الإلمام بشيء من أحكام الصيام
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بحوث في الصيام كتبتها بطلب من بعض الإخوان، ثم رغب إليَّ بعضهم في نشرها، فوافقت على ذلك، رجاء أن ينفع الله بها.
وقد ذكرت أقوال العلماء في المسائل الخلافية التي بحثتها، وقرنت كل قول بالدليل، أو التعليل في الغالب، ورجَّحت ما ظهر لي ترجيحه مع بيان وجه الترجيح، وقصدت من ذلك الوصول إلى الحق، وسمَّيتها (الإلمام بشيء من أحكام الصيام)
وأسأل الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين وأن يغفر لي الزلل والخطأ، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، وصوابًا على شرعه ودينه القويم، وسببًا موصلًا إليه وإلى دار كرامته، إنه سبحانه خير مسئول، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وحسبنا الله، ونعم الوكيل، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، والحمد لله رب العالمين.
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن الراجحي(/)
فرضية صيام رمضان ووجوبه
1- فرضية صيام رمضان ووجوبه:
تعريف الصيام
الصيام في اللغة: مجرد الإمساك، يُقال: صام النهار، إذا وقف سير الشمس، ويقال للساكت صائم لإمساكه عن الكلام، ومنه قوله - تعالى - عن مريم - رضي الله عنها -: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي صمتًا؛ لأنه إمساك عن الكلام، ويقال للفردوس الممسك عن السير صائم، قال الشاعر:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلُك الُّلجُمَا
يعني بالصائمة الممسكة عن الصَّهيل .
والصوم في الشرع: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة من شخص مخصوص، بشرائط مخصوصة .
وصوم رمضان واجب وفرض من فرائض الإسلام العظيمة، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع، والأدلة على وجوبه وفرضيته ظاهرة واضحة معلومة لعامة المسلمين فضلا عن خاصتهم، وفُرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع رمضانات إجماعا، وأجمع المسلمون على وجوب صوم رمضان، فرض الله على الأمة المحمدية صوم شهر واحد في كل عام، وهو شهر رمضان.
قال الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام .
ففي هذا الحديث الشريف أن الإسلام بني على دعائم خمس، وأن صيام رمضان هو الدعامة الرابعة، والركن الرابع من أركان الإسلام التي يقوم عليها الإسلام.
وثبت في صحيح البخاري أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثائر الرأس فقال: يا رسول الله! أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس إلا أن تطوَّع شيئًا، فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا، فقال: أخبرني ما فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق .
فهذا الحديث فيه دليل على أن من أدى الواجبات والفرائض، وترك المحرمات فهو ناج، وهو من أهل الجنة لقوله، -صلى الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق بعد قوله: لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا. وهؤلاء هم المقتصدون، وهم الأبرار، فإن تطوع مع ذلك بفعل النوافل، والرواتب -نوافل الصلاة، والصوم والصدقة والحج والجهاد وغيرها- كان من السابقين، وهم المقربون، وهم أهل الدرجات العالية، فإن قصر في بعض الواجبات، أو ترك بعضها، أو فعل بعض المحرمات فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الجنة، وإن أصابه قبل ذلك شدة وأهوال وعذاب في القبر، أو في النار.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم المصطَفَوْن أهل الجنة الذين أورثهم الله الكتاب قال الله - تعالى- ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ نسأل الله الكريم من فضله.
ومن أدلة فرضية صوم رمضان ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ومعنى ترك أي ترك صوم عاشوراء وجوبا وبقي استحبابا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر .
ومن الأدلة على فرضية الصيام حديث جبريل المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مطولا، ورواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مختصرا في سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها، ولما سأله عن الإسلام أجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت الحديث.
فمن أنكر فرضية الصوم ووجوبه فهو كافر مرتد عن الإسلام؛ لأنه أنكر فريضة عظيمة وركنا من أركان الإسلام، وأمرا معلوما من الدين بالضرورة، ومن أقر بوجوب صوم رمضان، وأفطر عامدا من غير عذر، فقد ارتكب كبيرة عظيمة يُفسَّق بها، ولا يُكفَّر في أصح قولي العلماء، ويلزم بالصوم، ويعزره الحاكم الشرعي بالحبس، أو الجلد، أو كليهما، وقال بعض أهل العلم: إذا أفطر رمضان من غير عذر كفر، نسأل الله السلامة والعافية من كل سوء، ونسأله الثبات على دينه حتى الممات.(1/1)
بماذا يجب صيام رمضان وبماذا يجب الفطر من رمضان
2- بماذا يجب صيام رمضان ؟
وبماذا يجب الفطر من رمضان ؟:
يجب صوم رمضان بأحد أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: رؤية هلال رمضان.
والثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوما.
ويجب الفطر من رمضان بأحد أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: رؤية هلال شوال.
والثاني: إكمال رمضان ثلاثين يوما إذا ثبت رؤية هلال رمضان بشهادة عدلين.
والأدلة على ذلك كثيرة في السنة المطهرة، فمنها ما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين أخرجه البخاري .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الشهر هكذا، وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة ومعنى الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الشهر هكذا أي - بسط أصابع يديه العشر - "وهكذا" أي بسط أصابعه العشر مرة ثانية فتكون عشرين يوما، ثم بسط أصابعه العشر في المرة الثالثة وخنس الإبهام أي قبضه فتكون تسعة أيام مع العشرين السابقة فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما - يعني هذا المحقق - وقد يكمل فيكون ثلاثين يوما.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .
وللعلماء في قوله -صلى الله عليه وسلم- فإن غم عليكم فاقدروا له تأويلان:
أحدهما: تأويل الجمهور أن المراد بقوله: "فاقدروا له" انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد كقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر السابق: فأكملوا العدة ثلاثين وفي حديث ابن عمر عند مسلم فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين .
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم فإن غمِّي عليكم الشهر فاقدروا ثلاثين .
وقوله في حديث أبي هريرة فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .
وأولى ما فسّر الحديث بالحديث، وتأويل الجمهور هذا هو الصواب، وهو أنه لا يصام إلا برؤية الهلال، أو بإكمال عدة الشهر ثلاثين يوما سواء كان الشهر شعبان، أو رمضان، ويؤيد هذا المعنى، وهذا التأويل الأحاديث التي وردت بالنهي عن صوم يوم الشكّ كحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يتقدَّمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين إلا أن يكون رجل يصوم صومه فليصم ذلك اليوم وحديث عمّار عند البخاري تعليقا مجزوما به من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- .
التأويل الثاني: أن المراد بقوله "فاقدروا له" ضيّقوا له بجعل الشهر تسعة وعشرين يوما فيصام يوم الثلاثين إذا كان يوم غيم، وإلى هذا ذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - فكان يأمر من ينظر ليلة الثلاثين من شعبان فإن كان يوم صحو ولم ير أصبح مفطرا وإن كان يوم غيم أصبح صائما وإلى هذا ذهب أيضا بعض الحنابلة وهذا القول ضعيف مخالف للنصوص التي فسرت هذه اللفظة: "فاقدروا له" إذ الأحاديث يفسر بعضها بعضا، واجتهاد ابن عمر لا يعارض به ما أوضحته النصوص ودلت عليه.
وقيل في معنى قوله "فاقدروا له" أي بحساب المنازل.
الثاني: أنه يجوز تقليد الحاسب دون المنجّم.
الثالث: أنه يجوز لهما ولغيرهما مطلقا.
ومن الأدلة على بطلان هذه الأقوال: ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.
فهذا الحديث دليل على إبطال الاعتماد على الحساب في دخول الشهر وخروجه، وإنما يعتمد على الرؤية، أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يوما، والحديث وصف هذه الأمة أهل الإسلام وصفا أغلبيا بأنه ليس من شأنها الكتابة والحساب في دخول الشهر وخروجه، وإن كانت تكتب، وتحسب في الأمور الأخرى كأمور التجارة وغيرها، والمراد أنه لا يعول على الحساب، وإنما يعول على رؤية الهلال في الأحكام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا يدل على يسر الشريعة وسماحتها فلله الحمد على ما يسر وسهل، وله الحكمة التامة في ما يشرعه لعباده لما يعلمه سبحانه لهم من المصلحة والرحمة، وهو الحكيم العليم سبحانه وبحمده.(1/2)
أطوار الصيام وأحواله
3-أطوار الصيام وأحواله:
اقتضت حكمة العليم الخبير أن تكون شرعية صيام رمضان على أطوار وأحوال، لما لله سبحانه في ذلك الحكمة والرحمة المناسبة لأحوال عباده.
فالحال الأولى والطور الأول: تخيير العبد بين الصيام وبين الإفطار والإطعام عن كل يوم مسكينا، والصيام أفضل وذلك في قوله - تعالى - وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بعد قول الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
الحالة الثانية والطور الثاني: إيجاب الصيام حتما على المقيم الصحيح القادر المكلف، لكن إذا حضر الإفطار وغابت الشمس، ثم نام قبل أن يفطر، أو صلى العشاء حَرُم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة المقبلة، فحصل عليهم حرج، ومشقة شديدة.
الحال الثالثة والطور الثالث: إباحة الأكل والشرب والنساء في ليل الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وأنزل الله في ذلك قوله - تعالى - أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ .
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صِرْمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا. ولكن أنطلق، فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ البخاري .
ففي هذا الحديث قيد المنع من الأكل والمفطرات بالنوم، وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بصلاة العتمة، أخرجه أبو داود بلفظ: كان الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة وفي جزاء إبراهيم بن ثابت من طريق عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال كان المسلمون إذا صلوا العشاء حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وأنّ صِرْمة بن أبي أنس وهو قيس بن صرمة بن أبي أنس غلبته عيناه فذكر الحديث السابق حديث البراء.
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر، ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شاء صام، ومن شاء أفطر، فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أخرجه مسلم في صحيحه .
وبهذه النصوص يتبين أن الذي استقرت عليه الشريعة في صيام رمضان، هو وجوب الصوم على المكلف القادر الصحيح المقيم حتما، ولا يجوز له الفطر في نهار رمضان، وأن الله أباح الفطر للصائم في ليلة الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فلله الحمد على ما يسَّر وسهّل وامتن ولطف وأعظم الأجر لعباده المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.(1/3)
فضل الصيام
4- فضل الصيام
الصوم فضله عظيم، وفضائله كثيرة منها:
1- أن الصيام جُنَّة وسُترة للصائم من الآثام ومن النار كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الصيام جنة فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين .
2- ومنها: أن رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما في حديث أبي هريرة السابق، فإن في آخره: والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي فهي أطيب عند الله من ريح المسك، وإن كانت مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكونها ناشئة عن طاعة الله وابتغاء مرضاته.
3- ومنها: أن الله أضاف الصيام إليه من بين سائر الأعمال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .
ولفظ مسلم كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في وظائف شهر رمضان: فعلى هذه الرواية يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله - عز وجل- أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإنه الصيام من الصبر، وقد قال الله - تعالى - إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولهذا ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سمى رمضان شهر الصبر، وفي حديث آخر عنه، -صلى الله عليه وسلم- قال: الصوم نصف الصبر أخرجه الترمذي
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر على محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عمّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال الله - تعالى - في المجاهدين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وفي حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان: " وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة". ا هـ كلامه رحمه الله. ولفظ رواية البخاري قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في وظائف شهر رمضان: قد كثر القول في معنى ذلك، فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه من بين سائر الأعمال وذكروا فيه وجوها كثيرة ومن أحسنها وجهان:
أحدهما: أن الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على الميل إليها لله - عز وجل - ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه إن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نُهي أن يصلي، ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول فيه ما يسكن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة - إلى قوله - وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات، وتتوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله - إلى قوله - فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله.
الوجه الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مُركّب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يُستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء، كذا قاله الإمام أحمد وغيره - إلى قوله - فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله - عز وجل - بحيث لا يطلع عليه غير من أمره، أو نهيه دلَّ على صحة إيمانه، والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه. ا هـ كلامه رحمه الله.
4- ومن فضائل الصوم: أن الصيام وكذا الصلاة والصدقة كفارة لفتنة الرجل في أهله وماله وجاره فيما يقع من الكلام مع أهله، أو جاره مما لا يليق من نزاع، أو كلام، أو غضب، أو سبّ، أو نحوه، وكذا ما يحصل له من الانشغال بالمال.
كما ثبت في صحيح البخاري عن حذيفة قال: قال عمر - رضي الله عنه -: من يحفظ حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قال حذيفة أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة قال: ليس أسأل عن ذه، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون بابا مغلقا قال: فيفتح، أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذلك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة.
5- ومن فضائل الصوم: أن في الجنة بابا للصائمين يقال له الريان يدخلون فيه دون غيرهم كما ثبت في الصحيحين عن سهل - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل فيه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل فيه أحد .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة، يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة الحديث.
6- ومن فضائل الصوم: أن لصائم رمضان عن إيمان واحتساب يغفر له ما تقدم من الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .
وصيام رمضان من أسباب مغفرة الذنوب ، لكن المغفرة مقيدة بهذا الشرط: "إيمانا واحتسابا" أي إيمانا بالله ورسوله، وتصديقا بشريعته، واحتسابا للأجر والثواب، بأن يصومه إخلاصا لوجه الله بنية لا رياء، ولا تقليدا، ولا تجلّدا لئلا يخالف الناس، أو لغير ذلك من المقاصد، ويضاف إلى هذا الشرط شرط آخر لا بد منه في مغفرة الذنوب للصائم، أو القائم، وهو أداء الواجبات، وترك المحرمات لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ولقول الله - تعالى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فهما شرطان لمغفرة الذنوب.
7- ومن فضائل الصوم: أن الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه . أما فرح الصائمِ بلقاء ربه فلما يراه من جزائه وثوابه، وترتّب الجزاء الوافر عليه بقبول صومه الذي وفقه الله له.
وأما فرح الصائم عند فطره فسببه تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها حيث تم صومه وختمت عبادته وأبيح له الفطر الملائم لطبيعته فزال جوعه وعطشه.(1/4)
حكمة الصيام
5- حكمة الصيام:
قال الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لقد بنى الله دين الإسلام على شرائع وعبادات وفرائض وواجبات، أقامها على دعائم من الخير وقواعد من البر تفيد أهلها في الدنيا، وتنفعهم في العقبى، وتسعدهم في الدنيا والآخرة، وإن أعظم تلكم الشرائع وأجلها بعد الشهادتين والصلاة والزكاة، هو صوم شهر رمضان المبارك، الذي جعله الله فريضة على هذه الأمة ووسيلة عظمى لتقواه، كما قال - تعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فالله - تعالى - لم يشرع الصوم لحاجته إليه، كلا، بل هو الغني الحميد، الكامل في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يحتاج إلى شيء، بل كل شيء فقير بذاته إليه، وهو الغني بالذات عن جميع الأشياء، وعن جميع المخلوقات.
فالله - تعالى - شرع الصيام ليكون وسيلة عظمى لتقواه سبحانه، وتقوى الله جماع خيري الدنيا والآخرة، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال - تعالى-: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وتقوى الله سبب في تفريج الكربات، وكفاية الله لعبده ما أهمه من أمور دينه ودنياه، وسبب في تيسير الرزق الحلال للعبد من حيث لا يحتسب العبد، قال الله - تعالى -: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فالمتوكل على الله قد اتقى الله، والصائم من المتقين، وقد قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وتقوى الله سبب في تيسير أمور العبد: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا وتقوى الله سبب في تكفير السيئات وإعظام الأجور وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ومن اتقى الله قذف الله في قلبه نورا يفرق به بين الحق والباطل وكفَّر سيئاته وغفر ذنبه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
فالله - تعالى - شرع الصيام لصالح المسلمين شرعه تربية للأجسام، وترويضا لها على الصبر، وتحمل الآلام، شرعه تقويما للأخلاق، وتهذيبا للنفوس، وتعويدا لها على ترك الشهوات ومجانبة المنهيات، شرعه ليعلمنا- نحن المسلمين - تنظيم معاشنا، وتوحيد أمورنا، شرعه ليبلونا أينا أحسن عملا: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ شرع الصيام ليكون وسيلة للتقوى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
لقد أودع الله في الصوم من الحكم والأسرار والمصالح الدينية والدنيوية ما هو فوق تصور البشر، ورتب عليه - تعالى- من جزيل الثواب وعظيم الجزاء، ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحا وغبطة، وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان لتبقى دوما مُمتَّعة بهذا الروح والريحان.
فالواجب على العبد أن يؤدي الصيام بإخلاص ورغب ورهب وصبر وطواعية، وانشراح صدر، محفوظا عن كل ما يشينه، أو يجرحه، أو ينقص ثوابه. فإن الصائم يترك المحبوب من الشهوات لرضا المحبوب الخالق سبحانه، فالصيام نعمة كبرى، به تكفر الذنوب، وترفع الدرجات، وبه يقهر العبد الشيطان بتضييق مجاري الطعام والشراب؛ لأنه يجري مع الشهوات من ابن آدم مجرى الدم، وهي تضعف بالصوم، وبالصوم تقوى صلة العبد بربه؛ لأنه عمل خفي، وكلما كان العمل خفيًّا كان أقرب إلى الإخلاص.
ومن حكم الصيام وأسراره أن يكون عونًا للعبد على طاعة الله، فيجتهد في فعل الخيرات واجتناب المحرمات: فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .
ومن حكم الصيام الصحة في الأبدان، ويُروى: صوموا تصحُّوا ومن حكم الصيام تذكُّر الغني الأكباد الجائعة من الفقراء والمساكين والمعوزين، كما قال بعض السلف لما سئل عن حكمة الصوم فقال: ليذوق الغني طعم الجوع حتى لا ينسى الفقير، وهذه من حكم الصيام.
وبالجملة: فالصيام شُرع تعبُّدًا لله وخضوعا لأمره، وتعظيما له -سبحانه- ليتحلى المسلم بالتقوى، التي هي فعل الأوامر، وترك المحارم، فالصوم الحقيقي ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والتمتع الجنسي فحسب، بل هو مع ذلك أداء للواجبات، وترك للمحرمات وحفظ للجوارح عن السيئات، حفظ للعينين عن النظر المحرم، وللسان عن الفحش والكذب والسباب والغيبة والنميمة وقول الزور، وحفظ للأذن عن سماع المحرمات، وحفظ لليدين عن السرقة والغصب والغش والإيذاء والإعتداء، وحفظ للرجلين عن المشي بهما إلى ما حرم الله، وحفظ للقلب عن الغل والحقد والحسد والبغضاء والاعتقاد الباطل، وحفظ للفرج عما حرم الله، وجماع ذلك تقوى الله ومراقبته في السر والعلن كما قال ربنا سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والمعنى: كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم لتقوى الله، فلله در الصيام أن كان بهذه المثابة، ولله الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد، ولا تحصى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(1/5)
أحكام الصيام
6- أحكام الصيام:
للصيام أحكام وآداب واجبة ومستحبة، فمن أحكام الصيام:(1/6)
الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين
1- أنه يحرم الصيام قبل رمضان بيوم، أو يومين بقصد الاحتياط لرمضان، لكن من وافق عادة له بصيام أيام يصومها لا يقصد الاحتياط لرمضان فلا بأس بصيامه، كمن يصوم الاثنين والخميس فوافق ذلك آخر الشهر، وكمن يصوم صوما واجبا كصوم نذر، أو كفارة، أو صيام قضاء رمضان السابق، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم هذا لفظ البخاري .
ولفظ مسلم لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه . قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان: قال الترمذي لما أخرجه: " العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجَّل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان " ا هـ.
ومن صام الذي يشك فيه فقد عصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر - رضي الله عنه - فأتينا بشاة مصلية، فتنحى بعض القوم فقال إني صائم، فقال عمار - رضي الله عنه -: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-. . ولا يعارض حديث أبي هريرة ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه سأله رجل، أو سأل رجلا وعمران يسمع فقال: يا فلان: أما صمت سَرَر هذا الشهر؟ قال: أظنه قال: يعني رمضان، قال الرجل: لا، يا رسول الله، قال: فإذا أفطرت، فصم يومين لم يقل: الصلت أظنه يعني رمضان، قال أبو عبد الله وقال ثابت عن مطرف عن عمران عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: من سرر شعبان هذا لفظ البخاري .
ولفظ مسلم بسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه . وفي لفظ آخر عن عمران بن حصين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا - يعني شعبان- قال: لا، فقال له: إذا أفطرت رمضان فصم يوما، أو يومين شعبة الذي شك فيه، قال: وأظنه قال: " يومين" .
قال العلماء وجمهور أهل اللغة والحديث الغريب: المراد بالسرر هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين، وتسع وعشرين وثلاثين، وقيل السرر وسط الشهر؛ لأن السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص، وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان، وقيل: سرر الشهر أوله. والصواب الأول، وهو أن المراد بالسرر آخر الشهر، ويؤيده ما جاء عن أحمد - رحمه الله- من وجهين بلفظ: "سرار الشهر" وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها "سرر"، وفي بعضها "سرار"، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، قال القاضي: والأشهر أن المراد آخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون.
قلت: ، وهو اختيار البخاري حيث ترجم على هذا الحديث: باب الصوم من آخر الشهر، قال الزين بن المُنيِّر أطلق الشهر، وإن كان الذي يتحرر من الحديث أن المراد به شهر مقيد، وهو شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختص بشعبان، بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر، ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم، أو يومين لقوله فيه: إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه ا هـ .
فحديث عمران هذا لا يعارض حديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين؛ لأن حديث عمران بن حصين محمول على أن هذا الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر، فلما سمع نهيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم، أو يومين ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما اعتاده من ذلك، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقضائه، لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، ويؤخذ من الحديث مشروعية قضاء صوم التطوع.
وعليه فيجمع بين الحديثين بحمل النهي في حديث أبي هريرة عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر في حديث عمران بن حصين على من له عادة، فتتفق الأحاديث، ولا تختلف.
قال القرطبي "الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير، حتى لا يقطع، قال: وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان، وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره، أخذا من قوله في الحديث: فصم يوما مكانه يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان. ا هـ .
قال النووي " وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم، أو يومين، ويجاب عنه بما أجاب المازري وغيره، وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر، أو نذره، فتركه لخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما نهي عن غير المعتاد والله أعلم ا هـ.
ولا يعارض أيضا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان .
وأخرج مسلم بسنده عن أبي سلمة قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، وكان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا .
وأخرج مسلم أيضا بسنده عن أبي سلمة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشهر من السنة أكثر صياما منه في شعبان .
فحديث عائشة هذا لا يعارض حديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، فإن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كان عادة له، والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين لمن لم يكن له عادة، بدليل قوله في آخر الحديث: إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه وصيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كان عادة له، فهو داخل في المستثنى في حديث أبي هريرة إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه .
وفي حديث عائشة دليل على فضل الصوم في شعبان، وقد اختلف العلماء في معنى قول عائشة - رضي الله عنها- "كان يصوم شعبان كله"، "كان يصوم شعبان إلا قليلا"، وقول أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان .
فقيل المعنى:
1- أنه كان يصوم معظمه وغالبه، ، ويكون قول عائشة "كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا"، يكون الثاني تفسيرا للأول، فتكون الجملة الثانية مفسرة للأولى مخصصة لها وأن المراد بالكل الأكثر، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
2- وقيل المعنى: أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه تارة أخرى، فيصوم شعبان كله في سنة، ويصوم معظمه في سنة أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وهذا المعنى وجيه، وهو الأقرب عندي.
3- وقيل المراد بقوله: (كله) أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخر تارة أخرى؟ من أثنائه تارة، فلا يخلي شيئا منه من صيام، ولا يخصّ بعضه بصيام دون بعض.
واختلف العلماء في الحكمة في تخصيص شعبان بكثرة الصوم منه -صلى الله عليه وسلم- فقيل:
1- كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر، أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان.
2- وقيل إن نساءه كنّ يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم لذلك، وهذا عكس ما ورد عن عائشة أنها تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لشغلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصوم.
3- وقيل الحكمة في ذلك أن شعبان يعقبه رمضان، وصومه مفترض فكان يكثر الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره، لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.
4- وقيل: لأنه شهر يغفل الناس عنه، وهذا هو الأرجح لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان. قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم .
وأما ما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا وفي رواية: "فلا يصومن أحد". وفي رواية: إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان .
فقد اختلف العلماء في تصحيحه، وتضعيفه، فضعفه أحمد وقال: ليس هو بمحفوظ، وقال الخطابي هذا الحديث كان ينكره عبد الرحمن بن مهدي وحكى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر، قال:، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن فإن فيه مقالا لأئمة هذا الشأن، وأنكره أيضا أبو زرعة الرازي والأثرم وقالوا: الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان ووصله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيوم، أو بيومين.
وصحح الحديث آخرون من أهل العلم منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي والشافعي وابن عبد البر قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال: هو ليس بمحفوظ. قالوا: والعلاء بن عبد الرحمن وإن كان فيه مقال، فقد حدث عنه الإمام مالك مع شدة انتقاده الرجال، وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وذكر له أحاديث انفرد بها رواتها، وكذلك فعل البخاري أيضا، وللحفاظ في الرجال مذاهب، فعلى كل منهم ما أدّى إليه اجتهاده من القبول والرد.
والذي يظهر لي أن الحديث صحيح، وأنه لا تعارض بينه وبين صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان، وكذلك سؤاله -صلى الله عليه وسلم- للرجل عن صومه سرر شعبان، وكذلك نهيه عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، إذ الجمع بينهما ممكن بحمد الله تعالى، وذلك بأن يحمل فعله -صلى الله عليه وسلم- وصيامه شعبان بأن ذلك عادة له وكان يصل النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول، وكذلك سؤاله -صلى الله عليه وسلم- للرجل عن صومه سرر شعبان أي آخره بأن ذلك عادة لهذا الرجل أن يصوم آخر شعبان، والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين محمول على من ليست له عادة بالصيام، أو كان يصوم قضاء من رمضان الماضي، وهذا الحديث، وهو النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، وإن كان مفهومه جواز الصيام إذا بقي أكثر من يومين إلا أنه يقدم عليه منطوق حديث العلاء بن عبد الرحمن إذا انتصف شعبان فلا تصوموا لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو مقرر عند أهل الأصول.
وعليه: فيكون النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان يتناول من يصوم نفلا مطلقا، أما من له عادة بصيام شيء كالاثنين والخميس، أو وصله بما قبل النصف الأول، أو يكون يصوم نذرا، أو كفارة، أو قضاء رمضان الماضي فلا يتناوله النهي، ويكون هذا الحديث موافقا لحديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، والنهي في الحديثين للتحريم؛ لأنه الأصل فيه، وقد ذكر بعض أهل العلم أن معنى هذا النهي للمبالغة في الاحتياط لئلا يختلط برمضان ما ليس بغيره، وهو توجيه حسن.
وقد جمع ابن قدامة - رحمه الله - في المغني بين حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان وبين حديث عائشة في صلة شعبان برمضان فقال: "ويمكن حمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر، وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله، فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر، فلا تعارض بين الخبرين إذن، وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم" .
وقد جمع البيهقي بينهما فيما نقله الحافظ ابن حجر بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم وحديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان .
وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان، وضعفوا الحديث الوارد فيه، وقال الإمام أحمد ويحيى بن معين إنه حديث منكر. والراجح فيما يظهر لي أن الحديث صحيح وأنه لا منافاة بينه وبين صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان وكذلك سؤاله للرجل عن صوم سرر شعبان، وكذلك نهيه عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، وأن النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان وكذا النهي عن تقدم رمضان بيوم، أو يومين محمول على من ليست له عادة كما سبق. وأن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان وكذا صيام سرر شعبان محمول على من كان الصيام عادة له، أو وصل صيام النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول كما جمع بذلك المحققون من أهل العلم مثل: محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم والحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود والقرطبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر
أما جمع ابن قدامة في المغني بأن حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان محمول على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر، فليس بوجيه فيما يظهر لي، وكذا جمع البيهقي بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم فليس بوجيه أيضا.
بل الذي يظهر أن النهي للتحريم كما هو الأصل فيه لمن ليس له عادة، أو كان يصوم صوما واجبا عليه كقضاء رمضان، أو صيام نذر أو كفارة.
وقد نقل الحافظ ابن رجب - رحمه الله- الخلاف في ذلك فقال: " واختلف العلماء في صحة هذا الحديث - يعني حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان - ثم في العمل به, فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم: الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا هذا حديث منكر منهم: عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم وقال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه- يشير إلى أحاديث صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كله ووصله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين- فصار الحديث حينئذ شاذ مخالفا للأحاديث الصحيحة، وقد أخذ به آخرون منهم الشافعي ونهوا عن ابتداء التطوع بالصيام بعد النصف من شعبان لمن ليس له عادة ".
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- على حديث أبي هريرة لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين قال: " وفيه منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز، وقيل يمتد المنع لما قبل ذلك, وبه قطع كثير من الشافعية وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقديم بالصوم، فحيث وجد منع, وإنما اقتصر على يوم، أو يومين؛ لأنه الغالب ممن يقصد ذلك,
وقالوا أمد المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: "ولا تعارض بين هذا - يعني الإكثار من صوم شعبان - وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين, وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني, فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده اهـ.
وقال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود "قال الحافظ في الفتح: قال القرطبي لا تعارض بين حديث النهي عن صوم نصف شعبان والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين, وبين وصال شعبان برمضان: والجمع ممكن بأن يحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، ويحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطبة بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع" انتهى ملخصا .
وقال النووي - رحمه الله- على حديث: لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه قال: "فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم، ويومين لمن لم يصادف عادة له، أو يصله بما قبله, فإن لم يصله، ولا صادف عادة فهو حرام, هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره: إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فإن وصله بما قبله، أو صادف عادة له - إلى قوله - فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث .
وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود ( الذين ردوا هذا الحديث لهم مأخذان - أي حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان -.
أحدهما: أنه لم يتابع العلاء عليه أحد، بل انفرد به عن الناس, وكيف لا يكون هذا معروفا عن أصحاب أبي هريرة, مع أنه أمر تعم به البلوى، ويتصل به العمل.
والمأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضا لحديث عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما- وفي صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كله، أو إلا قليلا منه, وقوله: إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه وسؤاله للرجل عن صومه سرر شعبان، قالوا:، وهذه الأحاديث أصح منه، وربما ظن بعضهم أن هذا الحديث لم يسمعه العلاء من أبيه.
وأما المصححون له فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، وهو حديث على شرط مسلم فإن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة وتفرد به تفرد ثقة بحديث مستقل, وله عدة نظائر في الصحيح.
قالوا والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها, وأما الثقة العدل إذا روى حديثا، وتفرد به لم يكن تفرده علة, فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عملت بها الأمة؟
قالوا: وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان, فلا معارضة بينهما, فإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني, وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف, لا لعادة، ولا مضافا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التقدم.
وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه, فهذا لم نعلم أن أحدا علل به الحديث فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه, وفي صحيح مسلم عن العلاء عن أبيه بالعنعنة غير حديث, وقد قال عباد بن كثير لقيت العلاء بن عبد الرحمن وهو يطوف, فقلت له: برب هذا البيت, حدثك أبوك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا فقال: ورب هذا البيت سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره) اهـ.
وبهذا يتبن أن الصواب في هذه المسألة أنه لا يجوز الصوم بعد النصف من شعبان لمن يصوم نفلا مطلقا لحديث العلاء بن عبد الرحمن في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان ولحديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، ويجوز الصيام بعد نصف شعبان لمن كان يصوم عادة له كالاثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم، أو صيام آخر الشهر وكان يصل صيام النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول، أو كان يصوم صوما واجبا كقضاء رمضان الماضي، أو صيام نذر، أو كفارة, وبهذا الجمع بين الأحاديث يزول ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث، ويعمل بالأحاديث كلها, فلله الحمد على ما ألهم، وعلم وفتح من الخير وفهّم، وهو أهل الحمد والشكر، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.(1/6)
النية في الصوم الواجب
2- ومن أحكام الصيام أنه لا يصح صوم الفرض إلا بنية من الليل, لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من لم يُبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له وفي لفظ: من لم يُبيّت الصيام من الليل فلا صيام له وفي لفظ: من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له .
ولما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .(1/6)
الأكل والشرب بعد تبين الفجر الثاني
3- ومن أحكام الصيام أنه يحرم على الصائم الأكل والشرب بعد تبين الفجر الثاني, فمن أكل، أو شرب مختارا ذاكرا لصومه من غير عذر، فسد صومه, وعليه الوعيد الشديد, لقول الله - تعالى-: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وعليه قضاء ذلك اليوم مع التوبة الصادقة والندم والإقلاع .(1/6)
الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا
4- ومن أحكام الصيام أن من أكل، أو شرب ناسيا فصومه صحيح، ولا قضاء عليه في أصح قولي العلماء؛ لأن النسيان لا صلة فيه, ولما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا نسي فأكل، أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه .
ولفظ مسلم من نسي، وهو صائم فأكل، أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه . وما دل عليه الحديث من عدم وجوب القضاء على الناسي هو الصواب الذي ذهب إليه جمهور العلماء، وقال مالك -رحمه الله-: يبطل صومه، ويجب عليه القضاء, ولعل مالكا لم يبلغه الحديث كما قاله الداودي .(1/6)
الجماع في نهار رمضان من الصائم
5- ومن أحكام الصيام أن من جامع أهله في نهار رمضان، وهو صائم بطل صومه إذا كان عامدا عالما ووجب عليه قضاء ذلك اليوم والتوبة النصوح مع الندم والإقلاع, ووجب عليه مع ذلك الكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا, لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! قال "ما لك" -ولفظ مسلم قال: وما أهلكك- قال وقعت على امرأتي وأنا صائم -لفظ مسلم وقعت على امرأتي في رمضان-, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال لا, قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال لا, قال: فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينا نحن على ذلك أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعَرَق فيه تمر - والعَرَق المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا, قال خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي, فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك .
وفي الحديث دليل على أن الجماع في نهار رمضان من الصائم المكلف المقيم الصحيح المتعمد المتذكر كبيرة من كبائر الذنوب لإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل على قوله "هلكت" وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيح " احترقت" وفي الحديث دليل على أن الكفارة على الترتيب , وأما إذا جامع ناسيا فإن صومه صحيح في أصح قولي العلماء، ولا قضاء عليه، ولا كفارة.(1/6)
نوم الصائم جميع النهار
6- ومن أحكام الصيام أن من نام جميع النهار صح صومه؛ لأن النوم لا يزول به الإحساس, ومن أُغمي عليه جميع النهار فإنه يقضي صيام ذلك اليوم؛ لأنه مكلف والإغماء يزول به الإحساس بالكلية, فلا بد له من نية لعموم قوله، -صلى الله عليه وسلم-: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه.(1/6)
احتلام الصائم في نهار الصيام
7- ومن أحكام الصيام أن الصائم إذا احتلم في نهار الصيام فإنه يغتسل وصومه صحيح، ولا يضره ذلك؛ لأنه ليس له اختيار في ذلك، ولا إرادة وقد قال الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .(1/7)
الصائم إذا أصبح جنبا
8- ومن أحكام الصيام أن الصائم إذا أصبح جنبا بأن طلع عليه الفجر، وهو جنب من جماع، أو احتلام فصومه صحيح ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر إذا أمسك عن الطعام والشراب والمفطرات بنية قبل طلوع الفجر, لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم .
، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر جنبا في رمضان من غير حلم فيغتسل، ويصوم .
ولفظ مسلم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من غير حلم، ثم يصوم وفي لفظ لعائشة - رضي الله عنها-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر في رمضان، وهو جنب من غير حُلم، ويصوم .
وما دل عليه الحديث هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء, وكان فيه خلاف لبعض التابعين أنه لا صوم له، ثم ارتفع الخلاف برجوع من خالف عن قوله واستقر الإجماع على ما دل عليه الحديث، وهو صحة صوم من أصبح جنبا والله الموفق.
وكذا الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ولم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر صح صومها, والله الموفق.(1/8)
المسافر في شهر رمضان
9- ومن أحكام الصيام أن المسافر في شهر رمضان يجوز له أن يفطر مدة سفره، ثم يقضي عدة الأيام التي أفطرها لقول الله - تعالى -: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فأفطر فعليه عدة من أيام أخر.
والمسافر الصائم في شهر رمضان مُخيَّر بين الصيام والإفطار مع القضاء لما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر .
ولما ثبت في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يُعِب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم . ولفظ مسلم سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان, فلم يُعِب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم .
ولما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر, فلا يجدُ الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن .
وإذا شق على المسافر الصوم كُره له أن يصوم كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظُلِّل عليه فقال: "ما هذا؟" قالوا: صائم فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" .
ولما ثبت في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر, قال: فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلًّا صاحب الكساء, ومنا من يتقي الشمس بيده, قال فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" .
وإذا وجد المسافر من نفسه قوة، وتحمُّلًا فصام فحسن لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر, وما فينا صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة .
وفي رواية مسلم من طريق سعيد بن عبد العزيز خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر, وما فينا صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة .
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جُناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هي رخصة من الله, فمن أخذ بها فحسن, ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه أخرجه مسلم في صحيحه .
وإذا صام أياما من رمضان، ثم سافر جاز له أن يفطر لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة في رمضان - وفي مسلم عام الفتح - فصام حتى بلغ الكديد أفطر, فأفطر الناس - والكديد ماء بين عُسفان وقُديد .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فيه شراب، فشربه نهارا ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفطر, فمن شاء صام ومن شاء أفطر .
ومن هذه النصوص يظهر منها الدلالة على أن المسلم إذا سافر في رمضان، أو غيره فهو مخير بين الصيام والإفطار، وهو مذهب جمهور العلماء خلافا لبعض أهل الظاهر القائلين بأنه لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض, وأن من صام في السفر لم ينعقد صومه ووجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله - تعالى-: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فإن هذا القول ضعيف، بل باطل لدلالة السنة الصحيحة الصريحة على بطلانه, وقابلهم طائفة فقالوا: إن الفطر في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك، أو المشقة الشديدة, وعليه فالصوم في السفر واجب وهذا القول باطل أيضا. لكن إن شق عليه الصيام, فالصيام في حقه مكروه, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج عام الفتح إلى مكة صام حتى بلغ كُراع الغميم ثم أفطر لما قيل له: إن بعض الناس شق عليهم الصيام, وأمر الناس بالفطر, أخرج هذه الزيادة الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة ولفظه: فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام . وفي صحيح مسلم عن جابر فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال " أولئك العصاة , أولئك العصاة" . وذلك لأن هؤلاء الذين صاموا خالفوا أمره بالفطر, وصاموا مع المشقة.
لكن اختلفوا في الأفضل منهما فقال بعضهم: الصيام أفضل من الفطر لمن قوي عليه بلا مشقة ظاهرة، ولا ضرر لحديث أبي سعيد الخدري السابق أن الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض, يرون أن من وجد قوة فصام فحسن, ومن وجد ضعفا فأفطر فحسن؛ ولأن الصيام فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنه أسرع في براءة الذمة, وقال الحافظ في الفتح والنووي في شرح مسلم إنه قول الأكثرين وهذا هو الأرجح والمختار في نظري.
وقال بعضهم: الفطر أفضل من الصيام لحديث حمزة بن عمرو الأسلمي وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه فإن ظاهره ترجيح الفطر على الصيام.
وقال بعضهم: الفطر والصوم سواء ليس أحدهما أفضل من الآخر لتعادل الأحاديث والله أعلم بالصواب .(1/9)
جواز إفطار المريض والحامل والمرضع
10- ومن أحكام الصيام أن المريض يجوز له أن يفطر في نهار رمضان، ويقضي الأيام التي أفطرها, وكذا الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما، أو على ولديهما تفطران، وتقضيان؛ لأنهما في حكم المريض, لقول الله - تعالى-: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي لا يستطيع معه الصوم، أو المرض الذي يزيد بالصوم، أو يشق معه الصوم، أو يخشى تأخر برئه بالصوم .
وأجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة لقول الله - تعالى-: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ بخلاف المرض الخفيف الذي يشق معه الصوم، ولا أثر للصوم فيه فإنه لا يبيح الفطر، ويجب عليه الصوم لدخوله في عموم قوله - تعالى-: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .(1/10)
ما يحرم على الصائم فعله
11- ومن أحكام الصيام أنه يحرم على الصائم الرفث - هو الكلام الفاحش, والجماع ومقدماته - والصَّخب والجهل, وقول الزور والعمل به, والسباب, فإن سابَّه، أو قاتله أحد فليقل إني صائم، ولا يقابله بالمثل, لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الصيام جُنَّة, وإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب, فإن سابَّه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم . وفي لفظ آخر للبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الصيام جُنَّة فلا يرفث، ولا يجهل, وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين .
ولفظ مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث، ولا يجهل, فإن امرؤ شاتمه، أو قاتله فليقل: إني صائم, إني صائم . وفي لفظ آخر لمسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: والصيام جنة, فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ، ولا يَسْخَب, فإن سابَّه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم . ولما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . وأخرج الحديث البخاري في كتاب الأدب بلفظ: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .(1/11)
استحباب تعجيل الفطر
12- ومن أحكام الصيام استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية، أو بإخبار ثقة عدل, لما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر . وذلك لأن تعجيل الفطر يدل على الامتثال، وتأخيره يدل على الغلو كما يفعله اليهود والنصارى وكما يفعله بعض الطوائف المنحرفة في تأخير الفطر إلى ظهور النجوم, وفي سنن أبي داود وابن خزيمة وغيرهما " لأن اليهود والنصارى يؤخرون " . وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل بلفظ لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم .
ومن الأدلة على استحباب تعجيل الإفطار ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أقبل الليل من هاهنا - أي جهة المشرق- وأدبر النهار من هاهنا - أي من جهة المغرب- وغربت الشمس فقد أفطر الصائم .
قال البخاري - رحمه الله -: وأفطر أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - حين غاب قرص الشمس . وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، وهو صائم - وفي مسلم في سفر في شهر رمضان-, فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان: قم فاجدح لنا -ولفظ مسلم انزل فاجدح لنا-, فقال: يا رسول الله لو أمسيت, قال: انزل فاجدح لنا, قال: يا رسول الله لو أمسيت, قال: انزل فاجدح لنا, قال: إن عليك نهارا, قال: انزل فاجدح لنا. فنزل فجدح لهم, فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم. ولفظ مسلم ثم قال بيده: إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم .
والجدْحُ: وضع الماء في السويق، وتحريكه بعود، ونحوه ليختلط.
وهذه الأحاديث تدل على أنه لا عبرة بالحمرة والبياض الذي يبقى بعد غروب الشمس, وأنه لا يمنع الصائم من الفطر, وفيه جواز مراجعة المفضول للفاضل فيما قد يُظن خفاؤه على الفاضل.
وفي صحيح مسلم عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة - رضي الله عنها - فقلنا: يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أحدهما يعجل الإفطار، ويعجل الصلاة, والآخر يؤخر الإفطار، ويؤخر الصلاة, قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار، ويعجل الصلاة, قال قلنا: عبد الله بن مسعود قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد أبو كريب والآخر أبو موسى .
وإذا أفطر في رمضان يظنُّ الشمس قد غربت ، ثم طلعت الشمس وجب قضاء ذلك اليوم في أصح قولي العلماء، وهو قول جمهور العلماء, لما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما- قالت: أفطرنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غيم، ثم طلعت الشمس, قيل لهشام بن عروة راوي الحديث, فأُمروا بالقضاء قال: بُدٌّ من قضاء .
ويؤيد القول بوجوب القضاء أمران أحدهما : أن راوي الحديث هشام بن عروة جزم بذلك فقال: (بد من قضاء) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: "قوله: بد من قضاء" هو استفهام إنكار محذوف الأداة, والمعنى: لا بد من قضاء, ووقع في رواية أبي ذر "لا بد من القضاء" اهـ.
الثاني: القياس: فلو غُمَّ هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبيّن أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق, فكذلك هذه المسألة إذا أفطر في يوم غيم، ثم طلعت الشمس وجب القضاء.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يجب قضاء ذلك اليوم، ويمسك بقية النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس, وشبهوه بمن أكل ناسيا في الصوم . وهو قول أحمد في رواية, وإسحاق وابن خزيمة وأهل الظاهر وهو قول مجاهد والحسن ووجه هذا القول كما قال ابن المنير " أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر, فإذا اجتهدوا فأخطئوا فلا حرج عليهم في ذلك" وهذا اختيار شيخ الإسلام -رحمه الله- في رسالته حقيقة الصيام, والذي يترجح لي قول الجمهور وأنه يجب القضاء وأن المكلف إذا أخطأ فلا إثم عليه كما قال ابن المنير لكن نفي الإثم والحرج لا يلزم منه عدم وجوب القضاء, والله أعلم بالصواب.(1/12)
استحباب السحور
13-ومن أحكام الصيام استحباب السحور واستحباب تأخيره، قال الله - تعالى-: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم الأعمى , فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال القاسم بن محمد أحد رواة الحديث:" ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا" .
ومقصود القاسم بن محمد - وهو ابن أخي عائشة رضي الله عنها- وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر مقصوده من قوله: ( ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا) المبالغة في قصر المدة التي بينهما بدليل أن الحديث صريح في أن بلالا يؤذن بليل قبل الصبح، ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم إذا طلع الصبح, وقد جاء تحديد المدة بين السحور والأذان في حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وأنها قدر خمسين آية، وهي مع الترتيل كافية لطلوع الفجر, ففي الصحيحين عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: تسحَّرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة, قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية .
ومن الأدلة على استحباب السحور, واستحباب تأخيره: ما ثبت في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسحروا فإن في السَّحُور بركة . وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر .
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أتسحر في أهلي، ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروى البخاري في المواقيت بلفظ: "أن أدرك صلاة الفجر". وفي رواية الإسماعيلي "صلاة الصبح" . وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر أو قال: " حتى ينفجر الفجر" .
ولكن السحور وهو الأكل في آخر الليل ليس بواجب، بل هو مستحب, والذي صرف بالسحور عن الوجوب إلى الندب والاستحباب هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واصلوا يوما بعد يوم ولم يتسحروا, فدل على أن السحور ليس بواجب، بل هو مستحب كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- واصل ولفظ مسلم واصل في رمضان فواصل الناس فشق عليهم, فنهاهم, قالوا: إنك تواصل, قال: "لست كهيئتكم" ولفظ مسلم إني لست مثلكم إني أظلُّ أُطعم وأُسقى .
وفي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال, قالوا: إنك تواصل, قال: إني لست مثلكم إني أُطعم وأُسقى .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال رحمة لهم, فقالوا: إنك تواصل, قال: إني لست كهيئتكم, إني يُطعمني ربي، ويسقيني .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم, فقال له رجل من المسلمين إنك تواصل يا رسول الله, قال: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يُطعمني ربي، ويسقيني, فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال, فقال: لو تأخر لزدتكم, كالمنكِّل لهم حين أبَوْا أن ينتهوا .
وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا" قالوا: إنك تواصل. قال: لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى، أو إني أبيت أطعم وأسقى .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تواصلوا, فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر, قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله, قال: لست كهيئتكم, إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساقٍ يسقيني .
فهذه الأحاديث تدل على أن الأمر بالسحور مستحب وليس بواجب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- واصل وواصل الصحابة, والوصال هو أن يصوم يومين فأكثر مع الليل فلا يفطر بالليل، ولا يأكل، ولا يشرب، بل يصوم الليل مع النهار.
ودلت هذه الأحاديث على أن الوصال في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- مشروع وأنه من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث فعله، ونهى الأمة عنه. ودلت هذه الأحاديث على أن الوصال في حق الأمة مكروه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه, والنهي للتنزيه لا للتحريم, والصارف له عن التحريم إلى التنزيه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-: حيث واصل بالناس يوما بعد يوم, واصل بهم اليوم الثامن والعشرين من رمضان، ثم رأوا هلال شوال فقال: " لو تأخر الهلال لزدتكم" يعني: لواصلت بكم اليوم الثلاثين من رمضان. قال ذلك كالتنكيل والتعزير لهم حين أبوا أن ينتهوا.
فالوصال مكروه وليس حراما؛ لأنه لو كان حراما لما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم، ودل حديث أبي سعيد السابق على جواز الوصال إلى السحر وأنه جائز غير مكروه, وذلك بأن يجعل عَشَاءه سحورًا، ولا يأكل إلا مرة واحدة, لكن تركه أفضل للأحاديث التي فيها الحث على المبادرة إلى الفطر، وتعجيله بعد غروب الشمس.
والعلماء لهم في حكم الوصال أربعة أقوال:
أحدهما: أن الوصال حرام.
الثاني: أنه مكروه.
الثالث: أنه جائز لمن قدر عليه.
الرابع: أنه جائز إلى السحر.
وأرجحهما أن الوصال بين اليومين مكروه, وجائز إلى السحر، وتركه أفضل, هذا هو الذي يظهر لي من الأدلة, وبه تجتمع الأدلة، ولا تختلف. والله الهادي إلى سواء السبيل . وقد اختلف العلماء في معنى قوله، -صلى الله عليه وسلم-: إني أبيت يُطعمني ربي، ويسقيني على قولين:
أحدهما: أنه على حقيقته وعلى ظاهره, وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُؤتى بطعام وشراب من عند الله, فهو يُطعم من طعام الجنة كرامة له في ليالي صيامه, وعليه فيكون الإطعام والإسقاء حسيا, وهذا القول ضعيف لأمرين: أحدهما: أنه لو كان يُؤتى بطعام وشراب من الجنة لم يكن مواصلا، بل مفطرا وقد أقرَّهم على قولهم له (إنك تواصل). ثانيهما: أن قوله في الحديث: إني أظل يُطعمني ربي، ويسقيني يدل على وقوع ذلك بالنهار؛ لأن لفظة (يظل) لا يكون إلا في النهار, ولو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما.
الثاني: أن الإطعام والإسقاء معنوي، وهو ما يفتح الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من موادّ أنسه، ونفحات قدسه, والتلذذ بمناجاته, وموارد لطفه وذكره ودعائه, مما يغنيه عن الطعام والشراب، ويجعل فيه قوة الطاعم الشارب، ويسد مسدّ الطعام والشراب، ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة، ولا كلال في الإحساس، وهذا قول الجمهور، وهو الصواب والله الموفق.
وما يفعله بعض الناس من الأكل نصف الليل والنوم بعد ذلك فيه مخالفة للسنة من الأكل في السحر آخر الليل, وإذا كان لا يستيقظ لصلاة الصبح إلا بعد طلوع الشمس متعمدا فقد أضاع فريضة عظيمة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهو متوعد بقول الله - تعالى-: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إلى قوله -تعالى-: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ إذ المؤخر للصلاة عن وقتها متعمدا من غير عذر داخل في إضاعة الصلاة والسهو عنها فله نصيب من هذا الوعيد الذي ترتعد له الفرائص، وتتزلزل له القلوب الحية, نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين سواء السبيل.(1/13)
التقبيل والمباشرة للصائم
14 - ومن أحكام الصيام أنه يجوز للصائم أن يُقبِّل زوجته وأن يباشرها ما لم يخشَ من تحرك شهوته، ونزول شيء منه لما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقبِّل، وهو صائم، ويباشر، وهو صائم ولكنه أملكُكم لإِربه .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها- قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقبِّل بعض أزواجه، وهو صائم، ثم ضحكت وفي صحيح مسلم عن حفصة - رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل، وهو صائم . وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبِّل في شهر الصوم . وفي صحيح البخاري عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها، وهو صائم .
فهذه الأحاديث تدل على جواز تقبيل الصائم ومباشرته وأن صومه صحيح ما لم يخشَ من المباشرة، أو القُبلة خروج شيء من المني، أو المذي لكونه سريع الإنزال, فإن خشي خروج شيء وجب عليه ترك المباشرة والقبلة, لقول عائشة -رضي الله عنها- في الحديث: " ولكنه أملككم لإربه" ولأن حفظ الصيام عن الإفساد واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإن قبَّل الصائم، أو باشر وخرج منه مني فسد صومه, وكذا لو كرر النظر فأنزل فسد صومه, وكذا لو استمنى فأمنى فسد صومه, وعليه القضاء، ولا كفارة عليه، بل الكفارة في الجماع خاصة, أما إذا فكر فأنزل، أو أنزل من نظرة واحدة من غير عمد بدون تكرار فلا يفسد صومه؛ لأنه لا اختيار له, فمن وقع منه الإنزال باختياره كالمباشرة، أو القبلة، أو تكرار النظر فإنه يفسد صومه, وإن كان بغير اختياره كالتفكير والنظرة الواحدة بغير تعمد فلا يفسد صومه.
أما إذا خرج منه مذي بالمباشرة، أو التقبيل، أو تكرار النظر فلا يفسد صومه في أصح قولي العلماء، بل عليه الوضوء فقط؛ لأنه كالبول، وهو ما تعم به البلوى, وذهب بعض العلماء من الحنابلة وغيرهم إلى أنه يفسد الصوم بخروج المذي، والمختار أنه لا يفسد الصوم؛ لأن المذي أشبه بالبول منه بالمني، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والله الموفق للصواب.(1/14)
دخول شيء إلى حلق الصائم بدون قصد
15 - ومن أحكام الصيام أن من اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء إلى حلقه بلا قصد لم يفسد صومه, وكذا من طار إلى حلقه ذباب، أو غبار من طريق، أو دقيق، أو ما أشبه ذلك لم يفسد صومه, لعدم إمكان التحرز منه؛ ولأنه لا قصد له، ولا إرادة، ولا اختيار, وقد قال الله -تعالى-: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .(1/15)
أكل أو شرب شاكًّا في طلوع الفجر ولم يتبين له طلوعه
16 - ومن أحكام الصيام أن من أكل، أو شرب شاكًّا في طلوع الفجر ولم يتبين له طلوعه صح صومه، ولا قضاء عليه, لقوله -تعالى-: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ومن أكل، أو شرب شاكًّا في غروب الشمس ولم يتبين له أنها قد غابت ولم يغلب على ظنه غروبها, فعليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الأصل بقاء النهار.(1/16)
إعلام من رآه يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيا
17 - ومن أحكام الصيام أن من رأى من يأكل، أو يشرب في نهار رمضان ناسيا وهو صائم وجب عليه إعلامه، ولا يجوز له السكوت عنه كما يعتقده بعض العامة؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأكل والشرب من الصائم في نهار رمضان منكر، لكن الناسي معذور فوجب إعلامه؛ ولأن هذا من التعاون على البر والتقوى, وقد قال -تعالى-: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .(1/17)
صوم الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه
18 - ومن أحكام الصيام أن الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة, وكذا المريض الذي لا يرجى برؤه, يفطرون، ويطعم كل واحد منهم مكان كل يوم مسكينا, إذا كانوا لا يطيقون الصوم في قول جمهور العلماء, قالوا: وإن كانت الآية منسوخة، وهي قوله -تعالى- وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلا أن حكم الإطعام باقٍ على من لم يُطق الصوم لكبر, وكذا مرض لا يرجى برؤه, وقال جماعة من السلف جميع الإطعام منسوخ, وقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ليست الآية منسوخة، بل هي محكمة، وهي نزلت في الكبير والمريض اللذين لا يقدران على الصوم . وقال مالك لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب عليه فدية, كما لو تركه لمرض اتصل به الموت, والصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الإطعام والله الموفق.(1/18)
اغتسال الصائم وصب الماء على رأسه للتبرد
19 - ومن أحكام الصيام: أنه يجوز للصائم أن يغتسل لما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر جنبا في رمضان من غير حلم فيغتسل، ويصوم .
ويجوز للصائم أن يصب على رأسه الماء للتبرد، ويتمضمض, وقد أخرج أحمد من حديث رجل من الصحابة: أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصب على رأسه الماء، وهو صائم من العطش، أو الحر .(1/19)
المضمضة والاستنشاق للصائم
20 - ومن أحكام الصيام: أنه يجوز للصائم أن يتمضمض، ويستنشق, لكن ليس له أن يبالغ في الاستنشاق خشية أن يتسرب، أو يتهرب الماء إلى حلقه, لما روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث لقيط بن صبرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما .
وتَرْك السعوط في الأنف أَولى لئلا يصل إلى حلقه؛ لأن الأنف منفذ, أما القطرة في العين وفي الأذن وكذا الكحل في العين, فتأخير استعمالها إلى الليل أولى خروجا من خلاف من منع ذلك من العلماء, وقال: إن كل ما يدخل في الجوف، ويصل إليه يفطر به الصائم, وإن كان الصحيح أنه لا يفطر بها لعدم الدليل على ذلك, لكن الاحتياط لهذه العبادة العظيمة أولى, وكذلك ينبغي ترك العلك للصائم لأنه قد يتحلل منه شيء، أو يتحلب منه شيء, وقد يكون له طعم كالحلوى.(1/20)
الحقن للصائم
21 - ومن أحكام الصيام أنه يلحق بالأكل والشرب ما في معناهما فيفطر بهما, وذلك كالإبر المغذية؛ لأنه يستغني بها عن الطعام, وكذا حقن الدم يفطر به الصائم لأن الدم خلاصة الطعام والشراب, لكن الغالب فيمن يحتاج إلى الإبر المغذية، أو إلى حقن الدم فإنه مريض يباح له الفطر.
أما الإبر المكافحة للمرض فلا يفطر بها الصائم سواء كانت في الوريد، أو العضل؛ لأنها ليست أكلا، ولا شربا، ولا في معنى الأكل والشرب, لكن الاحتياط للصائم أن يؤخر إلى الليل احتياطا لهذه العبادة, وخروجا من خلاف كثير من الفقهاء القائلين بأنها تفطر؛ لأنها تدخل في الجوف، وتصل إليه, ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن صحيح.(1/21)
شم الصائم للبخور
22- ومن أحكام الصيام أن شم البخور عالما عامدا يفطر به الصائم، وهو قول كثير من الفقهاء لأن له نفوذا إلى الدماغ, أما إذا دخل أنفه، أو شمه من غير قصد فلا يفطر به الصائم, لعدم الإرادة والاختيار وقد قال - تعالى-: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .(1/22)
القيء للصائم
23 - ومن أحكام الصيام: أن القيء: يفطر به الصائم في أصح قولي العلماء إذا استَقاء عمدا, أما إذا ذرعه القيء وغلبه فلا يفطر به الصائم, لما أخرج الترمذي (720) وأبو داود (2380) وابن ماجه (1676) والدارقطني ص(240) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من ذرعه القيء فليس عليه قضاء, ومن استقاء عمدا فليقض وسنده صحيح, وصححه ابن خزيمة (1960) و (1961), وابن حبان (907) والحاكم (1 \ 427). وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استَقاء عامدا . وقيل لا يفطر القيء مطلقا ولو عمدا, حكي عن ابن مسعود وابن عباس والصواب الأول، وهو مذهب الجمهور وهو: أنه يفطر بالاستقاء بأي وجه استقاء سواء كان بإدخال يده في فمه، أو بشمه ما يقيئه، أو بوضع يده على بطنه، ونظامته، أو بغير ذلك والله الموفق للصواب.(1/23)
مشروعية السواك للصائم
24 - ومن أحكام الصيام: مشروعية السواك للصائم واستحبابه عند كل صلاة, وعند كل وضوء, لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وفي حديث زهير بن حرب عند مسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة .
ورواه النسائي بلفظ: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وهذا عام يشمل السواك عند كل صلاة ووضوء للمفطر والصائم في أول النهار وفي آخره. وقال ابن خزيمة في صحيحه (3 \ 247): " إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولم يستثنِ مفطرا دون صائم, ففيها دلالة على أن السواك للصائم عند كل صلاة فضيلة كهو للمفطر " اهـ.
وأخرج الترمذي (725) وأحمد (3 \ 445), وأبو داود (2364) وابن خزيمة (2007) عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصي يتسوك، وهو صائم وفي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ضعفه البخاري وابن معين والذهلي وغير واحد, لكن قال الترمذي "العمل على هذا عند أكثر أهل العلم لم يروا بأسا بالسواك للصائم أول النهار وآخره" اهـ.
وقد روى ابن ماجه عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من خير خصال الصائم السواك وقال البخاري قال ابن عمر " يستاك أول النهار وآخره" (6 \ 490), عون المعبود.
وأخرجه النسائي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب . وهذا عام يشمل المفطر والصائم أول النهار وآخره.
وذهب بعض العلماء إلى أن السواك يكره للصائم بعد الزوال لئلا يزيل رائحة الخلوف المستحبة في الحديث: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وإليه ذهب الشافعي وأحمد في رواية, واستدلوا بحديث: إذا صُمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي لكنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة, والصواب استحباب السواك للصائم وغير الصائم في جميع الأوقات, والله الموفق لا إله غيره، ولا رب سواه.(1/24)
ارتد عن الإسلام أثناء الصوم
25 - ومن أحكام الصيام: أن من ارتد عن الإسلام - والعياذ بالله- في أثناء الصوم فقد أفطر وفسد صومه, بغير خلاف بين أهل العلم, لقول الله -تعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام, وسواء أسلم في أثناء ذلك اليوم، أو بعد انقضائه, وسواء كانت ردته باعتقاد، أو شك، أو فعل، أو قول كالنطق بكلمة الكفر مستهزئا، أو غير مستهزئ لقول الله -تعالى-: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ولأن الصوم عبادة كسائر العبادات كالصلاة والحج وغيرها ومن شرط العبادة النية فتبطل بالردة؛ ولأن العبادات المحضة من الصلاة والصوم وغيرها ينافيها الكفر .(1/25)
نوى الإفطار من صومه
26 - ومن أحكام الصيام: أن من نوى الإفطار من صومه أفطر وفسد صومه في أصح قولي العلماء؛ لأن الصوم عبادة من شرطها النية في جميع أجزاء العبادة, فإذا نوى قطعها فسدت العبادة بنية الخروج منها وزالت حقيقة العبادة وحكمها. ففسد الصوم لزوال شرطه لما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وقال ابن حامد من الحنابلة لا يفسد الصوم بنية الإفطار لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها، ولا تفسد بنية الخروج منها قياسا على الحج وهذا قول ضعيف, والصواب القول الأول الذي يدل عليه الحديث الذي هو الأصل في باب العبادات، وهو بناء الأعمال على النيات, وأن الأعمال معتبرة بها، وهي المصححة لها فمدارها عليها, فإذا زالت زالت العبادة واضمحلت، وتلاشت, والنية هي التي يحصل بها التمييز بين العادات والعبادات, فالأمور بمقاصدها, والأعمال بالنيات, ولكل امرئ ما نوى, نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال وحسن القصد في ما نأتي، ونذر، وصلاح النية والعمل والصدق في الأقوال والأعمال إنه جواد كريم.(1/26)
ترك الحائض والنفساء الصوم
27 - ومن أحكام الصيام أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم, وأنهما تفطران رمضان، وتقضيان, وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم, وقد أجمع على ذلك أهل العلم لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قالت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة . ولما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها أخرجه البخاري في كتاب الحيض, باب ترك الحائض الصوم . وفي باب الحائض تترك الصوم والصلاة من كتاب الصوم .
وهذا من رحمة الله بالنساء, فإن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات فيشق قضاؤها, أما الصيام فإنه عبادة سنوية لا تكون إلا في السنة مرة فوجب قضاؤه, فلا يشق, وفي ذلك مصلحة للمرأة. والحائض والنفساء سواء؛ لأن دم النفاس هو دم الحيض وحكمهما واحد, ومتى وجد دم الحيض، أو النفاس من المرأة الصائمة في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم سواء وُجد في أوله، أو في آخره, ولو قبل غروب الشمس بلحظة واحدة, ووجب عليها قضاء ذلك اليوم.
أما خروج الدم من المرأة، أو الرجل بسبب الرعاف، أو الجراحات, وكذا خروج الدم من الدمَّل، ونحوه فإنه لا يؤثر في الصوم، بل الصوم صحيح, وكذا خروج دم الاستحاضة من المرأة لا يؤثر في الصوم، بل صومها صحيح مع خروجه، كما لا يمنع الصلاة والطواف بالبيت, وكما لا يمنع زوجها منها؛ لأنه لا ضابط له، وهو مستمر فهو كالرعاف والجراحات، ولا دليل يدل على منعها من هذه العبادات معه كما دل النص على منعها من هذه العبادات والأشياء مع الحيض والنفاس. وكذا لو انقلع سنّه ولفظ الدم ولم يبتلعه فصومه صحيح؛ لأن هذا الأشياء لا اختيار له فيها، ولا نص في تأثر الصوم بها، وتأثيرها عليه, والأصل صحة صوم المسلم إلا بدليل يدل على فساده، ولا دليل هنا, والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/27)
الحجامة والفصاد للصائم
28 - ومن أحكام الصيام أن إخراج الدم من الصائم بالحجامة يفسد الصيام، ويفطر بها الصائم في أصح قولي العلماء.
لما روى أبو داود بسنده عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أفطر الحاجم والمحجوم . ولما روى شداد بن أوس -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم, وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان, فقال: أفطر الحاجم والمحجوم .
وفي الباب عن رافع بن خديج وأبي هريرة وعائشة وبلال وأسامة بن زيد ومعقل بن سنان وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبي زيد الأنصاري وأبي موسى الأشعري وابن عباس وابن عمر .
وإلى القول بأن الحجامة تفطر الصائم ذهب طائفة من أهل العلم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي والأوزاعي والحسن وابن سيرين وقال به الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان وإليه ذهب جماعة من الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمهما الله- .
وذهب جمهور العلماء إلى عدم الفطر بالحجامة مطلقا, ، وهو قول مالك, والشافعي وأبي حنيفة وإليه ذهب جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة والحسين بن علي - رضي الله عنهم-.
وقال به من التابعين عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وإليه ذهب الخطابي واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم، وهو محرم, واحتجم، وهو صائم .
2- واستدلوا -أيضا- بما ثبت في صحيح البخاري عن ثابت البناني قال: سئل أنس بن مالك - رضي الله عنه - أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف .
3- واستدلوا بما روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم" أن جعفر بن أبي طالب احتجم، وهو صائم, فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أفطر هذان"، ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم، وهو صائم, قال الدارقطني كلهم ثقات، ولا أعلم له علة .
4- واستدلوا بما رواه النسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم, ورخص في الحجامة .
وقال الشافعي في "اختلاف الحديث" بعد أن أخرج حديث شداد ولفظه: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمان الفتح, فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان, فقال، وهو آخذ بيدي: أفطر الحاجم والمحجوم ثم ساق حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -: أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم، وهو صائم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا, وإن توقّى أحد الحجامة كان أحب إلي احتياطا, والقياس مع حديث ابن عباس والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة" اهـ.
وأجاب الجمهور عن حديثي ثوبان وشداد وفيهما: أفطر الحاجم والمحجوم بأجوبة منها:
1- القدح في الأحاديث الدالة على أن الحجامة تفطر، وتعليلها بالاضطراب.
2- القول بالترجيح, وأن حديث ابن عباس أرجح من حديثي ثوبان وشداد وغيرهما؛ لأنه أصح إسنادا؛ لأنه في الصحيح كما سبق في كلام الشافعي آنفا.
3- القول بالنسخ, وأن حديث ثوبان وشداد وغيرهما منسوخة بحديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم، وهو صائم؛ لأنه في حجة الوداع سنة عشر, وحديث أفطر الحاجم والمحجوم قاله ابن عبد البر وقبله الشافعي
وقيل: منسوخة بما أخرجه الدارقطني عن أنس والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما- من الرخصة في الحجامة: قال ابن حزم أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجامة للصائم. وإسناده صحيح فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة, فدل على نسخ الفطر بالحجامة, سواء كان حاجما، أو محجوما .
4-
التأويلات لحديث ثوبان وشداد وغيرهما بتأويلات منها:
أ- أن معنى قوله: أفطر الحاجم والمحجوم أنهما سيفطران, فهو تأويل بما سيئول أمرهما في المستقبل من الفطر كقوله تعالى: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا أي: سيئول الأمر في المستقبل إلى أن يخرج من السجن، ويعصر خمرا.
ب- أن معنى قوله: أفطر الحاجم والمحجوم تعرّضا للإفطار, أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك إلى أن يعجز عن الصوم, وأما الحاجم فلا بد أن يصل إلى جوفه من طعم الدم، أو من بعض أجزائه, إذا ضم شفتيه على قصب الملازم، وهذا كما يقال للرجل يتعرض للهلاك, قد هلك فلان، وإن كان سالما، وإنما يراد به قد أشرف على الهلاك وكقوله، -صلى الله عليه وسلم-: من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين . يريد أنه قد تعرض للذبح .
جـ- وتأوله بعضهم بأن معنى قوله: أفطر الحاجم والمحجوم جاز لهما أن يفطرا, كقولك أحصد الزرع, إذا حان أن يحصد, وأركب المهر, إذا حان أن يركب.
د- وتأوله بعضهم على أن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة، بل لأجل الغيبة, وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف المحض كزيد وعمرو لا للتعليل.
هـ- وتأول بعضهم الحديث: أفطر الحاجم والمحجوم على حقيقته, وأنهما قد أفطرا حقيقة, وأن مرور النبي -صلى الله عليه وسلم- بهما كان مساء في وقت الفطر فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" فأخبر أنهما قد أفطرا ودخلا في وقت الفطر, يعني فليصنعا ما أحبا, كأنه عذرهما بهذا القول, إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار, كما يقال: أصبح الرجل وأمسى وأظهر: إذا دخل في وقت هذه الأوقات.
و- وتأوله بعضهم بأن المراد من قوله: أفطر الحاجم والمحجوم التغليظ والدعاء عليهما, لا أنه خبر شرعي بفطرهما.
ز- وتأوله بعضهم بأن المراد من إفطار الحاجم والمحجوم, إبطال ثواب صومهما كقوله -صلى الله عليه وسلم- فيمن صام الدهر: لا صام، ولا أفطر .
فمعنى قوله: أفطر الحاجم والمحجوم بطل أجر صيامهما, فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين, وكما جاء: خمس خصال يفطرن الصائم، وينقضن الوضوء: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظر بالشهوة, واليمين الكاذبة .
5- أنه لو قدر تعارض الأخبار جملة لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لتأييدها بالقياس وبأصول الشريعة, إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه.
وقد أجاب القائلون بأن الحجامة تفطر الصائم على أجوبة الجمهور عن حديثي شداد وثوبان وغيرهما من الأدلة الدالة على أن الحجامة تفطر الصائم بما يأتي:
1- أما القدح في الأحاديث الدالة على أن الحجامة تفطر الصائم، وتعليلها بالاضطراب, فأجابوا عنه بأن أقوال الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت بتصحيح بعضها مثل أحمد بن أحمد وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني وإبراهيم الحربي وعثمان بن سعيد الدارمي والبخاري وابن المنذر وبعض هذه الأحاديث إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده, وإما ضعيف يصلح للشواهد والمتابعات, وكل من له علم بالحديث يشهد بأن هذا الأصل محفوظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لتعدد طرقه, وثقة رواته, واشتهارهم بالعدالة, قال علي بن المديني لا أعلم في: أفطر الحاجم والمحجوم حديثا أصح من حديث رافع بن خديج وقال في حديث شداد لا أرى الحديثين إلا صحيحين .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي صحّ عندي حديث: أفطر الحاجم والمحجوم من حديث ثوبان وشداد بن أوس وأقول به, وسمعت أحمد بن حنبل يقول به, وذكر أنه صح عنده حديث ثوبان وشداد وقال إبراهيم الحربي في حديث شداد هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة, قال:، وهذا الحديث صحيح بأسانيد, وبه نقول, وقال الترمذي في كتاب العلل: سألت البخاري فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس فقلت: وما فيه من الاضطراب, فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان وعن أبي الأشعث عن شداد الحديثين جميعا، فقد حكم البخاري بصحة حديث ثوبان وشداد .
2- وأما قول بعضهم بترجيح حديث ابن عباس لأنه في الصحيح على حديث شداد وثوبان وغيرهما, فيجاب عنه بأن الترجيح إنما يكون إذا لم يمكن الجمع بين الأحاديث ولم يمكن القول بالنسخ لتعذر معرفة التاريخ, كما هو مقرر ومعروف في علم أصول الفقه وفي علم مصطلح الحديث, والجمع بين الأحاديث هنا ممكن بما سيأتي من الأجوبة.
3- وأما القول بأن حديث شداد وثوبان منسوخ بحديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم، وهو صائم, والقول بالنسخ هو المعتمد عند الجمهور.
فيجاب عنه بأن دعوى النسخ لا سبيل إلى صحتها؛ لأن النسخ لا يثبت إلا بشرطين: أحدهما: التعارض بين الحديثين على وجه لا يمكن الجمع بينهما. والثاني: العلم بتأخر أحدهما وكلاهما منتف فالجمع بين الحديثين ممكن, وليس فيه بيان للتاريخ. وأما سؤال ثابت لأنس أكنتم تكرهون الحجامة؟ قال: لا, إلا من أجل الضعف, وفي رواية: "على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "، فهو يدل على أن أنسا لم تكن عنده رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أفطر بها، ولا أنه رخص فيها، بل الذي عنده كراهتها من أجل الضعف, ولو علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص فيها لم يكره شيئا رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما حديث أبي سعيد في الرخصة في الحجامة فهو مختلف فيه, وذكر الحجامة فيه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بل من كلام أبي سعيد كما قاله ابن خزيمة ولكن بعض الرواة أدرجه فيه, وليس فيه بيان للتاريخ، ولا يدل على أن هذا الترخيص كان بعد الفتح.
وأما قول ابن حزم وغيره: إن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي، فباطل بنفس الحديث, فإن فيه رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم, ولم يتقدم فيه نهي عنها، ولا قال أحد: إن هذا الترخيص فيها ناسخٌ لمنعٍ تقدم, وفي الحديث: إن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام, فسمى الحكم المنسوخ رخصة مع أنه لم يتقدم حظر، بل المنع منه متأخر .
4- وأما تأويلات بعضهم لأحاديث الفطر بالحجامة كحديث شداد وثوبان أفطر الحاجم والمحجوم فأجاب عنها القائلون بأن الحجامة تفطر الصائم بما يأتي:
أما تأويلهم لقوله: أفطر الحاجم والمحجوم بأنهما سيفطران، أو بأنهما تعرّضا، أو بأنه جاز لهما أن يفطرا فيجاب عنه بأن هذا التأويل باطل لتضمُّنه أمورا باطلة منها:
1- الإيهام بخلاف المراد .
2- ولأن الصحابة فهموا خلافه.
3- ولأن هذا اللفظ اطرد دون مجيئه بالمعنى الذي ذكروه.
4- ولشدة مخالفته للوضع.
5- ولذكر الحاجم, فإنه وإن تعرض المحجوم للفطر بالضعف, فأي ضعف في حق الحاجم.
6- والتعليل بكون الحاجم متعرضا لابتلاع الدم, والمحجوم متعرضا للضعف هذا التعليل لا يبطل الفطر بالحجامة، بل هو مقرر للفطر بها, وإلا فلا يجوز استنباط وصف من النص يعود عليه الإبطال، بل هذا الوصف إن كان له تأثير في الفطر, وإلا فالتعليل به باطل.
وأما تأويل بعضهم بأن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة، بل لأجل الغيبة وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف المحض كزيد وعمرو لا للتأويل.
فيجاب عنه بأن هذا التأويل باطل لتضمنه أمورا باطلة منها:
1- أن ذلك يتضمن الإيهام والتلبيس, بأن يذكر وصفا يرتب عليه الحكم، ولا يكون له تأثير ألبتة.
2- أن هذا يبطل عامة أحكام الشرع التي رتبها على الأوصاف إذا تطرق إليها مثل هذا التأويل والوهم الفاسد, فالزنا رُتب عليه الجلد في قوله -تعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ والسرقة رتب عليه قطع اليد في قوله - تعالى -: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وغيرهما كثير, فإن جاز أن تكون تلك الأوصاف للتعريف لا للتعليل بطلت الأحكام.
3- أنه لا يفهم أحد من الخاصة والعامة إلا تعلق الأحكام بأوصافها, ومن قال بخلاف ذلك وأن الأوصاف لا تأثير لها في الأحكام عُدّ كلامه سخفا, فكيف يضاف ذلك إلى الشارع.
4- أن في هذا قدحا في أفهام الصحابة الذين هم أعرف الناس وأفهم الناس بمراد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وبمقصوده بكلامه, حيث أفتوا بأن الحجامة تفطر الصائم، وقد قال أبو موسى - رضي الله عنه - لرجل قال له: ألا تحتجم نهارا؟ أتأمرني أن أُهريق دمي وأنا صائم؟ وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أفطر الحاجم والمحجوم
5- أن هذا يتضمن تعليق الحكم- وهو الفطر- بوصف لا ذكر له في الحديث أصلا, وإبطال تعليقه بالوصف الذي علقه به الشارع، وهذا باطل.
6- أنه لا يمكن أن يتفق بضعة عشر صحابيا على رواية أحاديث كلها متفقة بلفظ واحد: أفطر الحاجم والمحجوم ويكون ذكر الحجامة لا تأثير لها في الفطر.
7- أن القول بأن ذكر الحاجم والمحجوم للتعريف يجاب عنه بأن الأوصاف تذكر في النصوص لتعريف أحكامها وأنها مرتبطة بها, فأحكام الشارع إنما تُعرف بالأوصاف، وتربط بها.
8- أنه لو كان فطر صاحب القصة الذي مرّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: أفطر الحاجم والمحجوم لو كان فطره بغير الحجامة لبينه له الشارع لحاجته إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وأما قولهم: (إن الفطر بالغيبة) فيجاب عنه بأن هذا باطل لأمور:
1- أن ذلك لا يثبت, وإنما جاء في حديث واحد: "وهما يغتابان الناس"، وهي زيادة باطلة.
2- أنه لو ثبت لكان الأخذ بعموم اللفظ الذي عُلق به الحكم دون الغيبة التي لم يعلق بها الحكم.
3- أنه لو كان الفطر بالغيبة لكان موجب البيان أن يقول: (أفطر المغتابان) على عادة الشارع وعرفه من ذكر الاوصاف المؤثرة دون غيرها.
4- أن هذا يتضمن حمل الحديث على خلاف الإجماع، وتعطيل الإجماع, إذ المنازع في تفطير الحجامة للصائم لا يقول بأن الغيبة تفطر, فكيف يحمل الحديث على خلاف الإجماع الذي يعتقد بطلانه.
5- أن الغيبة لم يجر لها ذكر في الحديث أصلا, فكيف تجعل وصفا في الحكم, وسياق الأحاديث يبطل هذا التأويل؟.
وأما تأويل بعضهم للحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بأنه على حقيقته, وأنهما قد أفطرا حقيقة؛ لأن مرور النبي -صلى الله عليه وسلم- بهما مساء في وقت الفطر, فأخبر أنهما قد أفطرا ودخلا في وقت الفطر, فيجاب عنه بما يأتي:
1- لا يجوز أن يُحمل الحديث على ذلك إذ لا تأثير للحجامة حينئذ، بل كل الناس قد أفطروا حين أمسوا ودخلوا في وقت الإفطار.
2- لو كانا قد أفطرا لدخول وقت الإفطار، وهو المساء لما كان لقول أنس - رضي الله عنه - (ثم رخص بعد في الحجامة) فائدة، ولا حاجة أصلا.
3- لو كان قد أفطرا لدخول وقت الإفطار، وهو المساء لما كان بالصحابة حاجة أن يؤخروا احتجامهم إلى الليل, وكيف يفتون الأمة بفطرهم بأمر قد فعل مساء لا تأثير له في الفطر؟
وأما تأويل بعضهم للحديث بأن المراد من قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" التغليظ والدعاء عليهما, لا أنه حكم شرعي فيجاب عنه:
بأنه كيف يغلَّظ عليهما، وهما لم يفعلا محرما، ولا مفطرا، بل فعلا ما أباحه الشارع لهما؟ هذا لا يكون, ومتى عُهد في عرف الشارع الدعاء على المكلف بالفطر وفساد العبادة.
وأما تأويل بعضهم بأن المراد من إفطار الحاجم والمحجوم إبطال ثواب صومهما فكأنهما صارا غير صائمين, فيجاب عنه بما يأتي:
1- كيف يبطل أجر الحاجم والمحجوم وأنتم لا تحرمون الحجامة للصائم، ولا ترون فساد الصوم بها, فإذا صح الصوم ترتب عليه الأجر والثواب مع الإخلاص وحسن القصد.
2- لو كان المراد من قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" إبطال الأجر والثواب لكان ذلك مقررا لفساد الصوم لا لصحته, فإن الشارع حينئذ قد أخبر عن أمر يتضمن بطلان أجرهما لزوما واستنباطا, وبطلان صومهما صريحا، ونصا, فكيف يعطل ما دل عليه صريحه، ويعتبر ما استنبط منه, مع أنه لا منافاة بينه وبين الصريح، بل المعنيان حق, فقد بطل صومهما وبطل أجرهما إذا كانت الحجامة لغير المرض.
5- وأما جواب الجمهور بأن الأحاديث لو قدر تعارضها لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لموافقتها للقياس, ولشهادة أصول الشريعة لها: إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه, فيجاب عنه بما يأتي:
1- أن الأحاديث ليست متعارضة بحمد الله، بل هي متفقة, فهذا التقدير غير وارد, إذ الأحاديث يعمل بكل منها فيما دل عليه.
2- لو قدر تعارضهما وسلم ذلك لكان الأخذ بأحاديث الفطر متعين؛ لأنها ناقلة عن الأصل, وأحاديث الإباحة مبقية وموافقة لما كان الأمر عليه قبل جعلها مفطرة, والناقل مقدم على المبقي.
3- أنه ليس في أحاديث الرخصة لفظ صريح صحيح، بل هي ما بين صحيح غير صريح الدلالة، بل هو محتمل صريح الدلالة لكنه غير صحيح فلا يصلح للحجة, فكيف تقدم على أحاديث الفطر، وهي صحيحة متعددة الطرق صريحة في الدلالة غير محتملة, وعليه فقول بعضهم: "فيكون القياس بأن الفطر يكون بما يدخل الجوف لا بما يخرج منه فاسد الاعتبار".
4- القول بأن الحجامة تفطر الصائم هو الموافق للقياس, وإن الشارع علق الفطر بإدخال ما فيه قوام البدن من الطعام والشراب, وعلق الفطر أيضا بإخراج القيء واستفراغ المني, وجعل خروج دم الحيض والنفاس مانعا من الصوم, لما فيه من خروج الدم المضعف للبدن.
فالشارع نهى الصائم عن أخذ ما يعينه، وعن إخراج ما يضعفه, وكلاهما مقصود له, فله قصد في حفظ قوة الصائم عليه كما له قصد في منعه من إدخال المفطرات, والفطر بالحجامة أولى من الفطر بالقيء نصا وقياسا واعتبارا.
وبهذا يتبين أن القول بأن الحجامة تفطر الصائم هو مقتضى القياس وأنه الذي تشهد له أصول الشريعة وقواعدها وبالقول به تتوافق النصوص والقياس، ويصدق بعضها بعضا. وعليه فالمحجوم الصائم يفطر بسبب خروج الدم, أما الحاجم فإنه يفطر في أصح قولي العلماء لأنه يمص الدم, فإن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج على الحاجم المعتاد، وهو الذي يمص الدم, فلما كان الحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه, والهواء يجتذب ما فيها من الدم, فربما صعد مع الهواء شيء من الدم, ودخل في حلقه، وهو لا يشعر, والحكمة إذا كانت خفيّة عُلّق الحكم بمظنتها, كما أن النائم لما كان قد يخرج منه الريح، ولا يشعر بها علق الحكم بالمظنة، وهو النوم, وإن لم يخرج منه الريح, وكما علقت الأحكام بالسفر وإن لم توجد المشقة؛ لأن السفر مظنة المشقة.
أما الحاجم الذي يحجم بالتشريط أي شرط الجلد، ولا يمص الدم فإنه لا يفطر إذا كان صائما, وكذا من يحجم، ولا يمص الدم، بل يمصه مفطر غيره فإنه لا يفطر وليس في هذا مخالفة للنص: أفطر الحاجم والمحجوم لأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج على الحاجم المعتاد، وهو الذي يمص الدم, وكلامه إنما يعم الحاجم المعتاد, فاستعماله اللفظ فيه بقصره على الحاجم المعتاد لا يكون تعطيلا للنص .
والقول بأن الحاجم يفطر كالمحجوم هو الصواب، وهو منصوص الإمام أحمد - يعني الذي يمص الدم-, والقول الثاني: أن المحتجم يفطر وحده دون الحاجم، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة فإنه قال في المفطّرات:، أو احتجم ولم يقل، أو حجم .
أما استدلال الجمهور على أن الحجامة لا تفطر الصائم بما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم، وهو محرم, واحتجم، وهو صائم وهو عمدة الجمهور في هذا الباب, فيكون ناسخا لأحاديث الفطر بالحجامة فيجاب عنه: بأن الحديث صحيح لكنه غير صريح, فهو صحيح لأنه أخرجه في صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل, لكنه غير صريح الدلالة، بل هو محتمل لأمور عدة: إذ يحتمل أن يكون احتجم في صيام النفل لا في صيام رمضان, والمتنفل أمير نفسه له أن يخرج من صيامه بالحجامة، أو بالأكل والشرب، أو غيرها، ويحتمل أن يكون احتجم، وهو صائم في السفر لا في الحضر, والمسافر يجوز له الفطر في السفر، بل يشرع له، ويحتمل أن يكون احتجم، وهو مريض غير صحيح, والمريض يجوز له الفطر بنص القرآن، ويحتمل أن يكون احتجم أوَّلًا قبل قوله: أفطر الحاجم والمحجوم فيكون احتجامه، وهو صائم منسوخا, فالدليل محتمل لهذه الأمور الأربعة، ولا يتم الاستدلال بهذا الحديث على أن الفطر بالحجامة منسوخ إلا إذا ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم في صيام الفرض، وهو صحيح غير مريض مقيم غير مسافر، ويكون احتجامه وقع بعد قوله: أفطر الحاجم والمحجوم
ومن القواعد المقررة عند علماء الأصول أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
قال ابن القيم -رحمه الله- : ( الصواب الفطر بالحجامة لصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير معارض, وأصح ما يعارض به حديث حجامته، وهو صائم, ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور:
أحدهما: أن الصوم كان فرضا.
الثاني: أنه كان مقيما.
الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة.
الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: أفطر الحاجم والمحجوم فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع أمكن الاستدلال بفعله -صلى الله عليه وسلم- على بقاء الصوم مع الحجامة, وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان لكنه في السفر، أو من رمضان لكن دعت الحاجة إليه كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها, لكنه مُبقًّى على الأصل, وقوله: أفطر الحاجم والمحجوم ناقل ومتأخر, فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع, فكيف بإثباتها كلها) ا هـ.
وقال ابن القيم أيضا: ( وأما حديث: احتجم، وهو محرم صائم فهذا هو الذي تمسك به من ادعى النسخ, وأما لفظ: احتجم، وهو صائم فلا يدل على النسخ، ولا تصح المعارضة به لوجوه:
أحدهما: أنه لا يعلم تأريخه, ودعوى النسخ لا تثبت بمجرد الاحتمال.
الثاني: أنه ليس فيه أن الصوم كان فرضا, ولعله كان صوم نفل خرج منه.
الثالث: حتى لو ثبت أنه صوم فرض, فالظاهر أن الحجامة إنما تكون للعذر، ويجوز الخروج من صوم الفرض بعذر المرض, والواقعة حكاية فعل لا عموم لها- إلى أن قال-: وإنما تمكن دعوى النسخ إذا كان ذلك قد وقع في حجة الوداع، أو في عمرة الجعرانة حتى يتأخر ذلك عن عام الفتح الذي قال فيه: أفطر الحاجم والمحجوم ولا سبيل إلى بيان ذلك) اهـ.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: (، ولا يقال قوله: "وهو صائم" جملة حال مقارنة للعامل فيها, فدل على مقارنة الصوم للحجامة؛ لأن الراوي لم يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إني باقٍ على صومي, وإنما رآه يحتجم، وهو صائم, فأخبر بما شاهده ورآه، ولا علم له بينة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بما فعل بعد الحجامة, مع أن قوله: "وهو صائم" حال من الشروع في الحجامة وابتدائها, فكان ابتداؤها مع الصوم, وكأنه قال: احتجم في اليوم الذي كان صائما فيه، ولا يدل ذلك على استمرار الصوم أصلا, ولهذا نظائر منها: حديث الذي وقع على امرأته، وهو صائم, وقوله في الصحيحين: وقعت على امرأتي وأنا صائم والفقهاء وغيرهم يقولون: وإن جامع، وهو محرم, وإن جامع، وهو صائم، ولا يكون ذلك فاسدا من الكلام, فلا تعطل نصوص الفطر بالحجامة بهذا اللفظ المحتمل) اهـ.
قلت: ومما يؤيد ترجيح القول بأن الحجامة تفطر الصائم:
1- أن احتجامه -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم فعل, وحديث: أفطر الحاجم والمحجوم قول, والقول مقدم على الفعل.
2- أن احتجامه -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم مبقٍ على الأصل, وقوله -صلى الله عليه وسلم-: أفطر الحاجم والمحجوم ناقل عن الأصل, والناقل مقدم على المُبقي, والله الموفق.
وبهذا يتبين للمنصف الذي يسعى في طلب الحق بدليله من غير تقليد، أو تعصب لمذهب، أو لشخص، أو لجماعة أن القول بأن الحجامة تفطر الصائم هو القول الصواب الذي يقتضيه القياس، وتشهد له النصوص والله الموفق.
قال ابن القيم - رحمه الله - بعد ترجيحه لهذا القول: ( وعياذا بالله من شر مقلد عصبي, يرى العلم جهلا, والإنصاف ظلما، وترجيح الراجح على المرجوح عدوانا، وهذه المضايقُ لا يصيب السالك فيها إلا من صدقت في العلم نيته, وعلت همته, وأما من أخلد إلى أرض التقليد, واستوعر طريق الترجيح, فيقال له: ما هذا عُشّك فادرُجي) .
وإذا ظهر أن القول الصواب هو القول بأن الحجامة تفطر الصائم, فإذا احتاج الصائم في الفرض إلى الحجامة فإنه يؤخرها إلى الليل إن أمكن, وإن لم يمكن احتجم في النهار, وقضى يوما مكان هذا اليوم الذي احتجم فيه، ولا إثم عليه في الفطر بالحجامة عند الحاجة إليها, حيث لا يمكنه التأخير إلى الليل؛ لأنه في هذه الحالة معذور بعذر المرض, والمريض يجوز له الفطر بنص قوله -تعالى-: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ نسأل الله البصيرة في دينه, والإعانة والتوفيق للعمل بكتابه وسنة نبيه؛ إنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير.
مسألة: وفي معنى الحجامة الفصاد، أي فَصْد العرق والتشريط أي شرط الجلد وسحب الدم الكثير؛ لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في فصد العرق, وفي التشريط وسحب الدم طبعا وشرعا، والفطر بالحجامة فيأخذ حكمه، فبأي وجه أخرج الدم أفطر به, كما يفطر بالاستقاء بأي وجه استَقاء, فالعبرة بخروج الدم عمدا لا بكيفية الإخراج, هذا هو الصواب الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمه الله-, وفي المسألة ثلاثة أقوال للعلماء هذا أحدها: أنه يفطر بالفصد والتشريط وسحب الدم. الثاني: أنه لا يفطر بالفصاد، ولا بالتشريط. الثالث: أنه يفطر بالتشريط دون الفصاد؛ لأن التشريط عندهم كالحجامة.
أما الرعاف وخروج الدم من الدمّل والجرح فلا يفطر الصائم, وكذا أخذ الدم القليل من طرف الإصبع للتحليل لا يؤثر على الصوم, وكذا خروج دم الاستحاضة من المرأة لا يمنع الصوم، بل صومها صحيح مع خروجه؛ لأن النص إنما ورد في دم الحيض والنفاس؛ ولأن دم الاستحاضة لا يمنع الصلاة، ولا الطواف بالبيت فكذا الصيام لا يمنعه دم الاستحاضة .
أما غسل الكلى الذي يتضمن إخراج الدم الفاسد وإدخال دم جديد, فهذا يفطر به لأنه مريض، ولا يستطيع في هذه الحالة الصيام إلا بجهد شديد, والله - تعالى - أباح الفطر للمريض, فيفطر، ويقضي, والحمد لله على ما يسَّر وسهَّل, وقد قال الله - تعالى- بعد أن ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والله الموفق.(1/28)
قامت البينة أثناء النهار برؤية هلال رمضان
29- ومن أحكام الصيام أنه إذا قامت البينة في أثناء النهار برؤية الهلال - هلال رمضان- تلك الليلة وجب إمساك بقية ذلك اليوم على كل من كان أهلا للوجوب, احتراما للزمن, ووجب قضاء ذلك اليوم في أصح أقوال أهل العلم, وسواء كان ذلك قبل الأكل، أو بعده, لورود ذلك صريحا في الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه: أن أسلم أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "صمتم يومكم هذا"؟ قالوا: لا، قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه" .
وكذا لو بلغ صبي، أو أفاق مجنون، أو قدم مسافر مفطرا، أو برئ مريض مفطرا، أو طهرت حائض ونفساء، أو أسلم كافر في أثناء نهار الصيام وجب عليهم إمساك بقية ذلك اليوم احتراما للوقت, ووجب على كل واحد منهم قضاء ذلك اليوم في أصح أقوال أهل العلم, وكذا من نسي صيام يوم من رمضان ولم ينو الصيام من أوله، ثم تذكر في أثناء اليوم, فإنه يمسك بقية يومه، ويقضي, وكذا من لم يعلم بدخول شهر رمضان - لكونه محبوسا - حتى خرج رمضان، أو ذهبت أيام منه, فإنه يقضي الأيام التي فاتته، ولا يأثم لكونه معذورا.
وقيل: لا يجب الإمساك، ولا يجب القضاء, وقيل: يجب الإمساك دون القضاء فلا يجب, فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم وهذا القول الثالث، وهو وجوب الإمساك دون القضاء هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واختيار العلامة ابن القيم -رحمه الله-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنو إلا على رؤيتهم,, بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه، بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان إلا في أثناء الشهر, ففي وجوب قضاء ذلك اليوم نظر, وإن كان يفطر بها؛ لأن قوله: "صومكم يوم تصومون" دليل على أن ذلك لم يكن يوم صومنا؛ ولأن التكليف يتبع العلم، ولا علم، ولا دليل ظاهر, فلا وجوب, وطرد هذا أن الهلاك إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل، أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم, كما لو بلغ صبي، أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة, فقد قيل يمسك، ويقضي, وقيل: لا يجب واحد منهما, وقيل: يجب الإمساك دون القضاء) اهـ.
وقال ابن القيم ( وطريقة ثالثة، وهي أن الواجب تابع للعلم, ووجوب عاشوراء إنما علم من النهار, وحينئذ فلم يكن التبييت ممكنا, فالنية وجبت وقت تحدد الوجوب والعلم به, وإلا كان تكليفا بما لا يطاق، وهو ممتنع, قالوا: وعلى هذا إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار أجزأ صومه بنية مقارنة للعلم بالوجوب, وأصله صوم يوم عاشوراء، وهذه طريق شيخنا، وهي كما نراها أصح الطرق, وأقربها إلى موافقة الشرع وأصوله- إلى قوله- فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه لم يؤمر بالقضاء، ولا يقال: إنه ترك التبييت الواجب, إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت، وهذا في غاية الظهور) اهـ.
والذي يظهر لي في هذه المسألة أن الصواب هو القول الأول، وهو القول بوجوب الإمساك ووجوب القضاء كما دل عليه الحديث, ولما فيه من الاحتياط لبراءة الذمة من هذا الواجب العظيم, والله الموفق لا إله غيره، ولا رب سواه.(1/29)
قضاء رمضان
30- ومن أحكام الصيام أن من أفطر في رمضان بعذر كمرض، أو سفر، أو حيض، أو نفاس جاز له تأخير القضاء إلى شعبان مطلقا ما لم يجئ رمضان, سواء كان لعذر، أو لغير عذر في قول جمهور العلماء، وهو الصواب, لما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان, فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان قال يحيى الشغل من النبي، أو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- .
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يأتي شعبان . ولولا أن ذلك جائز لم تواظب عائشة عليه, لكن يستحب المبادرة بقضائه, فإن ظاهر صنيع عائشة - رضي الله عنها- يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما منعها من الشغل, فيشعر بأن من لم يكن له عذر ينبغي له المبادرة؛ ولأن المبادرة بالقضاء فيه الاحتياط للدين؛ ولأنه أسرع في براءة الذمة.
ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان, فإن أخر بعذر بأن اتصل عجزه ولم يتمكن من الصوم حتى جاء رمضان فلا شيء عليه؛ لأن الله - تعالى - يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ .
ويؤخذ من حرص عائشة على قضاء ما عليها من الصوم في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر.
وإن فرّط حتى جاء رمضان, فإن عليه أن يصومه بعد رمضان الثاني, وليس عليه إطعام لقول الله - تعالى - فيمن أفطر: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وهذا قول جمهور العلماء لكن عليه التوبة والاستغفار، وهو قول بعض الصحابة
وقال بعض العلماء: إذا فرَّط بأن قدر على الصيام ولم يصم حتى جاء رمضان الآخر, فإنه يصوم ما عليه من الأيام بعد رمضان الثاني، ويطعم عن كل يوم مسكينا, وأفتى بذلك بعض الصحابة من باب الاجتهاد والتأديب لهذا المفرط، وهو اجتهاد حسن.
وقال داود الظاهري تجب المبادرة بقضاء ما عليه من الصوم من رمضان من أول يوم العيد من شوال، وهذا القول غير صحيح لمصادمته لحديث عائشة هذا الذي رواه الشيخان, فإن اطلاع النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وتقريرها عليه يدل على عدم الوجوب, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقر على ترك الواجب.
ويجوز قضاء رمضان متتابعا ومتفرقا في قول جمهور العلماء، وهو الصواب لقول الله - تعالى -: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا بأس أن يفرق، وهذا هو الحق كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه يجوز التفريق في قضاء رمضان؛ لأن الله أوجب في القضاء عدة الأيام ولم يشترط التتابع. لكن التتابع حسن.
وقال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر بوجوب التتابع, واستدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من كان عليه صوم رمضان فليسرده، ولا يقطعه .
لكنه حديث لا يصح فلا حجة فيما دل عليه من وجوب التتابع, ولو صح فهو محمول على الاستحباب جمعا بينه وبين إطلاق الآية الكريمة: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وخروجا من الخلاف وشبهه بالأداء؛ ولأن الله - تعالى - لما رخص للمسافر والمريض بالفطر قال بعد ذلك: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والله الموفق .(1/30)
الصيام عن الميت
31- ومن أحكام الصيام أن من مات وعليه صيام واجب من رمضان، أو نذر، أو كفارة, ولم يتمكن من الصيام بأن استمر به المرض حتى مات، أو لم يقدم من سفره حتى مات, فإنه لا يقضى عنه؛ لأنه لم يجب عليه الصوم لعدم قدرته فلم يكن داخلا في قوله - تعالى -: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
أما إذا تمكن من الصيام بأن صحّ من مرضه، أو قدم من سفره, ولم يصم حتى مات فإنه يشرع لوليه أن يصوم عنه, في أصح أقوال أهل العلم وسواء كان صيام رمضان، أو صيام نذر، أو صيام كفارة, لما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليّه .
وهذا عام في المكلفين لقرينة "وعليه صيام" وعام في الصيام, فيشمل صيام الفريضة، ويشمل صيام الكفارة، ويشمل صيام النذر.
وقوله: "صام عنه وليه" خبر بمعنى الأمر تقديره (فليصم عنه وليه)، وهذا الأمر ليس للوجوب عند الجمهور، بل هو للإرشاد والاستحباب؛ لأن الله - تعالى- يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى حتى بالغ بعضهم فادعى الإجماع على ذلك, وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن الأمر للوجوب.
والمراد بالولي: القريب, فقيل: كلّ قريب, وقيل: الوارث خاصة, وقيل: عصبته, والأرجح الأول، وهو أنه كل قريب؛ لأن هذا ظاهر اللفظ، ولا يختص ذلك بالولي على الراجح، بل يجوز أن يصوم عنه أجنبي, لكن الأفضل أن يصوم عنه قريبه؛ لأنه من البر, وذكر الولي في الحديث لأنه الغالب.
وعليه فالولي يستحب له أن يصوم عن الميت، ويصح صومه عنه، ويبرأ به الميت, وإن شاء أطعم عنه عن كل يوم مسكينا, فالولي مخير بين الصيام والإطعام.
وذهب جمهور العلماء- مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم - إلى أنه لا يصام عن الميت مطلقا لا رمضان، ولا نذر، ولا كفارة، وتأولوا حديث عائشة بالإطعام فقالوا: معنى "صام عنه وليه" أطعم عنه وليه، وهذا التأويل غير صحيح لأمرين: أحدهما: أنه لا حاجة إليه, والثاني: أنه لا دليل عليه, قال النووي -رحمه الله-: (ذهب الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت لا نذر، ولا غيره - ثم قال-:، وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه، وهذا تأويل ضعيف، بل باطل, وأي ضرورة إليه, وأي مانع يمنع من العمل بظاهره, مع تظاهر الأحاديث مع عدم المعارض لها) اهـ.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصام عن الميت إلا النذر فقط دون رمضان فيطعم عنه، ولا يصام عنه، وهو قول الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم, قال: فصومي عن أمك" .
وفي لفظ لهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم فدين الله أحق أن يقضى" . وعند مسلم زيادة: فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم, قال: فدين الله أحق أن يقضى .
وحمل هؤلاء العلماء حديث عائشة المطلق من مات وعليه صيام صام عنه وليه على حديث ابن عباس المقيد بصوم النذر, قالوا: فيصام عن الميت النذر خاصة, وأما رمضان فيطعم عنه.
وهذا المسلك الذي سلكه هؤلاء العلماء من حمل المطلق على المقيد مسلك غير صحيح؛ لأنه لا تعارض بين الحديثين حتى يجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر, فإن حديث ابن عباس فيه السؤال عن نوع من أنواع الصيام الواجب، وهو صوم النذر, وحديث عائشة عام في أنواع الصيام الواجب من رمضان، أو نذر، أو كفارة, فلا منافاة بينهما، بل ما دل عليه حديث ابن عباس داخل في عموم ما دل عليه حديث عائشة - رضي الله عنهما - وفي آخر حديث ابن عباس ما يشير إلى العموم الذي دل عليه حديث عائشة وهو قوله: "فدين الله أحق أن يقضى".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد لا يصام عنه إلا النذر حملا للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما, فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له, وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة, وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره: "فدين الله أحق أن يقضى" اهـ.
ومن الأدلة التي استدل بها الجمهور على أنه لا يصام عن الميت مطلقا، بل يطعم عنه, ما رواه النسائي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة .
وأجيب عنه بأن هذا لا يصح رفعه، بل هو موقوف على ابن عباس -رضي الله عنهما- ولو ثبت رفعه أمكن الجمع بينه وبين حديث عائشة بجواز الأمرين الصيام والإطعام.
ومن أدلتهم ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم قالت: لا تصوموا عن موتاكم، ولكن أطعموا عنهم. أخرجه البيهقي وبما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في رجل مات وعليه رمضان قال: يُطعم عنه ثلاثون مسكينا. أخرجه عبد الرزاق وبما روى النسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: لا يصوم أحد عن أحد, قالوا: فلما أفتى ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم- بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه.
وأجيب عن الاستدلال بهذه الآثار بجوابين:
أحدهما: أن هذه الآثار فيها مقال, وأثر عائشة ضعيف جدا, فلا يصلح للحجة.
الثاني: أن الراجح والمعتمد أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رآه, لاحتمال أن يخالف ذلك الاجتهاد, ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنه, وإذا تحققت صحة الحديث لم يُترك المحقق للمظنون كما هو مقرر في الأصول .
قال شارح الطحاوية: (وأما وصول ثواب الصوم, ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليّه وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة - رحمه الله - قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه لحديث ابن عباس المتقدم, والكلام على ذلك معروف في الفروع) اهـ.
وقال النووي - رحمه الله- في شرح صحيح مسلم ما نصُّه : (اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان، أو قضاء، أو نذر، أو غيره, هل يُقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران أشهرهما: لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا, والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويصح صومه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث, لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة, وأما الحديث الوارد: من مات وعليه صيام أطعم عنه وليّه فليس بثابت, ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين, فإن من يقول بالصيام يجوز عنده الإطعام, فثبت أن الصواب المتعين تجويز الصيام، وتجويز الإطعام, والولي مخير بينهما, والمراد بالولي القريب سواء كان عصبة، أو وارثا، أو غيرهما, وقيل المراد الوارث, وقيل العصبة, والصحيح الأول.
ولو صام عنه أجنبي إن كان بإذن الولي صح, وإلا فلا, في الأصح، ولا يجب على الولي الصوم عنه, لكن يستحب) اهـ.
وبهذا يتبين أن الصواب في هذه المسألة أن من مات وعليه صيام نذر، أو كفارة، أو من رمضان, وقد تمكن في حياته من الصيام ولم يصم أنه يشرع لوليه أن يصوم عنه، ويستحب له ذلك، ولا يجب عليه, وإن شاء أطعم عنه, وأن قضاء الصيام عن الميت ليس خاصا بصوم النذر كما قاله بعض أهل العلم، بل هو عام في كل صيام وجب على الميت، وتمكن في حياته من قضائه ولم يصمه لعموم حديث عائشة -رضي الله عنها- المتفق عليه السابق: من مات وعليه صيام صام عنه وليه ويؤيد ذلك ما ورد في مسند الإمام أحمد - رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أتته امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر رمضان, فأقضيه عنها؟ قال: "أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟ قالت: نعم, قال: فدين الله عز وجل أحق أن يقضى" .
والله الموفق, نسأل الله علما نافعا, وعملا صالحا متقبلا, إنه سبحانه نعم المسئول، ونعم المولى، ونعم النصير، ونسأله سبحانه الإعانة على إكمال هذا البحث, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين, والحمد لله رب العالمين.(1/31)