما يسمى بـ : ( العذيب ) ، وما يسمى بـ : ( الحجر ) ، فاجتمع كل جماعة من جهة في جهتهم ، وسألت اللجنة كلا منهم على انفراد .
وفيما يلي بيان أسمائهم وما سئلوا عنه وأجوبتهم :
الأسماء :
1 - صحن بن شلاش الفقير - وعمره ثمانون سنة تقريبا .
2 - دبشي بن سلطان الفقير - وعمره ستون سنة تقريبا .
3 - عبد المهدي بن محمد بن جبل الفقير - وعمره 48 سنة تقريبا .
4 - حاكم بن شهاب الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
5 - صياح بن بندر الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
6 - فلاح بن مفلح الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
7 - مطلق بن منور الخالد التيمائي - وعمره 45 سنة تقريبا ، ( أمير مركز العذيب ) من ثلاث سنوات ، وعمل في خدمة إمارة العلا من عام
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 98)
1361 هـ .
8 - عبد الرشيد بن عبد الرحمن الإمام - وعمره 60 سنة تقريبا .
9 - سعد بن أحمد بن يوسف - وعمره 66 سنة تقريبا .
10 - محمد بن إبراهيم طعيمة - وعمره 80 سنة تقريبا .
11 - محمد أحمد عتيق - وعمره 84 سنة تقريبا .
12 - موسى بن محمد بن عيسى العمر - وعمره 51 سنة تقريبا .
13 - فيحان المطيري ( أمير مركز الحجر ) - وعمره 55 سنة تقريبا .
14 - محمد بن دليحان من أهل ضرماء ( أمير مركز الحجر ) سابقا - وعمره 70 سنة تقريبا .
الأسئلة التي وجهت إلى كل منهم :
1 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد الحجر من الجهات الأربع ؟
2 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد ما يسمى بـ : ( العذيب ) من الجهات الأربع ؟(3/456)
3 - هل عرف بينكم حد الحجر من الجنوب بالصينيات ، ومتى بدأ ذلك ، وعلى أي أساس بنيت هذه المعرفة ؟
4 - هل ما يسمى بـ : ( شلال ) وما يسمى : ثربة تابعان لمسمى الحجر فيما عرف عندكم ؟
5 - أين بئر الناقة ، وأين المزحم فيما تعرف ؟
6 - ما أبعد بئر عادية في الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ : ( الحجر ) حسبما اشتهر عندكم ؟
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 99)
7 - ما أبعد أثر من آثار ثمود في الحجر من الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ : ( الحجر ) حسبما اشتهر عندكم ؟
8 - هل يوجد فيما يسمى بـ : ( العذيب ) آبار ثمودية ، سواء أكانت محياة أم لا ؟
الأجوبة :(3/457)
اتفقت إجابتهم في أن شلال وثربة ليستا من الحجر ، وإن كان سيلهما يفيض في الحجر ، وفي أن بئر الناقة يقع عند المحطة الكبرى لسكة الحديد تحت القلعة ، أنهم لا يعرفون بئرا أخرى سواها تعرف بـ : ( بئر الناقة ) وفي أن الحجر في المتعارف عليه عندهم يحد من الجنوب الشرقي : بأم الشجرة ، ثم مهج الظفير ، ثم مهج الظفير ، ومن الشرق والشمال : بالجبال المتصلة المسماة بـ ( الراكبة ) أو ( الركب ) ، ومن الغرب والجنوب الغربي : بالجبال المتصلة ، والمسماة بـ ( حرة عويرض ) ، ومن الجنوب يحد قديما بكثيب من الرمال يسمى : ( النثلة ) وهو يقع عند مفيض المعتدل في طرف نخيل العلا شمالا عند خروج الوادي من الحجر : أما حد الحجر من الجنوب : بما يسمى بـ : ( جبال الصينيات ) فهو حد حديث لم يعرف إلا بعد استفتاء سلطان الفقير عن أرض العذيب وإجابة الشيخ ابن بليهد له ، ومنح أرض العذيب لدبشي بن سلطان الفقير ، فعند ذلك قامت لجنة حكومية وحددت العذيب شمالا : بما يسمى بـ : ( جبال الصينيات ) ، وجنوبا : بـ :( النثلة ) عند مفيض المعتدل ونهاية نخيل العلا شمالا ، كما اتفقوا على أنه لا توجد آبار ثمودية فيما يسمى بـ : ( العذيب ) - حسبما يعرفون - وإنما توجد عيون قديمة ومجاري عيون ، وما فيه من الآبار كلها محدثة ، واتفقوا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 100)(3/458)
أيضا على أنه لا يوجد في الشمال الشرقي من أرض الحجر آبار قديمة مندفنة ، عند مزيلقة ، وكذا عند جبال الصقليات يغلب على الظن وجود آبار قديمة مندفنة ، ولكن لم يظهر شيء منها إلى الآن ، كما اتفقوا على أنه يوجد آبار كثيرة قديمة وحديثة عند جبال الأثالث وبثينة ، ولا يوجد شمال الحجر بعد الوادي شيء من الآبار فيما نعرف ، وأما الجهة الجنوبية الشرقية والتي جعل بعضها مطارا فليس فيه آبار حسب علمنا : وأما الآثار فهي في مدخل الحجر شمال العلا في منطقة تسمى : ( الخريبة ) ، وفي جبال الأثالث ، وبثينة ، وأبي لوحة ، والخريمات ، وخريبة الحجر .
8 - مع البحث خريطة تقريبية لأرض المنطقة ، ولسلسلة الجبال المحيطة بها ، وما بهذه السلسلة من منافذ ، وما بداخلها من الجبال والآثار والوديان والآبار .
ونسأل الله التوفيق والسداد ، وصلى الله وسلم على نبيا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع مع الاحتفاظ بحقي في تقديم وصف للمنطقة بصورة أشمل ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(3/459)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 101)
وصف ديار ثمود
من إعداد فضيلة الشيخ : عبد الله بن سليمان بن منيع
الحمد لله وحده ، وبعد :
فبناء على ما ذكره أهل العلم من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وبناء على ما قررته هيئة كبار العلماء في أن تقوم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالشخوص إلى الحجر وتطبيق النقول على طبيعة الأرض ، ونظرا إلى أن النقول عن أهل العلم في تحديد هذه المنطقة غير واضحة لإمكان تطبيقها ، وإنما يتطرقها الاحتمال ـ فقد ظهر لي أن مهمة اللجنة في الدرجة الأولى تكاد تنحصر في وصف مشاهدتها المنطقة ، وصفا يتمكن فيه من تكييف أي احتمال يكون في تحديد ما لا يجوز إحياؤه شرعا منها ، ونظرا إلى أن الوصف المقدم في البحث لم يكن في رأيي مستغرقا ما في نفسي مما شاهدته فيها مع الزملاء ولم يكن لدى الزملاء استعداد في بسط الوصف بالطريقة التي أراها؛ ولذلك فقد رأيت التقدم للهيئة بالوصف التالي للمنطقة :
1 - أن المنطقة محاطة بسلسلة جبال سود تتخللها منافذ تخرج منها . هذه المنافذ تسمى : مصيعيب ، فخرم الشجرة ، فأم عاذر ، ثم مهج ظفير ، ثم مهج ظفير ثم أبو حماطة ، فالرماحية ، فأبو الحمام ، فأم الجرفان ، فالمقتل ، فالفج ، فمزيلقة ، ثم مزيلقة الثانية ، فالشليل ، فالمزحم ، فخور الحمار ، ومنه مخرج سكة الحديد ، ثم الصريط ، ثم بويب ، وتبدأ هذه
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 102)(3/460)
الجبال من الجهة الجنوبية بالنسبة للواقف في وسط المنطقة ، ثم تمتد نحو الجنوب الشرقي ، ثم إلى الشرق ، ثم إلى الشمال الشرقي ، ثم إلى الشمال ، ثم إلى الشمال الغربي ، وتسمى هذه الجبال بـ ( الركب ) . ثم يفصلها واد صغير يعتبر أحد روافد وادي الحجر ، ويسمى بـ : ( الصريط ) ، ثم تقوم الجبال السود ، وتستمر في الامتداد نحو الغرب ، ثم الجنوب الغربي ، ثم الجنوب ، إلى أن تقابل نقطة الابتداء في مكان يسمى : ( أبا القناطير ) وتسمى هذه السلسلة الثانية من الجبال بـ : ( حرة عويرض ) ، وبين ابتداء محيط هذه السلسلة وانتهائه الطرف الشمالي لمدينة العلا .
2 - أقسام المنطقة : تنقسم هذه المنطقة حاليا إلى قسمين :
القسم الأول : ويسمى بـ : ( العذيب ) وهو الجزء الجنوبي منها ، وفيه مركز إمارة تابع لإمارة العلا ، ويعتبر ثلث المنطقة تقريبا ، وهو محدود من الجهة الجنوبية : بالعلا ، ومن الجنوب الشرقي والجنوب الغربي : بسلسلة الجبال القائمة ، ومن الشمال : بجبال تسمى : ( جبال الصينيات ) ، وفيه مجموعة من المزارع التي تسقى على آبار محدثة ، كما أن فيه آثار مجاري عيون أثرية معطلة ، وفي جزئه الجنوبي فيما يسمى بـ : ( عكمة ) و( جبل دنان ) كتابات أثرية ، وقد استصدر دبشي بن سلطان الفقير أمرا ساميا بإقطاعه إياه ، وأخذ بذلك الإقطاع صكا شرعيا من محكمة العلا .
وقد بحثت في بعض معاجم البلدان فلم أجد له تسمية فيها . مما يؤكد الظن أن تسميته بـ : ( العذيب ) كان في وقت متأخر .
ويجري في العذيب ثلاثة وديان : أحدها : يسمى المعتدل ، ويأتي من الجهة الشرقية مما يلي الجنوب الشرقي لسلسلة الجبال المحيطة بالمنطقة ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 103)
ويمتد غربا ، ويتصل بأدنى نخل من نخيل العلا من الجهة الشمالية ، يسمى : الزهراء ، ثم يستمر في الامتداد حتى يتصل بمضيق وادي الحجر .(3/461)
الثاني : يضيق وادي الحجر ويأتي من الجهة الشمالية من مفرش وادي الحجر ، ويمتد جنوبا حتى يتصل به وادي المعتدل ، ليشكلا وادي العلا .
الثالث : وادي عشار ، وهو يأتي من الجهة الغربية ، ويمتد شرقا حتى يتصل بمفيض وادي الحجر قبل اتصال المفيض بوادي المعتدل .
وفي العذيب مجموعة جبال متقطعة متناثرة بيض اللون ، أشهرها : عكمة ودنان ، وفيهما آثار كتابات قديمة ، وفي جنوبيه مما يتصل بشمال العلا قطعة أرض تسمى : ( الخريبة ) فيها آثار قديمة ، منها ما يسمى بـ : ( محلب الناقة ) ، وفي الجبال الواقعة في الجنوب الشرقي منها نحوت وتماثيل وكتابات ، وينقسم العذيب حاليا إلى قسمين : الوسيطى ، وقرقرى ، وهي تسميات محدثة حسبما أخبرنا بذلك بعض أهلها .
القسم الثاني : الحجر : وهو محدود من الجهات الشرقية والشرقية الشمالية والشمال والشمال الغربي والغرب بسلسلة الجبال القائمة ، ومن الجنوب بجبال الصينيات وما حاذاها غربا وشرقا ، وفيه مركز إمارة تابع إمارة العلا .
وهو يمثل ثلثي ما أحاطت به سلسلة الجبال القائمة وهو يحتوي على ما يلي :
أ- الوديان : هذه الوديان عبارة عن واد واسع ، له روافد سبعة : الصريط ، ويأتي من خارج السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية للحجر ، ثم وادي صدير ، ثم وادي حوضا ، ثم وادي ثربة ، ثم وادي المنقى الأول ، ثم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 104)(3/462)
المنقى الثاني ، ثم وادي شلال ، وهذه الستة تفيض على أرض الحجر من تلاع داخل هذه السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية الغربية ، ومن الجهة الغربية لأرض الحجر ، تجتمع هذه الروافد السبعة ليتشكل منها واد واسع المجرى ، يقدر عرضه قبل انفراشه بثلاثة كيلو مترات ، ينحدر هذا الوادي من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، وقد قسنا عرضه قبل اتصال وادي ثربة والمنقى الأول والمنقى الثاني وشلال به- فبلغ كيلوين وربع كيلو ، ثم ينفرش في أرض واسعة ، تقدر مساحتها بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها ، ثم يخرج من هذا المفرش واد يتجه نحو الجنوب الغربي يتراوح عرضه بين الثمانين مترا والمائة متر ، وهو ما سبقت الإشارة إليه بتسميته بـ : ( مفيض وادي الحجر ) وغالب مجراه واقع فيما يسمى بـ : ( العذيب ) . وتجدر الإشارة إلى أن نهاية تلعتي ثربة وشلال وراء سلسلة الجبال القائمة قريتين : إحداهما : ثربة ، والأخرى : شلال ، في كل واحدة منهما مزارع ونخيل .
ب- الجبال : هذه الجبال عبارة عن مجموعة جبال متناثرة متقاطعة بيض اللون ، ومن أشهرها : جبال بثينة ، والأثالث ، وأبو لوحة ، والخريمات ، وجبال الصقليات ، وجبل الحوارة ، وجبل الحوير ، وجبال الصينيات ، تتخلل هذه الجبال كثبان من الرمال .
ج- الآثار : توجد الآثار ظاهرة للعيان الآن في منطقة تقدر مساحتها بستة كيلو مترات في أربعة ، وهي عبارة عن أمور ثلاثة :
أحدها : نحو بيوت في جبال الأثالث ، وبثينة ، وأبو لوحة ، والخريمات ، وما بينها من جبال قد تدخل في مسمى : جبال الأثالث .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 105)(3/463)
الثاني : آبار بعضها عثرت عليه البادية هناك ، وأقاموا عليها مزارعهم ، بعض هذه الآبار منحوت حتى الماء ، وبعضها مطوي ، وغالبها في مفرش الوادي وبعضها خارج عنه من الجنوب ، كبئر بجوار جبل الصينية ، ومن الشمال كآبار مزيلقة ، وقد حفر بعضها ثم دفن بأمر من الحكومة -أعزها الله- حتى يبت في موضوع الحجر .
الثالث : آثار قصور في مفرش الوادي في جهته الجنوبية ، وقد كشف سيل العام الماضي عنها ، وهي محاطة بآثار سور ، يظهر أنه سور مدينة ، يقدر طول هذا السور بكيلو متر وعرضه نصف كيلو تقريبا ، تحيط به الجبال التي فيها نحوت من جهاته الغربية والجنوبية والشرقية .
كما أن في مفرش الوادي في الجهة الشمالية منه بئرا عند محطة سكة الحديد ، وعندها مبنى يقال بأنه كان معدا لاستراحة الحجاج قبل بناء محطة سكة الحديد ، وحوله بركة محفورة يقدر طولها باثني عشر مترا في مثلها في عمق مترين ونصف تقريبا ، يقال : بأن هذه البئر هي بئر الناقة ، وأهل المنطقة لا يختلف بعضهم على بعض في أنها هي بئر الناقة ، وليس في واقعها المشاهد آثار قديمة ، ولعل آثار حفرها وطيها مطمور ، وهي الآن عبارة عن بئر ضيقة داخل المبنى تتصل بها بئر خارجة عن المبنى تبعد عنها قرابة عشرين مترا وبجوار هذه البئر حفر مطمور يقال : بأنه البئر الثالثة ، كما يقال : بأن هذه الآبار الثلاث عبارة عن بئر واحد واسعة الأرجاء ، تصرفت فيها الحكومة التركية حتى صارت إلى ما هي عليه الآن .
د- المزارع والسكان : يوجد في هذا الجزء من أرض الحجر مجموعة كبيرة من المزارع والبساتين ، تزيد على مائة مزرعة ، غالبها تسقى من آبار
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 106)
ثمودية ، كما يوجد بها مجموعة من السكان ، غالبهم بادية ، وهم يشتغلون في مزارعهم ورعي مواشيهم ، وفي الأوراق المتعلقة بالمسألة بيان تعدادي للمزارع قامت بإعداده اللجنة السابقة المكونة من الشيخ عبد الرحمن الخيال والشيخ محمد بن قعود .(3/464)
3 - المساحات : قامت اللجنة بأخذ مساحات تقريبية بكيلو السيارة ، أهمها ما يلي :
من الصينية إلى المزحم - المزحم : منفذ يخرج من محيط الحجر شمالا ، يقال : بأن الناقة كانت تزحمها جباله إذا صدرت منه - واحد وعشرون كيلو متر تقريبا .
عرض مجرى الوادي قبل اجتماع أربعة من روافده كيلوان وربع ، ويقدر عرضه بعد اجتماع روافده وقبل انتشاره بثلاثة كيلو متر تقريبا ، ويقدر مفرش الوادي في سهول الحجر بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها ، من حافة الوادي الشمالية إلى السلسلة الجبلية شمالا يتراوح بين المتر وأربعة كيلو مترات ، بمعنى : أن هذه المساحة تشكل شبه مثلث طرفا ضلعيه في الغرب .
من مدخل الحجر في شمال العلا إلى مفرش الوادي ستة عشر كيلو متر تقريبا .
طول الوادي من مفيض الصدير إلى منعرج الوادي لجهة العذيب ثلاثة وعشرون كيلو متر تقريبا .
من مدخل الحجر شمال العلا إلى المزحم - وهو أحد مخارج جبال الركب شمال الحجر - أربعة وثلاثون كيلو متر ونصف .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 107)
من مفيض ثربة غرب الحجر حتى مهج ظفير شرق الحجر سبعة وثلاثون كيلو متر تقريبا .
ويلاحظ أن المسافات الطويلة التي أخذت بكيلو السيارة فيها تعاريج اقتضاها خط سير السيارة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين في المائة . مما سجله عداد السيارة .
4 - الجهة الشرقية : هذه الأرض تحيط بها سلسلة الجبال القائمة ، وتبلغ مساحتها عشرين كيلو متر طولا من الشمال إلى الجنوب في عشرة كيلو متر من الشرق إلى الغرب تقريبا ، وهذه الأرض ليس فيها آثار ظاهرة ولا مزارع ولا سكان ، والجبال فيها قليلة جدا ، وقد اقتطع جزء منها ليكون مطارا للمنطقة ، وليس فيها وديان غير مجرى وادي المعتدل في نهاية جنوبها ، وقد سبقت الإشارة إليه في وصف الوديان الواقعة فيما يسمى بـ : ( العذيب ) من المنطقة .
هذا ما تيسر ذكره . وأسأل الله تعالى التوفيق للجميع ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .(3/465)
تحريرا في 6 / 3 / 1393هـ
عضو اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن سليمان بن منيع(3/466)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 108)
قرار رقم (30) وتاريخ 21 / 8 / 1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على برقية سمو نائب وزير الداخلية رقم (13879) وتاريخ 11 / 4 / 1394 هـ الصادرة بعد صدور قرار هيئة كبار العلماء بتحريم إحياء ديار ثمود الصادر في دورتها الثالثة برقم (9) في شهر ربيع الآخر عام 1393 هـ ، الموجهة لرئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بشأن الاستفسار عما يجب اتخاذه في ثمار ديار ثمود ومنتجاتها التي تم نضجها وحصادها قبل إبلاغهم بالمنع ، وهل تلحق المواشي والدواجن بالثمار؟
وبناء على إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الخامسة لهيئة كبار العلماء -عرض الموضوع في هذه الدورة المنعقدة في مدينة الطائف فيما بين 5 / 8 / 1394 هـ و22 / 8 / 1394 هـ .
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي قرر المجلس بالأكثرية ما يلي :
أولا : لا يشمل الحكم بتحريم إحياء ديار ثمود وسكناها وتحريم مياهها- ما نشأ فيها أو جلب إليها من المواشي والدواجن ، وإن تغذى بما فيها من مزارع ونبات وشرب من مياهها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعلفوا ركائبهم العجين الذي عجنوه بماء آبار ثمود ، ولو كان ذلك يوجب تحريم ركائبهم عليهم ما أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعلفوها ذلك العجين .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 109)
ثانيا : لا يلزم من تحريم مياهها وإحياء أرضها تحريم ثمارها؛ لأن أعيان المياه والتربة قد استحالت لأعيان أخرى هي الثمار والزروع ، والاستحالة تقتضي تغيير الخواص والأحكام ونظير ذلك طهارة ما سمد من الأشجار والزروع بالنجاسات ، وحل ثمارها بسبب الاستحالة ، ونظيره أيضا طهارة ما تخلل بنفسه من الخمر وحل الائتدام به وبيعه وشرائه ، وغيرها من أنواع الانتفاع بعد أن كان خمرا محرما شربها وبيعها وشراؤها ، وذلك بسبب الاستحالة .(3/467)
وأيضا للزراع فيها كسب وتسبب يوجب ملك الثمار والزروع ، ومال المسلم معصوم كدمه وعرضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564),سنن الترمذي البر والصلة (1927),سنن أبو داود الأدب (4882). كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه .
وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. .
رئيس الدورة الخامسة
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
صالح اللحيدان ... عبد الله بن منيع
مخالف وله وجهة نظر مرفقة ... راشد بن خنين(3/468)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 110)
وجهة نظر في حكم ثمار ديار ثمود
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي [صحيح البخاري ] سنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء ، وفيه بسنده إلى ابن عمر ، أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة .
إن المتأمل في علة المنع من الاستقاء من هذه الآبار سيخرج بأحد أمرين : إما لنجاسة الماء ، أو لوصف لازم له يوجب تحريمه ، وجمهور أهل العلم متفقون على القول بطهارة مياه تلك الآبار؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ -وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سنن الترمذي الطهارة (66),سنن النسائي المياه (326),سنن أبو داود الطهارة (66),مسند أحمد بن حنبل (3/86). الماء طهور لا ينجسه شيء رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه .
قال الإمام أحمد رحمه الله : حديث بئر بضاعة صحيح . فتعين القول بأن علة المنع من ذلك وصف قائم فيه لازم له يوجب تحريمه .
وإلى نحو ذلك أشار القرطبي رحمه الله في تفسير سورة الحجر فقال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 111)(3/469)
سخط فلم يجز الانتفاع به؛ فرارا من سخط الله ، وقال : "أعلفوه الإبل" قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ، إذ لا تكليف عليها . اهـ .
وفي [الإقناع وشرحه] ما نصه : ولا يباح ماء آبار ديار ثمود غير بئر الناقة . . . إلى أن قال : فظاهره ، أي : ظاهر القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود لا تصح الطهارة ، أي : الوضوء والغسل به؛ لتحريم استعماله؛ كماء مغصوب ، أو ماء ثمنه المعين حرام في البيع ، فلا يصح الوضوء بذلك ، ولا الغسل به؛ لحديث : صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256). من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . . . إلى أن قال : ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع منه شرعا فهو كالمعدوم حسا . اهـ .
وحيث اتجه القول إلى أن علة المنع : اشتماله على وصف لازم له ، وهو كونه ماء سخط ، فإن الثمار الناتجة من مزارع وبساتين تلك الديار المسقاة بتلك الآبار شبيهة بالطحين المعجون بماء هذه الآبار ، إن لم تكن أولى منها . ذلك أن العجين بمائها مركب من أمرين : مباح ، هو : الطحين ، ومحرم ، هو : الماء ، أما الثمار فمحتواها لا يخرج عن تربة تلك الديار ، ومياه آبارها ، والقول باستحالة حرمة هذه المياه حينما تحولت إلى ثمار قياسا على النجاسة غير صحيح -فيما أرى- قياس مع الفارق ، فإن الشيء المتنجس يزول بغسله ، أو باستحالته ، أما التحريم فلا يزول إلا بزوال الوصف الموجب له ، كاستحالة الخمر إلى خل ، فإن الوصف الموجب لتحريمها الإسكار ، وباستحالتها إلى خل زال ذلك الوصف ، فصارت حلالا . وتحريم مياه هذه الآبار -لكونها مياه سخط أو لأي وصف آخر-
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 112)(3/470)
موجب للتحريم ، والوصف الموجب لتحريم مياه آبار ديار ثمود وصف ملازم لها ، سواء اختلطت بغيرها -كالعجين- أو شكلت مع غيرها أجساما أخرى كالثمار .
يدل على أن الحرمة لا تزول عن الشيء المحرم -وإن انتقل من حال إلى حال إلا بزوال الوصف الموجب لها- ما روى الجماعة عن جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صحيح البخاري البيوع (2121),صحيح مسلم المساقاة (1581),سنن الترمذي البيوع (1297),سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256),سنن أبو داود البيوع (3486),سنن ابن ماجه التجارات (2167),مسند أحمد بن حنبل (3/326). إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا ، هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لما حرم شحومها جملوه ، ثم باعوه فأكلوا ثمنه ، وما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال سنن أبو داود البيوع (3488),مسند أحمد بن حنبل (1/247). لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه رواه أحمد وأبو داود .
فإن حرمة الشحوم على اليهود انسحبت على أثمان أدهانها ، ولم تنفعهم حيلتهم لاستباحتها ، بل بقي التحريم قائما ، فاستحقوا بذلك لعنة الله لاستباحته .
كما يدل على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطمعه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له . فذكر أن من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة- أكل الحرام ، وشربه ، والتغذية به ، مع أن أعيان هذه الأشياء المحرمة تستحيل إلى مواد أخرى بعد أكلها أو شربها ، ومع ذلك لم تكن استحالتها مانعة من ملازمة الحرمة لها ، ومن كون ملازمة(3/471)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 113)
الحرمة لها سببا في رد الدعاء ومنع الاستجابة؛ لأن الوصف الموجب لحرمتها ملازم لها .
لذلك كله فإني أرى أن لثمار مزارع وبساتين ديار ثمود حكم الطحين المعجون بمائها ، وهو إطعامه الدواب .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
الطائف في 20 / 8 / 1394 هـ
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع(3/472)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 114)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 115)
(4)
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 116)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 117)
بسم الله الرحمن الرحيم
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء
في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فبناء على ما نقله سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن جلالة الملك فيصل -رحمه الله- بموجب خطاب سماحته رقم 11471 / 1 / ط وتاريخ 29 / 6 / 1392 هـ الموجه إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء ، وبناء على القرار رقم (5) وتاريخ 13 / 8 / 1392 هـ الصادر عن الهيئة -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به ، وضمنته الكلام على ما يأتي على الترتيب :
الأول : تمهيد .
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض .
ب- حكم تولية كل منهم القضاء .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 118)
ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا .
الثاني : الدواعي التي دعت إلى تأليف كتاب بعبارة سهلة يقتصر فيه على القول الراجح من أقوال الفقهاء على هيئة مواد ، وإلزام القضاة العمل بما فيه .
الثالث : بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا .
الرابع : أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين فيما يرفع إليهم من الخصومات مع الأدلة .(3/473)
الخامس : الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل ، والتي تترتب على العدول عنه للدواعي الطارئة؛ لما يظن أنه المصلحة .
السادس : هل يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة القائمة سوى إلزام القضاة أن يحكموا بما يراد تدوينه من الأقوال الراجحة ، أو يتعين إلزامهم بذلك طريقا لعلاج الموقف وحل المشكلة .
السابع : مدى تصرف إمام المسلمين في الإلزام ، مع أمثلة في مجال إلزامه توضح ذلك .
والله الموفق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .(3/474)
الأول : التمهيد : وفيه ثلاثة أمور :
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض .
ب- حكم تولية كل منهم القضاء .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 119)
ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا .
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض :
1 - قال [مجموعة رسائل ابن عابدين] ، رسالة رسم المغني (11 / 12) . ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا : الفقهاء على سبع طبقات :
الأولى : طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة ، من غير تقليد لأحد ، لا في الفروع ولا في الأصول .
الثانية : طبقات المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم ، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول .
الثالثة : طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب؛ كالخصاف ، وأبي جعفر الطحاوي -إلى أن قال- : فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام ، لا في الأصول ولا في الفرع ، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها .
الرابعة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 120)
فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا ، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين ، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب ، وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل .(3/475)
الخامسة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري ، وصاحب الهداية وأمثالهما ، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم : هذا أولى ، وهذا أصح رواية ، وهذا أوضح ، وهذا أوفق للقياس ، وهذا أرفق للناس .
السادسة : طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة ، كأصحاب المتون المعتبرة؛ كصاحب [الكنز] ، وصاحب [المختار] ، وصاحب [الوقاية] ، وصاحب [المجمع] ، وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة .
السابعة : طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ، ولا يفرقون بين الغث والسمين ، ولا يميزون الشمال من اليمين ، بل يجمعون ما يجدون ، كحاطب ليل ، فالويل لمن قلدهم كل الويل .
2 - قال [الأحكام] للآمدي (4 / 162) . الآمدي : أما الاجتهاد فهو في اللغة : عبارة عن استفراغ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 121)(3/476)
الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة . . ثم قال : وأما في اصطلاح الأصوليين : فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه -وبعد أن شرح التعريف قال- : وأما المجتهد : فهو من اتصف بصفة الاجتهاد -وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال- الشرط الثاني : أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها ، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها . . . إلى أن قال : هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية . كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر .
3 - قال [مراقي السعود وشرحها] ، طبعة المدني . محمد الأمين الجنكي الشنقيطي ما حاصله: المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين؛ كالأئمة
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 122)(3/477)
الأربعة ، وأما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه ، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه ، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول- أي : القواعد وفاقية أو خلافية -من كلام إمامهم وشرطه المحقق له : أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له ، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه؛ لوجود معنى ما نص عليه فيه ، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه ، أو كأن يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك أو قاعدة ذكرها ، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما ، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى ، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل العارف بعامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال ، وعلم خاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها . قال : نحو هذا نقله الخطاب ، وقال : العلم بذلك متعذر ، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح ، وفي ابن عبد السلام . انتهى كلامه ، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى ، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه ، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه ، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به ، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 123)
4 - قال [المسودة] ص (546) ، ويرجع أيضا إلى [المجموع شرح المهذب] (1 / 70) وما بعدها . شيخ الإسلام نقلا عن ابن الصلاح ، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي قال :
وللمفتي المنتسب أحوال أربع :(3/478)
أحدهما : ألا يكون مقلدا لإمامه ، لا في المذهب ولا في دليله ، وإنما انتسب إليه؛ لسلوك طريقه في الاجتهاد . . إلخ ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف .
الحال الثانية : أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه ، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل ، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه ، لكنه قد أخل ببعض الأدوات؛ كالحديث واللغة ، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ، ولا يستوفي النظر في شروطه ، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها ، كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه . قال : والذي رأيت من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا ، قال : وأقول : يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى ، ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ على جواز تقليد الميت وهو الصحيح ، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة ، أو باب خاص ، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه ، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وإليه مفزع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 124)
المفتين من مدد مديدة ، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة ، وهو أقدر والمستفتي فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له ، قطع به أبو المعالي ، قال : وأنا أقول : ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا ؟) .(3/479)
والذي اختاره أبو إسحاق : أنه لا ينسب إليه؛ قال : وتخريجه تارة من نص معين ، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه ، والأولى إذا وجد نص بخلافه يسمى ما خرجه : قولا مخرجا ، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك ينسى وجها ، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا ، وإن لم يعلم العلة الجامعة ، كالأمة مع العبد في السراية ، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج ، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما ، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق .
الحال الثالثة : أن يكون حافظا للمذهب ، عارفا بأدلته ، لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه ، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة ، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب ، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك ، وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق .
الحال الرابعة : أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقتصر في تقرير أدلته ، فهذا يعتمد نقله وفتواه في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 125)(3/480)
نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه ، وما لم يجده منقولا؛ فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن ، كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق ، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب- جاز له إلحاقه والفتوى به ، وإلا فلا ، قال : ويندر عدم ذلك ، كما قال أبو المعالي ، بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق ، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه ، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها ، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها ، جليها وخفيها ، قال : ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف في الفقه : أنه يجب عليه الاستفتاء . انتهى .
5 - قال [الإنصاف] (12 / 258) وما بعدها . علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه : المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام :
مجتهد مطلق ، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره ، ومجتهد في نوع من العلم ، ومجتهد في مسألة أو مسائل .
القسم الأول : المجتهد المطلق ، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك ، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها ، ولا يتقيد بمذهب أحد ، وقيل يشترط أن يعرف أكثر الفقه ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 126)
وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك . وقيل : المفتي : من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر .
القسم الثاني : مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره :
وأحواله أربعة :(3/481)
الحالة الأولى : أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ، ودعا إلى مذهبه ، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره ، وأشد موافقة فيه وفي طريقه . . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها ، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف .
الحالة الثاني : أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه ، مستقلا بتقريره بالدليل ، ومضى في الكلام . . . إلى أن قال : والحاصل : أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله ، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط . فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق .
الحالة الثالثة : ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق ، غير أنه فقيه النفس ، حافظ لمذهب إمامه ، عارف بأدلته ، قائم بتقريره ونصرته ، يصور ويحرر ، ويمهد ويقوي ، ويزيف ويرجح ، لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم ، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه ، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه ، وإما
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 127)
لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق .
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها ، وصنفوا فيها تصانيف ، بها يشتغل الناس اليوم غالبا ، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب .
وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور . . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه . وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول ، واستنباط وجه ، أو احتمال ، وفتاويهم مقبولة .(3/482)
الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه ، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه ، من منصوصات إمامه ، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم . . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس . . . ويكفي استحضاره أكثر المذاهب ، مع قدرته على مطالعة بقيته .
القسم الثالث : المجتهد في نوع من العلم ، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث ، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره ، وعليه الأصحاب .
القسم الرابع : المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها .
6 - قال ابن القيم [إعلام الموقعين] (4 / 184) . : المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى -أربعة
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 128)
أقسام .
أحدهم : العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت . . . إلخ .
النوع الثاني : مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه في الحكم ولا في الدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره فهو موافق له في مقصده وطريقه معا . . . إلخ .
النوع الثالث : من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل ، متقن لفتاويه ، عالم بها ، لكنه لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها ، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة . . . إلخ .
النوع الرابع : طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه وحفظت فتاويه وفروعه ، فأقرت على نفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه . . . إلخ .(3/483)
ففتاوى القسم الأول : من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم ، وفتاوى النوع الثاني : من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم ، وفتاوى النوع الثالث ، والرابع : من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعطه متشبه بالعلماء ، محاك للفضلاء .(3/484)
ب- حكم تولية كل منهم القضاء
أما حكم تولية كل منهم القضاء فمختلف تبعا لاختلاف أحوالهم :
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 129)
أ- المذهب الحنفي :
1 - قال [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (13) . علي بن خليل الطرابلسي في الكلام على الركن الأول في شروط القضاء- قال : وإذا أراد الإمام تولية أحد اجتهد لنفسه وللمسلمين . . . ومضى إلى أن قال : وأهل القضاء : من كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن : سنن الترمذي الأحكام (1327),سنن أبو داود الأقضية (3592),مسند أحمد بن حنبل (5/236),سنن الدارمي المقدمة (168). بم تقضي يا معاذ ؟ . . . الحديث ، ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق ، إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن الحوادث ممدودة ، والنصوص معدودة فلا يجد القاضي في كل حادثة نصا يفصل به الخصومة ، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه ، وإنما يمكنه ذلك إذ كان عالما بالاجتهاد . . . ومضى إلى أن قال : ولا ينبغي أن يكون صاحب حديث لا فقه عنده ، أو صاحب فقه لا حديث عنده ، عالما بالفقه والآثار ، وبوجه الفقه الذي يؤخذ منه الحكم .
قال عمر بن عبد العزيز : من راقب الله تعالى فكانت عقوبته أخوف في نفسه من الناس وهبه الله السلامة .
2 - قال [بدائع الصنائع] (7 / 3) . الكاساني في الكلام على من يصلح للقضاء بعد أن ذكر جملة من الشروط : وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز ، بل شرط الندب والاستحباب ، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام ، مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك- شرط جواز التقليد ، كما قالوا
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 130)(3/485)
في الإمام الأعظم ، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء ، فكذا القاضي ، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح ، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به -وبعد سياقه الحديث : "القضاة ثلاثة" قال : إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء ، فكان تقليده جائزا في نفسه ، فاسد المعنى في غيره ، والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع ، وهو كالبيع الفاسد ، إنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم كذا هذا . انتهى .
3 - قال [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (4 / 176) . عثمان بن علي الزيلعي على قول صاحب [الكنز] : (والاجتهاد شرط الأولوية- قال : - لأنه أقدر على الحكم بالحق ، واختلفوا في حد الاجتهاد . قيل : أن يعلم الكتاب بمعانيه ، والسنة بطرقها ، والمراد يعلمها على ما يتعلق به الأحكام منه ، ومعرفة الإجماع والقياس؛ ليمكنه استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها بطريقها .
ولا يشترط معرفة الفروع التي استخرجها المجتهدون بآرائهم ، وقال بعضهم : يشترط مع هذا : أن يكون عارفا بالفروع المبنية على اجتهاد السلف؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من المجتهدين ، وقال بعضهم : من حفظ المبسوط ومذهب المتقدمين فهو من أهل الاجتهاد ، والأشبه أن يقال : أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه يعرف معاني الآثار ،
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 131)
وصاحب فقه له معرفة بالحديث؛ كيلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه ، وقيل : لا بد مع هذا من أن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن كثيرا من الأحكام مبني عليها . انتهى .
ب- المذهب المالكي :(3/486)
1 - يشترط [حاشية علي الصعيدي في باب الأقضية على أبي الحسن على الرسالة] لابن أبي زيد (2 / 278) وما بعدها . في القاضي أن يكون مجتهدا ، فلا تنعقد إلا له إن وجد ، وإلا فمقلد ، ويجب عليه العمل بالمشهور في مذهب إمامه ، واعلم أنه أراد بالمجتهد المطلق ، وأما غير المطلق فهو داخل في المقلد ، وهو قسمان : مجتهد مذهب ، وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة ، ومجتهد الفتوى ، وهو الذي يقدر على الترجيح ، وما ذكره من أن تولية المقلد مع وجود المجتهد باطل قول ، والقول الآخر : أنها صحيحة ، وعليه طائفة أيضا ، كالمازري وغيره ، وعليه العمل في زمن مالك وغيره ممن قبله وممن بعده من المجتهدين ، فكان ينبغي الاقتصار عليه .
2 - يشترط في صحة تعيين القاضي : أن يكون مجتهدا مطلقا إن وجد ، وإلا فمجتهد مذهب أو فتوى ، وهو الذي يضبط المسائل المنقولة ويقوى على استخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه وباعتبار قاعدة كلية ، وقيل : الاجتهاد المطلق شرط كمال التولية وتقديم الأمثل ، وهو مجتهد المذهب على المقلد المحض ليس بشرط صحة في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 132)
التولية على الأصح ، بل قال بعضهم : يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء .
ج- المذهب الشافعي :(3/487)
1 - قال الماوردي : ولا يجوز أن يقلد القضاء من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده ، وينفذ بها حكمه وهي سبعة . . . إلى أن قال : والشرط السابع : أن يكون عالما بالأحكام الشرعية ، وعلمه يشتمل على أصولها ، والارتياض بفروعها . ثم فصل الكلام بما ينطبق على المجتهد المطلق . ثم قال بعد ذلك : فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين ، وجاز له أن يفتي ويقضي ، وجاز له أن يستفتى ويستقضى ، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي ، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا ، وحكمه -وإن وافق الصواب- مردود ، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء ، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد؛ ليستفتى في أحكامه وقضاياه ، والذي عليه جمهور الفقهاء : أن ولايته باطلة ، وأحكامه مردودة ، ولأن التقليد في فروع الشريعة ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه . ثم قال : ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه . فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها ، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 133)(3/488)
حنيفة عمل عليه وأخذ به ، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضاء والأحكام ، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة ، وأرضى للخصوم ، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور ، والاجتهاد فيها مستحق . وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه ، وقضى بما أداه اجتهاده إليه ، وإن خالف ما تقدم من حكمه ، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام ، وترك التشريك في غيره ، فقيل له : ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال : تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي .
2 - وبعد [نهاية المحتاج] (8 / 240) . أن ذكر الرملي : أن الاجتهاد شرط في تولية القضاء ، قال بعد ذلك : فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ، ولا مقلد وهو : من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى ، فالقضاء أولى . . . ومضى إلى أن قال : واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه ، إما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه ، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع ، فإنه مع المجتهد ، كالمجتهد في نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه ، كما لا يجوز له
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 134)(3/489)
الاجتهاد مع النص (فإن تعذر جمع هذه الشروط) أو لم يتعذر ، كما هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير (فولى السلطان أو من له شوكة) . . . (فاسقا أو مقلدا) (ولو جاهلا) نفذ قضاؤه الموافق لمذهبه المعتد به ، وإن زاد فسقه (للضرورة) لئلا تتعطل مصالح الناس . . . ويجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل؛ رعاية لمصلحة المسلمين ، وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد ، وإلا نفذت تولية المقلد ، ولو من غير ذي الشوكة . . . ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل معرفة طرف من الأحكام . . . ويلزم قاضي الضرورة بيان مستنده في سائر أحكامه ، كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله ، ولا يقبل قوله : حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه ، وكأنه لضعف ولايته . انتهى المقصود .
د- المذهب الحنبلي :
1 - قال [المنتهى وشرحه] (3 / 459) ، ويرجع أيضا إلى [الإنصاف] (12 / 155) . في [المنتهى وشرحه] : فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا . . . إلى أن قال : وعلى الإمام أن يختار لذلك أفضل من يجده علما وورعا؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح لهم .
2 - وقال [المنتهى وشرحه] (3 / 463) . أيضا : وله أن يولي قاضيا من غير مذهبه .
3 - وقال [المنتهى وشرحه] (3 / 467) . أيضا بعد ذكره لشروط الاجتهاد : فمن عرف أكثر ذلك فقد صلح للفتيا والقضاء؛ لتمكنه من الاستنباط والترجيح بين الأقوال ، قال في
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 135)
(آداب المفتي) : ولا يضر جهله بذلك؛ لشبهة أو إشكال ، لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة ، وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها ، وزاد ابن عقيل في [التذكرة] ، ويعرف وجوه الاستدلال ، واستصحاب الحال ، والقدرة على إبطال شبه المخالف ، وإقامة الدليل على مذهبه .(3/490)
4 - وقال [الأحكام السلطانية] (45 ، 46) . أبو يعلى : فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط . . . ومضى إلى أن قال : فإذا عرف ذلك صار من أهل الاجتهاد ، ويجوز له أن يفتي ويقضي ، ومن لم يعرف ذلك لم يكن من أهل الاجتهاد ، ولم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي ، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا ، وإن وافق الصواب؛ لعدم الشرط .
5 -قال [المغني والشرح] (11 / 380) . الخرقي رحمه الله : ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عادلا عالما فقيها ورعا .
6 - قال [المغني والشرح] (11 / 382) وما بعدها . ابن قدامة رحمه الله : الشرط الثالث : أن يكون من أهل الاجتهاد ، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم ، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز ، كما يحكم بقول المقومين .
ولنا قول الله تعالى : سورة المائدة الآية 49 وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولم يقل
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 136)
بالتقليد ، وقال : سورة النساء الآية 105 لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وقال : سورة النساء الآية 59 فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن أبو داود الأقضية (3573),سنن ابن ماجه الأحكام (2315). القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة : رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ، ورجل جار في الحكم فهو في النار رواه ابن ماجه . والعامي يقضي على جهل .
ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام ، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى . . . ويخالف قول المقومين ؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم .(3/491)
وبعد أن شرح الاجتهاد قال : وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه . فإن قيل : هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا : ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها ، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا ، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألان الناس فيخبران ، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة؟ فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولكن ارجعي حتى أسأل
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 137)
الناس ، ثم قام فقال : أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس . وسأل عمر عن إملاص المرأة؟ فأخبره المغيرة بن شعبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة ، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم ، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة الاجتهاد ، فلا تكون شرطا له ، وهو سابق عليها .
وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل . . . ثم قال : وإنما المعتبر أصول هذه الأمور ، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله ، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا ، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه . انتهى .
7 - يشترط [الإنصاف] (11 / 177 ، 178) . فيمن يولى القضاء : أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسر وإلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة ، فإن لم يتيسر جاز تولية المقلد للحاجة ، وإلا تعطلت أحكام الناس . اهـ .(3/492)
8 - جاء في [الكشاف] [كشاف القناع عن متن الإقناع] (6 / 237) . في أثناء الكلام على شروط القاضي (مجتهدا) إجماعا ذكره ابن حزم؛ ولأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد ، والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله ، ولا المفتي قوله : (ولا المفتي) ، وفي [المغني] : (ثم المفتي) . لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا ، فالحاكم أولى (ولو) كان اجتهاده (في مذهب
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 138)
إمامه) (إذا لم يوجد غيره) (لضرورة) لكن في [الإفصاح] : أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة ، وأن الحق لا يخرج عنهم ، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة : أن قول من قال : إنه لا يجوز تولية غير مجتهد فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرت عليه هذه المذاهب .
وقال الموفق في خطبة [المغني] : النسبة إلى إمام في الفروع ، كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة ، فإن اختلافهم رحمة ، واتفاقهم حجة قاطعة (واختار في [الإفصاح والرعاية] : أو مقلدا) .
قال في [الإنصاف] : ( وعليه عمل الناس من مدة طويلة ، وإلا تعطلت أحكام الناس ، وكذا المفتي ) .
قال ابن يسار : ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها ، وظاهر نقل عبد الله مفت غير مجتهد ، ذكره القاضي ، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة (فيراعي كل منهما ألفاظ إمامه) و (يراعي من أقواله) متأخرا ، ويقلد كبار مذهب في ذلك ، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد ، ولا يخرج عن الظاهر عنه .
9 - وقال [مجموع الفتاوى] (28 / 259) . شيخ الإسلام ابن تيمية : وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين ، فأيهما يقدم؟
فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين ، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 139)(3/493)
وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين ، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا ، أهلا للشهادة ، واختلفوا في اشتراط العلم : هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما يتيسر؟ على ثلاثة أقوال . . . إلخ .
10 - وقال [مجموع الفتاوى] (28 / 388) ، ويرجع أيضا إلى [السياسة الشرعية]ص (66) . أيضا : وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان . . . كل ذلك واجب مع القدرة ، فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها . وجاء [إعلام الموقعين] (1 / 114) ، وما بعدها ، طبعة المدني . معنى ذلك عن ابن القيم رحمه الله .(3/494)
ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا .
أ- المذهب الحنفي :
1 - قال [حاشية ابن عابدين] (4 / 498) . ابن عابدين : لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا نفذ عنده ، وفي العامد روايتان ، وعندهما لا ينفذ في الوجهين ، واختلف الترجيح . قال في [الفتح] : والوجه الآن : أن يفتي بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل ، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره ، هذا كله في القاضي المجتهد ، أما القاضي المقلد ، فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة ، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 140)
2 - وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهبه ما نصه : وحاصل هذه المسألة : أنه يشترط لصحة القضاء : أن يكون موافقا لرأيه -أي : لمذهبه- مجتهدا كان أو مقلدا ، فلو قضى بخلافه لا ينفذ ، لكن في [البدائع] : إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح ، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير . انتهى .
3 - وقال [حاشية ابن عابدين] (5 / 400) . أيضا تحت مطلب الحكم بما خالف الكتاب والسنة والإجماع : قلت : لكن قد علمت : أن عدم النفاذ في متروك التسمية بني على أنه لم يختلف فيه السلف ، وأنه لا اعتبار بوجود الخلاف بعدهم ، وحينئذ فلا يفيد احتمال الآية أوجها من الإعراب . نعم على ما يأتي من تصحيح اعتبار اختلاف من بعدهم يقوي ما في هذا البحث ويؤيده ما في الخلاصة من أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا جائز عندهما ، لا عند أبي يوسف ، وكذا ما في [الفتح] عند [المنتقى] من أن العبرة في كون المحل مجتهدا فيه اشتباه الدليل لا حقيقة الخلاف .(3/495)
4 - (ويأخذ) [تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار ، عليه حاشية ابن عابدين] (5 / 360 ، 361) . القاضي ، كالمفتي (بقول أبي حنيفة على الإطلاق ، ثم بقول أبي يوسف ، ثم بقول محمد ، ثم بقول زفر والحسن بن زياد (وهو الأصح) منية وسراجية وعبارة النهر ، ثم بقول الحسن فتنبه ، وصحح في [الحاوي] اعتبار قوة المدرك ، والأول أضبط . نهر (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا ، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه ، وينقض ، هو المختار للفتوى ، كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره . . .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 141)
وفي القهستاني وغيره .
اعلم أن كل موضع قالوا : الرأي فيه للقاضي ، فالمراد : قاضي له ملكة الاجتهاد . انتهى ، وفي الخلاصة : وإنما ينفذ القضاء في المجتهد فيه إذا علم أنه مجتهد فيه وإلا فلا .
5 - قال ابن عابدين على قول صاحب الدر : (والأول أضبط) قال : لأن ما في [الحاوي] خاص فيمن له اطلاع على الكتاب والسنة ، وصار له ملكة النظر في الأدلة ، واستنباط الأحكام منها ، وذلك هو المجتهد المطلق ، أو المقيد ، بخلاف الأول ، فإنه يمكن لمن هو دون ذلك .
وقال أيضا على قول صاحب [تنوير الأبصار] : (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا) أي : لا يجوز له مخالفة الترتيب المذكور ، إلا إذا كان له ملكة يقتدر بها على الاطلاع على قوة المدرك ، وبهذا رجع القول الأول إلى ما في [الحاوي] من العبرة في المفتي المجتهد؛ لقوة المدرك ، نعم فيه زيادة تفصيل سكت عنها [الحاوي] ، فقد اتفق القولان على أن الأصح : هو أن المجتهد في المذهب من المشايخ الذين هم أصحاب الترجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق ، بل عليه النظر في الدليل وترجيح ما رجح عنده دليله ، ونحن نتبع ما رجحوه واعتمدوه ، كما لو أفتوا في حياتهم . . إنه إن لم يكن مجتهدا فعليه تقليدهم واتباع رأيهم ، فإذا قضى بخلافه لا ينفذ حكمه .(3/496)
6 - قال [بدائع الصنائع] (7 / 5) . الكاساني : فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد ، فإن عرف
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 142)
أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق- عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد ، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا ، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد : فمن أصحابنا من قال : له أن يأخذ بقوله ، ونرجو ألا يكون عليه شيء؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الأخذ بقوله ، قال الله تبارك وتعالى : سورة النحل الآية 43 فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ ، كما لو كان مجتهدا فترك رأي نفسه وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا - فإنه لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنه قضى بما هو باطل في اجتهاده ، كذا هنا ، ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشيء على ظن أنه مذهب نفسه ثم تبين أنه مذهب خصمه ذكر في [شرح الطحاوي ] : أن له أن يبطله ، ولم يذكر الخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا فتبين أنه وقع باطلا ، كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه .
7 - قال [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (26) ، طبعة بولاق . علي بن خليل الطرابلسي في معرض بحثه الركن الثاني من أركان القضاء ، والمقضي به ، واجتهد القاضي في القضاء- قال ما نصه : ثم لا بد من معرفة فصلين : أحدهما : إذا اتفق أصحابنا في شيء قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله : لا ينبغي للقاضي أن يخالفهم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 143)(3/497)
برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم ، فإن أبا يوسف كان صاحب حديث حتى روي أنه قال : أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ ، فإذا كان يحفظ من المنسوخ هذا القدر ، فما ظنك بالناسخ ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضا ، ومحمد صاحب قريحة يعرف أحوال الناس وعاداتهم ، وصاحب فقه ومعنى؛ ولهذا قل رجوعه في المسائل ، وكان مقدما في معرفة اللغة ، وله معرفة في الأحاديث أيضا .
وأبو حنيفة رحمه الله كان مقدما في ذلك كله ، إلا أنه قلت روايته لمذهب خاص له في باب الحديث ، وهو أنه إنما تحل رواية الحديث عنده إذا كان يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروى . ثم ذكر بعد ذلك طريقة الأخذ فيما إذا اختلف بعضهم عن بعض .
8 - وقال [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (28) ، طبعة بولاق . أيضا في معرض بحثه نقض القاضي أحكام نفسه- قال ما نصه :
وذكر القاضي أبو بكر الرازي الخلاف فيما إذا قضى بخلاف مذهبه وقد نسيه ، فأما متى حكم بخلاف مذهبه حال ذكر مذهبه لا يجوز حكمه بالإجماع . . أما إذا لم يكن للقاضي رأي وقت القضاء فقضى برأي غيره ، ثم ظهر للقاضي رأي بخلاف ما قضى هل ينقض قضاؤه؟ قال محمد : ينقض قضاؤه؛ لأن رأيه في حق وجوب القضاء عليه بمنزلة النص؛ لأنه
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 144)
يوجب القضاء عليه ، كالنص ، ولو قضى برأيه ثم تبين نص بخلافه ينقض قضاؤه ، فكذا هذا ، وقال أبو يوسف : لا ينقض .
ب- المذهب المالكي :(3/498)
1 - ويجب [الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل] (4 / 130) . على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه ، وكذا المفتي ، فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم - فلا ينقض ، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه ، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه ، حتى قيل : ليس مقلده رسولا أرسل إليه ، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه ، فقيل : لا يلزمه الشرط ، وقيل : بل ذلك يفسد التولية ، وقيل : يمضي الشرط للمصلحة .
2 - وسئل القرافي : هل يجب على الحاكم ألا يحكم إلا بالراجح عنده ، كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده ، أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده؟
فأجاب قائلا : إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده ، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور من مذهبه ، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده ، مقلدا في رجحان القول المحكوم به
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 145)
إمامه الذي يقلده ، كما يقلده في الفتيا ، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا ، فحرام إجماعا . . . إلخ .(3/499)
3 - جاء في [الشرح الكبير والدسوقي ] ما ملخصه : ونقض القاضي ما تبين له خطؤه من أحكامه أو أحكام غيره وبين السبب ، فهذا إما مطلقا أو مجتهد مذهب ، وذلك فيما إذا خالف نصا قاطعا أو جليا من كتاب أو سنة أو خالف إجماعا ، وله أمثلة كثيرة ، منها : ما لو خرج عن رأيه إذا كان مجتهدا وادعى أنه أخطأ؛ فينقضه فقط . وأما لو ثبت ببينة أنه أخطأ أو بقرينة؛ فإنه ينقضه هو وغيره ، أو خرج المقلد عن رأي إمامه خطأ وادعى أنه أخطأ وصار ما حكم به قول عالم وقد كان قاصدا الحكم بقول غيره وكان مفوضا في الحكم بأي قول قوي من أقوال علماء مذهبه- فينقضه فقط .
وأما إن صادف حكمه قول غير عالم لم يقصد الحكم بقول عالم معين ، أو قصد الحكم بقول عالم فحكم بغيره- فينقض حكمه هو وغيره ، وإن تجدد المماثل فالاجتهاد فيها مطلوب إن كان الحاكم مجتهدا ، وإن كان مقلدا فلا يتعدى حكمه الأول أيضا إلى المماثل ، بل يحكم بمثل ما حكم به أولا؛ لحكمه بقول إمامه دائما ، إلا أن يكون من أهل الترجيح في المذهب فله مخالفة الأول ، إن ترجح عنده مقابله .
ج- المذهب الشافعي :
1 - قال [المحلى على المنهاج] (4 / 297) . النووي وجلال الدين المحلي : (ويحكم باجتهاده إن كان
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 146)
مجتهدا أو اجتهاد مقلده) بفتح اللام (إن كان مقلدا) بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد .
2 - وقال [قليوبي على المنهاج] (4 / 298) . قليوبي على قول النووي : (أو اجتهاد مقلده) أي : المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا ، وإلا فباعتماده ، ولا يجوز له الحكم بغير مذهبه .(3/500)
3 - وقال [نهاية المحتاج على المنهاج] (8 / 240) ، ويرجع أيضا إلى ص (242) . الرملي على قول النووي : (مجتهد) قال : فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد . . . ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق : اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه ، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه ، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع ، فإنه مع المجتهد ، كالمجتهد في نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه ، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص .
4 - قال [مجموع المنقور] (2 / 152) . الإمام فخر الدين في كتابه [ملخص البحر] : لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب ، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده ، إذا ألزمناه اتباعه ، ذكره الغزالي ، واقتصر عليه في الروضة وغيرها ، وقال ابن الصلاح : لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه ، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد ، وكذا في أدب القضاء للغزي كلام ابن الصلاح ، ومرادهم بالمقلد : من
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 147)
حفظ مذهب إمام ونصوصه ، لكن عاجز عن تقويم -وفي نسخة تقديم- أدلته غير عارف بغوامضه . اهـ بواسطة المنقور .
د- المذهب الحنبلي :
سبقت نقول عن ابن قدامة رحمه الله وغيره من الحنابلة على هذه المسألة في أثناء الكلام على حكم التولية للمجتهد ومن ذكر معه .
وفيما يلي نقول أخرى :
1 - وعلى المقلد [الإنصاف] (11 / 179) . أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد ، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه ، كمخالفة المفتي نص الشارع .
وقال الشيخ تقي الدين : يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعا ، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا ، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعا .(4/1)
2 - فوائد [الإنصاف] (11 / 184) وما بعدها . ملخصها : لو أداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره إجماعا ، وإن لم يجتهد لم يجز أن يقلد غيره أيضا مطلقا ، على الصحيح من المذهب .
قال ابن مفلح في أصوله : قاله أحمد وأكثر أصحابه . وعنه يجوز مع ضيق الوقت ، وقيل : يجوز تقليد من هو أعلم منه ، وفي هذه المسألة للعلماء عدة أقوال غير ذلك ، وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء ، بل إن علم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 148)
بتاريخ القولين عمل بالمتأخر منهما . إذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين- فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة؛ لزيادة الثقة بآرائهم . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : الناظر المجرد يكون حاكيا لا مفتيا .
وقال في [آداب عيون المسائل] : إن كان الفقيه مجتهدا يعرف صحة الدليل كتب الجواب عن نفسه ، وإن كان ممن لا يعرف الدليل ، وقال : مذهب الإمام أحمد كذا . مذهب الشافعي كذا ، فيكون مخبرا لا مفتيا .
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في الأخذ برخص المذهب وعزائمه : طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه ، وهو خلاف الإجماع ، وقال أيضا : إن خالفه لقوة الدليل وزيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولا يقدح في عدالته بلا نزاع ، وقال أيضا : بل يجب في هذه الحال ، وأنه نص الإمام أحمد رحمه الله ، وهو ظاهر كلام ابن هبيرة .(4/2)
3 - ومن حاشية [مجموع المنقور] (2 / 188) . ابن قندس قوله : ( فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه ، وعدم الخروج عن الظاهر عنه وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك؛ لمخالفته الواجب عليه . . . إلى أن قال : وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه ، والمنع من تقليد غيره ، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره وهذا هو اللائق لقضاة
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 149)
الزمان؛ ضبطا للأحكام ، ومنعا من الحكم بالتشهي ، فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي ، بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطمع ، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم ، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه ، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ، ولم تنحسم مادة السوء ، ويرشح ذلك بأن يقال : هذه مسألة خلافية ، فبعضهم ألزم بذلك ، وبعضهم لم يلزمه ، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك ، فيرتفع الخلاف . . . إلى أن قال : وظاهره : أن المقلد يجب عليه العمل بقول من يقلده وهو إمامه ، وأن لا يخرج عن قوله . . . إلى أن قال : قال بعض أصحابنا : مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع . . . إلى أن قال : قال النووي في [الروضة] : فرع : إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده ، قال الغزالي : إن قلنا : لا يجوز للمقلد تقليد من شاء ، بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه ، وإن قلنا : له تقليد من شاء لا ينقض ، ثم قال : الذي تقرر : أن مذهبنا إن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه ، بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه ، قاله شيخنا ) .
4 - قال شيخ الإسلام : وأولو الأمر صنفان : الأمراء ، والعلماء ، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس ، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله(4/3)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 150)
ويفعله طاعة الله ورسوله ، واتباع كتاب الله ، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة- كان هو الواجب ، وإن لم يمكن لضيق الوقت وعجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك- فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه ، هذا أقوى الأقوال ، وقد قيل : ليس له التقليد بكل حال ، وقيل : له التقليد بكل حال ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .(4/4)
الخلاصة
يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي :
أولا : إن المجتهد المطلق هو : من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها ، بناء على أصول ارتضاها لنفسه ، وليس تابعا فيها لغيره ، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء ، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف ، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا ، ونفذ فيه حكمه ، وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها .
ثانيا : المجتهد المنتسب : هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد ، من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله ، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده . . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق .
ثالثا : المقلد المتعلم هو : المتبحر في مذهب إمامه ، المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه ، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها ، عامها وخاصها ، وغامضها وواضحها ، لكنه لم يبلغ
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 151)
درجة التخريج أو الترجيح, وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة, وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه, فإن فعل ذلك نفذ حكمه, وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه؛ لبطلانه, فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه, وتقديم الراجح في مذهبه, فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد, فكان حكمه باطلا, وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه, وقيل : لا يجوز توليته القضاء, فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة, وكان حكمه باطلا, وإن وافق الراجح في مذهب إمامه, وكانت التبعة في ذلك عليه؛ لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه, وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه, وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد .(4/5)
رابعا : مجتهد المذهب وهو : من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه, أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه, أو استنباطها بالقياس على منصوصه لشبه معتبر بينهما, أو لعدم وجود فارق مؤثر, وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه .
وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة, وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه, والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح؛ ولذا اختلف في حكم توليته القضاء : فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء, ولو مع وجود المجتهد
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 152)
المطلق, فتصح ولايته, ويقضي ما ترجح لديه من الآراء, وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا, ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد, وسماه : مقلدا, وإن كان تقليده غير محض, لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق, والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء,ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل . خامسا : مجتهد الفتوى وهو : من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه, ولا قوة له على التخريج على أقوالهم أو من القواعد والأصول المعتبرة في المذهب إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر, وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله, وما كان تفصيلا لقول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين فإنه يقوى على مثل ذلك .
وهذا القسم وإن كان في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب, إلا أنه ملحق به في حكم توليته القضاء, وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها .(4/6)
الثاني : الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به :
لما كان علماء الصحابة والتابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين, وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة, ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة, ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا- وثق الناس بفتواهم, واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم, ورضوا بحكمهم فيما بينهم من نزاع في المعاملات, وبذلك انحلت
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 153)
مشاكلهم, ولم تداخلهم الريب والظنون, ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام في تدوين أحكام تختار, ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع, والفصل على ضوئها في الخصومات .
ولما ضعفت القريحة, وقصر النظر, وبعدت شقة الخلاف بين العلماء, وكثرت آراؤهم, وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا وجدت الريبة في الأحكام, والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس؛ ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات, يرجع إليها القضاة في أحكامهم, ويلزمون الحكم بمقتضاها؛ منعا للاضطراب في الأحكام, وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية, وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها, وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في الخصومات وحل مشاكل الناس, وحماية للأمة وحكومتها من العدول عن التحاكم إلى المحاكم الشرعية إلى التحاكم للقوانين الوضعية .
وفيما يلي نقل في بيان الدواعي إلى تدوين أحكام فقهية وإلزام القضاة أن يحكموا بها .
قال محمد سلام مدكور في بيان منشأ الضرورة إلى ذلك ودواعيه انظر [المدخل للفقه الإسلامي] ص (380) وما بعده . : الذي نراه أن منشأ ذلك إنما كان راجعا في عصورهم لشيء من الاضطراب في التطبيق القضائي لعدم معرفة الحكم الواجب التطبيق مع تعداد الأحكام(4/7)
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 154)
في المسألة الواحدة نتيجة اختلاف آراء المجتهدين, وذلك جدير أن يبلبل أفكار الناس, وألا يسير بهم في جادة مستقيمة ومشرع واضح للجميع, ولقد كان من آثار ذلك الاضطراب في الماضي واختلاف القضاة المجتهدين في أحكام المسألة الواحدة في البلد الواحد- أن يضل الناس في شئون حياتهم رغم تحريهم الهداية والرشاد, ولكن عدم معرفة الحكم الواجب التطبيق بينهم على سبيل التعيين في المسألة الاجتهادية جعلهم قاطبة عرضه للخطأ في نظر القضاء .
ولعل هذا هو السر في أن كثيرا من الأصوليين والعلماء أقفلوا باب الاجتهاد؛ سدا لذريعة الفوضى والاضطراب والحكم بالهوى المقنع بالاجتهاد ووجهة النظر, وكانوا محقين إذ ذاك حتى يغلق باب الشرور ويكون القاضي في أحكامه ملزما بأحكام مذهبه فلا يحيد عنه وملزما للناس بها حتى يعرفوها . ويقدر كل إنسان في تصرفاته حكم تصرفه أمام القضاء بحيث يستطيع أن يفهم إن كان في تصرفه حكم القضاء أم لا, وقد ترتب على هذا بحث الفقهاء في تقييد القاضي بمذهب معين , بل بالرأي الراجح من المذهب, كما بحثوا أمر تقييد السلطان لقضائه بالمذهب الذي ينبغي أن يستمد منه القاضي أحكامه, وقد كان هذا الاتجاه نواة وأساسا للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد قانونية محدودة واضحة ما أمكن, لا يلتبس الناس غالبا في شيء من أمرها . . .
إلى أن قال : أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء, ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محدودة مبينة معروفة للقاضي وللمتقاضي- كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس,
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 155)(4/8)
وأكفل لتحقيق المساواة بينهم, وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاء, فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد, وقد بينا عند الكلام عن الاجتهاد : أن العصر لا يخلو منهم ثم تصبح قانونا واجب الاتباع والتنفيذ, ولا ضير في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه, ومسايرة لمصالح الناس, ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين, كالنصوص القطعية, من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها, فليس هناك مجال إذا لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة, وهي :
عند وجود إبهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث, ومع هذا فإن العدل إذا كان مصدره هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام- القاضي عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر أيضا مصدرا من مصادر العدالة . اهـ .
مما تقدم يتبين أن الدواعي إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة به هي :
1 - وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة, أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون, أو برميهم بالقصور في علمهم أو تطبيقهم لما عرفوا من الأحكام الشرعية على ما رفع إليهم من القضايا الجزئية المتنازع فيها .
2 - عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس أحكام المعاملات؛ ليراعوا تطبيقاتها, ويوافقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 156)
ورفعت القضية للقضاء, وإضافة إلى ذلك يكون هذا الكتاب عونا للقضاة على أداء مهمتهم, وأدعى إلى وحدة الأحكام وتناسقها بدلا من تضاربها .
3 - تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية؛ نتيجة لما تقدم ذكره, والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي- عياذا بالله- إلى استبدال قوانين وضعية بالأحكام الشرعية .(4/9)
لذا فكر بعض المسلمين في إلزام القضاة أن يحكموا بأقوال في المعاملات تختار لهم, وتدون في كتاب مع أدلتها, أو إلزامهم أن يحكموا بالراجح والمعتمد من مذهب معين؛ إعانة للقضاة على التمكن من معرفة ما يحكمون به في القضايا, وتقريبا بين معارفهم في الأحكام, ومنعا للتناقض فيها ولتبلبل أفكار الأمة, وإبعادا للتهمة عنهم, وقضاء على ما يزعم بعض الناس من اتباع بعض القضاة للهوى, وتمكينا للجمهور من أن يوافقوا بين أعمالهم وبين ما دون؛ ليكون مرجعا للقضاة في الأحكام, فيكونوا بذلك على بصيرة فيما يقدمون عليه من أعمل قد يكون فيها خصومة .
وستأتي مناقشة الدواعي عند مناقشة الأدلة .(4/10)
الثالث : بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا :
أ- محاولة [رسالة الصحابة من المجموعة الكاملة] (206- 208) . ابن المقفع في القرن الهجري الثاني في بدء العهد
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 157)
العباسي : كتب ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور رسالة جاء فيها : ومما ينظر فيه أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي- اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال . . . ومضى إلى أن قال : فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب, ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة وقياس, ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه عزما وينهى عن القضاء بخلافه, وكتب ذلك كتابا جامعا- لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا, لرجونا أن يكون اجتماع السير قرينة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه, ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله . انتهى .
قال [المدخل للفقه الإسلامي] (107) . محمد سلام مدكور تعليقا على ذلك : غير أن هذا الاقتراح لم يجد له رواجا في ذلك الحين؛ لإباء الفقهاء أن يتحملوا تبعة إجبار الناس على تقليدهم, وهم الذين يحذرون تلاميذهم من التعصب لآرائهم, كما أنهم تورعوا وخافوا أن يكون في اجتهادهم خطأ, ليس هذا تقنينا وضعيا, وإنما هم بصدد شريعة سماوية .
ب- محاولة الخليفتين : أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد مع الإمام مالك بن أنس .
1 - لما حج أبو جعفر المنصور سنة 148هـ اجتمع بالإمام مالك ودار
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 158)
بينهما بحث هذا الموضوع, ونحن نسوق ذلك :(4/11)
قال [مناقب الإمام مالك] وهو [فقه المدونة] (1 / 25 , 26) . عيسى بن مسعود الزواوي في أثناء الكلام الذي دار بين الإمام مالك وبين أبي جعفر المنصور , قال مالك : ثم قال لي : قد أردت أن أجعل هذا العلم علما واحدا ، أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعلمون به, فمن خالف ضربت عنقه, فقلت : يا أمير المؤمنين, أو غير ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة فكان يبعث السرايا, وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل , ثم قام عمر رضي الله عنه ففتحت البلاد على يديه, فلم يجد بدا أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين, فلم يزل يؤخذ عنهم كابرا عن كابر إلى يومنا هذا, فإن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفرا, فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم, وخذ هذا العلم لنفسك, فقال لي : ما أبعدت هذا القول, اكتب هذا العلم لمحمد .
وقال الزواوي أيضا نقلا عن الشافعي [تزيين الممالك بمناقب مالك مع المدونة] (1/ 46) . : بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك لما قدم المدينة, فقال له : إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا تجمعهم عليه, فوضع [الموطأ], وقال الزواوي أيضا : (وقال غيره) أي : الشافعي : إن أبا جعفر لما قال لمالك : ضع كتابا في العلم نجمع الناس عليه, قال له مع ذلك : اجتنب فيه شواذ ابن عباس وشذوذ ابن عمر ورخص ابن مسعود , فقال له مالك : ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 159)(4/12)