الأعمال الفدائية ( صورها وأحكامها الفقهية )
بحث مقدم لاستكمال الحصول على درجة الماجستير في الفقه وأصوله من قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض
الباحث : سامي بن خالد الحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، نبي الرحمة والملحمة، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير، الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً(1)أما بعد :
فإن الله أنزل على نبيه الوحي الصادق المبين، فقام هذا النبي الأمين بتبليغ هذا الدين استجابة لأمر ربه، كما قال جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنزل إِلَيْكَ مِنْ ربك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يعصمك مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يهدي الْقَوْمَ الكافرين} .(2)
فبلغ البلاغ الواضح السليم، ونصره الله نصراً ظهر به الدين في مشارق الأرض ومغاربها، وصارت عقائد المسلمين مرفوعة شامخة،كل ذلك بفضل الله ثم بجهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم من أئمة الهدى .
وعاشت الأمة المحمدية قروناً من العهد الزاهر إلى أن بدأت الفرقة والأهواء تعصف بها حتى هَدَّت كيانها وأضعفت سلطانها، فأصابها من الذل والوهن ما جعلها غرضاً لسهام أعدائها الذين تداعوا عليها تداعي الأكلة إلى قصعتها .
__________
(1) مقتبس من مقدمة السياسة الشرعية لابن تيمية
(2) المائدة: 67 ](1/1)
ومما ساعد على اتساع الخرق ركون كثير من أبناء هذه الأمة إلى الدنيا، وانغماسهم في ملذاتها، وتركهم الجهاد، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(1).
ومن المعلوم أن الجهاد، ذروة سنام الدين، وسبيل عز المسلمين، فلا غرو أن تحفل نصوص الكتاب والسنة، و أسفار العلماء من هذه الأمة بكثير من أحكامه و تشريعاته0
وفي هذه العصور المتأخرة، ومع تطور أنواع الأسلحة واكتشاف المواد المتفجرة ؛ ظهرت أعمال قتالية جديدة لم تكن - في أغلب صورها- معروفة عند المتقدمين من أهل العلم، وهي ما تسمى بالأعمال الفدائية .
وتتمثل هذه الأعمال في صور كثيرة مختلفة، كأن يملأ المجاهد حقيبته أو سيارته بالمواد المتفجرة أو يلف نفسه بحزام ناسف، مليء بالمواد المتفجرة، ثم يقتحم على العدو مكان تجمع لهم، أو يشاركهم الركوب في وسيلة نقل كبيرة (حافلة ) أو طائرة أو قطار ونحو ذلك، أو يتظاهر بالاستسلام لهم حتى إذا كان في جمع منهم ورأى الفرصة مواتية فجر ما يحمله من المواد المتفجرة بنفسه وبمن حوله، مما يؤدي إلى قتلٍ وجرحٍ وتدمير في أشخاص العدو وآلاته، وحتماً سيكون منفذ العمل من بين القتلى، لأنه غالباً ما يكون الأقرب إلى المادة المتفجرة .(2)
هذا، ومن عظمة هذه الشريعة الخالدة أنه ما من نازلة تنزل، أو مسألة تحدث إلا ولها في شرع الله حكم ودليل، يهدي الله له من شاء من عباده .
__________
(1) رواه أحمد 2/42، وأبو داود في كتاب البيوع (3462) واللفظ له، والطبراني في الكبير 12/432، والبيهقي في شعب الإيمان 4/13، وصححه الألباني بمجموع طرقه كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/42
(2) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:22(1/2)
وفي هذا يقول القرافي(1):"وما من مسألة تعرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى فإن الدين قد كمل . وقد استأثر الله برسوله - صلى الله عليه وسلم -، وانقطع الوحي، ولم يكن ذلك إلا بعد كمال الدين، قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } "(2).
ومن ثم كان هذا البحث الذي أبيّن فيه هذه الأعمال بصورها المختلفة، وأحكامها الفقهية، والاعتبارات والضوابط المتعلقة بها .
أولاً ) التعريف بمشكلة البحث:
مع ظهور هذا النوع من أنواع القتال، لجأت بعض الجماعات في العالم الإسلامي إلى العمل بهذه الوسيلة للنكاية بأعدائها، وتكبيدهم الخسائر البشرية والمادية، وكان مما دفعها إلى ذلك محدودية قدراتها، وقلة إمكاناتها الحربية في مقابل ما يمتلكه الطرف المقابل، فوجدت هذه الجماعات في هذه الأعمال وسيلة فعالة في المقاومة والنكاية بالعدو، ولو كلفها هذا الأمر أن تضحي ببعض أبنائها في تنفيذ هذه الأعمال .
وما أن انتشر مثل هذه الأعمال بين أبناء الإسلام حتى ظهرت الحاجة الملحة لمعرفة الأحكام المتعلقة بها، والاجتهادات المعاصرة بصددها .
لذا عمدت إلى دراسة هذا الموضوع دراسة علمية مؤصلة، تراعي صور هذه الأعمال، وبيان حكمها الشرعي، والاعتبارات والضوابط المتعلقة بتنفيذها .
ثانياً ) التعريف بعنوان البحث:
عنوان هذا البحث ( الأعمال الفدائية، صورها وأحكامها الفقهية )
__________
(1) القرافي: أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي، نسبة إلى القرافة بمصر، أحد فقهاء المالكية، ولد ونشأ بمصر، وله مصنفات جليلة في الفقه والأصول، منها: أنوار البروق في أنواء الفروق، والذخيرة في فقه المالكية، ت:684هـ . ينظر: ذيل تذكرة الحفاظ 1/130، الإكمال 7/109، الأعلام 1/94
(2) أنوار البروق في أنواء الفروق 4/71، والآية في سورة [ المائدة: 3 ](1/3)
وقد عنونت لهذا البحث بلفظ ( الأعمال )، وإن كان معظم الباحثين والكتاب اليوم يطلق على هذه الأعمال ( العمليات )، وسبب هذا الاختيار أن هذا اللفظ ( الأعمال ) هو الأنسب من حيث اللغة .
فإن لفظ العمليات ( جمع عملية ) بهذه الصيغة، لفظ محدث لم أجد له أصلاً في معاجم اللغة المتقدمة، وإن كان معناه قريباً، من حيث إنه مشتق من العمل أي:"المهنة والفعل"(1)
وقد جاء في المعجم الوسيط ( مادة: عمل ):"العملية: جملة أعمال تحدث أثراً خاصاً، يقال عملية جراحية أو حربية أو مائية ( محدثة )"(2)
وفي موسوعة السياسة، كلمة (عملية )"تعبير مستعار من العلوم الفيزيائية للإشارة إلى ظاهرة تفاعلية معينة"(3).
[ ثم عرفوه بأنه: ] جملة الأعمال التي تؤدي إلى إحداث أثر معين في قطاع محدد وذلك بواسطة استخدام الأدوات والآلات أو بصورة ذاتية مستقلة، فيقال العمليات العسكرية، الجراحية ..... إلخ"(4) .
وإذا كان الأمر كذلك فالأنسب استخدام اللفظ الأصيل الذي يحصل به المعنى .
ثم إني قد آثرت استخدام مصطلح ( الفدائية ) تحرياً للموضوعية في البحث، إذ إن بعض الباحثين يسميها ابتداءً العمليات الاستشهادية إشارة إلى جوازها، بينما يسميها آخرون العمليات الانتحارية إيذاناً بمنعها . أما مصطلح ( الفدائية ) فهو لفظ عام يصدق على كل مفاداة بالنفس، مشروعة كانت أو ممنوعة، بحسب ما يتم بيانه لاحقاً .
ثالثاً ) حدود البحث:
__________
(1) لسان العرب مادة (عَمِلَ) 11 /475، ومثله القاموس المحيط (مادة عَمِلَ) 1 /339
(2) المعجم الوسيط مادة (عَمِلَ) ص:628
(3) موسوعة السياسة 4/245
(4) المصدر السابق(1/4)
يتضمن هذا البحث تمهيداً في فقه الجهاد، ومقدمات في نشأة هذه الأعمال من الناحية التاريخية، ودراسة لواقع هذه الأعمال وصورها، ويتبع ذلك دراسة هذه الأعمال دراسة فقهية مقارنة بين أقوال فقهاء المذاهب المتقدمين والفقهاء المعاصرين، من حيث حكمها، واعتبارها المكاني، واعتبار من يتم تنفيذها ضدهم .
رابعاً ) أهمية البحث:
تتجلى أهمية البحث في النقاط التالية:
1)بيان منزلة الجهاد، فهو طريق هذه الأمة إلى العز والتمكين، وهو سبيلها إلى إزالة ما يمنع تبليغ هذا الدين، كما قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (1).
2)يتعلق البحث بمسائل واقعة، يعد بعضها من قبيل النوازل في هذا العصر، وتعظم الحاجة إلى بيان أحكامها وضوابطها .
3)توضيح الآثار العملية الخطيرة المترتبة على الحكم بجواز هذه الأعمال أو تحريمها بالنسبة للمجاهد الذي يبذل روحه في سبيل تنفيذها، سواء كانت آثاراً دنيوية أو أخروية .
4)تقويم وبيان المصالح والمفاسد التي تنتج عن هذه الأعمال، سواء على مستوى الصراع الإقليمي، أو على مستوى الصراع الدولي بين الأمة الإسلامية وأعدائها .
خامساً ) أسباب اختيار البحث:
وقع اختياري على هذا البحث لعدة أسباب:
1)حاجة الأمة الإسلامية - ولا سيما في هذا العصر - إلى دراسة أحكام الجهاد والعلاقات الدولية في الإسلام حال السلم وحال الحرب .
2)الحاجة إلى دراسة فقهية متكاملة لهذا الموضوع الهام .
3)انتشار مثل هذه الأعمال في الآونة الأخيرة، وضرورة بيان حكمها الشرعي، والآثار الدينية والدنيوية المترتبة عليها .
4)الحاجة إلى دراسة ومناقشة كثير من المقالات والفتاوى الصادرة حول هذه المسألة، والتي يحتاج بعضها إلى المنهجية العلمية، بعيداً عن المؤثرات الخارجية .
سادساً) الدراسات السابقة:
__________
(1) الانفال: 39](1/5)
وقفت على بعض الدراسات والكتب المتعلقة بهذا الموضوع . وهذه الدراسات يمكن أن تنقسم إلى قسمين :
أ ) دراسات أفردت هذه المسألة بالبحث . وهي على النحو التالي :
1)كتاب "العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي" : للأستاذ نواف هايل التكروري، من منشورات دار الفكر، دمشق، ط 1، 1997، وتقع في 164صفحة .
وهذه الدراسة هي أفضل ما وقفت عليه حول هذه المسألة، إلا أنه يلحظ عليها ما يلي:
1-حاجتها إلى مزيد من المنهجية العلمية في عرض الأدلة وترتيبها على حسب الأقوال، وإتباعها بأوجه الاستدلال وذكر ما يرد عليها من إيرادات، وما يمكن الإجابة عنه منها.
2-عقد المؤلف مبحثاً لأقوال العلماء المعاصرين في هذه المسألة، وحشد في هذا المبحث جمعاً من فتاوى المجيزين لهذه الأعمال، بينما لم يعرض لأقوال من يرون منع هذه الأعمال مطلقاً .
والقول بالمنع قول معروف عند بعض علماء هذا العصر، وهو يحتاج إلى تحرير وعرض أدلة ومناقشة، أما إغفاله فهو تساهل في الموضوعية العلمية .
3-كان البحث بحاجة إلى دراسة وتأصيل بعض صور الأعمال التي أوردها . منها على سبيل المثال: مسألة قتل المجاهد نفسه إذا وقع بأيدي الأعداء وكان يحمل أسرار المسلمين وخشي عليهم الضرر . حيث اكتفى المؤلف الفاضل بالنقل عن اثنين من الفقهاء المعاصرين وهما الشيخ حسن أيوب، و د . عجيل النشمي، وعلق على المسألة بتعليق موجز، كما في الصفحات (63- 66) من الكتاب في حين أن الموضوع يحتاج إلى أكثر من هذا الإيجاز .
4-لم يشتمل الكتاب على العديد من المسائل الجديرة بالبحث، ومن أبرزها:
أ ) بعض صور الأعمال الفدائية، مثل: أن يقصد قتل العدو فيصيب نفسه خطأً، ومثل: أن يعرض نفسه للهلاك إيثاراً لحياة غيره .
ب ) مراعاة الاعتبار المكاني لتنفيذ هذه الأعمال سواء في دار السلم أو الحرب .
جـ ) الحاجة إلى بيان حكم قيام المرأة بهذه الأعمال الفدائية .(1/6)
2)كتاب "العمليات الاستشهادية وأراء الفقهاء فيها" : تأليف العميد الركن المتقاعد/ محمد سعيد غيبة، من منشورات دار المكتبي، دمشق، ط 1، 1417 هـ، وتقع هذه الرسالة في 78 صفحة.
خطا المؤلف الفاضل خطوات لا بأس بها في هذه الدراسة، إلا أنه يلاحظ عليها ما يلي:
1-إن محتوى الرسالة لا يعبر عن عنوانها الفقهي، فالمؤلف لم يدرس هذا الموضوع دراسة علمية فقهية، بل اكتفى بعرض بعض صور الاستشهاد سردها من خلال بعض أحداث السيرة النبوية، والوقائع التاريخية .
2-لم يخصّ المؤلف بالدراسة آراء الفقهاء وأدلة هذه الآراء ومناقشتها، بل اكتفى بذكر حكم كل صورة على سبيل الإجمال، وكانت أحكامه في الأعم الغالب منقولة من كتاب (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) للدكتور محمد خير هيكل . وقد طفحت هوامش الكتاب بالنقل عن هذا الكتاب .
3-لم يعتن المؤلف ببيان حد الأعمال الفدائية، بل سلك مسلك التعميم فأدرج ضمنها أعمالاً بعيدة عنها، منها على سبيل المثال:
ما أسماه دوريات الاستطلاع ( ص54 )، والاغتيال ( ص56 )، والخطف من رعايا الدول المعادية وأخذهم كرهائن ( ص64 ) .
4-أورد المؤلف في ثنايا استدلاله على هذه الأعمال حوادث عامة من السيرة دون النظر في علاقتها بالموضوع ووجه الاستدلال منها . ومن ذلك حادثة أصحاب الرجيع وقتل زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي كما في الصفحة ( 25 )، وحادثة أبي جندل ومن معه بعد صلح الحديبية كما في الصفحة ( 47) .
3)كتاب "العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها" : تأليف الشيخ : هاني بن عبدالله بن جبير . من منشورات دار الفضيلة الرياض، ط1، 1423هـ - 2002م .
وهذه الدراسة الموجزة جيدة في بابها، ولا سيما في تقسيم الأعمال الفدائية حسب صورها، لكنها اقتصرت على عرض موجز لصور هذه الأعمال، وحكمها في الجملة، مع بعض المقدمات في الجهاد والمصالح والمفاسد، دون دراسة فقهية موسّعة .(1/7)
وقد أفدتُ من هذه الدراسةكثيراً في إعداد خطة البحث وتقسيم الأعمال وحصر صورها .
ب ) دراسات أوردت هذه المسألة ضمناً:
أوردت بعض الدراسات و الكتب بعض جوانب هذه الأعمال والأحكام المتعلقة بها، إلا أنها لم تستوف جوانب المسألة، بل اكتفت بالإشارة إليها في مواضع محدودة دون عمق ولا معالجة لكافة صورها، ومن هذه الدراسات:
1)رسالة "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" ( رسالة دكتوراه عن الجهاد في صدر الإسلام والفقه الإسلامي والعصر الحديث ): د . محمد خير هيكل، من منشورات دار البيارق، بيروت، ط1، 1414هـ ( المجلد الثالث من الصفحة 1399 إلى الصفحة 1409 ) .
2)كتاب "الجهاد والفدائية في الإسلام" : للشيخ حسن أيوب، من منشورات دار الندوة الجديدة بيروت، ط2، 1403هـ ( من الصفحة 157 إلى الصفحة 167 ) .
3)كتاب "مفاهيم سياسية شرعية" : د . محمد أحمد مفتي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1998 ( من الصفحة 136 إلى الصفحة 151 )
4)رسالة "الانتحار حقيقته ودوافعه وطرقه وأحكامه" للباحث: عبد العزيز بن إبراهيم المهنا، رسالة ماجستير بالمعهد العالي للقضاء بالرياص عام 1411هـ .
وجاء متعلق مسألتنا في المبحث الثاني ( دوافع الانتحار )، ضمن مطلبين:
المطلب الثاني مسألة ( هجوم الواحد على صف العدو ) 59- 64
المطلب الثالث ( الانتحار خوف كشف أسرار المسلمين ) 65- 70
وعلاوة على ماسبق من الدراسات، هناك العديد من المقالات والفتاوى المنشورة ضمن كتب الفتاوى وبعض المجلات الدورية .
ومما تقدم يتبين أن هذا الموضوع لا يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والتأصيل المتوازن لصوره وأحكامه الشرعية .
سابعاً) أهداف البحث:
يتلخص الهدف من هذا البحث في الأمور التالية:
1)جمع أدلة هذا الموضوع، والنظر فيها من حيث ثبوتها ودلالتها .
2)استقراء صور الأعمال القتالية التي يمكن أن تدخل ضمن الأعمال الفدائية، وإيضاح كل صورة .(1/8)
3)دراسة آراء الفقهاء قديماً وحديثاً في كل صورة، واستنباط القول الراجح فيها .
4)دراسة الجوانب المتعلقة بهذه الأعمال من حيث شروط جوازها، ومحل تنفيذها، ومن يجوز تنفيذها ضده .
ثامناً) أسئلة البحث:
إن من أهم الأسئلة المطروحة للبحث في هذه الدراسة ما يلي:
1)ما صور الأعمال الفدائية ؟
2)ماحكم هذه الأعمال شرعاً ؟
3)إذا قلنا بالجواز، فما هي شروط تنفيذ هذه الأعمال ؟
4)ضد من يجوز تنفيذها ؟
5)أين يجوز تنفيذها ؟
تاسعاً) منهج البحث:
نظراً لكون البحث مبنياً على التتبع والاستقراء لصور هذه المسائل، وآراء الفقهاء فيها، ثم استنباط الحكم الشرعي لكل صورة فقد اتبعت في بحثي هذا المنهج الاستقرائي الاستنباطي المقترن بالتحليل والموازنة .
عاشراً) إجراءات البحث:
أما الطريقة التي سلكتها في قضايا البحث فكانت على النحو التالي:
1)القيام بدراسة تاريخية موجزة حول هذه الأعمال من واقع الكتب السياسية والدراسات التحليلية التي اهتمت بهذا الجانب .
2)تقسيم هذه الأعمال إلى صور متعددة، بحيث يشمل هذا التقسيم جميع أو أغلب ما يمكن أن يدخل ضمن هذه الأعمال .
3)العمل على تخريج كل صورة التخريج الفقهي المناسب في ضوء الأدلة، ومن خلال كلام أهل العلم قديماً أو حديثاً .
4)إيراد أدلة كل قول مع مناقشتها، ومن ثم اختيار القول الراجح في كل صورة .
5)أما بالنسبة لتخريج الأحاديث فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بذلك، وإن كان في غيرهما فإني أستعين بكلام علماء الحديث للوقوف على صحة الحديث، فإن لم أجد فأقوم بتخريج الحديث والحكم عليه بدراسة السند .
6)ضبط الآيات القرآنية بالشكل، وكذا الكلمات الغريبة والمشكلة .
7)التعريف بالأعلام غير المشهورين فقط 0
8)تعريف المصطلحات الغريبة، وشرح الألفاظ المشكلة 0
حادي عشر ) تصور عام لأبواب البحث وفصوله:
قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، كما يلي:
مقدمة …
تمهيد(1/9)
( مدخل إلى فقه الجهاد )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الجهاد وأنواعه وفضله
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: أنواع الجهاد
المطلب الثالث: فضل الجهاد
المبحث الثاني: حكم الجهاد وشروطه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الجهاد
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصل في حكم الجهاد
المسألة الثانية: الحالات التي يجب فيها الجهاد وجوباً عينياً
المطلب الثاني: شروط الجهاد
وفيه ثماني مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط الإسلام في الجهاد
المسألة الثانية: اشتراط العقل في الجهاد
المسألة الثالثة: اشتراط البلوغ في الجهاد
المسألة الرابعة: اشتراط الذكورة في الجهاد
المسألة الخامسة: اشتراط الحرية في الجهاد
المسألة السادسة: اشتراط الاستطاعة في الجهاد
المسألة السابعة: اشتراط إذن الوالدين في الجهاد
المسألة الثامنة: اشتراط إذن الإمام في الجهاد
الأول الفصل
( أحكام الأعمال الفدائية باعتبار صورها )
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: ماهية الأعمال الفدائية وتاريخها وواقعها المعاصر
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الأعمال الفدائية لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: نشأة الأعمال الفدائية وتطورها
المطلب الثالث: واقع الأعمال الفدائية المعاصر
المطلب الرابع: أثر الأعمال الفدائية في النكاية بالأعداء
المبحث الثاني: الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاقتحام المظنون فيه الهلاك
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة الاقتحام المظنون فيه الهلاك
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للاقتحام المظنون فيه الهلاك
المطلب الثاني: المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للمخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
المبحث الثالث: الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده
وفيه أربعة مطالب:(1/10)
المطلب الأول: قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
المطلب الثاني: قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
المطلب الثالث: قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
المطلب الرابع: تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لتفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
المبحث الرابع: دور المرأة في الأعمال الفدائية وحكم قيامها بها
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: دور المرأة في الأعمال الفدائية من خلال الوقائع المعاصرة
المطلب الثاني: حكم قيام المرأة بالأعمال الفدائية وضوابطه
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: حكم الجهاد بالنسبة للمرأة
المسألة الثانية: النظر في اعتبار المحرم للمرأة المجاهدة
المسألة الثالثة: النظر في اعتبار الحجاب للمرأة المجاهدة
المسألة الرابعة: الضوابط الشرعية لقيام المرأة بالأعمال الفدائية
الثاني الفصل
(أحكام الأعمال الفدائية باعتبار من يجوز تنفيذها ضده )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أحكام قتل الكفار
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أنواع الكفار عند الفقهاء
المطلب الثاني: العلة في قتل الكفار
المطلب الثالث: من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار
المطلب الرابع: الحالات التي يجوز فيها قتل من لا يجوز قتله أصلاً من الكفار(1/11)
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الكفار
الثالث الفصل
( أحكام الأعمال الفدائية باعتبار محلها )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الدار ونشأتها وأنواعها في الشريعة الإسلامية
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الدار لغة واصطلاحاً
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف الدار في اللغة
المسألة الثانية: تعريف الدار في الاصطلاح
المطلب الثاني: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية وتطوره
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية
المسألة الثانية: المعيار المعتبر في التقسيم
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء في تقسيم الدار
المطلب الثالث: أنواع الدور في الشريعة الإسلامية
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: دار الحرب
المسألة الثانية: دار العهد
المسألة الثالثة: دار الإسلام
المسألة الرابعة: دار البغي
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الدور
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الحرب
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار العهد
المطلب الثالث: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الإسلام
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تنفيذ الأعمال الفدائية في جهاد الدفع
المسألة الثانية: قيام الفئات الخارجة عن سلطة ولي الأمر بالأعمال الفدائية
المطلب الرابع: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار البغي
الخاتمة بأهم نتائج البحث…
الفهارس…
ثاني عشر) شكر وعرفان :
في الختام .. أحمد الله تعالى وأشكره وهو أهل الحمد، وأهل الثناء والمجد، على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، والتي من أعظمها بعد نعمة الإسلام أن سلك بي طريق العلم الشرعي، وأعانني على إتمام هذا البحث .
وأثنّي بالشكر لوالديّ الكريمين الذين كان لهما الفضل بعد الله في تربيتي والإحسان إلي، أسأل الله تعالى أن يجزيهما عني خيراً وأن يرحمهما كما ربياني صغيراً .(1/12)
كما أتقدم بالشكر والعرفان لفضيلة شيخي المشرف على الرسالة الأستاذ الدكتور/ حسن عبد الغني أبو غدة، والذي كان يفيدني دائماً بتوجيهاته العميقة وتصويباته الدقيقة، فجزاه الله عني خير ما جزى شيخاً عن تلميذه .
والشكر موصول لفضيلة المناقشين الكريمين :
1-فضيلة الدكتور/ عبد الرحيم بن صالح يعقوب
2-فضيلة الدكتور/ محمد بن عبد الله الشمراني
على تفضلهما بمناقشة الرسالة، أسأل الله أن يبارك في توجيهاتهما، وأن يجزيهما عني خيراً على نصحهما وتسديدهما .
كما أشكر جامعة الملك سعود ممثلة في قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية على أن فتحت لي أبوابها وأتاحت لي الفرصة لمواصلة الدراسات العليا بين أكنافها .
ولا يفوتني أن أشكر كل من أعانني على إتمام هذا البحث من الزملاء والأهل، وعلى رأسهم زوجتي أم خالد التي كانت خير معين لي في البحث والطباعة وتوفير الأجواء المناسبة .
وأخيراً .. لقد كنت ولا زلت أتوسل إلى الله كثيراً في دعائي وصلاتي أن يهديني في هذا البحث لما اختلف فيه من الحق، وأن يعينني على إتمامه وأن ينفع به من شاء من عباده، مع علمي بضعف حالي أمام هذا الموضوع الهام والذي يعدّ نازلة من نوازل هذا العصر، ولكن حسبي أني بذلت جهدي ما استطعت في الإسهام في دراسة الموضوع ، فما كان فيه من صواب فذاك فضل الله الكريم المنان ، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي الخاطئة ومن الشيطان .
أسأل الله أن يغفر لي ذنبي وخطئي وعمدي وجدي وهزلي وكل ذلك عندي، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الباحث
سامي بن خالد الحمود(1/13)
======================= بداية البحث =============
الْتَمْهِيْدْ
( مَدْ خَل إِلَى فِقْهِ الجِهَادْ )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الجهاد وأنواعه وفضله
المبحث الثاني: حكم الجهاد وشروطه
…
المبحث الأول: تعريف الجهاد وأنواعه وفضله
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: أنواع الجهاد
المطلب الثالث: فضل الجهاد(/)
المبحث الأول: تعريف الجهاد وأنواعه وفضله
المطلب الأول: تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً
الجهاد في اللغة:
الجهاد مصدر للفعل الرباعي (جاهد)، يقال: جَاهَدَ يُجَاهِدُ جِهَادَاً ومُجَاهَدَةً .
وأصل هذه الكلمة المشقة، كما في معجم مقاييس اللغة:"الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثم يحمل على ما يقاربه"(1).
وقد جاء لمادة (جَهَدَ) في اللغة عدة معان، منها: المشقة، والطاقة، والمبالغة واستفراغ الوسع، والطلب، والقتال .
ففي لسان العرب:"الجَهْد و الجُهْد: الطاقة . تقول: اجهد جهدك، وقيل: الجَهْد المشقة، والجُهْد الطاقة ... وجَاهَدَ العدوَّ مجاهدةً وجهاداً قاتله، وجاهد في سبيل الله ... والجهاد المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء"(2).
وقال في المصباح المنير:"جَهَد في الأمر جَهداً، من باب نفع، إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب"(3).
وفي القاموس المحيط:"وبالكسر [ أي الجِهاد] القتال مع العدو كالمجاهدة"(4).
ويمكن أن نستنتج من هذه النقول ما يلي:
1-الجهاد في اللغة لفظ عام يراد به استفراغ الوسع وبذل الطاقة وتحمل المشقة لبلوغ غاية معينة، سواء كان جهاداً بالمقاتلة، أو بالمجادلة، أو ببذل النفس أو المال، أوغير ذلك .
2-يلاحظ أن بناء هذه الكلمة من الفعل الرباعي (جاهد) يدل على وجود نوع من المفاعلة والمدافعة بين طرفين، وهذا هو أحد أكثر استعمالات هذه الصيغة، ومعناه"التشارك بين اثنين فأكثر، وهو أن يفعل أحدهما بصاحبه فعلاً فيقابله الآخر بمثله"(5).
الجهاد في الاصطلاح:
تعددت عبارات الفقهاء في تعريف الجهاد، وأذكر بعضاً منها فيما يلي:
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 1/486 مادة (جَهَدَ)
(2) لسان العرب 3 / 133، 135 مادة (جَهَدَ)
(3) المصباح المنير 1 / 112 مادة (جَهَدَ)
(4) القاموس المحيط 1 / 351 مادة (جَهَدَ)
(5) شذا العرف في فن الصرف ص:46(1/14)
تعريف الحنفية: هو:"بذل الوسع في القتال في سبيل الله مباشرة، أو معاونة بمال، أو رأي، أو تكثير سواد، أو غير ذلك"(1).
تعريف المالكية: هو:"قتال مسلم كافراً غير ذي عهد، لإعلاء كلمة الله، أو حضوره له، أو دخول أرضه"(2).
تعريف الشافعية: هو:"القتال في سبيل الله"(3).
تعريف الحنابلة : هو:"قتال الكفار خاصة "(4).
التعريف المختار: بالنظر في التعريفات السابقة يلاحظ ما يلي:
- أما تعريف الحنفية ففيه إسهاب في ذكر بعض ما يدخل في الجهاد، وهذا ليس بمستحسن في الحدود .
- وأما تعريفا الشافعية والحنابلة فيلاحظ عليهما القصور في الدلالة، والاختصار الشديد .
- وأما تعريف المالكية فهو في نظري أقرب هذه التعريفات، لكونه يرتكز على بيان ماهية الجهاد، إلا أنه يلاحظ على آخره تعداد بعض حالات الجهاد التي تدخل في عموم القتال .
وقد اعْتَمَدَتْ الموسوعة الفقهية الكويتية تعريف المالكية - بعد تنقيحه وإضافة مايلزم -، حيث عرّفت الجهاد بأنه:
"قتال مسلم كافراً غير ذي عهد، بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاءً لكلمة الله"(5).
وهذا التعريف في نظري هو أقرب هذه التعريفات في الدلالة على الجهاد اصطلاحاً، لوضوحه، واختصاره، وخلوه من التكرار والحشو، واشتماله على عدة قيود صحيحة للجهاد الشرعي، كاشتراط الإسلام، وكون الكافر غير ذي عهد، وكونه بلغته الدعوة وأبى، وكون الجهاد خالصاً لوجه الله .
وبالنظر في هذه التعريفات الاصطلاحية للجهاد على اختلاف عباراتها نستنتج ما يلي:
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 4 / 121، وانظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/632
(2) مواهب الجليل 3/347، وانظر: حاشية العدوي 2/3
(3) حاشية البجيرمي على الخطيب 4/250، وانظر: أسنى المطالب 4/174
(4) كشاف القناع 3 / 33، وانظر: شرح منتهى الإرادات (دقائق أولي النهى لشرح المنتهى) 1/617
(5) الموسوعة الفقهية الكويتية 16/124(1/15)
1-أن هذه التعريفات اتفقت على تعريف الجهاد بمعنى خاص من معاني الجهاد في اللغة، وهو القتال .
2-أن مراد الفقهاء بالقتال عموم القتال، سواء كان بطريق مباشر أو غير مباشر، فيدخل في القتال كل ما يسهم في تحقيقه من وسائل كبذل المال، وتحصيل العتاد، والمشاركة بالرأي، وإعداد الخطط، وغير ذلك .
3-بالنظر إلى لفظ الجهاد الوارد في الأدلة الشرعية، واستعمال الفقهاء وتبويبهم يتضح أن العرف الشرعي -في الغالب- نقل العموم اللغوي للفظ الجهاد، وحصره في معنى خاص وهو القتال، بحيث أن"الجهاد إذا أطلق لا يقع إلا على مجاهدة الكفار بالسيف"(1).
ولكن هل هذا النقل نقل تام دائم، بحيث أصبح المعنى اللغوي العام للجهاد مهجوراً في الاستعمال الشرعي؟
الجواب: لا، وهذا ظاهر باستقراء النصوص الشرعية التي وردت في الجهاد، فقد جاء في بعضها ما يراد به الجهاد العام .
وعلى هذا فإذا أطلق الجهاد في النصوص الشرعية فإنما يراد به القتال خاصة، إلا بوجود قرينة تدل على أن المراد به الجهاد بالمعنى العام كسياق النص، أو نزول الآية في مكة حيث نُهِي فيها عن القتال، ونحو ذلك، كما سيأتي ذكره في أنواع الجهاد .
المطلب الثاني: أنواع الجهاد
لما كان لفظ الجهاد يدل على اشتراك طرفين أو أكثر في المجاهدة ؛ جاء في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة أنواع من الجهاد باعتبار الطرف الآخر المجاهَد .
وعلى سبيل الإجمال فإن للجهاد في الاصطلاح الشرعي معنيين، معنىً خاص، وآخر عام .
أولاً ) الجهاد بالمعنى الخاص:
ويراد به: القتال في سبيل الله كما تقدم في التعريف الاصطلاحي، حيث نص العلماء على أن الجهاد إذا أطلق لا يقع إلا على مجاهدة الكفار بالسيف .(2)
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل 4/536
(2) التاج والإكليل لمختصر خليل 4/536، وانظر:… درر الحكام شرح غرر الأحكام 1/281(1/16)
وهذا المعنى هو المراد عند الإطلاق في نصوص الكتاب والسنة، وفي عبارات الفقهاء وتبويبهم لمسائل الجهاد، وهو مقصودنا في هذا البحث .
وقد تضمن هذا المعنى العديدُ من آيات الجهاد التي نزلت بالمدينة، ومن ذلك:
1)قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) } (1)
2)قوله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } (2)
3)قوله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) } (3)
وأما الأحاديث النبوية فقد جاء في هذا المعنى الكثير من الأحاديث، أذكر منها ما يلي:
1)عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله . فسكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني .(4)
__________
(1) الصف: 10-11]
(2) التوبة: 41]
(3) التوبة: 18]
(4) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (5625)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (85)(1/17)
2)عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد"(1).
3)عن أبي أمامة(2) - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة . قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى"(3).
ثانياً ) الجهاد بالمعنى العام:
الجهاد بالمعنى العام مفهوم واسع يقرب من المدلول اللغوي، وهو يشتمل على أنواع كثيرة من الطاعات"فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله"(4).
وقد جاء هذا المعنى في بعض الآيات المكية التي نزلت قبل الإذن بالقتال، ومنها:
1)قوله تعالى في سورة الفرقان -وهي سورة مكية-: { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) } (5)
……قال الطبري:"جاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعاً وكرهاً، وبنحو الذي قلنا في قوله (وجاهدهم به) قال أهل التأويل ... وقال آخرون ... الإسلام"(6).
__________
(1) رواه أحمد 5/231، وابن ماجه في كتاب الفتن برقم (3973)، والترمذي في كتاب الإيمان برقم (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح .
(2) أبو أمامة الباهلي (صحابي): صُدَيّ -بالتصغير- بن عجلان بن الحارث، غلبت عليه كنيته، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزيل حمص، روى علماً كثيراً، ت:86هـ، وقيل: 81هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/736، سير أعلام النبلاء 3/359، الإصابة في تمييز الصحابة 3/420
(3) رواه أبو داود كتاب الجهاد (2486)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 2/92
(4) التاج والإكليل لمختصر خليل 4/536، ينظر في أنواع الجهاد أيضاً: الفروع 6/189، أحكام القرآن للجصاص 3/174
(5) الفرقان: 52]
(6) تفسير الطبري 19 / 23(1/18)
……وقال ابن كثير:"وجاهدهم به يعني بالقرآن، قاله ابن عباس"(1).
وجه الاستدلال من الآية: إن التعبير بالجهاد بالقرآن من قبيل الجهاد العام الذي كان بمكة، خلافاً للجهاد بالسنان الذي شرع بالمدينة .
2)قوله تعالى: { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) } (2)
…قال البغوي(3):"ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه له ثوابه، والجهاد هو الصبر على الشدة ويكون ذلك في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس"(4).
وقال القرطبي:"أي ومن جاهد في الدين وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات"(5).
وقال البيضاوي(6):"ومن جاهد نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات فإنما يجاهد لنفسه"(7).
3)قوله تعالى: { والذين جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } (8)
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 322
(2) العنكبوت:6]
(3) البغوي: أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء الشافعي، الإمام الحافظ الفقيه المجتهد، يلقب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيداً إماماً عالماً علامة زاهداً، له مؤلفات نافعة منها: تفسيره المسمى معالم التنزيل، وشرح السنة، والمصابيح، وغيرها، ت: 516هـ . ينظر: تذكرة الحفاظ 4/1257، سير أعلام النبلاء 19/439، الأعلام 2/259
(4) تفسير البغوي 1/37
(5) تفسير القرطبي 13/327
(6) البيضاوي: أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، العلامة القاضي المفسر، ولي القضاء في شيراز ثم انتقل إلى تبريز، من مؤلفاته: تفسيره أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول، ت:685هـ ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 8/157، طبقات الشافعية 2/172، الأعلام 4/110
(7) تفسير البيضاوي 4/308
(8) العنكبوت: 69](1/19)
قال القرطبي:"قال السدي(1) وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال . قال ابن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته"(2).
وفي تفسير أبي السعود:"(والذين جاهدوا فينا) أي في شأننا ولوجهنا خالصاً، أطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة"(3).
وجه الاستدلال من الآيتين: سياق الآيتين في سورة العنكبوت وهي سورة مكية(4) يدل على أن المراد بإطلاق الجهاد في هذه الآيات هو الجهاد بالمعنى العام لا بالمعنى الخاص الاصطلاحي، إذ لم يكن بمكة حينئذ جهاد بمعنى القتال، وإنما المراد بالجهاد عموم جهاد النفس على طاعة الله تعالى .
وأما الأحاديث النبوية المتضمنة للجهاد بالمعنى العام، فمنها:
__________
(1) السُّدّي: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة أبو محمد الحجازي ثم الكوفي الأعور السُّدي أحد موالي قريش، الإمام المفسر، ويعرف بالسُّدي الكبير، ت:127هـ، أما السُّدي الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي أحد الضعفاء المتروكين . ينظر: تهذيب الكمال 3/132، تذكرة الحفاظ 1/159، سير أعلام النبلاء 5/264
(2) تفسير القرطبي 13/364
(3) تفسير أبي السعود 7 / 48
(4) الذي عليه جمهور المفسرين وقرره المحققون في علوم القرآن أن سورة العنكبوت مكية الأصل كما قرر ذلك غير واحد، منهم الطبري في تفسيره 20/ 127، وابن كثير في تفسيره 3 / 405، والسيوطي في الإتقان في علوم القرآن1/39، والزركشي في البرهان 1/188 وغيرهم .
وقد رجح عدد من المحققين استثناء الآيات الإحدى عشرة الأولى وأنها مدنية . منهم الطبري في تفسيره 20 /133، والزرقاني في مناهل العرفان 1/139، و السيوطي في الإتقان 1/51(1/20)
1)عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل". وفي بعض الروايات"من جاهد نفسه وهواه".(1)
2)وعن فضالة بن عبيد(2) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"(3).
وجه الاستدلال من الحديثين:
قلت: إطلاق الجهاد على جهاد النفس من باب الجهاد العام، بل إن الحديث الأول نص على أن جهاد النفس أفضل الجهاد، وذلك-والله أعلم- لأنه هو أصل الجهاد، فإنه ما من جهاد ظاهر إلا وله أصل باطن استدعى انبعاث همة المكلف إلى الجهاد وصبره على القيام به، ولولا جهاد النفس الباطن ما انبعثت النفس إلى الجهاد الظاهر أياً كان نوعه .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير 18/309، وابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/600، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1192)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/478
(2) فضالة بن عبيد (صحابي): أبو محمد فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي، القاضي الفقيه، من أهل بيعة الرضوان، ولي الغزو لمعاوية، ثم ولي له قضاء دمشق وكان ينوب عن معاوية في الإمرة إذا غاب، ت:53هـ، وقيل:59هـ والأول أصح . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1262، سير أعلام النبلاء 3/113، الإصابة في تمييز الصحابة 5/371
(3) رواه أحمد 6/20، وابن حبان 10/484، والحاكم 1/54 وصححه، والبزار في المسند 9/206، والبيهقي في شعب الإيمان 7/499، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/89(1/21)
ونقل ابن مفلح(1)عن ابن عقيل الحنبلي(2)قوله:"لو لم يكن مقاساة المكلف إلا لنفسه لكفاه، إلى أن قال: فكفى بك شغلاً أن تصح وتسلم، وتداوي بعضك ببعض، فذلك هو الجهاد الأكبر، لأنه مغالبة المحبوبات، لأنك إذا تأملت ما يكابد المعاني، لهذه الطباع المتغالبة وجدته القتل في المعنى"(3).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال:"لا، لَكُنَّ أفضلُ الجهاد حج مبرور"(4).
وجه الاستدلال: هذا الحديث فيه دلالتان:
الأولى: أنه قد استقر في عرف الصحابة - رضي الله عنهم - أن المراد بالجهاد عند الإطلاق القتال في سبيل الله، وهو المعنى الخاص الذي تقدم بيانه .
الأخرى: أن لفظ الجهاد قد يطلق على بعض الطاعات من باب الجهاد العام، كما سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا الحجَ جهاداً .
قال ابن حجر:"وسماه جهاداً لما فيه من مجاهدة النفس"(5).
__________
(1) ابن مفلح: أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي، أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، نشأ في بيت المقدس وتوفي بصالحية دمشق، من تصانيفه: الفروع ، الآداب الشرعية، المقنع، وغيرها، ت:763هـ . ينظر: الأعلام 7/107، المقصد الأرشد 2/517، كشف الظنون 2/1256
(2) ابن عقيل: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبدالله البغدادي الحنبلي، الإمام العلامة البحر المتكلم شيخ الحنابلة صاحب التصانيف، من مؤلفاته: الفنون في أكثر من أربعمائة مجلد، والواضح في أصول الفقه، ت:513هـ ينظر: سير أعلام النبلاء 19/443، المقصد الأرشد 2/245، لسان الميزان 4/243
(3) الفروع 1/532
(4) رواه البخاري في كتاب الحج برقم ( 1448 )
3)قال ابن حجر في فتح الباري 3/382: اختلف في ضبط (لَكُنَّ) فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة .اهـ
(5) فتح الباري 3/382(1/22)
وهكذا، يتضح من هذا المطلب أن للجهاد معنيين: عام وخاص، ولكل معنى أنواع فرعية تندرج تحته . والمعنى الذي هو موضوعنا في هذا البحث هو الجهاد بالمعنى الخاص .
المطلب الثالث: فضل الجهاد
الجهاد في سبيل الله من أعظم شعائر الدين العملية، وما ذلك إلا للنصوص المتكاثرة المتواترة التي نبهت على فضله وعظم شأنه، علاوة على ما يحققه الجهاد من المصالح الظاهرة من إقامة الدين كله لله، ونشر الدعوة المباركة في المعمورة .
1-وقد أخبر الله تعالى بالعقد الذي عقده مع المؤمنين المجاهدين، ووعدهم بالفوز العظيم إذا هم التزموا بهذا العقد، وقدّموا المثمن وهو أرواحهم التي يبذلونها رخيصة في سبيله وابتغاء مرضاته . قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) } (1).
فلما سمعت النفوس المؤمنة هذا النداء الكريم شمرت عن سواعدها، وقدّمت أرواحها في ساحات الجهاد، ولسان حالها يقول: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل .
2-وأخبر الله بمحبته للمجاهدين في سبيله جل وعلا، فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) } (2).
__________
(1) التوبة: 111]
(2) الصف:4](1/23)
3-وشبه الله الجهاد بالتجارة الرابحة التي يجني العبد منها الثمرات العظيمة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } (1)
والآيات في فضل الجهاد وما أعد الله لأهله من النعيم المقيم كثيرة معلومة .
أما الأحاديث النبوية فقد ورد فضل الجهاد في أحاديث كثيرة، منها:
1)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل"(2).
2)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه . قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى .(3)
__________
(1) الصف: 10- 13]
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (36)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1876)
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2633)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1878) واللفظ له(1/24)
3)عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله . فسكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني .(1)
4)عن سهل بن سعد(2) - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها"(3).
5)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق"(4).
6)عن أبي عَبْس عبد الرحمن بن جبر(5) - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار"(6).
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 25 من هذا البحث
(2) سهل بن سعد (صحابي): أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد الخزرجي الأنصاري الساعدي، الإمام الفاضل المعمَّر، من مشاهير الصحابة، يقال كان اسمه حزناً فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة وكان من أبناء المئة، ت:91هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/664، سير أعلام النبلاء 3/422، الإصابة في تمييز الصحابة 3/200
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2641)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1881)
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1910)
(5) عبد الرحمن بن جبر (صحابي): أبو عبْس عبد الرحمن بن جبر بن عمرو بن زيد الأنصاري، غلبت عليه كنيته شهد بدراً وكانت سنه يومها ثمانياً وأربعين سنة أو نحوها، وكان فيمن قَتل كعب بن الأشرف، ت: 34هـ وهو ابن سبعين سنة . ينظر: الثقات 3/254، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/827، الإصابة في تمييز الصحابة 7/266
(6) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2656)(1/25)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة .
وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر"(1).
وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة(2): أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم، وأهل الجهاد، فالعلماء دلّوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرسل .(3)
المبحث الثاني: حكم الجهاد وشروطه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الجهاد
المطلب الثاني: شروط الجهاد
المبحث الثاني: حكم الجهاد وشروطه
المطلب الأول: حكم الجهاد
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصل في حكم الجهاد
المسألة الثانية: الحالات التي يجب فيها الجهاد وجوباً عينياً
المسألة الأولى: الأصل في حكم الجهاد
__________
(1) السياسة الشرعية ص:162
(2) إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: أبو سليمان الأموي مولى آل عثمان المدني، أدرك معاوية، وقد تكلم الأئمة في روايته، فقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني والبرقاني: متروك الحديث، وقال النسائي في موضع آخر: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه، وقال ابن عدي: لا يتابع على أسانيده ولا على متونه وهو بين الأمر في الضعفاء، ت:144هـ . ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال 1/326، تهذيب التهذيب 1/210، ميزان الاعتدال 1/344
(3) المجموع شرح المهذب 1/44(1/26)
يقسم العلماء الجهاد إلى قسمين: جهاد طلب، وجهاد دفع . فجهاد الطلب: ابتداء قتال الكفار في بلادهم . وجهاد الدفع: قتال الكفار إذا دخلوا بلاد الإسلام . (1)
والكلام على الأصل في حكم الجهاد هنا إنما يراد به جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فهو حالة استثنائية فرضتها ظروف وأحوال طارئة، كما سيأتي بيانه في المسألة الثانية .
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن جهاد الطلب فرض كفاية على الأمة .(2)
بل حكى ابن رشد في بداية المجتهد(3)إجماع العلماء على أنه فرض كفاية، إلا عبد الله بن الحسن(4)فإنه قال إنه تطوع .(5)
وقد نُقِل في هذه المسألة قولان ضعيفان:
__________
(1) رد المحتار 4 / 127، تبيين الحقائق 3/241، شرح الخرشي 3/110، حاشية العدوي 2/4، مغني المحتاج 6 / 22، أسنى المطالب 4/178، المغني 9/171، الانصاف 4/117، المحلى 5/341
(2) البحر الرائق 3/241، أحكام القرآن للجصاص 3/167، شرح الخرشي 3/108، مغني المحتاج 6/8، كشاف القناع 3/ 33، المحلى 5/340
(3) ابن رشد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف، برع في الفقه والفلسفة وعني بكلام الفلاسفة وترجمة للعربية، وصنف كتباً منها: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، التحصيل، فلسفة ابن رشد، وغيرها، ت:595، ويلقب بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جده محمد بن أحمد المتوفي سنة 520هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 21/307، شذارات الذهب 4/320، الأعلام 5/318
(4) عبد الله بن الحسن: أبو محمد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، أحد العلماء العباد، يروى عنه مالك وجماعة، كان له شرف وعارضة وهيبة ولسان شديد، أدرك دولة بني العباس، ت:145هـ في حبس أبي جعفر وهو ابن خمس وسبعين سنة . ينظر: الطبقات الكبرى 1/250، تاريخ بغداد 9/431، تهذيب الكمال 14/414
(5) بداية المجتهد 1/278(1/27)
أحدهما: أن الجهاد فرض عين، وهو مروي عن سعيد بن المسيّب(1) .(2)
والآخر: أنه مستحب وهو منقول عن بعض العلماء، كعبد الله بن الحسن، وابن شبرمة(3) وسفيان الثوري(4)، واختلفت فيه الرواية عن ابن عمر . (5)
من الأدلة على أن الجهاد فرض كفاية:
وقد دل على فرضية الجهاد أدلة كثيرة، نذكر بعضاً منها، ثم نتبعها ببعض الأدلة الدالة على أن هذه الفرضية إنما هي على الكفاية لا على التعيين .
أولاً ) من الأدلة على فرضية الجهاد :
__________
(1) سعيد بن المسيّب: أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي، الإمام العلم، عالم أهل المدينة أجل التابعين، كان واسع العلم وافر الحرمة متين الديانة قوالاً بالحق فقيه النفس، ت:94هـ . ينظر: تذكرة الحفاظ 1/54، سير أعلام النبلاء 4/217، طبقات الحفاظ 1/25
(2) نقله عنه القرطبي في تفسيره عن الماوردي 3/38، وابن الهمام في فتح القدير 5/439، وابن قدامة في المغني 9/162
(3) ابن شبرمة: عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن حسان الضبي، الإمام العلامة فقيه العراق قاضي الكوفة، عداده في التابعين، ت:144هـ . ينظر: الطبقات الكبرى 6/350، تهذيب الكمال 15/76، سير أعلام النبلاء 6/347
(4) سفيان الثوري: أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، شيخ الإسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه المجتهد مصنف كتاب الجامع، سماه غير واحد من العلماء أمير المؤمنين في الحديث، ت:161هـ ينظر: الطبقات الكبرى 6/371، تهذيب الكمال 11/154، سير أعلام النبلاء 7/229
(5) فتح القدير 5/437، بداية المجتهد 1/278، تفسير القرطبي 3/38، أحكام القرآن للجصاص 3/166 ، أحكام القرآن لابن العربي 1/146(1/28)
1)قول الله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } (1)
وجه الاستدلال: أن التعبير بلفظ الكتابة أحد صيغ الفرض والوجوب .
قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير:" { كتب عليكم } مأخوذ من كتب الشيء إذا حتمه وألزم به ... وقوله تعالى { كتب عليكم القتال } كل ذلك نص في الوجوب"(2).
2)الآيات الآمرة بجهاد الكفار وقتالهم، ومنها:
أ- قوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِن اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) } (3).
ب- وقوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } (4).
جـ- وقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (5).
وجه الاستدلال من الآيات: التعبير بالأمر في الآيات نص في الوجوب، لأن الأصل في الأوامر الوجوب والفرضية .
__________
(1) البقرة: 216]
(2) شرح الكوكب المنير ص:111
(3) الانفال: 39]
(4) التوبة: 29]
(5) التوبة: 5](1/29)
3)قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) } (1).
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال ; فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين: أحدهما: أنه قرنه إلى فرض الإيمان، والآخر: الإخبار بأن النجاة من عذاب الله به وبالإيمان، والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات .(2)
4)عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"(3).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالجهاد، وذكر أنواعاً من الجهاد، فأوجب الجهاد بكل ما أمكن الجهاد به .(4)
5)عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(5).
وجه الاستدلال: اقتضى هذا اللفظ وجوب الجهاد لإخباره بإدخال الله الذل عليهم بذكر عقوبة على الجهاد، والعقوبات لا تستحق إلا على ترك الواجبات .(6)
ثانياً ) من الأدلة على أن فرضية الجهاد على الكفاية:
__________
(1) الصف: 10- 11]
(2) أحكام القرآن للجصاص 3/168…
(3) رواه أحمد 3/124، والنسائي في كتاب الجهاد برقم (3096)، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2504)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/97……
(4) أحكام القرآن للجصاص 3/169
(5) تقدم تخريجه ص: 3 من هذا البحث
(6) أحكام القرآن للجصاص 3/170(1/30)
1)قول الله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح!$sغ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) } (1)
قال الشافعي:"فأعلمهم أن فرض الجهاد على الكفاية من المجاهدين"(2).
وجه الاستدلال: في الآية دلالة على أن الفرض الذي تقرر في الأدلة السابقة ليس على التعيين، إنما هو على الكفاية مراعاة للفروض الأخرى من تعلم العلم وتبليغه، وقيام الدين والحياة، فعلم بهذا أن الجهاد كما قيل:"لو فرض على الأعيان لتعطل المعاش"(3).
2)قوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) } (4)
وجه الاستدلال: أن الله تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب .(5)
3)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل"(6).
__________
(1) التوبة: 122]…
(2) الأم 4/176
(3) مغني المحتاج 6/8
(4) النساء: 95]
(5) أحكام القرآن للجصاص 2/352
(6) رواه البخاري في كتاب التمني برقم (6800)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1876)(1/31)
وجه الاستدلال: الحديث يدل على أن الجهاد ليس بفرض على الأعيان، لأنه لو تعين عليه فرض الجهاد لما جاز له أن يتخلف عنه لعجز غيره عنه .(1)
4)الإجماع: فقد حكى بعض الفقهاء الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية، كما تقدم نقله عن ابن رشد .
ظاهر هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد يدل على أنه فرض كفاية، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السرايا، ولو كان فرض عين في الأحوال كلها لكان لا يتوهم منه القعود عنه في حال، ولا أذن لغيره بالتخلف عنه بحال .(2)
5)من المعقول: أن فريضة القتال لمقصود إعزاز الدين وقهر المشركين، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين، إذ لو افترض على كل مسلم بعينه، وهذا فرض غير موقت بوقت، لم يتفرغ أحد لشغل آخر من كسب أو تعلم . وبدون سائر الأشغال لا يتم أمر الجهاد .(3)
المراد بفرض الكفاية:
بين أهل العلم المراد من فرض الكفاية، وعلى من يفترض .
قال الكاساني(4):"ومعناه: أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين"(5).
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 3/213
(2) بدائع الصنائع 7/98
(3) شرح السير الكبير 1/188، وينظر في هذا المعنى المبسوط 10/3
(4) الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، أحد فقهاء الحنفية من أهل حلب، برع في علم الأصول والفروع، من مؤلفاته: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، السلطان المبين في أصول الدين، ت: 587هـ . ينظر: طبقات الحنفية 1/244، الأعلام 2/70، كشف الظنون 1/371
(5) بدائع الصنائع 7/98(1/32)
وقال ابن قدامة(1):"معنى فرض الكفاية، الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس . فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره"(2).
وعلى هذا، فالأصل أن الأمة كلها مخاطبة بالجهاد، حتى إذا تركه المسلمون جميعاً أو لم تتحقق الكفاية فيمن يقوم به كان الإثم على كل فرد قادر من أفراد الأمة، حتى تتحقق الكفاية.
وإنما قلنا إن الإثم يتعلق بالقادرين فحسب لما تقرر من سقوط التكليف عن العاجز .
قال العدوي(3):"وقولنا: فرض كفاية، ليس المراد على جميع الناس بل هو فرض كفاية على الحر، الذكر المحقق العاقل البالغ القادر لا على أضدادهم"(4)
وقد قرر هذا الشاطبي(5)
__________
(1) ابن قدامة: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الجُمّاعيلي ثم الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام، حفظ القرآن ولزم الاشتغال من صغره وكان من بحور العلم وأذكياء العالم، له مؤلفات جليلة منها: المغني، والكافي، والعمدة في الفقه، وروضة الناظر في الأصول، وغيرها، ت:620هـ ينظر: المقصد الأرشد 2/15، سير أعلام النبلاء 22/165، الأعلام 4/67
(2) المغني 9/162
(3) العدوي: علي بن أحمد بن مكرّم الصعيدي العدوي، فقيه مالكي مصري، كان شيخ الشيوخ في عصره، من مؤلفاته: حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني، وحاشية على شرح الجوهرة، ت: 1189هـ .
ينظر: سلك الدرر 3/206، الأعلام 4/260
(4) حاشية العدوي 2/4
(5) الشاطبي: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، أصولي حافظ، من أئمة المالكية، له مؤلفات كثيرة منها: الموافقات في أصول الفقه، والاعتصام، وغيرها، ت:790هـ .
ينظر: الأعلام 1/75، معجم الأعلام ص:24(1/33)
فقال:"الجهاد حيث هو فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية ؛ إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبديء فيها ولا يعيد، فإنه من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعاً"(1).
ما هو حد الكفاية في الجهاد ؟
وإذا كانت فروض الكفاية في الشريعة كثيرة، فإن حد الكفاية يختلف من فرض إلى آخر .
وقد تحدث أهل العلم عن الحد الذي تحصل به الكفاية، ويسقط به فرض الجهاد عن بقية المسلمين، فنذكر طرفاً من كلامهم .(2)
قال الشافعي:"فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه، والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية . فإذا قام بهذا من المسلمين من فيه الكفاية به خرج المتخلف منهم من المأثم في ترك الجهاد وكان الفضل للذين وَلُوا الجهاد على المتخلفين عنه"(3).
وقال ابن قدامة:"ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم ; إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم"(4).
وعلى هذا يمكن أن يقال إن حد الكفاية الذي يسقط به الواجب يتحقق باجتماع أمرين، أحدهما دفاعي، والآخر دعوي:
أما الدفاعي: فيراد به حماية حدود الدولة الإسلامية، وتأمين الثغور بقوات كافية للرد على اعتداء العدو .
__________
(1) الموافقات 1/ 177
(2) ينظر في حد الكفاية: بدائع الصنائع 7/98، فتوحات الوهاب 5/180، الأشباه والنظائر للسيوطي ص:413، فتاوى الرملي 4/44، كشاف القناع 3/33، المحلى 5/340
(3) الأم 4/176
(4) المغني 9/162(1/34)
وأما الدعوي: فيراد به وجود القوة الكافية لتسيير الجيوش إلى بلاد الكفر وحمل دعوة الإسلام إليها، سواء كانت هذه القوة من الجيش النظامي، أو من المتطوعين .
المسألة الثانية: الحالات التي يجب فيها الجهاد وجوباً عينياً
ذكر أهل العلم بعض الأحوال التي ينتقل فيها حكم الجهاد من الوجوب الكفائي إلى الوجوب العيني على كل قادر على الجهاد، وإن كان في الأصل ليس من أهل الوجوب .
الحالة الأولى: إذا دهم العدو بلداً من بلاد المسلمين:
وهذه الحالة يطلق عليها جهاد الدفع .
وقد حكى ابن حزم(1)في مراتب الإجماع اتفاق العلماء على فرضية الجهاد على الأحرار البالغين المطيقين في هذه الحالة .(2)
ونص على تعين الجهاد في هذه الحالة الفقهاء من المذاهب الأربعة .(3)
قال الجصاص(4)
__________
(1) ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره وأحد أئمة الإسلام كان فقيهاً حافظاً مستنبطاً للأحكام، انتقد كثيراً من الفقهاء فتمالؤوا على بغضه، له مؤلفات كثيرة منها: المحلى، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ت: 456 .
ينظر: سير أعلام النبلاء 18/184، تذكرة الحفاظ 3/1146، الأعلام 4/254
(2) مراتب الإجماع 1 / 119
(3) رد المحتار 4 / 127، تبيين الحقائق 3/241، شرح الخرشي 3/110، حاشية العدوي 2/4، مغني المحتاج 6 / 22، أسنى المطالب 4/178، المغني 9/171، الانصاف 4/117، المحلى 5/341
(4) الجصاص: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، أحد العلماء الفضلاء من أهل الري، سكن بغداد ومات فيها، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي، ومن مؤلفاته: أحكام القرآن، أصول الفقه، ت:370هـ .
ينظر: طبقات الحنفيه 1/84، كشف الظنون 1/46، الأعلام 1/171(1/35)
:"معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو، و لم تكن فيهم مقاومة، فخافوا على بلادهم و أنفسهم و ذراريهم ؛ أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، و هذا لا خلاف فيه بين الأمة"(1).
وفي مختصر خليل:"وتعين بفجء العدو وإن على امرأة"(2).
وفي مغني المحتاج:"الحال الثاني من حالي الكفار، وهو ما تضمنه قوله ( يدخلون بلدة لنا ) أو ينزلون على جزائر أو جبل في دار الإسلام ولو بعيدا عن البلد (فيلزم أهلها الدفع بالممكن) منهم"(3).
وقال ابن قدامة:"إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين، و وجب على الجميع، فلم يجز التخلف عنه"(4).
وقال ابن تيمية:"وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان . وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(5).
وقال أيضاً:"فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم"(6).
و قال ابن حزم:"إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثاً لهم"(7).
على من يتعين الجهاد في هذه الحالة ؟
نص الفقهاء على كيفية تدرج هذه الفرضية، فيتعين أولاً على كل قادر من أهل البلد ولو لم يكن من أهل وجوب الجهاد، فإن لم تحصل بهم الكفاية وجب على من يليهم، حتى يعم المسلمين في جميع البلاد .(8)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/166
(2) مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 4/539
(3) مغني المحتاج 6/22
(4) المغني 9/174
(5) الفتاوى الكبرى 5/538
(6) السياسة الشرعية ص:171
(7) المحلى 5/341
(8) ينظر فتح القدير 5/439-440، تفسير القرطبي 8/151(1/36)
قال ابن عابدين(1)في حاشيته:"(قوله وفرض عين) أي على من يقرب من العدو، فإن عجزوا أو تكاسلوا فعلى من يليهم حتى يفترض على هذا التدريج على كل المسلمين شرقاً وغرباً . (قوله إن هجم العدو) أي دخل بلدة بغتة، وهذه الحالة تسمى النفير العام قال في الاختيار: والنفير العام أن يحتاج إلى جميع المسلمين . (قوله فيخرج الكل) أي كل من ذكر من المرأة والعبد والمديون وغيرهم"(2).
وقال ابن تيمية في بيان تدرج هذه الفرضية:"إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة"(3).
وقيّد الشافعية والحنابلة الوجوب العيني ابتداءً في هذه الحالة بمسافة القصر، فمن كان دونها وجب عليه ابتداءً بمجرد مداهمة العدو، فإن لم يكف انتقل الوجوب إلى من على مسافة القصر فأكثر (4).
الحالة الثانية: إذا حضر المجاهد التقاء الصفين:
وممن نص على هذه الحالة الشافعية (5)والحنابلة (6) .
ومن الأدلة على ذلك:
1)قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) } (7)
__________
(1) ابن عابدين: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره، ومن مصنفاته: حاشية رد المحتار على الدر المختار والمعروفة بحاشية ابن عابدين، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، وحواشٍ على تفسير البيضاوي . ت: 1252هـ . ينظر: الأعلام 6/42، معجم الأعلام ص:681
(2) رد المحتار 4 / 127
(3) الفتاوى الكبرى 5/539
(4) مغني المحتاج 6 / 22، الإنصاف 4/117
(5) أسنى المطالب 4/178
(6) المغني 9/171، والفروع 6/190
(7) الانفال: 15](1/37)
قال الشوكاني(1)في تفسيره:"وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة"(2).
2)قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) } (3)
وإذا تقرر هذا، فإن هذا الحكم ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بقوله تعالى: { الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } (4)
قال القرطبي:"أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم"(5)
الحالة الثالثة: إذا استنفر الإمام قوماً إلى الجهاد:
فإذا استنفر الإمام جماعة أو أفراداً للقتال لم يجز لأحد أن يتخلف إذا دعاه داعي النفير، إلا لعذر كأن يستثنيه الإمام من الخروج، أو تدعو الحاجة إلى تخلفه لحفظ الأهل أو المال .
ونص على هذه الحالة الفقهاء من المذاهب الأربعة وابن حزم (6).
ومن الأدلة على ذلك:
__________
(1) الشوكاني: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ولي القضاء وألف مؤلفات كثيرة منها: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، وفتح القدير في التفسير وغيرها . ت:1250هـ .
ينظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 2/214، الأعلام 6/298
(2) فتح القدير 2/294
(3) الانفال: 45]
(4) الانفال: 66]
(5) تفسير القرطبي 7/380
(6) شرح السير الكبير 1/189، شرح الخرشي على خليل 3/111، حاشية العدوي 2/4، حاشيتا قليوبي وعميرة 4/214، المغني 9/171، والفروع 6/190، المحلى 5/342(1/38)
1)قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } (1).
ثم قال تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } (2).
وجه الاستدلال: في الآية دليل على أن الإمام إذا استنفر قوماً وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضاً على من عينه .(3)
2)عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا"(4).
قال ابن حجر:"وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام"(5).
3)حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - في قصة تخلفه وصاحبيه عندما استنفر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في غزوة تبوك، وجاء فيه:"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا"(6).
__________
(1) التوبة: 38-39]
(2) التوبة: 41]
(3) تفسير القرطبي 8 / 142
(4) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2631)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (1353)
(5) فتح الباري 6/39
(6) حديث كعب بن مالك الطويل في قصة تخلفه عن غزوة تبوك رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4066)، ومسلم في كتاب التوبة برقم (4973)(1/39)
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - هجر كعب بن مالك وصاحبيه عندما تخلفوا عن الخروج، فدل على أن الخروج للغزو عند استنفار الإمام واجب لا يجوز التخلف عنه .(1)
4) ما تقرر بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة أن من حق الإمام على رعيته السمع والطاعة في غير معصية الله .
وعلى هذا فإن الإمام إذا عين شخصاً للقيام بفرض الكفاية يتعين عليه، ولا يجوز له إنابة غيره فيه ولا أخذ أجرة عليه .(2)
أحوال أخرى قيل بتعين الجهاد فيها:
أ - تعين الجهاد بالنذر:
نص بعض فقهاء المالكية على تعين الجهاد بالنذر(3).
قلت: وفيما ذكروه نظر، وذلك من وجهين:
1- أن النذر أمر عارض خلاف الأصل، وهو خارج عن المسألة، إذ إن فرض المسألة في أصل الحكم .
2- أن النذر عام في كل قربة فإن أي قربة نذرها المكلف تتعين بالنذر، ومن ثم فلا وجه لتخصيص الجهاد به .
ب - تعين الجهاد لفك الأسرى:…
نص بعض الفقهاء على تعين الجهاد لفك الأسرى . وفي المسألة قولان:
القول الأول: أن فك الأسرى فرض عين .
وهو أحد قولي المالكية(4)، وأصح الوجهين عند الشافعية(5)، وبه قال الأحناف(6)وقيده بعضهم بما لم يبلغ العدو محله (7).
ومن أدلة هذا القول:
1)عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني"(8).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بفك العاني، وهذا الأمر عام لكل من يصح أن يتوجه إليه الخطاب، فيكون على هذا فرضاً على الأعيان .
2)القياس على دخول العدو بلاد الإسلام .
__________
(1) كشاف القناع 3/33
(2) حاشيتا قليوبي وعميرة 4/214
(3) حاشية العدوي 2/4
(4) حاشية العدوي 2/4، المنتقى شرح الموطأ 3/178
(5) مغني المحتاج 6/24، نهاية المحتاج 8/59
(6) فتح القدير 5/440
(7) البحر الرائق 5/78-79
(8) رواه البخاري كتاب الأطعمة (5058)(1/40)
فيتعين الجهاد والنهوض إلى الأعداء لفك أسر المسلم كما ينهض إليهم في دخولهم دار الإسلام لدفعهم، لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار . (1)
ويناقش هذا الدليل بأنه لا يسلم بصحة هذا القياس، لأن الجهاد عند دخول العدو بلاد الإسلام إنما يتعين لما في استباحة العدو البلاد من تعد على المسلمين عامة، بخلاف الأسر فإنه مخصوص بمن أسره العدو .
القول الثاني: أن فك الأسرى فرض كفاية .
وهو القول الآخر عند المالكية(2)، وخلاف الأصح عند الشافعية(3)، وعليه الحنابلة (4).
وبه قال الأحناف إذا بلغ العدو محله(5) .
ومن أدلة هذا القول:
1)عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني"(6).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بفك الأسير، وقرن ذلك بإطعام الجائع وعيادة المريض، وهذه الأمور من فروض الكفايات وليست من فروض الأعيان، فدل على أنه فرض كفاية .
2)من المعقول: قال الشافعية :"لأن إزعاج الجنود لخلاص أسير بعيد"(7).
وبيان هذا: أن الأسر حالة خاصة بالأسير وليست من الأحوال العامة التي يتعدى ضررها ليكون ضرراً عاماً على الأمة . وغاية الأمر من فك الأسير تخليصه من الأسر، وهذه الغاية يمكن تحقيقها بقيام من فيه الكفاية من أفراد الأمة، وبه يحصل المقصود .(8)
الراجح:
لعل الأقرب والله أعلم أن فك الأسرى فرض كفاية بقدر الحاجة على كل من قدر على تخليصهم، والله تعالى أعلم .
المطلب الثاني: شروط الجهاد
وفيه ثماني مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط الإسلام في الجهاد
__________
(1) حاشيتا قليوبي وعميرة 4/219
(2) شرح الخرشي على خليل 3/110
(3) مغني المحتاج 6/24، نهاية المحتاج 8/59
(4) مطالب أولي النهى 2/498
(5) البحر الرائق 5/78-79
(6) تقدم تخريجه قريباً ص 48
(7) مغني المحتاج 6/24
(8) حاشية العدوي 2/4، فتوحات الوهاب (حاشية الجمل) 5/192(1/41)
المسألة الثانية: اشتراط العقل في الجهاد
المسألة الثالثة: اشتراط البلوغ في الجهاد
المسألة الرابعة: اشتراط الذكورة في الجهاد
المسألة الخامسة: اشتراط الحرية في الجهاد
المسألة السادسة: اشتراط الاستطاعة في الجهاد
المسألة السابعة: اشتراط إذن الوالدين في الجهاد
المسألة الثامنة: اشتراط إذن الإمام في الجهاد
المسألة الأولى: اشتراط الإسلام في الجهاد
الجهاد عبادة لا تقبل إلا بشرطها وهو الإسلام .
وقد أجمع أهل العلم على أن الإسلام شرط لصحة الجهاد (1) .
فلا يصح الجهاد من الكافر لتخلف شرط قبول العمل . ولا جهاد على الذمي"لأنه يبذل الجزية لنذب عنه لا ليذب عنا"(2).
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
1)قوله تعالى { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) } (3)
وجه الاستدلال: يظهر لي أن الآية دلت على أن عمارة المساجد وغيرها من العبادات لا تصح ولا تقبل من الكافر، لعدم توفر شرطها وهو الإسلام، وما دام أن الجهاد عبادة فإنه لا يصح من كافر قياساً على عمارة المساجد ، بجامع أن كلاً منهما عبادة .
2)الآيات الآمرة بالجهاد كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) } (4).
__________
(1) المبسوط 10/45، شرح السير الكبير 3/865، شرح الخرشي 3/109، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18-19، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب 4/252
(3) التوبة: 17]
(4) النساء: 71](1/42)
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ (10) بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) } (1)
وجه الاستدلال من الآيات: أن الخطاب في الآيات مقيد بصفة الإيمان، وبهذا يتبين أن الله تعالى إنما خاطب بهذه الآيات أهل الإيمان، فلا ينصرف الخطاب إلى غير المؤمنين .
3)عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل . فأسلم ثم قاتل فقتل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمل قليلاً وأجر كثيراً (2).
وجه الاستدلال: يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل بالإسلام قبل القتال بقوله: (أسلم ثم قاتل)، وهذا فيه دليل على أن صحة القتال مبنية على الدخول في الإسلام .
4)من المعقول: أن الكافر غير مأمون في الجهاد .(3)
لأنه قد يغدر بالمسلمين، أو يدل على عوراتهم، أو يتجسس عليهم، ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في المنافقين: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) } (4) .
المسألة الثانية: اشتراط العقل في الجهاد
العقل هو مناط التكليف الشرعي، إذ به يعقل المكلف الخطاب، ويهتدي إلى الصواب، ومن ثم يتمكن من القيام بالتكاليف .
__________
(1) الصف: 10- 11]
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم ( 2653)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (190)
(3) المغني 9/163
(4) التوبة: 47](1/43)
وقد اتفق الفقهاء على اشتراط العقل لوجوب الجهاد(1)، فلا يجب الجهاد على المجنون لارتفاع التكليف عنه .
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:……
1)قول الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) } (2).
وجه الاستدلال: في عموم الآية دليل على عدم تكليف الضعيف بالجهاد، ومن الضعف الجنون لأنه ضعف في العقل . (3)
2)عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل"(4).
وجه الاستدلال: أن المجنون لا يتأتى منه الجهاد لعدم التكليف .(5)
3)من المعقول: أن المجنون لا فائدة له، بل قد يشوش على الجيش .(6)
وبيان هذا أن خروج المجنون للجهاد ليس فيه مصلحة للمسلمين، إذ من لا يعقل ولا يميز يتعذر عليه القيام بأعمال الجهاد وأعبائه، بل قد يسبب خروجه مفاسد ظاهرة للجيش، مع ما فيه من تعريض نفسه للهلاك دون مصلحة .
المسألة الثالثة: اشتراط البلوغ في الجهاد
أجمع أهل العلم على أن فريضة الجهاد إنما هي على البالغين دون الصبيان(7).
__________
(1) البحر الرائق 5/77، الفتاوى الهندية 2/189، شرح الخرشي 3/109، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(2) التوبة: 91]
(3) مغني المحتاج 6/18-19
(4) رواه أحمد 1/116، والترمذي في كتاب الحدود برقم (1423)، وابن ماجة في كتاب الطلاق برقم (2042)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/117
(5) المغني 9/163
(6) أسنى المطالب 4/176
(7) رد المحتار 4/124، بدائع الصنائع 7/98، شرح الخرشي 3/109، التاج والإكليل 4/538، الأم 4/275، مغني المحتاج 6/18، المغني 9/163، الإنصاف 4/115(1/44)
قال ابن حزم في مراتب الإجماع:"واتفقوا أن لا جهاد فرضاً على امرأة، ولا على من لم يبلغ"(1).
وإذا أطاق الصبيان الجهاد جاز اشتراكهم في الجهاد، سواء في مباشرة القتال، أو غيره كسقي الماء ومداواة الجرحى . ويكون خروجهم للجهاد بإذن والدَيهم، إلا في جهاد الدفع أو النفير العام فلا إذن للوالدين .
جاء في شرح السير الكبير:"الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام، وإن كره ذلك الآباء والأمهات . وفي غير هذه الحالة لا ينبغي لهم أن يخرجوا، إلا أن تطيب أنفسهم بذلك"(2).
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:…
1)عموم قول الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) } (3)
وجه الاستدلال: أن الصبي ضعيف البنية، فيدخل في عموم الضعفاء نظراً لضعف بدنه .(4)
2)عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل"(5).
وجه الاستدلال: أن الصبي غير مكلف فلا يجب عليه جهاد . (6)…
__________
(1) مراتب الإجماع 1 / 119
(2) شرح السير الكبير 1/202
(3) التوبة: 91]
(4) مغني المحتاج 6/18-19، المغني 9/163
(5) تقدم تخريجه ص: 52 من هذا البحث
(6) فتح القدير 5/442(1/45)
3)عن نافع(1)قال: حدثني ابن عمر رضي الله عنهما"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة . قال: فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"(2).
4)عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر . (3)
وجه الاستدلال من الحديثين: ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجزه إلا لأنه بالغ، ولم يرده إلا لأنه لم يبلغ، فدل هذا على اشتراط البلوغ لوجوب الجهاد . (4)
المسألة الرابعة: اشتراط الذكورة في الجهاد
اتفق أهل العلم على اشتراط الذكورة لوجوب الجهاد، وأنه لا يجب على المرأة .(5)
هذا في جهاد الطلب، أما في جهاد الدفع فيتعين على كل واحد من آحاد المسلمين أن يدفع العدو حسب القدرة والاستطاعة، فتخرج المرأة للدفع إذا استطاعت ولو لم يأذن زوجها .(6)
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:……
__________
(1) نافع: أبو عبد الله القرشي ثم العدوي العمري مولى ابن عمر، الإمام المفتي الثبت عالم المدينة،وكان ثقة كثير الحديث، قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن، ت:117هـ . ينظر: الطبقات الكبرى 1/142، سير أعلام النبلاء 5/95، طبقات الحفاظ1/47
(2) رواه البخاري في كتاب الشهادات برقم (2521)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1868)
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (9356)
(4) تبيين الحقائق 5/203
(5) مراتب الإجماع 1/119، رد المحتار 4/125، بدائع الصنائع 7/98، شرح الخرشي 3/108، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(6) بدائع الصنائع 7/98، الفتاوى الهندية 2/189، حاشية الدسوقي 2/174، مغني المحتاج 6/23، الإنصاف 4/117(1/46)
1)قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) } (1).
وجه الاستدلال: أن إطلاق لفظ المؤمنين في الآية ينصرف للرجال دون النساء .(2)
ويناقش هذا الدليل بأن الأصل في الخطاب الشرعي أنه يعم الرجال والنساء، فلا تكون الآية دليلاً مستقلاً لإثبات هذه المسألة .
2)عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، على النساء جهاد ؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة .(3)
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - نفى وجوب الجهاد على المرأة، وأخبر أن الواجب عليها الحج والعمرة كما هو معلوم، ولهذا جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"الحج جهاد كل ضعيف"(4)، مما يدل على أن المرأة وغيرها من الضعفاء ليسوا من أهل الجهاد بالمعنى الخاص الذي هو القتال .
3)من المعقول: أن المرأة ليست من أهل القتال ; لضعفها وخُورها(5)، ولذلك لا يسهم لها . (6)
وقد يبدو ههنا تساؤل عما إذا كانت الذكورة شرطاً من شروط الجهاد، فكيف كانت النساء يخرجن في الغزوات، ويشاركن في الحروب مع الرجال ؟
هذا ما سيأتي الكلام عليه في موضعه في المبحث الرابع من الفصل الأول بمشيئة الله تعالى .
المسألة الخامسة: اشتراط الحرية في الجهاد
__________
(1) الانفال: 65]
(2) مغني المحتاج 6/19
(3) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1448)، وابن ماجه في كتاب الحج برقم (2954) واللفظ له .
(4) رواه ابن ماجه في كتاب الحج برقم (2955)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 3/10
(5) خُورها): بضم الخاء الرَّيب . اهـ مطالب أولي النهى 2/500 والمراد أنها عرضة للريب والفتنة .
(6) المغني 9/163(1/47)
اتفق الفقهاء على اشتراط الحرية لوجوب جهاد الطلب، فلا يجب على المملوك حتى لو أمره سيده لم يلزمه، لكن متى أذن له سيده جاز له أن يجاهد بقدر ما أذن له فيه . (1)
أما في جهاد الدفع أو النفير العام فيجب على العبد النفير والدفع قدر الإمكان ولو لم يأذن له سيده .(2)
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
1)قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3)
وجه الاستدلال: أن العبد لا مال له ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب . (4)
عن الحارث بن عبد الله (5)
__________
(1) رد المحتار 4/125، تبيين الحقائق 3/241، شرح الخرشي 3/108، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(2) شرح السير الكبير 4/1455، منح الجليل 3/142، حاشيتا قليوبي وعميرة 4/218، الإنصاف 4/117
(3) التوبة: 41]
(4) مغني المحتاج 6/19
(5) الحارث بن عبد الله (مختلف في صحبته): الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، الأمير متولي البصرة لابن الزبير، وهو المعروف بالقُبَاع -بضم القاف وتخفيف الباء- باسم مكيال وضعه لهم، اختلف في صحبته، فذكره هارون الحمال في الصحابة، وذهب الأكثر إلى عدم صحبته ومنهم البغوي وابن أبي حاتم وابن حجر .
2)ينظر: الطبقات الكبرى 5/28، سير أعلام النبلاء 4/181، الإصابة في تمييز الصحابة 2/195(1/48)
- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض مغازيه، فمر بأناس من مزينة، فاتبعه عبد لامرأة منهم، فلما كان في بعض الطريق سلم عليه، فقال: فلان . قال: نعم . قال: ما شأنك؟ . قال: أجاهد معك . قال: أذنت لك سيدتك؟ قال: لا . قال: ارجع إليها فأخبرها، فإن مثلك مثل عبد لا يصلي إن مت قبل أن ترجع إليها، واقرأ عليها السلام، فرجع إليها فأخبرها الخبر . فقالت: آلله هو أمر أن تقرأ علي السلام؟ قال: نعم . قالت: ارجع فجاهد معه .(1)
وجه الاستدلال: يظهر لي من الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - منع العبد من الجهاد دون إذن السيد، بل توعده على فعله هذا بالعقوبة الشديدة التي تضاهي عقوبة تارك الصلاة، وهذا الفعل يدل على أمرين . أحدهما: عدم وجوب الجهاد على العبد لانشغاله بسيده، والآخر: جواز الجهاد متى ما أذن له سيده .
3)عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء عبد فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعنيه . فاشتراه بعبدين أسودين . ثم لم يبايع أحداً بعد حتى يسأله أعبد هو .(2)
وجه الاستدلال: يظهر من الحديث - والله أعلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفرق في البيعة بين الحر والعبد، فلا يبايع العبد على الهجرة وما في حكمها كالجهاد، مما يدل على عدم وجوب هذه التكاليف عليه، إذ لو كانت واجبة عليه كالحر لبايعه - صلى الله عليه وسلم - عليها .
4)من المعقول: أن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم تجب على العبد، كالحج، لأنه مشغول بحقوق سيده عليه، وأوقاته ليست ملكاً له .(3)
المسألة السادسة: اشتراط الاستطاعة في الجهاد
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى9/22، والحاكم في المستدرك 2/129 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاهٍ
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (1602)
(3) المغني 9/163(1/49)
يشترط لوجوب الجهاد الاستطاعة والقدرة عليه، فمن لا قدرة له على الجهاد لا جهاد عليه; لأن الجهاد بذل الجهد، وهو الوسع أو الطاقة في القتال، ومن لا وسع له كيف يبذل الوسع .(1)
واشتراط الاستطاعة والقدرة لوجوب الجهاد لا خلاف فيه بين الفقهاء في الجملة .(2)
وهذا الشرط يتضمن أمرين بحسب كلام الفقهاء . أحدهما: الاستطاعة البدنية، والآخر: الاستطاعة المالية .
1- الاستطاعة البدنية:
ويراد بها السلامة من الضرر والأمراض والعاهات البدنية كالعمى والعرج والمرض ونحوها مما يمنع القتال والحركة .
قال ابن قدامة:"وأما العرج، فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب، كالزمانة ونحوها، وأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي، وإنما يتعذر عليه شدة العدو، فلا يمنع وجوب الجهاد ; لأنه ممكن منه، فشابه الأعور .
وكذلك المرض المانع هو الشديد، فأما اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد، كوجع الضرس والصداع الخفيف، فلا يمنع الوجوب ; لأنه لا يتعذر معه الجهاد، فهو كالعور ."(3)
وفي هذا العصر، يمكن الاستعانة بقول الطبيب الثقة في تقدير مدى استطاعة المريض القيام بأعمال الجهاد، أو مدى تضرر جسمه أو تأخر شفائه، بناءً على حالته الصحية، والله أعلم .
ومن الأدلة على اشتراط الاستطاعة البدنية ما يلي:
1)قول الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) } (4)
__________
(1) بدائع الصنائع 7/98
(2) رد المحتار 4/125، تبيين الحقائق 3/241، شرح الخرشي 3/109، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(3) المغني 9/163
(4) الفتح: 17](1/50)
وجه الاستدلال: نصت الآية على رفع الحرج وعدم مؤاخذة أولي الأعذار بتركهم فريضة الجهاد، لأن هذه الأعذار تمنعهم من الجهاد .(1)
2)قول الله تعالى: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) } (2)
3)عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّها علي، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت . وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله غير أولي الضرر { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } .(3)
وجه الاستدلال من الآية والحديث: دلت الآية على استثناء أهل الضرر والأعذار من فريضة الجهاد، وذلك لعدم استطاعتهم كما قال ابن أم مكتوم وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على أنهم غير مأمورين بالجهاد، لأنهم لو كانوا مأمورين به لم يستثنوا من حكم الآية .(4)
2- الاستطاعة المالية:
أعمال الجهاد تفتقر -في الغالب- إلى النفقة والمؤونة، فالمجاهد لا بد له من سلاح وزاد، وقد يحتاج إلى مركب ونحو ذلك، فلا يجب الجهاد على من لم يكن عنده من المال ما يحصل به هذه النفقات والمؤن .
__________
(1) المغني 9/163……
(2) النساء: 95]
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2832)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1898)
(4) أحكام القرآن للجصاص 2/352(1/51)
وهذه المؤن تقدر بقدرها حسب الحاجة، ولهذا نص بعض الفقهاء على أنه"لو كان القتال على باب داره أو حوله سقط اعتبار المؤن"(1).
ومن الأدلة على اشتراط الاستطاعة المالية:
1)قول الله سبحانه وتعالى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) } (2)
وجه الاستدلال: في الآية دلالة على عدم وجوب الجهاد في حق العاجز عن النفقات والمؤن من مركوب أوسلاح أوغيره، لأنه سبحانه وتعالى نفى الحرج عن الفقير الذي لا يجد الراحلة التي تحمله إلى الجهاد، مما يدل على أنه لا يلزمه الخروج للجهاد .(3)
2)من المعقول: وبيانه أن الجهاد لا يمكن إلا بآلة كوسيلة نقل وزاد ونحو ذلك، فيعتبر القدرة عليها .(4)
مسألة ) استطاعة الأمة وقدرتها على الجهاد:
من المسائل الهامة المتعلقة بالاستطاعة أن جهاد الطلب لابد أن يراعى فيه استطاعة الأمة وقدرتها على الجهاد، ويتحقق هذا بالنظر في قوة الأمة مقارنة بما يمتلكه أعداؤها من القوة .
ولأن هذه المسألة مما تعظم الحاجة إلى بيانه، ولا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة ؛ فإننا سنزيدها بياناً واستدلالاً وتطبيقاً بإذن الله تعالى .
وقد ذكر بعض الفقهاء شيئاً من صور ضعف القدرة أو الاستطاعة في معرض كلامهم عن الأعذار المبيحة لتأخير الجهاد .
__________
(1) مغني المحتاج 6/19
(2) التوبة: 91ـ92]
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2/562
(4) المغني 9/163(1/52)
قال الشافعي:"وإذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين، أو طائفة منهم لبعد دارهم، أو كثرة عددهم أو خَلَّة بالمسلمين، أو بمن يليهم منهم جاز لهم الكف عنهم ومهادنتهم على غير شيء يأخذونه من المشركين، وإن أعطاهم المشركون شيئاً قل أو كثر كان لهم أخذه"(1).
وقال ابن قدامة:"أقل ما يفعل [أي الجهاد] مرة في كل عام ... إلا من عذر، مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة، أو يكون ينتظر المدد يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أو ليس فيها علف أو ماء، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم، ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال"(2).
ومن الأدلة على هذا:
1)النظر في تدرج مشروعية الجهاد في العهدين المكي والمدني . (3)
فإن الله تعالى لما بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أمره بتبليغ الدين، والإعراض عن الكافرين، وحرم عليه وعلى أصحابه - رضي الله عنهم - القتال في الفترة المكية، حيث كانوا أذلة مستضعفين، ليس لهم شوكة ولا منعة، فكان يقال لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (4)
فلما هاجروا إلى المدينة واشتد عودهم وقويت شوكتهم، وحصلت لهم قوة العدد والعتاد والمنعة بالدار، وكان بإمكانهم المواجهة والقتال ؛ أذن الله تعالى لهم بقتال من قاتلهم فقال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) } (5).(6)
__________
(1) الأم 4/199………
(2) المغني 9/164
(3) ينظر في التدرج في فرض الجهاد: المبسوط 10/2، شرح السير الكبير 1/188، تفسير القرطبي 12/69، أحكام القرآن لابن العربي 1/143-144، الأم 4/170، تحفة المحتاج 9/211-212، زاد المعاد 3/69-70
(4) النساء: 77]
(5) الحج: 39]
(6) زاد المعاد 3/69-70(1/53)
قال الشافعي في معرض تعليله لفرض الجهاد:"ولما مضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها ففرض الله تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً"(1).
وإذا كان الجهاد لم يشرع إلا لمصلحة إعلاء كلمة الله وإعزاز دين الله وكسر شوكة الكافرين، فإن هذه الغاية تتطلب وجود قوة تحصل بها مقاومة العدو .
يقول د . محمد خير هيكل:"وظاهرٌ أن هذا التدرج في حكم القتال إنما كانت تقتضيه حال الدولة الإسلامية الناشئة، وحالة الجيش الإسلامي الذي كان يأخذ في التكوين من حيث العدد والعدة والتدريب وما إلى ذلك ... إلى أن يصلب عود الدولة الإسلامية ويشتد بأس القوة الإسلامية، بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية فيما لو عملت قريش على تأليبها ضد المسلمين"(2).
2)عموم قواعد الشريعة التي ترفع التكليف عن الفرد والأمة في حال عدم الاستطاعة .
…وقد جاء في السير الكبير وشرحه:"ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام، أو إعطاء جزية إذا تمكن من ذلك ; لأن التكليف بحسب الوسع"(3).
3)قول الله تعالى: { الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } (4) .
__________
(1) الأم 4/170
(2) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/463
(3) شرح السير الكبير 1/189……
(4) الانفال: 66](1/54)
وجه الاستدلال: أن الشارع راعى حالة الضعف التي قد تعتري الأمة، فلم يوجب على المسلمين أن يثبتوا في المعركة إذا كان عدد الأعداء أكثر من ضعفي قوة المسلمين .(1)
وهذا يدل على أن استطاعة الأمة وقوتها أمر معتبر في وجوب القتال، فإذا لم يكن بالأمة قوة سقط وجوبه .
4)قول الله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) } (2).
وجه الاستدلال: أن الله أباح للأمة عقد الصلح مع الكفار عند دعاء الحاجة أو المصلحة.
ويناقش الاستدلال بهذه الآية بأنها منسوخة . إما بآية السيف: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } (3)، أو بقوله تعالى: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) } (4) .(5)
ويجاب بأن الراجح أن الآية محكمة كما قرره الطبري وابن العربي(6)وابن كثير .(7)
__________
(1) بدائع الصنائع 7/98-99، الفتاوى الهندية 2/193، التاج والإكليل 4/546، منح الجليل 3/152، مغني المحتاج 6/35، كشاف القناع 3/45
(2) الأنفال: 61]
(3) التوبة: 5]
(4) محمد:35]
(5) تفسير القرطبي 8/39
(6) ابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي القاضي، أحد الحفاظ المجتهدين، صنف في الحديث والفقه والأصول والتفسير، ومن أشهر مؤلفاته: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي، أحكام القرآن، العواصم من القواصم، ت:543هـ . ينظر: وفيات الأعيان 4/296، سير أعلام النبلاء 20/197، الأعلام 6/230
(7) تفسير الطبري10/34، تفسير ابن كثير 2/323، أحكام القرآن لابن العربي 2/427(1/55)
وعلى هذا، تحمل الآية على حال الحاجة أو المصلحة كضعف قوتنا، أو إعادة تنظيم جيوشنا، أو رجاء إسلامهم، ونحو ذلك من المصالح . وتحمل آية السيف على حال القدرة على الجهاد وكون المصلحة في القيام به . والجمع بين معنى الآيتين أولى من القول بالنسخ .
ولا فرق على الأرجح بين أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في هذا الحكم كما قرره ابن كثير وابن العربي، خلافاً للطبري .
…قال ابن كثير:"فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص"(1).
…وقال ابن العربي:"وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به، أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه"(2).
ويؤيد هذا الترجيح الهدي النبوي . فقد جاء في السيرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل مكة في الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، كما في قصة الحديبية المشهورة.(3)
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/323
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2/427
(3) رواها البخاري في كتاب الشروط برقم (2734) من حديث المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -(1/56)
…ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بمصالحة الحارث الغطفاني وعيينة بن حصن(1)ويعطيهما من ثمار المدينة، واستشار في ذلك الأنصار، لما رآى قريش والأحزاب قد رمت أهل المدينة عن قوس واحدة .(2)
تطبيق شرط الاستطاعة في جهاد الطلب على أحوال المسلمين اليوم:
إذا تقرر ما سبق، فإن المتأمل في عالمنا اليوم يلحظ عدة أمور لها أثرها البالغ في الحكم:
1-أن العالم الإسلامي يعيش حالة من التخلف التقني والعلمي والعسكري مقارنة بالدول الكافرة، وإذا نظرنا إلى ميزان القوى نجد فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً بين ما يمتلكه المسلمون وما يمتلكه أعداؤهم من القوة وأنواع وأعداد الأسلحة .
2-أصيبت الأمة بالتمزق والفرقة بين أبنائها ودولها، حتى إن الحروب والنزاعات الحدودية والسياسية قد تقع بين الدول الإسلامية المتجاورة .
3-أن الدول الكبرى المتربصة بالإسلام وأهله تبحث عن أية ذريعة تسوغ لها - في نظر العالم - أعمالها العدوانية ضد المسلمين وتتحين أي فرصة مناسبة للسيطرة على ثرواتهم، وتمزيق شملهم، وتدمير منشآتهم الحيوية .(3)
__________
(1) عيينة بن حصن: أبو مالك عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان من المؤلفة قلوبهم، أسلم قبل الفتح وشهدها وشهد حنيناً والطائف، وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني تميم، ثم كان ممن ارتد في عهد أبي بكر ومال إلى طلحة فبايعه ثم عاد إلى الإسلام، مات آخر خلافة عثمان . ينظر: الثقات 3/312، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1249، الإصابة في تمييز الصحابة 4/767
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير 6/28 عن أبي هريرة .
ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد 6/133 أن الحديث رواه البزار والطبراني وقال:"ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات" اهـ .
(3) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 3/1483(1/57)
4-في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، تجتمع قوى الكفر كلها بشتى دياناتها ضد أي دولة إسلامية لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة، فضلاً عن أن تقوم هذه الدولة بالهجوم على دولة أخرى .
فلو قدر أن دولة إسلامية -في ظل هذه الظروف- حاولت القيام بجهاد الطلب فإن هذا الفعل يعد في العرف الدولي تمرداً على الشرعية الدولية المزعومة، ومن ثم يكون مسوغاً لاجتماع الغلبة الكاثرة من الدول ضد هذه الدولة والعدوان عليها .
5-أن حمل لواء الجهاد في هذا العصر يفتقر إلى قوة منظمة، تمتلك الميزان الذي توازن به بين المصالح والمفاسد .
ومن ثم فجهاد الطلب بمفهومه الصحيح، وعلى ضوء الواقع الذي يمر به المسلمون، لن يقوم على أكتاف قلائل، بل إن جهاد المائة والمائتين ضرره كما نرى أكثر من نفعه .(1)
والحاصل: أن الجهاد إنما شرع لإعلاء راية الدين وكسر شوكة أعدائه وقهرهم، فإذا ضعفت الأمة عن مواجهة الأعداء بسبب ضعفها، أوتفرقها، أو كثرة عدد العدو، أو امتلاكه الأسلحة المدمرة التي لا طاقة للمسلمين بها، فإن المشروع أن يكف المسلمون أيديهم ويؤخروا جهاد الطلب، ويجتهدوا في الإعداد والأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية حتى يهيء الله للأمة من القوة ما تتمكن به من مقارعة الأعداء كما هيأ ذلك لدولة الإسلام الأولى .
وإذا تقرر هذا الحكم، فإنه يجدر التنبيه إلى ما يلي:
1)أن هذا الحكم إنما يكون في جهاد الطلب كما تقدم، وأما في جهاد الدفع فيجب على الأمة وجوباً عينياً أن تدفع عدوان المعتدي قدر الإمكان .
2)أن مستند هذا الحكم المؤقت بعدم وجوب جهاد الطلب هو المصلحة العامة للأمة، وذلك بالنظر الصحيح إلى قوتها مقارنة بقوة أعدائها، وهذا الأمر يستدعي توفر الأمانة والتقوى ممن يتولون أمر الأمة وتقدير شؤونها، وقطع الطريق على كل من يتخذ هذا التعليل ستاراً دون خيانة الأمة ونهب ثرواتها وتحقيق مصالحه الخاصة .
__________
(1) تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد ص:29(1/58)
3)أن هذا الحكم لا يصح أن يفهم منه سقوط الجهاد إلى الأبد، بل هو حكم استثنائي لظروف وأحوال محددة، متى ما انتفت وجب جهاد الطلب على الأمة .
4)أن هذا الحكم لا يصح أن يكون مدعاة إلى الاسترخاء والدعة والانغماس في شهوات الدنيا، وترك الاستعداد للجهاد، بل يجب على الأمة الإعداد للجهاد خلال فترة الضعف لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما قال الله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) } (1).
وعلى هذا يجب على الأمة أن تستعد للجهاد وتأخذ بأسباب القوة حتى يهيء الله لها القيام بفريضة الجهاد، والله أعلم .
المسألة السابعة: اشتراط إذن الوالدين في الجهاد
اتفق العلماء على أن إذن الوالدين المسلمين شرط من شروط الجهاد ما لم يكن الجهاد فرضاً متعيناً . (2)
قال ابن رشد:"وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها إلا أن تكون عليه فرض عين"(3).
وقال ابن حزم في مراتب الإجماع:"واتفقوا أن من له أبوان يضيعان بخروجه أن فرض الجهاد ساقط عنه"(4).
ومن الأدلة على اشتراط إذن الوالدين ما يلي:
__________
(1) الانفال: 60]
(2) بدائع الصنائع 7/98، فتح القدير 5/78، شرح الخرشي 3/112، حاشية العدوي 2/17، الأم 4/172، تحفة المحتاج 9/233، المغني 9/170، الفروع 6/198
(3) بداية المجتهد 1/278……
(4) مراتب الإجماع 1/ 119(1/59)
1)عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك ؟ قال: نعم . قال: ففيهما فجاهد .(1)
2)وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن . فقال: هل لك أحد باليمن ؟ قال: أبواي . قال: أذنا لك ؟ قال: لا . قال: ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما .(2)
وجه الاستدلال من الحديثين: قلت: في تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - بر الوالدين على الجهاد، و نصه على الاستئذان دليل على اشتراط إذن الوالدين لمن أراد الجهاد في سبيل الله .
3)من المعقول، وبيانه: أنه عند تزاحم فرضين، يقدم آكدهما، وإذا كان الجهاد فرض كفاية فلا يجب إذاً، لأن بر الوالدين فرض عين فكان مقدماً على فرض الكفاية .(3)
المسألة الثامنة: اشتراط إذن الإمام في الجهاد
الجهاد من الشعائر المتعلقة بالسياسة العامة للأمة، نظراً للمصالح والمفاسد العامة العظيمة المترتبة على القيام به أو تركه، ولهذا كان الجهاد من وظائف الإمامة الكبرى، فيجب على ولاة الأمر القيام به وتقدير وقته، كما يجب على أفراد الأمة الرجوع إليهم وعدم الافتيات عليهم .
قال القرافي:"إن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس"(4).
وقال ابن قدامة:"وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"(5).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (3004)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب برقم (2549)
(2) رواه أحمد 3/75، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2530)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/105
(3) بدائع الصنائع 7/98
(4) الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام / 24
(5) المغني 9/166(1/60)
وقد اتفق الفقهاء على مشروعية استئذان الإمام للخروج إلى الجهاد .(1)
واختلفوا في حكم الخروج للجهاد بدون إذن الإمام تبعاً لنوع الجهاد وذلك فيما يلي:
أولاً ) إذن الإمام في جهاد الطلب :
اختلف الفقهاء في حكم الخروج لجهاد الطلب بدون إذن الإمام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم جهاد الطلب بغير إذن الإمام . وهو مذهب الحنفية(2)، والمالكية(3)، ورواية عن الإمام أحمد -وهي المذهب وعليها أكثر الحنابلة- (4).
وقد استثنى الحنفية ما إذا كان في رأي الإمام هلاك ظاهر لا يخفى فلا يحرم خروجهم .(5)
ومن أدلة هذا القول :
1)قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (6)
وجه الاستدلال: الآية نص في وجوب طاعة ولاة الأمر .
ولهذا ذكر ابن تيمية أن هذه الآية نزلت في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله . (7)
__________
(1) شرح السير الكبير 1/167، الفتاوى الهندية 2/192، مواهب الجليل 3/349، أحكام القرآن لابن العربي 1/581، الأم 8 / 379، أسنى المطالب 1/188، الإنصاف 4/151، المغني 9/176
(2) شرح السير الكبير 1/167، الفتاوى الهندية 2/192
(3) مواهب الجليل 3/349، تبصرة الأحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 2/195، أحكام القرآن لابن العربي 1/581
(4) الإنصاف 4/151
(5) شرح السير الكبير 1/167
(6) النساء: 59]
(7) السياسة الشرعية ص:12(1/61)
2)قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1).
وجه الاستدلال: أن الآية نصت على وجوب استئذان المؤمنين النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الجامعة التي يحتاج الإمام فيها إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو ترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب . (2)
ويؤيد هذا أنه جاء في سياق الآيات أن عدم الاستئذان يعد خروجاً عن الطاعة، وسبباً لسخط الله وعذابه، كما قال تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } (3).
3)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه"(4).
وجه الاستدلال: قلت: الحديث يدل على وجوب استئذان الإمام من وجهين:
…الأول: أن الحديث نص على وجوب طاعة الأمير، والجهاد من أهم ما يجب أن يطاع فيه ولاة الأمور، لكونه من مصالح الأمة العامة .
__________
(1) النور: 62]
(2) تفسير القرطبي 12/320
(3) النور:63]
(4) رواه البخاري بطوله في كتاب الجهاد والسير برقم (2957)، وروى مسلم أوله في كتاب الإمارة برقم (1835) وروى آخره في كتاب الإمارة برقم (1841)(1/62)
الثاني: أن الشارع أناط أمر الجهاد بالإمام، نظراً لهذه المزايا التي اختصه بها دون غيره، وشبهه بالستر، لأنه يحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته .(1)
قال ابن حجر:"لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض"(2).
…قلت: وقول ابن حجر (ويكف أذى بعضهم عن بعض) ظاهر في هذا الباب، لأنه لو فتح الباب لأفراد الناس فقد يقتل بعضهم بعضاً، إما لظن بعضهم كفر بعض، أو للاختلاف في شرعية الجهاد، أو في من يبدأ بقتاله، وغير ذلك .
4)من المعقول: أن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم وبعدهم . فإذا خرج خارج بغير إذنه، لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو، فيأخذوه، أو طليعة لهم . وإذا كان بإذن الأمير، لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن، وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم .(3)
القول الثاني: كراهية جهاد الطلب بغير إذن الإمام . وهو مذهب الشافعي، كما جاء في الأم:"وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام كرهته لما في إذن الإمام من معرفته بغزوهم ومعرفتهم ويأتيه الخبر عنهم فيعينهم حيث يخاف هلاكهم فيقتلون ضيعة . قال الشافعي رحمه الله: ولا أعلم ذلك يحرم عليهم". (4)
من أدلة هذا القول:
استدلوا على الكراهة: بأن الجهاد من الأمور التي تحتاج إلى النظر والاجتهاد، والإمام أعرف من غيره بمصالح الجهاد، فيكره الجهاد دون إذنه .(5)
واستدلوا على عدم التحريم بأن الجهاد دون إذن الإمام ليس فيه أكثر من التغرير بالنفوس وهو جائز في الجهاد .(6)
ويستدل لهذا القول أيضاً بأدلة من قال بالجواز كما سيأتي في أدلة القول الثالث .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 12/230
(2) فتح الباري 6/116
(3) المغني 9/176، أحكام القرآن لابن العربي 1/581
(4) الأم 8 / 379
(5) أسنى المطالب 1/188
(6) المصدر السابق(1/63)
القول الثالث: جواز جهاد الطلب بغير إذن الإمام . وهو قول ابن حزم (1)، ورواية عن أحمد(2).
ومن أدلة هذا القول:
1)قول الله تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) } (3).
وجه الاستدلال: قال ابن حزم:"وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد وإن لم يكن معه أحد"(4).
ويناقش هذا الدليل بأنه لا دليل فيه على عدم استئذان الإمام، لأن الخطاب في الأصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الإمام، والناس له تبع .
وإنما المراد بالآية أن المسلمين كانوا سراعاً إلى القتال قبل أن يفرض القتال، فلما أمر الله سبحانه بالقتال تولى عنه قوم، فقال الله تعالى لنبيه: قد بلغت . قاتل وحدك { لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } فسيكون منهم ما كتب الله من فعلهم .(5)
2)قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) } (6).
وقوله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } (7).
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر في هذه الآيات بالنفير مطلقاً، ولم يقيد الأمر بإذن الإمام .
__________
(1) المحلى 7/217
(2) الإنصاف 4/152
(3) النساء: 84]
(4) المحلى 4/421
(5) أحكام القرآن لابن العربي 1/586……
(6) النساء: 71]
(7) التوبة: 41](1/64)
ويناقش هذا الاستدلال بأن الأمر المطلق في هذه الآيات مقيد بالأدلة الأخرى التي أوجبت استئذان الإمام، وجعلت الاستنفار موكولاً إليه، كما يشير إليه قوله تعالى في سياق الآية الثانية: { إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، والمطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم .
3)حادثة أبي بصير(1)بعد صلح الحديبية، وهي قصة طويلة مليئة بالفوائد والدروس، ولعلي أورد منها ما يتعلق بالموضوع .
__________
(1) أبو بصير (صحابي): عتبة بن أَسِيد بن جارية بن أَسِيد الثقفي حليف بني زهرة، مشهور بكنيته، قصته مشهورة بعد صلح الحديبية، وتوفي بعد صلح الحديبية سنة ست وقبل فتح مكة سنة ثمان، وذلك عندما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، فورد الكتاب وأبو بصير يموت فمات وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1612، تهذيب الأسماء2/471، الإصابة في تمييز الصحابة 4/433(1/65)
عن المسور بن مخرمة(1)- رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية ... فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً ... فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ... ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا . فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً . فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم . قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويل أمه مِسْعَر حرب(2) لو كان له أحد . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سِيْف البحر(3)
__________
(1) المسور بن مخرمة (صحابي): أبو عبد الرحمن وأبو عثمان المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، الإمام الجليل، قدم دمشق بريداً ممن يلزم عمر ويحفظ عنه، وقد انحاز إلى مكة مع ابن الزبير وسخط إمرة يزيد فمات في الحصار، قيل أصابه حجر المنجنيق فانفلقت منه قطعة أصابت خده وهو يصلي فمرض ومات، ت:64هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1399، سير أعلام النبلاء 3/390، الإصابة في تمييز الصحابة 6/119
(2) مِسْعَر حرب: أي يسعرها، كأنه يصفه بالاقدام في الحرب والتسعير لنارها . فتح الباري 5/350
(3) سِيْف البحر: بكسر السين وسكون الياء، أي ساحله . وعيّن بن إسحاق المكان فقال:حتى نزل العِيص، وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام . وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل . فتح الباري 5/350(1/66)
. قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل(1) فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم لَمَّا أرسل فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ...الحديث .(2)
وجه الاستدلال: ظاهر الحديث أن أبا بصير وأبا جندل ومن معهما قاما بمحاربة قريش والإغارة على قوافلها دون إذنه - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صالح قريشاً على وضع الحرب .
__________
(1) أبو جندل بن سهيل (صحابي): أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري، قيل: اسمه عبد الله، وكان من السابقين إلى الإسلام وممن عُذِّب بسبب إسلامه كما جاء في قصة الحديبية، ت:18هـ في طاعون عَمواس
ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1621، سير أعلام النبلاء 1/192، الإصابة في تمييز الصحابة 7/69
(2) تقدم تخريجه ص: 64 من هذا البحث(1/67)
ويناقش هذا الدليل بأن أبا بصير ومن معه لم يكونوا تحت عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خاضعين لحكمه ظاهراً كما جاء في صلح الحديبية، ويدل على ذلك ما جاء في الرواية أن أبا بصير قال: (يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم)، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا، ولقنه الفرار تعريضاً، وتمنى أن يكون معه آخرون لا يكون الصلح ملزماً لهم ينصرونه ويعينونه .(1)
فهذا يدل على أن صلح الحديبية إنما كان ملزماً له - صلى الله عليه وسلم - ومن كان تحت ولايته، أما أبو بصير ومن معه فإنهم كانوا في حالة حرب مع قريش، فلهذا لم يلزمهم استئذانه - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد لأنهم لم يكونوا تحت ولايته .
الترجيح
الراجح -والله أعلم- هو القول الأول القائل باشتراط إذن الإمام لجهاد الطلب، وإنما رجحنا هذا القول لعدة أسباب:
1-أن هذا هو ظاهر الهدي النبوي، فقد كان عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه هم الذين يتولون أمور الجهاد بأنفسهم من حيث إعلان الجهاد، وتسيير الجيوش، وتعيين القادة، وغير ذلك .
2-أن الأصل في السياسات العامة التي يقصد منها تحقيق المصالح العامة للأمة أنه يرجع فيها إلى الإمام، ولهذا يعد تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب تصرفاً بطريق الإمامة، لا بطريق الرسالة ولا القضاء ولا غيرها، وإذا ثبت أن هذا التصرف من خصائص الإمامة فإنه يرجع فيه إلى الأئمة، ومن ثم يجب استئذانهم قبل الإقدام عليه .
__________
(1) قال ابن حجر في فتح الباري 5/350:" قوله (لو كان له أحد) أي ينصره ويعاضده ويناصره، وفي رواية الأوزاعي (لو كان له رجال) فلقنها أبو بصير فانطلق، وفيه إشارةٌ إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمزٌ إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة والله أعلم" اهـ .(1/68)
قال القرافي:"فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان شرعاً مقرراً لقوله تعالى { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) } (1)"(2).
3-العمل بسد الذرائع، فإنه لا يصلح الناس إلا هذا، ولو كان الجهاد بيد كل فرد من أفراد الأمة لترتب عليه مفاسد ظاهرة بسبب الفوضى، وظهور الاختلاف والنزاع في الأمة، وهذا مما أوجبت الشريعة دفعه، وعنيت بحسم مادته، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
نقل الحطاب(3)في مواهب الجليل عن الشيخ أحمد زرّوق(4)أنه قال في بعض وصاياه لإخوانه:"التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سُلَّم الفتنة وقلما اشتغل به أحد فأنجح"(5).
__________
(1) الأعراف: 158]
(2) الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص:108
(3) الحطاب: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الرَّعِيني، المعروف بالحطاب، أحد العلماء المتصوفين، من فقهاء المالكية، ولد واشتهر بمكة، وانتقل إلى طرابلس الغرب وما فيها، من مؤلفاته: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، ت:954هـ . ينظر: كشف الظنون 2/1628، الأعلام 7/58
(4) أحمد زرّوق: أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرسلي ثم الفاسي، المشهور بأحمد زرّوق، ارتحل إلى الديار المصرية وجاور بالمدينة، وكان يميل إلى التصوف، من مؤلفاته: شرح الأسماء الحسنى، تأسيس القواعد والأصول، ت:899هـ . ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 1/222، كشف الظنون 2/1032
(5) مواهب الجليل 3/350………(1/69)
قلت: ومن حكمة الشارع أنه أناط أمر الجهاد بالإمام، لأنه أولى بتقدير ميزان القوى، وسير المعارك، وآثارها، ولم يترك ذلك للأفراد الذين قد يتقدمون الحاكم بفعل، تكون جريرته على المسلمين عامة، ويجروا على المسلمين الويلات من حيث لا يشعرون .
الحالات المستثناة التي يجوز فيها جهاد الطلب دون إذن الإمام:
استثنى الفقهاء بعض الحالات التي يجوز فيها الخروج لجهاد الطلب دون إذن الإمام، منها:
1)أن يترتب على إذن الإمام فوات مصلحة ظاهرة:
وقد ذكر الفقهاء أمثلة لهذه الحالة، منها:
أ - أن يترتب على الإذن فوات فرصة للنكاية بالعدو .
وقد نص على هذا المالكية(1)والشافعية(2) والحنابلة(3) .
ب - أن يترتب على الإذن حصول ضرر بالمسلمين كأن يتقوى العدو بوصول المدد .
ونص عليه الأحناف(4)، فإذا علم المسلمون أنهم يتضررون بترك القتال كأن يتقوى عدوهم بوصول المدد إذا تركوا قتاله فلا إذن للإمام .
ومن الأدلة على ذلك:
__________
(1) المصدر السابق 3/349
(2) حاشية قليوبي وعميرة 4/218
(3) الإنصاف 4/151
(4) الفتاوى الهندية 2/192(1/70)
ما رواه سلمة بن الأكوع(1)- رضي الله عنه - قال:"خرجت من المدينة ذاهباً نحو الغابة(2)حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لِقَاح النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت: من أخذها؟ قال: غَطَفان وفَزَارة . فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه(3)، يا صباحاه، ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع … واليوم يوم الرضَّع(4)
__________
(1) سلمة بن الأكوع (صحابي): أبو عامر وأبو مسلم ويقال أبو إياس، سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله الأسلمي الحجازي المدني، وهو من أهل بيعة الرضوان، روى عدة أحاديث، ولما قُتِل عثمان خرج إلى الرَّبَذة وتزوج هناك امرأة فولدت له أولاداً، وقبل أن يموت بليال نزل إلى المدينة، ت: 74هـ وكان من أبناء التسعين. ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/639، سير أعلام النبلاء 3/326، الإصابة في تمييز الصحابة 3/151
(2) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة . معجم البلدان 4/182
(3) يا صباحاه: كلمة تقولها العرب إِذا نَذِرَتْ بغارة من الخيل تَفْجَؤُهم صَباحاً، أو إِذا صاحوا للغارة لأَنهم أَكثر ما يُغيرون عند الصباح . لسان العرب مادة (صبح) 2/505
(4) الرُّضَّع: جمع راضع وهو اللئيم، فمعناه اليوم يوم اللئام، أي اليوم يوم هلاك اللئام . فتح الباري 7/462(1/71)
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا، فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم فابعث في إثرهم . فقال: يا ابن الأكوع ملكت فأَسْجِحْ(1)، إن القوم يُقْرَون(2)في قومهم"(3).
وجه الاستدلال: في الحديث دلالة على عدم وجوب الإذن إذا ترتب عليه فوات فرصة للنكاية بالعدو نظراً لضيق الوقت، وبعد محل الإمام . فإن سلمة لم يكتف برد القوم فحسب، بل اشتد في طلبهم دون إذن لمصلحة ظاهرة تفوت بالتأخير وهي استرجاع ما استولوا عليه من الأموال .
قلت: ومما يؤيد هذا الاستثناء أن النكاية بالعدو وكسر شوكته تقوم في الغالب على المباغتة واقتناص الفرصة المناسبة متى ما سنحت دون تأخير، فناسب أن يبادر إليها بقدر ما يحقق المصلحة، إلا أن يصدر منع من الإمام، فإنه أقرب لتقدير المصلحة .
2)فسق الإمام المنافي لمقاصد الجهاد:
نقل بعض المالكية اشتراط عدالة الوالي المستأذن، فقالوا:"ويلزمهم ذلك إن كان الوالي عدلاً"(4).
ومع أن المالكية يرون طاعة الإمام غير العدل، إلا أنهم يفرقون بين الطاعة والاستئذان .
يقول ابن رشد:"فإنما يفترق العدل من غير العدل في الاستئذان له، لا في طاعته إذا أمر بشيء أو نهى عنه ; لأن الطاعة للإمام من فرائض الغزو، فواجب على الرجل طاعة الإمام فيما أحب أو كره، وإن كان غير عدل ما لم يأمره بمعصية"(5).
__________
(1) مَلكتَ فأسْجح: أي قدَرْت فسهّل وأحسن العفو، وهو مثل سائر . لسان العرب مادة(سَجَحَ) 2/475، و النهاية مادة(سَجَحَ) 2/342
(2) القِرى: الضيافة . القاموس المحيط مادة (قَرَى) 1/1706
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (3041)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1806)
(4) مواهب الجليل 3/349
(5) المصدر السابق………(1/72)
ويمكن مناقشة تفريق المالكية بين الطاعة والاستئذان بأنه تفريق غير ظاهر، إذ إن النصوص جاءت مقررة لطاعة الأمراء مطلقاً، ولم تقيد الطاعة بوصف العدالة، ولم تفرق بين فعل الجهاد مع الفساق وفعله مع العدول الصالحين .
وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد فيه ضعف أنه قال:"الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً"(1).
ويؤيد هذا عمل الصحابة - رضي الله عنهم - في جهادهم وفتوحاتهم بعد عصر النبوة مع بعض الأمراء .
قال الجصاص:"وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق، وغزا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد ... فإن الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك ... ولو رأينا فاسقاً يأمر بمعروف وينهى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك، فكذلك الجهاد، فالله تعالى لم يخص بفرض الجهاد العدول دون الفساق، فإذا كان الفرض عليهم واحداً لم يختلف حكم الجهاد مع العدول، ومع الفساق"(2).
قال ابن قدامة:"ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد، وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم، وظهور كلمة الكفر، وفيه فساد عظيم ... فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول، يغزى معه، إنما ذلك في نفسه"(3).
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم (2533) من حديث أبي هريرة، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2673) .
(2) أحكام القرآن للجصاص 3/175
(3) المغني 9/165(1/73)
وإذا كان الشارع قد شرع الجهاد مع العدل والفاسق ؛ فالأصل اشتراكهما في الحقوق من وجوب الطاعة والاستئذان، لأن عموم الفسق لا يكون سبباً مجرداً لسقوط الطاعة والإذن، لكن يبقى النظر في الفسق الذي ينافي مقاصد الجهاد أو يعود على فريضة الجهاد بالنقض، كأن يعلم من حال الأمير محاربة الجهاد، أو تعطيله، أو عزوفه عنه لا لمصلحة المسلمين بل لانغماسه في الدنيا، فقد نص غير واحد من فقهاء الشافعية على عدم اعتبار إذنه في هذه الحالة، فقالوا:"إن كانت المصلحة في الغزو، لكن تركه الإمام وجنده بإقبالهم على الدنيا، أو امتنع من الإذن فيه، أو كان انتظار الإذن يفوت مقصوداً لم يكره بغير إذنه"(1).
وعبر بعضهم بقوله:"أو غلب على الظن أنه إن استؤذن لم يأذن"(2).
وفي هذه الحالة يتوجه عدم اعتبار إذن الإمام، لأن من مقاصد الشارع من الجهاد حماية الأمة وإعزاز الدين وكسر شوكة الكافرين، فإذا عاد الاستئذان على هذه الأمور بالنقض علمنا أنه غير معتبر شرعاً .
ومع وجاهة هذا الرأي، فإنه لا بد من التأكيد على الرجوع إلى أهل العلم الموثوقين في تقرير حال الإمام، وعدم الانسياق وراء اجتهادات أو أهواء أفراد الناس، درءاً للمفاسد التي قد تنجم من التوسع في هذا الأمر، والله أعلم .
3)عدم وجود الإمام:
من الأمور التي قد تعرض للأمة في بعض الأزمنة أن لا يوجد إمام عام يلي أمر الأمة ويقوم بالجهاد . وإذا وقع ذلك فإنه لا يجوز تعطيل فريضة الجهاد بسبب عدم وجود الإمام .
قال ابن قدامة:"فإن عدم الإمام، لم يؤخر الجهاد ; لأن مصلحته تفوت بتأخيره . وإن حصلت غنيمة، قسمها أهلها على موجب الشرع"(3).
ومن الأدلة على هذا:
1)قصة أبي بصير التي تقدم ذكرها .(4)
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة 4/218
(2) أسنى المطالب 1/188
(3) المغني 9/167
(4) تقدمت القصة ص: 73 من هذا البحث(1/74)
وجه الاستدلال: أن أبا بصير - رضي الله عنه - باشر الجهاد وقتل أحد الرجلين الذين تسلماه، وكان هذا دون إذن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إن أبا بصير حينئذ لم يكن تحت حكم إمام، ومع هذا فقد أقره - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من قبيل جهاد الدفع .
وأما جهاد الطلب فيستدل له بفعل أبي بصير وأصحابه في إغارتهم على قوافل قريش .
2)أن الحكم بوجوب استئذان الإمام والرجوع إليه إنما يتعلق بإمام موجود، لأنه كما ذكر الفقهاء أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقربهم وبعدهم .(1)
أما وقد عدم الإمام، فإن انتفاء هذه المصالح لا يصح أن يكون سبباً لتعطيل فرض الجهاد أو تأخيره، لأن الجهاد كما ذكر ابن قدامة"مصلحته تفوت بتأخيره"(2).
وعلى هذا فمصلحة الأمة في حال عدم الإمام أن تقوم بفريضة الجهاد مع أمراء الجهاد، مع وجوب المسارعة إلى إقامة الإمام العام، وقد يكون في قيام الأمة بالجهاد قطعٌ لأطماع أعدائها المتربصين بها، وعونٌ على اجتماع الأمة وإقامة الإمامة، والله أعلم .
ثانياً ) إذن الإمام في جهاد الدفع :
إذا هجم العدو على بلاد المسلمين، وجب على كل قادر أن يدفع عن أرضه وعرضه ودينه بما يستطيع، وعلى هذا يسقط إذن كل من يلزم استئذانه في فرض الكفاية كالوالدين، وصاحب الدين، والسيد بالنسبة للعبد .
قال ابن تيمية:"وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان"(3).
أما فيما يتعلق بإذن الإمام فإن هذه الحالة لا تخلو من احتمالين:
أ - أن يتعذر استئذان الإمام حال هجوم العدو:
__________
(1) المغني 9/176
(2) المصدر السابق 9/167
(3) الفتاوى الكبرى 5/538(1/75)
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى عدم اشتراط إذن الإمام إذا فاجأ العدو المسلمين في بلادهم، وتعذر استئذانه .(1)
ومن الأدلة على ذلك:
1)قصة سلمة بن الأكوع في الحديث المتقدم، وفيها أنه قال:" ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع … واليوم يوم الرضَّع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا ... الحديث".(2)
وجه الاستدلال: يظهر لي أن سلمة بن الأكوع باشر القتال ورمى العدو بالنبال، دون إذن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحال كان جهاد دفع، والظاهر أنه لم يكن بإمكانه استئذان - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا التحرك السريع لمواجهة العدو الداهم، ومع هذا فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمة على فعله وأثنى عليه .
2)المعقول، وبيانه: أن الجهاد في حالة الدفع يعد حينئذ من باب دفع الصائل الذي يفسد الدين والدنيا، وما كان من هذا الباب فهو من الفروض العينية التي لا تفتقر إلى إذن .(3)
ب - أن يمكن استئذان الإمام حال هجوم العدو:
ففي هذه الحالة يجب الرجوع إلى الإمام، لأن الجهاد موكول إلى الإمام، وهو المعني أولاً بالدفاع عن البلاد، وترتيب أعمال الدفع والمقاومة حتى تتحقق الغاية منها بطرد العدو .
قال مالك في العدو ينزل بساحل المسلمين أيقاتلون بغير إذن الإمام ؟ قال: إن قرب منهم استأذنوه، وإن بَعُد فليقاتلوهم ولا يتركوهم حتى ينفر إليهم"(4).
__________
(1) حاشية رد المحتار 4/127، مواهب الجليل 3/349، مغني المحتاج 6/22، الإنصاف 4/151
(2) تقدم ص: 78 من هذا البحث
(3) الفتاوى الكبرى 5/538
(4) النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات 3/27(1/76)
وقال ابن قدامة:"وواجب على الناس إذا جاء العدو، أن ينفروا ; المقل منهم، والمكثر، ولا يخرجوا إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، فلا يمكنهم أن يستأذنوه ... ولا يجوز لأحد التخلف، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال"(1).
ويتأكد هذا الأمر في حال قوة العدو وعظم شوكته .
قال في مغني المحتاج:"لا تتسارع الطوائف والآحاد منا إلى دفع مَلِكٍ منهم عظيمٌ شوكتُه دخل أطراف بلادنا لما فيه من عظم الخطر"(2).
ومن الأدلة على وجوب استئذان الإمام في حال الإمكان:
عموم الأدلة المتقدمة في حكم استئذان الإمام، والتي تفيد بأن الأصل وجوب استئذان الإمام في أمور الجهاد .
ويضاف إلى عموم الأدلة، من المعقول: أن أمر الحرب موكول إلى الإمام، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين .(3)
وإذا كان مناط الحكم في هذه الحالة هو دفع الصائل والحيطة للمسلمين، فإنه متى ما امتنع الإمام أو منع الناس من مدافعة العدو لا لمصلحة الجهاد بل تخاذلاً أو جزعاً فإنه يسقط استئذانه، وعلى كل قادر أن يقوم بواجب الدفع قدر الإمكان، لتعين دفع العدو، ولأن هذا هو الأحوط للمسلمين .
جاء في شرح السير الكبير:"وإن نهى الإمام الناس عن الغزو والخروج للقتال فليس ينبغي لهم أن يعصوه إلا أن يكون النفير عاماً . لأن طاعة الأمير فيما ليس فيه ارتكاب المعصية واجب، كطاعة السيد على عبده، فكما أن هناك بعد نهي المولى لا يخرج إلا إذا كان النفير عاماً فكذلك ها هنا"(4).
__________
(1) المغني 9/174
(2) مغني المحتاج 6/24
(3) المغني 9/174
(4) شرح السير الكبير 4/1457(1/77)
قال ابن حبيب(1):"سمعت أهل العلم يقولون إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت مخالفته إلا أن يزحمهم العدو"(2).
وقال ابن رشد:"طاعة الإمام لازمة، وإن كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية ومن المعصية النهي عن الجهاد المتعين"(3).
وبهذا ينتهي الفصل التمهيدي، والذي بينت فيه شيئاً من أحكام الجهاد، ومنه انتقل إلى الفصل الأول في أحكام الأعمال الفدائية باعتبار صورها، وبالله التوفيق .
الأول الفصل
( أَحْكَامُ الأعمال الفِدَائِيَّةِ بِاعْتِبَارِ صُوَرِهَا )
وفيه أربعة مباحث:…
المبحث الأول: ماهية الأعمال الفدائية وتاريخها وواقعها المعاصر
المبحث الثاني: الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه
المبحث الثالث: الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده
المبحث الرابع: دور المرأة في الأعمال الفدائية وحكم قيامها بها
المبحث الأول: ماهية الأعمال الفدائية وتاريخها وواقعها المعاصر
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الأعمال الفدائية لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: نشأة الأعمال الفدائية وتطورها
المطلب الثالث: واقع الأعمال الفدائية المعاصر
المطلب الرابع: أثر الأعمال الفدائية في النكاية بالأعداء
المبحث الأول: ماهية الأعمال الفدائية وتاريخها وواقعها المعاصر
المطلب الأول: تعريف الأعمال الفدائية لغة واصطلاحاً
تعريف الأعمال الفدائية في اللغة:…
هذا المصطلح يتكون من كلمتين ( الأعمال ) و ( الفدائية ) .
1- ( الأعمال ):
__________
(1) ابن حبيب: أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي القرطبي، عالم الأندلس وفقيهها في عصره، كان عالماً بالتاريخ والأدب رأساً في فقه المالكية، ومن مصنفاته: تفسير موطأ مالك، حروب الإسلام، وغيرها، ت:238هـ . طبقات الفقهاء 1/164، الديباج المذهب 1/154، الأعلام 4/157
(2) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 1/392
(3) المصدر السابق(1/78)
الأعمال جمع عمل، والعمل يطلق بإزاء"المهنة والفعل"(1).
جاء في معجم مقاييس اللغة:"العين والميم واللام أصل واحد صحيح وهو عام في كل فعل يفعل"(2).
وهذه الكلمة جنس في التعريف لا يحتاج إلى كثير بيان، فكل فعل يفعله الإنسان داخل في جنس العمل، وإنما يظهر معناه الخاص بمعرفة ما أضيف إليه من أنواع العمل .
وقد اخترت هذه الصيغة (أعمال) دون صيغة (عمليات) كما هو مشهور، لأن صيغة (عمليات) محدثة من حيث اللغة كما سيأتي بيانه، فالتعبير بصيغة (أعمال) أولى، ولاسيما أن المعنى قريب .
2- ( الفدائية ):
الفدائية في اللغة وصف، وهي من الفداء والمفاداة .
جاء في معجم مقاييس اللغة:"الفاء والدال والحرف المعتل كلمتان متباينتان جداً فالأولى أن يُجعل شئ مكان شئ حمىً له، والأخرى شئ من الطعام .
فالأولى قولك: فَدَيتُهُ أَفْدِيه كأنك تحميه بنفسك أو بشئ يعوض عنه .
يقولون: هو فِداؤك إذا كسرت مددت، وإذا فتحت قصرت يقال: هو فَدَاك . قال:
…فَدىً لكما رِجلَيَّ أمي وخالتي ……غداة الكُلاب إذ تخر الدوابرُ (3)
وقال في الممدود:
…مهلاً فداءً ٌلك الأقوام كلهم……وما أُثَمِّرُ من مال ومن ولد (4)"(5)
وفي لسان العرب:"فديتُه فَدىً وفداءً، و افتديته ...وإنه حسن الفِدية، و المفاداةُ: أن تدفع رجلاً وتأخذ رجلاً، والفِداء: أن تشتريه"(6)
__________
(1) ينظر: مادة (عَمِل) في لسان العرب 11/475 والقاموس المحيط 1/339
(2) معجم مقاييس اللغة 4/145مادة (عَمِل)
(3) البيت لوعلة بن عبد الله الجرمي كما في لسان العرب 4/269 مادة (دَبَرَ)، الأغاني 16/364
(4) البيت للنابغة الذبياني كما في لسان العرب 15/ 151 مادة (فَدَى)، الأغاني 11/39
(5) معجم مقاييس اللغة 4/483 مادة (فَدَى)
(6) لسان العرب 15/149 مادة (فَدَى)(1/79)
ويقال:"فدَاه بنفسه و فدَّاه إذا قال له: جُعِلتُ فَداك ... وقوله عز وجل { و فديناه بذِبْح عظيم } أي: جعلنا الذبح فداءً له وخلصناه به من الذبح"(1).
وفي المصباح المنير:"تفادى القوم اتقى بعضهم ببعض كأن كل واحد يجعل صاحبه فداه، و فدت المرأة نفسها من زوجها تَفْدي وافتدت: أعطته مالاً حتى تخلصت منه بالطلاق"(2).
والحاصل من هذه النقول أن معنى الفدائية في اللغة إجمالاً: التضحية بشئ في مقابل تحصيل شئ آخر أو استبقائه .
تعريف الأعمال الفدائية في الاصطلاح:
عرف أهل الاصطلاح هذه الأعمال بعدة تعريفات تبعاً لاختلاف تخصصاتهم العلمية، وفيما يلي أذكر بعض التعريفات في الاصطلاح العسكري (الحربي)، والاصطلاح الشرعي .
1- الأعمال الفدائية في الاصطلاح العسكري (الحربي):
تعدّ الأعمال الفدائية في الغالب جزءاً من حرب العصابات، وهي:"عمليات عسكرية وشبه عسكرية، تدار في منطقة يحتلها العدو، أو في منطقة العدو من قبل القوات غير النظامية والسكان"(3).
وتهدف حرب العصابات إلى إضعاف الكفاءة والطاقة الصناعية، والروح المعنوية للعدو .(4)
ويعرف العسكريون الأعمال الفدائية بأنها: غارات تدار بالقوة، بقوات عسكرية مدربة تدريباً خاصاً تجاه الأهداف الكائنة في منطقة العدو .(5)
وجاء في الموسوعة العربية العالمية: "الفدائي: مصطلح معروف يطلق على الجندي المغوار الذي يعد إعداداً خاصاً ليقوم بعمليات خاصة من الكر والفر والإغارات الخاطفة"(6).
ويطلق على القوات التي تقوم بهذه الأعمال : قوات الكوماندوز أو الصاعقة .(7)
__________
(1) لسان العرب 15/150 مادة (فَدَى)، والآية في [ الصافات: 107]
(2) المصباح المنير 2/465 مادة (فَدَى)
(3) معجم المصطلحات العسكرية ص:76
(4) مصطلحات عسكرية ص:31
(5) قاموس المصطلحات العسكرية ص: 352، ونحوه في : مصطلحات عسكرية ص:50
(6) الموسوعة العربية العالمية 17/241
(7) مصطلحات عسكرية ص:50(1/80)
2- الأعمال الفدائية في الاصطلاح الشرعي:
عرّف العلماء والباحثون المعاصرون هذه الأعمال بعدة تعريفات، أذكر طرفاً منها .
التعريف الأول: هي"الأعمال الجهادية التي يقدم عليها فاعلها طلباً للشهادة، ورغبة فيها"(1).
التعريف الثاني: هي"قيام جماعات منظمة بالعمل ضد أفراد العدو، لإلحاق الضرر بجيشه واقتصاده ونفسيته"(2).
التعريف الثالث: هي"أن يلقي المرء بنفسه في مكانٍ خطيرٍ لا يتوقع الخروج منه، ولا يأمل بالنجاة منه، في سبيل نصرة المسلمين، أو إنقاذهم من مهلكة محتملةٍ، أو التخفيف عنهم من أذىً يُصيبهم بإرهاب العدو وإخافته، يبتغي من ذلك الشهادة ويطلب الآخرة"(3).
التعريف الرابع: هي"أعمال يقوم بها المجاهد ضدَّ العدو تُعَرِّضه للقتل"(4).
ويلاحظ على التعريفات المتقدمة ما يلي:
1-أن التعريفين الأولين غير مانعين، إذ قد يدخل فيهما أعمال ليست من قبيل المخاطرة والتضحية، ومن شروط التعريف أن يكون جامعاً مانعاً .
2-التعريف الثاني فيه قصور، لأنه يحصر هذه الأعمال في العمل الجماعي، والواقع أن كثيراً من هذه الأعمال يتم تنفيذه بصوره فردية .
3-التعريف الثالث فيه إسهاب في الوصف، وتكرار لبعض العبارات .
4-يعد التعريف الرابع - على وجازته - تعريفاً جيداً، لكونه يعرّف الأعمال الفدائية بنوع خاص من أعمال الجهاد، وهو ما كان فيه تعريض النفس للقتل، وهذا القيد يخرج غيره من أعمال الجهاد .
لكن هذا التعريف يحتاج إلى تقييد، لأن الفداء كما تقدم في التعريف اللغوي: التضحية بشئ في مقابل شئ آخر .
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:22
(2) الجهاد في الإسلام: توفيق علي وهبة ص:99
(3) الجهاد في سبيل الله: محمود شاكر ص:127
(4) العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها ص:11-12(1/81)
ثم إن مجرد تعريض المجاهد نفسه للقتل لا يكفي، لأنه ليس مقصوداً لذاته على الصحيح - وهو قول جمهور العلماء(1)- وإنما يراد منه ما يقابله من إلحاق نكاية بالعدو أو تحقيق مصلحة للمسلمين، فليس كل مجاهد يعرض نفسه للقتل يكون عمله صحيحاً مشروعاً .
التعريف المختار:
ما يهمنا في هذا البحث هو الاصطلاح الشرعي لهذه الأعمال الفدائية .
وبالنظر في اللفظين اللذين يتركب منهما هذا الاصطلاح أولاً، واستقراء صور هذه الأعمال ثانياً، يمكن تعريف الأعمال الفدائية بأنها:
( أعمال يُعَرِّض فيها المجاهد المتَخَفِّي - غالباً - نفسَه للقتل، لإلحاق نكاية بالعدو أو تحقيق مصلحة، طلباً للشهادة )
وبيان هذا التعريف، كما يلي:
-(أعمال يعرض فيها المجاهد المتَخَفِّي - غالباً - نفسه للقتل ): المراد بتعريض النفس للقتل في التعريف العموم، سواء كان ذلك القتل بسبب فعل من المجاهد، أو بسبب فعل من عدوه .
أما التعبير بالتخفي فهو في الغالب سمة لهذه الأعمال التي يفاجئ فيها المجاهد الخصم .
-(لإلحاق نكاية بالعدو): يفيد أن المخاطرة بالنفس ليست مقصودة لذاتها، بل لا بد من وجود عوض يفادي المجاهد لأجله في مقابل إزهاق روحه، كإلحاق النكاية بالعدو، بحيث تكون مصلحة النكاية بالعدو مقدمة على مفسدة إزهاق الروح .
__________
(1) يرى جمهور أهل العلم اشتراط النكاية بالعدو لجواز قيام المجاهد ما يغلب على الظن الهلاك به: المبسوط 10/ 76، شرح السير الكبير 4/1512، شرح الخرشي على خليل 3 /120- 121، أسنى المطالب 4/192، قواعد الأحكام 1 / 111ـ 112، الفروع 6/202، مجموع الفتاوى 25/279
بينما يرى بعض المالكية أن التغرير بالنفس طلباً للشهادة جائز، وإن لم يترتب عليه نكاية بالعدو . الذخيرة 3/410 ونقله ابن العربي في أحكام القرآن 1/166، والقرطبي في تفسيره 2/ 363(1/82)
-(أو تحقيق مصلحة): وذلك أنه لا يكفي في التعريف التعبير عما يفادي المجاهد لأجله بنكاية العدو فقط، نظراً لأن بعض صور الأعمال الفدائية لا يظهر فيها بوضوح إلحاق نكاية بالعدو، كما في صورة قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين وأسرارهم، وكما في صورة تعريض نفسه للهلاك إيثاراً لحياة غيره .
ولهذا أضيفت هذه العبارة إلى التعريف ليشمل مثل هذه الصور .
-(طلباً للشهادة): هذا القيد فيه اشتراط استحضار النية حال الإقدام على مثل هذه الأعمال، فالمجاهد إنما يبذل روحه ابتغاء الشهادة في سبيل الله، وطمعاً فيما عنده من الثواب .
بيان بعض المصطلحات المعاصرة الأخرى : ( العمليات الاستشهادية أو الانتحارية )
يطلق عامة الباحثين المعاصرين على هذه الأعمال مسمى (العمليات)، ثم إنهم يختلفون في وصفها، فبعضهم يصفها بالاستشهادية إيذاناً بنية منفذيها ومشروعيتها، بينما يصفها آخرون بالانتحارية إيذاناً بمنعها لاشتمالها على قتل النفس .
وقد وجد من أهل العلم المعاصرين من يطلق وصف الانتحار على هذه العمليات مطلقاً سواء قيل بمشروعيتها أو عدمه، كما سيأتي بيانه في موضعه .
أما لفظ ( العمليات ) في المصطلحات المعاصرة فهو: جمع عملية .
وهذا اللفظ (عملية) بهذه الصيغة لفظ محدث، لم أجد له أصلاً في معاجم اللغة المتقدمة، أما معناه فهو ظاهر، لأنه مشتق من العمل كما تقدم .
وقد جاء في المعجم الوسيط تعريف العملية بأنها:"كلمة محدثة تطلق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصاً، يقال عملية جراحية أو حربية أو مالية"(1)
__________
(1) المعجم الوسيط ص:628 مادة (عَمِل)(1/83)
وجاء في موسوعة السياسة أن كلمة (عملية ): تعبير مستعار من العلوم الفيزيائية للإشارة إلى ظاهرة تفاعلية معينة . وهي: جملة الأعمال التي تؤدي إلى إحداث أثر معين في قطاع محدد وذلك بواسطة استخدام الأدوات والآلات أو بصورة ذاتية مستقلة، فيقال العمليات العسكرية والجراحية ..... إلخ .(1)
ويرى بعض العلماء أن هذه الصيغة مصدر صناعي - وهو قياسي - ويطلق على كل لفظ (جامد أو مشتق، اسم أو غير اسم) زيد في آخره حرفان هما ياء مشددة بعدها تاء تأنيث مربوطة، ليصير بعد زيادة الحرفين اسماً دالاً على معنى مجرد، لم يكن يدل عليه قبل الزيادة، وهذا المعنى المجرد الجديد هو مجموعة من الصفات الخاصة بذلك اللفظ، كإنسان وإنسانية وحزب وحزبية وحجة وحجية, وعمل وعملية .(2)
فالعملية على هذا القول فيها معنى زائد على العمل يدل على مجموعة من الصفات الخاصة المكتسبة تحول اللفظ إلى مصدر صناعي .
وعلى كل حال .. ما دام أن اللفظين متقاربان في المعنى وغير مختلفين فإن استعمال اللفظ المعروف عند أهل العلم واللغة (الأعمال) أولى من استخدام هذا اللفظ المحدث (العمليات) .
وأما لفظ (الاستشهادية): فهو وصف من الاستشهاد، والاستشهاد في اللغة: مصدر من استَشْهَد فلان فلاناً أي:"سأله أن يشهد"(3) أو"سأله الشهادة"(4).
"والشهيد المقتول في سبيل الله ... والاسم الشهادة، و استُشْهِد: قُتِل شهيداً، وتَشَهَّد: طلب الشهادة"(5).
وفي مختار الصحاح:"وقد اسْتُشْهِدَ فلان، على ما لم يسم فاعله"(6)
__________
(1) موسوعة السياسة 4/245
(2) النحو الوافي لعباس حسن 3/186
(3) القاموس المحيط 1 / 372 مادة (شَهِد)
(4) لسان العرب 3 / 239 مادة (شَهِد)
(5) لسان العرب 3/242 مادة (شَهِد)، وينظر أيضاً: مادة (شَهِد) في القاموس المحيط 1/373، والمصباح المنير 1/324
(6) مختار الصحاح 1/147 مادة (شَهِد)(1/84)
وفي تاج العروس:"استَشْهَده: سأله الشهادة ... وتشهَّد: طلب الشهادة"(1).
وبهذا يتبين أن الاستشهاد المراد في هذا البحث هو المصدر المشتق من استُشهِد ( المبني للمجهول )، وليس استَشهَد ( المبني للمعلوم )، لأن بينهما فرقاً في المعنى كما تقدم، ولم أقف - على حد علمي - على صحة إطلاق الاستشهاد على من يطلب الشهادة في سبيل الله .
وقد يبدو ههنا سؤال، وهو: لماذا لم أختر لفظ (العمليات الاستشهادية) عنواناً لهذا البحث ؟
بعد التفكير والتمحيص رأيت أن مصطلح (الأعمال الفدائية) أنسب من (العمليات الاستشهادية)، وذلك لما يلي:
1- الالتزام بالموضوعية العلمية وتفادي الانحياز في العنوان واستباق النتائج قبل عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم في هذا الموضوع .
فإن وصف هذه الأعمال بالاستشهادية يفيد مشروعيتها، واعتبار فاعلها شهيداً، لأن هذا الوصف مأخوذ من ( استُشهِد ) المبني للمجهول أي قتل شهيداً .
أما وصف هذه الأعمال بالفدائية فإنه يعبر عن حقيقتها وواقعها دون التعرض لحكمها الشرعي، إذ هي في جميع الأحوال مفاداة بالنفس، سواء قيل بمشروعيتها أو منعها .
2- وجود أكثر من كتاب ودراسة بهذا العنوان، كما تقدمت الإشارة إليه في المقدمة .
3- أن الفقهاء مختلفون فيما يسمى به من مات في الجهاد شهيداً، ومن ثم اختلفت تعريفاتهم للشهيد، ولعلي أسوق فيما يلي بعض تعريفاتهم للشهيد:
فالشهيد عند الحنفية:"من قتله المشركون، أو وجد في المعركة وبه أثر، أو قتله المسلمون ظلماً ولم يجب بقتله دية"(2).
وهو عند المالكية:"من قتل في سبيل الله في جهاد الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى"(3).
وهو عند الشافعية:"من مات في قتال الكفار بسببه أي القتال"(4).
وهو عند الحنابلة:"من مات بسبب القتال مع الكفار وقت قيام القتال"(5)
__________
(1) تاج العروس 8/253، 261 مادة (شَهِدَ)
(2) العناية شرح الهداية 2/141
(3) حاشية العدوي 1/103
(4) تحفة المحتاج 3/164
(5) كشاف القناع 2/100
من المناسب هنا ذكر ما قاله النووي في المجموع 5/225:"واعلم أن الشهداء ثلاثة أقسام:
أحدها: شهيد في حكم الدنيا، وهو ترك الغسل والصلاة [أي ترك تغسيله والصلاة عليه]، وفي حكم الآخرة بمعنى أن له ثواباً خاصاً، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذا هو الذي مات بسبب من أسباب قتال الكفار قبل انقضاء الحرب وسبق تفصيله .
والثاني: شهيد في الآخرة دون الدنيا، وهو المبطون والمطعون والغريق وأشباههم .
والثالث: شهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وقد غل من الغنيمة، أو قُتِل مدبراً، أو قاتل رياءً، ونحوه فله حكم الشهداء في الدنيا دون الآخرة .
والدليل للقسم الثاني أن عمر وعثمان وعلياً - رضي الله عنهم - غُسِلوا وصُلِّي عليهم بالاتفاق، واتفقوا على أنهم شهداء والله أعلم" المجموع 5/225(1/85)
.
وأما لفظ (الانتحارية) فهو وصف من الانتحار، وهو في اللغة مأخوذ من النحر، وهو أعلى الصدر . وانتحر: قتل نفسه .(1)
وعلى الرغم من وجود لفظ ( الانتحار ) في معاجم اللغة، وشهرته في الأزمنة المتأخرة، إلا أن الفقهاء المتقدمين لم يكونوا يستعملون هذا اللفظ، بل كانوا يطلقون على هذا الفعل: (قتل الإنسان نفسه ) .
جاء في الموسوعة الفقهية في لفظ (انتحار):"ولم يستعمله الفقهاء بهذا المعنى . لكنهم عبروا عنه بقتل الإنسان نفسه ... ويطلق الانتحار على قتل الإنسان نفسه بأي وسيلة كانت . ولهذا ذكروا أحكامه باسم (قتل الشخص نفسه)"(2)
وأنبه هنا إلى أنه لا يصح أن يفهم من هذا الكلام أن مصطلح الانتحار حادث غير وارد في النصوص . بل هو مصطلح قديم، وكان مستعملاً في زمن النبوة، ويدل على هذا ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه . فقال: قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر"(3).
المطلب الثاني: نشأة الأعمال الفدائية وتطورها
الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله . فالحرب أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل .(4)
__________
(1) لسان العرب 5/197 مادة (نحر)، القاموس المحيط 1/617 مادة (نحر)
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية 6/281
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم ( 3967 )، ومسلم في كتاب الإيمان برقم ( 111 )
(4) مقدمة ابن خلدون 1/271(1/86)
ومن المعلوم أن معنى الفدائية والتضحية في الحروب قديم، إذ هما من مقتضيات الصراع والمقاومة، فالمقاتل فرداً كان أو جماعة يدرك أنه لا بد من وجود نوع من التضحية وإقحام النفس في المهالك حتى يتحقق له النصر على عدوه .
وبإزاء هذا المعنى العام للتضحية في الحروب، برز معنى خاص يتمثل في أعمال خاصة تزداد فيها درجة مخاطرة المقاتل بنفسه، بحيث يغلب على الظن هلاكه عادة بسبب هذه الأعمال، لتحقيق أهداف معينة . وهذا المعنى من الفدائية هو المراد في بحثنا هذا .
وكانت هذه الأعمال - في نشأتها - تتمثل في صور من القتال الفدائي المحفوف بالمخاطر، كاقتحام صفوف العدو، أو الدخول إلى مواقعه الخطرة المهمة، أو خطف أو اغتيال بعض قادة العدو، ونحو هذه الأعمال التي يجمعها تعريض النفس للأسباب المفضية للقتل في الغالب .
ومع تطور وسائل الحرب في العصور المتأخرة ظهر نمط جديد من الأعمال الفدائية، يتمثل في مباشرة المقاتل التضحية بنفسه، بغية تحقيق النكاية بالعدو .
وهذا النوع من الأعمال لم يكن ليظهر لولا اكتشاف المواد المتفجرة وتقدم تقنيتها في هذا العصر، والتي من شأنها توسيع دائرة التأثير والتدمير لتحقيق النكاية بالعدو .(1)
ومما أسهم في انتشار الأعمال الفدائية في العصور المتأخرة، تبني الشعوب المضطهدة لهذه الأعمال كشكل من أشكال الحروب غير النظامية في الصراعات الأهلية أو الحروب ضد الاستعمار .(2) ومن هذه الحروب ما يلي:
1)الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865م): (3)
__________
(1) الإرهاب والعمليات الاستشهادية: سلمان العودة . مقال بمجلة الدعوة في عددها الصادر في 12/2/1423هـ
(2) الحرب الفدائية في فلسطين على ضوء تجارب الشعوب في قتال العصابات ص:18
(3) ينظر: موجز تاريخ الولايات المتحدة ص:253، تاريخ أوربا الحديث والمعاصر ص:234، التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر ص:441، تاريخ الأمريكتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الامريكية ص:139(1/87)
اندلعت هذه الحرب بين الحكومة الاتحادية للولايات المتحدة وإحدى عشرة ولاية في الجنوب . وفرقت الحرب بين الشمال والجنوب الانفصالي بسبب الرق وحقوق الولايات .
وشهدت هذه الحرب العديد من الأعمال الفدائية ضمن حرب العصابات التي كان يقوم بها الجنوبيون الانفصاليون الذين كانوا يعانون من القهر وهضم الحقوق، إلا أن الشماليين تمكنوا من الانتصار عليهم في هذه الحرب .
2)حرب البوير (1899- 1902م): (1)
يطلق مسمى حرب البوير على حربين خاضتهما القوات البريطانية في جنوب أفريقيا . الأولى ضد الترنسفال، والثانية ضد الترنسفالر والولاية البرتغالية الحرة، وهي واحدة من أولى الحروب المناهضة للاستعمار البريطاني .
والبوير مصطلح يطلق على المستوطنين الهولنديين الذين كانوا يعرفون باسم البويرز، أي المزارعين .
وعلى الرغم من الأعمال الفدائية والتضحية التي قام بها البوير إلا أنهم في أواخر الحرب استسلموا، وعادت دولهم إلى مستعمرات بريطانيا .
3)الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م): (2)
__________
(1) ينظر: تاريخ جنوب أفريقيا ص:185، تاريخ أوربا في العصر الحديث ص:405
(2) ينظر: تاريخ أوربة المعاصر ص:309 وما بعدها، تاريخ أوربا في العصر الحديث ص: 688 وما بعدها، الحرب العالمية الثانية لرمضان لاوند ص:206 وما بعدها، الحرب العالمية الثانية لسهيل سماحة وأنطوان محمود ص:274 وما بعدها، 2194يوماً من أيام الحرب العالمية الثانية 1/199(1/88)
شهدت الحرب العالمية الثانية واحداً من أبرز التطورات النوعية للأعمال الفدائية، وهو الأسلوب الانتحاري بتفجير الطائرات، حينما حوّل الطيارون اليابانيون طائراتهم وأنفسهم إلى قنابل بشرية وانقضوا بها على الأسطول الأمريكي الذي كان يجثم في ميناء (بيرل هاربر)(1) مما أدى إلى إعلان الولايات المتحدة الحرب على اليابان، وإلقاء القنبلتين النوويتين على (هيروشيما) و (ناجازاكي) .
والذي يبدو مما ذكره أكثر المؤرخون عن هذه الحرب أن هذا الأسلوب الجديد لم يكن مخططاً له سلفاً في الهجوم الياباني، بل كان سبب ظهوره هو إصابة طائرتين من طائرات المقاتلات اليابانية أثناء الهجوم، فلجأ قائدا الطائرتين إلى هذا الأسلوب وقاما بالانقضاض على حظائر الطائرات الأمريكية الرابضة على الأرض، والاصطدام بها بطريقة انتحارية، ليسجلا بذلك أول عمل انتحاري ينفذ بهذا الأسلوب، بينما عادت بقية المقاتلات اليابانية إلى مواقعها حسب الخطة .(2)
4)حرب فيتنام (1959-1975م): (3)
بدأت هذه الحرب بقيام الولايات المتحدة بقصف شمالي فيتنام عام 1964م، ثم أرسلت قوات إلى جنوبي فيتنام في العام التالي . وفي يناير 1973م عقد اتفاق لوقف إطلاق النار في باريس لينهي دور الولايات المتحدة القتالي . وفي ابريل 1985م استولت قوات شمالي فيتنام على سايجون عاصمة الجنوب لتنتهي الحرب وتتوحد الدولة .
__________
(1) بيرل هاربر): ميناء عسكري أمريكي يقع في جزر هاواي الواقعة في المحيط الهادي . الحرب العالمية الثانية لسهيل سماحة وأنطوان مسعود ص:274
(2) الموسوعة السياسية والعسكرية 4/1470
(3) ينظر في حرب فيتنام: الموسوعة السياسية والعسكرية 4/1838، التجربة العسكرية الفيتنامية ص:212 وما بعدها، فيتنام قصة حرب العصابات، جرائم الحرب في فيتنام، فيتنام المسائل العسكرية الراهنة(1/89)
وقد أنهك الفيتناميون الأمريكيين بحرب العصابات التي كان من أبرز ما استخدم فيها الأعمال الفدائية، وكان لهذه الأعمال دور كبير في إنهاء الوجود الأمريكي في فيتنام .
وقد تضمنت هذه الأعمال أعمالاً اقتحامية ومغامرات خطيرة كبّدت القوات الأمريكية خسائر فادحة . ومنها على سبيل المثال:(1)
- سلسلة من الهجمات الاقتحامية المباغتة على القواعد والمطارات الأمريكية .
- اقتحام المواقع الأمريكية المحصنة في (شالا)، مما أسفر عن مقتل ثلاثمائة جندي .
- مهاجمة واقتحام معسكر التدريب في (هيب هوا)، مما أسفر عن مقتل مائة جندي .
كيف انتقلت الأعمال الفدائية إلى البلاد الإسلامية ؟
من المهم تاريخياً - ونحن نتحدث عن نشأة وتطور الأعمال الفدائية - أن نتعرف على كيفية انتقال هذه الأعمال بصورتها المعاصرة المتطورة إلى البلاد الإسلامية، وتحولها إلى أسلوب جديد من أساليب الجهاد في سبيل الله في هذا العصر، ولا سيما في الأراضي المحتلة .
أولاً) بدأ ظهور الأعمال الفدائية في فلسطين بعد الاحتلال اليهودي للأراضي الفلسطينية في القرن الهجري المنصرم، وذلك ضمن أعمال المقاومة الشعبية ضد الاحتلال .
جاء في الموسوعة الفلسطينية:"كان عام 1955م في تاريخ قضية فلسطين هاماً ... شهد قطاع غزة في العام نفسه حدثين هامين: الغارة الإسرائيلية على القطاع يوم 28/2/1955م، والانتفاضة الشعبية يوم 1/3/1955م ... في قطاع غزة باعتباره كان خاضعاً للإدارة المصرية لم تستطع الحكومة المصرية أن تتراجع عن الالتزامات التي قطعتها على نفسها ... وتدل المعلومات المتوفرة على أن قرار القيادة المصرية ببدء العمل الفدائي المنطلق من غزة قد اتخذ في شهر نيسان 1955م، كان تبني القيادة المصرية للعمل الفدائي تبنياً لعمل موجود قائم"(2).
__________
(1) التجربة العسكرية الفيتنامية ص:214 وما بعدها، و الموسوعة السياسية والعسكرية 5/1869
(2) الموسوعة الفلسطينية 3/393(1/90)
وتقول الموسوعة:"جاء العمل الفدائي من غزة في عامي 1955م و1956م ظاهرة جديدة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وضعت ( إسرائيل ) لأول مرة في موقف حرج لم تستطع أن تخرج منه إلا بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م"(1).
أما من حيث تطور الأعمال الفدائية في فلسطين فقد"تمثلت الأعمال الأولى بعد النكبة في عبور المواطنين الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم ومنازلهم، خطوط الهدنة في اتجاه الأرض المحتلة لاسترجاع ماشية أو مال مخبأ في زاوية من منزل، أو قتل من احتل البيت والأرض، أو لاحتلال مخفر وتجريد عناصره من السلاح .
استمر العمل الفدائي بشكل أكثر تطوراً، فأصبح الفدائيون يُكلَّفون بجلب معلومات معينة عن العدو ونشاطاته وتحركاته، وبدأت هذه الأعمال، بمرور الزمن، تنتظم شيئاً فشيئاً، حاملة طابع الإغارة والكمين والدورية في عمق العدو إلى أن بلغت مرحلة متقدمة أزعجت إسرائيل وأقضت مضجعها .
انقسم نشاط الفدائيين إلى عمليات خاطفة كانت تقوم بها مجموعات صغيرة يومياً، وعمليات أكبر اتساعاً نفذتها عدة مجموعات مقاتلة .
وقد تركزت الضربات في العمليات الفدائية على الأهداف التي تؤثر على العدو من النواحي المعنوية والاقتصادية والعسكرية .. مهاجمة القوافل والدوريات العسكرية، والمستعمرات، والسكك الحديدية، وغير ذلك من الأهداف .
وقد اعترف العدو بوقوع 180 عملية هجوم عليه خلال 3 أشهر فقط، وكانت خسائر الصهيونيين نتيجة العمل الفدائي في العامين 1955 و 1956 أكبر بكثير من خسائرهم في العدوان الثلاثي .
لم تكن أهداف العمل الفدائي تمتد آنذاك إلى أبعد من بث الرعب في نفوس الإسرائيليين من ناحية، ومن إيقاظ الجرأة واستعادة الثقة بالنفس لدى الشعب الفلسطيني بخاصة والعرب بعامة من ناحية أخرى .
__________
(1) المصدر السابق 3/394(1/91)
وقد توقف العمل الفدائي بعد عدوان 1956 واحتلال قطاع غزة، وكان لا بد من الانتظار تسع سنوات طويلة أخرى حتى يستأنف العمل الفدائي من جديد، عبر ولادة المنظمات الفدائية على جبهات أخرى"(1).
ثانياً) انتقلت الأعمال الفدائية إلى لبنان في الثمانينيات الميلادية، وذلك عام 1982م .
ومن أوائل الأعمال الفدائية المشهورة عملية تفجير مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية في صور في 11/11/1982م . ثم انتقلت هذه الأعمال إلى بيروت ضد القوات الأمريكية والفرنسية، حيث كان تفجير السفارة الأمريكية في بيروت 18/4/1983م بواسطة سيارة محملة بالمواد المتفجرة . ثم وقع حادثا تفجير في وقت واحد في 23/10/1983م، أحدهما في مبنى قوات المارينز الأمريكية، والآخر في مبنى القوات الفرنسية، ووقع الحادثان عن طريق سيارتين محملتين بالمتفجرات .(2)
وتوالت الأعمال الفدائية بعد ذلك ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في لبنان .(3)
ثالثاً) خلال العقدين الماضيين، أسهمت انتفاضتا الشعب الفلسطيني في إبراز الأعمال الفدائية، حيث اندلعت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) في الثامن من ديسمبر عام 1987م، ثم كانت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000م، كما هو معروف ومشاهد .
__________
(1) المصدر السابق 3/ 394ـ 395 (باختصار)
(2) دراسة تحليلية في العمليات الاستشهادية في جنوب لبنان ص:25ـ39
ومن العجيب أن إسرائيل هي التي فتحت باب الأعمال الاستشهادية لحركات المقاومة باستخدامها أسلوب السيارات المفخخة في عمليات القتال والاغتيال، فتحول هذا السلاح ضد المصالح الإسرائيلية بواسطة الفدائيين اللبنانيين، والجزاء من جنس العمل . ينظر نفس المرجع ص:15
(3) دراسة تحليلية في العمليات الاستشهادية في جنوب لبنان ص:43وما بعدها(1/92)
وقد لوحظ تبني حركات المقاومة الفلسطينية الأعمال الفدائية ضد المحتل، لأنها أفضل بكثير من المواجهة المباشرة مع عدو مدجج بالأسلحة المتطورة . وأخذت حركات المقاومة على عاتقها تطوير الأعمال الفدائية، والتغلب على كل العقبات والإجراءات التي اتخذها اليهود لمنع هذه الأعمال .
وشهد عام 1993م تطوراً هاماً في العمل العسكري لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس )، بحيث أصبح القساميون الاستشهاديون القادرون على الوصول إلى كل مكان في فلسطين المحتلة -على الرغم من الطوق الأمني والحصار العسكري الذي فرض على الضفة الغربية وقطاع غزة- هم الأشباح المرعبة التي تطارد مسؤولي الأمن والمخابرات وقادة المؤسسة العسكرية الصهيونية قبل المستوطنين أنفسهم .(1)
وفي انتفاضة الأقصى الأخيرة برزت حماس بوصفها الفصيل الأقوى على صعيد الأعمال الفدائية التي وُسِمت بها هذه المرحلة، ولا تزال حتى الآن تسجل أعنف هذه الأعمال وأكثرها قوة مقارنة بالفصائل الأخرى، كما هو مشاهد، ويدل عليه الجدول التالي رقم (1):
…
الجهةڑعدد القتلى من اليهودڑالنسبة
المئويةڑعدد الإصابات من اليهودڑالنسبة
المئويةٹڑ
ڑكتائب عز الدين القسام/ حماسڑ308ڑ47.8%ڑ1877ڑ45.4%ٹڑ
ڑكتائب شهداء الأقصى / فتحڑ110ڑ17.1%ڑ852ڑ20.6%ٹڑ
ڑسرايا القدس/الجهاد الإسلاميڑ47ڑ7.3%ڑ487ڑ11.8%ٹڑ
ڑكتائب أبو علي مصطفى/الجبهة الشعبيةڑ13ڑ2.0%ڑ162ڑ3.9%ٹڑ
ڑكتائب المقاومة الوطنية/الجبهة الديمقراطيةڑ3ڑ0.5%ڑ20ڑ0.5%ٹڑ
ڑلجان المقاومة الشعبية/ ألوية صلاح الدينڑ9ڑ1.4%ڑ11ڑ0.3%ٹڑ
ڑعمليات مشتركة بين فصائل المقاومة (حماس, الجهاد, فتح, الشعبية, الديمقراطية).ڑ7ڑ1.1%ڑ68ڑ1.6%ٹڑ
ڑعمليات مشتركة أثناء اجتياح العدو لمناطق جنين ونابلس ومناطق فلسطينية أخرى، قبل وأثناء عملية السور الواقي.(كتائب القسام, شهداء الأقصى, سرايا القدس, بعض أفراد الأمن الوطني)ڑ32ڑ5.0%ڑ114ڑ2.8%ٹڑ
__________
(1) موعد مع الشاباك ص:91(1/93)
ڑعمليات فردية ونوعية (خليل أبو علبة, علي الجولاني, قناص/عيون الحرامية)ڑ24ڑ3.7%ڑ49ڑ1.2%ٹڑ
ڑالمقاومة الفلسطينية الشعبية (عمليات لم يعرف منفذيها ولم يصدر فيها تبن من أي فصيل بشكل رسمي وغالباً ما تكون هذه العمليات نفذت من قبل الفصائل المعروفة /حماس, فتح, الجهاد الإسلامي)ڑ91ڑ14.1%ڑ497ڑ12.0%ٹڑ
ڑالإجماليڑ644ڑ100%ڑ4137ڑ100%ٹڑ
ڑجدول رقم (1) يوضح نسبة كل فصيل من فصائل الشعب الفلسطيني في المشاركة من النيل من العدو الصهيوني جراء الأعمال التي نفذتها منفردةً أو مشتركة خلال انتفاضة الأقصى في الفترة (28/9/2000م - 28/9/2002م) (1)
رابعاً) أما فيما يتعلق بالجهاد الأفغاني: فقد وقعت الحرب الأفغانية الروسية بسبب الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979م .(2)
وشهدت هذه الحرب عدداً من الأعمال الفدائية، والتي وقعت ضمن حرب العصابات التي كانت تقوم بها المقاومة الأفغانية ومن معها من المجاهدين العرب والمسلمين .(3)
وقد حققت المقاومة مكاسب كبيرة من الأعمال الفدائية، لدرجة أن مجموعة من المجاهدين لا تتجاوز السبعة هاجمت رتلاً من سبعين دبابة روسية، وألحقت به الخسائر الفادحة .(4)
__________
(1) عمليات المقاومة العسكرية والعمليات الاستشهادية التي نفّذتها حركات المقاومة الفلسطينية، وعدد القتلى والإصابات من الصهاينة جراء هذه العمليات من تاريخ (28/9/2000م) وحتى (28/9/2002م) ص:12
(2) أفغانستان نشأتها وكفاحها /217
(3) عبر وبصائر للجهاد في العصر الحاضر ص:119 وما بعدها، ذكريات عربي أفغاني ص:91، 174، صفحات من سجل الأنصار العرب في أفغانستان
(4) أفغانستان مقبرة الغزاة ص:131(1/94)
ويذكر أحد المشاركين في هذه الأعمال في مذكراته وصفاً للأعمال الأولى من هذه الأعمال التي تتسم بالمغامرة والمخاطرة الشديدة، وذلك أن المجاهدين ينقسمون إلى مجموعات فدائية تدخل في وقت واحد إلى الموقع المستهدف، عن طريق التسلل عبر التحصينات الشديدة وحقول الألغام، وبعد الوصول إلى الهدف تقوم هذه المجموعات بمباغتة العدو بالهجوم في الوقت ذاته، يسقط من هذه المجموعات من يسقط من المهاجمين، ويعود من يسلم منهم بعد انتهاء المهمة.(1)
خامساً) أما بالنسبة للجهاد في الشيشان: فقد بدأ الاجتياح الروسي الأول للشيشان في ديسمبر 1994م، وبعد سقوط العاصمة (جروزني) وفرار المجاهدين إلى الوديان والمناطق الجبلية لجأ المجاهدون إلى شن الغارات الخاطفة والأعمال الفدائية وأعمال الكر والفر التي تستهدف القوات الروسية وقوافل الجيش، علاوة على أعمال الاقتحام والإغارة على المواقع الروسية، مما كان له الأثر الكبير في هزيمة الروس وتوقيعهم الاتفاقية في أغسطس 1996م وخروجهم من البلاد . ثم كان الاجتياح الثاني في سبتمبر عام 1999م تطورت أعمال المقاومة، وبرز من خلالها نوع جديد من الأعمال الفدائية التي يفجر فيها المجاهد نفسه للنكاية بالعدو .(2)
وكانت (حواء براييف) أول امرأة تقوم بعمل فدائي من هذا النوع من الأعمال .(3)
وقد توالت الأعمال الفدائية بعد ذلك بعد هذه الحادثة، حتى أصبحت السلاح الأبرز بين أعمال المقاومة .
وكان من أبرز هذه الأعمال تفجير الغواصة النووية (كورسك) التي تعد درة الاسطول الروسي، والتي غرقت في بحر (بارنتس) في 12/8/2000م، وعلى متنها 117 بحاراً لم ينج منهم أحد .(4)
__________
(1) ذكريات عربي أفغاني ص:68
(2) تاريخ الشيشان من 640-2000م . الموسوعة الحربية: مقاتل من الصحراء www.moqatel.com
(3) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ ص:2 ، و موقع (صوت القوقاز www.qoqaz.com)
(4) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 17/8/2000م(1/95)
فقد أكدت مصادر المجاهدين الشيشان أن مجلس الشورى الاعلى للمجاهدين الذي يضم القادة الميدانيين المجاهدين ويرأسه الرئيس مسخادوف صرح أن غرق الغواصة الروسية (كورسك) نتج عن عملية استشهادية بواسطة غواص داغستاني كان على اتصال مع قادة المجاهدين الشيشان، واستطاع الوصول إلى غرفة التحكم وتفجير الغواصة .(1)
وقد اضطربت أقوال المسؤولين الروس حول الحادث، حيث ذكرت لجنة التحقيق الرسمية الروسية أن انفجاراً غامضاً داخل الغواصة النووية أدى الى غرقها .(2)
أما البحرية الروسية فقد نفت هذا الأمر وزعمت أن الغواصة غرقت بسبب اصطدامها بغواصة أخرى، بينما أكدت المخابرات الأميركية أن الغواصة غرقت بسبب انفجار هائل داخلها ولم يكن نتيجة لتصادم، كما أكدت وزارة الدفاع البريطانية أن الغواصة غرقت اثر تعرضها لانفجار شديد القوة .(3)
وعلى الرغم من كل هذه الشواهد فقد أصرت الحكومة الروسية على نفي الاعتراف بالعملية، فأكدت رسمياً أن سبب الحادث كان بسبب اصطدام الغواصة بغواصة أخرى .(4)
وفي دراسة أجراها د.عاطف معتمد عبد الحميد (خبير في الشؤون الروسية) على أعمال المقاومة الشيشانية خلال الفترة من يناير 2002م إلى يوليو 2003م، اتضح أن أعمال المقاومة الشيشانية تسير بشكل منتظم بمتوسط 1.5 عملية شهرياً (وشهدت بعض الشهور خمس عمليات متتابعة)، وبخسائر في صفوف الروس متوسطها 31 قتيلا شهريًّا .
كما هو موضح في الجدول التالي رقم (2):
جدول رقم (2): تطور الأعمال الفدائية التي قامت بتنفيذها حركة المقاومة الشيشانية
__________
(1) موقع وكالة أنباء مركز القفقاس www.kavkaz.org، و موقع (صوت القوقاز www.qoqaz.com)
(2) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 21/8/2000م
(3) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 17/8/2000م
(4) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 9/11/2000(1/96)
خلال الفترة (يناير 2002م - يوليو 2003م) (1)
وقد لوحظ على هذه الأعمال ما يلي: (2)
1- احتلت الاعمال الفدائية المرتبة الأولى في أعمال المقاومة في النصف المنصرم من عام 2003م، وهو أسلوب جديد لم يكن شائعاً من قبل، ودخل إلى ساحة المقاومة بقوة منذ عملية مسرح موسكو في أكتوبر 2002م .
2- استهدفت هذه الأعمال ضحايا من المدنيين، سواء في روسيا أو في الشيشان . ويرجع هذا الأمر إلى سببين . أحدهما: صعوبة حركة المقاومة بين العسكريين الروس . والآخر: تعمد الحركة ضرب المدنيين الشيشانيين المتعاونين مع موسكو في الإرشاد عن أنصار المقاومة واجتياح بيوتهم، أما استهداف المدنيين في روسيا فيبدو أن هدفه الرئيسي إبلاغ رسالة مفادها أن للمقاومة يدًا طولى تستطيع أن تتعدى بها الحدود الإقليمية لنفوذها .
3- لوحظ غياب قادة المقاومة الشيشانية عن الإعلام الغربي، والروسي بالطبع، كما أنهم لا تتاح لهم الفرصة للتعبير عن وجهة نظرهم، فضلا عن عزوفهم عن إصدار البيانات أو إرسال الشرائط المسجلة على غرار حركات المقاومة في البلاد الأخرى .
المطلب الثالث: واقع الأعمال الفدائية المعاصر
إن من أهم الأمور التي يترتب عليها بيان الحكم الشرعي لهذه الأعمال ؛ معرفة واقعها وظروفها، إذ الحكم على الشئ فرع عن تصوره .
وهذه القاعدة من القواعد الهامة في معرفة الأحكام الفقهية، ولاسيما في فقه الجهاد، الذي تتنوع حالاته وتتجدد وقائعه أكثر من بقية مسائل الفقه .
ولهذا، من الخطأ إعطاء هذه الأعمال بشتى صورها حكماً واحداً على وجه الإطلاق والعموم دون النظر في حال العدو ووضع الحرب وحال الشخص وملابسات العملية .(3)
__________
(1) المقاومة الشيشانية روعة النجاح أم رقصة الطائر الذبيح؟: موقع (إسلام أون لاين www.islamonline.net) في 12/8/2003م
(2) المصدر السابق
(3) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ ص:3(1/97)
والذي ينظر في واقع أمة الإسلام في هذا العصر يرى بجلاء تداعي أمم الكفر عليها، واحتلالها أجزاء من أراضيها ومقدساتها، وقتلها أبناءها، حتى أضحى الدم المسلم - الذي هو أعظم عند الله من الكعبة - أرخص الدماء، فبلادهم مباحة، ودماؤهم مستباحة، مع ضعفٍ في قدراتهم، وتفرقٍ بين دويلاتهم .
أما الجيوش العربية فقد خاضت عدة معارك مع اليهود في القرن المنصرم، وكان لتدخل الغرب الكافر ومسلسل الخيانات من بعض المنتسبين إلى الإسلام دور كبير في إلحاق الهزائم بها، واستمرار الاحتلال اليهودي، وتجدد العدوان السافر على دماء المسلمين وأراضيهم في دول أخرى .
وطال الأمد بالحكومات الإسلامية حتى أمات معظمها روح الجهاد، بل وصمه بعضها بالإرهاب والعنف متأثراً بما يردده أهل الكفر، وفي المقابل زجّت بعض هذه الحكومات بجيوش المسلمين في حروب إقليمية أو نزاعات طائفية، فكانت معارك طاحنة قتل فيها المسلم بيد أخيه لا يدري القاتل فيم قَتَل، ولا المقتول فيم قُتِل، والله المستعان .
وفي خضم هذه الأجواء الكالحة، شعر بعض أهل الإسلام بخطورة الموقف، وضرورة التصدي لهذا العدوان والدفاع عن حوزة الدين، والقيام بجهاد الدفع، وذلك بالوقوف في وجه المعتدي، وعدم الرضوخ لابتزاز المغتصب .
وكانت المعركة على كافة الأصعدة معركة غير متكافئة، فالشعوب لا تملك من الأسلحة ما يمكنها من المواجهة المباشرة أمام العدو المغتصب، فلم يكن أمام حركات المقاومة الشعبية إلا أن تنتهج حرب العصابات، ولو بلغ الأمر التضحية ببعض أبنائها للنكاية بأعدائها، عن طريق الأعمال الفدائية .
أسباب تبني حركات المقاومة الإسلامية المعاصرة(1)الأعمال الفدائية:
__________
(1) يجدر التنبيه إلى أن المراد بحركات المقاومة الإسلامية المعاصرة كل الحركات التي تقاوم الاحتلال في البلاد الإسلامية دون تخصيص أي واحدة منها .(1/98)
من خلال ما تقدم عرضه في بيان واقع الأمة الإسلامية وأعدائها، يمكن أن نستنتج عدة أسباب ودوافع كانت وراء تبني حركات المقاومة الإسلامية هذه الأعمال الفدائية، ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي:(1)
1)ماجُبِل عليه المسلمون من الفدائية والتضحية وحبِّ الاستشهاد، ورخص الحياة عليهم إذا كانت ذليلة، فالموت العزيز في سبيل الله خير عندهم من الحياة الذليلة.
2)ما يتعرض له المسلمون في عدد من بلادهم من سطوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، واستباحة حرماتهم .
3)محدودية إمكاناتهم العسكرية والعلمية والتقنية، في مقابل تفوق أعدائهم، وامتلاكهم الأسلحة المتطورة التي تفوق ما لدى المسلمين .
4)أن الحرية حق طبيعي فطري للإنسان، وليس من المقبول حتى في القوانين الدولية اغتصاب الأوطان والاعتداء على الحرمات، فكان لا بد من مقاومة العدو المحتل بالإمكانات المتاحة، ومنها الأعمال الفدائية .
5)كون هذه الأعمال أضمن نجاحاً، وأقوى أثراً، وأقل إخفاقاً من أعمال المقاومة الأخرى المكشوفة، لأن القائم بها متخفً ولا يُظهر أي نوع من السلاح .
6)ضيق الخيارات الأخرى للمقاومة، فإن من عوامل قوة الإنسان أن تعدم الخيارات لديه أو تقل، وبهذا تطيب له الحياة لأنه لا شئ لديه يخسره، وهذا يمنحه طاقة جديدة .
بعض أهداف الأعمال الفدائية:
مما تجدر الإشارة إليه أن حركات المقاومة تضع لنفسها عدداً من الأهداف التي يراد تحقيقها من الأعمال الفدائية .
__________
(1) تنظر هذه الأسباب في: الإرهاب والعمليات الاستشهادية: سلمان العودة . مجلة الدعوة في عددها الصادر في 12/2/1423هـ، العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:23-25، المقاومة الوطنية اللبنانية 1982م - 1985م : العمليات الاستشهادية صور ووثائق ص:97(1/99)
فعلى سبيل المثال، قسمت منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) أهداف الأعمال الفدائية إلى جانبين، أحدهما على الصعيد الفلسطيني، والآخر على الصعيد الإسرائيلي . (1)
فعلى الصعيد الفلسطيني: تحدد فتح الغاية من الأعمال الفدائية بما يلي:
1-تعزيز الثقة عند الفلسطينيين .
2-محاربة عوامل اليأس والانهزام .
3-تعزيز ثقة العرب بإمكان زلزلة الوجود الصهيوني .
4-خلق جو مشحون بالتحفز والإحساس بالخطر الصهيوني .
5-كشف أكذوبة إسرائيل ومناعتها .
6-خلق نفسية الخطر والقتال لدى ساكني الحدود في البلد العربية المجاورة .
أما على الصعيد الإسرائيلي: فإن الغاية من هذه الأعمال ما يلي:
1-القضاء على الأمن والاستقرار في إسرائيل .
2-ضعضعة الاقتصاد الإسرائيلي .
3-وقف التمويل المالي الخارجي .
4-وقف الهجرة إلى إسرائيل .
5-تذكير المولودين في إسرائيل بأنهم ليسوا أصحاب فلسطين .
لماذا يلجأ المجاهد إلى العمل الفدائي ؟
من المسائل التي لابد من معرفتها، الإجابة عن هذا التساؤل الهام . لأن كثيراً ممن هم بعيدون عن ساحة القتال يتساءلون عن سبب قيام المجاهد بتعريض نفسه للتلف أو قتل نفسه كما في بعض الصور . أليس هناك أعمال أخرى يحصل بها المقصود دون المخاطرة بالنفس ؟
ثم أليس بمقدور المجاهد أن يقوم بهذا العمل ويغادر المكان حتى يحافظ على روحه ويجمع بين مصلحة النكاية بالعدو ومصلحة المحافظة على نفسه وقوته ؟ .
إن معرفة الإجابة عن مثل هذه التساؤلات أمر هام جداً في الحكم على هذه الأعمال، وتقدير المصلحة المترتبة عليها، إذ إن فقه الجهاد فقه مصلحي في كثير من مسائله وتطبيقاته .
__________
(1) تنظر هذه الأسباب في: العمل الفدائي ومراحل حرب التحرير الشعبية ص:319(1/100)
ولإيضاح هذا الأمر، وبما أن الأراضي الفلسطينية المحتلة تعد اليوم المنطقة الأولى في وقوع الأعمال الفدائية ؛ فإننا سنتخذها كمثال واقعي، ونحاول دراسة ظروف ودوافع الأعمال الفدائية التي تقوم بها حركات المقاومة الفلسطينية، عبر نمطين رئيسيين من هذه الأعمال .
1)أحدهما: أعمال التضحية المباشرة بالنفس للنكاية بالعدو .
2)والآخر: أعمال الاقتحام والتعرض للقتل .
1) أما بالنسبة للنمط الأول، وهو التضحية المباشرة بالنفس، فإن المجاهد يلجأ إلى الدخول بسيارته المفخخة أو بحزام ناسف إلى قلب مواقع قوات العدو ونقاط تجمعها بانقضاض سريع يقع فيه التفجير فوراً، للاعتبارات التالية:(1)
أ-إنزال أكبر الخسائر بقوات العدو، وهي خسائر لا يمكن الحصول عليها دون هذا الشرط الاقتحامي الاستشهادي .
ب-ضمان نجاح العمل وعدم فشله، فالعمل الاستشهادي الاقتحامي بالمتفجرات لا يخطئ هدفه في الغالب . أما استخدام أسلوب العبوة ومغادرة المكان فغالباً ما يعرض العملية للفشل أو يؤدي إلى حصول على نتائج أقل بكثير، لأن العدو وأفراد جمهوره أصبحوا شديدي اليقظة من كثرة تجاربهم السابقة مع هذه الحالات، مما جعل هذا الشكل القتالي في أغلب حالاته لا كلها، معرضاً للاكتشاف قبل الأوان، أو معرضاً لأن تأتي نتائجه قليلة حين تكون مدة التوقيت قصيرة جداً .
ج-شح الأسلحة والمتفجرات، ومن ثم ضرورة الاقتصاد بها مع تأمين أفضل النتائج .
د-أن هذا النمط من الأعمال يصيب هدفه بأقل ما يمكن من الخسائر البشرية من جانب المجاهدين .
ه-أنه يحمل طابعاً هاماً في تحطيم معنويات قوات العدو وجبهته ويدب فيهما الرعب من المجاهدين .
و-تفوق العدو بالأسلحة والتجهيزات، وفرضه ما يمتلكه من وسائل التحوط والإجهاض المسبق لهذه الأعمال .
__________
(1) قراءة في فقه الشهادة ص:33، موعد مع الشاباك ص:91 وما بعدها(1/101)
ومن ذلك: إقامة الحواجز والإجراءات الأمنية المشددة، والتي من شأنها عدم إعطاء الفرصة للمجاهد باستخدام أسلوب وضع العبوة والهرب من المكان .
فعلى سبيل المثال: لجأت السلطات العسكرية الإسرائيلية إلى المبادرة بإقامة سياج إلكتروني حول التجمعات اليهودية في محاولة لحمايتها من ضربات المجاهدين، ووضع بوابات ممغنطة لتفتيش العمال العرب الذين يسمح لهم بدخول هذه التجمعات . ففي قطاع غزة قررت الحكومة الإسرائيلية إقامة سياج أمني جديد طوله 52كم . كما أعلن الجنرال (موردخاي غور) أمام الكنيست أنه تم الإيعاز الجهاز الهندسي في الوزارة ورئاسة أركان الجيش بالمباشرة في إقامة نظام أسلاك شائكة إلكترونية وإنذار مبكر بارتفاع 2-3 أمتار حول المستوطنات اليهودية المقامة وسط المناطق العربية في الضفة الغربية وقطاع غزة .(1)
ومن الشواهد العملية على هذا الأمر عملية شهداء خان يونس التي استهدفت سيارة جيب عسكرية تقوم بالحفاظ على أمن مستوطنة (جاني طال) عبر السير في طريق طيني داخل السور الكهربائي الذي يحيط بالمستوطنة ويصعق كل من يلمسه، ويعطي إشارات سريعة لمركز المراقبة الرئيس في المستوطنة، ولقد استنفذت عملية الرصد مدة شهر كامل مع تكثيف المراقبة خلال الأسبوع الأخير قبل العملية .(2)
هذا فيما يتعلق بدوافع وحيثيات النمط الأول .
2) وأما بالنسبة للنمط الآخر، والذي يتمثل في الاقتحام والتعرض للقتل بسبب الاشتباك من خلال القنابل اليدوية، والأسلحة الخفيفة السريعة، فإنه يتم تنفيذه للاعتبارات التالية:(3)
1)تفوق قوات العدو العسكرية بعددها، وقوة نيرانها .
2)قدرتها العالية على جلب التعزيزات والمدد والتطويق، فضلاً عن قدرتها على المطاردة بالطائرات المروحية والآليات .
__________
(1) موعد مع الشاباك ص:230
(2) المصدر السابق ص:163
(3) قراءة في فقه الشهادة ص:35(1/102)
3)إغلاق قوات العدو مناطق واسعة تمنع من عودة المقاتلين إلى نقاط آمنة، وهذا ما يفرض أن يتخذ شكل القتال ضمن هذه الظروف نمط القتال الاقتحامي الذي يكسب من عنصر المفاجأة الأولى، والضرب السريع .
المطلب الرابع: أثر الأعمال الفدائية في النكاية بالأعداء
من المقدمات المهمة لتقرير الحكم الشرعي لهذه الأعمال معرفة أثرها في النكاية بالأعداء وتحقيق المصلحة للمسلمين .
ومن المعلوم أن الله تعالى إنما شرع التغرير والتضحية بالنفوس في الجهاد لإعزاز الدين وكسر شوكة أعدائه، كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } (1)
قال العز بن عبد السلام(2):"التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام - أي التراجع - لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة"(3).
ومع مطلع هذا المطلب أود التنبيه على أن بحثي لآثار هذه الأعمال سيعتمد في الغالب على الأعمال الفدائية التي تقوم بها حركات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال اليهودي على أرض فلسطين المحتلة، وكان اختياري لهذه الأعمال بناءً على عدة أسباب:
1)ما تمتاز به هذه الأعمال من تكرر وقوعها وكثرتها .
__________
(1) البقرة:193]
(2) العز بن عبد السلام: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، أحد فقهاء الشافعية المجتهدين، ولي الخطابة والتدريس بدمشق ثم انتقل إلى مصر، من مؤلفاته: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، الإلمام في أدلة الأحكام، ت:660هـ . ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 8/209، طبقات الشافعية 2/109، الأعلام 4/21
(3) قواعد الأحكام 1/111ـ 112(1/103)
2)أن هذه الأعمال التي تقوم بها تلك الحركات أقرب إلى موضوع هذا البحث، لكونها من الجهاد في سبيل الله، باعتبارها جزء من القتال بين المسلمين واليهود الغاصبين .
3)طول المدة التي شهدتها هذه الأعمال منذ نشأتها وتطورها، مما يسهّل تتبع آثارها، والمقارنة بينها وبين غيرها من أعمال الجهاد .
4)وجود عدد من الدراسات والكتابات حول آثار هذه الأعمال في تلك المنطقة على وجه الخصوص، وتنوع مصادر تلك الدراسات وتعدد الجهات والأطراف التي قامت بإجرائها مما يقوي صحة هذه الآثار، وينأى بها عن الخرص أو التخمين .
هذا، ومع إفادتي من الدراسات والبحوث المعاصرة التي قام بها الباحثون العرب حول أثر هذه الأعمال على الاحتلال اليهودي في أرض فلسطين، فقد اجتهدت في الوقوف على دراسات وتقارير يهودية المصدر، ونقل بعض تصريحات وأقوال ساسة اليهود وكتّابهم، لأن تواطؤ الشهادة من طرفي الصراع يؤكد أثر هذه الأعمال . والحقُّ ما شهدت به الأعداء .
ثم إن القارئ قد يلحظ أني قد اعتمدت - في العزو - على بعض الصحف، والمواقع الرسمية على الشبكة العالمية (الإنترنت)، نظراً لطبيعة هذه التصريحات السياسية الآنية، أوالمعلومات الإخبارية، أو المواقف التحليلية، وتعذر وجودها في الكتب التي يحتاج نشرها إلى بعض الوقت .
تساؤل عن جدوى الأعمال الفدائية :
يتساءل كثير من الناس في هذا العصر عن جدوى هذه الأعمال التي يذهب ضحيتها عدد من أبناء الأمة على أرض فلسطين، وما حجم المصالح والمفاسد المترتبة عليها ؟ .
ففي فلسطين، على سبيل المثال، ينخدع الكثيرون بالإعلام اليومي، الذي يبرز ويشدِّد دائماً على العنف الصهيوني، والخسائر في الجانب الفلسطيني، فيتساءلون: ما جدوى الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟ .(1/104)
إن التوسع في عرض مشاهد التألم والتكاليف والأضرار من جانب واحد بشكل مفصّل، وإجمال القول عند الحديث عن خسائر العدو، هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة، يرتِّب لها العدو، و يسايره مخدوعاً من لا يدرك الحقائق، أولا يملك الوقت وعدة النظر للبحث عنها .(1)
وكردٍّ أولي على هذا التساؤل أقول : أثبتت الدراسات المعاصرة أن هذه الأعمال هي الأكثر نكاية باليهود المغتصبين، والأنجع في إدخال الرعب في قلوبهم . فقد نزعت الأمن من صفوفهم حتى في شوارعهم ووسائل نقلهم الداخلية والخارجية وأماكن تجمعاتهم العسكرية .(2)
جاء في دراسة مركز النور للأبحاث والدراسات عن العمليات العسكرية والاستشهادية التي نفذتها حركات المقاومة الفلسطينية ما يلي:"يتضح من خلال الدراسة أن العمليات الاستشهادية هي رأس الانتفاضة، وهي السلاح الأقوى الذي أوقع في العدو أكبر الخسائر البشرية والمادية والمعنوية على حد سواء، وقد تنوعت العمليات الاستشهادية بأساليب مختلفة وطرق مختلفة، كالحزام الناسف، والحقائب والسيارات المفخخة، وإطلاق النار حتى الشهادة داخل كيان العدو والتسلل إلى المستوطنات .. الخ. وقد قتل من اليهود جراء هذه العمليات الاستشهادية في مختلف الأراضي الفلسطينية ما يربو عن 80% من إجمالي قتلاهم، وهذا يبرز أهمية هذا السلاح بيد المقاومة الفلسطينية، ويعطي التفسير الواضح لمطالبة دولة العدو وحلفائها وأصدقائها بالوقف الفوري لهذا النوع من العمليات الساخنة"(3).
وقد اعترف عدد من ساسة اليهود ومفكريهم بأهمية هذه الأعمال وشدة آثارها .
__________
(1) الانتفاضة والتتار الجدد ص:18
(2) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:24…
(3) عمليات المقاومة العسكرية والعمليات الاستشهادية التي نفّذتها حركات المقاومة الفلسطينية ص:190(1/105)
يقول الكاتب الصهيوني (آريه شبيط):"إنه بفضل العمليات الانتحارية [هكذا يسميها] نجح الفلسطينيون في قلب الشوارع الإسرائيلية إلى موقع عسكري كبير ومرهق . وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في المساس بقسوة بالاقتصاد الإسرائيلي، وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في الحفاظ على اهتمام الأسرة الدولية بمشكلتهم، ولولا العمليات الانتحارية لكان القليل فقط من الإسرائيليين يكرسون التفكير بما يجري وراء الخط الأخضر، ولولا العمليات الانتحارية لكانت المعاناة والضائقة من نصيب الفلسطينيين فقط، ولكان قُدِّر لهم الاستسلام والخضوع بدون شروط"(1).
وبعد هذا العرض المجمل لآثار الأعمال الفدائية، أبسط الكلام على هذه الآثار، من خلال الجوانب التالية:
أولاً ) آثار الأعمال الفدائية على الجانب البشري:
يعد الجانب البشري من أهم آثار الأعمال القتالية، وأشدها على العدو . وهو الأثر الظاهر لقياس نجاح أي عمل قتالي يراد منه النكاية بالخصم .
ومن الشواهد العملية في فلسطين: أن نسبة القتلى من اليهود - عند قيام الانتفاضة الفلسطينية - كانت 1 إلى 50 من القتلى الفلسطينيين، ومع استمرار الانتفاضة والأعمال الفدائية ارتفع معدل عدد القتلى من المستوطنين من 3 قتلى إلى 17 قتيلاً شهرياً، حتى بلغ القتلى من اليهود في شهر واحد (إبريل 2002م) أكثر من 140 قتيلاً، وهو ما يعادل خسائر العشرة الشهور الأولى من الانتفاضة كاملة . وفي شهر رمضان المبارك تقارب عدد القتلى من اليهود مع عدد القتلى الفلسطينيين، أي إن النسبة التي كانت 1 إلى 50 عند بداية الانتفاضة مرشحة الآن لأن تصبح 1إلى 1 تقريباً .(2)
__________
(1) الانتفاضة والتتار الجدد ص:41-42، صحيفة"البيان"الإماراتية في عددها الصادر يوم الثلاثاء 24/7/1423هـ، ونقلاه عن صحيفة"معاريف" الإسرائيلية في عددها الصادر في 22/9/2002م
(2) الانتفاضة والتتار الجدد ص:39-40(1/106)
وقد أجرى مركز النور دراسة حول قتلى اليهود في ثلاث فترات زمنية، وهي:
الأولى ) الفترة الواقعة ما بين (1978م - 1993م)، وهي فترة 15 سنة ما قبل أوسلو .(1)
الثانية ) الفترة الواقعة ما بين (1993م - 9/2000م)، وهي فترة ما بعد أوسلو .
الثالثة ) الفترة التي تخللتها انتفاضة الأقصى ما بين (9/2000م - 9/2002م) .
كما في الجدول رقم (3) التالي:
البيانڑالعددڑالمعدل الشهري للقتلىڑالمعدل السنوي للقتلىڑالنسبة المئوية للقتلى في الفترة من إجمالي عدد القتلىٹڑ
ڑ1- الفترة الواقعة ما بين (1978-1993) 15 سنة ما قبل أوسلوڑ254 قتيلڑ1-2 قتيلڑ17 قتيلڑ21.4%ٹڑ
ڑ2- الفترة الواقعة ما بين (1993-9/2000م) ( ما بعد أوسلو)ڑ300 قتيلڑ3-4 قتلىڑ43 قتيلڑ25.4%ٹڑ
ڑ3-8 انتفاضة الأقصى (9/2000-9/2002)ڑ631 قتيلڑ26 قتيلڑ315 قتيلڑ53.2%ٹڑ
ڑالإجماليڑ1185ڑ-ڑ-ڑ100%ٹڑ
ڑجدول رقم (3) يوضح عدد القتلى اليهود في ثلاث فترات زمنية (2)
وبالنظر في الجدول، ومقارنة عدد القتلى اليهود خلال هذه الفترات الثلاث يتضح ما يلي:
1- بلغت نسبة عدد القتلى اليهود في انتفاضة الأقصى مقارنة بعدد القتلى في فترة ما قبل أوسلو ضعفين و نصف (631 قتيلاً مقابل 254 قتيلاً) .
2- بلغت نسبة عدد القتلى اليهود في انتفاضة الأقصى مقارنة بعدد القتلى في فترة ما بعد أوسلو أكثر من الضعفين (631 قتيلاً مقابل 300 قتيلاً) .
__________
(1) المراد بـ (أوسلو) - كما هو معروف - اتفاقية السلام التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993م في مدينة"أوسلو"بهدف إنهاء المواجهة والنزاع في ظل تعايش سلمي، والاعتراف بحق اليهود في العيش على أرض فلسطين، وإعطاء الفلسطينيين سلطة حكومة ذاتية في الضفة الغربية وقطاع غزة .
(2) عمليات المقاومة العسكرية والعمليات الاستشهادية التي نفّذتها حركات المقاومة الفلسطينية ص:184(1/107)
3- فاق عددُ القتلى اليهود خلال عامين من انتفاضة الأقصى عددَ القتلى اليهود خلال أكثر من 23 عامًا من عام 1978 إلى 23/9/2002 (631 قتيلاً مقابل 554 قتيلاً) .
وقد يرد ههنا سؤال هام، وهو: إذا كانت الدراسة السابقة حول قتلى اليهود تشمل الأعمال الفدائية وغيرها من الأعمال القتالية، فما نسبة قتلى العدو بسبب الأعمال الفدائية إلى قتلاه بسبب غيرها من الأعمال ؟
للإجابة على هذا السؤال أقول: إن الأعمال الفدائية جاءت على رأس أعمال المقاومة التي جرى تنفيذها خلال الفترة ذاتها من الانتفاضة، وذلك بنسبة 40.8 %، كما يوضحه الجدول رقم (4) التالي:
نوع العمليةڑعدد القتلىڑالنسبةٹڑ
ڑعمليات استشهادية (تفجير حامل عبوة)
حزام ناسف+حقيبة ناسفةڑ257 قتيلڑ40.8%ٹڑ
ڑحوادث إطلاق نار مختلفة (استشهادية +عمليات أخرى)ڑ232 قتيلڑ36.8%ٹڑ
ڑعبوات ناسفةڑ52 قتيلڑ8%ٹڑ
ڑعمليات تسلل للمستوطنات (12 عملية تسلل)ڑ35 قتيلڑ5.6%ٹڑ
ڑعمليات تفجير سياراتڑ24 قتيلڑ3.8%ٹڑ
ڑعمليات مقاومة فردية شعبيةڑ15 قتيلڑ2.4%ٹڑ
ڑعمليات دهسڑ8 قتلىڑ1.3%ٹڑ
ڑعمليات طعنڑ5 قتلىڑ0.8%ٹڑ
ڑرمي الحجارةڑ2 قتلىڑ3.0%ٹڑ
ڑقذائف هاون - نوع (صاروخ قسام)ڑ1 قتيلڑ0.2%ٹڑ
ڑالإجماليڑ631 قتيلڑ100%ٹڑ
ڑجدول رقم (4) عدد القتلى اليهود حسب نوع العملية خلال انتفاضة الأقصى 28/9/2000 إلى 23/9/2002 (1)
وإذا تقرر أن الأعمال الفدائية من أكثر الأساليب نكاية بالعدو وإثخاناً في جنوده، فإنها من جانب آخر تبقى أيضاً الأقل كلفة وخسائر بالنسبة للجهة المنفذة، إذ لا تتجاوز خسائرها منفذ العمل وبعض المواد المتفجرة . بينما تتطلب الأعمال الهجومية الأخرى حشداً من القوات والطاقات البشرية والمادية .
__________
(1) المصدر السابق ص:191(1/108)
هذا إذا علمنا أن إسرائيل تبدي تكتماً شديداً على الخسائر البشرية، لئلا يكون الإعلان عن سقوط مزيد من القتلى حافزاً للمجاهدين نحو تنفيذ المزيد من تلك الأعمال، مما يهدد الأمن الإسرائيلي بشكل خطير(1)، وذلك لأن فعالية العمل العسكري تستند إلى ثلاثة عناصر: طبيعة الأهداف، وعمق العمل، وزيادة اعتراف العدو بالعمل .(2)
وهذا الأمر يفسر لنا اعتماد مصادر العدو اليهودي على أسلوب الكذب، وظهور التناقض في بياناتها المعلنة، والتي تحاول من خلالها إخفاء خسائره، والتقليل من آثار هذه الأعمال .(3)
ثانياً ) آثار الأعمال الفدائية على الجانب النفسي:
يراد هنا بيان آثار هذه الأعمال على الأمن النفسي، وحالة الطمأنينة في صفوف الأعداء .
وقد أشار الله تعالى إلى أثر هذا الجانب في النكاية بالعدو، فقال سبحانه: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (4).
جاء في المفردات في غريب القرآن:"الرَّهْبة والرُّهْب: مخافة مع تحرز واضطراب"(5).
وقد دلت هذه الآية على أن من مقاصد الإعداد والجهاد، إرهاب العدو وتخويفه، وإدخال الرعب إلى قلبه، بحيث يشتد تحرزه واضطرابه، لما في ذلك من أثر على قوة العدو المعنوية ووحدة صفوفه .
__________
(1) موعد مع الشاباك ص:91- 92
(2) المصدر السابق ص:190
(3) ينظر إجمالاً: كتاب ( خسائر العدو البشرية وأكاذيب الناطق العسكري الإسرائيلي ) الذي بين فيه الكاتب سياسة العدو الصهيوني في إخفاء خسائره البشرية والمادية ووجود التناقضات السافرة في بياناته المعلنة معتمداً على عدد من الوقائع والحوادث والبيانات الرسمية . وينظر أيضاً: موعد مع الشاباك ص:94ـ 98
(4) الأنفال: 60]
(5) المفردات في غريب القرآن ص:204(1/109)
وبالنظر في الأعمال الفدائية التي تقوم بها حركات المقاومة الفلسطينية ضد اليهود نجد أنها أحدثت أثراً كبيراً سيئاً على الحالة النفسية والمعنوية للمجتمع الإسرائيلي قادة وشعباً .
فقد نقلت صحيفة (البيان) الإماراتية عن العميد مازن عز الدين المفوض العام للتوجيه الوطني الفلسطيني أن الانتفاضة أوجدت حالة من الذعر والخوف لدى المستوطنين ما أدى إلى فرار الآلاف منهم من العديد من هذه المستعمرات بعد تحويلها إلى ثكنات عسكرية إسرائيلية . وفرضت على بعض القادة الإسرائيليين التحرك وفق إجراءات أمنية مشددة خوفاً على حياتهم من الأعمال الاستشهادية الفلسطينية، حتى إن رئيس الأركان (موفاز) صار يتحرك بسيارة مصفحة مضادة للرصاص .(1)
وقد دلت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام فنشرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت 57% في مطلع شهر أكتوبر 2001م ثم بلغت 68% في منتصف الشهر ثم بلغت 78% في مطلع الشهر التالي .(2)
وبلغت نسبة الزيادة في مبيعات المهدئات في القدس 100% ، كما بلغت نسبة الزيادة لأدوية الاكتئاب 30% . (3)
__________
(1) صحيفة البيان الإماراتية في عددها الصادر في يوم الاثنين 29/9/1421 هـ
(2) الانتفاضة والتتار الجدد ص:51
(3) العالم في عام ص: 63(1/110)
وذكرت صحيفة (تليجراف) البريطانية أن الصهاينة أصبحوا يعانون من خوف دائم وقلق مستمر نتيجة للعمليات الاستشهادية التي وقعت في فلسطين المحتلة . ونقلت الصحيفة عن (جيورا كينان) أستاذ علم النفس بجامعة تل أبيب قوله: أثناء قيادة سيارتي أحرص على الابتعاد عن الحافلات خوفًا من انفجارها . ويشير علماء النفس إلى تزايد الشكاوى من اضطرابات النوم والقلق والإحباط بين الصهاينة، كما تؤكد الإحصائيات زيادة استهلاك السجائر، وقلة العائدات من ضريبة الوقود، وهو ما يشير إلى تجنب الصهاينة للخروج والتنقل، خوفًا من وقوع أي عمليات استشهادية ضدهم . (1)
وقد تسببت حالة الرعب والخوف التي أحدثتها الأعمال الفدائية في المجتمع اليهودي في ظهور عدد من الآثار الأخرى، منها: رفض الخدمة العسكرية والتحايل للإفلات منها بالأعذار الكاذبة، وارتفاع عدد المهاجرين إلى الخارج، وارتفاع عدد المطالِبين بالانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة بدون شروط، وسيطرة الرعب والهلع على المجتمع اليهودي .(2)
وكشف قسم شكاوى الجنود في الجيش الإسرائيلي عن أن نسبة المضربين عن الخدمة العسكرية ارتفع خلال عام 2001م بنسبة 30% .(3)
ويؤكد هذا (يوئيل ماركوس) في صحيفة (هآرتس) في عددها الصادر في 13نوفمبر 2001م حيث يقول:"الحقيقة المرة أننا لم ننجح في تصفية الإرهاب ودحره بالقوة، بل إن الفلسطينيين نجحوا في زرع الرعب في صفوفنا، وفشلنا في إخافته"(4).
ومما سبق يتبين أن أعمال المقاومة الفلسطينية التي تعتمد على الأعمال الفدائية حققت أثراً كبيراً في إرهاب العدو وتخويفه، وهذا الإرهاب والتخويف من النكاية المعتبرة في أعمال الجهاد المشروعة في الإسلام .
ثالثاً ) آثار الأعمال الفدائية على الجانب السياسي:
__________
(1) مجلة المجتمع في عددها الصادر في 25/8/2001م
(2) الانتفاضة والتتار الجدد ص:42
(3) العالم في عام ص: 64
(4) الانتفاضة والتتار الجدد ص: 43(1/111)
يراد هنا بيان آثار هذه الأعمال الفدائية على استقرار الدولة المعادية، وأجهزتها، وتوجهاتها السياسية في التعامل مع الأحداث .
ومن الشواهد التاريخية البارزة المؤثرة في هذا الجانب: أن الأعمال الفدائية كانت من الأسباب الرئيسية التي أجبرت دولة اليهود على الانسحاب من معظم المناطق التي كانت تحتلها في جنوبي لبنان، مع أن آلتها الحربية وأجهزتها الأمنية والاستخبارية قد استنفرت كل ما لديها من وسائل قمع .(1)
أما في فلسطين فلا تزال آثار هذه الأعمال مستمرة على دولة اليهود .
ورغم محاولات الحكومة الإسرائيلية إخفاء هذه الحقيقة، إلا أن الشواهد كانت أكبر من هذه المحاولات، إذ أجمع الإسرائيليون على أن مستقبل دولتهم واستمرار احتلالهم للضفة الغربية وقطاع غزة يحمل بين طياته ثمناً إضافياً باهظاً، قد لا يكون الجمهور والرأي العام الإسرائيليان قادرين على تحمل أعبائه .(2)
وهذا مايؤكده (عوزي ديان) رئيس مجلس الأمن القومي السابق بقوله:"إن استمرار الوضع الحالي قد ينهي دولة اسرائيل"(3)
__________
(1) موعد مع الشاباك ص:93
(2) المصدر السابق ص:335
(3) صحيفة (يديعوت أحرونوت) في عددها الصادر في 6/9/2002م(1/112)
ويقول وزير الدفاع ورئيس حزب العمل الصهيوني السابق الجنرال (بنيامين بن أليعازر) معلقاً على سلسلة الأعمال الفدائية التي قامت بها حركة حماس": علينا أن نتخلى عن الكثير من المسلّمات التي تعلّقنا بها في الماضي، فإننا لن نمنع مواصلة تقتيل مواطنينا في الشوارع وفي المقاهي وفي المنتديات، إلا في حالة واحدة وهي خروجنا من بين الفلسطينيين والموافقة على أن تتولّى حكومة فلسطينية الحكم والسيطرة في الضفّة الغربية وقطاع غزّة . بإمكان المرء أن يواصل الحديث عن إمكانية الحسم الأمني في مواجهة الفلسطينيين، لكن عمليات حماس - بعد كلّ هذه الجهود التي بذلناها - تدلّ على أن إمكانية الحسم الأمني في مواجهة إرادة الشعب الفلسطيني في المقاومة غير واقعية مطلقاً، ومن يواصل الحديث عن ذلك فهو بلا شكّ يوهم نفسه فقط"(1).
وهذا الأمر يؤكد ما قالت الصحيفة اليهودية (يديعوت أحرونوت):"إن إسرائيل في أزمة كبرى بسبب العمليات الاستشهادية .. أزمة لا تتعلق بقتل أشخاص يهود فحسب، و لكن أزمة تتعلق بوجود إسرائيل ككل، أي وجودها كدولة"(2) .
ومن الآثار السياسية التي أحدثتها الأعمال الفدائية تفجر الخلاف والشقاق داخل الدولة اليهودية، وتجمع المئات من المتظاهرين بعد العمل الفدائي، وهم يهتفون ضد رئيس حكومتهم، ويستقبلون المسؤولين بصيحات الاستنكار والغضب .(3)
أقول: ومن الآثار السياسية للأعمال الفدائية أنها تحافظ على حقوق الشعوب المضطهدة، وتذكّر العالم بقضاياها .
__________
(1) مجلة (فلسطين المسلمة) في عددها الصادر في حزيران 2003م - ربيع الآخر 1424 هـ
(2) لماذا لا تنفض السلطة يدها من أوسلو: د . عبد العزيز الرنتيسي، صحيفة (البيان) الإماراتية في عدد الأربعاء 1/4/1423 هـ ، والموقع الرسمي لمركز الإعلام الفلسطيني
(3) المهندس ص:189-190(1/113)
فعلى الصعيد الفلسطيني مثلاً، أسهمت هذه الأعمال في المحافظة على جوهر القضية الفلسطينية، وإبقاء الحق الفلسطيني حياً رغم كل المحاولات لوأد لهذا الحق، وأصبح المتابع يلمس الاهتمام الدولي بهذه القضية في شتى المؤتمرات والاجتماعات العالمية، وكثرة الوفود الرسمية التي تحضر إلى فلسطين للضغط على السلطة الفلسطينية، أو إغرائها بالمعونات المالية والمساعدات الاقتصادية، لكبح جماح الأعمال الفدائية .
رابعاً ) آثار الأعمال الفدائية على الجانب الاقتصادي:
يعد الاقتصاد من أبرز مقومات الدولة، وهو عصب حياتها، وأحد معايير قوتها .
ومن هنا برزت آثار وأخطار الأعمال الفدائية على اقتصاد العدو، وخلخلة مقوماته .
وهذه الآثار يدركها الناظر في الحالة الاقتصادية للدول التي تتعرض لمثل هذه الأعمال، ولاسيما مع تكرر وقوعها، وتحولها إلى ظاهرة في مجتمع الدولة . وهذه الأعمال قد لا يظهر لها أثر اقتصادي كبير إذا وقعت بصفة استثنائية، لكنها متى ما توالت، ولم تستطع الدولة أن تمنع تكرار وقوعها، فإنها تشكّل خطراً كبيراً على الحالة الاقتصادية . سواء كان ذلك بسبب الخسائر المباشرة أو غير المباشرة .
فعلى سبيل المثال، قُدِّرت الخسائر الاقتصادية لدولة إسرائيل في عام 2001م بسبب أعمال المقاومة والتي على رأسها الأعمال الفدائية: 46.8 مليار شيكل بالإضافة إلى فقدان 80 ألف فرصة عمل، وتفصيل هذه الخسائر في الجدول رقم 5 التالي:
البيانڑالمبلغ بالمليار شيكلٹڑ
ڑالضرر المالي من عمليات المقاومةڑ24 مليار شيكلٹڑ
ڑفقدان 4% من الناتج الاقتصاديڑ12.3 مليار شيكلٹڑ
ڑخسائر مترتبة على مكافحة المقاومة الفلسطينيةڑ5.5 مليار شيكلٹڑ
ڑتضرر دخل دولة العدوڑ5 مليار شيكلٹڑ
ڑالإجماليڑ46.8 مليار شيكل بالإضافة إلى فقدان 80 ألف فرصة عملٹڑ(1/114)
ڑجدول رقم (5) يوضح خسائر العدو اليهودي الاقتصادية لعام 2001 (1)
وفي هذا الجانب يقول د . سفر الحوالي:"قبل اشتعال الانتفاضة المباركة كانت الدولة اليهودية تعيش عصرها الذهبي، لا سيما في الاقتصاد، فقد أصبحت تطمع الوصول لنادي العشر الدول الأولى في العالم من حيث مستوى دخل الفرد ... فلما قامت الانتفاضة المباركة هبطت بالاقتصاد اليهودي إلى أسوأ حالاته منذ قيام الدولة . وذلك بإجماع الخبراء والمراقبين في إسرائيل والهيئات الدولية المختصة"(2).
__________
(1) عمليات المقاومة العسكرية والعمليات الاستشهادية التي نفّذتها حركات المقاومة الفلسطينية ص:196، وقد اعتمدت الدراسة في تقدير هذه الأضرار على تقرير وزير مالية العدو اليهودي الذي نشرته صحيفة (هآرتس) اليهودية في عددها الصادر بتاريخ 15/9/2002م
(2) الانتفاضة والتتار الجدد ص:82(1/115)
ثم يورد الحوالي أمثلة لبعض هذه الآثار الاقتصادية على دولة إسرائيل، فيقول:"نشرت (يديعوت أحرونوت) في 23/7/2002م مقالاً بعنوان (الانتفاضة تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي أضراراً بقيمة 50 مليار شيكل في سنتين، أي 11 مليار دولار) . لكن الثابت أنه بعد ذلك بثلاثة أشهر عند مناقشة ميزانية عام 2003م ظهر أن الحال أسوأ مما توقع المعنيون بالشأن، وأن جملة الخسائر المباشرة وغير المباشرة تصل إلى 40 مليار دولار ... في الوقت نفسه هبطت قيمة الشيكل بنسبة 22%، وارتفعت نسبة البطالة من 10.3% في عام 2001 إلى 10.9% عام 2002م وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، لكن مقالاً تالياً في (يديعوت أحرونوت) في 16/7/2002م يجعل النسبة 12% نقلاً عن مدير المعهد الإسرائيلي للأبحاث الاقتصادية الاجتماعية الذي قال: (إنها نسبة قياسية لم تشهدها الدولة منذ قيامها ) ... وأكثر القطاعات تضرراً هو قطاع السياحة حيث نقص بنسبة 45% إلا أن تقارير أخرى تؤكد أن النسبة هنا أعلى بكثير ؛ لأن المشكلة لا تنحصر في الهبوط الحاد في نسبة السياح فقط، بل في كون السائح لا يكاد يغادر الفندق للتسوق إلا قليلاً، لأن الوضع الأمني يتدهور باستمرار"(1).
من الشواهد العملية على الأثر الاقتصادي للأعمال الفدائية:
حتى نقف عملياً على شئ من آثار هذه الأعمال أستعرض فيما يلي آثار (عملية مجدو)، التي قام فيها الشاب الفلسطيني حمزة سمودي من"سرايا القدس"الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في يوم 5/6/2002م بتفجير سيارة ملغومة بجانب باص تابع لشركة (إيجد) الصهيونية عند مفترق مجدو بالقرب من مدينة العفولة، مما أدى إلى مقتل 18 إسرائيلياً وجرح أربعين آخرين، غالبيتهم العظمى من الجنود .
__________
(1) المصدر السابق ص:84-85(1/116)
وكان من تداعيات هذه العملية وآثارها ما أوردته بعض المصادر الصهيونية، حيث نقلت عن (ديفيد رتنر) الناطق باسم شركة (إيجد) للمواصلات وهي الشركة الرسمية الوحيدة في الكيان الإسرائيلي: أنه في أعقاب استهداف الحافلات من قبل الاستشهاديين الفلسطينيين فإن عدد ركاب هذه الحافلات قد انخفض بنسبة 41 بالمئة، وأن السبب الرئيس لهذا الانخفاض هو فقدان الإسرائيليين للأمن الشخصي . وقال (رتنر): إن عدد المسافرين ينخفض بنسبة أعلى بكثير في أعقاب العمليات الفلسطينية . وبسبب هذا الانخفاض في عدد الركاب، فإن الشركة تخسر شهرياً حوالي 20 مليون شيكل (حوالي 5 ملايين دولار) . وقد وجه المدير العام للشركة (أريك فلامان) رسالة إلى شارون يطلب فيها تجنيد 3000 شخص للعمل في مجال حماية الحافلات، وتبلغ الكلفة الإجمالية لهؤلاء الحراس أكثر من 110 ملايين دولار سنوياً، وهو ما يهدد بإفلاس أكبر شركة للمواصلات الداخلية في الكيان الصهيوني .
ومن الملاحظ وقوع هذه العملية في بداية الموسم السياحي للكيان الصهيوني الذي يوفر سنوياً قرابة 2.5 مليار دولار، وتعتمد عليه قطاعات اقتصادية هامة في الكيان الصهيوني مثل قطاع الفنادق والمطاعم والأماكن السياحية والخدمات، ونتيجة لذلك تراجعت حركة الطيران إلى الكيان الصهيوني بصورة حادة، الأمر الذي دفع شركة (العال) الصهيونية إلى إعلان حالة الطوارئ وتخفيض عدد رحلاتها، وإلغاء عدد من مكاتبها الفرعية، وتخفيض نسبة كبيرة من الموظفين العاملين فيها داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ويتوقع أن تبلغ خسائرها للعام الحالي أكثر من 160 مليون دولار .(1)
__________
(1) جدوى الكفاح الفلسطيني المسلح"عملية مجدو نموذجاً": سعيد عمر / مجلة المجاهد الصادرة عن بيت المقدس للثقافة والإعلام العدد 355، وينظر: موقع المجلة ضمن موقع طريق القدس:
http://www.qudsway.com/Links/almujahed/355/355-7.htm(1/117)
وفيما يتعلق بأثر هذه الأعمال على قطاع السياحة عموماً في دولة إسرائيل، شن (رحبعام زئيفي) وزير السياحة الإسرائيلي السابق هجوماً على من وصفهم بـ"الجبناء الفارين"، في إشارة إلى الصهاينة الذين يتوجهون إلى قضاء العطل في الخارج . وقال بانفعال في تصريحات للإذاعة الصهيونية: هل تصدقون أنه في 28 مايو الماضي توجه 300 ألف من مواطنينا لقضاء عطلة العيد في الخارج، في الوقت الذي تعاني فيه مرافقنا السياحية من حالة كساد كبير؟، وكشف (زئيفي) النقاب عن أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى تم إغلاق أكثر من 60% من المرافق السياحية، كما تم الاستغناء عن خدمات المئات من العاملين في ذلك القطاع .(1)
وأشارت الإحصائيات إلى أن عدد السياح الأجانب القادمين إلى إسرائيل قد انخفض إلى النصف خلال الستة أشهر الأولى من عام 2001م مما أدى إلى خسائر قدرتها وزارة السياحة بنحو 1.2 مليار دولار ، كما انخفض الاستثمار الأجنبي من 7 مليارات إلى 3.4 مليارات دولار خلال نفس الفترة .(2)
خامساً ) آثار الأعمال الفدائية على جانب الهجرة والاستيطان:
من المعلوم أن حركة الهجرة والاستيطان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن البلد واستقراره .
ومن أهداف العدو اليهودي المحتل، زيادة السكان اليهود على أرض فلسطين، وذلك بتشجيع الهجرة والاستيطان، وتقديم التسهيلات والخدمات ليهود العالم كي يهاجروا إلى أرض الميعاد كما يزعمون .
وبمرور السنوات ازداد عدد السكان اليهود، وتوسعت إسرائيل في بناء المستوطنات، لكن أمراً لم يكن في الحسبان، قَلَب الميزان، ألا وهو الانتفاضة والأعمال الفدائية .
فمع تناقص معدلات الهجرة إلى الأراضي المحتلة، فإنه في المقابل ازدادت معدلات الهجرة العكسية إلى شتى بلدان العالم .
__________
(1) مجلة المجتمع في عددها الصادر في 9/6/2001م
(2) العالم في عام ص: 63(1/118)
يقول د.الحوالي:"كان اليهود يتوقعون [قبل الانتفاضة فما بالك بما بعدها ] وفقا ًلمعدلات النمو السكاني أن يصبحوا عام 2020م أقلية بين العرب وكان ذلك يفزعهم، وينذر بمصير مشئوم لدولتهم ... وجاء في تقرير حديث لوكالة الأنباء الإسرائيلية وعلقت عليه الجرائد أن الحياة في إسرائيل تعطلت أو تدهورت إلا شيئاً واحداً فقط وهو السفر للخارج، فقد بلغ عدد المسافرين سنة 2002م ثلاثة ملايين وستمائة ألف (طبيعي أن يعود أكثرهم لكن من سيبقون [في الخارج] كثير ) ... إن الانتفاضة لم تؤد فقط إلى هجرة من الداخل بل هبطت بنسبة المهاجرين إلى الأرض المحتلة من الخارج إلى أدنى مستوياتها . والمثال الواضح لذلك هم اليهود المهاجرون من الإتحاد السوفييتي المتفكك الذين كانت الدولة اليهودية تعتبرهم أكبر مدد لها خلال عقد كامل فقد بلغت نسبة انخفاض عددهم بعد الانتفاضة 77% .
وإذا كان عام 2001م هو الأسوأ باعترافهم في تاريخ الهجرة اليهودية إلى إسرائيل فإن (يديعوت أحرونوت) قد ذكرت أن عام 2002م أسوأ منه حيث هبط عدد المهاجرين إلى إسرائيل فيه بنسبة 23% مقارنة بعام 2001م"(1).
وقد نشرت (يديعوت أحرونوت) التقرير السنوي لدائرة الإحصاء المركزية للعام 2001م، ومما جاء في هذا التقرير:"وصل إلى إسرائيل في عام 2001م قرابة 43.600 مهاجر، ما يعني انخفاض عدد المهاجرين بنسبة 28% قياسا مع العام 2000م حيث وصل في حينه 60.200 مهاجر . وهذا هو أقل عدد من المهاجرين يصل إلى البلاد منذ عام 1990م"(2).
__________
(1) الانتفاضة والتتار الجدد ص:62-64
(2) صحيفة (يديعوت أحرونوت) عدد الأربعاء 4/9/2002 (الموقع الرسمي للصحيفة على شبكة الإنترنت)(1/119)
وفي إطلالة مباشرة على أحوال المجتمع اليهودي، كشف تقرير بثته القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي ضمن برنامج (مشعال عام) منتصف فبراير 2002م عن اتساع ظاهرة الهجرة المضادة من إسرائيل في أعقاب تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأفاد أن نحو 4000 إسرائيلي هاجروا العام الماضي إلى كندا، فضلاً عن آلاف آخرين غادروا إلى مختلف أرجاء العالم، ونقل التقرير عن عدد من المهاجرين قولهم إنهم ضاقوا ذرعاً بالأوضاع الأمنية المتفاقمة وبتفشي البطالة وإنهم قرروا البحث عن مكان يؤويهم ويضمن لهم الأمن الشخصي والاستقرار الاقتصادي، قال أحدهم: أصبح حلمي الأول أن أتمكن من تناول العشاء في مطعم برفقة أسرتي بهدوء ولن يتحقق حلمي إلا بالخارج . (1)
ومما يضاعف أثر الأعمال الفدائية على المجتمع اليهودي أن كثيراً من المهاجرين هم من الطبقة المثقفة والغنية، فقد ذكرت صحيفة (هآرتس) أن هجرة مليون يهودي غني أمر متوقع، وأشارت الصحيفة إلى أنه إذا غادر هؤلاء بأموالهم وذهب كذلك أصحاب الخبرات والمهن الراقية فلن يبقى في البلاد إلا العمال والفقراء والمجندون وتتحول إسرائيل إلى دولة من العالم الثالث .(2)
وبهذا يتضح الأثر الكبير للأعمال الفدائية على حركة الهجرة والاستيطان، فقد أرهبت اليهود في الخارج حتى أحجم كثير منهم عن الهجرة إلى الأراضي المحتلة، كما أرهبت اليهود داخل فلسطين إرهاباً عظيماً، وكسرت قلوبهم حتى صاروا يغادرون مستوطناتهم خوفاً من وقوع هذه الأعمال .
وعندما يرتد العدو عن عقيدته التي من أجلها جاء و قاتل، فإن ذلك يعني أن الهزيمة النفسية لديه قد بلغت النهاية، والردة هنا ليست تعبيرا مجازياً، بل هي حقيقة دينية عند الصهاينة، فهم يسمون العودة من أرض الميعاد ردة .(3)
__________
(1) صحيفة (البيان) الإماراتية، عدد الأربعاء 10/8/1423هـ
(2) الانتفاضة والتتار الجدد ص:64
(3) المصدر السابق ص:61(1/120)
سادساً ) آثار الأعمال الفدائية على تحريض المجاهدين على القتال:
من الأمور المقصودة التي عني بها الشارع الحكيم تحريض المؤمنين على القتال، وحثهم على الإقدام على الشهادة، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } (1).
وفي المفردات:"والتحريض: الحث على الشئ بكثرة التزيين، وتسهيل الخطب فيه"(2).
ومن المعلوم أن المجاهد وهو يتقحم مواطن الموت، وفي رهبة المواجهة، يحتاج إلى شئ من التحريض والتعبئة المعنوية التي تشحذ همته، وتقوي عزيمته على الإقدام .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتني بهذا الجانب الهام، ويحرض أصحابه على القتال كما أمره الله سبحانه وتعالى، ومن الشواهد على هذا الأمر في السيرة النبوية ما يلي:
1- ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر:"قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض ؟ قال: نعم . قال: بخ بخ . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها . قال: فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قَرَنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة . قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل"(3).
__________
(1) الأنفال: 65]
(2) المفردات في غريب القرآن ص:113
(3) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (3520)(1/121)
2- وروى مسلم أيضاً عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وأخذتنا ريحٌ شديدةٌ، و قَرٌّ(1)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم . فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم . قال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم علي(2). فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمّام(3)، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يَصْلِي(4)ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تَذْعَرْهم علي . ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قُرِرْت(5)، فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال: قم يا نومان"(6).
__________
(1) القُرّ: بضم القاف وهو البرد . شرح صحيح مسلم للنووي 12/145
(2) لا تَذْعَرْهم علي: أي لا تفزعهم ولا تحركهم علي . شرح صحيح مسلم للنووي 12/145
(3) في حمّام: من الحميم وهو الماء الحار، يعني أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس ولا من تلك الريح الشديدة شيئا . شرح صحيح مسلم للنووي 12/146
(4) يَصْلِي ظهره: أي يدفئه ويدنيه من النار . شرح صحيح مسلم للنووي 12/146
(5) قُرِرْت: بضم القاف وكسر الراء أي بردت . شرح صحيح مسلم للنووي 12/145
(6) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1788)(1/122)
ففي هاتين الحادثتين إشارة إلى تحريضه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على القتال والإقدام، بترغيبهم في الجنة، أو وعدهم بمعيته يوم القيامة .
وإذا تقرر مما سبق أهمية التحريض والتحفيز المعنوي للمجاهدين، فإن من آثار الأعمال الفدائية إحياء روح الجهاد الخامدة في النفوس، وتحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال أعداء الدين، وبعث حب الجهاد والاستشهاد في الأمة، الأمر الذي يخشاه الأعداء ويحرصون كل الحرص على عدم ظهوره في الأمة من جديد .(1)
وهذا الأمر يفسر اهتمام حركات المقاومة بتبني هذه الأعمال، وبث وصايا منفذيها، تحريضاً لغيرهم من المجاهدين، وإحياءً للفدائية والتضحية في الأمة .
وبهذا أكون قد انتهيت من الحديث عن آثار الأعمال الفدائية في النكاية بالأعداء .
المبحث الثاني: الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاقتحام المظنون فيه الهلاك
المطلب الثاني: المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
المطلب الأول: الاقتحام المظنون فيه الهلاك
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة الاقتحام المظنون فيه الهلاك
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للاقتحام المظنون فيه الهلاك
المسألة الأولى: صورة الاقتحام المظنون فيه الهلاك
تتمثل هذه الصورة في قيام المجاهد باقتحام صفوف العدو، أو الدخول إلى مواقعه، والمفاداة بنفسه لتحقيق نكاية بعدو أو مصلحة للمسلمين .
والذي يميز هذه الصورة عن غيرها من أعمال الجهاد هو وجود قدر زائد من المخاطرة، بحيث يغلب على الظن أن المجاهد سيُقتل بسببها، نظراً لعدم تكافؤ القوى في الظاهر، لكن هذا ليس على سبيل القطع، إذ احتمال نجاته قائم بنسبة ما .
وقد جاء في التاريخ الإسلامي عدد من الوقائع التي تندرج ضمن هذه الصورة .
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:24- 25(1/123)
1-ومن ذلك ما رواه ابن جرير الطبري في تاريخه في سياق معركة اليرموك، قال:"ولما طال القتال قال عكرمة بن أبي جهل(1)يومئذ: قاتلتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن وأفر منكم اليوم - أي من الروم - ثم نادى من يبايع على الموت، فبايعه الحارث بن هشام(2) وضرار بن الأزور(3)في أربعمائة من وجوه
__________
(1) عكرمة بن أبي جهل (صحابي): أبو عثمان عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي، الشريف الرئيس الشهيد، تحولت إليه رئاسة بني مخزوم بعد مقتل أبيه، ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة هرب منها عكرمة وصفوان بن أمية فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمنهما وصفح عنهما فأقبلا إليه، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه بالمرة، شهد يوم اليرموك فقاتل قتالاً شديداً ثم استشهد فوجدوا به بضعاً وسبعين طعنة ورمية وضربة، وقيل: قتل يوم أجنادين . ينظر: الطبقات الكبرى 5/444، سير أعلام النبلاء 1/323، الإصابة في تمييز الصحابة 4/538
(2) الحارث بن هشام (صحابي): أبو عبد الرحمن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو المخزومي القرشي، أخو أبي جهل بن هشام، أسلم يوم فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامه وانتقل إلى الشام وسكنها غازياً ومرابطاً، ت: 18هـ في طاعون عَمواس . ينظر: الثقات 3/72، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/301، الإصابة في تمييز الصحابة 1/605
(3) ضرار بن الأزور (صحابي): أبو الأزور ويقال أبو بلال، واسم الأزور مالك بن أوس بن جذيمة الأسدي، سكن الكوفة، كان فارساً شجاعاً، اختلف في وفاته فذكر الواقدي أنه قاتل يوم اليمامة قتالاً شديداً حتى قطعت ساقاه جميعاً فجعل يحبو على ركبتيه ويقاتل وتطؤه الخيل حتى غلبه الموت، وقيل: إنه قتل يوم أجنادين في خلافة أبي بكر، وقيل: توفي في خلافة عمر بالكوفة . ينظر: الطبقات الكبرى 6/39، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/746، الإصابة في تمييز الصحابة 3/481(1/124)
المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أُثبِتوا جميعاً جراحاً وقتلوا، إلا من برأ ومنهم ضرار بن الأزور، قال: وأتي خالد بعدما أصبحوا بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر في حلوقهما الماء ويقول: كلا زعم ابن الحنتمة أنا لا نُسْتَشْهَد .(1)
2-وفي تاريخ مدينة دمشق عن واثلة بن الأسقع(2) قال: لما نزل خالد بن الوليد الصُفَّرَ(3)، قال واثلة بن الأسقع: ركبت فرسي ثم أقبلت أسير حتى انتهيت إلى باب الجابية(4)، قال: فنزلت عن فرسي فمَعَكْتُه(5) ثم شددت عليه سرجه، ثم اعتمدت على رمحي، فسمعت صرير فتح باب الجابية، وإذا أنا بأناس قد خرجوا خَرَّائين(6)، فقلت: قبيح مني أن أحمل على رجل على مثل هذه الحالة فلم يكن إلا يسيراً، حتى خرجت خيل عظيمة فأمهلتها حتى إذا كانت فيما بيني وبين دير ابن أبي أوفى حملت عليهم من خلفهم، ثم كبرت فظنوا أنهم قد أحيط بمدينتهم، فانصرفوا راجعين، قال: وشددت على عظيمهم فدعسته(7)
__________
(1) تاريخ ابن جرير 2/338، تاريخ دمشق 24/391
(2) واثلة بن الأسقع (صحابي): واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر، وقيل: واثلة بن الأسقع بن عبد العزى الليثي، من أصحاب الصُّفَّة، أسلم سنة تسع وشهد غزوة تبوك، وكان من فقراء المسلمين، طال عمره، ت:83هـ وهو ابن مائة وخمس سنين . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1563، سير أعلام النبلاء3/383، الإصابة في تمييز الصحابة 6/591
(3) الصُّفَّر: بضم الصاد وفتح الفاء المشددة موضع بين دمشق والجولان . معجم البلدان 3/413
(4) الجابية: حي بدمشق . لسان العرب 14/131 مادة (جَبَى)
(5) المعك: الدلك، معكه في التراب يمعكه معكاً دلكه . لسان العرب 10/490 مادة (مَعَكَ)
(6) خرّائين: من الخِراءة وهي التخلي والقعود للحاجة، والمراد أنهم خرجوا لقضاء حوائجهم . لسان العرب 1/64 مادة (خَرَأ)
(7) الدعس بالرمح: الطعن . لسان العرب 6/83 مادة (دَعَس)(1/125)
بالرمح فوقع، وضربت بيدي إلى بِرْذَونه(1)فأخذت بلجامه ثم ركبته، فنظروا إلي، فلما رأوني وحدي، أقبلوا علي ؟ فالتفت فإذا برجل قد نَدَرَ(2)بين أيديهم فرميت بالعنان على قَرَبوس(3)السرج، ثم عطفت عليه، فدعسته بالرمح فقتلته، ثم عدت إلى البرذون، فأتبعوني فالتفت، فإذا برجل قد ندر بين أيديهم، فألقيت العنان على قربوس السرج، ثم عطفت عليه فدعسته بالرمح فقتلته حتى واليت بين ثلاثة فلما رأوا ما أصنع انطلقوا راجعين. وأقبلت أسير حتى أتيت الصُّفَّر، فأتيت منزلي فربطت البرذون ونزعت عنه سرجه، ثم أتيت خالد بن الوليد فذكرت له ما صنعت وعنده عظيم الروم، قد كان خرج إليه يلتمس الأمان لأهل المدينة، فقال له خالد: هل علمت أن اللّه قد قتل فلاناً -يعني خليفته - قال بالرومية: متانوس - يعني: معاذ اللّه - فأقبل واثلة بالبرذون، فلما نظر إليه عظيم الروم عرفه، قال أتبيعني السرج ؟ قال: نعم، قال: لك عشرة آلاف . فقال خالد بن الوليد: بِعْه، قال واثلة لخالد: بعه أنت أيها الأمير، فباعه، قال: وسَلَّم إلَيَّ سَلَبَه ولم يأخذ منه شيئاً.(4)
__________
(1) البِرْذَون: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال من الفصيلة الخيلية، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحوافر . المعجم الوسيط مادة (بَرْذَنَ) ص: 48…
(2) نَدَرَ: شذ . مختار الصحاح مادة (ندر) 1/272
(3) القَرَبوس: حِنو السرج أي رجله . لسان العرب مادة (قَرْبَس) 6/172
(4) رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 62/345(1/126)
3-وروى الحافظ المزي بإسناده قال : غزا بُسْر بن أرطاة(1)الروم، فجعلت ساقته(2)لا تزال يصاب منها طرف، فجعل يلتمس أن يصيب الذين يلتمسون عورة ساقته فيكمن لهم الكمين فيصاب الكمين، فجعلت بعوثه تلك لا تصيب ولا تظفر، فلما رأى ذاك تخلف في مائة من جيشه، ثم جعل يتأخر حتى خلف وحده، فبينا هو يسير في بعض أودية الروم إذا ثلاثين برذوناً والكنيسة إلى جانبهم فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه مع تلك البراذين، ثم مضى حتى أتى الكنيسة فدخلها ثم أغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه وهو وحده، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة . وفقده أصحابه فلاموا أنفسهم وقالوا: إنكم لأهل أن تجعلوا مثلاً الناس أن أميركم خرج معكم فضيعتموه حتى هلك ولم يهلك منكم أحد، فبينا هم يسيرون في ذلك الوادي حتى أتوا مرابط تلك البراذين فإذا فرسه مربوط معها فعرفوه، وسمعوا الجلبة في الكنيسة فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا طائفة من سقفها فنزلوا عليهم وهو ممسك طائفة من أمعائه بيده اليسرى والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة
__________
(1) بُسْر بن أرطاة (مختلف في صحبته): أبو عبد الرحمن بسر بن أرطاة بن عمير بن عويمر القرشي العامري، الأمير نزيل دمشق، اختلف في صحبته فذهب الواقدي وأحمد وابن معين أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب أهل الشام إلى أنه سمع منه، شهد فتح مصر وكان من شيعة معاوية، ووجهه معاوية إلى اليمن والحجاز، وولي له البحر، وقد اختلف في وفاته فقيل: إنه مات أيام معاوية، وقيل: بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: مات في خلافة الوليد سنة 86هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/157، سير أعلام النبلاء 3/409، الإصابة في تمييز الصحابة 1/289
(2) الساقة: جمع سائق، وهم الذين يَسُوقون جيش الغُزاة ويكونون مِنْ ورائه يحفظونه . لسان العرب مادة (سوق) 10/167(1/127)
سقط بسر مغشياً عليه، فأقبلوا على من كان بقي فأسروا أو قتلوا، فأقبلت عليهم الأسارى فقالوا: نَنْشُدكم الله من هذا الرجل الذي دخل علينا؟ قالوا: بسر بن أبي أرطاة . فقالوا: ما ولدت النساء مثله . فعمدوا إلى معاه فردوه في جوفه ولم ينخرق منه شيء، ثم عصبوه بعمائمهم وحملوه على شقه الذي ليست به جراح حتى أتوا العسكر فخاطوه فسلم وعوفي .(1)
4-ونقل القرطبي أن المسلمين لما لقوا الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، فقيل له: إنه قاتلك . فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين .(2)
5-ومن ذلك حادثة حصار القسطنطينية، والتي وقعت بمحضر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، والمذكورة عند تفسير قوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (3).
ونظراً لأهمية معرفة المراد بهذه الآية للحكم على هذه الصورة من الأعمال، فسأفرد الكلام عنها وعن قصة أبي أيوب، من خلال ما ذكره أهل التفسير والفقهاء، وذلك فيما يلي .
تحقيق القول في المراد بقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ):
__________
(1) تهذيب الكمال 4/62-63
(2) تفسير القرطبي 2 / 364
(3) البقرة: 195 ](1/128)
روى الترمذي وأبو داود والحاكم وغيرهم عن أسلم التُجيبي(1)قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة . فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها . فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ علينا ما قلنا: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (2)، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو . فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم .(3)
تفسير التهلكة في الآية:
__________
(1) أسلم التُجِيبي: أبو عمران أسلم بن يزيد التجيبي المصري، مولى عمير بن تميم التجيبي، وثقه النسائي، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له هو والحاكم في صحيحيهما، وقال أبو سعيد بن يونس: كان وجيهاً بمصر في أيامه وكانت الأمراء يسألونه في حوائجهم . ينظر: الثقات 4/46، تهذيب الكمال 2/528، تهذيب التهذيب 1/232
(2) البقرة: 195 ]
(3) روه أبو داود في كتاب الجهاد برقم ( 2512 )، والترمذي في كتاب تفسير القرآن برقم ( 2972 ) وقال: حديث حسن صحيح غريب، والحاكم (2/275 ) وصححه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/100(1/129)
قال الطبري:"اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ومن عنى بقوله: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ، فقال بعضهم: عنى بذلك وأنفقوا في سبيل الله، وسبيل الله طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين لجهادهم وحربهم ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، يقول ولا تتركوا النفقة في سبيل الله فإن الله يعوضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلا ...
وقال آخرون ممن وجهوا تأويل ذلك إلى أنه معنية به النفقة، معنى ذلك وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة ...
وقال آخرون: بل معناه أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم فيما أصبتم من الآثام إلى التهلكة فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الخيرات ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك وأنفقوا في سبيل الله ولا تتركوا الجهاد في سبيله"(1).
ثم قال الطبري بعد سياقه الخلاف في الآية:"فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئا دون شئ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه، فغير جائز لأحد منا الدخول في شئ يكره الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه . غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي"(2).
__________
(1) تفسير الطبري 2 /200-205
(2) تفسير الطبري 2 /205(1/130)
وقال ابن العربي:"في تفسير التهلكة: فيه ستة أقوال: الأول: لا تتركوا النفقة . الثاني: لا تخرجوا بغير زاد، يشهد له قوله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (1). الثالث: لا تتركوا الجهاد . الرابع: لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها . الخامس: لا تيأسوا من المغفرة ; قاله البراء بن عازب . قال الطبري: هو عام في جميعها لا تناقض فيه . وقد أصاب إلا في اقتحام العساكر ; فإن العلماء اختلفوا في ذلك ."(2).
وهذا التعقب الذي تعقب به ابن العربي الإمام الطبري فيه نظر من وجهين:
1- أن الإمام الطبري لم يذكر في تفسيره القول بالاقتحام عند سياقه الأقوال في الآية، كما تقدم كلامه .
2- أن القول بعدم دخول الاقتحام في عموم التهلكة رده عدد من أهل العلم، وقالوا بدخوله في الآية، لكنهم حملوه على الاقتحام المنهي عنه، وهو ما كان اقتحاماً محضاً دون تحقيق نكاية بالعدو . والقول بدخول الاقتحام المنهي عنه في عموم الآية أولى ما دام المعنى صحيحاً ولا ينافي الآية .
قال الجصاص في بيان التهلكة:"هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو . وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب . وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف"(3).
وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } :"والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري، ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين"(4).
__________
(1) البقرة: 197]
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1/165
(3) أحكام القرآن للجصاص 1/360
(4) فتح القدير 1/297(1/131)
القول الراجح: الراجح -والله أعلم- أن الآية عامة كما اختاره الطبري(1) والجصاص(2) والشوكاني(3)، ويكون المراد بالتهلكة في هذه الصورة أن يحمل على العدو دون أن يكون في إقدامه نكاية بالعدو، لأنه بهذا يهلك نفسه من غير مصلحة معتبرة، أما إذا كان في إقدامه نكاية بالعدو فإنه لا يدخل في عموم الآية، كما دل عليه كلام أبي أيوب الأنصاري المتقدم .
ويؤيد هذا الترجيح أن مجرد اقتحام صفوف العدو دون نكاية لا يجوز على الصحيح كما هو مذهب الجمهور خلافاً لبعض المالكية كما سيأتي بيانه قريباً، وما دام أنه محرم فهو من التهلكة، لأنه يكون حينئذ إهلاك للنفس بغير وجه شرعي .
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للاقتحام المظنون فيه الهلاك
اختلف العلماء في حكم اقتحام المجاهد فيما يغلب على الظن هلاكه به على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز اقتحام المجاهد صف الكفار وحده، إذا كان في فعله نكاية بالعدو .
1- قال السرخسي(4)
__________
(1) تفسير الطبري 2 / 205
(2) أحكام القرآن للجصاص 1/360
(3) فتح القدير 1 / 193
(4) السرخسي: أبو بكر محمد بن سهل السرخسي، أحد فقهاء الأحناف المجتهدين، من أشهر كتبه المبسوط في الفقه الحنفي أملاه وهو في السجن في الجب، وكان سبب سجنه كلمة نصح بها الخاقان*، وله مصنفات أخرى منها: شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن، والأصول في الفقه، ت:483هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 19/147، شذرات الذهب 3/367، الأعلام 5/315
…* الخاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك . لسان العرب مادة (خقن) 13/142(1/132)
:"لو حمل الواحد على جمع عظيم من المشركين، فإن كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو ينكي فيهم نكاية فلا بأس بذلك، وإن كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك لقوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ، { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } "(1).
2- وفي شرح السير الكبير:"ولو أن مسلماً حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك . لأنه يقصد بفعله النيل من العدو . وقد فعل ذلك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير واحد من الأصحاب يوم أحد ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشر بعضهم بالشهادة حين استأذنه في ذلك"(2).
3- وفي شرح الخِرَشي على خليل:" يجوز للرجل أن يقدم على ما زاد على اثنين من المشركين ليقاتلهم وهو مراده بالكثير أي جمع كثير، وإن علم ذهاب نفسه بشرط أن يمحض نيته لله، وأن يعلم من نفسه الكفاية وأن يكون في ذلك نكاية لهم . وأما إن فعل ذلك لأجل أن يظهر شجاعة من نفسه فإنه لا يجوز له فعل ذلك ; لأنه لم يقاتل حينئذ لتكون كلمة الله هي العليا"(3).
4- وقال الشافعي:"لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراًً، أو يبادر الرجل، وإن كان الأغلب أنه مقتول ; لأنه قد بودر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(4).
5- وقال النووي - تعليقاً على قصة عمير بن الحُمام -:"فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة، وهو جائز لا كراهة فيه عند جماهير العلماء"(5).
__________
(1) المبسوط 10/ 76، والآية الأولى في سورة [ النساء: 29]، والثانية في سورة [ البقرة: 195 ]
(2) شرح السير الكبير 4/1512
(3) شرح الخرشي على خليل 3 /120ـ 121
(4) الأم 4/178
(5) شرح مسلم للنووي 13/46(1/133)
6- وقال ابن تيمية:"إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك، كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنّه يقتل، فهذا حَسَنٌ، وفي مثله أنزل الله قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } (1)، ومثلما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو"(2).
وإذا كان فقهاء المذاهب الأربعة قد نصوا على جواز الاقتحام في هذه الصورة كما تقدم، فإن هناك نصوصاً تحكي الإجماع على ذلك .
1- فقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن المُهَلَّب(3)أن العلماء أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد . (4)
2- وقال الغزالي(5)
__________
(1) البقرة: 207 ]
(2) مجموع الفتاوى 25/279
(3) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي: صنف شرح صحيح البخاري، وكان أحد الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، ولي قضاء المَرِيَّة*، توفي في شوال سنة 435هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 17/579، الديباج المذهب 1/348،كشف الظنون 1/545
…* المَرِيَّة: مدينة كبيرة في الأندلس . معجم البلدان 5/119
(4) فتح الباري 12/316
(5) الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، حجة الإسلام، فيلسوف متصوف من فقهاء الشافعية، له مؤلفات كثيرة منها: إحياء علوم الدين، المستصفى من علم الأصول، الوجيز، والبسيط، وهما في الفقه، ت:505هـ
ينظر: طبقات الشافعية 2/293، شذرات الذهب 4/10، الأعلام 7/22(1/134)
في الإحياء:"لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار فيقاتل وإن علم أنه سيقتل ... ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز، فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يَقْتُل حتى يُقْتَل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة، وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتكسر بذلك شوكتهم"(1)0
ومن أدلة القول الأول المجيز للاقتحام، ما يلي:
الدليل الأول: قول الله سبحانه وتعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } (2).
جاء في سبب نزول الآية: عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شئ ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي . قالوا: نعم . فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ربح البيع، ربح البيع، ونزلت: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } (3)"(4)
__________
(1) إحياء علوم الدين 7/26
(2) البقرة: 207 ]
(3) البقرة: 207 ]
(4) …أخرجه الحاكم 3/450 وقال:"صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ورواه ابن حبان 15/557 وصححه، والطبراني في الكبير 8/31، وأبو نعيم في الحلية 1/151، وصححه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 8/79
قال الطبري في تفسيره 2/322:"وأما ما روي من نزول الآية في أمر صهيب فإن ذلك غير مستنكر، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسبب من الأسباب والمعني بها كل من شمله ظاهرها . فالصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله عز ذكره وصف شارياً نفسه ابتغاء مرضاته، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها أو استقتل وإن لم يقتل فمعني بقوله ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر" .
وقال ابن كثير في تفسيره 1/248:" وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله".(1/135)
وروى ابن أبي شيبة(1) بإسناده أن كتيبة من كتائب الكفار جاءت من قبل المشرق، فلقيهم رجل من الأنصار، فحمل عليهم، فخرق الصف حتى خرج، ثم كر راجعاً، فصنع مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فإذا سعد بن هشام يذكر ذلك لأبي هريرة، فتلا هذه الآية { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } (2).(3)
وجه الاستدلال: دلت الآية وما ورد في سبب نزولها على أن تعريض النفس للقتل من الجهاد بالنفس الذي يحبه الله ويرضاه .
قال ابن تيمية:"فقوله (يشري نفسه) أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه، وإن قُتِل أو غلب على ظنه أن يقتل"(4).
__________
(1) ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم الكوفي، الإمام العلم سيد الحفاظ وصاحب الكتب الكبار المسند والمصنف والتفسير، ت:235هـ . ينظر: تهذيب الكمال 16/34، سير أعلام النبلاء 11/122، طبقات الحفاظ 2/432
(2) البقرة: 207 ]
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 5/322 قال: حدثنا محمد بن أبي عدي عن بن عون عن محمد به .
قلت: إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات . ومحمد بن أبي عدي: هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وابن عون: هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، ومحمد: هو محمد بن سيرين الأنصاري الإمام المشهور .
(4) قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ / 32(1/136)
الدليل الثاني: ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عيناً وأَمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري(1)، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَة - وهو موضع بين عُسْفان ومكة - ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لَحْيان، فنفروا لهم قريباً من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فَدْفَد(2)وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحداً . قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً في سبعة . فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دَثِنَة(3)
__________
(1) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري (صحابي): جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، من السابقين الأولين من الأنصار، شهد بدراً، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أواخر السنة الثالثة على سرية في قصة طويلة وفيها أنه حين قتله بنو لحيان حي من هذيل أرسلت قريش ليأخذوا شيئاً من جسده، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدُّبُر -ذكور النحل- فحمته منهم ولذلك كان يقال له: حَمِي الدُّبُر . ينظر: الطبقات الكبرى 3/462، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/779، الإصابة في تمييز الصحابة 3/569
(2) الفَدْفَدْ: الموضع الذي فيه غِلظٌ وارتفاع . لسان العرب مادة (فدفد)3/330
(3) زيد بن دَثِنة (صحابي): زيد بن دثنة ويقال ابن الدَّثِنة بن معاوية بن عبيد الأنصاري البياضي، شهد بدراً وأحداً، وأُسِر يوم الرجيع مع خبيب بن عدي فبيع بمكة من صفوان بن أمية فقتله وذلك في سنة ثلاث من الهجرة .
ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/553، سير أعلام النبلاء 1/246، الإصابة في تمييز الصحابة 2/604(1/137)
ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسِيِّهم فأوثقوهم . فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى، فجرَّرُوه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة ... الحديث .(1)
وجه الاستدلال: قال ابن تيمية:"فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المائة أو المائتين، ولم يستأسروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة، ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم فقتلوه، وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم"(2).
الدليل الثالث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهِقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ؟، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهِقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ؟، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه: ما أنصفْنا أصحابَنا .(3)
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن قيام الرجل الواحد من الصحابة لرد الجماعة من المشركين يعد من قبيل الاقتحام المظنون فيه الهلاك، بدليل أن الأنصاريين السبعة قضوا نحبهم الواحد بعد الآخر، وكان فعلهم هذا بأمره - صلى الله عليه وسلم -، مع تنويهه - صلى الله عليه وسلم - بفضله والثواب المترتب عليه. ولهذا استدل البيهقي في سننه الكبرى بهذا الحديث وما جاء في معناه على هذا المعنى فقال:"باب من تبرع بالتعرض للقتل رجاء إحدى الحسنيين"(4).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (3045)
(2) قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ ص: 52…
(3) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1789)
(4) السنن الكبرى 9/43-44(1/138)
الدليل الرابع: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"عَجِب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطأته ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطأته من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وماله في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله: انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه"(1).
وجه الاستدلال: قال ابن تيمية:"هذا يدل على أن مثل هذا الفعل محبوب لله مرضي لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز ... بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يقتل فيه الرجل كثيراً أو غالباً"(2).
وقال ابن النحَّاس(3)في مشارع الأشواق:"ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس"(4).
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 1/416، ورواه أبو داود (2536)، والحاكم وصححه 2 /112، وقال الهيثمي في المجمع 2/255: رواه أحمد وأبو يعلى، والطبراني وإسناده حسن . اهـ، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/106
(2) قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ ص:55…
(3) ابن النحّاس: أبو زكريا أحمد إبراهيم بن محمد الدمشقي ثم الدمياطي المعروف بابن النحاس، فرضي فاضل مجاهد، من فقهاء الشافعية، من مؤلفاته: مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق في الجهاد، المغنم في الورد الأعظم . لازم المرابطة والجهاد بثغر دمياط وقتل شهيداً في معركة مع الفرنج عام814هـ . ينظر: شذرات الذهب 7/105، كشف الظنون 2/1686، الأعلام 1/87
(4) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق 1/532…(1/139)
الدليل الخامس: حادثة البراء بن مالك - رضي الله عنه - في حرب المرتدين من أهل اليمامة كما رواها البيهقي وغيره عن محمد بن سيرين(1): أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين، فجلس البراء بن مالك - رضي الله عنه - على ترس فقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم، فرفعوه برماحهم فألقوه من وراء الحائط، فأدركوه قد قتل منهم عشرة .(2)
وجه الاستدلال: في فعل البراء دليل على جواز حمل الواحد على جماعة من الأعداء، وأنه لا يكون ملقياً نفسه في التهلكة، لأنه يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة .(3)
ثم إن هذه الحادثة وقعت بمحضر من الصحابة، ولم ينقل أن أحداً منهم أنكر على البراء فعله، فيكون إقرار الصحابة لهذا الفعل دليل على جواز مثله .
القول الثاني: ذهب بعض المالكية إلى جواز اقتحام المجاهد صف الكفار وحده، طلباً للشهادة، ولو لم يكن في فعله نكاية بالعدو .(4)
وقد نقل ابن العربي والقرطبي هذا القول عن بعض فقهاء المالكية، فقالا:"إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل ; لأن مقصده واحد منهم"(5).
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول: قول الله سبحانه و تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } (6).
__________
(1) محمد بن سيرين: أبو بكر مولى أنس بن مالك، الإمام الرباني، كان فقيهاً إماماً غزير العلم ثقة ثبتاً علامة في التعبير رأساً في الورع، ت:110هـ . ينظر: تهذيب الكمال 25/344، تذكرة الحفاظ 1/77، سير أعلام النبلاء 4/606
(2) السنن الكبرى للبيهقي 9/44، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/154-155، البداية والنهاية 5/30، الإصابة في تمييز الصحابة 1/280-281
(3) شرح السير الكبير 1/163
(4) الذخيرة 3/410
(5) أحكام القرآن لابن العربي 1/166، تفسير القرطبي 2/363
(6) البقرة: 207 ](1/140)
وجه الاستدلال: أنه إذا طلب الشهادة وخلصت نيته فهو داخل في عموم الآية، والتغرير بالنفوس جائز في الجهاد إذا قصد به الشهادة .(1)
ويجاب عليه: بأن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية صار التغرير مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة لما فيه من فوات النفوس، مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام .(2)
الدليل الثاني: عموم حادثة أبي أيوب في القسطنطينية المتقدمة آنفاً .
وجه الاستدلال: ظاهر كلام أبي أيوب أن مجرد تقحم صفوف العدو ليس من قبيل التهلكة المنهي عنها، ولم يذكر فيه اشتراط النكاية .
وقد أجاب عن هذا الاستدلال ابن حجر الهيتمي(3)في معرض رده على من استدل بكلام أبي أيوب على عدم اعتبار النكاية، قال:"ولا شاهد في هذا لأن أبا أيوب لم يقل يحل إلقاء الإنسان نفسه في القتل من غير إظهار نكاية وهذا هو المدعى ... بل الظاهر من أحوالهم رضي الله عنهم أنهم ما أقدموا ذلك الإقدام الأعظم إلا لإيقاع نكاية في عدوهم، هذا قصدهم"(4).
القول الثالث: عدم جواز اقتحام المجاهد صف الكفار وحده مطلقاً، ولو كان في فعله نكاية بالعدو، وهذا هو القول مقابل الأظهر عند المالكية. (5)
ومن أدلة هذا القول: عموم قوله تعالى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (6)
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1/166
(2) قواعد الأحكام 1/ 111ـ 112
(3) ابن حجر الهيتمي: أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، فقيه شافعي باحث مصري، تلقى العلم في مصر ومات بمكة، له تصانيف كثيرة منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج في فقه الشافعية، الفتاوى الهيتمية وغيرها، ت:974هـ . ينظر: كشف الظنون 1/57، الأعلام 1/234
(4) الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/270
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/183
(6) البقرة: 195 ](1/141)
ويجاب عنه بما تقدم من تحقيق معنى الآية، وأن الاقتحام إذا كان فيه نكاية بالعدو فإنه ليس من التهلكة المنهي عنها في الآية .
الترجيح وشروط جواز هذه الصورة:
بالمقارنة بين الأدلة، والنظر إلى المناقشات أرى أن الراجح - والله أعلم - هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من جواز الاقتحام المظنون فيه الهلاك، بالشروط التالية:
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى:
بحيث يقصد المجاهد بعمله نصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ولا يكون قصده إظهار شجاعة ولا طمعاً في غنيمة .(1)
والأصل في هذا قول الله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (2).
والمجاهد في سبيل الله إنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة، فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ابتغاء ثواب الله، فإذا عقد نيته على هذا فلا يضره إن شاء الله الخطرات التي تقع في القلب ولا تملك .(3)
الشرط الثاني: قصد النكاية بالعدو:
و النكاية بالعدو قد تكون مباشرة، وقد تكون غير مباشرة .
فالنكاية المباشرة تتمثل في إنزال الضرر المباشر بالعدو، كقتل أفراده، أوتدمير منشآته، ونحو ذلك .
وأما النكاية غير المباشرة فيراد بها الأعمال التي يترتب عليها النكاية بالعدو لا بذاتها بل بالنظر إلى ما يترتب عليها من آثار لاحقة، كأن يكون في العمل تجرئة المسلمين على الاقتحام، أو كسر معنويات الكفار، لما في ذلك من المصلحة الشرعية المعتبرة في الجهاد .
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/283
(2) البينة: 5 ]
(3) التاج والإكليل لمختصر خليل 4 / 536 -537(1/142)
جاء في شرح السير الكبير:"ولو أن مسلماً حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك ... وإن كان لم يطمع في نكاية فإنه يكره له هذا الصنيع . لأنه يتلف نفسه من غير منفعة للمسلمين، ولا نكاية فيه للمشركين"(1).
وقال القرطبي:"وقال ابن خُوَيْز مَنْداد(2): فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكى نكاية أو سيبلى أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً"(3).
وفي حاشية الصاوي:"الجواز المذكور [أي جواز إقدام الرجل المسلم على كثير من الكفار] بشرطين: أحدهما: قصد نصر دين الله بأن لا يكون قصده إظهار شجاعة ولا طمعا في غنيمة، ثانيهما: أن يعلم أو يغلب على ظنه نكايته لهم، وإلا لم يجز، وإن مات يكون عاصياً وإن كان شهيداً ظاهراً"(4).
__________
(1) شرح السير الكبير 4/1512
(2) ابن خُوَيْز مَنْداد: محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد، ويقال: خوازمنداد، الفقيه المالكي البصري، صنف كتباً كثيرة منها: كتابه الكبير في الخلاف وكتابه في أصول الفقه، وكتابه في أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها فقهاء المذهب، وكان في أواخر المائة الرابعة .
…ينظر: الديباج المذهب 1/268، لسان الميزان 5/291
(3) تفسير القرطبي 2/364
(4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/283(1/143)
وقال العز بن عبد السلام:"التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة، لكنه واجب إن علم أنه يُقتل في غير نكاية في الكفار، لأن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة"(1).
وقال ابن حجر:"وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو الكثير بذلك، أو يجرّئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، ولاسيما إن ترتب على ذلك وَهَن في المسلمين"(2).
الشرط الثالث: أن لا يترتب على هذا العمل مفسدة أكبر من مصلحته:
من المعلوم أن أعمال الجهاد مبنية على تحقيق المصالح للمسلمين، ولا شك أن مراعاة المصلحة العامة للمسلمين عند القيام بهذه الأعمال آكد من مصلحة حصول الشهادة للمجاهد .
ومن المعقول الصحيح أنه ليس من مصلحة الجيش المسلم أن يتدافع الناس إلى مثل هذه الأعمال من تلقاء أنفسهم - ولا سيما قبل المصافة والالتحام -، إذ قد يكون في إقدامهم على هذه الأعمال ضرر على قوة الجيش أو معنويات أفراده، أو إخلال بالخطة التي رسمها أمير الجيش لقتال العدو .
ومن الأمثلة العملية على ذلك ما جاء في شرح السير الكبير:"ولو أن سرية دخلت أرض العدو، فكانوا بالقرب من عسكر عظيم من العدو لا يعلمون بهم، فأراد رجل من المسلمين أن يحمل عليهم كرهت له ذلك لأن في فعله هذا دلالة على المسلمين، وليس بالمسلمين قوة على أن ينتصفوا منهم بعلمهم، ولا رخصة في الدلالة على المسلمين ليقتلوا أو يؤسروا .
__________
(1) قواعد الأحكام 1/ 111ـ 112
(2) فتح الباري 8/185(1/144)
ولو كان علموا مكان المسلمين ولم يعرضوا لهم فلا بأس للمسلم أن يحمل عليهم، إذا كان فعله ينكأ فيهم"(1).
ومن الأمثلة أيضاً على مراعاة المصالح والمفاسد: ما ذكره بعض أهل العلم في المبارزة من نهي قائد الجيش أن يبارز بنفسه .
قال ابن جماعة:"لا يجوز لزعيم الجيش أن يبارز بنفسه"(2).
والعلة من هذا النهي - والله تعالى أعلم - دفع الضرر العام الذي يلحق الجيش بانهزام الأمير أو قتله، كما عبر بعضهم عن هذا المعنى بقوله:"أن لا يدخل بقتله ضرر علينا بهزيمة تحصل لنا لكونه كبيرنا"(3).
الشرط الرابع: اشتراط الإذن العام من الأمير للقيام بهذه الأعمال:
تقدم الكلام على اشتراط إذن الإمام العام للخروج إلى الجهاد، وقد اختلف أهل العلم في اشتراط الإذن الخاص لبعض الأعمال القتالية الأخرى، كالمبارزة (4).
فهل يكفي الإذن العام لاقتحام صفوف الكفار، أم أنه لا بد من إذن خاص ؟ .
__________
(1) شرح السير الكبير 4/1607
(2) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام ص:81
(3) أسنى المطالب 4/192، تحفة المحتاج 9/245
(4) اختلف العلماء في اشتراط إذن الإمام للمبارزة على أقوال:
الأول ) أنه شرط . وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأحد قولي المالكية . التاج والإكليل 4/557، منح الجليل 3/167، المغني 9/176-177، الفروع 6/208
الثاني ) أنه ليس بشرط، لكن يكره . وهو مذهب الشافعية وبعض المالكية . نهاية المحتاج 8/66، أسنى المطالب 4/192، منح الجليل 3/167
الثالث ) تجوز المبارزة بلا إذن ما لم ينه الإمام . وهو مذهب الحنفية . شرح السير الكبير 1/173(1/145)
نص ابن قدامة في المغني على عدم اشتراط إذن الإمام لاقتحام صفوف العدو، وعدم صحة قياس الاقتحام على المبارزة المختلف فيها لوجود الفرق بين الصورتين، فقال:"ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن ... فإن قيل: فقد أبحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب لقتله . قلنا: إذا كان مبارزاً تعلقت قلوب الجيش به، وارتقبوا ظفره، فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار، وإن قتل كان بالعكس، والمنغمس يطلب الشهادة، لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة . فافترقا ... بل المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب، يدعو إلى المبارزة، فهذا هو الذي يعتبر له إذن الإمام، لأن عين الطائفتين تمتد إليهما، وقلوب الفريقين تتعلق بهما، وأيهما غلب سر أصحابه، وكسر قلوب أعدائه، بخلاف غيره"(1)
وهذا الكلام من ابن قدامة لا ينبغي أن يفهم منه عدم اشتراط الإذن مطلقاً في جميع الأحوال، فقد ذكر ابن قدامة في أصل هذه المسألة أنه"إذا غزا الأمير بالناس، لم يجز لأحد أن يتعلف، ولا يحتطب، ولا يبارز علجاً، ولا يخرج من العسكر، ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه، يعني لا يخرج من العسكر لتعلف، وهو تحصيل العلف للدواب، ولا لاحتطاب، ولا غيره إلا بإذن الأمير ... لأن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم وبعدهم"(2).
فالذي يظهر من هذا الكلام، وبتأمل ما ذكره ابن قدامة آنفاً من التعليل في مسألة الاقتحام: أن نفيه اشتراط إذن الأمير إنما هو في حالة المصافة والالتحام، وقيام الحرب بين الطرفين، بحيث لا يحتاج إلى إذن لأن هذه القرائن تكون كالدلالة في الإذن، أما قبل المصافة والالتحام فإنه لا يجوز أن يحدث أحد حدثاً دون إذن الأمير، سواء كان ذلك عملاً عسكرياً أو ما دونه من الأعمال كالاعتلاف أو الاحتطاب ونحوه مما ذكره ابن قدامة .
__________
(1) المغني 9/176-177
(2) المصدر السابق 9/176(1/146)
والعلة في هذا أن الأمير أعرف بحال الناس، وله نظر في ترتيب الجيش، وتقدير القتال، والهجوم على العدو .
ويرى د. محمد خير هيكل في كتابه (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية ): أنه لا بد من وجود جهة تكون هي المرجع في تقدير هذه المخاطرة نفعاً وضرراً، فإن كان هناك أمير للجماعة المقاتلة فهو الذي يعود إليه التقدير، ويجب أن يوقف عند رأيه في هذا الأمر . أما إذا لم يكن هناك أمير، أو تعذر استئذان الأمير ورأى المُخاطِر أن هناك نفعاً محققاً من وراء مخاطرته فلا بأس أن يغامر، ما لم يصدر نهيٌ سابقٌ عن المغامرة بأية حال .(1)
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/242(1/147)
قلت: ومما يدل على أنه يجب الوقوف عند نهي الأمير عن مثل هذه الأعمال ما رواه مسلم أيضاً عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وأخذتنا ريحٌ شديدةٌ، وقرٌّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد . فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم . فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم . قال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي . فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تذعرهم علي . ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال: قم يا نومان"(1).
فقد هم حذيفة - رضي الله عنه - أن ينتهز الفرصة التي قل أن تسنَح لمثله ويقتل أبا سفيان - رضي الله عنه - زعيم الكفار حينئذ، لكنه ترك ذلك بسبب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذه الأعمال .
وبالنظر في النقول المتقدمة، يظهر لي أن صورة اقتحام صفوف العدو لا تخلو من حالتين:
الأولى ) أن تكون في غير حال المصافة والالتحام: فلا يجوز الإقدام عليها قبل استئذان الأمير، إلا مع عدم وجود الأمير أو تعذر استئذانه .
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 131 من هذا البحث .(1/148)
الثانية ) أن تكون في حال المصافة والالتحام: فيجوز الإقدام عليها دون إذن الأمير اعتباراً بوجود دلالة الإذن، ما لم يصدر من الأمير نهي سابق عنها . والله أعلم .
هذا، وخلاصة ما سبق ذكره في شروط جواز الاقتحام المظنون فيه الهلاك أن يشترط لجواز القيام به ما يلي:
1-الإخلاص لله تعالى .
2-وجود النكاية بالعدو، سواء كانت النكاية مباشرة، أو غير مباشرة .
3-أن لا يترتب على هذا العمل مفسدة أكبر من مصلحته .
4-إذا كان العمل في غير حال المصافة والالتحام فيشترط للقيام به إذن الأمير، وأما إن كان في حال المصافة والالتحام فلا يشترط له إذن ما لم يصدر من الأمير نهي سابق .
المطلب الثاني: المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للمخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
المسألة الأولى: صورة المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
تتمثل هذه الصورة في تعريض المجاهد نفسه للخطر النازل حماية لغيره من المسلمين، ولاسيما قادتهم وكبراؤهم، بحيث يحول هذا الفدائي دونهم ودون هذا الخطر، وقد يترتب على فعله ذهاب روحه إيثاراً لغيره بالحياة .
وقد شهد التاريخ الإسلامي صوراً عظيمة كثيرة من هذا النوع من الأعمال الفدائية .
ويأتي على رأس هذه الأعمال، الأعمال الفدائية دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان عدد من الصحابة يفدون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنفسهم ويؤثرونه بالحياة، كما كان أبو طلحة يحوط النبي - صلى الله عليه وسلم - ويترّس دونه في أحد، فإذا رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شخصه ينظر أين يقع السهم رفع أبو طلحة صدره ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك .(1)
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للمخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين
__________
(1) يأتي تخريج هذه الأحاديث قريباً في الأدلة .(1/149)
تعد هذه الصورة من المخاطرة إحدى صور الإيثار الذي يترتب عليه هلاك المؤثِر (بكسر الثاء) في سبيل تدارك نفس المؤثَر (بفتح الثاء)، ولهذا يذكر الفقهاء هذه الصورة ونظائرها في باب دفع الصائل، وعلى وجه التحديد في معرض كلامهم على دفع الصائل على نفس الغير المسلمة .
وقد اختلف الفقهاء في حكم إيثار المسلم غيره بالحياة إذا ترتب عليه هلاك المؤثِِِِِِر نفسه على قولين:
القول الأول: أنه جائز، وهو من الإيثار المشروع . وإليه ذهب أكثر الفقهاء، منهم الحنفية والمالكية وهو القول الراجح عند الشافعية والقول المرجوح عند الحنابلة .(1)
قال ابن العربي:"من وقى مسلماًً بنفسه فليس له جزاء إلا الجنة"(2).
وفي نهاية المحتاج:"ولو وجد مضطر طعام غائب ولم يجد سواه أكل ... فإن آثر في هذه الحالة - وهو ممن يصبر على الإضاقة - على نفسه مضطراً مسلماً معصوماً جاز بل نُدِب"(3).
وقال النووي:"والإيثار في حظوظ النفوس من عادة الصالحين"(4).
وقال الزركشي(5)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمز عيون البصائر 1/359، أحكام القرآن لابن العربي 2/396، الموافقات 2/369، الأشباه والنظائر للسيوطي /116، المنثور في القواعد 1/210، الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي 1/71-72، زاد المعاد 3/505
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2/396
(3) نهاية المحتاج 8/161
(4) المجموع 2/281-282………
(5) الزركشي: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، عالم بفقه الشافعية والأصول، تركي الأصل مصري المولد والوفاة، من مصنفاته: المنثور في القواعد الفقهية، والبحر المحيط في الأصول وغيرها ت:794 .
ينظر: طبقات الشافعية 3/167، شذرات الذهب 6/335، الأعلام 6/60(1/150)
:"والإيثار ضربان: الأول: أن يكون فيما للنفس فيه حظ، فهو مطلوب كالمضطر يؤثر بطعامه غيره إذا كان ذلك الغير مسلماً لقوله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (1)"(2).
وقال ابن القيم:"وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزاً ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه، ولا أنه فعل محرماً"(3).
ومن أدلة هذا القول ما يلي:
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4)
وجه الاستدلال: أن هذا العمل من الإيثار المحمود الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال، وإن عاد إلى النفس .(5)
قال ابن القيم:"وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزاً ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه، ولا أنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (6)، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم"(7).
__________
(1) الحشر: 9 ]
(2) المنثور في القواعد 1/210، والآية في سورة [ الحشر: 9 ]
(3) زاد المعاد 3/505
(4) الحشر: 9 ]
(5) أحكام القرآن لابن العربي 4/185
(6) الحشر: 9 ]…
(7) زاد المعاد 3/505(1/151)
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ - أي ليس عليه سرج - في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا"متفق عليه .(1)
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج وحده بلا عُدَّة كاملة، وخاطر بنفسه دون الناس إيثاراً لهم بالسلامة . وهذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر الشاطبي:"راجعٌ إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ظاهر، لأنه كان كالجُنَّة للمسلمين"(2).
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة - رضي الله عنه - بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوِّب عليه بحَجَفَة(3) . قال: وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً . قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة . قال: ويشرف نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف، لا يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك"متفق عليه .(4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2980)، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (2307)
(2) الموافقات 2/370
(3) مُجوِّب عليه: أي مترِّس عليه . لسان العرب مادة (جَوَب) 1/287
والحَجَفة: الترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب حجَفَةٌ . لسان العرب مادة (حَجَف) 9/39 ، مختار الصحاح مادة (حَجَف)1/53
(4) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3600)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1811)(1/152)
وفي رواية عند أحمد (1):" وكان إذا رمى رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول هكذا: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك".
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أبا طلحة حينما فداه بنفسه ووقاه من الكفار، لأن في هذه الفدائية بقاء من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله .(2)
الدليل الرابع: ما وقع من عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - في غزوة أحد عندما فدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنفسهم، ومن ذلك:
1- ما رواه البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم(3) قال:"رأيت يد طلحة بن عبيد الله التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شلت"(4).
__________
(1) رواه أحمد 3/105
(2) الموافقات 2/370
(3) قيس بن أبي حازم: أبو عبد الله قيس بن عوف بن عبد الحارث بن عوف الأحمسي البجلي الكوفي، الإمام محدث الكوفة، قيل إن له صحبة ولم يثبت ذلك فإنه سار ليدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبايعه فتوفى نبي الله وهو في الطريق، وثقه يحيى بن معين وغيره، وقال الذهبي: حديثه محتج به في كل دواوين الإسلام، ت: 97هـ . ينظر: الطبقات الكبرى 6/67، تذكرة الحفاظ1/61، سير أعلام النبلاء4/198
(4) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3724)(1/153)
2- وقال ابن اسحاق:"وترس دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو دجانة(1) بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل"(2).
3- وروي عن عُكَّاشة الغنمي(3) - رضي الله عنه - أنه وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد يوم اجتمع المشركون وتمالؤوا عليه لقتله حتى ذهب أنفه وشفتاه وحاجباه وأذناه .(4)
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حمي بأنفس الصحابة يوم أحد ولم ينكر ذلك، ولم يدل دليل على خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعل، فدل هذا على جواز فداء الأشخاص بالأنفس، ولاسيما إذا كان يحدث من قتلهم ضرر على المسلمين أو الدين .(5)
__________
(1) أبو دجانة (صحابي): سِمَاك بن خَرَشة بن لوذان الساعدي، أحد شجعان الصحابة، شهد بدراً وكان عليه يوم أحد عصابة حمراء، وثبت في أحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على الموت، شارك في قتل مسيلمة الكذاب يوم اليمامة واستشهد يومئذ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/651، سير أعلام النبلاء 1/243، الإصابة في تمييز الصحابة 7/119
(2) سيرة ابن هشام 3/45، وينظر: البداية والنهاية 4/34، تاريخ الأمم والملوك 2/66
(3) عُكَّاشة الغَنَمي (صحابي): اختلف فيه: ففرّق ابن السكن بينه وبين ابن مِحْصَن وذكر أنه وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهبت أنفه وشفتاه وحاجباه وأذناه .
وذكر ابن حجر احتمالاً أن يكون هو ابن مِحْصَن الغنمي لأنه من بني غنم، وهو عكاشة بن محصن بن حُرْثان بن قيس بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان الأسدي، من السابقين الأولين وشهد بدرًا وقع ذكره في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قيل إنه استشهد في قتال أهل الردة . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1080، سير أعلام النبلاء 1/307، الإصابة في تمييز الصحابة 4/533-535
(4) الإصابة في تمييز الصحابة 4/535
(5) هل انتحرت حواء أم استشهدت ؟ ص:23(1/154)
الدليل الخامس: أن هذا العمل يعد من قبيل مدافعة الصائل على المسلم، وهي مشروعة .(1)
والعلة في هذا أن الدفع عن نفس غيره إذا كان آدمياً محترماً كالدفع عن نفسه لأنهما نفسان محترمتان .(2)
القول الثاني: عدم جواز إيثار المسلم غيره بالحياة . وهو قول بعض الشافعية، وأحد القولين عن الحنابلة وهو المذهب .…
أما الشافعية، فقد نقل الزركشي هذا القول عن بعضهم فقال:"كلام المتولي(3)يقتضي المنع، فإنه قال في كتاب ( البغاة ) في كلامه على دفع الصائل: إنه لو كان مضطراً، وولده مضطر لا يجوز له بذل الطعام له . انتهى، وغير الولد أولى بالمنع"(4).
وقد تعقب ابن حجر الهيتمي ما نقله الزركشي، حيث قال:"وبحث الزركشي أن محل جواز الإيثار إذا ظن سلامة نفسه، رَدَدْتُه في شرح العباب بعد ذكر ذلك جميعه بأنه غفلة عن قول الإمام: لا خلاف في جواز الإيثار، وإن خاف هلاك نفسه ; لأن الحرمة شاملة للجميع وهو من شيم الصالحين ا هـ . ومراده بالجواز الجنس الأعم الصادق بالمندوب"(5).
وأما الحنابلة فقد جاء في كشاف القناع:"وليس للمضطر الإيثار بالطعام الذي معه في حال اضطراره"(6).
وفي شرح منتهى الإرادات:"ومن لم يجد ما يسد رمقه إلا طعام غيره فربه المضطر أو الخائف أن يضطر أحق به ... وليس له أي: رب الطعام إذا كان كذلك إيثاره أي: غيره به"(7).
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2/396
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب 4/222
(3) المتولي: أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري المعروف بالمتولي، فقيه شافعي مناظر عالم بالأصول، تولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد، من مؤلفاته: تتمه الإبانة للفوراني، الفرائض، ت: 478هـ .
ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 5/106، طبقات الشافعية 2/247، الأعلام 3/323
(4) المنثور في القواعد 1/210
(5) الفتاوى الفقهية الكبرى 1/71-72
(6) كشاف القناع 6/198
(7) دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 3/413(1/155)
وفي الفروع:"فإن لم يجد إلا طعام غيره فرَبُّه المضطر -وفي الخائف وجهان- أحقّ . وهل له إيثاره ؟ كلامهم على أنه لا يجوز . وذكر صاحب الهدي [أي ابن القيم] في غزوة الطائف أنه يجوز، وأنه غاية الجود لقوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (1). ولفعل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في فتوح الشام، وعد ذلك في مناقبهم"(2).
دليل هذا القول على المنع :
استدلوا بقوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (3)
وجه الاستدلال: أن الله تعالى نهى عن إلقاء النفس في التهلكة، فإذا آثر غيره فهلك كان كالملقي بيده إلى التهلكة .(4)
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
1-أن المراد بالتهلكة المنهي عنها في الآية ما تقدم بيانه من التهلكة المحضة التي لا يترتب عليها مصلحة .(5)
2-أننا إذا علمنا أن المهجتين على شرف التلف إلا واحدة تستدرك بالإيثار، فلا فرق بين تلف هذه أو تلك، وحينئذ يرجح جانب هلاك نفس المؤثِر فيحسن إيثار غيره على نفسه، بالنظر إلى عموم فضل الإيثار .(6)
الترجيح
بناءً على ما تقدم من الأدلة يترجح القول بمشروعية هذه الصورة من الأعمال الفدائية، وهي المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين . وتتأكد مشروعيتها في الدفع عن عموم جماعة من المسلمين، أو من يلي أمر الجماعة وتتأثر بفقده كالأمراء والقادة ونحوهم .
المبحث الثالث: الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
المطلب الثاني: قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
__________
(1) الحشر: 9 ]
(2) الفروع 6/305، ونقله في الإنصاف 10/373 هكذا ولم يعلق عليه . والآية في سورة [ الحشر: 9 ]
(3) البقرة: 195 ]
(4) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 6/322، دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 3/413
(5) ينظر ص: 141 من هذا البحث
(6) المنثور في القواعد 1/211، و الأشباه والنظائر ص:116(1/156)
المطلب الثالث: قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
المطلب الرابع: تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
المطلب الأول: قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
المسألة الأولى: صورة قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
تتمثل هذه الصورة في قتل المجاهد نفسه خطأ ًحال قصده قتل العدو، كما لو أراد أن يرمي العدو بسلاحه فيصيب نفسه .
وهذه الصورة لها شَبَه بالأعمال الفدائية من جهة أن المجاهد يقتل نفسه بيده، وإن كانت في الواقع لا يظهر فيها عنصر الفدائية والتعرض للخطر، وإنما هي من قبيل الأخطاء الواقعة في الأعمال المعتادة في الحروب .
ومع تطور وسائل الحرب، واستخدام الأجهزة، والمواد المتفجرة، تتعدد صور الخطأ الذي يحدث في الحروب نظراً لعدة أسباب، منها:
1-انفجار القذائف أو القنابل وغيرها من الأسلحة التي يستخدمها الجندي في المعركة .
2-تعرض الجندي للخطر عند قيامه بزراعة الألغام ونصب الكمائن في طريق العدو، أو إبطال الألغام التي في طريقه .
3-الخطأ في توقيت الهجوم أو التفجير مما يلحق الضرر بمنفذي الهجوم .
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً
اتفق الفقهاء على أن من قتل نفسه بسلاحه فهو شهيد في الآخرة، وهو معذور في قتل نفسه لكونه إنما قصد العدو .(1)
وإنما وقع الخلاف بين الفقهاء، هل يعدّ شهيداً في الدنيا فيعامل معاملة الشهيد في عدم الغسل وغيره، أم لا ؟ . ولهم في ذلك قولان:
__________
(1) شرح السير الكبير 1/102، مواهب الجليل 2/247، المجموع 5/221، المغني 3/474، الإنصاف 2/502(1/157)
القول الأول: أن من قصد العدو فقتل نفسه خطأ ًفهو شهيد في الدنيا والآخرة . وهو مذهب المالكية(1)والشافعية(2)، ورواية عند الحنابلة اختارها ابن قدامة .(3)
ومن أدلة هذا القول ما يلي:
الدليل الأول: ما رواه أبو داود عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخوكم يا معشر المسلمين . فابتدره الناس فوجدوه قد مات، فلفَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثيابه ودمائه، وصلى عليه ودفنه، فقالوا: يا رسول الله، أشهيد هو؟ قال: نعم، وأنا له شهيد"(4)
__________
(1) مواهب الجليل 2/247، منح الجليل1/519، حاشية الدسوقي 1/426
(2) المجموع 5/221
(3) المغني 3/474، الإنصاف 2/502
(4) رواه أبو داود في كتاب الجهاد (2539) قال: حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ثنا الوليد عن معاوية بن أبي سلام عن أبيه عن جده أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحديث في إسناده راويان متكلم فيهما:
1- الوليد بن مسلم: وهو أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي عالم الشام . وثقه العجلي ويعقوب بن شيبة . وقال ابن المديني: هو رجل أهل الشام وعنده علم كثير . وقال أبو حاتم: صالح الحديث . وقال أحمد: كان الوليد كثير الخطأ . وقال أبو مسهر: الوليد مدلس وربما دلس عن الكذابين .
والوليد من الطبقة الرابعة من المدلسين (وهم من اتُفِق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل) . طبقات المدلسين 1/51
وقال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب 1/584:"ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية"
وقد روى الوليد هذا الحديث معنعناً، ولم يصرح بالتحديث .
ينظر في ترجمته: تهذيب الكمال 31/86، تهذيب التهذيب 11/133، ميزان الاعتدال 7/141
2- سلام بن أبي سلام: وهو سلام بن ممطور الحبشي الشامي . قال ابن أبي حاتم: لا أعلم أحداً روى عنه .
وقال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب 1/261:"مجهول"
وينظر في ترجمته: تهذيب الكمال 12/291، تهذيب التهذيب 4/250
والحاصل أن الحديث ضعيف الإسناد، وقد أشار إلى ذلك الألباني في ضعيف أبي داود ص:195(1/158)
.
وجه الاستدلال: الحديث واضح وصريح في الدلالة على أن من قتل نفسه خطأً شهيد .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أن الحديث ضعيف الإسناد، فلا يحتج به .
2- أنه على فرض صحته مؤول بأنه شهيد فيما تناول من الثواب في الآخرة .(1)
وأجيب: بأن قوله: (فلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثيابه ودمائه ) ظاهره أنه لم يغسله ولا أمر بغسله فيكون دليلاً على أن من قتل نفسه في المعركة خطأ حكمه حكم من قتله غيره في ترك الغسل، وهذا يدل على أنه شهيد في الدنيا والآخرة .(2)
الدليل الثاني: عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أنه قال يوم خيبر:"اختلف عامر بن الأكوع(3) ومرحب ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يَسْفُل(4) له فرجع سيفه على نفسه فقطع أَكْحَله(5)فكانت فيها نفسه . قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه . قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر ؟ . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك . قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين". وفي رواية أخرى:"إنه لجاهِدٌ مجاهِدٌ، قَلَّ عربيٌ مشى بها مثله"(6)
__________
(1) شرح السير الكبير 1/102
(2) نيل الأوطار 4/62
(3) عامر بن الأكوع (صحابي): عامر بن سنان بن عبد الله بن قشير الأسلمي المعروف بابن الأكوع، ثبت في الصحيح أنه قاتل في خيبر قتالاً شديداً فارتد عليه سيفه فقتله . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/785، الإصابة في تمييز الصحابة 3/582
(4) يَسْفُل له: يضربه من أسفل . شرح صحيح مسلم للنووي 12/185
(5) الأَكْحَل: عرق في وسط الذارع . لسان العرب مادة (كحل) 11/586…
(6) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4196)، و مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1807) واللفظ له
…والرواية الثانية عند البخاري في نفس الموضع والرقم، وهي عند مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1802)(1/159)
.
وجه الاستدلال: في إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من ظن أن جهاد عامر قد بطل دليل على أن جهاده صحيح مقبول، وأن من مات بسبب القتال يكون شهيداً سواء مات بسلاح العدو أو عاد عليه سلاحه .(1)
الدليل الثالث: من المعقول، وبيانه أنه مسلم قتل في معترك المشركين بسبب قتالهم، فيكون كمن قتلوه بسلاحهم، لأن الباعث على العمل واحد .(2)
القول الثاني: أن من قصد العدو فأصاب نفسه شهيد في الآخرة لا في الدنيا . وإليه ذهب الحنفية(3)، وهو وجه شاذ عند الشافعية(4)، والصحيح في مذهب الحنابلة (5).
دليل هذا القول: من المعقول، قالوا:"لأن الشهيد الذي لا يغسل من يصير مقتولاً بفعل مضاف إلى العدو . وهذا صار مقتولاً بفعل نفسه، ولكنه معذور في ذلك لأنه قصد العدو لا نفسه، فيكون شهيدا في حكم الآخرة"(6).
ويناقش هذا الاستدلال بأن هذا الكلام دعوى في مقابل النص الثابت في قصة عامر، ثم إن من قُتِل بفعل نفسه إنما كان قتله بسبب قتل العدو، فيكون كمن قتله العدو .
الترجيح
بالنظر في أدلة القولين يظهر للمتأمل - والله أعلم - رجحان القول الأول، وهو اعتبار من قصد العدو فأصاب نفسه شهيداً في الدنيا والآخرة، وذلك لاعتماد هذا القول على النص في قصة عامر، ولما ورد من مناقشة على تعليل القول الثاني، وهو مجرد اجتهاد، ومن المقرر عند العلماء أنه لا اجتهاد في مورد النص .
المطلب الثاني: قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
__________
(1) شرح مسلم للنووي 12/187
(2) المجموع 5/228
(3) شرح السير الكبير 1/102
(4) المجموع 5/221
(5) المغني 3/474، الإنصاف 2/502
(6) شرح السير الكبير 1/102(1/160)
من المعلوم أن الجندي إذا دخل ساحة المعركة، فإنه معرّض للأمرين الأمَرَّين، إما القتل وإما الأسر، كما قال تعالى في هذين الأمرين: { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وتأسرون فَرِيقًا } (1).
والأسر وإن كان في الظاهر أهون من القتل نظراً لبقاء الحياة، فإن مرارته وآلامه في بعض الأحوال قد تفوق آلام القتل في المعركة، بسبب ما قد يلقاه الجندي من صنوف التعذيب والقهر من عدو لا يحترم له ذمة، ولا يرعى له حرمة، كما قال تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } (2).
وفي هذا العصر، تطورت أساليب التعذيب وآلاته، وتفنن أعداء الإسلام في تعذيب الأسرى والمعتقلين الذين زجوا بهم في السجون، وأذاقوهم ألواناً من العذاب وانتهاك حقوق الإنسان، كما معلوم ومشاهد في وسائل الإعلام المختلفة .
فقد يتعرض الأسير للإحراق بالنار، أو تقطيع أجزاء من جسمه، أو نفخه، أو تعليقه في خطاطيف مدلاة من السقف من رجليه، بحيث يكون رأسه إلى أسفل، أو تسليط الكهرباء عليه من وقت لآخر، وغير ذلك من أنواع التعذيب المعاصرة .(3)
ومن هنا كانت هذه المسألة : هل يجوز للمجاهد -إذا علم أنه واقع في الأسر- أن يبادر بقتل نفسه قبل أسره خوفاً من وقوعه في الأسر والتعذيب؟ .
وهل يجوز له كذلك أن يقتل نفسه إن وقع عليه التعذيب بعد الأسر؟.
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب
لا خلاف بين الفقهاء المتقدمين -فيما وقفت عليه من نصوص عامة- في تحريم قتل الإنسان نفسه بدافع التخلص من الأسر أو العذاب .(4)
__________
(1) الأحزاب: 26 ]
(2) التوبة: 8 ]
(3) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:166
(4) شرح السير الكبير 4/1514، أحكام القرآن للجصاص 2/244، أحكام القرآن لابن العربي 1/525، تفسير القرطبي 5/ 157، أسنى المطالب 4/95، الفروع 6/201(1/161)
قال ابن حزم:"واتفقوا أنه لا يحل لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يقطع عضواً من أعضائه، ولا أن يؤلم نفسه في غير التداوي بقطع العضو الأَلِم خاصة"(1).
وفي شرح السير الكبير:"لو أوقدت له نار وقيل له: لنضربنك بالسياط حتى نقتلك أو تلقي نفسك في النار حتى تحترق لم يسعه إلقاء نفسه"(2).
بل صرح أهل العلم بخصوص قتل الأسير نفسه أنه ليس للأسير أن يأمر العدو بقتله، وإن وقع في التعذيب أو خشي الضرر على نفسه :
من ذلك ما جاء في شرح السير الكبير:"لو أرادوا شق بطنه -أي الأسير- فقال: لا تفعلوا، ولكن اضربوا عنقي لم يسعه هذا . لأنه تصريح بالأمر بالمعصية . ولكن لو لم يقل: اضربوا، ولكن قال: اتقوا الله ولا تشقوا بطني فإن هذا لا ينبغي لأن ضرب العنق أوخى وأجمل(3)، لم يكن بذلك بأس . لأنه صرح ها هنا بالنهي عن المعصية، ولم يصرح بالأمر بضرب العنق، إنما أخبرهم أن ذلك أفضل مما هموا به، فلهذا كان في سعة من ذلك"(4).
وفي المبسوط:"وإذا طعن المسلم بالرمح في جوفه لم يكن له أن يمشي إلى صاحبه والرمح في جوفه حتى يضربه بالسيف، ولا يكون به معيناً على نفسه"(5).
وفي الفروع:"قال أحمد: وإذا أرادوا ضرب عنقه لا يمد رقبته . ولا يعين على نفسه بشيء، فلا يعطيهم سيفه ليقتل به ويقول لأنه أقطع . ولا يقول: ابدءوا بي . ولو أسر هو وابنه لم يقل قدموا ابني بين يدي، ويصبر"(6).
ومن الأدلة على ذلك:
1)عموم قوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } (7).
__________
(1) مراتب الإجماع ص:157
(2) شرح السير الكبير 4/1514
(3) أوخى وأجمل : أي أحرى لحصول المقصود وأحسن في القتل . لسان العرب مادة (وخى) 15/382، ومادة (جمل) 11/127
(4) شرح السير الكبير 4/1499-1500
(5) المبسوط 10/76……
(6) الفروع 6/201
(7) النساء: 29 ](1/162)
وجه الاستدلال: أن الآية صريحة في النهي عن قتل النفس، فيقتضي النهي عن قتل غيره وقتل نفسه .(1)
قال القرطبي:"أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف، ويحتمل أن يقال ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب فهذا كله يتناوله النهي"(2).
2)حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار . فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه . فقال: قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر"(3).
وجه الاستدلال: في الحديث بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه بدافع التخلص من الألم والعذاب النازل . ومن باب أولى أنه لا يجوز للأسير قتل نفسه طلباً للتخلّص من مفسدةٍ مظنونة غير واقعة، فلو وقعت لكان مأموراً بالصبر على الابتلاء، فكيف وهي لم تقع؟.(4)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2/244
(2) تفسير القرطبي 5/ 157…
(3) تقدم تخريجه ص: 95 من هذا البحث
(4) شرح صحيح مسلم للنووي2/125، العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها ص:62(1/163)
3)حديث جندب بن عبد الله(1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجَزِع فأخذ سكيناً فحَزَّ بها يده، فما رَقَأ الدم حتى مات . قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة"(2).
وجه الاستدلال: قال ابن حجر:"وفي الحديث تحريم قتل النفس سواء كانت نفس القاتل أم غيره"(3).
كما أفاد الحديث أن نفس الإنسان ليست مملوكة له، فلا يجوز له أن يبادر بإتلافها تخلصاً من الألم .
قال ابن دقيق العيد(4):"والحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس، سواء كانت نفس الإنسان أو غيره ; لأن نفسه ليست ملكه أيضا، فيتصرف فيها على حسب ما يراه"(5).
__________
(1) جندب بن عبد الله (صحابي): جندب بن عبد الله بن سفيان البَجَلي، وقد ينسب إلى جده فيقال جندب بن سفيان، سكن الكوفة ثم البصرة، وله عدة أحاديث، عاش إلى حدود سنة سبعين . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/256، سير أعلام النبلاء 3/174، الإصابة في تمييز الصحابة 1/509
(2) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3276)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (113)
(3) فتح الباري 6/500
(4) ابن دقيق العيد: أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القُشَيري المعروف بابن دقيق العيد، الإمام المجتهد، قاضي القضاة بالديار المصرية، وأحد أكابر العلماء بالأصول، له تصانيف نافعة منها: إحكام الأحكام، والإلمام بأحاديث الأحكام، وشرح الأربعين النووية، وغيرها، ت:702هـ . ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 9/207، شذرات الذهب 6/5، الأعلام 6/283
(5) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ص:618(1/164)
وهكذا فالحديث نص في تحريم قتل الإنسان نفسه جزعاً وفراراً من الألم، وذلك أن سبب حرمان الرجل من الجنة الرجل أنه جزع من الجرح وضجر من الألم والأذى الذي لحق به، فبادر بقتل نفسه ليخلصها من ألم الدنيا .(1)
قول آخر لبعض المعاصرين:
مع ما تقدم بيانه عن الفقهاء السابقين من تحريم قتل المجاهد نفسه تخلصاً من الأسر أوالتعذيب والألم، إلا أن الشيخ حسن أيوب قال في كتابه الجهاد والفدائية في الإسلام:"إذا كان الانتحار بسبب أنه تأكد من أنهم يقتلونه، ولكنهم يعذبونه قبل ذلك تنكيلاً به، وإغاظة للمسلمين، فإنه إن انتحر في هذه الحالة فإن انتحاره يكون حراماً، ولكنه لا يكون كبيرة من الكبائر، ولا يبعد جوازه ... هذا رأيي في الموضوع، لأنه لا نص فيه، ولم أر فيه فتوى لأحد من العلماء"(2).
قلت: ولم أقف - على حد علمي - على قول لأحد من أهل العلم يبيح للإنسان قتل نفسه في هذه الحالة، كما ذكر هذا الشيخ نفسه، وذكره التكروري في العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي .(3)
أدلة هذا القول:
استدل الشيخ حسن أيوب على قوله هذا بما يلي:
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1404، هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:34
(2) الجهاد والفدائية في الإسلام ص: 167
(3) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:53(1/165)
1)ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَة - وهو موضع بين عُسْفان ومكة - ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لَحْيان، فنفروا لهم قريباً من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فَدْفَد(1)وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحداً . قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً في سبعة . فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسِيِّهم فأوثقوهم . فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى، فجرَّرُوه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة ... الحديث .(2)
وجه الاستدلال: أن الصحابي الثالث الذي رفض الأسر كان يعلم أنهم قاتلوه بسبب هذا الرفض، ومع هذا أصر على رفضه حتى قتلوه .(3)
ويناقش هذا الاستدلال بأنه ظاهر البطلان، إذ لا دليل في القصة على جواز قتل المجاهد نفسه بفعله، لأن هذا الصحابي لم يبادر بقتل نفسه، وإنما قُتِل بيد أعدائه .
__________
(1) الفَدْفَدْ: الموضع الذي فيه غِلظٌ وارتفاع . لسان العرب مادة (فدفد)3/330
(2) تقدم تخريجه ص: 146 من هذا البحث
(3) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:167(1/166)
تخريج المسألة على ما نقله ابن قدامة في المغني:"فإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها، فما غلب على ظنهم السلامة فيه، من بقائهم في مركبهم، أو إلقاء نفوسهم في الماء، فالأولى لهم فعله . وإن استوى عندهم الأمران، فقال أحمد: كيف شاء يصنع . قال الأوزاعي(1): هما موتتان، فاختر أيسرهما . وقال أبو الخطاب(2): فيه رواية أخرى أنهم يلزمهم المقام، لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء، كان موتهم بفعلهم، وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم"(3).
ويناقش هذا التخريج بأنه لا يصح تخريج وقياس مسألتنا على هذه الصورة التي أوردها ابن قدامة، لوجود الفارق بين المسألتين، وذلك من وجهين:
الأول) لا يصح قياس مسألة قتل الأسير نفسه فراراً من التعذيب على مسألة رمي النفس في الماء فراراً من اشتعال النار في السفينة، لأن موتهم بالنار في السفينة التي أحرقها العدو محقق(4)، وهذا بخلاف ما قد يتعرض له الأسير، وأما القول بأنهم يعذبونه ثم يقتلونه، فمن أين لنا أن نتحقق أنهم سيقتلونه مع احتمال نجاته منهم ؟.
__________
(1) الأوزاعي: أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي، الحافظ شيخ الإسلام وعالم أهل الشام، كان إمام أهل زمانه، وكان ثقة مأموناً صدوقاً فاضلاً خيراً كثير الحديث والعلم والفقه، ت:157هـ . ينظر: تذكرة الحفاظ 1/178، سير أعلام النبلاء 7/107، طبقات الحفاظ 1/85
(2) أبو الخطاب: أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذَاني، إمام الحنابلة في عصره، أصله من كَلْواذي من ضواحي بغداد، ومن مؤلفاته: التمهيد في أصول الفقه، والهداية، والانتصار في المسائل الكبار، وغيرها، ت:510هـ
2)ينظر: طبقات الحنابلة 2/258، سير أعلام النبلاء 19/348، الأعلام 5/291
(3) المغني 9/256
(4) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله في الفقه الإسلامي 2/600(1/167)
ولهذا ذكر ابن عقيل الحنبلي في هذه المسألة رواية أخرى في مذهب الحنابلة وصححها: أنه يحرم المقام في النار .(1)
الثاني) أن إلقاء أهل السفينة أنفسهم في الماء وإن كان في ظاهره إلقاء بالنفس في الهلكة، فإن حقيقته طلب النجاة بالهرب من سبب محقق، إلى سبب محتمل قد تكون معه النجاة، فلا يستدل به على جواز مباشرة قتل النفس .(2)
3)المعقول، وبيانه: أن الواقع في مثل هذه الحالات أن المسلم لا يعتبر فيها قاتلاً لنفسه، وإنما قاتله الحكمي هو عدوه، لأن عدوه هو الذي سيتمكن منه، وهو الذي سيعذبه ولا يتركه حتى يقتله .(3)
ويناقش هذا الدليل بما تقدم في مناقشة الدليلين الأوليين، فالمسلم هو القاتل لنفسه على الحقيقة، وهذا أمر محرم، فإنّ تمكُّنَ العدو من الأسير وعزمَه على قتله لاحقاً لا يسوّغ له مباشرة قتل نفسه .
الترجيح
بالنظر إلى الأدلة المتقدمة والمناقشات يتبين أن الراجح في حكم هذه الصورة أنه يحرم على المجاهد قتل نفسه خوفاً من الأسر أو التعذيب، بل الواجب عليه إما أن يقاتل حتى يقتل (وهذا هو الأولى)، أو يستأسر ويصبر .
قال ابن قدامة:"وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل، ولا يسلم نفسه للأسر، لأنه يفوز بثواب الدرجة الرفيعة، ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة . وإن استأسر جاز ... [وساق قصة عاصم ومن معه ثم قال:] فعاصم أخذ بالعزيمة، وخبيب وزيد أخذا بالرخصة، وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم"(4).
المطلب الثالث: قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
__________
(1) الفروع 6/202
(2) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله في الفقه الإسلامي 2/600
(3) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:167
(4) المغني 9/255(1/168)
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
قد يتعرض لها الأسير للتعذيب والتنكيل، لكونه يحمل سراً أو أسراراً هامة يترتب على معرفة العدو لها وقوع الضرر العام بالمسلمين، بدافع إكراهه على إفشاء هذه الأسرار .
ومع التقدم العلمي في هذا العصر، تطورت وسائل التعذيب القديمة التي تستخدم لانتزاع الأسرار من الأسرى، كما ظهرت وسائل جديدة تجعل الأسير يبوح بالأسرار دون تفكير أو شعور بخطورة ما يقول، كالعقاقير المخدرة والمؤثرة على الأعصاب .(1)
وقد يستخدم العدو أساليب التنويم المغناطيسي والإيحاء والتأثير النفسي(2)، وغيرها مما يذكر بين الفينة والأخرى في وسائل الإعلام المختلفة .
ومن هنا كان هذا السؤال: إذا خشي الأسير أن يفشي سر المسلمين، بسبب ضعفه وعدم صموده أمام التعذيب، أو تعرضه للتأثير، فهل يجوز له أن يقتل نفسه درءاً لهلاكهم؟.
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم
لم أجد -حسب اطلاعي وبحثي- نصاً خاصاً للفقهاء المتقدمين في هذه المسألة .
وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:"إذا خاف المسلم الأسر، وعنده أسرار هامة للمسلمين، ويتيقن أن العدو سوف يطلع على هذه الأسرار، ويحدث ضرراً بيناً بصفوف المسلمين وبالتالي يقتل، فهل له أن يقتل نفسه وينتحر أو يستسلم ؟ لم نجد في جواز الانتحار خوف إفشاء الأسرار، ولا في عدم جوازه نصاً صريحاً في كتب الفقه"(3).
تحرير محل النزاع:
من المهم في هذه المسألة قبل ذكر أقوال الفقهاء المعاصرين، أن نحرر محل النزاع، كما يلي:
__________
(1) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:167
(2) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:113
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية 6/286(1/169)
إذ لا يخلو المسلم الذي وقع في الأسر وكان يحمل سراً أو أسراراً للمسلمين من حالتين:(1)
الحالة الأولى: أن يكون السر غير خطير، لا ضرر على المسلمين بذيوعه وانتشاره، أو أن في ذيوعه مفسدة لكنها لا تصل إلى مفسدة إراقة دم مسلم .
ففي هذه الحالة على المجاهد المأسور أن يصبر حتى وإن عذب، فإن لم يستطع الصمود فله أن يفشي السر، ولا يجوز له قتل نفسه .
الحالة الثانية: أن يكون السر خطيراً، بحيث يتضمن معلومات تلحق بالمسلمين ضرراً بالغاً، أو تستبيح بيضة الإسلام وأهله، مثل: مواقع اختفاء الجيش، أو أماكن تخزين الأسلحة، أو خطة الجيش في الهجوم أو الدفاع، أو الدلالة على قادة المسلمين وكبرائهم الذين يتضرر الناس بفقدهم، أو هتك الحرمات والأعراض بالتعرض لنساء المسلمين وذراريهم .
فهذه الحالة لا تخلو من احتمالين:
1- أن يغلب على ظن الأسير أنه سيصمد أمام التعذيب حتى القتل، فلا يجوز له قتل نفسه ولا إذاعة السر، بل عليه أن يصبر ويصمد، وصموده أمر عظيم عند الله، ولاسيما أنه مع جهاده دَفَعَ نفسَه فداءً للمسلمين واختار هلكته وتلف نفسه لبقاء المسلمين سالمين .
وله أن يُوَرِّي، ويضلِّل العدو حتى ينجو من التعذيب، فإن لم ينج منهم فله أن يكذب لأنه في حكم المكره .(2)
2 - أن يغلب على ظنه عدم الصمود، وإفشاء السر بسبب وقوعه تحت العذاب، وعدم استطاعته النجاة منهم بالحيلة أو التضليل .
ففي هذا الاحتمال: هل يقال بجواز قتل نفسه أم لا؟
اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الجواز . فيجوز للمجاهد في هذه الحالة أن يقتل نفسه .
__________
(1) ينظر في هاتين الحالتين: المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:26 وما بعدها
(2) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله في الفقه الإسلامي 2/600(1/170)
وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء والباحثين، منهم الشيخ محمد بن إبراهيم(1) مفتي البلاد السعودية الأسبق، حيث سُئِل:"الفرنساويون في هذه السنين تصلبوا في الحرب، ويستعملون الشرنقات - إبر حقن الدواء - إذا استولوا على واحد من الجزائريين ؛ ليعلمهم بالذخائر والمكامن، ومن يأسرونه قد يكون من الأكابر فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا وكذا، وهذه الإبرة تسكره إسكاراً مقيداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط، فهو يختص بما يبينه بما كان حقيقة وصدقاً ؟ .
[فأجاب الشيخ:] جاءنا جزائريون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحر مخافة أن يضربوه بالشرنقة، ويقول: أموت أنا وأنا شهيد، مع أنهم يعذبونه بأنواع العذاب، فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز، ومن دليله ( آمنا برب الغلام )(2)، وقول بعض أهل العلم: إن السفينة .... إلخ (3)، إلا أن فيه التوقف من جهة قتل الإنسان نفسه، ومفسدة ذلك أعظم من مفسدة هذا فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولا بد"(4)
__________
(1) محمد بن إبراهيم: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ المفتي الأول للديار السعودية، فقد بصره في الحادية عشرة من عمره فتابع الدراسة حتى أتم حفظ القرآن الكريم وكثيراً من الكتب والمتون، تصدر للتدريس وتولى رئاسة القضاء، من مؤلفاته: الجواب المستقيم، تحكيم القوانين، والفتاوى، ت:1389هـ . ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم ص:134، الأعلام 5/306
(2) يشير الشيخ إلى حديث قصة غلام الأخدود كما سيأتي قريباً في الأدلة .
(3) يشير إلى قول الفقهاء إن السفينة إذا خُشِي غرق جميع ركابها جاز إلقاء بعضهم .
…لكن الواقع أن عامة الفقهاء على تحريم هذا الفعل كما سيأتي ببيانه في الأدلة ص: 185
(4) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 6/207 - 208(1/171)
وممن أجاز هذه الصورة الشيخ حسن أيوب في كتابه الجهاد والفدائية في الإسلام(1)، والدكتور عجيل النشمي(2)، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك من علماء السعودية المعاصرين في فتوى له(3)، والشيخ عبد العزيز الجربوع(4).
ومن أدلة هذا القول:
__________
(1) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:166
(2) مجلة الرابطة في عددها الصادر في شعبان 1423هـ…
(3) موقع الإسلام اليوم تاريخ الفتوى 9/4/1424هـ www.islamtoday.net
(4) المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:68(1/172)
1)حديث صهيب(1)- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر ... [وفيه أن الغلام قال للملك:] إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام . فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس . فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها(2)، أو قيل له: اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق"(3).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على جواز قتل النفس في سبيل الدين ومصلحة المسلمين العامة، وذلك من وجهين:
__________
(1) صهيب الرومي (صحابي):أبو يحيى صهيب بن سنان النمري، ويعرف بالرومي لأنه أقام في الروم مدة، وهو من أهل الجزيرة سُبِي من قرية نَيْنَوَى من أعمال الموصل، من كبار السابقين البدريين، روى أحاديث معدودة، وكان فاضلاً وافر الحرمة موصوفاً بالكرم والسماحة، وكان ممن اعتزل الفتنة، ت:88هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/726، سير أعلام النبلاء 2/17، الإصابة في تمييز الصحابة 3/449
(2) فأحْموه : بهمزة قطع وحاء ساكنة أي ارموه، وفي نسخة لصحيح مسلم بالقاف (وأقحموه) أي اطرحوه كرهاً . الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج 6/306
(3) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم (3005)(1/173)
الوجه الأول: أن الغلام أمر الملك بقتل نفسه، ودله على الطريقة التي لم يستطع الملك قتله إلا بها، وكان الدافع وراء ذلك هو مصلحة الدين والدعوة إليه .
الوجه الثاني: أن الله تعالى أثنى على الذين آمنوا برب الغلام، وكان يقال لهم: ارجعوا عن دينكم، أو ألقوا أنفسكم في النار، فكانوا يقتحمون في النار، نصراً للدين وإيثاراً لدينهم على دنياهم، بل إن الرضيع نطق يحث أمه على الإقدام لمّا ترددت عن اقتحام النار .(1)
ويناقش هذا الدليل بأنه من شرع من قبلنا وليس بشرع لنا . وقد كان في الشرائع السابقة شيء من هذا القبيل، كما أمر الله بني إسرائيل بقتل أنفسهم عند توبتهم في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارئكم فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) } (2)، وهذا مما هو معلوم أنه غير مشروع في شرعنا، لأن شرعنا جاء بمنعه وتحريم قتل النفس، كما تقدم في أدلة تحريم الانتحار .
ويجاب عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا صح بطريق الوحي ولم يصرح بنسخه، وهومذهب طائفة العلماء، منهم: جمهور الأحناف، والمالكية، وأحد قولي الشافعية، والصحيح عند الحنابلة .(3)
__________
(1) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:22
(2) البقرة: 54 ]
(3) كشف الأسرار 3/212-213، الفصول في الأصول 3/19-28، المنتقى شرح الموطأ 7/133، أحكام القرآن لابن العربي 1/38-39، البحر المحيط 8/42-47، حاشية العطار على شرح الجلال المحلي2/393-394، شرح الكوكب المنير ص:592، روضة الناظر 1/160-161، الإحكام للآمدي 4/147(1/174)
ثم أن شرعنا أثنى على هذا الفعل وأتى به في معرض المدح والإقرار، فدل على أنه ليس من الانتحار المحرم .(1)
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت علي رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المِدْرَى(2)من يديها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟. قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله . قالت: أخبره بذلك . قالت: نعم . فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة وإن لك رباً غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله . فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها . قالت: له إن لي إليك حاجة . قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا . قال: ذلك لك علينا من الحق . قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع، وكأنها تقاعست من أجله، قال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فاقتحمت"(3)
__________
(1) المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:40، العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:110
(2) المِدْرَى): شيء يُعْمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطْوَل منه، يسرّح به الشعر المتلبّد ويستعمله من لا مُشْط له . النهاية مادة (درى) 2/115
(3) رواه أحمد 1/309، والحاكم 2/538 وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وابن حبان 7/163، والطبراني في المعجم الكبير 11/450، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 10/275، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والحديث في إسناده عطاء بن السائب وهو ممن تكلم فيه الأئمة بسبب اختلاطه . قال أحمد: من سمع منه قديما كان صحيحا ومن سمع منه حديث لم يكن بشيء .
ينظر في ترجمته: الكامل في ضعفاء الرجال 5/362، تهذيب الكمال 20/86، تهذيب التهذيب 7/183
وقد اختلف الأئمة في سماع حماد بن سلمة من عطاء بن السائب هل هو قبل اختلاطه أو بعده ؟
فنقل العقيلي في الضعفاء الكبير عن ابن المديني عن يحيى القطان أن حماد بن سلمة حمل عن عطاء بن السائب قبل أن يختلط وبعده وكان لا يفصل هذا من هذا . الضعفاء الكبير للعقيلي 3/339
لكن الذهبي نقل في الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات 1/61 عن جمهور المحدثين أن حماد بن سلمة روى عنه قبل الاختلاط، قال:"وقد استثنى الجمهور رواية حماد بن سلمة عنه أيضاً، قاله ابن معين وأبو داود والطحاوي وحمزة الكناني، وذَكَر ذلك عن ابن معين ابنُ عدي في الكامل وعباس الدوري وأبو بكر بن أبي خيثمة، وقال الطحاوي: وإنما حديث عطاء الذي كان منه قبل تغيره يؤخذ من أربعة لا من سواهم وهم شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة وحماد بن زيد . وقال حمزة بن محمد الكناني في أماليه: حماد بن سلمة قديم السماع من عطاء. وقال عبد الحق في الإحكام: إن حماد بن سلمة سمع منه بعد الاختلاط كما قاله العقيلي . قال الأبناسي: وقد تعقب الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن الموّاق كلام عبد الحق يعني الذي ذكرناه وقال: لا نعلم من قاله غير العقيلي".
2)وإذا تقرر أن سماع حماد بن سلمة من عطاء كان قبل الاختلاط كما هو قول الجمهور، فإنه يكون صحيحاً، وعليه يكون هذا الحديث صحيح الإسناد، والله أعلم .(1/175)
.
وجه الاستدلال: دل الحديث على جواز مباشرة قتل النفس في سبيل الله، وأن هذا الفعل ليس من قتل النفس المحرم الذي جاءت به النصوص، وذلك من وجهين: (1)
1-أن المرأة في هذه القصة لم تلق في النار بالقوة وبالمعالجة، بل إنها اقتحمت بنفسها وباشرت الدخول في النار، ولم تصبر حتى تجبر على الاقتحام .
2-أن الله أنطق الطفل ليأمر أمه بالاقتحام في النار، ولو كان في قتل النفس للدين أي محظور لما أثنى الشارع على هذا الفعل، وما إنطاق الطفل إلا آية لبيان فضل هذا الفعل .
ويناقش هذا الدليل بأنه من شرع من قبلنا وليس بشرع لنا، كما تقدم في مناقشة الدليل السابق .
ويجاب عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا صح بطريق الوحي ولم يصرح بنسخه ، وقد أثنى شرعنا على هذا الفعل وأتى به في معرض المدح والإقرار . (2)
3)أن القول بالجواز يتفق مع القواعد الفقهية، ومنها :
أ-قاعدة (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) . (3)
وإذا اجتمعت المفاسد فإن أمكن درؤها جميعها فهو الواجب، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد .(4)
ووجه ذلك: أن الضرورات تبيح المحظورات، فإذا وجد محظورات وكان من الواجب أو من الضروري ارتكاب أحد الضررين فيلزم ارتكاب أخفهما وأهونهما . (5)
وارتكاب أخف الضررين إنما يحصل في هذه المسألة باستبقاء المئات بأن يفدي المأسور المسلمين بقتل نفسه . (6)
وقد أشار إلى هذه القاعدة الشيخ محمد بن إبراهيم في فتواه آنفة الذكر .
__________
(1) المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:39-40
(2) المصدر السابق ص:40
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41، الفروق 1/210، قواعد الأحكام 1/93، المنثور في القواعد الفقهية 1/348، القواعد لابن رجب ص:246
(4) قواعد الأحكام 1/93
(5) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41
(6) المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:55-60(1/176)
ب-قاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) .(1)
وبناءً على هاتين القاعدتين ونحوهما أجاز الفقهاء أجازوا قتال الكفار إذا تترسوا بالمسلمين في حال الضرورة، ولو أدى إلى قتل المسلمين، واختلفوا في غير حال الضرورة، كما سيأتي بيانه عند الكلام على مسألة التترس .(2)
ومن المعلوم أن نزول الضرر العام بالمسلمين أو جيشهم هو من قبيل الضرورة، فيقال فيه حينئذ ما يقال في مسألة التترس، بدفع الضرر العام، ولو ترتب عليه هلاك نفس مؤمنة .
القول الثاني: المنع . وإذا قتل المجاهد نفسه في هذه الحالة فإنه يكون منتحراً .
وممن ذهب إلى هذا القول د . مرعي بن عبد الله بن مرعي، حيث قال في رسالته العلمية (أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله):"الواجب في حق الأسير أن يقاوم العدو بكل ما يستطيع حتى يقدر عليهم، أو يقتلوه هم بأيديهم، فإن لم يقدر على مقاومتهم فليصبر ويتحمل ويحتسب مهما بلغ تعذيبه وليبشر بالمثوبة والأجر العظيم من الله عز وجل ولا يكشف للعدو أسرار المجاهدين ومواقعهم وعددهم وعدتهم مهما بالغوا في تعذيبه، وله أن يخبرهم بخلاف الواقع تلميحاً وتورية ... أو تصريحاً إذا اضطروه إلى ذلك لأنه مكره على الكذب"(3).
ومن أدلة هذا القول:
1)عموم أدلة تحريم قتل النفس . وقد تقدم ذكر بعضها ووجه الاستدلال بها على تحريم قتل النفس في المطلب السابق بما يغني عن إعادته .(4)
2)القياس على مسألة تحريم إلقاء بعض الركاب إذا ثقلت بهم السفينة لتحصيل نجاة الباقين بجامع التخلص من بعض المسلمين لاستبقاء جماعتهم .
__________
(1) غمز عيون البصائر 1/280، كنز الدقائق مع شرحه تبيين الحقائق 6/147، الفتاوى الهندية 5/395، حاشية البجيرمي على المنهج 4/178
(2) ينظر ص 206 من هذا البحث
(3) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله في الفقه الإسلامي 2/600
(4) ينظر ص: 171 من هذا البحث(1/177)
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى تحريم هذا الفعل(1)، ولم ير جوازه إلا بعض فقهاء المالكية منهم اللخمي(2)، وردّ عليهم بعض فقهاء المذهب كابن العربي والقرطبي(3).
ويناقش هذا الاستدلال: بأن قياس مسألة الأسير لدى الكفار على مسألة السفينة، وإن كان قوياً في ظاهر الصورة، إلا أنه بالتأمل يظهر أنه قياس مع الفارق .
ووجه ذلك أن مسألة الأسير من باب مسائل الجهاد المتعلقة بالمصالح العامة للأمة، والتي يغتفر فيها في التغرير بالنفوس ما لا يغتفر في غيرها، أما مسألة السفينة فليست من هذا الباب، بل هي خاصة بركاب السفينة .
ويؤيد هذا المعنى أن عامة أهل العلم جوّزوا قتل الترس من المسلمين عند الضرورة كما تقدم، على عكس ما ذهبوا إليه في مسألة السفينة، مما يدل على وجود الفارق بين المسألتين.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6/271، تفسير القرطبي 15/126، أحكام القرآن لابن العربي 4/31، نهاية المحتاج 7/366-367، أسنى المطالب 4/79-80، قواعد الأحكام 1/96، كشاف القناع 4/132، مطالب أولي النهى 4/95
(2) منح الجليل 7/514، أنوار البروق في أنواع الفروق 4/71
واللخمي هو: أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي، قيرواني نزل سفاقس، وكان فقيهاً فاضلاً ديناً متفنناً ذا حظ من الأدب، طارت فتاويه وبقي بعد أصحابه فحاز رياسة أفريقية، له تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة، ت:498هـ . ينظر: الديباج المذهب 1/203، شذرات الذهب 3/346، الأعلام 4/328
(3) تفسير القرطبي 15/126، أحكام القرآن لابن العربي 4/31……(1/178)
قال الغزالي -في معرض كلامه على مسألة التترس-:"فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين . وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها ; لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم ; لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين; ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها"(1)
والحاصل أن قياس مسألة الأسير على مسألة الترس أشبه بقياسها على مسألة السفينة، والله تعالى أعلم .
أما ما ذكره د.مرعي من أن الواجب على الأسير أن يصبر ويتحمل ويحتسب مهما بلغ تعذيبه ولا يكشف للعدو أسرار المجاهدين ومواقعهم وعددهم وعدتهم، فإذا بالغوا في تعذيبه له أن يخبرهم بخلاف الواقع تلميحاً وتورية، أو تصريحاً إذا اضطروه إلى ذلك لأنه مكره على الكذب(2)؛ فلا شك أن الأخذ بالصبر والأخذ بالتورية والكذب صحيح من جهة الأصل وهو المقدم في هذه الحالة، لكنه في الواقع لا يمكن أن يُعمل به مطلقاً في جميع الأحوال، وفرض هذه المسألة كما تقدم في تحرير محل النزاع أن هذه الأسير لا يستطيع الصبر على التعذيب، ولا يقدر على التخلص من العدو بحيلة أو تضليل .
……الترجيح
__________
(1) المستصفى ص:176
(2) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله في الفقه الإسلامي 2/600(1/179)
بناءً على ما تقدم من ذكر أدلة الفريقين والمناقشة، يتبين أن المسألة خطيرة وحرجة في الواقع، إلا أن أقرب القولين - والله أعلم - هو القول الأول القائل بالجواز، وعليه يجوز للأسير أن يبادر بقتل نفسه، لكن هذا الترجيح لابد أن يقيد بالشروط التالية:(1)
أ- أن تكون نيته خالصة لله، ودافعه لهذا العمل حماية المسلمين وبيضتهم، لا أن يكون الوازع عدم الصبر على العذاب والضجر مما نزل به .
ب- أن يكون السر خطيراً، يترتب على كشفه ضرر كبير يلحق بالمسلمين .
جـ- أن لا يستطيع حامل السر الصمود أمام التعذيب، ولا قدرة له على ذلك، فإن كان له قدرة وصبرٌ على ذلك حتى الموت فلا يجوز الانتحار .
د - أن يقع صاحب السر في أيدي الأعداء حقيقة، أو يغلب على ظنه أنه واقع لا محالة، لا بمجرد احتمال الوقوع في أيديهم .
فلو كان المجاهد الذي يحمل الأسرار محاصراً في مكان ما فإنه لا يخلو من حالين:
1- أن يكون هناك سبيل للفرار، أو المقاومة حتى النجاة أو القتل: فلا يجوز الانتحار، بل يجب عليه أن يقاوم، ويستفرغ وسعه وجهده في الفرار منهم أو حملهم على قتله .
2- أن لا يكون هناك سبيل للفرار والمقاومة، ويغلب على ظنه أنه سيؤسر: ففي هذه الحالة إن غلب على ظنه أن العدو سيكرهه على إفشاء الأسرار كأن يكون قائداً معروفاً فإنه يجوز له قتل نفسه، وإن غلب على ظنه أن العدو لا يعلم به أو لا يكرهه فلا يجوز له قتل نفسه، والله أعلم .
المطلب الرابع: تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صورة تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لتفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
المسألة الأولى: صورة تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
__________
(1) المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:69، العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:115(1/180)
هذه الصورة هي أشهر صور الأعمال الفدائية في الوقت الحاضر، وتكاد تكون هي المرادة عند إطلاق مصطلح الأعمال الفدائية التي اختلفت فيها أقوال أهل العلم المعاصرين .
وتتمثل هذه الصورة في أنواع كثيرة من الأعمال التي يفجر فيها المجاهد نفسه لتحقيق النكاية بالعدو، كأن يملأ حقيبته أو سيارته بالمواد المتفجرة، أو يلف نفسه بحزام ناسف مليء بالمواد المتفجرة، أو يشاركهم الركوب في وسيلة نقل كبيرة كحافلة أو طائرة أو قطار ونحو ذلك، أو يتظاهر بالاستسلام لهم حتى إذا كان في جمع منهم ورأى الفرصة مواتية فجر ما يحمله من المواد المتفجرة بنفسه وبمن حوله، مما يؤدي إلى قتلٍ وجرحٍ وتدمير في أشخاص العدو وآلاته، وحتماً سيكون منفذ العملية من بين القتلى وذلك لأنه غالباً ما يكون الأقرب إلى المادة المتفجرة .(1)
وأكثر ما يقع في هذه الصور هو قيام المجاهد بتلغيم الجسم أو السيارة أو الحقيبة، والدخول بها بين تجمعات العدو أو مناطقه الحيوية ومرافقه المهمة، ومن ثم تفجير نفسه في الوقت والمكان المناسب، محدثاً بذلك أكبر عدد من الضحايا أو الخسائر في صفوف العدو، نظراً لعنصر المفاجأة وعمق الدخول .(2)
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لتفجير النفس بقصد النكاية بالعدو
لم يتعرض الفقهاء المتقدمون لهذه المسألة، لأنها لم تكن متصورة في زمنهم، وإنما نشأت في العصر الحديث بسبب ظهور الاكتشافات الحديثة والمواد المتفجرة .
وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه الصورة على أربعة أقوال:
القول الأول ) جواز تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو :
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:22
(2) هل انتحرت حواء أم استشهدت ؟ ص:4(1/181)
وذهب إليه جمع من العلماء والفقهاء المعاصرين كالدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور علي الصوا، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور عجيل النشمي، وشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي(1)، ومفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو(2)، وهو المفهوم من فتوى الشيخ الألباني(3) .
وبالجواز قال عدد من علماء السعودية، فقد نُقِل عن الشيخ عبد الله بن حميد في فتوى له عام 1400هـ(4)، وأفتى به الشيخ عبد الله البسام(5)،والشيخ عبد الله بن منيع(6)، والشيخ حمود العقلا(7)، والشيخ سليمان العلوان(8).
__________
(1) تنظر فتاواهم في: العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص: 85-101
(2) مجلة المجتمع في عددها الصادر في 25/8/2001م
(3) حيث أفتى بجواز هذه الأعمال في النظام الإسلامي بأمر أمير أو خليفة عالم بأحكام الإسلام، وأنها ليست بهذه الصورة من الانتحار المحرم . فمفهوم كلام الشيخ أنها من حيث الأصل جائزة في ذاتها وليست من قبيل الانتحار . كما في كتاب: العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:70
(4) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:87
(5) صحيفة البلاد في عددها الصادر في 22/11/1421هـ
(6) مجموع فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله بن منيع 3/185-186
(7) شبهات حول العمليات الاستشهادية ص:34، والموقع الرسمي للشيخ www.aloqla.com
(8) موقع الشيخ سليمان العلوان الرسمي على شبكة الانترنت www.3lwan.org(1/182)
وممن أجازها الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- في إحدى فتاويه بشرط وجود مصلحة كبيرة، ونفع عظيم . فقال:"هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل أول ما يقتل نفسه، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه، ولا تجوز مثل هذه الحالة إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام، لا لقتل أفراد من أناس لا يمثلون رؤساء ولا يمثلون قادة لليهود، أما لو كان هناك نفع عظيم للإسلام لكان ذلك جائزاً ... والحاصل أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى فقه وتدبر ونظر في العواقب وترجيح أعلى المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، ثم بعد ذلك تقدر كل حالة بقدرها"(1).
ومن أدلة هذا القول مايلي:
الدليل الأول : ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رجلاً أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذْكَر، والرجل يقاتل ليُرى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله"(2).
وجه الاستدلال: أن الشارع جعل الاعتبار في مصير قاتل نفسه وباذلها للنية والمقصد، فدل على أن مدار الحكم على النية .(3)
…وإذا كان مدار الحكم على النية، فإن بذل النفس متى ما كان لإعلاء كلمة الله والنكاية بأعداء الله فهو مشروع دون اعتبار لوسيلة هذا البذل، إذا غلب على الظن أن هذه الوسيلة موصلة للمقصود .(4)
__________
(1) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:170-172
(2) رواه البخاري في كتاب العلم ( 123)، ومسلم كتاب الإمارة ( 1904 ) واللفظ له
(3) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:112…
(4) المصدر السابق ص:36…(1/183)
ويناقش هذا الدليل بأنه لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على جواز هذه الأعمال، لأن غاية ما يستفاد منه اشتراط النية الخالصة في الجهاد، ومن المعلوم أن النية لا تكفي وحدها لجواز العمل ما لم تقترن بها صحة العمل ومشروعيته، وهذا هو المدَّعَى .
…وأما وسيلة بذل النفس، فإن عدم ورودها في الحديث ليس دليلاً على عدم اعتبارها، والغاية المشروعة لا تبرر الوسيلة الممنوعة .
الدليل الثاني : عن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر ... [وفيه أن الغلام قال للملك:] إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام . فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس . فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق"(1).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على جواز قتل النفس لمصلحة الدين من وجهين:
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 181 من هذا البحث(1/184)
الوجه الأول: أن الغلام أمر بقتل نفسه، بل إنه دل الملك على الطريقة التي لولاها لما استطاع قتله فصار شريكاً في إزهاق نفسه، لأن رأيه كان هو السبب المباشر لقتله، لكن لمّّا كان الدافع وراء هذا الفعل هو مصلحة الدين جاز، فدل هذا على جواز التسبب في قتل النفس إذا كان لمصلحة الإسلام والمسلمين .
وفي هذا يقول ابن تيمية:"وفيها أنَّ الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين؛ ولهذا جَوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صَفّ الكفار وإن غلب على ظنّه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين"(1).
الوجه الثاني: أن الله تعالى أثنى على الذين آمنوا برب الغلام، وكان يقال لهم ارجعوا عن دينكم أو ألقوا أنفسكم في النار، فكانوا يقتحمون في النار، نصراً للدين وإيثاراً لدينهم على دنياهم، بل إن الرضيع نطق يحث أمه على الإقدام لما ترددت عن اقتحام النار .(2)
ويناقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: ما تقدم ذكره من أن الحديث من شرع من قبلنا وليس بشرع لنا .
ويجاب عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وقد أثنى على هذا الفعل وأتى به في معرض المدح والإقرار .(3)
وعلى هذا، يكون تفجير النفس وقتلها في سبيل مصلحة الدين مخصوصاً من عموم تحريم قتل النفس، لأن المراد بتحريم قتل النفس هو قتلها جزعاً أو تخلصاً من الألم أو مبادرةً بها دون مصلحة شرعية .(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/540
(2) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:22
(3) ينظر ص: 181 من هذا البحث
(4) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:110…(1/185)
الوجه الثاني: يناقش هذا الدليل من وجه ثانٍ بما قال الشيخ محمد بن عثيمين:"أن فعل الغلام إنما جاز لأنه حصل فيه نفع كبير للإسلام، حيث آمنت أمة بأكملها، فإذا حصل مثل هذا النفع فللإنسان أن يفدي دينه بنفسه، أما مجرد قتل عشرة أو عشرين دون فائدة ودون أن يتغير شيء ففيه نظر بل هو حرام"(1).
ويجاب عنه بما تقدم بيانه من آثار هذه الأعمال المختلفة على أفراد العدو ودولتهم، فقد أثبتت البحوث والدراسات الأثر الشديد لهذه الأعمال المنكية بالعدو، وأنها أخطر ما يهدّد دولة اليهود .
فالذي يظهر للباحث والمتأمل عن قرب أن قول الشيخ عفا الله عنه أن نفع هذه الأعمال"مجرد قتل عشرة أو عشرين دون فائدة ودون أن يتغير شيء"اجتهاد يرده الواقع الحقيقي لهذه الأعمال على أرض فلسطين .
الدليل الثالث: القياس على تعريض المجاهد نفسه للقتل باقتحامه صفوف العدو بجامع غلبة الظن في تحقيق النكاية بالأعداء، فإذا وجد هذا الوصف كان العمل مشروعاً، وإذا لم يوجد كان العمل ممنوعاً . (2)
ويناقش هذا القياس بأنه قياس مع الفارق، وليس كل وصف مشترك بين صور مختلفة يعد علة لحكمها، والقول بأن علة الحكم غلبة الظن في تحقيق النكاية بالأعداء، فيه نظر، لوجود الفرق بين الصورتين وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن سبب الهلاك في مسألة الاقتحام ليس حتمياً، بل هو محتمل، وقد ينجو المجاهد من الهلاك كما وقع في حوادث كثيرة . أما في صورة تفجير النفس للنكاية بالعدو فسبب الهلاك حتمي قطعي لا احتمال فيه .
الوجه الثاني: أن المجاهد في صورة الاقتحام إنما يقصد قتل أعدائه فيقتل بأيديهم، أما في هذه الصورة فالمجاهد يقصد قتل نفسه ليقتل غيره .
__________
(1) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:171
(2) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:44…(1/186)
ويجاب عن الوجه الثاني بأن الفارق بين التسبب في القتل ومباشرة القتل غير مؤثر في الحكم، لأن التسبب في القتل كالمباشرة . (1)
وبيان هذا: أن الاقتحام على الأعداء نوع من التسبب في قتل النفس، والتسبب في قتل النفس مثل مباشرة قتلها، كما أن التسبب بقتل الغير مساوٍ لمباشرة قتل الغير . حتى إن جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أوجبوا القصاص على قاتل الغير بالتسبب كما يقتص من مباشر القتل(2)، وخالف الحنفية فأوجبوا فيه الدية (3) .
والحاصل أن المعين على القتل والقاتل في الجناية سواء، إلا أن النصوص قد أخرجت المجاهد عن هذا الأصل بأدلة خاصة .(4)
فإذا رأينا أن الشارع أباح الاقتحام على العدو، وهو تسبب في قتل النفس في سبيل الله، كان هذا دليلاً على إباحة مباشرة تفجير النفس في سبيل الله لتساوي الأمرين في العلة، وهي كون بذل النفس في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله .(5)
قلت: بعد طول تأمل، يمكن أن تُناقَش مسألة التسبب والمباشرة مناقشة علمية بثلاثة أمور:
__________
(1) المصدر السابق ص:111
(2) حاشية الدسوقي 4/243، التاج والإكليل 8/306، الأم 6/7، مغني المحتاج 5/216، المغني 8/330، كشاف القناع 5/508-509
قلت: وقول الجمهور هو الصحيح في هذه المسألة، بل ولا يمكن أن تصلح أحوال الناس إلا به، إذ القول بعدم القصاص بالتسبب يفتح الباب لأهل الفساد .
ينظر في هذا : القتل بالسبب وآثاره في حقوق الله وحقوق العباد ص:116-122
(3) حاشية ابن عابدين 5/242، بدائع الصنائع 7/239، البحر الرائق 8/327
(4) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:30
(5) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:45(1/187)
الأمر الأول: أن اشتراك السبب والمباشرة فيما يترتب عليهما من عقوبة القصاص لا يلزم منه اتفاقهما في أصل الفعل، وفي أحكامه الأخرى في جميع الأحوال، لأنه من المقرر أنه إذا اجتمع المتسبب والمباشر أضيف الأمر إلى المباشر . (1)
الأمر الثاني: أن أسباب القتل متفاوتة، وليست على درجة واحدة، فما كان منها تاماً في حصول النتيجة فإنه يعطى حكم المباشرة -حال عدم المباشرة- لاشتراكهما في نتيجة الفعل، وما لم يكن تاماً فإنه لا يكون كالملجيء، لعدم تمام تأثيره، وطروء الاحتمال عليه .
والاقتحام كما ذكرنا في الوجه الأول ليس سبباً حتمياً للهلاك بل هو محتمل، فلا يكون حكمه حكم المباشرة .
الأمر الثالث: أن التسبب في قتل النفس بالاقتحام إنما رخص فيه في باب الجهاد وطلب الشهادة فقط، فلا يقاس عليه المباشرة، لأن أحكام الجهاد من المصالح العامة التي يغتفر فيها من التغرير بالنفوس ما لا يغتفر في غيرها . أما ما لم يرخص فيه وهو المباشرة فإنه يبقى على الأصل وهو التحريم .
الدليل الرابع: أن هذه الصورة من الأعمال الفدائية جائزة من باب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
قال الشاطبي لمّا تناول مسألة ما إذا كان قيام الشخص بالمصلحة العامة متلفاً لنفسه:"وإن فُرِض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة العامة، ويدل عليه أمران:
أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها .
والثاني: ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وقوله: نحري دون نحرك، ووقايته له حتى شُلَّتْ يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إيثار راجع إلى تحمّل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة أنه وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله"(2)
__________
(1) غمز عيون البصائر 1/465، أنوار البروق في أنواء الفروق 2/208، المنثور في القواعد الفقهية ص: 136، شرح الكوكب المنير ص:139
(2) الموافقات 3/92(1/188)
……ويناقش هذا الاستدلال بأننا لا ننكر أن المصلحة العامة مقدمة على الخاصة كما في اقتحام المجاهد صفوف العدو وحده، أو قول كلمة الحق عند سلطان جائر، لكن هذا مقيد بما إذا لم تكن هذه المصلحة قد شهد الشرع بإلغائها، وقد جاء في النهي عن الانتحار ما يدل على أن هذه المصلحة المدّعاة ملغاة لمعارضتها النصوص الشرعية .
ويجاب عنه أن الاستدلال على إلغاء هذه المصلحة بتحريم الانتحار إنما يصح لو كانت هذه الصورة تدخل في عموم تحريم الانتحار، وقد بيّنت سابقاً أن قتل النفس لمصلحة الدين مخصوص من عموم الانتحار المحرم .(1/189)
الدليل الخامس: قول الصحابي . وبيانه: ما رواه ابن أبي شيبة وغيره في قصة ابن الزبير والأشتر النخعي(1)في خبر مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير يوم الجمل، في قصة طويلة، وفيها أن الأشتر قال:" إني أقبلت في رِجْرِجَة(2)من مَذْحِج(3)فإذا ابن عَتَّاب(4)قد نزل فعانقني, فقال: اقتلوني ومالكاً, فضربته فسقط سقوطاً, ثم وثبت إلى ابن الزبير فقال: اقتلوني ومالكاً، وما أحب أنه قال: اقتلوني والأشتر, ولا أن كل مَذْحِجية ولدت غلاماً"(5)
__________
(1) الأشتر النخعي: مالك بن الحارث النخعي، ملك العرب وأحد الأشراف والأبطال المذكورين، فقئت عينه يوم اليرموك، وكان شهماً مطاعاً ذا فصاحة وبلاغة، ألّب على عثمان وقاتلَه، وشهد صفين مع علي، ولما رجع علي من موقعة صفين جهز الأشتر والياً على ديار مصر فمات في الطريق مسموماً سنة 37هـ . ينظر: تاريخ دمشق 56/373، تهذيب الكمال 27/126، سير أعلام النبلاء 4/34
(2) رِجرِجَة : الجماعة الكثيرة في الحرب . لسان العرب مادة (رجج) 2/281
(3) مَذْحِج : من قبائل العرب ، وسبب هذه التسمية أن أم مالك وطيء لما هلك بعلها أذحجت على ابنيها أي لم تتزوج بعده وأقامت عليهما، ثم سميت القبيلة بهذا الاسم . لسان العرب مادة (ذحج) 2/278
(4) ابن عتّاب : عبد الرحمن بن عتّاب بن أُسَيد الأموي، أحد التابعين، كان أبوه عتّاب من مُسْلِمة الفتح، وولد له عبد الرحمن هذا في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، شهد عبد الرحمن يوم الجمل مع طلحة والزبير وعائشة، والتقى هو والاشتر، فقيل: إنه قتله الأشتر، وقيل:قتله جندب بن زهير . ينظر: الطبقات الكبرى 5/34، تهذيب الأسماء 1/277، الإصابة في تمييز الصحابة 5/43
(5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 8/708 قال: حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة- قال: حدثني العلاء بن المنهال، قال: حدثنا عاصم بن كُلَيب الجرمي، قال: حدثني أبي ... وذكر قصة طويلة .
…وهذا الإسناد حسن، رجاله ثقات عدا كليب بن شهاب الجرمي فإنه صدوق كما في التقريب 1/462 ، وينظر: تهذيب الكمال 24/211، ميزان الاعتدال 8/176
وللحديث شواهد كما عند ابن أبي شيبة في المصنف من طريق أخرى 8/693، والطبري في تاريخه 3/46،50،53 وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 56/382، 383(1/190)
.
… قال الشعبي(1): وكان الناس لا يعرفونه بمالك، ولو قال: والأشتر وكانت له ألف نفس ما نجا منها شيء، وما زال يضطرب في يدي عبدالله حتى أفلت.(2)
وجه الاستدلال: في طلب ابن الزبير - رضي الله عنه - من أصحابه أن يقتلوه مع الأشتر دليل على جواز قتل النفس لمصلحة الدين إذا اقتضى الحال ذلك .(3)
ووجه كون قتل الأشتر من مصلحة الدين أنه كان أحد مثيري الفتنة، مع ما كان عليه من الشرف والشجاعة وطاعة الناس له، وهو ممن ألّب الناس على عثمان وقاتله، كما تقدمت الإشارة إليه قريباً في ترجمته . فرأى ابن الزبير أن في قتله مصلحة للمسلمين، وإطفاءً للفتنة العظيمة التي وقعت بينهم .
القول الثاني ) تحريم تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو:
وذهب إليه بعض العلماء المعاصرين كالشيخ عبد العزيز بن باز(4)، والشيخ محمد بن عثيمين في فتواه الأخرى(5)، ومفتي السعودية الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ(6)، والشيخ صالح الفوزان(7)، والشيخ عبد العزيز الراجحي(8).
__________
(1) الشعبي: أبو عمرو عامر بن شراحيل الهمداني الكوفى من شعب همدان، علامة التابعين، كان إماماً حافظاً فقيهاً متفنناً ثبتاً متقناً، وكان لشدة حفظه يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ت: 104هـ .
ينظر: تهذيب الكمال 14/28، تذكرة الحفاظ 1/79، سير أعلام النبلاء 4/294
(2) تاريخ الطبري 3/50
(3) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:13، المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار ص:45
(4) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:166
(5) المصدر السابق ص:172
(6) المصدر السابق ص:166، و أول ما نُشِرت الفتوى في صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 21/4/2001م
(7) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:173……
(8) المصدر السابق ص:174(1/191)
وقد سئل ابن باز عن حكم من يلغم نفسه ليقتل بذلك مجموعة من اليهود، فقال:"الذي أرى قد نبهنا غير مرة أن هذا لا يصلح لأنه قاتل نفسه والله يقول: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } (1)"(2).
وقال ابن عثيمين في فتواه المانعة من تفجير النفس للنكاية بالعدو:"رأيي في هذا أنه قاتل نفسه وأنه سيعذب في جهنم بما قتل به نفسه، كما صح ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الجاهل الذي لا يدري وفََعَله على أنه فعل حسن مرضي عند الله أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه، لكونه فعل هذا اجتهاداً، وإن كنت أرى أنه لا عذر له في الوقت الحاضر؛ لأن هذا النوع من قتل النفس اشتهر وانتشر بين الناس، وكان على الإنسان أن يسأل عنه أهل العلم حتى يتبين له الرشد من الغي"(3).
وممن منعها سعيد عبد العظيم في كتابه:"تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد"، حيث قال:"غلبة الظن بحصول الهلاك ليس معناه ارتداء الفدائي لأحزمة ناسفة، إذا الواجب عليه أن يأخذ لنفسه بأسباب النجاة ما استطاع، مع حرصه على استلحاق المضرة والأذى بالأعداء حتى وإن أدى ذلك لموته"(4).
وقال أيضاً:"فقتل بعض الجيش والشعب بمثل هذه العمليات في أوضاعنا التي نعيشها اليوم هو من اتباع سبيل المجرمين، حيث لا ينفك ذلك عن الغدر المحرم وتعدي الأذى والمضرة البالغة للأبرياء دون مصلحة معتبرة"(5).
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول: عموم أدلة تحريم قتل النفس، وقد سبق ذكر بعضها .
__________
(1) النساء: 29 ]
(2) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:166
(3) المصدر السابق ص:172-173 وأصل الفتوى حوار أجرته مجلة الدعوة مع الشيخ في عددها الصادر في 28/2/1418هـ، …وللشيخ نحو هذا الكلام في شرح رياض الصالحين 1/124
(4) تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد ص:203 (هامش رقم 1)
(5) المصدر السابق ص:204(1/192)
وبيان وجه الاستدلال بها هنا أن هذه الأعمال ليس لها وجه شرعي، وفيها شَبَه بالانتحار لأن الأصل في قتل الإنسان نفسه أنه يعد منتحراً، وما لم يدل دليل واضح على جواز مثل هذه الأعمال فإنها تكون من قبيل قتل النفس، وفاعلها قاتل لنفسه كما ذكر ابن باز (1)، وابن عثيمين(2).
وقال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ:"هذه الطريقة لا أعلم لها وجهاً شرعياً ولا أنها من الجهاد في سبيل الله، وأخشى أن تكون من قتل النفس، نعم إثخان العدو وقتاله مطلوب بل ربما يكون متعيناً، لكن بالطرق التي لا تخالف الشرع"(3).
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
1- أن الوجه الشرعي لهذه المسألة تقدم بيانه في عرض أدلة المجيزين .
2- كون هذه الأعمال من قتل النفس المحرم الذي جاءت به النصوص فيه نظر، والله سبحانه وتعالى حرم قتل النفس لأنه نتيجة للجزع وعدم الصبر على البلاء، وكل هذا ناتج عن انتفاء الإيمان أو نقصه، أما المجاهد الذي يبذل روحه فلا يقال إنه بذلها من أجل هذه الدوافع . بل إنه في الغالب لا يقدم على ذلك إلا لقوة إيمانه بالغيب وليقينه بما عند الله .(4)
فلا يستوي المنتحر الذي يقتل نفسه بدافع الجزع وعدم الصبر، أو التسخط على القدر، أو التخلص من الآلام والجروح والعذاب أو اليأس من الشفاء، والمجاهد الذي يبذل روحه بنفس فرحة مستبشرة متطلعة للشهادة والجنة ونصرة الدين .(5)
والانتحار يحتاج إلى القصد، وهو إما قصد التخلص من الحياة، أو التخلص من النفس دون غاية، أما قصد النكاية بالعدو لإعلاء كلمة الله فليس من مقاصد الانتحار .(6)
__________
(1) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:166
(2) المصدر السابق ص:172-173
(3) المصدر السابق ص:169، صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 21/4/2001م
(4) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ ص:35
(5) شبهات حول العمليات الاستشهادية ص:34
(6) فتوى الدكتور عجيل النشمي . العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:94-96(1/193)
الدليل الثاني: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه . فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه من أهل النار . فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبداً، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه . قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه . فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهد أنك رسول الله . قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"(1).
وجه الاستدلال: مع أن هذه القصة تصنّف ضمن الأدلة العامة التي أشرت إليها إجمالاً وناقشتها، إلا أن الشيخ صالح الفوزان خصها بالاستدلال في فتواه، ثم قال:"لماذا دخل النار مع هذا العمل؟ لأنه قتل نفسه ولم يصبر، فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه"(2).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2898)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (112) واللفظ له
(2) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:174(1/194)
ويناقش هذا الاستدلال بأن هذه الحادثة لا دليل فيها على هذه الصورة من الأعمال الفدائية على وجه الخصوص، وغاية ما يؤخذ منها عموم تحريم قتل النفس، وتقدمت مناقشته آنفاً في الدليل الأول، وبيان أن قتل النفس لمصلحة الدين ليس من قتل النفس المحرم.
ثم إن في هذه الحادثة ما يبين بطلان الاستدلال بها على التحريم، وذلك أن حال الرجل يدل على أنه إنما قتل نفسه لما أصابته الجراح جزعاً من الألم، وهذا مما يعلم أنه بخلاف حال المجاهد الذي يقوم بهذه الأعمال إعلاء لكلمة الله .
الدليل الثالث: عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أنه قال يوم خيبر:"اختلف عامر بن الأكوع ومرحب ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يَسْفُل له(1)فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه . قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه . قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك . قال: كذب(2)من قال ذلك، بل له أجره مرتين"(3).
وجه الاستدلال: قال الشيخ عبد العزيز الراجحي:"فإذا كان الصحابة أشكل عليهم كون عامر ارتد إليه ذباب سيفه بدون اختياره وقالوا بطل جهاده، فكيف بالذي يفجر نفسه باختياره"(4).
قلت : يناقش هذا الاستدلال: بأنه ليس في هذا الحديث دلالة على المنع، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه:
__________
(1) يَسْفُل له : أي يضربه من أسفل . فتح الباري 7/466
(2) كذب) أي أخطأ . فتح الباري 7/467
(3) تقدم تخريجه ص: 167 من هذا البحث
(4) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:175(1/195)
1-أن استشكال بعض الصحابة فعلَ عامر لم يكن بسبب كونه باشر قتل نفسه بدون اختياره، وإنما يحتمل أنهم خشوا أن يكون عامر قد بادر بقتل نفسه جزعاً وتسخطاً، كما تقدم في قصة الرجل الذي جزع فقتل نفسه، وهذا مما لا يختلف فيه أنه انتحار محرم، وهو الذي يليق بحالهم أن يخشوه على عامر .
2-أن هذا الاجتهاد إنما صدر من بعض الصحابة، وقد أنكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن أنه فهم خاطيء، فكيف يستدل باجتهاد مردود غير صحيح على مسألة قتل النفس لمصلحة الدين والنكاية بالعدو وهي خارجة عن موضوع هذا الحديث .
3-لو سلمنا أن الحكم بالمنع هو مؤدى فهم هؤلاء النفر من الصحابة فإن خطأهم فيها وارد كخطئهم في الحكم على عامر .
الدليل الرابع: ما علل به الشيخ عبد المحسن العبيكان تحريم هذه الأعمال، حيث قال:"العمليات هذه هي نوع من الجهاد، والجهاد عبادة، والعبادة توقيفية لا تجوز ولا تشرع إلا بنص، وهذا أمر مجمع عليه، فالذي يبيح مثل هذه العمليات بدون نص صريح، هذا قائل على الله بغير علم"(1).
ويناقش هذا الاستدلال من أوجه:
1-أن كون الجهاد عبادة، ليس المراد به أنه من قبيل العبادات المحضة المبنية على التوقيف وعدم الاجتهاد، بل المراد أنه عبادة من حيث الأصل والثواب، وأما ما يندرج تحتها من فروع وأعمال ووسائل فإنه يقاس فيها ويجتهد، ويدل على ذلك هديه - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم - في الجهاد .
__________
(1) المصدر السابق ص:178(1/196)
2-وعلى هذا، فالمطالبة بالنص الصريح في كل مسألة من مسائل الجهاد تحكم لا وجه له، ومما يبين بطلانه أن الفقهاء ذكروا في أبواب الجهاد عدداً من الأحكام التي ليس فيها نص صريح، وإنما مبناها على الإجماع أو القياس أو قواعد الشريعة أو المصلحة العامة التي يراها أولو الأمر من العلماء والأمراء، إذ إن فقه الجهاد فقه مصلحي يدور مع المصلحة الشرعية وجوداً وعدماً ما لم يكن في ذلك مخالفة لنصوص الشريعة وقواعدها .
ومن الأمثلة على ذلك: مسائل التترس، والانتقال من سبب الموت إلى سبب آخر، وتدبير الجيش، وما يستجد من أعمال الحرب، ونحو ذلك مما لا نص فيه .
ولهذا علق الجصاص على قوله تعالى { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1) بقوله:"إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى، وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم، فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار ..."(2).
3-إذا تقرر ما سبق من عدم صحة المطالبة بالنص الصريح في مسائل الجهاد، فإن الذين أجازوا هذه الأعمال لم يجيزوها من تلقاء أنفسهم أو تقولاً على الله بغير علم، وإنما أجازوها بناء على أدلة عديدة، وقد تقدم بيان شيء منها .
القول الثالث ) جواز تفجير المجاهد المكانَ الذي هو فيه، وتحريم تفجيره نفسه :
وبيانه أنه إذا وضع المجاهد المتفجرات في بناء أو سيارة أو معسكر وهو يعلم أنه يقتل مع أعدائه فيجوز، وإن التف بحزام ناسف لينسف نفسه ومن حوله فلا يجوز .
__________
(1) النساء: 83 ]
(2) أحكام القرآن للجصاص 2/306(1/197)
وهذا القول ذهب إليه الشيخ حسن أيوب في كتابه الجهاد والفدائية في الإسلام .(1)
وتعليل هذا الرأي: أنه في الحالة الأولى إنما يقتل عدوه، وجاء قتل نفسه تبعاً . أما في الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل غيره لسبب من الأسباب .(2)
قلت: وقد يستشهد لصحة هذا التعليل بتفريق الأحناف بين القتل بالتسبب والقتل بالمباشرة فإنهم أوجبوا الدية دون القصاص في القتل بالتسبب .(3)
ويناقش هذا التعليل من وجهين:
الوجه الأول: أن الفرق بين الصورتين غير مؤثر في الحكم -مع أنه قد يؤثر في نتيجة العمل- فالمجاهد هو الفاعل فيهما، وهو يعلم بأنه يُقْتَل في كلا الحالين، فلا فرق بين أن يضع المتفجرات بجواره أو يضعها على جسده .
وعلى هذا فلا يقال: إن الفاعل يعد متسبباً في الحالة الأولى دون الثانية، بل هو مباشر للقتل في كلتا الحالتين، فيكون حكمه حكم المباشر فيهما .
الوجه الثاني: أما تعليل المنع بأنه قد لا يقتل غيره لسبب من الأسباب، فإن هذا الأمر لا يختص بهذه الصورة بل قد يقع في بعض الصور المشروعة كالاقتحام والمبارزة وغيرها .
ولذا فإنه ليس من شرط الجواز تحقق وقوع النكاية بالعدو، بل يكفي في هذا غلبة الظن بوقوعها، ويكون تقدير النكاية بناءً على ظاهر الحال .
القول الرابع ) جواز تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو حال الضرورة:
__________
(1) الجهاد والفدائية في الإسلام ص:166
(2) المصدر السابق ص:166
(3) تقدم ذكر الخلاف في المسألة ص: 194 من هذا البحث .(1/198)
وذهب إليه د. محمد خير هيكل في كتابه (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية)(1)، وتبعه محمد سعيد غيبة في (العمليات الاستشهادية وآراء الفقهاء فيها)(2). وجاء ضمن بعض فتاوى مجيزي هذه الأعمال ما يشير إلى اعتبارهم الضرورة مبرراً للقيام بهذه الأعمال، ومنهم د. وهبة الزحيلي(3)، و د. يوسف القرضاوي(4).
ودليل هذا الرأي: القياس على مسألة تترس العدو بالمسلمين، بجامع التوصل إلى قتل العدو بقتل مسلم .
وحتى يمكن فهم هذا الرأي يحسن بي أن أوضح مسألة التترس، وكلام العلماء فيها .
الخلاف في مسألة تترس العدو بالمسلمين:(5)
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1401
(2) العمليات الاستشهادية وآراء الفقهاء فيها ص:27
(3) قال د . وهبة الزحيلي في فتواه:" إذا تعين العمل الفدائي أو عمليات الانتحار أو الاستشهاد في حالات اللقاء مع العدو الحربي كاليهود، وغلب على الظن أن العدو سيقتل الشخص أو ينكل به وكان هذا بإذن السلطة الحاكمة الشرعية، وكان مروعاً أو مرهباً أو قامعاً لعدوان العدو فهو جائز بمشيئة الله، لأن مثل هذا العمل اليوم أصبح ضرورة شرعية ولم تعد عمليات المواجهة، مواجهة العدو بجيش منظم تحقق المطلوب" العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:87-88
(4) قال د . يوسف القرضاوي في فتواه:" فهؤلاء الشباب يدافعون عن أرضهم وهي أرض الإسلام، وعن دينهم وعرضهم وأمتهم، ليسوا بمنتحرين، بل أبعد ما يكونون عن الانتحار، وإنما هم شهداء حقاً بذلوا أرواحهم وهم راضون، في سبيل الله، ما دامت نياتهم خالصة لله، وما داموا مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله .." العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:93
(5) التترس: أن يتخذ العدو طائفة من الناس بمثابة الترس يحمي بهم نفسه، بسبب تردد خصمه في ضربهم، وهو ما يسمى اليوم بالدروع البشرية ، ومثله وضع رهائن الحرب في الأماكن الحيوية .
"ينظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1328، هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:25(1/199)
اختلف العلماء فيما إذا تترس العدو بالمسلمين . على ثلاثة أقوال: -
القول الأول: جواز رميهم مطلقاً . وذهب إليه جمهور الحنفية(1)، وسفيان الثوري(2)، وهو أحد القولين عند المالكية(3)، ومقابل المذهب عند الحنابلة(4).
ومن أدلة هذا القول:
1)أن رميهم من باب الضرورة لإقامة فرض الجهاد، ولو منع رميهم لتعطل الجهاد .(5)
وبيان هذا أنه لو وجب الكف عنهم بهذا لم يتوصل إلى الظهور عليهم . لأن كل أهل حصن منهم أو أهل سفينة يخافون على أنفسهم يجعلون معهم في ذلك الموضع أسيراً من أسرى المسلمين، فيتعذر عليهم لأجل ذلك قتالهم وهذا لا يجوز .(6)
ودفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام بإثبات الضرر الخاص واجب .(7)
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، ولا سيما بروح المسلم .(8)
ورمي الترس في هذه الحالة يؤول إلى قتل المسلمين، مع أن لنا مندوحة عنه .(9)
2- أن حرمة دم المسلم أعظم من أن تنتهك لمثل هذه الحجة غير المسلمة، ولا يلزم أن يتعطل الجهاد بسبب تترس الكفار بالمسلمين، لأن طرق الجهاد كثيرة، ويمكن أن نغيّر مكان أو زمان الهجوم ويحصل المقصود .(10)
وأما مع الضرورة التي تفضي إلى تعطيل الجهاد وعدم إقامة الفرض، فلا ننازع في جواز رمي الترس، وإنما النزاع في رميه إذا كان للمسلمين مندوحة، ولا ضرورة للرمي مع إمكان القدرة عليهم بغيره .(11)
__________
(1) فتح القدير 5/447، شرح السير الكبير 4/1447
(2) أحكام القرآن للجصاص 3/588، أحكام القرآن لابن العربي 4/116
(3) شرح الخرشي على خليل 3/114
(4) الإنصاف 4/129
(5) بدائع الصنائع 7/101
(6) شرح السير الكبير 4/1447
(7) فتح القدير 5/449
(8) أحكام القرآن لابن العربي 4/116
(9) كشاف القناع 3/51
(10) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:27
(11) شرح منتهى الإرادات 1/624(1/200)
وأما الاستدلال بأن رمي الترس دفع للضرر العام بإثبات الضرر الخاص، فغير مسلم لأن هذا إنما يقال عند العلم بانهزام المسلمين وتضررهم العام لو لم يُرْمَ الترس .(1)
2)القياس على جواز رمي الكفار إذا تترسوا بنسائهم وأطفالهم ومن لا يجوز قتله منهم فإنه يجوز إجماعاً مع العلم بوجود من لا يجوز قتله فيهم واحتمال قتله وهو الجامع(2).(3)
ويناقش هذا الاستدلال بأنه قياس مع الفارق، لأن حرمة المسلم معصوم الدم أعظم من حرمة من لا يجوز قتله من الكفار .
3)من المعقول: أن كل قتال مع الكفار هو دفع للضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام أي مجتمعهم، وإن لم يحصل فيه الظفر تضرر المسلمون كلهم . (4)
ويناقش هذا الاستدلال بأن قتل المسلم في غالب الظن أشد من ترك الرمي، وإنما يكون الضرر العام مقدماً على هذا إذا كان فيه هزيمتهم أو تضررهم .(5)
القول الثاني: جواز رميهم عند الضرورة . وهو قول الجمهور، مالك وهوالمذهب عند أصحابه(6)، وإليه ذهب الشافعية(7)، والحنابلة(8)، والحسن بن زياد(9)
__________
(1) فتح القدير 5/449
(2) تنظر المسألة بتمامها في موضعها ص: 313 من هذا البحث
(3) فتح القدير 5/449
(4) المصدر السابق
(5) المصدر السابق
(6) الموطأ 1/513، شرح الخرشي 3/114، أحكام القرآن لابن العربي 4/116…
(7) الأم 7/369، تحفة المحتاج 6/31
(8) كشاف القناع 3/51، الإنصاف 4/129، الفروع 6/211
(9) الحسن بن زياد: أبو علي الأنصاري مولاهم الكوفي اللؤلؤي، العلامة فقيه العراق صاحب أبي حنيفة، نزل بغداد وتصدر للفقه، وكان أحد الأذكياء البارعين في الرأي، ولي القضاء بعد حفص بن غياث ثم عزل نفسه، وقد تكلم الأئمة في روايته الحديث وضعفوه على جلالة قدره في الفقه، ت:204هـ .
ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال 2/318، لسان الميزان 2/208، سير أعلام النبلاء 9/543(1/201)
من الحنفية(1)، والليث(2)والأوزاعي(3).
ومن أدلة هذا القول:
قوله تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مصيبةٌ بغيرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (5).
وجه الاستدلال: أن هذه الآية نزلت بعد الحديبية، وقد كف الله المسلمين عن عدوهم في مكة لأجل المؤمنين المختلطين بهم، لأن المسلمين لو وطؤوهم وقتلوهم حال القتال لأصابهم من ذلك معرة أي إثم . فدل هذا على أن موجب الإثم هو قتل المؤمنين المختلطين بالعدو فلا يجوز فعله .(6)
__________
(1) فتح القدير 5/447
(2) الليث بن سعد: أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم الأصبهاني الأصل المصري، الحافظ شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها، حتى إن نائب مصر وقاضيها كانا تحت أوامره، وإذا رابه من أحد منهم أمر كاتب فيه الخليفة فيعزله، وقال فيه الشافعي: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، ت:175هـ . ينظر: تهذيب الكمال 24/255، تذكرة الحفاظ 1/224، سير أعلام النبلاء 8/136
(3) المغني 9/231
(4) مَعَرَّة ): العَرُّ والعُرُّ الجرب الذي يعُرُّ البدن أي يعترضه، ومنه قيل للمضرّة معرَّة تشبيهاً بالعُرّ الذي هو الجرب . اهـ المفردات في غريب القرآن ص:328
وفي لسان العرب مادة (عرر) 4/556-558:" والمعرة: الشدة، وقيل: الشدة في الحرب ... الإثم ... الجناية ... الغرم ... الأذى ... الأمر القبيح المكروه والأذى" اهـ
1)وفي مختار الصحاح (مادة عرر) 1/178:" المعرة: الإثم"اهـ
(5) الفتح: 25]
(6) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله 2/388(1/202)
قال مالك:"يقول الله تبارك وتعالى في كتابه لأهل مكة: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي إنما صرف النبي عن أهل مكة لما كان فيهم من المسلمين ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الذين كفروا أي هذا تأويله"(1).
وقال الليث:"ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق"(2).
ويناقش هذا الاستدلال بأن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف، لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم ; لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما يدل على إباحة ترك رميهم، وإباحة الإقدام على وجه التخيير . (3)
ويجاب عنه بأن في فحوى الآية ما يدل على الحظر، وهو قوله تعالى: { فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، ومما فسرت به المعرة الإثم .
قال ابن كثير:"أي إثم وغرامة بغير علم"(4).
وعلى هذا فلا دليل في الآية على التخيير بين الفعل والترك، بل حمل الآية على الترك أولى لحرمة دم المسلم . (5)
واعترض عليه بأنه قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة ههنا . فقيل: الدية، وقيل: الكفارة، وقيل: الغم، وقيل، الشدة، وقيل: العيب . أما تفسيرها بالإثم فباطل لأنه تعالى أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا، ولا مأثم علينا فيما لم نعلمه، كما قال الله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } (6)، فعلمنا أنه لم يرد المأثم .(7)
__________
(1) المدونة 1/513
(2) كشاف القناع 3/51
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/589
(4) تفسير ابن كثير 3/194
(5) أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله 2/389
(6) الأحزاب: 5 ]
(7) أحكام القرآن للجصاص 3/589-590…(1/203)
ولهذا رجح الطبري أن المراد بالمعرة: كفارة قتل الخطأ، لقوله تعالى: { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (1).(2)
وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بهذه الآية على تحريم قتل الترس من المسلمين لعدم دلالة الآية على الإثم، بل إنها من باب المباح على سبيل التخيير .(3)
قلت: وقد يجاب عن هذه الاعتراض من وجهين:
1- أما القول بأن هذا لو وقع كان بغير علم منا ولا إثم علينا فيه، فلا يقتضي نفي الإثم، بل الظاهر أن المراد بغير علم منا بأعيان الموطوئين، لا بوجودهم واحتمال قتلهم .
2- إن تفسير المعرة بالعيب والتعيير وإن كان وجيهاً، فإنه لا ينافي صحة القول بتحريم الفعل، وإذا كان الشارع قد راعى في الكف تعيير الكفار وذمهم، فإن مراعاة حرمة دماء المسلمين من باب أولى .
2)من المعقول: أن رمي الترس في هذه الحالة من باب الضرورة .
وبيان ذلك أن الأصل حرمة دم المسلم، فلا يحل قتله إلا للضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها، فإذا لم يكن هناك ضرورة لم يجز قتلهم، صيانة لدماء المسلمين .
أما إذا أفضى الامتناع إلى تضرر عموم المسلمين والمجاهدين بترك قتال الكفار فإنه يجوز رمي الترس حتى لو زهقت أرواح المسلمين دفعاً لأعلى المفسدتين، لأنه إذا تعارضت مفسدتان فالواجب دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أدناهما .
__________
(1) النساء: 92 ]
(2) تفسير الطبري 26/102
(3) قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:151، 152(1/204)
قال الغزالي:"أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع ; لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتاً إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر"(1).
القول الثالث: يحرم رميهم مطلقاً . وهو خلاف الأصح عند الشافعية(2).
ودليل هذا القول: أنه دم مسلم محرم معصوم، فلا يحل سفكه مطلقاً، ودم المسلم لا يباح بالخوف على غيره .(3)
ويناقش هذا الاستدلال بأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة للأمور الكلية . (4)
قال الغزالي:"وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم، يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج شهادة أصل"(5).
__________
(1) المستصفى ص:175-176
(2) مغني المحتاج 6/32، حاشيتا قليوبي وعميرة 4/220
(3) نهاية المحتاج 8/65
(4) مغني المحتاج 6/32
(5) المستصفى ص:177(1/205)
وقد أشار القرطبي إلى منشأ هذا القول بالمنع فقال:"ولا يأتي لعاقل أن يقول لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه تلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم"(1).
والراجح في مسألة التترس - والله أعلم - هو جواز رمي الترس عند الضرورة بشرطين:
1- أن يتحاشى المجاهد رمي الترس ما أمكنه، إلا إذا وقع الرمي بحكم الخطأ أو بحكم الاضطرار، لأن الضرورة تقدر بقدرها .(2)
2- عدم وجود القصد القلبي إلى ضرب أفراد الترس، وإن وجد القصد الحسي اضطراراً، لأنه لا ضرورة في قصد قتل مسلم بغير حق .(3)
"ضابط الضرورة التي تجيز رمي الترس من المسلمين:
إن مما تجدر معرفته تطبيقاً لهذا الحكم ؛ ضابط الضرورة التي هي مناط جواز رمي الترس .
وقد ذكر الغزالي للضرورة ثلاثة ضوابط، حيث قال:"تحصيل هذا المقصود [أي المصلحة المعلومة بالضرورة] بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف: أنها ضرورة، قطعية، كلية .
وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها ; لأنها ليست قطعية بل ظنية .
__________
(1) تفسير القرطبي 16/287-288
(2) البحر الرائق 5/82، مغني المحتاج 6/32، حاشية الجمل 5/195، الأحكام السلطانية للماوردي ص:51
(3) بدائع الصنائع 7/101، شرح السير الكبير 4/1447، تحفة المحتاج 9/242، كشاف القناع 3/51(1/206)
وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم ; لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين(1); ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها"(2).
"أمثلة على الضرورة:
من المعلوم أن تقدير الضرورة يختلف باختلاف الظروف والأحوال(3)، ومن الأمثلة على الضرورة ما يلي:-
1-أن يترتب على الكف عن رمي الترس هزيمة جيش المسلمين .(4)
__________
(1) قد يبدو إشكال في اعتبار وصف الكلية في تقدير الضرورة، وذلك أن ترك رمي الترس لا يؤدي إلى استئصال كافة المسلمين وإنما مؤداه هلاك الجيش أو طائفة منه .
ويجاب عنه بما ذكر العطار في حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/331، قال: لما كان حفظ الأمة بحفظ الجيش لأنه الدافع عنها والقائم بحفظها كما جرت به العادة كان استئصاله بمنزلة استئصال الجميع أو مظنة له فجعل في حكمه . لكن هذا ظاهر إذا كان استئصال بقية الجيش بحيث يخشى معه على الأمة، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك كما لو لم يحضر الوقعة إلا بعض جيش الإسلام، وكان من لم يحضر بحيث يحصل به الحفظ التام للأمة، وقد تستشكل هذه المسألة بمسألة غرق السفينة إذا كان من بها جيش المسلمين إلا أن يفرق بأن استئصال الجيش في الحرب مما لا يمكن دفع مفسدته لمسارعة الكفار حينئذ إلى استئصال بقية المسلمين بنحو القتل والأسر قبل التمكن من تهيئة من يقوم مقام الجيش، ولا كذلك مسألة الغرق ثم قد تشكل أيضا بما إذا كان الأسرى أكثر من المحاربين إلا أن يقال أنهم على كل حال تحت القهر، ولم يقوموا بالدفع عن المسلمين بخلاف المقاتلين فإنهم قاموا بالدفع عن المسلمين فقتلهم يؤدي لمفسدة أعظم . اهـ
(2) المستصفى /176
(3) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1331
(4) فتح القدير 5/447، حاشية الجمل 5/194(1/207)
2-حال الالتحام مع العدو حيث لا يمكن توقي الترس .(1)
3-أن يفضي الكف عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين(2)، أو كثرة النكاية بهم (3).
4-أن يؤدي الكف عنهم إلى قتل جمع من المسلمين(4)، أو أكثر المسلمين(5).
5-أن يستبيح العدو أرض المسلمين ويدخل ديارهم، وهو ما يعرف بجهاد الدفع .(6)
وبناءً على هذا الترجيح في مسألة التترس -وهو الجواز عند الضرورة-، وعوداً على أصل المسألة وهو حكم تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو يكون حكم هذه الصورة من الأعمال الفدائية الجواز عند الضرورة بضوابطها وشروطها المذكورة آنفاً، وإلا فيحرم .
وقد يناقش هذا الحكم بأن تخريج الأعمال الفدائية على مسألة التترس فيه نظر، لوجود الفارق بين الصورتين، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن المجاهد في مسألة التترس يقتل نفس غيره من المسلمين لإعزاز الدين والنكاية بالكفار، أما في هذه الصورة فإن المجاهد يقتل نفسه هو بطوعه واختياره .
الوجه الثاني: أن قتل المسلم غيره من المسلمين لمصلحة الدين لم ترد النصوص بجوازه بحال، وإنما أبيح فعله من باب ضرورة تغليب المصلحة العامة على الخاصة، أما بذل النفس في سبيل الله فهو مما حثت عليه النصوص، وأثنت على فاعله إذا كانت نيته خالصة لإعلاء كلمة الله .(7)
ويجاب عنه: بأن هذا الفارق في الواقع غير مؤثر من الوجهين .
أما الوجه الأول فيجاب عنه بأنه وإن وجد الاختيار في الصورة الثانية، فإن مؤدى كلتا الصورتين إزهاق نفس مسلمة لمصلحة الدين .(8)
ويؤيد هذا أن الإنسان لا يملك التصرف في نفسه، ولا الإذن في إتلافها إلا فيما شرع له .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/588، مغني المحتاج 6/32
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص:51
(3) أسنى المطالب 4/191
(4) شرح الخرشي 3/113
(5) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/177
(6) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:26
(7) المصدر السابق ص:25
(8) المصدر السابق ص:25(1/208)
قال ابن حجر في الفتح في معرض كلامه على حديث (بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة):"وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه، حيث حرم عليهم قتل نفوسهم، وأن الأنفس ملك لله"(1)
وإذا كان إذن الإنسان واختياره في إزهاق روحه غير معتبرين فإنه لا أثر لهما في الحكم، كما هو الحال في نفس غيره، وبهذا يبقى الأمر على الأصل وهو حرمة قتل نفسه أو نفس غيره إلا في حال المشروعية .
وأما الوجه الثاني فيجاب عنه بأن بذل النفس الوارد في الأدلة ليس مدار النزاع في هذه المسألة، وإنما النزاع هنا في مباشرة قتل النفس، وهو مما لم يرد فيه نص، وبهذا يستوي هو وقتل الغير من حيث عدم ورود النص بجوازه .
…الترجيح…
بالنظر في الأقوال الأربعة المتقدمة يتبين أنه ما من قول إلا ويرد على أدلته بعض الاعتراضات، إلا أن أقوى الأقوال من حيث الأدلة قولان:
أحدهما: القول الأول ( الجواز مطلقاً ) ، والآخر: القول الرابع (الجواز للضرورة ) .
وقد رجح القول الأول عدد من الباحثين المعاصرين الذين بحثوا في حكم هذه الأعمال، كالشيخ سلمان العودة(2)، والشيخ هاني بن جبير في كتابه (العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها)(3)، والشيخ نواف التكروري في كتابه (العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي)(4)، والشيخ أبي عمر السيف مفتي المجاهدين الشيشان في بحثه (هل انتحرت حواء أم استشهدت؟)(5).
__________
(1) فتح الباري 6/500
ترجم الإمام البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه بقوله: باب ما جاء في قاتل النفس . لكنه لم يورد في الباب حديثاً في قتل الغير بغير حق، بل ذكر أحاديث في حكم من قتل نفسه .
(2) الإرهاب والعمليات الاستشهادية: سلمان العودة . مجلة الدعوة في عددها الصادر في 12/2/1423هـ
(3) العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها ص:75
(4) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:115
(5) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ ص:37(1/209)
والقول الأخير (الجواز للضرورة) هو أقرب القولين عند الباحث .
وبناءً على القول المختار يكون حكم هذه الأعمال الجواز عند الضرورة فقط سواء في جهاد الطلب أو جهاد الدفع، كالخوف على الجيش، أو انهزام المسلمين، أو اعتداء العدو على دمائهم وأعراضهم وبلادهم (كما هو الحال في فلسطين والشيشان) فإنه يجوز الإقدام على هذه الأعمال بشروطها التي سنذكرها لاحقاً، وأما عند عدم الضرورة (كما يقع اليوم من أعمال في البلاد الأخرى غير المحتلة) فيحرم الإقدام على هذه الأعمال صيانة لدم المسلم .
ومما يقوي هذا الترجيح أن كثيراً ممن نسب إليهم القول بجواز هذه الصورة في هذا العصر جاء في فتاويهم ما يشير إلى اعتبارهم الضرورة مبرراً للقيام بهذه الأعمال إما تصريحاً (كما سبق ذكره في فتوى وهبة الزحيلي، والقرضاوي)، وإما بدلالة السؤال، والذي غالباً ما يكون عن الأعمال التي يقوم بها أهل فلسطين ضد اليهود الذين اغتصبوا أرضهم وسفكوا دماءهم ودنسوا مقدساتهم، وهي مما يندرج في حكم الضرورة لأنها من قبيل دفع العدو الداهم، والله أعلم .
شروط جواز تفجير المجاهد نفسه للنكاية بالعدو:
1)وجود الضرورة كالخوف على الجيش، أو انهزام المسلمين، أو اعتداء العدو على دمائهم وأعراضهم وبلادهم، ونحو ذلك .
2)إخلاص النية لله تعالى، بأن يكون قصد الفاعل إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه .(1)
3)أن يترتب على العمل نكاية بالعدو، ويكفي في هذا غلبة الظن، بحيث يغلب على الظن أن هذا العمل سيحدث نوعاً من النكاية المباشرة أو غير المباشرة في العدو .(2)
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:103
(2) ينظر في اشتراط النكاية وأنواعها ص: 151 من هذا البحث(1/210)
4)أن يغلب على ظن المجاهد أن القتل الذي سيحدثه في الأعداء أو الدمار لا يمكن تحقيقه بأية طريقة أخرى تضمن له سلامته أو غلبة الظن بالسلامة .(1)
فإن وجد المجاهد وسيلة أخرى لا تعرضه للقتل كأن يضع المتفجرات بعيداً عنه، أو يهرب من المكان، فإنه يحرم عليه قتل نفسه، نظراً لحصول المقصود وهو النكاية بالعدو دون مباشرة قتل النفس .
5)أن تكون هذه الأعمال موجهة ضد من يجوز قتله من الكفار كما سيأتي بيانه .
6)أن لا يترتب على هذه الأعمال مفسدة تربو على مصلحتها كأن تزيد ضراوة الكفار وتسلطهم على المسلمين، بأن يقتلوا منهم أعداداً كبيرة، أو يتعرضوا للأعراض والنفوس بمزيد من الأذى، ونحو ذلك .(2)
7)أن يكون بإذن الإمام العدل إن تيسر أو أمير الحرب على ما تقدم في اشتراط إذن الإمام وأحواله .
فإن لم يكن إمام أو كان في حال لا يشترط فيها إذنه فعليه أن يستشير أهل الرأي والمعرفة بالحرب في مكانه قبل الإقدام على هذه الأعمال، لتقدير مدى نجاحها، ومقدار النكاية التي تترتب عليها، أو المفاسد التي قد تحدث بسببها .(3)
8)إذن الوالدين، لكونه شرطاً في الجهاد، ما لم يكن الجهاد فرضاً متعيناً، كما في جهاد الدفع .(4)
من الذي يقدر الضرورة، والمصالح والمفاسد المترتبة على هذه الأعمال ؟:
__________
(1) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:37، العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:104
(2) فتوى د . عجيل النشمي . العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:96…
(3) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:37 ، وفتوى د . وهبة الزحيلي . العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:87
(4) الإرهاب والعمليات الاستشهادية: سلمان العودة . مجلة الدعوة في عددها الصادر في 12/2/1423هـ(1/211)
يقدر الضرورة ولي الأمر الذي له سلطة بدء الحرب وإيقافها، لأن أمر الجهاد موكول إليه، وهو يرى ما لا يرى آحاد الناس أو من هم بمنأى عن ميدان الحرب .(1)
وعلى ولي الأمر - ولا سيما إذا لم يكن مجتهداً - أن يرجع إلى علماء الشريعة، وأن يصدر عن فتاويهم المبنية على قواعد الشريعة في تحقيق المصالح العامة للأمة ودرء المفاسد عنها .
ولا بد لمن يتصدى للإفتاء في هذه المسائل أن يتوفر فيه أمران:
1 - الرسوخ في العلم الشرعي، والعناية بمقاصد الشريعة الإسلامية، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد .
2 - المعرفة الصحيحة بواقع هذه الأعمال، وملابساتها، ودوافعها، وأحوال المجتمعات التي تنفذ فيها، لأن هذه الأعمال من النوازل التي لابد فيها من تصور صحيح مبني على حقائق واضحة، لا ما تردده وسائل الإعلام من تلبيس للحق، وتشويه لهذه الأعمال ووصفها بالانتحار أو الإرهاب، كما هو مشاهد .
……وفي هذا يقول ابن تيمية:"والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا"(2).
……ويقول ابن القيم:"ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر".(3)
المبحث الرابع: دور المرأة في الأعمال الفدائية وحكم قيامها بها
وفيه مطلبان:
__________
(1) المغني 9/166، هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ص:26
(2) الفتاوى الكبرى 5/539
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/87-88(1/212)
المطلب الأول: دور المرأة في الأعمال الفدائية من خلال . الوقائع المعاصرة
المطلب الثاني: حكم قيام المرأة بالأعمال الفدائية وضوابطه
المطلب الأول: دور المرأة في الأعمال الفدائية من خلال الوقائع المعاصرة
شهد التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً صوراً من مشاركة المرأة في الجهاد، تمثلت في أنواع شتى من الأعمال المتعلقة به، سواء كانت هذه الأعمال في مباشرة القتال، أو في إعانة المقاتلين بمداواة الجرحى وسقي الجند ونحوها من الأعمال .
والمتتبع لظهور الأعمال الفدائية المعاصرة في بلاد الإسلام، يرى أن المرأة كان لها نوع مشاركة في هذه الأعمال بوجه عام، كما أشارت إلى ذلك أكثر من دراسة في تاريخ الجهاد الفلسطيني .(1)
ولا ينسى التاريخ الفلسطيني (شادية أبو غزالة) التي كانت تقود مجموعة عسكرية تابعة للجبهة الشعبية في نابلس، وقد استشهدت عام 1968م أثناء إعدادها عبوة ناسفة .
وفي نوفمبر 1984م، قامت (لمياء معروف) و(زهرة سعيد حسن) مع رجلين آخرين باختطاف وقتل جندي الاحتياط الإسرائيلي (دافيد مانوس) أثناء محاولته ركوب سيارة، وحكم على زهرة حسن بالسجن لمدة 12 سنة .
وفي عام 1987م، قادت (دلال المغربي) مجموعة مسلحة من مقاتلي حركة فتح إلى شواطئ (تل أبيب) مستخدمة زورقًا حربيًّا، لتنفذ عملية مسلحة أسفرت عن مقتل أكثر من 50 إسرائيليًّا.(2)
وأما بالنسبة إلى الأعمال الفدائية التي يفجر فيها المجاهد نفسه بالمتفجرات للنكاية بالعدو فإن تنفيذها كان في باديء الأمر مقصوراً على الرجال من المجاهدين والمقاومين للاحتلال، ولم يكن للنساء مشاركة في هذه الأعمال .
__________
(1) ينظر: كتاب (الفدائيات) لمنى غندور، وكتاب (كيف يستشهد الفدائيون؟) لعمر أبو النصر
(2) تنظر هذه الأعمال في: تقرير ياسر البنا: موقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) في 6/11/2003م(1/213)
ومع تطور الأعمال الفدائية شهدت السنوات الأخيرة قيام بعض النساء المسلمات (ولاسيما على أرض فلسطين والشيشان) بتفجير أنفسهن بهدف النكاية بالعدو المحتل .
ففي الشيشان كانت (حواء براييف) أول امرأة شيشانية تقوم بعمل فدائي، حيث انطلقت من قريتها وقادت سيارة محملة بالمتفجرات بسرعة قوية، حتى دخلت بها إلى داخل مبنى القوات الروسية الخاصة، وقام الجنود الروس بإطلاق وابل من الرصاص عليها فاستمرت في قيادة السيارة حتى توسطت المبنى ثم انفجرت السيارة انفجاراً شديداً سقطت على أثره أركان المبنى، وقُتل في هذا الانفجار أكثر من 27 جندياً روسياً، بينهم ضباط ذوو رتب عالية في القوات الروسية .(1)
وقد توالت الأعمال الفدائية بعد هذه الحادثة، حتى احتلت المرأة الشيشانية مكانة الصدارة في أعمال المقاومة عبر مسلسل متوال من هذه الأعمال .
__________
(1) هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ ص:2 ، و موقع (صوت القوقاز www.qoqaz.com)(1/214)
وقد جاء في دراسة د.عاطف معتمد عبد الحميد (خبير في الشؤون الروسية) لأعمال المقاومة الشيشانية خلال الفترة من يناير 2002م إلى يوليو 2003م : أن الأعمال الفدائية التي قامت بها النساء بلغت 17% من أعمال هذه الفترة . وذكرت الدراسة أن ما تعرضت له النساء الشيشانيات من قتل الأزواج والأبناء والآباء (قتلت القوات الروسية 1800 رجل على مدى ستة أشهر فقط) ناهيك عن جرائم الاغتصاب والتشريد؛ كان من أهم الدوافع الرئيسة وراء قيام عناصر نسائية بتلك الأعمال شديدة الدقة والجرأة . فالتقاليد القوقازية الصارمة المدفوعة بمبادئ الشهادة الإسلامية وجهاد من قَتَلوا الأب والزوج تقف بقوة وراء تطوع الشيشانيات للعمل الاستشهادي اعتمادًا على اليسر النسبي في حركتهن داخل التجمعات الروسية، في وقت يتعرض فيه القوقازيون لتوقيف مستمر في المدن الروسية وملاحقة متتابعة لسهولة التعرف على ملامحهم وسط العرق الروسي السائد .(1)
وأما في فلسطين، فقد كانت أول محاولة لتنفيذ هذه الأعمال في يوليو 1987م حيث حاولت الفلسطينية (عطاف عليان) تفجير نفسها في عمل استشهادي، وكان ذلك بسيارة ملغومة في القدس، إلا أن العملية لم تنجح، فاعتقلت على إثرها وصدرت ضدها أحكام مجموعها 15 عامًا في السجن الإسرائيلي .(2)
__________
(1) المقاومة الشيشانية روعة النجاح أم رقصة الطائر الذبيح؟: موقع (إسلام أون لاين www.islamonline.net) في 12/8/2003م
(2) تقرير ياسر البنا: موقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) في 6/11/2003م(1/215)
وفي عام 2002م، سجلت الانتفاضة الثانية أول تسارع لهذه الأعمال، حيث كانت الفتاة الفلسطينية (وفاء علي إدريس) أول امرأة تنفذ عملاً فدائياً في فلسطين، عندما قامت بتفجير نفسها في شارع (يافا) التجاري المكتظ بالمارة يوم الأحد 27/1/2002م، مما أدى إلى مقتلها ومقتل إسرائيليين وإصابة ما يزيد على 140 آخرين، جروح خمسة منهم بالغة الخطورة .(1)
وبعد هذه الحادثة، توالت الأعمال الفدائية التي شاركت فيها المرأة .
وبتتبع هذه الأعمال منذ ظهورها في أوائل عام 2002م إلى أوائل عام 2004م، بلغت هذه الأعمال سبعة أعمال خلال عامين هي كما يلي:(2)
1- في 27/1/2002م قامت (وفاء إدريس) بأول عمل فدائي في مدينة القدس فقتلت إسرائيليين وجرحت مائة وأربعين آخرين .
2- وفي 27/2/2002م نفذت (دارين أبو عيشة) عملاً فدائياً في حاجز عسكري إسرائيلي شمالي الضفة الغربية، مما أدى إلى إصابة 3 جنود إسرائيليين .
3- وفي 29/3/2002م قامت (آيات الأخرس) من مدينة (بيت لحم) بعمل فدائي في أحد أسواق القدس الغربية، مما أدى إلى مقتل إسرائيليَين وإصابة العشرات .
4- وفي 12/4/2002م قامت (عندليب طقاطقة) من مدينة (بيت لحم) أيضًا بعمل فدائي، وأسفر عن مقتل ستة إسرائيليين، وإصابة 85 وذلك في مدينة القدس .
__________
(1) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 28/1/2002 م، صحيفة البيان الإماراتية في عددها الصادر يوم الاثنين 14/11/1422هـ
(2) ينظر في هذه الأعمال: شبهات حول العمليات الاستشهادية /49 وما بعدها، تقرير المجموعة الفلسطينية لمراقبة حقوق الإنسان (الرقيب)" انتفاضة الأقصى سنة ثانية" / السنة السادسة - العدد الواحد والثلاثون - اكتوبر 2002م، تقرير ياسر البنا: موقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) في 6/11/2003م وفي 22/1/2004م(1/216)
5- وفي 19/5/2003م قامت (هبة عازم دراغمة) الطالبة بجامعة القدس المفتوحة بتفجير جسدها في مدينة (العفولة) شمالي فلسطين المحتلة، وأسفر ذلك عن مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة العشرات .
6- وفي 4/10/2003م قامت (هنادي تيسير جرادات) بتنفيذ عمل فدائي كبير، أسفر عن مقتل حوالي 20 إسرائيليّاً وجرح أكثر من مائة حينما فجرت نفسها في مطعم (مكسيم) بحيفا.
7- وفي 14/1/2004م نفذت (ريم الرياشي) العضوة في كتائب القسام عملاً فدائياً بالاشتراك مع كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح في معبر (بيت حانون) شمالي قطاع غزة حينما قامت بتفجير حزام ناسف كانت ترتديه في مجموعة من خبراء المتفجرات الإسرائيليين نجحت في خداعهم، وأسفر العمل عن مقتل 4 جنود إسرائيليين وإصابة 10 آخرين .
هذا، وبظهور هذه الأحداث برز العديد من التساؤلات حول مشروعية قيام المرأة بالأعمال الفدائية، وهل للمحرم والحجاب اعتبار عند تنفيذها هذه الأعمال، وهذا ما سأتعرض إليه بإذن الله تعالى في المطلب الثاني من هذا المبحث .
…المطلب الثاني: حكم قيام المرأة بالأعمال الفدائية…
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: حكم الجهاد بالنسبة للمرأة
المسألة الثانية: النظر في اعتبار المحرم للمرأة المجاهدة
المسألة الثالثة: النظر في اعتبار الحجاب للمرأة المجاهدة
المسألة الرابعة: الضوابط الشرعية لقيام المرأة بهذه الأعمال
المسألة الأولى: حكم الجهاد بالنسبة للمرأة
يختلف حكم خروج المرأة للجهاد تبعاً لنوع الجهاد، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً ) حكم خروج المرأة لجهاد الطلب:(1/217)
تقدم في التمهيد أن جهاد الطلب فرض كفاية على الأمة كما دلت عليه الأدلة الشرعية الكثيرة، ومنها قوله سبحانه وتعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِن اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) } (1)، وقوله سبحانه وتعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (2).
ومن شروط جهاد الطلب الذكورة، فلا يجب جهاد الطلب على المرأة بإجماع المسلمين .(3)
وقد تقدم ذكر الأدلة على عدم وجوب الجهاد على المرأة ضمن الكلام على شروط جهاد الطلب .(4)
ولكن، يبدو ههنا سؤال هام، وهو: إذا كانت الذكورة شرطاً من شروط جهاد الطلب، فكيف كانت النساء يخرجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته، وربما يشاركن الرجال في القتال ؟
ويجاب عن هذا السؤال بأن المرأة وإن كان الجهاد ليس بواجب عليها في الأصل، فإنه يجوز لها الخروج والمشاركة في الجهاد في الجملة عند عامة الفقهاء(5)، وعليه الإجماع كما حكاه النووي(6)، على خلاف بينهم في شروط خروجها، ونوع الأعمال التي يمكن أن تشارك فيها .
من أدلة جواز خروج المرأة ومشاركتها في جهاد الطلب:
ثبت في السنة الصحيحة جواز خروج المرأة ومشاركتها في الجهاد، وقد جاء في هذا المعنى عدة أحاديث، منها:
__________
(1) الانفال: 39]
(2) التوبة: 122]…
(3) مراتب الإجماع 1/119، رد المحتار 4/125، بدائع الصنائع 7/98، شرح الخرشي 3/108، التاج والإكليل 4/538، مغني المحتاج 6/18، أسنى المطالب 4/176، المغني 9/163، الإنصاف 4/115
(4) ينظر ص: 55 من هذا البحث
(5) المبسوط 10/17، المدونة 1/498،499، الأم 4/174، المغني 9/174-175
(6) شرح صحيح مسلم للنووي 12/188(1/218)
1)ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه . قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما نزل الحجاب ... الحديث .(1)
وجه الاستدلال: قال ابن حجر:"وفيه مشروعية القرعة حتى بين النساء وفي المسافرة بهن والسفر بالنساء حتى في الغزو"(2)
2)وروى مسلم حديث سؤال نجدة الحروري ابنَ عباس رضي الله عنهما عن غزو النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء، فكتب إليه ابن عباس:"كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء . وقد كان يغزو بهن فيداوِين الجرحى ويُحْذَين(3)من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن"(4).
وجه الاستدلال: الحديث نص في حضور النساء الغزو، ومداواتهن الجرحى، وأن الإمام لا يسهم لهن كالرجال، وإنما يعطيهن من الغنيمة .(5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4141)، ومسلم في كتاب التوبة برقم (2770)
(2) فتح الباري 8/479
(3) يُحْذَين : يُعْطَين . لسان العرب مادة (حذا) 14/171
(4) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1812)
(5) شرح صحيح مسلم للنووي 12/190(1/219)
عن أم حَرَام بنت ملحان(1)رضي الله عنها قالت:"نام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ . قال: أناس من أمتي عُرِضوا عليَّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأَسِرَّة . قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها . ثم نام الثانية ففعل مثلها فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين . فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت(2) غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشأم فقُرِّبَتْ إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت"(3).
وجه الاستدلال: في الحديث دلالة على جواز غزو المرأة وركوبها البحر، ووجه ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لأم حرام لما سألته أن تكون من أولئك الغزاة، ولو لم يجز خروجها للغزو لما أقرها على سؤالها ودعا لها .(4)
__________
(1) أم حرام (صحابية): أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية النجارية المدنية، أخت أم سليم وخالة أنس بن مالك وزوجة عبادة بن الصامت، كانت من علية النساء، تزوجها عبادة بن الصامت فغزا بها في البحر سنة 27هـ، فلما رجعوا قُرِّبت لها بغلة لتركبها فصرعتها ودقت عنقها فماتت . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1931، سير أعلام النبلاء 2/316، الإصابة في تمييز الصحابة 8/189
(2) عبادة بن الصامت (صحابي): أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري الخزرجي، كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، شهد المشاهد كلها بعد بدر، وشهد فتح مصر، ت:34هـ
3)ينظر: الطبقات الكبرى 3/546، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/807، الإصابة في تمييز الصحابة 3/624
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2800) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1912)
(4) عمدة القاري 14/87(1/220)
وههنا إشكال: وهو أنه قد جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع بعض النسوة من الخروج للجهاد، فعن أم كبشة(1)رضي الله عنها قالت:"يا رسول الله، ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا . قال: لا . قلت: يا رسول الله إنه ليس أريد أن أقاتل إنما أريد أن أداوي الجرحى والمرضى أو أسقي المرضى، قال: لولا أن تكون سُنَّة، وأن يقال فلانة خرجت لأذنت لك ولكن اجلسي"(2).
وأخرجه ابن سعد(3) في الطبقات الكبرى عن ابن أبي شيبة وفي آخره:"اجلسي لا يتحدث الناس أن محمداً يغزو بامرأة"(4).
وللعلماء في الإجابة عن التعارض بين هذا الحديث وبين أدلة جواز خروج المرأة للجهاد مسلكان:
المسلك الأول ) مسلك النسخ: فيكون هذا الحديث ناسخاً لأحاديث الجواز، لأن أحاديث الجواز وقعت قبله في أحد وخيبر، أما هذا الحديث فكان بعد الفتح .
وقد سلك هذا المسلك ابن حجر، كما في ترجمة أم كبشة في الإصابة .(5)
__________
(1) أم كبشة (صحابية): أم كبشة القُضَاعية، امرأة من قُضَاعة أسلمت وروت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً، وحديثها عند الكوفيين، وقد ذكرها ابن أبي عاصم في الوحدان، وأخرج حديثها أبو بكر بن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم . ينظر: الطبقات الكبرى 8/308، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1951، الإصابة في تمييز الصحابة 8/283
(2) رواه الطبراني في الكبير 25/176 والأوسط 4/363، وابن أبي شيبة في المصنف 6/538، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/324:"ورجاله رجال الصحيح" اهـ .
(3) ابن سعد: أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البغدادي، الحافظ العلامة الحجة كاتب الواقدي، أحد أوعية العلم، ومصنف الطبقات الكبرى والطبقات الصغرى، ت:230هـ . ينظر: تهذيب الكمال 25/255، سير أعلام النبلاء 10/664، طبقات الحفاظ 1/186
(4) الطبقات الكبرى 8/308
(5) الإصابة في أسماء الصحابة 8/283(1/221)
والقول بالنسخ الذي ذهب إليه ابن حجر فيه نظر من وجوه:(1)
1- دعوى أن المرأة لم تخرج بعد فتح مكة غير صحيحة، فقد ثبت خروج النساء يوم حنين كما في حديث أم سليم(2)وهو في صحيح مسلم .(3)
2- أن الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين وغيرهما قد تظاهرت على جواز خروج المرأة في الجهاد، فلا تسقط حجيتها بهذه الحادثة المحتملة .
3- جواب ابن عباس الآنف على سؤال نجدة الحروري بجهاد النساء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
4- أنه لا يقال بالنسخ مع إمكان الجمع بين الأدلة .
المسلك الثاني ) مسلك الجمع: فيحمل استئذان أم كبشة على أنه كان في غزوة لها ظروفها الخاصة التي تمنع خروج النساء فيها . وقد ثبت خروج المرأة يوم حنين في السنة الثامنة، فيحتمل أن يكون استئذان أم كبشة في تبوك التي تميزت بشدة الحر وقلة الزاد وكثرة العدو وقوته، ولهذا لم يثبت أن امرأة خرجت مع المسلمين في تلك الغزوة .(4)
وممن أشار إلى مسلك الجمع البغوي في شرح السنة، حيث قال:"فإن خاف عليهن لكثرة العدو وقوتهم، أو خاف فتنتهن لجمالهن، وحداثة أسنانهن، فلا يخرج بهن . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسوة خرجن معه فأمر بردهن، فيشبه أن يكون رده إياهن لأحد هذين المعنيين"(5).
__________
(1) هجرة المرأة وجهادها في السنة ص:243
(2) أم سُلَيم (صحابية): الغُمَيصاء، ويقال الرُّمَيصاء بنت مِلْحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية الخزرجية، وهي أم أنس بن مالك خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات زوجها مالك بن النضر فتزوجها أبو طلحة الأنصاري فولدت له أبا عمير وعبد الله، شهدت حنيناً وأحداً، وكانت من أفاضل النساء . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1940، سير أعلام النبلاء 2/304، الإصابة في تمييز الصحابة 8/227
(3) ينظر الحديث بتمامه ص: 239 من هذا البحث
(4) هجرة المرأة وجهادها في السنة ص:243-244…
(5) شرح السنة 11/13-14(1/222)
قلت: الراجح من المسلكين القول بالجمع، ويؤيده:
1- إخباره - صلى الله عليه وسلم - أمَّ حَرَام رضي الله عنها بأن طائفة من أمته تركب البحر، ثم دعاؤه لها بأن تكون منهم، ثم إخباره أنها منهم، وهذا يدل على أن جواز خروج المرأة للغزو باقٍ بعد وفاته غير منسوخ، إذ لا نسخ في الأخبار، ولهذا وقع تصديق هذا الخبر في زمن عثمان - رضي الله عنه - بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - .
2- أن خروج المرأة للغزو قد استمر بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، كما خرجت أم عمارة(1) إلى اليمامة، وخرج النساء إلى اليرموك وغيرها، وكان كل ذلك بإقرار الصحابة - رضي الله عنهم -، إذ لم يرد أن أحداً منهم منع المرأة من الخروج .(2)
وإذا تقرر جواز مشاركة المرأة في الجهاد، فههنا سؤال لا بد من الإجابة عنه وهو:
ما هي طبيعة الأعمال التي تشارك فيها المرأة ؟
بالنظر إلى الأدلة الواردة في هذه المسألة، والهدي النبوي الذي سار عليه الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - يظهر أن المرأة لم تكن تخرج إلى الغزو لمباشرة القتال ومواجهة الرجال ابتداءً، بل إن دورها يتمثل في أعمال خاصة تتناسب مع طبيعتها وضعفها الذي جبلت عليه، كإطعام الجند وسقايتهم، ومداواة الجرحى، ونقل الشهداء أو القتلى .
وتعرف هذه الأعمال المساندة في عصرنا بأعمال التموين، والإمداد، والخدمات، والإسعاف ونحو ذلك .
__________
(1) أم عمارة (صحابية): نَسِيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف، الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية، شهدت ليلة العقبة وأحداً والحديبية ويوم حنين، ثم شهدت قتال مسيلمة باليمامة وجاهدت وفعلت الأفاعيل وجرحت يومئذ اثنتي عشرة جراحة وقطعت يدها وقتل ولدها حبيب، وروت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1948، سير أعلام النبلاء 2/278، الإصابة في تمييز الصحابة 8/140
(2) هجرة المرأة وجهادها في السنة ص:244-245…(1/223)
ومن الأدلة التي جاءت في بيان هذه الأعمال ما يلي:
عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ(1) قالت:"كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسقي القوم ونخدُمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة"(2).
عن أم عطية الأنصارية(3) رضي الله عنها قالت: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أَخْلُفُهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى"(4).
3)عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأم سُلَيم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى"(5).
قال النووي:"فيه خروج النساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة"(6).
__________
(1) الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ (صحابية): الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية من بني النجار، وقد زارها النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيحة عرسها صلة لرحمها، عُمِّرت دهراً وروت أحاديث، توفيت في خلافة عبد الملك سنة بضع وسبعين .
1)ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1837، سير أعلام النبلاء 3/198، الإصابة في تمييز الصحابة 7/641
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2883)
(3) أم عطية الأنصارية (صحابية): نُسَيبة - بضم النون وفتح السين، وقيل بفتح النون وكسر السين- بنت الحارث، وقيل نسيبة بنت كعب، فقيهة من كبار نساء الصحابة، لها عدة أحاديث، وتُعدّ في أهل البصرة، وكانت تغزو كثيراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمرض المرضى وتداوي الجرحى، وهي التي غسلت بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب، عاشت إلى حدود سنة سبعين
2)ينظر: تهذيب الكمال 35/315، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1947، سير أعلام النبلاء2/318، الإصابة في تمييز الصحابة 8/261
(4) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1812)
(5) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1810)
(6) شرح صحيح مسلم للنووي 12/188(1/224)
وقد بوب البخاري في صحيحه: (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال) وساق تحته حديث أنس - رضي الله عنه - قال:"لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُلَيم وإنهما لمشمِّرتان، أرى خَدَم سوقهما(1) تَنْقُزان(2)القِرَب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم"(3).
قال ابن حجر معلقاً على الترجمة والحديث:"ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن وهو الغالب انتهى ."(4).
وبهذا يتبين أنه لا يشرع للنساء مباشرة القتال حال جهاد الطلب إلا عند الضرورة أو الدفاع عن أنفسهن، كما جاء ذلك في بعض أحداث السيرة النبوية .
وهذا ما أكده السرخسي شرح السير الكبير حيث قال:"لا يعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب ; لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال، كما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ما كانت هذه تُقاتِل .(5)
وربما يكون في قتالها كشف عورة المسلمين، فيفرح به المشركون، وربما يكون ذلك سبباً لجرأة المشركين على المسلمين، ويستدلون به على ضعف المسلمين فيقولون: احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء على قتالنا، فليتحرز عن هذا"(6).
ضوابط خروج المرأة للجهاد:
__________
(1) خَدَم سوقهما : المراد بها الخلاخيل التي تلبسها المرأة في ساقها . فتح الباري 6/78
(2) تَنْقُزَان : تسرعان المشي كالهرولة ، وقيل: تثبان والنقز الوثب والقفز كناية عن سرعة السير . فتح الباري 6/78
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2880)
(4) فتح الباري 6/78
(5) تقدم تخريجه ص: 282 من هذا البحث
(6) شرح السير الكبير 1/184………(1/225)
إذا كان خروج المرأة لجهاد الطلب مشروعاً في الجملة، فقد ذكر أهل العلم لهذا الخروج عدة ضوابط لا بد من مراعاتها، وهي:
الشرط الأول) ألا تكون شابة:
فتخرج العجائز وكبيرات السن المستطيعات دون الشواب اللواتي تعظم بهن الفتنة، ويسرع إليهن في الغالب الخوف والهلع .
قال في شرح السير الكبير:"ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة فتداوي الجرحى، وتسقي الماء، وتطبخ للغزاة إذا احتاجوا إلى ذلك ... فالشواب يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة، والحاجة ترتفع بخروج العجائز"(1).
وقال ابن رشد:"تحقيق القول في هذه المسألة عندي أن النساء على أربعة أقسام: عجوز انقطعت حالة الرجال منها فهذه كالرجل، فتخرج للمسجد للفرض ولمجالس الذكر والعلم، وتخرج للصحراء للعيدين والاستسقاء ولجنازة أهلها وأقاربها ولقضاء حوائجها . ومتجالَّة لم تنقطع حالة الرجال منها بالجملة، فهذه تخرج للمسجد للفرائض ومجالس العلم والذكر ولا تكثر التردد في قضاء حوائجها، أي يكره لها ذلك كما قاله في الرواية . وشابة غير فارهة في الشباب والنجابة تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعة وفي جنائز أهلها وأقاربها ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس ذكر أو علم . وشابة فارهة في الشباب والنجابة فهذه الاختيار لها أن لا تخرج أصلاً"(2).
واعتبر الشافعية في منع خروج المرأة للطاعات كونها مشتهاة، قالوا:"ويكره لها حضور جماعة المسجد إن كانت مشتهاة ولو في ثياب مهنة، أو غير مشتهاة وبها شيء من الزينة أو الريح الطيب، وللإمام أو نائبه منعهن حينئذ"(3).
__________
(1) المصدر السابق 1/185
(2) منح الجليل 1/374
(3) نهاية المحتاج 2/140(1/226)
وفي المغني:"لا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا الطاعنة في السن، لسقي الماء، ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وجملته أنه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو ; لأنهن لسن من أهل القتال، وقلما ينتفع بهن فيه، لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن"(1).
وقد يرد إشكال على ضابط إخراج كبيرات السن دون الشواب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج معه بعض نسائه الشواب كعائشة وغيرها .
وقد ذكر ابن قدامة هذا الإشكال ورد عليه . قال:"فإن قيل: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج معه من تقع عليها القرعة من نسائه، وخرج بعائشة مرات . قيل: تلك امرأة واحدة، يأخذها لحاجته إليها، ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته، ولا يرخص لسائر الرعية ; لئلا يفضي إلى ما ذكرنا"(2).
قلت: وهذا الذي فهمه ابن قدامة يؤيده ظاهر السنة، ووجه ذلك أن النساء اللواتي ثبت خروجهن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه لم يكنّ من الشواب، بل كن من كبيرات السن كأم سُلَيْم ونسيبة بنت كعب وأم عطية والرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ، ونحوهن .(3)
الشرط الثاني) أن يؤمن عليها بخروجها مع جيش عظيم:
__________
(1) المغني 9/174-175
(2) المصدر السابق 9/175
(3) تنظر ترجمة هؤلاء الصحابيات فيما يلي:
أم سليم: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1940، سير أعلام النبلاء 2/304، الإصابة في تمييز الصحابة 8/227
أم عمارة نسيبة بنت كعب: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1948، سير أعلام النبلاء 2/278، الإصابة في تمييز الصحابة 8/140
أم عطية: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1947، سير أعلام النبلاء2/318، الإصابة في تمييز الصحابة 8/261
الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1837، سير أعلام النبلاء 3/198، الإصابة في تمييز الصحابة 7/641(1/227)
وذلك أن النساء عورات المسلمين، ومظنة الفتنة، وهن بحاجة إلى من يقوم عليهن، ويدرأ عنهن تربص الذين في قلوبهم مرض من الأعداء أو الدخلاء، وخروجهن مع الجيش القليل أو شدة الخوف يفضي إلى تعريضهن للفتنة، وتسلط الأعداء عليهن، وانتهاك حرمتهن .
جاء في بدائع الصنائع:"وكذلك حكم إخراج النساء مع أنفسهم إلى دار الحرب على هذا التفصيل، إن كان ذلك في جيش عظيم مأمون عليه، غير مكروه ; لأنهم يحتاجون إلى الطبخ والغسل، ونحو ذلك وإن كانت سرية لا يؤمن عليها يكره إخراجهن لما قلنا"(1).
وفي المدونة:"قال ابن القاسم(2) : وإن غزا المسلمون في عسكر لا يخاف عليهم لقلتهم ، لم أر بأسا أن يخرج بالنساء في ذلك"(3).
الشرط الثالث) أن يأذن الزوج في خروجها إلى الجهاد:
اتفق الفقهاء على عدم جواز خروج المرأة للطاعات المستحبة دون إذن زوجها .
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك . فقال:"وأجمعوا على أن للرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع"(4).
ويدخل ضمن هذا الحكم جهاد الطلب بالنسبة للمرأة، لأنه ليس بواجب عليها كما تقدم بيانه .
قال في بدائع الصنائع:"ولا يباح للعبد أن يخرج إلا بإذن مولاه، ولا المرأة إلا بإذن زوجها ; لأن خدمة المولى، والقيام بحقوق الزوجية . كل ذلك فرض عين فكان مقدماً على فرض الكفاية"(5).
وجاء في منح الجليل: وللولي منع سفيه ... وكزوج له منع زوجته في تطوع من حج أو عمرة لا في فرض .(6)
__________
(1) بدائع الصنائع 7/102
(2) ابن القاسم: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العُتَقي مولاهم المصري، صاحب الإمام مالك، فقيه الديار المصرية، لازم مالك بن أنس، وكان خيراً فاضلاً ممن تفقه على مذهب مالك وفرع على أصوله وذب عنها ونصر من انتحلها، ت:191هـ . ينظر: تهذيب الكمال 17/344، سير أعلام النبلاء 9/120، طبقات الحفاظ 1/356
(3) المدونة 1/499
(4) الإجماع لابن المنذر 1/48
(5) بدائع الصنائع 7/98
(6) منح الجليل 2/402(1/228)
وفي المهذب:"وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها"(1).
وفي نهاية المحتاج:"ويحرم [أي الخروج للطاعات] عليهن بغير إذن ولي أو حليل أو سيد"(2).
وفي المغني:"وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد"(3).
تنبيه: المرأة غير المتزوجة تستأذن والديها في الخروج للجهاد، نظراً لتأكد حقهما، وقياساً على استئذان الولد والديه في الخروج، بل هو أوجب، لأنه إذا وجب الاستئذان على الولد البالغ والجهاد عليه فرض كفاية، فوجوب الاستئذان في حق المرأة غير المزوجة من باب أولى، لأن الجهاد غير واجب عليها في الأصل .(4)
ويؤيد هذا ما سبق ذكره آنفاً في نهاية المحتاج .
الشرط الرابع) أن تخرج مع زوج أو محرم:
لأن جهاد الطلب من السفر، والمرأة منهية عن السفر بدون أحدهما، كما سيأتي تفصيل ذلك في المسألة الثانية من هذا المطلب .
الشرط الخامس) أن تلتزم الحجاب حال خروجها إلى الجهاد:
وهذا الحكم وإن كان عاماً في جميع أحوال المرأة، فإنه يجدر التنبيه عليه لأهميته، ولما قد يعرض له من استثناءات، كما سيأتي بيانه في المسألة الثالثة من هذا المطلب .
ثانياً ) حكم خروج المرأة لجهاد الدفع:…
حينما يدهم العدو بلاد المسلمين يكون الجهاد فرض عين على المسلمين، ويتعين على كل قادر منهم أن يدفع العدو حسب القدرة والاستطاعة، كما تقدم بيانه في حكم جهاد الدفع .
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن المرأة إذا استطاعت الدفع تعين عليها الدفع، وجاز لها الخروج ولو لم يأذن زوجها .(5)
__________
(1) المهذب 2/66
(2) نهاية المحتاج 2/140
(3) المغني 7/224
(4) هجرة المرأة وجهادها في السنة ص:249
(5) بدائع الصنائع 7/98، الفتاوى الهندية 2/189، حاشية الدسوقي 2/174-175، مغني المحتاج 6/22-23، الفروع 6/190-191، الإنصاف 4/117(1/229)
قال في بدائع الصنائع:"فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد، فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه ... فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها"(1).
وفي حاشية الدسوقي:"(وتعين) الجهاد (بفجء العدو) على قوم (وإن) توجه الدفع (على امرأة) ورقيق، (و) تعين (على من بقربهم إن عجزوا) عن كف العدو بأنفسهم، (و) تعين أيضا (بتعيين الإمام) شخصاً، ولو امرأة وعبدا"(2).
وفي مغني المحتاج:"الحال (الثاني) من حالي الكفار، وهو ما تضمنه قوله (يدخلون بلدة لنا) أو ينزلون على جزائر أو جبل في دار الإسلام ولو بعيداً عن البلد ( فيلزم أهلها الدفع بالممكن ) منهم ... (فإن أمكن) أهلها (تأهب) أي استعداد (لقتال وجب) على كل منهم (الممكن) أي الدفع للكفار بحسب القدرة (حتى على فقير) بما يقدر عليه (وولد ومدين) وهو من عليه دين (وعبد بلا إذن) ... والنساء كالعبيد إن كان فيهن دفاع، وإلا فلا يحضرن"(3).
أما الحنابلة، فقد نقل في الإنصاف الخلاف في العبد وقياس المرأة عليه فقال:"لا يتعين على العبد إذا حضر الصف، أو حضر العدوُّ بلدَه . وهو أحد الوجهين ... والوجه الثاني: يتعين عليه والحالة هذه، وهو الصحيح من المذهب . قدمه في الفروع . قال الناظم: وإن قياس المذهب: إيجابُه على النساء في حضور الصف دَفْعَاً واحداً"(4).
وبهذا يتبين أن عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة يرون تعين جهاد الدفع على المرأة، بشرط وجود القدرة على دفع العدو .
ومن الأدلة على ذلك:
__________
(1) بدائع الصنائع 7/98
(2) حاشية الدسوقي 2/174-175
(3) مغني المحتاج ص:22-23
(4) الإنصاف 4/117(1/230)
1)قول الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (1).
ثم قال تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } (2).
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب النفير مطلقاً في حالة الاستنفار العام, فاقتضى ظاهر الآيات وجوب الجهاد على كل مستطيع له .(3)
2)عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا"(4).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن الإمام إذا استنفر الأمام، وذلك في حالة النفير العام، فإن الجهاد يكون فرض عين على الجميع ولا يجوز لقادر التخلف عنه .(5)
3)المعقول: وبيانه : أن دخول العدو دار الإسلام خطب عظيم لا سبيل إلى إهماله , فيجب الجد في دفعه على كل من يستطيع الدفع بحسب القدرة . (6)
استعراض بعض الحوادث في جهاد النساء للدفع من السيرة النبوية:
جاء في السيرة النبوية عدة حوادث شاركت فيها المرأة في جهاد الدفع، ولعلنا فيما يلي نسلط الضوء على أبرزها، لكي نقف على طبيعة جهاد المرأة في مثل هذه الأحوال:
__________
(1) التوبة: 38-39]
(2) التوبة: 41]
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/164
(4) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2631)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (1353)
(5) المغني 9/163
(6) مغني المحتاج 6/22(1/231)
1)عن أم سعد بنت سعد بن الربيع(1) قالت:"دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك . فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين . فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليَّ . قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قَمِئَة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان"(2).
__________
(1) أم سعد بنت سعد بن الربيع: صحابية صغيرة أوصى بها أبوها إلى أبي بكر الصديق فكانت في حجره، ويقال إن اسمها جميلة، وتزوجها زيد بن ثابت فولدت له خارجة وسعداً وعثمان وسليمان وأم زيد . ينظر: الطبقات الكبرى 8/477، تقريب التهذيب1/756، الإصابة في تمييز الصحابة 8/217
(2) السيرة النبوية لابن هشام 3/45، وينظر: البداية والنهاية 4/34، والطبقات الكبرى 8/413(1/232)
عن صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها قالت:" أنا أول امرأة قتلت رجلاً . كنت في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان معنا في النساء والصبيان حين خندق النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمر بنا رجل من يهود فجعل يُطِيف بالحصن، فقلت لحسان: إن هذا اليهودي بالحصن كما ترى ولا آمنه أن يدل على عوراتنا، وقد شغل عنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقم إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت(1)وأخذت عموداً من الحصن ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه فإنه لم يمنعني أن أسلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسَلَبه من حاجة .(2)
__________
(1) احتجزت): أي شددت ثيابي على وسطي . لسان العرب 5/332
(2) رواه الحاكم في المستدرك 4/56 قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب-الحافظ الأصم النيسابوري- ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه عن صفية . ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
…قلت: الحديث فيه راويان مختلف فيهما، وهما:
…1- يونس بن بكير بن واصل: ضعفه النسائي، وقال أبو داود: ليس هو عندي حجة .
…لكن وثقه ابن معين وابن نمير، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم -على تشدده-: محله الصدق، وقال ابن أبي حاتم: سُئِل أبو زرعة: أي شيء ينكر عليه؟ قال: أما في الحديث فلا أعلمه . وينظر في ترجمته: الجرح والتعديل 9/236، الكامل في الضعفاء 7/176، تهذيب الكمال 32/493
…وقد قال فيه ابن حجر في التقريب1/613 :"صدوق يخطيء". وتعقبه صاحبا تحرير التقريب 4/138 بقولهما: "بل صدوق حسن الحديث" . وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 7/313: "وهو حسن الحديث" .
…2- أحمد بن عبدالجبار العطاردي: قال ابن عدي:رأيت أهل العراق مجمعين على ضعفه، وكان أحمد بن محمد بن سعيد لا يحدث عنه لضعفه، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي: كان يكذب، وقال الحاكم: ليس بالقوي عندهم .
لكن أثنى عليه أبو كريب ووثقه السَّرِي بن يحي، وقال الدارقطني ومسلمة بن قاسم: لا بأس به . وسبر ابن عدي في الكامل أحاديثه وقال: لايعرف له حديث منكر وإنما ضعفوه أنه لم يلق من يحدث عنهم، ودافع عنه الخطيب البغدادي ورد على من ضعفه أو اتهمه بالكذب . ينظر في ترجمته: الكامل في الضعفاء 1/191، تهذيب الكمال 1/378، ميزان الاعتدال 1/252
2)…وقد قال فيه ابن حجر في التقريب1/67 :" ضعيف وسماعه للسيرة صحيح ". وتعقبه صاحبا تحرير التقريب 4/138 بقولهما: "بل صدوق حسن الحديث ربما خالف"(1/233)
روى مسلم عن أنس - رضي الله عنه -"أن أم سُلَيم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، ًفرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سُلَيم معها خِنْجَر . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت(1)به بطنه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك . قالت: يا رسول الله اقْتُلْ مَن بَعْدَنا من الطُّلَقاء انهزموا بك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن".(2)
ما يستفاد من هذه الحوادث:
بتأمل هذه الحوادث يمكن أن نستنتج الفوائد التالية:
الفائدة الأولى: دلت هذه الحوادث على مشروعية مباشرة المرأة للقتال في حالة الضرورة، وقد أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الصحابيات على مباشرتهن القتال في تلك الحالة، مع أنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن للنساء في مباشرة القتال في غيرها .(3)
وإذا تأملنا الحوادث المتقدمة نجد أنها كلها كانت من باب الضرورة .
ومن المعلوم أن دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة واجب على كل قادر من المسلمين . وأية ضرورة إلى قتال النساء أشد من هذه الأحوال ؟!! (4)
فما قامت به أم عمارة في غزوة أحد كان من باب الضرورة حين انهزم المسلمون وفروا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علماً بأن أُحُداً في ذاتها جهاد دفع للعدو الداهم للمسلمين في بلدهم .
__________
(1) قلت : وبهذا يتبين أن الحديث حسن بهذا الإسناد . وله شواهد أخرى كما عند أبي يعلى في المسند 2/43 والبزار في المسند 3/192 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 308 من حديث الزبير بن العوام ، والطبراني في الكبير 24/319 من حديث عروة بن الزبير .
3)( ) بقرت: شققت وفتحت . لسان العرب مادة (حجز) 4/74
(2) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1809)
(3) شرح السير الكبير 1/185
(4) المصدر السابق 1/184،185(1/234)
وقتل صفية اليهودي في غزوة الخندق كان أيضاً من قبيل دفع الضرر عن النساء والذرية الذين كانوا بالحصن، وهذا أيضاً من جهاد الدفع .
وكذلك قول أم سليم في حنين:"إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه"فإنه من قبيل ضرورة الدفاع عن النفس .
الفائدة الثانية: ظاهر السنة يدل على أنه لا يشرع للإمام في جهاد الدفع أن يستنفر النساء ابتداءً إذا حصلت الكفاية بالرجال، فإن لم تحصل الكفاية بالرجال شرع له استنفار النساء اللواتي يقدرن على الدفع، إذا رأى في استنفارهن مصلحة للمسلمين .
ويدل على هذا الأمر هديه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه استنفر النساء في أحد والخندق، مع أنهما كانتا من قبيل جهاد الدفع حينما وقع الهجوم على المدينة، وكذلك لم يستنفرهن في غزوة تبوك مع أن النفير فيها كان عاماً، لأنه لم يكن في استنفارهن في هذه الغزوات مصلحة للمسلمين .(1)
الفائدة الثالثة: وبناء على هذا، يظهر لي -والله أعلم- أن قول عامة أهل العلم بتعين جهاد الدفع على المرأة ليس على إطلاقه بل هو مقيد بأمرين دل عليهما ظاهر الهدي النبوي:
الأول) أن لا تحصل الكفاية بمن يدفع العدو من الرجال، أما إذا حصلت الكفاية بالرجال فإنه لا يتعين على النساء الدفع، لأن الرجال هم المخاطبون بالجهاد ابتداءً .
الثاني) أن يكون في خروجهن مصلحة للمسلمين على ما يقرره ولي أمر المسلمين، فإن ولي الأمر أو أمير الجيش بحكم قيامه على أمر الجهاد وسلطته في تنظيم أعمال المقاومة، له أن يمنع النساء من الخروج للدفع إذا لم يكن في خروجهن مصلحة للمسلمين .
ويضاف إلى هذين القيدين قيد ثالث، وهو ما نص عليه أهل العلم من اشتراط وجود القدرة والاستطاعة على دفع العدو، كما تقدم نقله ضمن أقوال العلماء .
__________
(1) هجرة المرأة وجهادها في السنة ص:254(1/235)
الفائدة الرابعة: أن مشاركة المرأة في جهاد الدفع محدودة بسبب ضعفها الجسدي والنفسي إلا ما قد يكون من بعض النساء على سبيل الاستثناء . ومما يبين هذا الأمر أنه قد استقر في عرف الصحابة في العهد النبوي أن المرأة ليست ممن يحمل السلاح ويواجه الرجال، ولهذا تعجب أبو طلحة من وجود الخنجر مع أم سُلَيم، وضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرته بما ستفعله به، إذ إن هذا الأمر بخلاف المألوف من طبيعة المرأة وفطرتها .
وبناء على هذا، فالمشروع هو تأخير النساء عن مباشرة القتال حيث أخرهن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يكلفن فوق طاقتهن ووسعهن، وأن لا يتوسع في إشراكهن في القتال إلا للضرورة، والله أعلم .
المسألة الثانية: النظر في اعتبار المحرم للمرأة المجاهدة
لما كان خروج المرأة إلى الجهاد - ولاسيما جهاد الطلب - من السفر ؛ كان لا بد من النظر في اعتبار وجود المحرم لجواز خروج المرأة .
أقوال العلماء في حكم سفر المرأة بدون محرم:
اختلف العلماء في حكم سفر المرأة بدون محرم على عدة أقوال:
القول الأول: تحريم سفر المرأة مطلقاً إلا بوجود محرم . وإليه ذهب الحنفية(1)، والحنابلة(2).
القول الثاني: جواز سفرها مطلقاً تطوعاً وفرضاً مع نسوة أو امرأة ثقة . وهو مقابل المذهب عند الشافعية .(3)
القول الثالث: جواز سفرها دون نساء أو ذوي محارم إذا كان الطريق آمناً، وهو وجه ضعيف عند الشافعية .(4)
القول الرابع: التفصيل . وإليه ذهب المالكية والشافعية، على خلاف بين الفريقين .
والقول المعتمد في المذهبين هو:
أ- إن كان السفر تطوعاً حرم سفر المرأة إلا بوجود محرم .
__________
(1) تبيين الحقائق 2/5، حاشية ابن عابدين 6/368
(2) المغني 3/98، الفروع 234-235
(3) المجموع 8/311
(4) المصدر السابق 8/311(1/236)
ب- وإن كان واجباً جاز لها السفر مع رفقة مأمونة على مذهب المالكية(1)، أو مع نسوة أو امرأة ثقة على مذهب الشافعية(2).
وقيد بعض المالكية التحريم في سفر التطوع بالانفراد والعدد القليل، دون القوافل العظيمة فإنه يجوز للمرأة أن تسافر فيها دون نساء وذوي محارم .(3)
من أدلة المانعين لسفر المرأة بدون محرم:
استدل المانعون من سفر المرأة بدون محرم بعدة أدلة، من أبرزها:
1)عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم"(4).
2)في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم"(5).
3)في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرْمَة"(6). وفي لفظ لمسلم:(مسيرة يوم) .
4)روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها"(7). وفي رواية أبي داود:( بريداً)(8).
__________
(1) مواهب الجليل 2/521، الفواكه الدواني 2/237
(2) المجموع 8/311، نهاية المحتاج 3/250
(3) مواهب الجليل 2/524
(4) رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم (1086)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1338) واللفظ له .
(5) رواه البخاري في كتاب الحج (1864) واللفظ له، ومسلم في كتاب الحج برقم (728)
(6) رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم (1088)، و مسلم في كتاب الحج برقم (1339)
(7) رواه مسلم في كتاب الحج برقم (1339)
(8) رواه أبو داود في كتاب المناسك برقم (1723)(1/237)
وجه الاستدلال: هذه الأحاديث المتقدمة على اختلاف ألفاظها صريحة في الحكم، وهو تحريم سفر المرأة إلا بوجود الزوج أوالمحرم .(1)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) في سياق التأكيد والتغليظ، والمعنى أن مخالفة هذا الأمر ليست من أفعال من يؤمن بالله ويخاف عقوبته في الآخرة .(2)
ونوقش هذا الاستدلال بهذه الأدلة بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إلا مع ذي محرم) يحتمل أن معناه: أن لا تسافر هذه المسافة مع إنسان واحد إلا أن يكون ذا محرم منها .(3)
وأجيب بأن هذا الاحتمال بعيد، لأنه خلاف المعنى الظاهر الذي تظاهرت عليه جميع الروايات المتقدمة، وهي صريحة في النهي . (4)
ويدل على بطلان هذا الاحتمال الدليل الخامس التالي .
5)عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول:"لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم . فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك"(5).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أمرين:
الأول) أن المرأة لا يجوز لها أن تحج إلا بمحرم، ولولا ذلك لقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما حاجتها إليك، لأنها تخرج مع المسلمين، وأما أنت فامض لوجهك فيما اكتتبت . ففي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره بذلك، وأمره أن يحج معها دليل على أنها لا يصلح لها الحج إلا به .(6)
الثاني) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل، وفي هذا دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم .(7)
__________
(1) المغني 3/98
(2) المنتقى شرح الموطأ 7/304
(3) المصدر السابق
(4) المغني 3/98
(5) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1862)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1341) واللفظ له .
(6) شرح معاني الآثار 2/116………
(7) أحكام القرآن للجصاص 2/38(1/238)
من أدلة المبيحين لسفر المرأة مع الرفقة أو النسوة الثقات:
استدل المبيحون لسفر المرأة مع رفقة أو نسوة ثقات بعدة أدلة، من أبرزها:
1)عن عدي بن حاتم(1) - رضي الله عنه - قال: بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أُنبِئتُ عنها . قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ... الحديث". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله .(2)
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخروج المرأة وحدها، ولم يذكر زوجاً ولا محرماً، فدل على جواز سفرها بدون محرم . (3)
ونوقش هذا الاستدلال بأنه لا يلزم من حديث عدي جواز سفرها بغير محرم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن هذا سيقع ووقع، ولا يلزم من ذلك جوازه، فالحديث يدل على وجود السفر، لا على جوازه . (4)
وأجيب بأن هذا الحديث خرج في سياق المدح والفضيلة واستعلاء الإسلام ورفع مناره، فلا يمكن حمله على ما لا يجوز . (5)
__________
(1) عدي بن حاتم (صحابي): عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، الأمير الشريف، ولد حاتم طي الذي يضرب بجوده المثل، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسط سنة سبع فأكرمه واحترمه، نزل الكوفة وسكنها وشهد مع علي الجمل وفقئت عينه يومئذ، ثم شهد صفين والنهروان، اختلف في وفاته فقيل: 67 هـ، وقيل: 68هـ، وقيل: 69هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1057، سير أعلام النبلاء 3/162، الإصابة في تمييز الصحابة 4/469
(2) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3595)
(3) تبيين الحقائق 2/5
(4) المغني 3/98
(5) المجموع 8/311(1/239)
ونوقش بأنه حتى على قول المخالف من الشافعية فإنه لا يجزيء في غير الحج المفروض، ثم إنه لم يذكر فيه خروج غيرها معها، وقد اشترطوا هاهنا خروج غيرها معها، فما ذهبوا إليه مخالف لظاهر الحديث الذي استدلوا به .(1)
وأجاب الشافعية: بأن بعض فقهائهم جوّز خروجها وحدها بغير امرأة كما سبق، ثم إنه لا يلزم من قولهم ترك الظاهر، لأن حقيقته أن لا يكون معها جوار أصلاً - والجوار الملاصق والقريب - . قالوا: ونحن لا نشترط في المرأة التي تخرج معها كونها ملازمة لها، فإن مشت قدام القافلة أو بعدها بعيدة عن المرأة جاز . (2)
قلت: هذا الجواب فيه تعسف وبعد عن ظاهر الحديث، لأن سياق الحديث وقوله: (لا تخاف أحداً إلا الله) يدل على أن الظعينة ترتحل بمفردها، لكنها بسبب تمام نعمة الأمن لا تخاف أحداً إلا الله .
وعلى كل حال فإنه على فرض التعارض بين الحديثين فإن أحاديث اشتراط المحرم أخص وأكثر صراحة من هذا الحديث المحتمل .
ولهذا قال ابن قدامة في معرض الرد على المبيحين:"واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطاً من عند نفسه، لا من كتاب ولا من سنة، فما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاشتراط، ولو قدر التعارض، فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقديم"(3).
2)القياس على وجوب هجرة المرأة إذا أسلمت - وهو مجمع عليه -، وسفر الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار .(4)
ونوقش هذا القياس من وجهين:
الوجه الأول: أنه قياس مع الفارق، لأن الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار، فإن سفرها سفر ضرورة، لا تقاس عليه حالة الاختيار، ولذلك تخرج فيها وحدها ; ولأنها تدفع ضرراً متيقناً بتحمل الضرر المتوهم، فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً . (5)
__________
(1) المغني 3/98
(2) المجموع 8/311
(3) المغني 3/98
(4) المجموع 8/311، تبيين الحقائق 2/5
(5) المغني 3/98(1/240)
الوجه الثاني: يرى الأحناف أن المهاجرة والمأسورة لا تنشئان سفراً، لأنهما لا تقصدان مكاناً معيناً وإنما مقصودهما النجاة لا غير، خوفاً من تبدل الدين، وقد صرح الأحناف بأن هذا لا يعد عندهم سفراً .(1)
الترجيح
مما تقدم عرضه ومناقشته يترجح - والله أعلم - القول الأول وهو: تحريم سفر المرأة مطلقاً إلا بوجود المحرم نظراً لقوة أدلته، ولأنه من جهة أخرى هو الأحوط للمرأة في الأزمنة المتأخرة بسبب فساد أحوال الناس، وانتشار الفتن .
قال النووي:"المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسَقَطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وخيانته ونحو ذلك"(2).
مدة السفر الذي تمنع منه المرأة إلا بمحرم:
للعلماء أقوال في هذه المدة، أعرضها على النحو التالي:
1- ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى ترجيح رواية الثلاثة أيام .(3)
2- أما جمهور أهل العلم فقد أخذوا بحديث ابن عباس المطلق عن بيان المدة، وأهملوا القيود المختلفة الواردة في الروايات الأخرى .(4)
قال ابن دقيق العيد:"وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وأن ذلك متعلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر"(5).
وقال النووي:"فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم).وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً"(6).
__________
(1) تبيين الحقائق 2/6
(2) شرح صحيح مسلم 9/104-105
(3) شرح معاني الآثار 2/114، تبيين الحقائق 2/4
(4) مواهب الجليل 2/525، المجموع 4/214-215، المغني 3/98
(5) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ص:440
(6) شرح صحيح مسلم 9/103-104(1/241)
والراجح هو قول الجمهور، فيحرم على المرأة أن تسافر مطلقاً بدون محرم، سواء كان السفر قصيراً أو طويلاً .
ومما يؤيد هذا الترجيح اختلاف القيود الواردة في الروايات ، مما يدل على أن الشارع لم يرد التقييد ، وإنما أراد مطلق السفر .
و لهذا قال ابن حجر:"وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق، نظراً لاختلاف التقييدات"(1).
عدم اشتراط المحرم لسفر المرأة إذا كان من باب الضرورة:
أجمع أهل العلم على جواز سفر المرأة بدون محرم إذا كان للضرورة، كأن تسلم المرأة في غير بلاد الإسلام فإنها تهاجر إلى بلاد الإسلام خوفاً على نفسها ودينها ولو بدون محرم .(2)
ومن الأمثلة أيضاً: أن يجد الرجل المرأة في مفازة، فيجوز له أن يصحبها حتى تبلغ مأمنها(3).
ويدل على هذا ما جاء في قصة الأفك المشهورة، حينما أوصل صفوان بن المعطل(4)- رضي الله عنه - عائشة رضي الله عنها إلى المدينة لما تخلفت وحدها عن الجيش .(5)
من هو المحرم ؟
اختلفت عبارات العلماء في تعريف المحرم على النحو التالي:
__________
(1) فتح الباري 4/75
(2) المبسوط 4/111، غمز عيون البصائر 1/335، مواهب الجليل 2/522، المجموع 7/71، الفروع 6/197
(3) شرح الخرشي 2/287
(4) صفوان بن المعطل (صحابي): أبو عمرو صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل السلمي ثم الذكواني، المذكور بالبراءة من الإفك في قصة الإفك المشهورة، سكن المدينة وشهد الخندق والمشاهد، اختلف في وفاته اختلافاً متبايناً فقيل: قتل في غزاة أرمينية سنة19هـ، وقيل: بل مات سنة 60هـ، وقيل: مات سنة58هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/725، سير أعلام النبلاء 2/545، الإصابة في تمييز الصحابة 3/440
(5) حديث قصة الإفك رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4141)، ومسلم في كتاب التوبة برقم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها(1/242)
1) المحرم عند جمهور أهل العلم - المالكية والشافعية والحنابلة - هو: الزوج، أوكل من حرم نكاحها عليه على التأبيد، بنسب أو بسبب مباح، لحرمتها .(1)
قال النووي:"فقولنا: (على التأبيد) احتراز من أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن .
وقولنا: (بسبب مباح) احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين، لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل مكلف .
وقولنا: (لحرمتها) احتراز من الملاعنة فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح وليست محرماً لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبةً وتغليظاً"(2).
ومن السبب المباح: الرضاع والمصاهرة والوطء المباح بالنكاح .
2) المحرم عند الأحناف هو: من لا يجوز له نكاحها على التأبيد إما بالقرابة أو الرضاع أو الصهرية . (3)
وبناءً على هذا التعريف خالف الأحنافُ الجمهورَ في كون السبب مباحاً، فذهبوا إلى أن المحرمية تحصل ولو بالسبب المحرم كالزنا، ومنعه بعضهم .(4)
والراجح هو تعريف الجمهور لأن المحرمية رخصة فاعتبر إباحة سببها كسائر الرخص، والسبب المحرم غير مباح فلا يترتب عليه حكم المحرمية .(5)
خلاصة حكم سفر المرأة للجهاد دون محرم :
إذا تقرر ما سبق، فإنه يمكن تلخيص أحكام سفر المرأة للجهاد بدون محرم كما يلي:
1- بالنسبة لجهاد الطلب: لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى جهاد الطلب بدون محرم . لأن جهاد الطلب سنة في حقها وليس بواجب .
2- بالنسبة لجهاد الدفع: يتعارض عندنا في هذه الحالة واجبان لا يمكن الجمع بينهما، أحدهما: وجود المحرم، والآخر: دفع العدو .
والقاعدة في تعارض الواجبين أنه يقدم أقواهما . وعلى هذا ففي المسألة تفصيل:
__________
(1) مواهب الجليل 2/523، شرح صحيح مسلم 9/105، مغني المحتاج 1/145، أسنى المطالب 1/56، المغني 3/98، الفروع 3/238
(2) شرح صحيح مسلم 9/105
(3) بدائع الصنائع 2/124
(4) حاشية ابن عابدين 2/464، تبيين الحقائق 6/19
(5) المغني3/99 ، الفروع 3/238(1/243)
أ-فإن كان دفع العدو غير متعين على المرأة بحيث يمكن أن يقوم غيرها بدفع العدو، فلا يجوز للمرأة الخروج بدون محرم . لأن الواجب المعين مقدم على الواجب غير المعين .
ب- وإن تعين دفع العدو على المرأة، فإنه يجب عليها الخروج ولو بدون محرم، لأن الحال حال ضرورة، وضرورة دفع العدو أقوى من وجوب وجود المحرم .
المسألة الثالثة: النظر في اعتبار الحجاب للمرأة المجاهدة
من حكمة الله تعالى ما اختص به المرأة من أحكام تشريعية تناسب طبيعتها وفطرتها، ومن أبرز هذه الأحكام الحجاب، فقد أوجب الله على المرأة المسلمة الاحتجاب من الرجال الأجانب، وألزمها بستر بدنها وزينتها على خلاف بين أهل العلم فيما يستثنى من هذا الحكم، كما سيأتي بيانه فيما يلي:
أقوال العلماء في ما يجب على المرأة ستره عن الرجال الأجانب:
قبل أن نستعرض أقوال الفقهاء في هذه المسألة الهامة، يحسن بنا أن نحرر محل النزاع .
تحرير محل النزاع:
1- الاتفاق على وجوب ستر المرأة بدنها كله عدا وجهها وكفيها وذراعيها وقدميها .
حكى بعض الفقهاء الاتفاق على وجوب ستر المرأة بدنها كله عدا وجهها وكفيها .
قال ابن حزم:"واتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويدها عورة"(1).
وحكاية الاتفاق هذه فيها نظر، لوجود الخلاف في القدمين والذراعين عند الحنفية كما سيأتي بيانه ضمن أقوال الفقهاء في المسألة .
أما شعر المرأة فلم أقف - حسب علمي - على من أباح للمرأة كشفه .
بل نص الأحناف في الفتاوى الهندية أنه عورة .(2)
وقال الجصاص:"لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليه كشعر الشابة"(3).
وعلى هذا، فالصحيح أن الفقهاء اتفقوا على وجوب ستر المرأة شعرها وبدنها، عدا الوجه والكفين والذراعين والقدمين .
__________
(1) مراتب الإجماع 1/29
(2) الفتاوى الهندية 1/58
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/485(1/244)
2- اتفق الفقهاء على وجوب ستر المرأة وجهها وكفيها وذراعيها وقدميها عند مظنة الفتنة أو كان النظر بشهوة(1)، إلا في قول منقول عن القاضي عياض(2)، وهو خلاف مشهور المذهب عند المالكية، ومؤداه: أنه لا يجب عليها ذلك وإنما على الرجل غض بصره .(3)
3- اختلف العلماء في وجوب ستر المرأة وجهها وكفيها وذراعيها وقدميها عن الرجال الأجانب عند عدم مظنة الفتنة على عدة أقوال، ونظراً لأهمية هذه المسألة، وكثرة أدلتها، وما يترتب عليها من أحكام عملية تعظم الحاجة إليها، فسأبسط الكلام على أقوال العلماء في المسألة، وذلك كما يلي:
القول الأول: وجوب ستر البدن كله عدا الوجه والكفين . وإليه ذهب الحنفية(4) والمالكية(5)، وأحد قولي الشافعية -خلاف المفتى به- وعليه أكثرهم(6)، ورواية خلاف المذهب عند الحنابلة (7).
ويتفرع عن هذا القول عند الحنفية رواية أخرى عن أبي يوسف باستثناء الذراعين مع الوجه والكفين .(8)
ومن أهم أدلة هذا القول ما يلي:
__________
(1) المبسوط 10 /153، شرح الخرشي 1/247، مغني المحتاج 4/209، شرح منتهى الإرادات 5/18
(2) القاضي عياض: أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليَحْصُبي السَّبْتي نسبة إلى سَبْتة مدينة بالمغرب، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في زمانه، كان أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم، من مؤلفاته: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وشرح صحيح مسلم . ت: 544هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 20/212، الديباج المذهب 1/168، الأعلام 5/99
(3) حاشية الدسوقي 1/215
(4) المبسوط 10/153، بدائع الصنائع 5/121-122، فتح القدير 10/24
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/215، شرح الخرشي 1/ 247، منح الجليل 1/222
(6) مغني المحتاج 4/208-209، أسنى المطالب 3/109-110، نهاية المحتاج 6/187-188
(7) شرح منتهى الإرادات 5/18، الإنصاف 8/28…، الفروع 5/154
(8) المبسوط 10 /153، تبيين الحقائق 1/95-96(1/245)
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } (1).
وجه الاستدلال: دلت الآية على جواز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة، ومواضع الزينة الظاهرة الوجه والكفان، فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكف، وعلى هذا فيجوز النظر إلى الوجه والكفين .(2)
ويؤيد هذا ما أخرجه البيهقي(3)وابن أبي حاتم(4)وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال:"ما في الكف والوجه"(5)
__________
(1) النور: 31]
(2) بدائع الصنائع 5/122
(3) البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، أحد أئمة الحديث نشأ في بَيْهَق بنيسابور ورحل إلى بغداد والكوفة ومكة، كان مكثراً من التصانيف في نصرة مذهب الشافعي وبسط موجزه وتأييد آرائه، ومن تصانيفه: السنن الكبرى، الأسماء والصفات، معرفة السنن والآثار وغيرها، ت:458هـ . ينظر: طبقات الشافعية 2/220، شذرات الذهب 3/304، الأعلام 1/116
(4) ابن أبي حاتم: عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، الإمام ابن الإمام الحافظ أبي حاتم، صنف تصانيف عديدة منها: كتاب السنة، التفسير، الرد على الجهمية، فضائل أحمد، ت:327هـ . ينظر: تاريخ دمشق 35/357، طبقات الحفاظ 1/346، المقصد الأرشد 2/106
(5) رواه البيهقي في السنن الكبرى 2/225، و ابن معين في حديثه (الفوائد) الجزء الثاني 8/2574، وابن أبي حاتم في تفسيره 8/2574، وابن أبي شيبة في المصنف 3/546
- أما رواية البيهقي ففيها :
1- أحمد بن عبد الجبار العطاردي: :" ضعيف" كما في تقريب التهذيب 1/81 . وينظر في ترجمته: تهذيب الكمال 1/379-380، ميزان الاعتدال 1/252-253، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 1/75
2- عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي: "ضعيف" كما في تقريب التهذيب 1/323 ، وينظر في ترجمته: الكامل في الضعفاء 4/157، تهذيب الكمال 16/132، ميزان الاعتدال 4/199
- وأما رواية ابن معين وابن أبي حاتم فإسنادها جيد .
- وأما رواية ابن أبي شيبة فهي في المصنف 3/546، وعند ابن أبي حاتم في تفسيره 8/2574 وإسنادها صحيح .
والحاصل أن هذا الأثر عن ابن عباس صحيح بهذه الطرق، والله أعلم .(1/246)
.
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
1-أن تفسير ابن عباس الزينة الظاهرة بالوجه والكفين معارض بتفسير ابن مسعود ومن وافقه من أن المراد بها الثياب .
2-أن جواز إبداء الوجه والكفين كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب .
قال ابن تيمية:"فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين"(1).
3- أن ما جاء عن ابن عباس محمول على ما يظهر من المرأة في بيتها نظراً لمشقة التحفظ من إبدائه، دون خروجها من البيت سافرة عن وجهها ويديها .
ويؤيد هذا المعنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال:"والزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها"(2).
4-أن التعبير بقوله (إلا ما ظهر منها) دون (إلا ما أظهرن منها) يفيد أن المراد بالاستثناء هو ما ظهر من الزينة بنفسه، دون ما تقصد المرأة إظهاره، وعلى هذا لا دلالة في الآية على جواز قصد إبداء الزينة .
قال ابن عطية(3)
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/110-111
(2) رواه الطبري في تفسيره 18/118، والبيهقي في السنن الكبرى 7/94 من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس .
…والحديث من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيها انقطاع .
(3) ابن عطية: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الأندلسي، مفسر فقيه عارف بالأحكام والحديث، ومن مؤلفاته: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ت 542هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 20/133، الندباج المذهب 1/174، تذكرة الحفاظ 4/1293
- تنبيه: ابن عطية هذا الذي ينقل عنه القرطبي غير المفسر المتقدم عبد الله بن عطية المتوفي سنة 383هـ .(1/247)
:"ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه"(1).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال:"يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه"(2)
__________
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 11/295…
(2) رواه أبو داود في كتاب اللباس برقم (4104)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/86
والحديث لا يصح لأن فيه عدة علل، أهمها:
1- الانقطاع بين خالد بن دريك وعائشة .
قال أبو داود في السنن ص:578:"هذا مرسل، خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة، وسعيد بن بشير ليس بالقوي". ونص غير واحد من الأئمة على أن خالد بن دريك لم يدرك عائشة، منهم المزي في تهذيب الكمال 8/54، والذهبي في ميزان الاعتدال 2/410، وابن حجر في تهذيب التهذيب 3/75
2- فيه سعيد بن بشير البصري . "ضعيف" كما في تقريب التهذيب 1/234
وينظر في ترجمته: تهذيب الكمال 10/348، تهذيب التهذيب 4/9، ميزان الاعتدال 3/189
3- فيه قتادة بن دعامة السدوسي: وهو على إمامته موصوف بالتدليس . تهذيب الكمال 23/498، جامع التحصيل 1/254، ميزان الاعتدال 5/466
ونقل ابن حجر أن قتادة من الطبقة الثالثة من المدلسين، وهُمْ مَن أكثرَ من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع . طبقات المدلسين 1/43
وقد روى الحديث معنعناً ولم يصرح بالتحديث .
4- فيه الوليد بن مسلم: وهو كثير التدليس والتسوية، وقد رواه معنعناً . تهذيب الكمال 31/85، جامع التحصيل 1/111، ميزان الاعتدال 7/441
ونقل ابن حجر أن الوليد بن مسلم من الطبقة الرابعة، وهُم مَن اتُّفِق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل . طبقات المدلسين 1/51(1/248)
.
وجه الاستدلال: الحديث صريح في أن المرأة الحرة البالغة لا يحل النظر منها إلا إلى وجهها وكفيها .(1)
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من أوجه:
1- أن الحديث لا يصح، فإن إسناده مليء بالعلل القادحة كما تقدم في تخريجه في الحاشية.
2- أن في متنه نكارة، فإن أسماء رضي الله عنها كان لها حين هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الهيئة، وعليها ثياب رقاق تصف ما سوى الوجه والكفين . (2)
3- أنه على فرض صحته يحتمل أنه كان قبل فرض الحجاب، فيحمل عليه، جمعاً بين الأدلة.(3)
الدليل الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم . فقامت امرأة من سِطَة(4)النساء سفعاء(5)الخدين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكن تُكْثِرن الشَّكاة وتَكْفُرْن العشير . قال: فجعلن يتصدقن من حُلِيّهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن"(6).
__________
(1) بدائع الصنائع 5/123
(2) رسالة الحجاب لابن عثيمين (ضمن مجموعة رسائل في الحجاب والسفور) ص:89
(3) المغني 7/78
(4) سِطَة): المراد بها هنا: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . شرح صحيح مسلم للنووي 6/175
وينظر أيضاً: النهاية 2/366، لسان العرب مادة (وسط) 7/430، مختار الصحاح مادة (وسط) 1/300
(5) سفعاء): السَّفْع السواد والشحوب، وقيل: نوع من السواد ليس بالكثير، وقيل: السواد مع لون آخر، وقيل: السواد المشرب حمرة . لسان العرب مادة (سفع) 8/156
(6) رواه مسلم في كتاب صلاة العيدين برقم (885)(1/249)
وجه الاستدلال: أن وصف الراوي المرأة بأنها كانت سفعاء الخدين يدل على أنها كانت مسفرة عن وجهها .(1)
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحادثة واقعة حال لا دليل فيها، وذلك من عدة أوجه:
1- ليس في الحديث ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عن وجهها وأقرها على ذلك، بل غاية ما فيه أن جابراً رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصداً، فقد يسقط خمارها أو ينحرف عن وجهها من غير قصد، كما قال النابغة الذبياني:
سقط الخمار ولم ترد إسقاطه……فتناولته واتّقتنا باليد .(2)
2- أن قوله (سفعاء الخدين) فيه إشارة إلى قبح الوجه، لأن السُّفْعَة سواد وتغيُّر في الوجه من مرض أو مصيبة أو سفر، والمرأة الشوهاء التي لا تشتهى في معنى القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً(3)، وعلى هذا لا يكون في الحديث دليل على المقصود .(4)
__________
(1) المبسوط 10 /153
(2) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/598
…وهذا البيت الذي استشهد به الشنقيطي للنابغة الذبياني ، وقد ورد في ما وقفت عليه من المصادر بلفظ : سقط النصيف . كما في الأغاني 11/14، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 4/706، طبقات فحول الشعراء 1/68
قلت : والمعنى واحد كما في الأغاني 11/14: "والنصيف الخمار ". اهـ
(3) المغني 7/78
(4) أضواء البيان 6/599(1/250)
الدليل الرابع: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس(1)يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئاً، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها . فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم"(2).
وجه الاستدلال: في الحديث دلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر المرأة على كشف وجهها، فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عُرِفت أحسناء هي أم شوهاء .(3)
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
__________
(1) الفضل بن عباس (صحابي): الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أكبر إخوته وبه كان يكنى أبوه وأمه، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وحنيناً وثبت معه يومئذ وشهد معه حجة الوداع وكان رديفه فيها، مات على الأصح في طاعون عَمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر وقيل: قُتِل يوم أجنادين في خلافة أبي بكر، وقيل باليرموك . ينظر: الطبقات الكبرى 4/54، تهذيب الأسماء 2/363، الإصابة في تمييز الصحابة 3/375
(2) رواه البخاري في كتاب الاستئذان برقم (6228) واللفظ له، ومسلم في كتاب الحج برقم (1334)
(3) المحلى 2/248…(1/251)
1- ليس في شيء من روايات الحديث أن المرأة كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عنه فأقرها على ذلك، بل غاية ما فيه أنها كانت حسناء وضيئة، ومعرفة ذلك لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد .(1)
2- أن في بعض طرق الحديث الأخرى ما يشير إلى: أن المرأة إنما كشفت وجهها لأن أباها عرضها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتزوجها، فيمكن أن يحمل الحديث على النظر للمخطوبة، أو المعروضة على الرجل للزواج منها .
قال ابن حجر - بعد أن ساق عدة طرق لهذا الحديث -:"والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضاً والمسؤول عنه أبو الرجل وأمه جميعاً، ويقرِّب ذلك ما رواه أبو يعلى(2)
__________
(1) أضواء البيان 6/600
(2) أبو يعلى: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي، الإمام العلامة القاضي شيخ الحنابلة، صاحب التعليقة الكبرى والتصانيف المفيدة في المذهب، أفتى ودرس وتخرج به الأصحاب وانتهت إليه الإمامة في الفقه وكان عالم العراق في زمانه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره والنظر والأصول، ت:458هـ .
ينظر: المقصد الأرشد 2/395، سير أعلام النبلاء 18/89، تذكرة الحفاظ 3/1134(1/252)
بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال:"كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسى فيلويه، فكان يلبى حتى رمى جمرة العقبة .(1) فعلى هذا فقول الشابة: إن أبي لعلها أرادت به جدها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه"(2).
والحاصل مما سبق أن هذه الحادثة واقعة حال لا عموم لها، لعدم صراحتها وتطرق الاحتمالات إليها .
القول الثاني: وجوب ستر البدن كله عدا الوجه والكفين والقدمين . وهو رواية عن أبي حنيفة(3).
ومن أهم أدلة هذا القول ما يلي:
الدليل الأول: ما تقدم من أدلة عدم وجوب كشف الوجه واليدين المذكورة أنفاً .
ويضاف إليها فيما يتعلق بالقدمين ما يلي :
الدليل الثاني: ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله تبارك وتعالى: { إلا ما ظهر منها } : "القُلْب والفَتْخَة(4)"(5).
__________
(1) رواه أبو يعلى في المسند 12/97، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/277:" رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح"، وقال ابن حجر في فتح الباري 4/68:" رواه أبو يعلى بإسناد قوي" .
(2) فتح الباري 4/68
(3) المبسوط 10/153، تبيين الحقائق 1/95-96، بدائع الصنائع 5/123
(4) القُلْب): السوار . لسان العرب مادة (قلب) 1/688
(الفَتْخَة): خاتم يكون في اليد والرجل بفص وغير فص، وقيل: هي الخاتم أياً كان، وقيل: هي حلقة تلبس في الإصبع كالخاتم . لسان العرب مادة (فتخ) 3/40
(5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/546، والبيهقي في السنن الكبرى 7/86 وابن أبي حاتم في تفسيره 8/2575 كلهم من طريق حماد بن سلمة عن أم شبيب عن عائشة بإسناد لا بأس به .(1/253)
وجه الاستدلال: دل الحديث على جواز النظر إلى القدمين، لأن المراد بالفتخة في الحديث: خاتم أصبع الرجل .(1)
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أنه معارض بما روي عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - في تفسير المستثنى في الآية، فيبقى ما وراء المستثنى على ظاهر النهي .(2)
ويجاب عنه بأنه من قول عائشة رضي الله عنها، وقول الصحابي ليس بحجة على غيره عند الاختلاف، لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر .
2- ما تقدم بيانه من أن المراد بالاستثناء في الآية هو ما ظهر من الزينة بنفسه، دون ما تقصد المرأة إظهاره .(3)
الدليل الثالث: المعقول . وبيانه: أن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة واستثنى ما ظهر منها، والقدمان ظاهرتان ألا ترى أنهما يظهران عند المشي ؟ فكانا من جملة المستثنى من الحظر فيباح إبداؤهما . (4)
ثم إن المرأة قد تبتلى بإبداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة، وربما لا تجد الخف في كل وقت.(5)
ونوقش: بأن استثناء النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها عند من أجازه إنما هو للحاجة إلى كشفها في الأخذ والعطاء، ولا حاجة إلى كشف القدمين فلا يباح النظر إليهما .(6)
قلت: ومما يدل على عدم صحة القول بجواز كشف القدمين ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة . فقالت أم سَلَمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً . فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن . قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه"(7)
__________
(1) بدائع الصنائع 5/123
(2) المصدر السابق 5/123
(3) ينظر ص: 254 من هذا البحث
(4) بدائع الصنائع 5/123
(5) المبسوط 10 /153
(6) بدائع الصنائع 5/123
(7) رواه أحمد 2/55، وأبو داود في كتاب اللباس برقم (4117)، والترمذي في كتاب اللباس برقم (1731)، والنسائي في كتاب الزينة برقم (5336)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
…وصححه الألباني في صحيح الترمذي 4/223(1/254)
.
القول الثالث: وجوب ستر البدن كله . وهو القول الصحيح المفتى به عند الشافعية(1)، والمذهب عند الحنابلة(2).
ومن أهم أدلة هذا القول ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (3) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) } (4).
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) . أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.(5)
__________
(1) مغني المحتاج 4/208-209، وينظر: أسنى المطالب 3/109-110، نهاية المحتاج 6/187-188
(2) كشاف القناع 1/266، الإنصاف 1/452، الفروع 1/601-602
(3) قال القرطبي في تفسيره 14/243:" الجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن . وفي صحيح مسلم عن أم عطية قلت:يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال:( لتلبسها أختها من جلبابها)"اهـ
…قلت: بل الصحيح أنه يطلق على الثوب الذي يستر جميع البدن، ويطلق على غطاء الوجه كما قالت عائشة: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه . وسيأتي تخريجه ص: 265
(4) الأحزاب: 59]
(5) رواه ابن جرير في تفسيره 22/46، وابن أبي حاتم في تفسيره 10/3154
…والحديث فيه انقطاع لأنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس(1/255)
وجه الاستدلال: قال الطبري:"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين) . لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول"(1).
ونوقش هذا الاستدلال: بأن لفظ الآية لا يستلزم معناه ستر الوجه، وقول بعض المفسرين بأنه يستلزم ذلك معارض بقول غيرهم ممن يرى أن المراد بالإدناء أن يشددن جلابيبهن على جباههن، فيستفاد من الآية وجوب ستر الرأس دون الوجه .(2)
ويؤيد هذا اختلاف الروايات عن ابن عباس نفسه كما سبق .
وأجيب: بأن في الآية قرينة واضحة على أن قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن). يدخل في معناه ستر وجوههن، وهي قوله تعالى: (قل لأزواجك)، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين .(3)
الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } إلى قوله تعالى: { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } (4).
وجه الاستدلال: دلت الآية على وجوب ستر المرأة بدنها كله من ثلاثة أوجه:
__________
(1) تفسير الطبري 22/45-46
(2) تفسير الطبري 22/46، أحكام القرآن لابن العربي 3/625
(3) أضواء البيان 6/586
(4) النور: 31](1/256)
الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى نهى المؤمنات عن إبداء الزينة للرجال الأجانب باستثناء ما ظهر منها، وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). قال: هي الثياب .(1)
الوجه الثاني: قوله تعالى: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } . وهذا الأمر بسدل المرأة خمارها من رأسها على جيبها يقتضي ستر ما بين الرأس والصدر تبعاً وهو الوجه .(2)
كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها"(3).
قال ابن حجر:"قوله (فاختمرن): أي غطين وجوههن "(4).
الوجه الثالث: قوله تعالى: { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } . وجه الاستدلال: أن المرأة إذا كانت منهية عن الضرب بالأرجل خوفاً من افتتان الرجال بصوت خلخالها فإن نهيها عن كشف وجهها الذي هو مجمع محاسنها من باب أولى، لأنه أحق بالستر والإخفاء .(5)
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/546، والطبري في تفسيره 18/117، والحاكم في المستدرك 2/431 وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وابن أبي حاتم في تفسيره 8/2574، والطبراني في المعجم الكبير 9/228
والحديث جاء من طرق عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن ابن مسعود به .
ورجاله كلهم ثقات، قال الزيلعي في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية 4/239:"وأخرج الطبري في تفسيره من طرق جيدة عن ابن مسعود قال: هي الثياب، وقال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/225:"وإسناده قوي"
(2) أضواء البيان 6/594……
(3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في كتاب تفسير القرآن برقم (4759)، ورواه أبو داود موصولاً في كتاب اللباس برقم (4102)
(4) فتح الباري 8/490
(5) رسالة الحجاب لابن عثيمين ص:71-72(1/257)
الدليل الثالث: قوله سبحانه وتعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } (1).
وجه الاستدلال: دلت الآية على أنه لا بد من وجود الحجاب بين المرأة والرجل الأجنبي متى ما عرضت له حاجة لسؤالها والحديث معها .(2)
ونوقش هذا الاستدلال بأن حكم الآية خاص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .(3)
وأجيب بأن الصحيح أن حكم هذه الآية عام، وليس مختصاً بأمهات المؤمنين . ويدل على هذا أمران:
1- ما تقرر في الأصول من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة .(4)
2- ما جاء في سياق الآيات، حيث قال الله تعالى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبنَائهنَّ ... الآية } (5). (6)
وفي هذا يقول ابن كثير:"لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن... الآية"(7).
الدليل الرابع: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين"(8).
وجه الاستدلال: قال ابن تيمية:"وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمْن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن"(9).
__________
(1) الأحزاب: 53]
(2) أحكام القرآن للجصاص 3/543
(3) أسنى المطالب 3/103
(4) أضواء البيان 6/589
(5) الأحزاب: 55]
(6) عودة الحجاب 3/235
(7) تفسير ابن كثير 3/507
(8) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1838)
(9) مجموع الفتاوى 15/370-371(1/258)
الدليل الخامس: عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"(1).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن المرأة إذا مر الرجال قريباً منها، أنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، كما كانت تفعله نساء المؤمنين في العهد النبوي .(2)
الدليل السادس: حديث الإفك، ومما جاء فيه قالت عائشة رضي الله عنها:"وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ...الحديث .(3)
__________
(1) رواه أحمد 6/30، وأبوداود في كتاب المناسك برقم (1833)، والبيهقي في السنن الكبرى 5/48، والدارقطني في سننه 2/295 كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة .
وفيه يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي :" ضعيف كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعياً" كما في تقريب التهذيب 1/601 . وينظر في ترجمته: ضعفاء العقيلي 4/379، تهذيب الكمال 32/135، ميزان الاعتدال 7/240
وقد ورد من وجه آخر عند الحاكم في المستدرك1/624 عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
قلت: الحديث رجاله كلهم ثقات، وإسناده صحيح كما قال الحاكم .
وقد رواه مالك بنحوه في الموطأ 1/328 برقم (718) بسند صحيح .
وبهذا يتبين أن حديث أسماء الصحيح هذا شاهد لحديث عائشة فيتقوى به، والله أعلم .
(2) المغني 3/154
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4141)، ومسلم في كتاب التوبة برقم (2770)(1/259)
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أن تغطية المرأة وجهها من الحجاب الذي فرض على أمهات المؤمنين ونساء الأمة، وعليه يجب على المرأة تغطية وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحاً أو غيره .(1)
…الترجيح…
بعد ما تقدم يظهر - والله أعلم - أن القول الراجح هو القول الثالث القائل بوجوب ستر المرأة بدنها كله حتى وجهها وكفيها عن الرجال الأجانب، وذلك للاعتبارات التالية:
1-قوة ما استدلوا به من الآيات والأحاديث النبوية .
2-قلة الاعتراضات الموجهة لأدلة هذا القول مقارنة بأدلة الأقوال الأخرى .
3-أن هذا القول هو الأقرب لمقاصد الشريعة التي جاءت بسد الطرق الموصلة إلى الفتنة، ولا سيما مع تغير الزمان وفساد أحوال الناس .
4-أن هذا الأمر هو ظاهر عمل المسلمين كما حكاه غير واحد من أهل العلم .
قال أبو حامد الغزالي:"لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات"(2).
ونقل ابن حجر:"استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال"(3).
تطبيق القول الراجح على خروج المرأة للجهاد:
بناءً على ما تقدم ترجيحه من وجوب ستر المرأة بدنها كله عن الرجال الأجانب فإنه يجب على المرأة أن تستر بدنها حال خروجها ومشاركتها في الجهاد، ولا يجوز لها إبداء شيء من بدنها إلا ما ظهر بغير قصد، أو لضرورة تبيح لها الكشف عن شيء مما يجب عليها ستره، كدفع ضرر، أو إنقاذ جريح، أو مداواة، ونحو ذلك من الأحوال الاستثنائية التي أباح العلماء للمرأة فيها كشف ما يجب عليها ستره . على أن تقدر الضرورة بقدر ما يحصل به المقصود.
المسألة الرابعة: الضوابط الشرعية لقيام المرأة بهذه الأعمال
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 17/116-117
(2) إحياء علوم الدين 4/729
(3) فتح الباري 9/337(1/260)
من المناسب أن أختم مطلب (حكم قيام المرأة بالأعمال الفدائية) بهذه المسألة وهي خلاصة ألمّ فيها شتات ما تقدم بيانه من أحكام، وأعيد ترتيبها في ضوابط محددة يمكن تطبيقها على الواقع .
وقبل الشروع في ذكر الضوابط الخاصة بقيام المرأة بالأعمال الفدائية، أستعرض بإيجاز ما توصلت إليه في المسائل السابقة من الضوابط العامة لمشاركة المرأة في الجهاد، ثم أردف ذلك بمحاولة لتطبيق هذه الضوابط العامة على قيام المرأة بالأعمال الفدائية .
أولاً : الضوابط الشرعية العامة لمشاركة المرأة في الجهاد:
من خلال ما تقدم بيانه فيما يتعلق بمشاركة المرأة في الجهاد (بوجه عام) يمكن أن نقرر هنا الضوابط التالية:
1)أجمع العلماء على أن جهاد الطلب لا يجب على المرأة، لكن يجوز لها الخروج فيه، والمشاركة في بعض الأعمال المساندة له كأعمال التموين والإسعاف ونحوها .
2)الأصل أن تؤخَّر المرأة عن مباشرة القتال حيث أخرها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يشرع للنساء مباشرة القتال حال الطلب وحال الدفع إلا عند تعينه حال الضرورة في جهاد الطلب أو الدفع وذلك للدفاع عن أنفسهن .
3)يتعين جهاد الدفع على المرأة، ولو لم يأذن زوجها أو وليها، بثلاثة شروط:
الشرط الأول) أن يكون لديها القدرة والاستطاعة على الدفع .
الشرط الثاني) أن لا تحصل الكفاية بمن يدفع العدو من الرجال .
الشرط الثالث) أن يكون في خروجها مصلحة للمسلمين، ولولي أمر المسلمين بحكم قيامه على أمر الجهاد وسلطته في تنظيم أعمال المقاومة أن يمنع النساء من الخروج للدفع إذا لم يكن في خروجهن مصلحة للمسلمين .
4)يتقيد خروج المرأة لجهاد الطلب والدفع بخمسة قيود:
القيد الأول: ألا تكون شابة، بل تخرج الكبيرات والعجائز المستطيعات من النساء .
القيد الثاني: أن يؤمن عليها بخروجها مع جيش عظيم .
القيد الثالث: أن يأذن الزوج في خروجها إلى جهاد الطلب، فإن لم يكن لها زوج فلا بد من إذن وليها .(1/261)
القيد الرابع: أن تخرج مع زوج أو محرم إن احتاجت للسفر مسافة قصر: فإن كان خروجها في جهاد الطلب فلا يجوز لها أن تخرج بدون محرم، وإن كان في جهاد الدفع ففيه تفصيل: إن تعين الخروج عليها لضرورة دفع العدو فلا اعتبار للمحرم حينئذ . وإن لم يتعين الخروج عليها فلا يجوز لها الخروج بدون محرم .
القيد الخامس: أن تلتزم الحجاب حال خروجها ومشاركتها في الجهاد عموماً، ويجب عليها ستر وجهها ويديها بناءً على القول الراجح من أقوال الفقهاء ، ولا يجوز لها إبداء شيء من بدنها إلا ما ظهر بغير قصد، أو لضرورة تبيح لها الكشف عن شيء مما يجب عليها ستره، كدفع ضرر، أو إنقاذ جريح، أو مداواة، على أن تقدر الضرورة بقدر ما يحصل به المقصود .
ثانياً : الضوابط الشرعية الخاصة بقيام المرأة بالأعمال الفدائية:
مما يجدر ذكره ونحن بصدد تطبيق الضوابط الشرعية العامة في جهاد المرأة وقيامها بالأعمال الفدائية، أنه لابد أن نضع في الحسبان ما تتميز به هذه الأعمال من خصوصية في واقعها ودوافعها دون غيرها من أعمال الجهاد، كما تقدم بيانه في معرض الكلام على واقع الأعمال الفدائية .
ومما سبق ذكره في الضوابط الشرعية العامة لجهاد المرأة يمكن أن نستنتج عدة ضوابط خاصة لقيام المرأة بالأعمال الفدائية، وهي:
الضابط الأول) أن تكون مباشرة المرأة للأعمال الفدائية في حال الضرورة :
والضرورة هنا قد تكون في بعض أحوال جهاد الطلب، وقد تكون في جهاد الدفع في حال تعين الدفع على المرأة . ومما يدل على هذا القيد أن الأعمال الفدائية من باب المواجهة ومباشرة القتال، بل هي من أقوى أنواع المواجهة، والأصل كما تقدم بيانه: أن المرأة لا يشرع لها أن تباشر القتال ابتداءً، وإنما تباشر القتال عند الضرورة كما وقع في بعض أحداث السيرة النبوية، وسبق بيانه في موضعه .(1/262)
والأصل أن الرجال هم المخاطبون ابتداءً بمباشرة القتال ودفع العدو، أما المرأة فلا تباشر القتال إلا في حال الضرورة، وعلى هذا فإنه متى ما حصلت الكفاية بمن يباشر القيام بالأعمال الفدائية من الرجال فإنه لا يشرع للمرأة أن تقوم بهذه الأعمال .
وإذا رأى القائمون على الجهاد أن قيام المرأة بالأعمال الفدائية دون الرجل - في بعض الظروف والأحوال - يقوي نجاح هذه الأعمال، أو يؤدي إلى عدم اكتشافها، أو يحقق نكاية أكبر في صفوف العدو ؛ فإنه لا حرج حينئذ من قيام المرأة بالأعمال الفدائية في هذه الأحوال نظراً لهذه الاعتبارات المؤثرة .
الضابط الثاني) الاستطاعة والقدرة على القيام بهذه الأعمال :
وهذا القيد وإن كان عاماً في جميع التكاليف، فإنه جدير بالذكر في هذا الباب، نظراً لأن المرأة - كما هو معلوم - ضعيفة في تكوينها الجسدي والنفسي، وسرعان ما يستولي عليها الخوف والهلع .
ومن المقرر أن طلب الشهادة وحده لا يكفي للحكم بجواز هذه الأعمال، ما لم يقترن بقصد النكاية بالعدو . ولهذا فإن المرأة إذا لم يغلب على ظنها القدرة على القيام بهذا العمل وإحداث النكاية بالعدو فإنه لا يجوز لها أن تخاطر بنفسها، وتغامر بشرفها في القيام بهذه الأعمال التي قد ترتد أضرارها عليها أولاً .
الضابط الثالث) أن يكون في قيامها بهذه الأعمال مصلحة للمسلمين :(1/263)
إذا كان الجهاد مبنياً على تحقيق المصلحة للمسلمين ودفع المفسدة عنهم، والموازنة ببين المصالح والمفاسد عند التعارض ؛ فإن هذا الأمر يزداد أهمية فيما يتعلق بمشاركة المرأة في أعمال الجهاد عموماً، إذ إن المرأة تختلف عن الرجل من حيث أنها عورة من عورات المسلمين، وعرضة لانتهاك حرمتها من أعداء الله . (1)
لهذه الاعتبارات قيّد أهل العلم خروج المرأة إلى الجهاد بعدم كونها شابة، وبخروجها مع جيش عظيم يؤمن عليها فيه .
وعلى هذا، فإن لولي أمر المسلمين أو أمير الجيش، بحكم قيامه على أمر الجهاد وسلطته في تنظيم أعمال المقاومة والدفع، أن يمنع النساء من القيام بالأعمال الفدائية مراعاة لمصلحة المسلمين، أو دفعاً للمفاسد المترتبة على قيامهن بهذه الأعمال .
__________
(1) هذا لا يعني أن حرمات الرجال اليوم لا تنتهك، بل إن الانتهاكات وممارسات التعدي على الأعراض التي يقوم بها أعداء الله عمت الرجال والنساء من المسلمين، لكن التعدي على النساء أشد وأفحش، والله المستعان .(1/264)
وأقول: إن من الاعتبارات الهامة التي يجب على من يلي أمر المجاهدين مراعاتها في الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على قيام المرأة بهذه الأعمال ؛ ما قد تسببه هذه الأعمال من انتهاك العدو - ولاسيما المحتل - حرمات النساء المسلمات بالإيذاء والتفتيش، والاحتجاز والتحقيق، والزج بهن في السجون بحجة الاشتباه في قيامهن بهذه الأعمال(1). فإنه قد يكون الواجب والمصلحة في مثل هذه الأحوال أن يقتصر تنفيذ الأعمال الفدائية على الرجال الذين هم أهل القتال والمدافعة، إذا كان قيامهم بها كافياً لحصول المقصود وهو النكاية بالعدو .
الضابط الرابع) أن يأذن الزوج في قيامها بهذه الأعمال حال جهاد الطلب:
__________
(1) جاء في تقرير لموقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد اعتقلت منذ بداية أبريل 2002 وحتى منتصف يناير 2003 نحو 42 امرأة فلسطينية، معظمهن تتراوح أعمارهن ما بين 15-25 عاماً، وهن من الجيل الشاب من طالبات المدارس والجامعات. ويلاحظ أن الفتيات المعتقلات أبدين استعداداً للقيام بعمليات عسكرية مثل طعن الجنود، أو محاولة لتنفيذ عمليات استشهادية، أو المساعدة في أعمال المقاومة . تقرير إخباري: مها عبد الهادي: موقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) بتاريخ 26/1/2003 م
…وقال رئيس نادي الأسير الفلسطيني (عيسى قراقع): إن عدد المعتقلات اللاتي دخلن السجون الإسرائيلية منذ عام 1967م حتى الآن بلغ عشرة آلاف امرأة فلسطينية، ما بين توقيف أو احتجاز لعدة ساعات، واعتقال دام أكثر من عشر سنوات . أما عدد المعتقلات (الأسيرات) في الانتفاضة الحالية فقد بلغ عددهن 13 معتقلة، من بينهن فتيات صغيرات يبلغن (14 عاما) . تقرير إخباري: موقع (إسلام أون لاينwww.islamonline.net ) بتاريخ 28/1/2003م(1/265)
إذا كان استئذان الزوج واجباً في خروج المرأة إلى الجهاد غير المتعين، فإن وجوبه في هذه الأعمال من باب أولى، فإن لم يكن لها زوج فلا بد من إذن وليها .
غير أنه يستثنى من هذا الحكم جهاد الدفع إذا تعين على المرأة، فإنه متى تعين عليها الجهاد جاز لها القيام بهذه الأعمال دون إذن زوجها ووليها كما تقرر فيما سبق .
الضابط الخامس) أن تخرج مع زوج أو محرم إن احتاجت للسفر إلا لضرورة :
حكم سفر المرأة إلى الجهاد مع المحرم فيه تفصيل:
1- فإن كان خروجها في جهاد الطلب فلا يجوز لها أن تخرج بدون محرم .
2- وإن كان خروجها في جهاد الدفع فلا يخلو من حالين:
أ- إن تعين الخروج عليها لضرورة دفع العدو فلا اعتبار للمحرم حينئذ .
ب- إن لم يتعين الخروج عليها فلا يجوز لها الخروج بدون محرم .
الضابط السادس) أن تلتزم الحجاب قدر الإمكان :
تقرر فيما سبق وجوب الحجاب على المرأة، وأن عليها أن تستر بدنها كله عن الرجال بناء على القول الراجح القائل بوجوب ستر الوجه والكفين .
وعلى هذا فلا يجوز للمرأة إبداء شيء من بدنها إلا ما ظهر بغير قصد، أو لضرورة تبيح لها الكشف عن شيء مما يجب عليها ستره، كدفع ضرر، أو إنقاذ جريح، أو مداواة، شريطة أن تقدر الضرورة بقدر ما يحصل به المقصود .
وعلى هذا، فإنه متى ما شُرِع للمرأة القيام بالأعمال الفدائية، فإنه يجب عليها أن تستر بدنها قدر الإمكان مراعاة للراجح من أقوال الفقهاء، فإن احتاجت إلى كشف شيء من بدنها، جاز لها كشفه بقدر ما تحتاجه لتنفيذ هذا العمل .
وإذا كان الفقهاء قد رخّصوا للمرأة أن تكشف عورتها في أحوال دون هذه الحالة(1)، فإن الرخصة في حالة قتال العدو من باب أولى، والله أعلم .
الثاني الفصل
__________
(1) ومن هذه الأحوال : عند تحمل الشهادة وأدائها، وحكم القاضي، والولادة، والمداواة، والخطبة،
ينظر: المبسوط10/154-157، مواهب الجليل 3/405، مغني المحتاج 4/215-216، الفروع5/152-153(1/266)
(أحكام الأعمال الفدائية باعتبار من يجوز تنفيذها ضده )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أحكام قتل الكفار
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الكفار
المبحث الأول: أحكام قتل الكفار
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أنواع الكفار عند الفقهاء
المطلب الثاني: العلة في قتل الكفار
المطلب الثالث: من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار
المطلب الرابع: الحالات التي يجوز فيها قتل من لا يجوز قتله أصلاً من الكفار
توطئة:
من المعلوم أن الأحكام المتعلقة بالكافر تختلف باختلاف الحالة التي هو عليها من حرب أو أمان أو عهد أو ذمة .
وبناءً على هذا الاختلاف، فقد قسم الفقهاء الكفار إلى عدة أنواع بحسب هذه الأحوال، وذكروا تحت كل نوع ما يناسبه من أحكام السلم والحرب، وبيان ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: أنواع الكفار عند الفقهاء
من المقرر في الشريعة الإسلامية أن الكفار وإن اشتركوا في الكفر، فإنهم يختلفون تبعاً لأحوالهم من حيث المحاربة والمسالمة .
قال ابن القيم:"الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف:(1/267)
1- أهل ذمة 2- وأهل هدنة 3- وأهل أمان، وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة . ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح . فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد ...، وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض وصلحهم مع الكفار . ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين . وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة . وأما المستأمن: فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها . وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان"(1).
وبعد هذا العرض المجمل، وباستقراء ما ذكره الفقهاء يتبين أن الكفار أربعة أنواع: الذميون، والمعاهدون، والمستأمنون، والحربيون .
وفيما يأتي أذكر نبذة موجزة عن كل نوع من هذه الأنواع :
1)الذميون:
جمع ذمي، والذمي نسبة إلى الذمة، ولها في اللغة عدة معان منها: العقد، والأمان، والكفالة.(2)
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2/873-874
(2) ينظر مادة (ذمم) في: لسان العرب 12/221، القاموس المحيط 1/1434، مختار الصحاح 1/94(1/268)
أما في الاصطلاح، فقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف عقد الذمة .
فهو عند الأحناف: عقد على انتهاء القتال مع الكفار، مع التزامهم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والرضا منهم بالمقام في دار الإسلام .(1)
وعند المالكية:"التزام تقريرهم في دارنا وحمايتهم والذب عنهم بشرط بذل الجزية"(2).
وعند الشافعية:"التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا وحمايتهم والذب عنهم، ببذل الجزية والاستسلام من جهتهم"(3).
وعند الحنابلة:"إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة"(4).
والحاصل من التعريفات أن أهل الذمة هم: (غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة على أساس بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام) .(5)
2)المعاهَدون:
جمع معاهَد، والمعاهَد نسبة إلى العهد، ومن معانيه في اللغة: الأمان، واليمين، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، ورعاية الحرمة .(6)
أما في الاصطلاح، فالعهد عند الأحناف: الصلح على ترك القتال مؤقتاً . (7)
وعند المالكية:"صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام"(8).
وعند الشافعية:"مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يُقَرّ على دينه ومن لم يقر"(9).
وعند الحنابلة:"أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض"(10).
ومن الملاحظ أن عبارات الفقهاء في تعريف العهد متقاربة، وعلى هذا فيمكن تعريف المعاهد بأنه: (كل حربي يكون بين بلاده وبلاد الإسلام صلح مؤقت على ترك القتال) .
__________
(1) شرح السير الكبير 1/191
(2) حاشية الدسوقي 2/200-201
(3) الوجيز 2/197
(4) كشاف القناع 3/116
(5) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ص:224
(6) ينظر مادة (عهد) في: لسان العرب 3/312، القاموس المحيط 1/387، مختار الصحاح 1/192
(7) بدائع الصنائع 7/108
(8) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2/206
(9) مغني المحتاج 6/86
(10) المغني 9/238(1/269)
ويكتسب الكافر وصف المعاهدة من العهد، وهو الصلح الذي يبرمه ولي أمر المسلمين مع دولة الكفار، فيشمل هذا الصلح كل كافر من الدولة المعاهدة .
ويسمّي الفقهاء هذا الصلح العهد والمعاهدة والهدنة والمهادنة والمسالمة والموادعة .
ومما تجدر الإشارة إليه أنه في حال تعدد البلاد الإسلامية - كما هو الحال اليوم - فإن المعاهدة إنما تكون ملزمة بين أطراف المعاهدة فقط، وعلى هذا فإن الحربي الذي ينتمي إلى الدولة المعاهدة إنما يكون معاهداً بالنسبة لمن هم تحت ولاية الدولة الإسلامية التي عقدت المعاهدة، بخلاف الدول الإسلامية الأخرى فإنه يبقى في حكم الحربي تجاه رعايا تلك الدول .(1/270)
ومما يدل على هذا حادثة أبي بصير بعد صلح الحديبية : فعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية ... فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً ... فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ... ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا . فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً . فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قُتِل والله صاحبي وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم . قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويل أمه مِسْعَر حرب لو كان له أحد . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سِيْف البحر . قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم لَمَّا أرسل فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ...الحديث .(1)
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 64 من هذا البحث(1/271)
ووجه الاستدلال: أن أبا بصير وأبا جندل ومن معهما قاما بمحاربة قريش والإغارة على قوافلها، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صالح قريشاً على وضع الحرب . مما يدل على أن أبا بصير ومن معه لم يكونوا ملزمين بعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خاضعين لأحكام الدولة الإسلامية الإقليمية لأنهم كانوا خارج أراضيها، كما جاء في صلح الحديبية، ويدل على ذلك ما جاء في الرواية أن أبا بصير قال: (يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم)، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا، ولقنه الفرار تعريضاً، وتمنى أن يكون معه آخرون لا يكون الصلح ملزماً لهم جميعاً ينصرونه ويعينونه .(1)
فهذا يدل على أن صلح الحديبية إنما كان ملزماً له - صلى الله عليه وسلم - ومن كان تحت ولايته وفي حدود دولته الإقليمية، أما أبو بصير ومن معه فإنهم كانوا في حالة حرب مع قريش وكانوا خارج الأراضي الإسلامية، فلهذا لم يلزمهم مقتضى الصلح .
3)المستأمَنون:
جمع مستأمَن، ويراد بالمستأمِن (بالكسر) الكافر طالب الأمان، و بالمستأمَن (بالفتح) الذي يعطى الأمان فإذا أعطي الأمان اكتسب هذه الصفة .
والأمن أو الأمان في اللغة: معروف، وهو ضد الخوف .(2)
وأما عند الفقهاء فيعرف الأحناف والمالكية والشافعية المستأمن بأنه: الحربي إذا دخل دار الإسلام بأمان .(3)
وعند الحنابلة هو:"الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها"(4).
والحاصل مما تقدم من تعريفات المستأمن أنه:(كل حربي يدخل بلاد الإسلام بأمان مؤقت).
__________
(1) فتح الباري 5/350
(2) ينظر مادة (أمن) في: لسان العرب 13/21، القاموس المحيط 1/1518، مختار الصحاح 1/11
(3) بدائع الصنائع 7/110، الشرح الكبير 2/182، تحرير ألفاظ التنبيه 1/325
(4) أحكام أهل الذمة 2/874(1/272)
وبيان ذلك: أن المستأمنين هم غير المسلمين الذين يدخلون دار الإسلام بأمان مؤقت لأمر يقضيه أحدهم ثم ينصرف بانقضائه، دون أن يكون ملتزماً بأحكام الإسلام أو الذمة بعامة .(1)
4)الحربيون:.
جمع حربي نسبة إلى دار الحرب، ودار الحرب هي أرض الكفار التي ليس بين أهلها وبين المسلمين عهد .(2)
ولا يشترط في كون أهل دار الحرب حربيين أن يكون هناك حرب قائمة فعلاً بين المسلمين وبين أهل تلك الدار، بل إنه متى ما انتفت موانع القتال من عهد أو ذمة أو أمان فإن الكافر لا يخرج عن كونه حربياً مباح الدم .
وعلى هذا فالمراد بالحربيين كل كافر سوى من تقدم ذكره من محقوني الدماء، أي:
(كل كافر لم يدخل في عقد الذمة، ولا يتمتع بأمان المسلمين ولا عهدهم ) .(3)
والأصل في أهل دار الحرب أنهم حربيون مباحو الدم، يجوز قتالهم متى ما بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا عنها .(4)
ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"(5).
المطلب الثاني: العلة في قتل الكفار
اختلف العلماء في العلة التي يقاتل من أجلها الكفار، وبناءً على هذا الاختلاف اختلفوا في استثناء بعض فئات الكفار من عموم القتل، ولهم في هذا قولان:
__________
(1) أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني 1/586
(2) قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:215
(3) ينظر: العناية شرح الهداية 5/441، الكافي في فقه أهل المدينة 1/207-208، الأم 4/176، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/502-503
(4) الفتاوى الهندية 2/193، الأحكام السلطانية للماوردي ص:47
(5) رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (25)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (22)(1/273)
القول الأول: أن العلة في قتل الكفار هي القتال أو إطاقة القتال . وهذا هو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية .(1)
ومن أدلة القول الأول ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } (2).
وجه الاستدلال: أن الآية نصت على قتال الذين يقاتلوننا من الكفار دون غيرهم، وعلى هذا فإن كل من كان من أهل القتال يحل قتله، سواء قاتل أو لم يقاتل، وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض، ونحو ذلك .(3)
ونوقش هذا الاستدلال بأن هذه الآية منسوخة بآيات قتل الكفار عامة .
قال الشافعي:"نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين وفُرِض عليهم في قتالهم ما ذكر الله عز وجل . ثم يقال: نُسِخ هذا كلُّه، والنهيُ عن القتال حتى يقاتلوا، والنهيُ عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } الآية(4). ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد وهي موضوعة في موضعها"(5).
وأجيب بأن الجمع بين الأدلة - على وجه صحيح - متى ما أمكن أولى من القول بالنسخ . وإذا حملنا معنى هذه الآية على أن لا يقاتَل إلا مَن قاتَل، فإن هذا لا يتنافى مع مشروعية قتال الكفار عامة لأن معنى الآية حينئذ: قاتِلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان ونحوهم .(6)
__________
(1) العناية شرح الهداية 5/452، بدائع الصنائع 7/101، مواهب الجليل 3 / 351، المغني 9/249
(2) البقرة: 190 ]
(3) بدائع الصنائع 7/101
(4) البقرة: 193 ]
(5) الأم 4/169
(6) أحكام القرآن لابن العربي 1/148، تفسير القرطبي 2/348(1/274)
قال الطبري بعد أن ساق القولين في الآية:"وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز: [أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم]، لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم والتحكم لا يعجز عنه أحد ...
[إلى أن قال:] وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم ... فمعنى قوله (ولا تعتدوا): لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس"(1).
ويدل على صحة هذا الترجيح في معنى الآية ما سيأتي بيانه من أحاديث النهي عن قتل المرأة ونحوها .
الدليل الثاني: عن رباح بن الربيع(2)- رضي الله عنه - قال:"كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً، فقال: انظر عَلامَ اجتمع هؤلاء . فجاء فقال: على امرأةٍ قتيلٍ . فقال: ما كانت هذه لتقاتِل")(3) (.
وجه الاستدلال: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كانت هذه لتقاتِل) يفيد تعليل الحكم بهذا الوصف، وأن كل من لا يقاتِل لا يجوز قتله .
قال ابن قدامة :"وقد أومأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه العلة في المرأة، فقال: ما بال هذه قتلت، وهي لا تقاتِل"(4).
__________
(1) تفسير الطبري 2/190
(2) رباح بن الربيع (صحابي): رباح بن الربيع الأسدي، ويقال ابن ربيعة، وهو أخو حنظلة بن الربيع الكاتب، يعد في أهل المدينة ونزل البصرة . ينظر: الثقات 3/127، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/486، الإصابة في تمييز الصحابة 2/450
(3) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم (2669)، وابن ماجه في كتاب الجهاد برقم (2842)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/144: حسن صحيح
(4) المغني 9/249(1/275)
الدليل الثالث: المعقول. وبيانه: أن هذه العلة هي الأقرب إلى مقاصد الشريعة في فرض الجهاد، وهو إعلاء كلمة الله تعالى، وأن يكون الدين كله لله، بحيث لا تقف أي قوة في وجه الدعوة الإسلامية.
قال ابن تيمية:"وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة فلا يقتل إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس، ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } (1). أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه"(2).
القول الثاني: أن العلة في قتل الكفار هي الكفر . فيجوز قتل كل كافر، ما لم يدل دليل على استثنائه من هذا الحكم . وهذا نص الشافعي، وهو الأظهر في مذهب الشافعية، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري .(3)
قال الشافعي:"وكل من يحبس نفسه بالترهُّب تركنا قتله اتباعاً لأبي بكر - رضي الله عنه -، وذلك أنه إذا كان لنا أن ندع قتل الرجال المقاتلين بعد المقدرة وقتل الرجال في بعض الحالات لم نكن آثمين بترك الرهبان إن شاء الله تعالى وإنما قلنا هذا تبعاً لا قياساً، ولو أنا زعمنا أنا تركنا قتل الرهبان لأنهم في معنى من لا يقاتل تركنا قتل المرضى حين نغير عليهم، والرهبان، وأهل الجبن، والأحرار، والعبيد، وأهل الصناعات الذين لا يقاتِلون".(4)
__________
(1) البقرة: 217 ]
(2) السياسة الشرعية / 165 مختصراً والآية في سورة [ البقرة: 193 ]
(3) الأم 4/253، مغني المحتاج 6/30، المحلى 5/348
(4) الأم 4/253(1/276)
فالشافعي يعلل ترك قتل الرهبان باتباع وصية أبي بكر، لا بالقياس . لأن علة القتل عنده ليست القتال كما ذهب إليه الجمهور . بل إن الحكم عنده معلق بالعلة أو الوصف الذي صرحت به الآيات الآمرة بقتل المشركين -وهو الكفر- فيجوز قتل كل كافر إلا من نهي عن قتله بخصوصه .
ويجدر بالذكر أن اعتبار الشافعي علة الكفر لا يعني جواز قتل كل كافر مطلقاً لعلة الكفر، بل الحكم عنده مقيد بما إذا لم يلتزم الكافر أحكام الإسلام ويعطي الجزية، أما إذا أعطى الجزية فإنه يحرم دمه، كما نص على ذلك الشافعي نفسه في الأم .(1)
ومن أدلة القول الثاني ما يلي:
الدليل الأول: عموم قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (2).
وجه الاستدلال: قوله تعالى: { فاقتلوا المشركين } عام يفيد قتل سائر المشركين، وأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف .(3)
وعلى هذا، يُقتَل كل مشرك بوجود علة القتل، وهي الإشراك .
ونوقش هذا الاستدلال بأن الآية عامة، مخصوصة بالآيات والأحاديث التي نهت عن قتل من ليس من أهل القتال من الكفار كالمرأة ونحوها، فبقي تحت اللفظ من كان محارباً أو مستعداً للحرابة، وتبين بهذا أن المراد بالآية: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم . (4)
ويؤيد هذا التخصيص العلة التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن قتل المرأة، وهي كونها ليست من أهل القتال .
__________
(1) المصدر السابق 4/186، وينظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1252
(2) التوبة: 5 ]
(3) المحلى 5/348
(4) أحكام القرآن لابن العربي 2/456(1/277)
الدليل الثاني: قوله تعالى: { وقاتلوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (1).
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر في الآية بقتال جميع الكفار ولم يستثن أحداً من أصنافهم، فدل على أن وصف الكفر هو مناط الحكم، فعلى هذا يقتل كل كافر من سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة، وأداء الجزية .(2)
ونوقش الاستدلال من وجهين:
1- عدم التسليم بأن معنى (كافة) في الآية يدل على ما ذكر، بل هو يحتمل أمرين، أحدهما: الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك . والآخر: الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين . فعلى هذا المعنى يكون المراد من الآية حث المؤمنين على الاجتماع والتعاضد وعدم التفرق حال قتال المشركين .(3)
قلت: وهذا المعنى هو الذي اكتفى بذكره ابن جرير الطبري عند تفسير هذه الآية فقال:"وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعاً غير مختلفين مؤتلفين غير مفترقين كما يقاتلكم المشركون جميعاً مجتمعين غير متفرقين"(4).
2- على فرض التسليم بالمعنى الأول - وهو قتال جميع الكفار - فإنه عام مخصوص بأدلة القول الأول الخاصة الدالة على عدم قتل من لا يطيق القتال .(5)
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"(6).
وجه الاستدلال: عموم الحديث يدل على قتال جميع أصناف الكفار دون استثناء حتى يقتلوا أو يسلموا .(7)
__________
(1) التوبة: 36 ]
(2) أحكام القرآن للجصاص 3/163
(3) المصدر السابق
(4) تفسير الطبري 10/128
(5) شرح منتهى الإرادات 1/624
(6) تقدم تخريجه ص: 279 من هذا البحث
(7) الأم 4/252(1/278)
ونوقش هذا الاستدلال بأن عموم الحديث مخصوص بالأدلة الأخرى التي قيدت القتل بمن كان من أهل القتال دون غيره .(1)
الدليل الرابع: المعقول، وبيانه ما أشار إليه الشافعي بقوله:"ولو أنا زعمنا أنا تركنا قتل الرهبان لأنهم في معنى من لا يقاتل، تركنا قتل المرضى حين نغير عليهم، والرهبان، وأهل الجُبْن، والأحرار، والعبيد، وأهل الصناعات الذين لا يقاتلون ."(2)
ومعنى كلامه أنه لو كانت علة القتل هي المقاتلة، للزم من هذا التعليل عدم قتل من لم يباشر القتال ممن يجوز قتله من المطيقين كالجبناء وأهل الصناعات وغيرهم، وهؤلاء لم يقل أحد بقتلهم، مع أنهم لم يقاتلوا .
ونوقش هذا الاستدلال بأنه غير مسلم، لأن مراد الجمهور بأن علة القتل المقاتلة هو إمكان القتال لا مباشرة القتال .
قال ابن رشد:"والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحداً من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف"(3).
الترجيح
بالنظر في أدلة القولين وما ورد عليها من مناقشات، يتبين أن القول الراجح في علة قتل الكفار هو قول الجمهور القائلين بأن علة قتل الكفار إطاقة القتال .
وإذا تبين أن هذا الوصف هو مناط الحكم في هذه المسألة، فإننا ننظر في أنواع الكفار، فمن أطاق القتال منهم وتأتّى منه جاز قتله، ومن لم يطق القتال ولم يتأت منه لم يجز قتله .
وتحقيقاً لهذا المناط، أعرض فيما يلي أصناف من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار .
المطلب الثالث: من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار
من خلال ما تقدم آنفاً يمكن أن نقسم الكفار من حيث جواز قتلهم من عدمه إلى قسمين، وهذ ما سأبيّنه في هاتين المسألتين .
__________
(1) فتح القدير 5/438
(2) الأم 4/254
(3) بداية المجتهد 1/281(1/279)
المسألة الأولى) من يجوز قتله من الكفار :
ذكرت في مبحث العلة في قتل الكفار: أن الجمهور يرون أن العلة في قتل الكفار هي إطاقتهم القتال والمحاربة وتأتّيها منهم، فكل من أطاق القتال من أهل الحرب يجوز قتله وإن لم يباشر القتال، إلا من استثني من هذا الحكم كالمستأمنين، والمعاهدين، وأهل الذمة . وهم من عدا المحاربين .
وإذا كان الجمهور قد أجازوا قتل المطيقين للقتال من الكفار، فمن باب أولى أن يجيز الشافعية قتلهم لأنهم كما تقدم يرون جواز قتل كل كافر إلا من استثني كما سيأتي بيانه .
ولهذا، حكى ابن حزم الإجماع على هذا الحكم،فقال: واتفقوا أن قتل بالغيهم ما عدا الرهبان والشيوخ الهرمين والعميان والزمنى والأجراء والحراثين وكل من لا يقاتل جائز قبل أن يؤسروا.(1)
وعلى هذا فكل كافر محارب يجوز قتله، ما لم يدخل في عهد المسلمين أو أمانهم أو ذمتهم فإنه يكون معصوم الدم ما دام على ذلك .
قال ابن العربي:"قوله تعالى: { فاقتلوا المشركين } : عام في كل مشرك لكن السنة خصت منه من تقدم ذكره قبل هذا من امرأة وصبي، وراهب، وحشوة، حسبما تقدم بيانه، وبقي تحت اللفظ من كان محارباً أو مستعداً للحرابة والإذاية، وتبين أن المراد بالآية: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم"(2).
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يشترط لجواز قتل الحربيين أن تكون الحرب قائمة بالفعل، فإن الحربيين أنواع: منهم الذين يقاتلون المسلمين بالفعل، ومنهم من أعلنوا الحرب على المسلمين، ومنهم من ظاهروا أعداء المسلمين عليهم وناصروهم، أو ضيّقوا على المسلمين وفتنوهم في دينهم، ومنهم من ليس بينهم وبين المسلمين عهد وإن لم يقاتلوا، فكل هؤلاء ما داموا على هذه الحال فإنهم محاربون يجوز قتالهم .(3)
__________
(1) مراتب الإجماع 1/119
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 456
(3) بدائع الصنائع 7/131، شرح السير الكبير 4/1443-1446، الفواكه الدواني 1/395، الأم 8/385(1/280)
المسألة الثانية) من لا يجوز قتله من الكفار :
يطلق القانونيون المعاصرون على غير المقاتلين مصطلح (المدنيين)، وهم: الذين لا يمارسون الأعمال الحربية، وينبغي للعدو احترامهم .(1)
ويمكن أن نقسم المدنيين الحربيين من حيث الاتفاق والاختلاف في جواز قتلهم إلى قسمين: قسم اتفق العلماء على عدم جواز قتلهم وبالتالي فإنهم يكونون مدنيين لا يجوز قتلهم، وآخر اختلف العلماء في جواز قتلهم وكونهم مدنيين، وبيان ذلك فيما يلي .
أولاً ) أصناف الكفار الذين لا يجوز قتلهم بالاتفاق:
اتفق أهل العلم على عدم جواز قتل خمسة أصناف من المدنيين الحربيين، وهم: النساء والصبيان(2)، والخَناثَى المشكلين(3)، والرسل(4)، والمجانين(5).
ومن أدلة تحريم قتل هذه الأصناف ما يلي:
أولاً ] من أدلة تحريم قتل المرأة والصبي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } (6).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولا تعتدوا):"لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم"(7)
__________
(1) القانون الدولي العام للبشير ص:434، قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:215
(2) بدائع الصنائع 7/101، مواهب الجليل 3 /351-352، أسنى المطالب 4/190، كشاف القناع 3/48
(3) بدائع الصنائع 7/329، المجموع 2/61، كشاف القناع 3/50
(4) شرح السير الكبير 5/1787، الذخيرة 3/446، أسنى المطالب 4/191، المغني 9/197
(5) فتح القدير 5/454، التاج والإكليل 4/543، أسنى المطالب 4/190، كشاف القناع 3/48
(6) البقرة: 190 ]
(7) رواه الطبري في تفسيره 2/190، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/325 كلاهما من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح الجهني عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وهذا الأثر إسناده ضعيف لأمرين:
الأمر الأول: الانقطاع لأنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد مضى الكلام عليها في الصفحة 254
الأمر الثاني: فيه عبد الله بن صالح الجهني المصري كاتب الليث : "صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة"كما في تقريب التهذيب 1/308
وينظر في ترجمته: الكامل في الضعفاء 4/206، تهذيب الكمال 15/98، ميزان الاعتدال 4/121(1/281)
.
وجه الاستدلال: أن الأمر بالقتال في الآية مقيد بمن كان من أهل القتال من الكفار، ونساءُ الكفار وأطفالُهم ليسوا ممن يقاتل في الأغلب، فلا يجوز قتلهم .(1)
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدَت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان"(2).
وجه الاستدلال: الحديث صريح في النهي عن قتل النساء والصبيان، فيكون هذا الحديث مخصصاً لعموم الأدلة الآمرة بقتل الكفار مطلقاً .(3)
الدليل الثالث: عن رباح بن الربيع - رضي الله عنه - قال:"كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً، فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء . فجاء فقال: على امرأةٍ قتيلٍ . فقال: ما كانت هذه لتقاتِل . قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلاً فقال: قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً"(4).
وجه الاستدلال: أن قوله: (ما كانت هذه لتقاتِل) يفيد أن علة القتل وهي إطاقة القتال منتفية عن المرأة فلا تقتل، ولهذا صرح بعده بالنهي عن قتل المرأة . (5)
الدليل الرابع: الإجماع: فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على عدم جواز قتل النساء والصبيان .
قال ابن الهمام(6):"وما الظنّ إلا أن حرمة قتل النساء والصبيان إجماع"(7).
__________
(1) التمهيد 16/138
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم ( 3015 ) واللفظ له، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم ( 1744 )
(3) فتح الباري 6/148
(4) تقدم تخريجه ص: 282 من هذا البحث
(5) المغني 9/249
(6) ابن الهمام: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام ، إمام من علماء الحنفية عارف بأصول الدين والتفسير والفقه والمنطق، ومن مؤلفاته: فتح القدير في شرح الهداية، التحرير في أصول الفقه، ت:861هـ .
ينظر: شذرات الذهب 7/289، الأعلام 6/255
(7) فتح القدير 5/453(1/282)
وقال ابن عبد البر(1) - بعد أن ساق حديث النهي عن قتل النساء والصبيان -:"وأجمع العلماء على القول بجملة هذا الحديث، ولا يجوز عندهم قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم"(2).
وقال النووي - تعليقاً على حديث ابن عمر -:"أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا"(3).
وقال ابن حجر:"واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر"(4).
الدليل الخامس: المعقول، وبيانه: أن عدم قتل المرأة والصبي هو الأقرب إلى مقاصد الجهاد في الشريعة من إقامة الدين، وتعبيد الناس لرب العالمين .
ووجه ذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية:"أن الله تعالى أباح من قتل النفوس، ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } (5). أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ."(6)
ثانياً ] من أدلة تحريم قتل الرسل:
الدليل الأول: ما جاء في قصة رسولي مسيلمة الكذاب عندما قَدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب مسيلمة .
__________
(1) ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب، ساد أهل زمانه في الحفظ والإتقان، له مصنفات جليلة، منها: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، وغيرها، ت:463هـ . ينظر: تذكرة الحفاظ 3/1128، طبقات الحفاظ 1/431، الأعلام 8/240
(2) التمهيد 16/138
(3) شرح صحيح مسلم للنووي 12/48
(4) فتح الباري 6/148
(5) البقرة: 217 ]
(6) السياسة الشرعية ص:165 ، والآية في سورة [ البقرة: 193 ](1/283)
قال نعيم بن مسعود - رضي الله عنه -:"سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهما حين قرأ كتاب مسيلمة: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال . قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما"(1).
وجه الاستدلال: أن قوله (لولا أن الرسل لا تقتل) يفيد أن المانع من قتل الرجلين هو ما استقر من سنته - صلى الله عليه وسلم - من تحريم قتل الرسل، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمّن رسل المشركين . (2)
بل إن الحديث فيه دلالة على تحريم قتل رسل الكفار وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام .(3)
الدليل الثاني: المعقول، وبيانه: أن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا، فتفوت مصلحة المراسلة والسفارة بين الطرفين . (4)
ومن المعلوم أن الرسل هم مفاتيح العلاقات بين الدول، وهم وسائطها في حل الخلافات، فضلاً عن أن قتلهم ضرب من ضروب الغدر، فوجب صيانتهم وتجنب قتلهم .(5)
ثالثاً ] دليل تحريم قتل المجانين:
عموم الأدلة التي تفيد أن المجنون غير مكلف ولا مخاطب فلا يُقتَل، إلا أن يقاتِل فيُقتَل دفعاً لشره .(6)
رابعاً ] دليل تحريم قتل الخَناثَى المشكلين:
الخناثى جمع خنثى، وهو من لم تتبين ذكورته من أنوثته فيقال له: خنثى مشكل . وسبب منع قتله احتمال أنوثته، فلا يقتل مع احتمال وجود المانع من قتله، ولأنه ليس من أهل القتال في الغالب لعدم تمام ذكورته .(7)
ثانياً ) أصناف الكفار الذين اختلف في جواز قتلهم:
__________
(1) رواه أحمد 1/396، و أبو داود في كتاب الجهاد برقم (2761)، والحاكم في المستدرك 2/155 وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/174
(2) المغني 9/197
(3) عون المعبود 7/314
(4) المغني 9/197
(5) قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:222
(6) فتح القدير 5/454
(7) أسنى المطالب 4/190، كشاف القناع 3/50(1/284)
اختلف أهل العلم في جواز قتل الشيخ الفاني، والراهب(1)، والأجير، والأعمى، والزَمِن، والتاجر ونحوهم، وهل هؤلاء من المدنيين الحربيين أم لا ؟، وذلك على قولين:
القول الأول: عدم جواز قتل الشيخ الفاني، والراهب، والأجير، والأعمى، والزَمِن ونحوهم. وإليه ذهب الأحناف(2)، والمالكية(3)، والحنابلة(4)، وهو أحد القولين - المقابل للأظهر- عند الشافعية .(5)
ومن أدلة القول الأول ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وقالوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } (6).
وجه الاستدلال: أن الآية أمرت بقتال الذين يقاتلوننا من الكفار، وهؤلاء الأصناف ليسوا من أهل القتال، فلا يجوز قتلهم .(7)
__________
(1) المراد بالرهبان هنا: الذين يعتصمون في الصوامع والجبال ولا يخالطون الناس . لأن الرهبان نوعان:
1- أصحاب الصوامع الذين يعتزلون في صوامعهم أو السيّاحون في الجبال الذين طينوا على أنفسهم الأبواب، ولم يخالطوا الناس: فهؤلاء لا يُقتلون، لوقوع الأمن من جانبهم، فإنهم لا يقاتلون بنفس أو مال ولا رأي .
2- القسّيسون، والشمامسة (جمع شَمَّاس: من رؤساء النصارى، يحلق وسط رأسه ويكون ملازماً للبيعة . المغرب ص:256) إذا كانوا يخالطون الناس، إما خروجاً إليهم أو إذناً لهم في الدخول عليهم، ويحثونهم على قتال المسلمين والصبر على دينهم: فهؤلاء يُقتلون كالمقاتلين . شرح السير الكبير 4/1429-1430
وينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/353، المنتقى شرح الموطأ 3/167، الأم 4/253-254، الإنصاف 4/128
(2) المبسوط 10/137
(3) مواهب الجليل 3 / 350
(4) المغني 9/249
(5) مغني المحتاج 6/29
(6) البقرة: 190 ]
(7) المغني 9/250(1/285)
ونوقش هذا الاستدلال بما تقدم ذكره من أن الآية منسوخة . وأجيب بأن الراجح أن الآية محكمة وأن معناها قتال المطيقين للقتال، وهو الذي تجتمع به الأدلة .(1)
الدليل الثاني: عن رباح بن الربيع - رضي الله عنه - قال:"كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً، فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء . فجاء فقال: على امرأةٍ قتيلٍ . فقال: ما كانت هذه لتقاتل . قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلاً فقال: قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً(2)"(3).
وجه الاستدلال: دل الحديث على عدم جواز قتل هؤلاء الأصناف، من وجهين:
1- أنه - صلى الله عليه وسلم - علل القتل بالمقاتلة في قوله (ما كانت هذه تقاتل) فثبت أن حكم القتل معلل بالمقاتلة فلزم قتل ما كان مظنة له، بخلاف ما ليس إياه .(4)
2- أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بالنهي عن قتل العُسَفاء وهم الأجراء، وفي معناهم من كان في مثل حالتهم من أهل المهن والحرف . لأن المعنى المبيح للقتل لا يتحقق منهم، ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف .(5)
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"(6).
وجه الاستدلال: الحديث صريح في النهي عن قتل الشيوخ .(7)
__________
(1) ينظر ص: 281 من البحث
(2) العسيف: الأجير . وقيل: الشيخ الفاني، وقيل: العبد . النهاية 3/236
(3) تقدم تخريجه ص: 282 من هذا البحث
(4) فتح القدير 5/453
(5) المصدر السابق
(6) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم (2614)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص:201
(7) شرح معاني الآثار 3/225، المغني 9/250(1/286)
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأنه ضعيف الإسناد كما هو مبين في الهامش، فلا يصح الاحتجاج به .
الدليل الرابع: قول الصحابي . فعن يحيى بن سعيد الأنصاري(1)أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث جيوشاً إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير رَبْع(2)من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل . فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله . ثم قال له: إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله(3)-بزعمهم- فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر(4)فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف(5)، وإني موصيك بعشر، لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تُخَرِّبَن عامراً، ولا تَعْقِرن شاة ولا بعيراً إلا لمَأْكَلَة، ولا تُحَرِّقن نحلاً ولا تُغْرِقنه، ولا تَغْلُل ولا تجبن"(6)
__________
(1) يحيى بن سعيد: أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري النجاري المدني، الإمام شيخ الإسلام الحافظ المجود، عالم المدينة في زمانه، قاضي المدينة ثم قاضي القضاة للمنصور،ت:143هـ . ينظر: تهذيب الكمال 31/346، تذكرة الحفاظ 1/137، سير أعلام النبلاء 5/468
(2) الرَّبْع: المَحَلَّة، يقال: ما أَوسع رَبْعَ بني فلان . لسان العرب مادة (ربع) 8/102
(3) حبسوا أنفسهم لله: المراد به الرهبان الذين لا يقاتلون بسبب انعزالهم وعدم مخالطتهم الناس . شرح الزرقاني 3/17
(4) وستجد قوما فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر: يعني الشمامسة وهم رؤساء النصارى . شرح الزرقاني 3/17
(5) فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف: أي اقتلهم . شرح الزرقاني 3/17
(6) رواه مالك في الموطأ برقم (982)، وعبد الرزاق في المصنف 5/199، وابن أبي شيبة في المصنف 6/483، والبيهقي في السنن الكبرى 9/89
…وفي سنده انقطاع لأن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك أبا بكر، بل وُلد بعد وفاته . ولهذا قال يحيى كما في مصنف ابن أبي شيبة 6/483:" حُدِّثْتُ أن أبا بكر بعث جيوشاً إلى الشام ... الحديث" فصرح بأنه لم يسمعه من أبي بكر . وينظر: الاستذكار 5/27، والمحلى 5/350(1/287)
.
وجه الاستدلال: أن أبا بكر - رضي الله عنه - نهى عن قتل من الرهبان الذين يعتزلون الناس، والشيوخ الكبار، والمراد من لا يكون منه قتال من هذه الأصناف .(1)
ونوقش الاستدلال بهذا الأثر أن إسناده ضعيف لوجود الانقطاع بين يحيى بن سعيد الأنصاري وأبي بكر الصديق .(2)
الدليل الخامس: القياس . وبيانه: أن هذه الأصناف من الكفار لا يجوز قتلها قياساً على المرأة بجامع علة عدم إطاقة القتال، وهي العلة التي أومأ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ما كانت هذه لتقاتل) .(3)
القول الثاني: جواز قتل الشيخ الفاني، والراهب، والأجير، والأعمى، والزمنى ونحوهم . وهو الأظهر في مذهب الشافعية، ونص عليه الشافعي، واختاره ابن المنذر(4)، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري .(5)
ومن أدلة القول الثاني ما يلي:
الدليل الأول: عموم آيات قتل المشركين كقوله تعالى: { ((وقاتلوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (6)، وقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (7).
__________
(1) شرح الزرقاني 3/17
(2) المحلى 5/350
(3) المبسوط 10/137، المغني 9/250
(4) ابن المنذر: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الفقيه المجتهد أحد الحفاظ، شيخ الحرم بمكة، صاحب المؤلفات النافعة مثل: الأوسط، الإجماع، الإشراف على مذاهب أهل العلم، وغيرها، ت:319هـ .
ينظر: طبقات الشافعية 2/98، سير أعلام النبلاء 14/490، الأعلام 5/294
(5) الأم 4/253، مغني المحتاج 6/30، المغني 9/250، المحلى 5/348
(6) التوبة: 36 ]
(7) التوبة: 5 ](1/288)
وجه الاستدلال: أن الآية تتناول بعمومها الشيوخ . قال ابن المنذر: لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها من عموم قوله: (فاقتلوا المشركين) .(1)
ونوقش هذا الاستدلال بأن الآية عامة مخصوصة بالأدلة الخاصة الواردة في النهي عن قتل هؤلاء، وبالقياس على المرأة، وتقدما آنفاً .(2)
الدليل الثاني: عن سمرة بن جندب(3)- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شَرْخهم(4)"(5)
__________
(1) المغني 9/249
(2) المصدر السابق 9/250
(3) سمرة بن جندب (صحابي): سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة، وله أحاديث صالحة، نزل البصرة وكان زياد يستخلفه عليها إذا سار إلى الكوفة، وكان شديداً على الخوارج فكانوا يطعنون عليه، ت:58هـ، وقيل59هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/653، سير أعلام النبلاء 3/183، الإصابة في تمييز الصحابة 3/178
(4) قال ابن الأثير في النهاية2/457 :"أراد بالشيوخ: الرِّجَال المَسانّ أهل الجلد والقوة على القتال ولم يرد الهَرمَى، والشَّرْخُ: الصّغار الذين لم يُدْرِكوا".
(5) رواه أحمد 5/12، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2670)، والترمذي في كتاب السير برقم (1583) وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن أبي شيبة في المصنف 6/485، والطبراني في الكبير 7/216، والبيهقي في السنن الكبرى 9/92
…والحديث فيه علتان:
العلة الأولى: أنه من رواية الحسن البصري عن سمرة بن جندب وهي مختلف فيها بين أهل الحديث، فذهب بعضهم أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة الذي جاء في البخاري . جامع التحصيل 1/92، نصب الراية 3/386
…ويرى آخرون كالبخاري أن سماع الحسن من سمرة صحيح . التاريخ الأوسط 1/247، تهذيب الكمال 6/98، سير أعلام النبلاء 3/184
العلة الثانية: فيه قتادة بن دعامة السدوسي: وهو على إمامته موصوف بالتدليس . تهذيب الكمال 23/498، جامع التحصيل 1/254، ميزان الاعتدال 5/466
ونقل ابن حجر أن قتادة من الطبقة الثالثة من المدلسين، وهم مَن أكثرَ من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع . طبقات المدلسين 1/43
وقد روى الحديث معنعناً ولم يصرح بالتحديث .
وقد صحح الترمذي هذا الحديث كما تقدم . وخالفه عبد الحق الإشبيلي فضعفه . خلاصة البدر المنير 2/343، وممن ضعفه كذلك ابن حزم في المحلى 5/350-351، وضعفه من المتأخرين الألباني كما في ضعيف سنن أبي داود ص:204(1/289)
.
وجه الاستدلال: الحديث نص في الأمر بقتل شيوخ الكفار مطلقاً، وترك غلمانهم وهم المراهقون الذين لم يبلغوا .(1)
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
1- أن الحديث ضعيف الإسناد، فلا يصح الاحتجاج به كما ذكر ابن حزم مع أنه ممن يقول بجواز قتل شيوخ الكفار .(2)
2- أنه لا تعارض بين هذا الحديث - على فرض صحته - ويبن أحاديث النهي عن قتل الشيوخ، فيحمل هذا الحديث على الشيخ الذي يطيق القتال أو يكون له رأي فيه، بدليل ذكره في مقابل الغلام الذي لم ينبت، فيكون معنى الحديث: النهي عن قتل الصغير الذي لم ينبت، والأمر بقتل الكبير ومنه الشيخ الذي يطيق القتال، بخلاف الهرم أو الفاني كما جاء في الأحاديث الأخرى .
قال ابن قدامة:"وأما حديثهم، فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير، جمعاً بين الأحاديث"(3).
3- أن أحاديث تحريم قتل الشيوخ خاصة في الهرم، وهذا الحديث عام في الشيوخ كلهم، والخاص يقدم على العام .(4)
الدليل الثالث: عن عطية القُرَظي(5)- رضي الله عنه - قال: عُرِضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قُرَيظة فكان من أنبت قُتِل، ومن لم ينبت خُلِّي سبيلُه، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي .(6)
__________
(1) أسنى المطالب 4/190
(2) المحلى 5/350-351
(3) المغني 9/250
(4) المصدر السابق
(5) عطية القُرَظي (صحابي غير مشهور): قال ابن عبد البر: لا أقف على اسم أبيه وأكثر ما يجىء هكذا عطية القرظي، كان من سبي بنى قريظة ووجد يومئذ ممن لم ينبت فخلى سبيله، ولا يعرف له غير حديثه يومئذ .
ينظر: تهذيب الكمال 20/157، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1072، تهذيب الأسماء 1/308، الإصابة في تمييز الصحابة 4/512
(6) رواه أبو داود في كتاب الحدود برقم (4404)، والنسائي في كتاب قطع يد السارق برقم (4981)، والترمذي في كتاب السير برقم (1584) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/57(1/290)
وجه الاستدلال: قال ابن حزم:"فهذا عموم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستبق منهم عسيفاً، ولا تاجراً، ولا فلاحاً، ولا شيخاً كبيراً، وهذا إجماع صحيح منهم رضي الله عنهم متيقن ; لأنهم في عرض من أعراض المدينة لم يخف ذلك على أحد من أهلها"(1).
ونوقش هذا الاستدلال بأن حادثة بني قريظة واقعة حال لا عموم لها لتطرق الاحتمال إليها، وقد وقعت هذه الحادثة في ظروف خاصة عندما نقضت قريظة العهد، ولم ينكر أحد منهم النقض إلا عمرو بن سعد الذي عارضهم وخرج من عندهم، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا نقض بعض القوم العهد وأقرهم الباقون ورضوا به ؛ غزا الجميع كلهم وجعلهم ناقضين للعهد .(2)
الدليل الرابع: المعقول، وبيانه: أن الشيخ كافر لا نفع في حياته، فيقتل كالشاب .(3)
ومؤدى هذا القياس أن كل كافر لا نفع فيه يجوز قتله .
ونوقش هذا الاستدلال بأن هذا القياس ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها .(4)
فالمرأة العجوز إنسان كافر لا نفع فيه، أفيقول الشافعية بجواز قتلها ؟
فإن قالوا: نعم . فقد خالفوا الدليل ونقضوا قولهم إذ هم يقولون بعدم جواز قتلها، وهو مما لا خلاف بين أهل العلم فيه .
وإن قالوا - وهو الحق -: لا . فقد انتقض قياسهم، فلا يصح الاحتجاج به، وهذا هو المطلوب .
الدليل الخامس: من المعقول أيضاً، وبيانه: أن هؤلاء الكفار أحرار مكلفون فجاز قتلهم قياساً على غيرهم .(5)
ونوقش هذا الدليل بأن هذا القياس منتقض بما تقدم ذكره في الجواب على الدليل السابق، ثم إنه قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابل النص الذي تقدم ذكره في النهي عن قتل من لا يقاتل .
الترجيح
__________
(1) المحلى 5/351
(2) زاد المعاد 2/72-73، قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:231
(3) المغني 9/250
(4) المصدر السابق
(5) مغني المحتاج 6/29(1/291)
مما تقدم بيانه من أدلة الفريقين وما ورد عليها من مناقشات يتبين أن الراجح من القولين في هذه المسألة - والله أعلم - هو قول الجمهور . وعليه يكون الأصل عدم جواز قتل المدنيين الحربيين الذين ليسوا من أهل القتال والممانعة، إلا في الأحوال المستثناة كما سيأتي بيانه .
ومما يؤيد هذا الترجيح أنه يتمشى مع مقاصد الجهاد، وقواعد الشريعة العامة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير هذا الحكم:"وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله ... وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس، ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } (1). أي أن القتل، وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه"(2).
ضابط التفريق بين الحربيين والمدنيين (بحسب قول الجمهور الراجح):
في ضوء ما تقدم يتلخص لنا في التفريق بين هذين الصنفين ما يلي:
1- المقاتلون الحربيون هم: كل من كانت له بِنية صالحة للقتال ويتأتّى منه القتال، وإن لم يباشر القتال بسبب عارض يمنعه منه مؤقتاً .
2- المدنيون الحربيون هم: كل من لم يكن له بنية صالحة للقتال، أولا يتأتّى منه القتال، أولم يباشر القتال بسبب دائم .(3)
__________
(1) البقرة: 217 ]
(2) السياسة الشرعية / 165 والآية في سورة [ البقرة: 193 ]
(3) شرح السير الكبير 4/1429-1444، وأصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني 2/1063(1/292)
وبناءً على هذا يجوز مثلاً قتل الجريح والمريض مرضاً مؤقتاً والشيخ ذي القوة والسكران، لأن هؤلاء غير مدنيين أصلاً، ويتأتّى منهم القتال من الكفار. بينما لا يجوز قتل الزمنى وذوي الأمراض المزمنة كالمشلول والشيخ الفاني .
المطلب الخامس: الحالات التي يجوز فيها قتل من لا يجوز قتله أصلاً من الكفار
تقرر فيما سبق أن الأصل في المدنيين الحربيين أنه لا يجوز قتلهم نظراً لكونهم ليسوا من أهل الممانعة والمقاتلة، لكن الفقهاء ذكروا حالات خارجة عن أصل الحكم يجوز فيها قتل المدنيين الحربيين، ومن هذه الحالات ما يلي:
الحالة الأولى ] المشاركة في القتال بصوره المباشرة وغير المباشرة:
لا خلاف بين أهل العلم في جواز قتل المدنيين الحربيين إذا شاركوا في القتال .(1)
ومن صور المشاركة في القتال ما يلي:
أ-مباشرة القتال فعلاً:
ومن أدلة جواز قتل المدنيين الحربيين في هذه الصورة ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } (2).
وجه الاستدلال: أن الآية أمرت بقتال من يقاتلنا من الكفار، فإذا وجد من هؤلاء المعنى المبيح للقتل حقيقة وهو القتال جاز قتلهم .(3)
الدليل الثاني: مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما كانت هذه لتقاتل" في الحديث المتقدم .(4)
وجه الاستدلال: الحديث يدل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة لأنها لا تقاتل، ومفهومه أنها لو قاتلت جاز قتلها . وفي معنى المرأة من ذكر من أصناف الكفار، لأنهم إنما حَرُم قتلهم لأنهم في العادة لا يقاتلون، فإذا قاتلوا جاز قتلهم .(5)
__________
(1) العناية شرح الهداية 5/453، فتح القدير 5/453، مواهب الجليل 3 / 351، الأحكام السلطانية للماوردي ص:51، المغني 9/249
(2) البقرة: 190 ]
(3) المبسوط 10/137
(4) تقدم تخريجه ص: 282 من هذا البحث
(5) المغني 9/249(1/293)
الدليل الأول: المعقول، وبيانه: أنه إذا كان يجوز قتل كل من له بنية صالحة للمحاربة إذا تأتّى القتال منه، فلأن يباح قتل من وجد منه حقيقة القتال من باب أولى، لأنه باشر السبب الذي به وجب قتاله .(1)
ومما يستأنس به في هذا المقام في قتل المدنيين إذا اشتركوا في الحرب ما أورده أهل السير في قصة استشهاد خلاد بن سويد(2) - رضي الله عنه - يوم قريظة . فقد ذكر الواقدي(3) أن خلاد بن سويد بن ثعلبة الخزرجي دلّت عليه امرأة من بني قريظة رحىً فشدخت رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"له أجر شهيدين"، وقتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به .(4)
ب-أن يكون له رأي أو مشورة في الحرب .
ومن أدلة جواز قتل المدنيين الحربيين في هذه الصورة ما يلي:
__________
(1) شرح السير الكبير 4/1415-1416
(2) خلاد بن سويد (صحابي): خلاد بن سويد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً، واستشهد يوم قريظة، طرحت عليه امرأة منهم رحى فشدخته . ينظر: الطبقات الكبرى 3/530، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/451، الإصابة في تمييز الصحابة 2/340
(3) الواقدي: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواسطي مولاهم المدني، الحافظ البحر، ولي قضاء بغداد وكان له رئاسة وجلالة وصورة عظيمة، وهو من أوعية العلم ورأس في المغازي والسير، على ضعفه وعدم اتقانه الحديث، فقد كذبه أحمد، وتركه ابن المبارك وغيره، وقال النسائي وابن معين: ليس بثقة، ت: 207هـ . ينظر: تذكرة الحفاظ1/348، سير أعلام النبلاء 9/454، طبقات الحفاظ 1/149
(4) السنن الكبرى للبيهقي 9/82، الطبقات الكبرى 3/530، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/451، الإصابة في تمييز الصحابة 2/340
قال البيهقي في السنن الكبرى 9/82:" وهذا من قول ابن إسحاق والواقدي، منقطع".(1/294)
الدليل الأول: عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:"لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين بعث أبا عامر(1)على جيش إلى أوطاس، فلقي دُرَيد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه ... الحديث (2).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر قتل دريد بن الصمة مع أنه قد شاخ، لأنه كان ذا رأي في الحرب .
وفي هذا يقول الشافعي:"قَتَل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين دريد بن الصمة وهو في شِجار(3)مطروح لا يستطيع أن يثبت جالساً، وكان قد بلغ نحواً من خمسين ومائة سنة فلم يعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله"(4).
وقال السرخسي:"وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك، فإن دريد بن الصمة قُتِل يوم حنين، وكان ابن مائة وستين سنة وقد عمي، وكان ذا رأي في الحرب"(5).
وقال ابن قدامة:"وكانوا خرجوا به [أي دريد] معهم، يتيمّنون به، ويستعينون برأيه، فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتله"(6).
__________
(1) أبو عامر الأشعري (صحابي): عبيد بن سليم بن حضار الأشعري، من كبار الصحابة، وهو عم أبي موسى الأشعري، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من حنين على جيش إلى أوطاس سنة ثمان للهجرة فقتل يومئذ أميراً، فلما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله رفع يديه يدعو له أن يجعله الله فوق كثير من خلقه . ينظر: الطبقات الكبرى 4/357، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1704، الإصابة في تمييز الصحابة 7/252
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم ( 4323 )، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم ( 2498 )
(3) الشِّجار: مركب أَصغر من الهودج مكشوف الرأس . لسان العرب مادة (شجر) 4/397
(4) الأم 2/254
(5) المبسوط 10/137
(6) المغني 9/249(1/295)
الدليل الأول: المعقول، وبيانه: أن الرأي من أعظم المعونة في الحرب، وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسود: أمددتما علياً بقيس بن سعد، وبرأيه ومكايدته، فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل، ما كان بأغيظ لي من ذلك .(1)
ج-تولي الملك أو الأمر:
وهذا مما نص عليه الأحناف، فقد جاء في العناية: أن المرأة تقتل إذا كانت ملكة، وعللوه بأن المرأة متى ما كانت ملكة فإن ضررها يتعدى إلى العباد .(2)
وذكر ابن الهمام في شرحه فتح القدير: أن الصبي والمعتوه كذلك إذا تولوا الملك .(3)
وغير هؤلاء من المدنيين مثلهم في الحكم . لأنه متى ما ولي أحدهم الأمر والتدبير، كان قتله من باب أولى لأنه هو الذي يقرّ الرأي ويختاره، وإن لم يكن له رأي . ثم إن في قتله كسراً لشوكة الكفار، وإضعافاً لهم .
د-التحريض والتشجيع على القتال:
نص الأحناف على أن من الحالات التي يجوز فيها قتل المدنيين: صياحهم عند التقاء الصفين، وتحريضهم المقاتلين على الحرب .(4)
وقال ابن العربي:"وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، فقد كن يخرجن ناشراتٍ شعورهن، نادباتٍ، مثيراتٍ للثأر، معيراتٍ بالفرار وذلك يبيح قتلهن"(5).
هذا، وفي حكم الصياح وتشجيع العدو، ما يقابله من تخذيل وإضعاف نفوس المسلمين كسبّهم وشتمهم، أو تكشف المرأة لهم، ونحو ذلك .
جاء في أسنى المطالب:"وفي معنى القتال سب المرأة والخنثى للمسلمين"(6).
__________
(1) المغني 9/249، شرح معاني الآثار 3/225
(2) العناية شرح الهداية 5/453
(3) فتح القدير 5/454
(4) المصدر السابق 5/453
(5) أحكام القرآن لابن العربي 1/148
(6) أسنى المطالب 4/190(1/296)
وقال ابن قدامة:"ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم، فشتمت المسلمين، أو تكشفت لهم، جاز رميها قصداً ... وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام، أو تسقيهم، أو تحرضهم على القتال ; لأنها في حكم المقاتل . وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم"(1).
ومما يدخل في التحريض على القتال نظم الشعر أو التغني به في الأسواق تشجيعاً للجند .
ومن المعلوم ما للشعر والبيان من أثر على الحالة النفسية للمقاتلين، بل قد يكون أشد وقعاً من الأسلحة المادية .
فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة(2)بين يديه يمشي وهو يقول: …خلُّوا بني الكفار عن سبيله… اليومَ نضربْكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيله … ويُذْهِل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"(3).
وهل من صور التحريض والتشجيع الذي تبيح القتل نظم النساء ونحوهن الشعر في مدح القتال، وذم الفرار إذا قلنه في بيوتهن ؟
نص بعض المالكية على أن هذا لا يعتبر مبيحاً لقتلهن .
__________
(1) المغني 9/231
(2) عبد الله بن رواحة (صحابي): أبو عمرو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امريء القيس الأنصاري الخزرجي، الأمير السعيد الشهيد البدري النقيب الشاعر، كان أحد شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، شهد العقبة والمشاهد كلها إلا الفتح وما بعده، قتل يوم مؤتة شهيداً وكان أحد الأمراء فيها . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/898، سير أعلام النبلاء 1/230، الإصابة في تمييز الصحابة 4/82
(3) رواه النسائي في كتاب مناسك الحج (2893)، و الترمذي في كتاب الأدب برقم (2847) وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/136(1/297)
فقد نقل الحطاب قولهم:"وأما النساء فإن كففن أذاهن على المسلمين ولزمن قعر بيوتهن فلا خلاف في تحريم قتلهن، وإن شعرن في مدح القتال وذم الفرار"(1).
قلت: وأشير هنا إلى أنه من التطبيقات العملية الهامة لهذا الحكم: الحربيون المدنيون الذين يشاركون في برامج الإعلام المعادي للمسلمين، كالمذيعات، والشاعرات، والكاتبات أو المعدّات أو المنفّذات للبرامج التي تثير حماس الجند، وتحثهم على قتال المسلمين، فإنه يجوز قتلهم لمشاركتهم في الحض والتشجيع على القتال، بخلاف البرامج الإعلامية المجردة التي تنقل أو تحلل الأخبار، والله أعلم .
الحالة الثانية ] إذا سب الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الإسلام:
فمن كان محقون الدم من المحاربين، ثم سب الله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الإسلام فقد حل دمه وجاز قتله .(2)
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أئمّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) } (3).
وجه الاستدلال: في قوله تعالى: (وطعنوا في دينكم) دلالة على أن أهل العهد متى ما طعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد ووجب قتلهم .(4)
قلت: وإذا كان هذا في أهل العهد فإن المحاربين يجوز قتلهم من باب أولى متى ما صدر منهم هذا الفعل .
ويناقش الاستدلال بالآية بأنها إنما أوجبت قتل الكفار إذا وجد منهم أمران : أحدهما نكث اليمين، والآخر الطعن في الدين، بخلاف ما إذا وجد أحد الأمرين .
__________
(1) مواهب الجليل 3 /350
(2) المنتقى شرح الموطأ 7/210، روض الطالب مع شرحه أسنى المطالب 4/225-226، المغني 9/231، أحكام أهل الذمة 3/1398، المحلى 12/431
(3) التوبة: 12]
(4) أحكام القرآن للجصاص 3/126(1/298)
ويجاب عنه بأن الطعن في الدين مستلزم لنكث اليمين، وعلى هذا يصح الاستدلال بالآية على وجوب قتالهم متى ما طعنوا في الدين .
الدليل الثاني: عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال:"لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ... الحديث"(1).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدر دم المرأتين مع أنهما في الأصل ممن لا يجوز قصده بالقتل وقد ذكر ابن حجر في الفتح(2)أن ممن أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم الفتح قينتي(3)ابن خَطَل، وأن سبب إهدار دمهما أنهما كانتا تغنيان بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر ذلك أهل السير .(4)
الدليل الثالث: ما روى أبو داود عن علي - رضي الله عنه -:"أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها"(5).
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدر دم هذه المرأة التي قامت بسبه مع أنها كانت موادعة مهادنة - لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة - فإذا كان هذا في أهل العهد فمن لم يكن لها عهد من المحاربين أولى بالقتل .(6)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم (2683)، والنسائي في كتاب تحريم الدم برقم (4067)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/148
(2) فتح الباري 4/61
(3) القَيْنة: الأَمَة المغنية . لسان العرب مادة (قين) 13/352
(4) السيرة النبوية لابن هشام 4/52، السنن الكبرى للبيهقي 9/120
(5) رواه أبو داود في كتاب الحدود برقم (4362)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/60، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 2/169، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص:357
(6) أحكام أهل الذمة 3/1404(1/299)
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأنه لا حجة فيه لأن سنده ضعيف، كما في الحاشية.
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن أعمى كانت له أم ولد -غير مسلمة(1)-تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه فأخذ المِغْوَل(2)فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلَطَّخَت ما هناك بالدم(3)، فلما أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجمع الناس فقال: أَنْشُد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام . فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا اشهدوا أن دمها هدر"(4).
وجه الاستدلال: في إقراره - صلى الله عليه وسلم - الرجل على فعله وإهداره دم المرأة دليل على أن الذمية إذا لم تكف لسانها عن الله ورسوله فلا ذمة لها، ويجوز قتلها .(5)
قلت: وإذا كان هذا في المرأة من أهل الذمة، فالمرأة من أهل الحرب من باب أولى .
__________
(1) عون المعبود 12/11
(2) المِغْوَل : شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه، وقيل: هو حديدة دقيقة لها حد . لسان العرب مادة(غول) 11/510
(3) المعنى أنه لما طعنها في بطنها وقع ولدها بين رجليها فلوّثت ما هناك من الفراش . عون المعبود 12/11
(4) رواه أبو داود في كتاب الحدود برقم (4361)، والنسائي في كتاب تحريم الدم برقم (4070)، والطبراني في المعجم الكبير 11/351، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/44
(5) عون المعبود 12/11(1/300)
الحالة الثالثة ] في الإغارة على العدو إذا لم يمكن التمييز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله:
كما في التبييت، وشن الغارات ليلاً ونهاراً، والرمي بالأسلحة التي تقتل الجماعات كالمنجنيق، والصواريخ، والقنابل، وغيرها من الأسلحة الحديثة .
وقد اختلف العلماء في جواز قتل المدنيين الحربيين في هذه الحالة، على قولين:
القول الأول: الجواز . وهو قول عامة أهل العلم، ومنهم الأحناف والمالكية -وهو الصحيح من مذهبهم على تفصيل عندهم- والشافعية والحنابلة .(1)
ومن أدلة القول الأول ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (2).
وجه الاستدلال: في قوله تعالى: (واحصروهم) دليل على جواز حصر الكفار في حصونهم ومدنهم وإن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان . (3)
__________
(1) المبسوط 10/32، شرح معاني الآثار 3/223، حاشية الدسوقي 2/177، منح الجليل 3/149، الأم 4/252-253، مغني المحتاج 6/ 30، المغني 9/230، الإنصاف 4/126
وعلى التفصيل فإن في مذهب المالكية في هذه المسألة أربعة أقوال:
أحدها: أنه يجوز أن يرموا بالنار ويغرقوا بالماء ويرموا بالمجانيق وهو قول أصبغ .
والثاني: أنه لا يجوز أن يفعل بهم شيء من ذلك وهو قول ابن القاسم .
والثالث: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ويغرقوا بالماء، ولا يجوز أن يرموا بالنار، وهو قول ابن حبيب .
والرابع: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق، ولا يجوز أن يغرقوا، وهو مذهب مالك في المدونة . منح الجليل 3/149
(2) التوبة: 5 ]
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/121(1/301)
الدليل الثاني: روى البخاري ومسلم عن الصَّعْب بن جَثّامة(1)- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن الديار من ديار المشركين فقال:"هم منهم". هذا لفظ البخاري، وعند مسلم:"هم من آبائهم"(2).
قال ابن حجر:"ومعنى البيات المراد في الحديث أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم"(3).
وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما لم ينه عن الغارة التي يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم، دل ذلك على أن ما أباحه في هذه الحالة إنما هو لمعنى غير المعنى الذي من أجله منع قتل النساء والصبيان في الأحاديث الأخرى، فالذي منعه في تلك الأحاديث هو القصد إلى قتل النساء والولدان، والذي أباحه هنا هو القصد إلى المشركين، وإن كان في ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى تلفه، وبهذا تجتمع الأدلة .(4)
__________
(1) الصَّعْب بن جَثَّامة (صحابي): الصعب بن جثامة بن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعداده في أهل الطائف، وقد روي أنه شهد فتح إصْطَخْر -بلدة بفارس-، اختلف في وفاته فقيل إنه مات في خلافة أبي بكر، وقيل في آخر خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان . ينظر: الثقات 3/195، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/739، الإصابة في تمييز الصحابة 3/426
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (3013)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1745)
(3) فتح الباري 6/147
(4) شرح معاني الآثار 3/223(1/302)
الدليل الثالث: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إليه فقال:"أغِرْ على أُبْنَى(1) صباحاً وحرِّق"(2).
وجه الاستدلال: إن أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإغارة والتحريق يدل على أن مثل هذا الفعل مباح مطلوب أو مأمور به وإن ترتب عليه هلاك بعض من لا يجوز قتله لعدم الاستطاعة على الامتناع عنه . وما لا يستطاع الامتناع عنه فهو عفو لا يلزم به تبعة في الدنيا ولا في الآخرة.(3)
الدليل الرابع: المعقول، وبيانه: أنه لا يمكن التوصل إلى قتل العدو المحارب في هذه الحالة إلا بقتل مدنييه . ومن المقرر أن من كان له أخذ شيء، وفي أخذه تلفٌ لغيره، يجوز له القصد إلى أخذ ما له أخذه .
قال الطحاوي(4):"وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في الذي عض ذراعه رجل، فانتزع ذراعه فسقطت ثنيتا العاض، أنه أبطل ذلك وتواترت عنه الآثار في ذلك .
__________
(1) أُبْنَى: بالضم ثم السكون وفتح النون بوزن حُبلى موضع بالشام من جهة البلقاء . معجم البلدان 1/79
(2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 6/477، وأحمد 5/205، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2616)، وابن ماجه في كتاب الجهاد برقم (2843)، والبيهقي في السنن الكبرى 9/83 .
وفي إسناد الحديث شيء من الضعف كما في ضعيف سنن أبي داود ص:201
(3) شرح السير الكبير 4/1467-1468
(4) الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، تفقه على مذهب الشافعي ثم تحول إلى المذهب الحنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية في مصر، ومن تصانيفه: شرح معاني الآثار، مشكل الآثار، ت:321هـ .
ينظر: سير أعلام النبلاء 15/27، طبقات الحفاظ 1/339، الأعلام 1/206(1/303)
فلما كان المعضوض نزع يده، وإن كان في ذلك تلف ثنايا غيره، وكان حراما عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه، ولم يكن القصد في ذلك إلى غير التلف، كالقصد إلى التلف في الإثم، ولا في وجوب العقل، كان كذلك كل من له أخذ شيء، وفي أخذه إياه تلف غيره، مما يحرم عليه القصد إلى تلفه كان له القصد إلى أخذ ما له أخذه من ذلك وإن كان فيه تلف ما يحرم عليه القصد إلى تلفه فكذلك العدو، قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وولدانهم . فحرام علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف ما قد حرم علينا من غيرهم، ولا ضمان علينا في ذلك"(1).
القول الثاني: المنع . وهو قول مرجوح عند المالكية، ذهب إليه ابن القاسم .(2)
ومن أدلة القول الثاني ما يلي:
الدليل الأول: عموم الأحاديث الدالة على عدم جواز قتل النساء والصبيان، وقد تقدم ذكر شيء منها .
ونوقش هذا الاستدلال بأن هذه الأدلة محمولة على التعمد لقتلهم . قال أحمد: أما أن يتعمد قتلهم، فلا . قال: وحديث الصعب بن جثامة بعد نهيه عن قتل النساء ; لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق . وعلى أن الجمع بينهما ممكن، يحمل النهي على التعمد، والإباحة على ما عداه . (3)
الدليل الأول: المعقول، وبيانه: أنه يمنع قتل النساء والصبيان مراعاة للغانمين وما لهم في الذراري والنساء من حق السبي .(4)
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
__________
(1) شرح معاني الآثار 3/223
(2) منح الجليل 3/149، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 /277
(3) المغني 9/230
(4) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 /277(1/304)
1- أن هذا التعليل غير مسلم، إذ إن مقاصد الجهاد وهي أصل في هذا الباب لا يمكن أن تعارض بحق الغانمين في الغنائم أو السبي الذي هو حق تبعي . وعلى هذا فإنه إذا لم يتوصل إلى قتل العدو إلا بقتل هذه الفئات فلا مانع من هذا الفعل، لأنه يحقق مقصداً من مقاصد الجهاد وهو قتل العدو والتنكيل به .
2- أنه على فرض التسليم بصحة هذا التعليل فإنه عليل لمعارضته الأحاديث المتقدمة وهي صريحة في الدلالة على الجواز . والله أعلم .
الترجيح
مما تقدم عرضه من الأدلة والمناقشات يظهر أن الراجح من القولين - والله أعلم - هو القول الأول القائل بجواز قتل المدنيين الحربيين في الغارات والتبييت إذا لم يمكن التمييز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله، بحيث يقصد في الرمي من يجوز قتله . وذلك لقوة أدلة هذا القول، وسلامتها من الاعتراضات القادحة، وضعف أدلة القول الثاني .
الحالة الرابعة ] تترس الحربيين المقاتلين بالحربيين المدنيين:
اختلف العلماء في جواز قتل الكفار الحربيين المقاتلين إذا تترسوا بالمدنيين منهم، كالنساء أو الصبيان ونحوهم، على قولين:
القول الأول: جواز رمي الترس من الحربيين المدنيين مطلقاً ولو أدى إلى قتل مدنييهم . وهو قول الحنفية(1)، والحنابلة(2)، والمعتمد عند الشافعية(3).
ومن أدلة القول الأول ما يلي:
الدليل الأول: مجموع الأدلة المتقدمة في الحالة السابقة ( الإغارة والتبييت ) فإنها تدل على جواز قتلهم في التترس، إذ المعنى المبيح للقتل ظاهر في الحالتين . (4)
ووجه ذلك: أنه متى كان الامتناع عن قتل من لا يجوز قتله يعطل مقصداًً من مقاصد الجهاد، كما لو لم يمكن قتل المحاربين إلا بقتل هؤلاء، فإنه يجوز قتلهم تبعاً بحيث يقصد بالرمي المحاربين دون غيرهم .
__________
(1) شرح معاني الآثار 3/223
(2) المغني 9 / 231
(3) تحفة المحتاج 6/31، أسنى المطالب 4/191، الأحكام السلطانية للماوردي ص:51
(4) ينظر ص: 310 من هذا البحث(1/305)
الدليل الثاني: المعقول، وبيانه من وجهين:
أ- أنه لو حرم رمي الترس لاتخذ الكفار هذا ذريعة إلى تعطيل الجهاد، أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم وفي ذلك فساد عظيم .(1)
ومن المعلوم أنه متى علم الكفار أنهم سينجون من المسلمين بتترسهم بالنساء والذراري فإنهم سيلجأون إلى هذه الحيلة فلا يتمكن المسلمون من قتالهم ما داموا على ذلك، وفي هذا الأمر مفسدة عظيمة، لأنه يؤدي إلى انقطاع الجهاد .(2)
ب- أن تحريم رمي الكفار إذا تترسوا بنسائهم وذراريهم إنما هو من باب الاحتياط للنساء والذرية لئلا يؤدي الرمي إلى قتلهم، وجواز رميهم إذا تترسوا إنما هو للاحتياط لنا لئلا يؤدي الامتناع عن رميهم إلى تسلطهم على المسلمين، وتغلبهم على جيشهم، ونكايتهم به، فالاحتياط لدماء المسلمين أولى من الاحتياط لمن لا يجوز قتله من الكفار .(3)
القول الثاني: منع وتحريم رمي الترس من الحربيين المدنيين إلا حال الضرورة . وهو قول المالكية(4)، وخلاف المعتمد عند الشافعية(5).
ومن أدلة القول الثاني ما يلي:
الدليل الأول: علل المالكية عدم جواز قتل النساء والذراري بالتعليل المتقدم في الحالة السابقة وهو: مراعاة حق الغانمين .
قال الخِرَشي(6)
__________
(1) تحفة المحتاج 6/31
(2) المغني 9/231
(3) تحفة المحتاج 6/31
(4) شرح الخرشي على خليل 3/114
(5) تحفة المحتاج 6/31
(6) الخِرَشي: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخِرَشي نسبة إلى خِرَشة من قرى مصر، وقيل الخَرَشي بفتحتين، وقيل: الخَرَاشي نسبة الى قرية بمصر يقال لها أبو خَرَاش، كان فقيها فاضلاً ورعاً، ومن كتبه الشرح الكبير على متن خليل في فقه المالكية، ومنتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة، ت:1101هـ .
ينظر: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ص:62، الأعلام 6/240ـ241(1/306)
:"العدو إذا تترسوا بذراريهم أو بنسائهم بأن جعلوهم ترساً يتقون بهم فإنهم يتركون لحق الغانمين إلا أن يخاف منهم فيقاتلوا حينئذ"(1).
ونوقش هذا الاستدلال بما تقدم ذكره، وهو أن حق الغانمين المذكور لا يصح أن يعارض المقصود من الجهاد .
الدليل الثاني: يعلل الشافعية -في القول غير المعتمد- عدم جواز رميهم، بأنه لو جاز رميهم لأدى إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن قتلهم .(2)
ونوقش هذا الاستدلال بأنه لا ريب أننا منهيون عن قتلهم ابتداءً كما تقدم . وأما قتلهم في هذه الحالة فإنه إنما يكون تبعاًَ، وفي حال لا يمكن التوصل فيه إلى قتل من يجوز قتله إلا بهذا العمل، وبهذا التفريق يمكن الجمع بين نصوص النهي عن قتلهم، والنصوص التي ورد فيها قتلهم كما تقدم .(3)
الترجيح
بالنظر في أدلة القولين يتبين أن الراجح - والله أعلم - هو القول الأول القائل بجواز رمي المقاتلين الحربيين حال تترسهم بمدنييهم، بحيث يقصد بالرمي المقاتلين دون المدنيين . نظراً لقوة أدلة هذا القول، وتمشيه مع مقاصد الجهاد في الشريعة .
الحالة الخامسة ] المعاملة بالمثل:
صرح عدد من أهل العلم بجواز رد اعتداء المعتدي بمثل اعتدائه، وإن كان ابتداؤه لهذا الفعل غير مشروع .
قال الباجي:"وأما ضرب أوساط رءوسهم بالسيف فلا يجوز ذلك إلا قبل الأسر لهم في نفس الحرب، وأما بعد أسرهم والتمكن منهم فلا ينبغي أن يمثل بهم ولا يعبث في قتلهم، ولكن تضرب أعناقهم صبراً إلا أن يكونوا قد فعلوا بالمسلمين على وجه التمثيل فيعمل بهم مثله"(4).
__________
(1) شرح الخرشي على خليل 3/114
(2) تحفة المحتاج 6/31
(3) شرح معاني الآثار 3/223
(4) المنتقى شرح الموطأ 3/168(1/307)
وقال ابن تيمية:"فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة. حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل"(1).
وقال ابن القيم:"وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يمثلوا بالكفار إذا مثلوا بهم وإن كانت المثلة منهياً عنها، فقال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } (2)، وهذا دليل على أن العقوبة بجدع الأنف وقطع الأذن وبقر البطن ونحو ذلك هي عقوبة بالمثل ليست بعدوان، والمثل هو العدل"(3).
ومن الأدلة على جواز المعاملة بالمثل ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (4).
الدليل الثاني: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) } (5).
الدليل الثالث: قوله سبحانه وتعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) } (6).
__________
(1) السياسة الشرعية /110
(2) النحل: 126]
(3) حاشية ابن القيم 12/180
(4) البقرة: 194]
(5) الشورى: 39-40 ]
(6) النحل: 126](1/308)
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم . فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنُرْبِيَنَّ عليهم . قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) } . فقال رجل: لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كُفُّوا عن القوم إلا أربعة .(1)
قال القرطبي:"أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد"(2).
وقال أبو بكر الجصاص في هذه الآية:"نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عمومها في جميع ما انتظمه الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها"(3).
وقد اختلف أهل التفسير في الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟
__________
(1) رواه أحمد 5/135، و الترمذي في كتاب تفسير القرآن برقم (3129) وقال:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان 2/239، والحاكم 2/391 وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والطبراني في الكبير 3/143، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 3/351، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/266: حسن صحيح الإسناد
(2) تفسير القرطبي 10/201
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/286(1/309)
واختار الطبري أنها محكمة، وأن الأمر فيها لمن عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عاقب به إن اختار عقوبته، وأن الصبر على ترك عقوبته خير له .(1)
__________
(1) قال الطبري في تفسيره بعد أن ذكر أقوال أهل التأويل 14/197:"والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقِب من عاقبه بمثل الذي عوقب به إن اختار عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته على ما كان منه إليه خير، وعزم على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر . وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه محتملتها الآية كلها، فإذا كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أي ذلك عني بها من خبر ولا عقل ؛ كان الواجب علينا الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه وأن يقال هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حق من مال، أو نفس الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره".(1/310)
الدليل الرابع: من السنة: ما في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه -:"أن ناساً من عُكَل وعُرَينة قدموا المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا(1)المدينة فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذَودٍ(2)وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذود . فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسَمَروا أعينهم وقطعوا أيديهم، وتُرِكوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم"(3).
وعند مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال:"إنما سَمَل(4)النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرِّعاء"(5).
وجه الاستدلال: في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على جواز المماثلة في العقوبة والقصاص، وأن ذلك ليس من المثلة المنهي عنها .(6)
__________
(1) استوخموا المدينة: أي استثقلوها ولم يوافق هواؤها أَبدانهم . لسان العرب مادة (وخم) 12/631
(2) الذَّود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى العشر . النهاية 2/171
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي (4193) واللفظ له، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1671)
(4) سَمَل أعينهم: أي فَقَأها بحَديدةٍ مُحْماة أو غيرها، وقيل: هو فَقْؤُها بالشوك وهو بمْعنى السَّمْر . النهاية 2/403
(5) رواه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1671)
(6) فتح الباري 1/341(1/311)
قلت: قد يناقش الاستدلال بالأدلة المتقدمة من القرآن والسنة بأنها إنما تفيد معاقبة المعتدي بمثل اعتدائه على وجه لا تتعدى فيه العقوبة إلى غيره، أما قتل المدنيين من الكفار فإن فيه تعدياًٍ على أبرياء معصومي الدم لم يصدر منهم ما يوجب العقوبة، وقد قال الله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (1).
ويجاب عنه: بأن النهي عن قتل المدنيين الحربيين لا يعني أن دماءهم معصومة مطلقاً، ولا يخرجهم عن كونهم من الحربيين، وإنما نُهِينا عن القصد إلى قتلهم لكونهم في الغالب ليسوا من أهل الممانعة والمقاتلة، فليس في قتلهم مصلحة للجهاد، والله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق ودفع فتنة الكفر .(2)
وعلى هذا فإنه متى ما ترتب على الكف عن المدنيين إخلال بمقاصد الجهاد، فلا اعتبار للنهي عن قتلهم كما تقدم بيانه في صور الإغارة والتترس ونحوها .
ومن المعلوم في عرف الحروب قديماً، أن الحرب متى نشبت بين طرفين فإن كل طرف بجميع أفراده - ولو كانوا من غير المقاتلين - يكون مستباحاً للطرف الآخر، لأن الحرب قائمة على كسر شوكة العدو، والضغط عليه لإخضاعه والتغلب عليه .
هذا هو الأصل في الحرب .. إلا أن المحاربين قد يكفون عن التعرض لبعض فئات الطرف الآخر (كالمدنيين)، بحيث يستقر الأمر على الكف عن هذه الفئات، ويصبح عرفاً من الأعراف الحربية بين الأمم .(3)
وبناء على هذه المقدمة الشرعية والعرفية، فإنه لا مانع من قتل المدنيين الحربيين إذا كان قتلهم من باب المعاملة بالمثل ورد الاعتداء، لأن مبدأ المعاملة بالمثل مبدأ متفق عليه بين الأمم، وهو ما أقرته الشريعة إذ هو مقتضى العدل .
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الكفار
__________
(1) الإسراء: 15]
(2) السياسة الشرعية / 165 والآية في سورة [ البقرة: 193 ]
(3) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1244(1/312)
تبين لنا مما تقدم بيانه في المبحث الأول أن أحكام قتل الكفار تختلف بناءً على عدة اعتبارات مختلفة، منها:
1- الحالة التي يكون عليها الكافر من حرب أو عهد أو ذمة أو أمان:
فيجوز قتل الحربي، دون المعاهد والذمي والمستأمن فإنه لا يجوز قتلهم لأنهم معصومو الدم .
2- كون الحربي من المقاتلين أو المدنيين:
فالمقاتلون من الحربيين يجوز قتلهم، أما المدنيون فالأصل أنهم لا يقاتلون إلا في حالات خاصة .
ومن المدنيين بالاتفاق: النساء والصبيان والخَناثَى والمجانين والرسل .
ومن المدنيين على الراجح من أقوال العلماء: الشيخ الفاني، والراهب، والأجير، والأعمى، والزمنى، ونحوهم .
3- الحالات الخارجة عن أصل الحكم التي يجوز فيها قتل المدنيين الحربيين:
وذكرنا من هذه الحالات خمس حالات:
الحالة الأولى ] المشاركة في القتال: ولها عدة صور، منها:
أ- مباشرة المدني القتال . … ب- أن يكون للمدني رأي أو مشورة في الحرب .
ج- تولي المدني الملك أو الأمر . د- تحريض المدني وتشجيعه غيره على القتال .
الحالة الثانية ] إذا سب الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الإسلام .
الحالة الثالثة ] في الإغارة على العدو إذا لم يمكن التمييز بين المدنيين والمقاتلين .
الحالة الرابعة ] تترس المقاتلين الحربيين بالمدنيين الحربيين.
الحالة الخامسة ] المعاملة بالمثل .
وبالنظر في الأعمال الفدائية، نجد أنها من حيث الفئة المستهدفة من الحربيين تنقسم إلى قسمين: أعمال توجه ضد المحاربين، وأعمال توجه ضد المدنيين، وبيان ذلك في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية ضد المقاتلين الحربيين
تقرر فيما سبق أنه يجوز قصد المقاتلين الحربيين بالقتل، بل إن هذا الأمر من ضروريات الجهاد التي لا يمكن أن يقوم إلا بها .(1/313)
وإذا كان الله تعالى حقن الدماء ومنع الأموال إلا بحقها بالإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أباح دماء المحاربين من الكفار - إذا لم يكن لهم عهد أو ذمة أو أمان - كما قال الله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (1).(2)
وقوله تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } يدل على أمرين:
الأمر الأول: جواز قتل المشركين المحاربين على أي صورة كان القتل، باستثناء ما ورد النهي عنه كالمثلة ونحو ذلك . (3)
وقد بين الله تعالى أن العلة من القتل كسر شوكتهم، لدفع فتنة محاربتهم وصدهم عن دين الله تعالى ، كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (4).(5)
الأمر الثاني: جواز قتل الواحد من الكفار بمفرده وإن لم يكن معه جماعة إذا كان محارباً ; لأن ذلك أمر بقتل الجماعة والأمر بقتل الجماعة لا يوجب اعتبار الجميع ; إذ ليس فيه شرط.(6)
وبناءً على هذين الأمرين ؛ يجوز قتل كل حربي عن طريق الأعمال الفدائية، سواء كان فرداً أو جماعة محاربين .
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية ضد المدنيين الحربيين
من المقرر في الشريعة أن المدنيين الحربيين -مع مراعاة اختلاف الفقهاء في هذا المدلول- معصومو الدم في الأصل، فلا يجوز التعرض لهم بأي عمل من أعمال القتل، سواء كان عملاً فدائياً أو غيره .
__________
(1) التوبة: 5 ]
(2) الأم 1/293
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/121
(4) البقرة: 193 ]
(5) شرح السير الكبير 4/1409
(6) أحكام القرآن للجصاص 3/85(1/314)
قال ابن دقيق العيد:"ولعل سر هذا الحكم: أن الأصل عدم إتلاف النفوس وإنما أبيح منه ما يقتضيه دفع المفسدة، ومن لا يقاتل ولا يتأهل للقتال في العادة: ليس في إحداث الضرر كالمقاتلين فرجع إلى الأصل فيهم، وهو المنع . هذا مع ما في نفوس النساء، والصبيان من الميل وعدم التشبث الشديد بما يكونون عليه كثيراً أو غالباً، فرفع عنهم القتل، لعدم مفسدة المقاتلة في الحال الحاضر، ورجاء هدايتهم عند بقائهم"(1).
وإذا كان هذا هو الأصل في المدنيين الحربيين، فإن أهل العلم ذكروا أحوالاً استثنائية تبيح قتل هؤلاء المدنيين .
ومن هذه الحالات الاستثنائية: المشاركة في القتال، وسب الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الإسلام، والإغارة إذا لم يمكن التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وتترس الحربيين المقاتلين بالحربيين المدنيين، والمعاملة بالمثل، ونحو ذلك مما سبق ذكره قريباً .
وإذا نظرنا إلى الوضع العالمي اليوم، فإننا ندرك أنه على الرغم من وجود الاتفاقيات والقوانين الدولية التي تحصر الحرب في المقاتلين، وتمنع استهداف المدنيين ؛ فإن واقع الحروب الحديثة أثبت أنه من الصعب التمييز بين المقاتلين والمدنيين، وذلك لعدة أسباب، منها:(2)
السبب الأول: استنفار الدول كل أو معظم رعاياها، وتكليفهم بأعمال تتصل بالحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بل إن بعض الدول قد تجري الاستفتاءات العامة لاتخاذ قرار الحرب بناءً على رأي الشعب .
السبب الثاني: السماح باستخدام أسلحة التدمير كالقنابل والصواريخ، والتي تطلق من الجو على الأهداف العسكرية، لكن تدميرها كثيراً ما يتعدى إلى المدنيين .
السبب الثالث: تطور مفهوم الحرب، وهو ما يعرف بالحرب الكلية أو الشاملة، لتشمل الحرب الاقتصادية التي تمس الدولة المحارَبة في جميع أفرادها من مقاتلين ومدنيين .
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ص:694
(2) آثار الحرب ص:504-505(1/315)
السبب الرابع: أن بعض الحروب قد تتخذ صفة العالمية، فتشترك فيها جميع الأمم، مما يوسع دائرة تأثيرها، ويخرجها عن قوانين الحرب التقليدية .
وبتأمل الأعمال الفدائية التي تشهدها الساحة الإسلامية اليوم، نجد أن وقوع الضحايا من المدنيين الحربيين يقع في الغالب ضمن ثلاث حالات: المشاركة في القتال، والإغارة إذا لم يمكن التمييز، والمعاملة بالمثل، وبيان هذه الحالات الثلاث ما يلي:
أولاً ) حالة المشاركة في القوات العسكرية:
ذكرت فيما سبق أن المدني متى ما باشر القتال بفعله، أو شارك برأيه، أو حرض المقاتلين وشجعهم ؛ فإنه يجوز قصده بالقتل .
ومن الأمثلة على ذلك، مشاركة المرأة في جيش دولة اليهود .
فإن دولة اليهود هي الدولة الوحيدة في العالم التي تفرض على النساء تدريباً عسكرياً أو خدمة إلزامية، حيث يجب على الفتاة ببلوغها سن الثامنة عشرة أن تخدم في الجيش شهراً كل عام، وتتدرب على السلاح كالرجال، كما أن نسبة النساء المجندات في الجيش النظامي نسبة كبيرة تقارب نسبة الرجال .(1)
أما بقية النساء فإنهن معدودات ضمن الجيش الاحتياطي كالرجال، حتى قال بعض قادة اليهود:"نحن جيش لنا دولة، ولسنا دولة لها جيش". يعني أنهم كلهم عسكريون وجنود مقاتلون رجالاً ونساءً .(2)
وبهذا يتبين أن من كانت هذه حاله فلا يبقى مدنياً، بل يصير عسكرياً محارباً يجوز استهدافه ابتداءً بالأعمال الفدائية لوجود الوصف الذي يبيح قتله، وهو مباشرة القتال، أو الاستعداد للقتال وإطاقته .
ثانياً ) حالة الإغارة إذا لم يمكن التمييز بين المدنيين والمقاتلين:
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:137-138
(2) إتحاف العباد بما تيسر من فقه الجهاد ص:33(1/316)
قد تقتضي الحرب القيام ببعض أعمال الإغارة، أو استخدام أسلحة القتل الجماعي (أو ما يسمى بأسلحة التدمير) كالقنابل والصواريخ، الأمر الذي قد يسقط بسببه عدد من الضحايا من المدنيين، الذين لا يجوز قصدهم بالقتل ابتداءً . وهو ما تقوم به الدول التي تزعم رعاية حقوق الإنسان .
وقد تقدم في الكلام على الإغارة والتبييت بيان مشروعية القيام بهذه الأعمال، وجواز استخدام ما ذكر من الأسلحة إذا لم يمكن التمييز بين المدنيين والمقاتلين .
ومن هذا الباب بعض أنواع الأعمال الفدائية التي تتسع دائرة تأثيرها بسبب استخدام الأسلحة الحديثة والمواد المتفجرة، فإنه يجوز استهداف المقاتلين بهذه الأعمال في الأماكن غير المدنية التي لا يمكن التمييز فيها بين المدنيين والمقاتلين، ولو ترتب على ذلك قتل بعض المدنيين غير المستهدفين بها، طالما أنه لا يمكن التمييز بين المدنيين والمقاتلين .
وفي المقابل، فإنه لا يجوز القيام بهذه الأعمال في الأماكن التي يتميز فيها المدنيون ولا يختلطون بغيرهم كملاجيء المدنيين، والتجمعات النسائية، ومدارس الأطفال ونحوها .(1)
وفي جميع أحوال الإغارة يجب أن يكون المستهدف من هذه الأعمال المقاتلين فقط، فلا يجوز ابتداءً قصد المدنيين بهذه الأعمال .
ثالثاً ) حالة المعاملة بالمثل:
من المشاهَد المتواتر أن العدو لا يتورع عن قتل المدنيين من المسلمين، وبناءً على هذا فإنه يجوز معاملته بالمثل واستهداف المدنيين منهم، من باب معاملة المعتدي بنظير فعله، لردعه وإيلامه وشق وحدته الداخلية .
__________
(1) العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي ص:143(1/317)
ومن الأمثلة المشاهدة على ذلك: ما تقوم به سلطات الاحتلال اليهودي من قتل المدنيين من النساء والأطفال قتلاً مقصوداً بتوجيه الرصاص إلى رؤوسهم أو مَقاتِلهم، والاستهداف المباشر للأماكن المدنية، كما وقع في مدينة (قانا) اللبنانية في 18 إبريل 1996م عندما لجأ المئات من المدنيين إلى مبنى الأمم المتحدة حتى لا يتعرضوا للقتل، فقامت سلطات الاحتلال بقصف المبنى وقتل ما يزيد على المائة، من بينهم الشيوخ والنساء والأطفال .(1)
وعلى هذا، فإنه متى ما التزم العدو بعدم قتل المدنيين من المسلمين فإنه لا يجوز لنا قصد المدنيين منهم بالقتل، أما إذا لم يلتزم العدو بذلك فإنه يجوز لنا استهداف المدنيين منهم من باب المعاملة بالمثل .
هذا، وقد أفتى عدد من العلماء المعاصرين بجواز قتل المدنيين من الكفار، في فلسطين والشيشان وغيرها، من باب المعاملة بالمثل .
فعندما قامت بعض قوات المجاهدين الشيشانيين باحتجاز عدد من المدنيين في مسرح بموسكو أفتى عدد من الفقهاء وأساتذة الشريعة (وهم: الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء، و د.عرفات الميناوي أستاذ الشريعة الإسلامية بفلسطين، و د. يونس الأسطل أستاذ الشريعة بفلسطين) بجواز هذا الفعل معاملةً بالمثل .(2)
وفي فلسطين أفتت (رابطة علماء فلسطين) بجواز الأعمال الاستشهادية الفلسطينية التي يقتل فيها مدنيون من اليهود، من باب المعاملة بالمثل .(3)
المطلب الثالث: اشتراط بلوغ الكافر دعوة الإسلام قبل قتاله
__________
(1) شبهات حول العمليات الاستشهادية ص: 27
(2) موقع (إسلام أون لاين www. islamonline.net) تاريخ الفتوى 6/1/2002م
(3) شبهات حول العمليات الاستشهادية ص: 36(1/318)
إذا تقرر فيما سبق جواز القيام بالأعمال الفدائية ضد من يجوز قتله من الكفار، فإن من المسائل الهامة المؤثرة في حكم قتل الكافر - وذلك في جهاد الطلب - اشتراط بلوغ دعوة الإسلام إليه قبل القتال، أو بمعنى آخر: هل يجب إنذار العدو الكافر ودعوته إلى الإسلام قبل قتاله ؟ .
حكى ابن رشد الإجماع على وجوب دعوة من لم تبلغه دعوة الإسلام قبل قتاله .(1)
لكن حكاية الإجماع هذه فيها نظر لما سيأتي بيانه من خلاف العلماء في المسألة .
فقد اختلف العلماء في حكم دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم مطلقاً، سواء بلغتهم الدعوة من قبل أو لم تبلغهم . وهو المذهب عند المالكية(2).
وقد قيّد بعض فقهاء المالكية هذا الحكم بعدة قيود، منها: (3)
1-أن لا يعاجلونا بالقتال، فإن عاجلونا بالقتال جاز قتالهم دون دعوة .
2-أن يكونوا بمحل يؤمن فيه هجومهم علينا، وإلا جاز قتالهم دون دعوة .
3-أن يُدْعَوا إلى الإسلام ثلاثة أيام، فإذا كان اليوم الرابع قوتلوا دون دعوة .
4-أن يكون الجيش كبيراً، أما السرايا قليلة العدد فلا بأس بإغارتها دون دعوة .
ومن أدلة القول الأول ما يلي:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"ما قاتل رسول الله قوما قط إلا دعاهم"(4).
وجه الاستدلال: ظاهر الحديث يدل على وجوب دعوة الكفار قبل القتال سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم، وهذا يخالف أحاديث الإغارة قبل الدعوة . (5)
__________
(1) بداية المجتهد 1/282
(2) شرح الخرشي 3/112
(3) الفواكه الدواني 1/396، منح الجليل 3/145، حاشية الدسوقي 2/176
(4) رواه أحمد 1/236، والدارمي في كتاب السير برقم (2444) وقال:"سفيان لم يسمع من ابن أبي نجيح يعني هذا الحديث" اهـ، والحاكم في المستدرك 1/60 وقال:"هذا حديث صحيح من حديث الثوري ولم يخرجاه"اهـ، والطبراني في المعجم الكبير 11/132،
(5) نيل الأوطار 8/52(1/319)
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث ليس على ظاهره، بل إنه يحمل على من لم تبلغهم الدعوة، وتحمل أحاديث الإغارة على من بلغتهم الدعوة جمعاً بين الأدلة .(1)
الدليل الثاني: عن بُرَيْدة(2)- رضي الله عنه - قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... الحديث"(3).
وجه الاستدلال: في أمره - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء دليل أنه يجب على الغزاة أن يبدءوا بدعاء الكفار إلى الإسلام قبل القتال .(4)
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
1- أن هذا الأمر يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام، فأما إذا انتشر الإسلام وبلغت الدعوة، فإن هذا يكفي عن الدعاء عند القتال، ولهذا قال أحمد: كان النبي يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، قد بلغت الدعوة كل أحد، والروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام، وإن دعا فلا بأس .(5)
__________
(1) التمهيد 2/217
(2) بُرَيْدة بن الحُصَيْب (صحابي): أبو عبد الله، وقيل أبو سهل، بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، قيل إنه أسلم عام الهجرة، وشهد غزوة خيبر والفتح وكان معه اللواء، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقة قومه، نزل مرو، وسكن البصرة مدة، ثم غزا خراسان زمن عثمان، ت:62هـ وقيل: 63هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/185، سير أعلام النبلاء 2/469، الإصابة في تمييز الصحابة 1/286
(3) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1731)
(4) المبسوط 10/6
(5) المغني 9/172(1/320)
2- أن الأمر بالدعوة محمول على الاستحباب، جمعاً بين الأدلة كما سيأتي بيانه . (1)
الدليل الثالث: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر:"لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم"(2).
وجه الاستدلال: أن قوله (ادعهم) يدل على أن الدعوة شرط في جواز القتال .(3)
وقد استدل المالكية على وجوب تكرار الدعوة بأن هذه حرب للمشركين فلزم أن يتقدمها دعوة، لأن تجديد الدعوة قد يكون فيها من التذكير بالله والإيمان به ما لم يكن فيما تقدم .(4)
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث محمول على الاستحباب فيمن بلغتهم الدعوة، جمعاً بين الأدلة .(5)
القول الثاني: عدم وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم مطلقاً، سواء بلغتهم الدعوة من قبل أو لم تبلغهم . وهذا القول مروي عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وهو قول مرجوح عند الحنفية .(6)
__________
(1) المصدر السابق
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4209) واللفظ له، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم (2406)
(3) فتح الباري 7/478
(4) المنتقى شرح الموطأ 3/168
(5) المغني 9/172
(6) مجمع الأنهر 1/635، حاشية ابن عابدين 4/129(1/321)
ودليل هذا القول ما رواه عبد الله بن عون(1) قال:"كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارّون، وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ جويرية"(2).
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث ناسخ لأحاديث دعوة الكفار قبل القتال .
قال ابن شاهين(3) في ناسخ الحديث ومنسوخه:"وهذا الحديث نسخ الأول لقول نافع إنما كان ذلك في الاسلام"(4).
وجاء في نصب الراية:"وزعم الحازمي(5) في الناسخ والمنسوخ أن حديث ابن عمر المتقدم ناسخ للأحاديث التي فيها الدعوة، وهو صريح في ذلك فإنه قال فيه (إنما كان ذلك في أول الإسلام)"(6).
__________
(1) عبد الله بن عون: أبو عون عبد الله بن عون بن أَرْطَبَان المزني مولاهم البصري، الإمام الحافظ القدوة عالم البصرة، وكان من أئمة العلم والعمل، ت:232هـ . ينظر: الطبقات الكبرى 7/261، تهذيب الكمال 15/394، سير أعلام النبلاء 6/364
(2) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1730)
(3) ابن شاهين: أبو حفص عمر بن عثمان بن شاهين، الواعظ العلامة، أحد حفاظ الحديث من أهل بغداد، له نحو ثلاثمائة مصنف منها: ناسخ الحديث ومنسوخه، السنة، ت: 385هـ . ينظر: تاريخ بغداد 11/265، سير أعلام النبلاء 18/127، الأعلام 5/40
(4) ناسخ الحديث ومنسوخه 1/374
(5) الحازمي: أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمذاني، الإمام الحافظ الحجة الناقد النسابة البارع، كان من الأئمة الحفاظ العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله، جمع وصنف وبرع في الحديث خصوصا في النسب واستوطن بغداد، ألف كتاب الناسخ والمنسوخ وكتاب عجالة المبتديء في النسب وكتاب المؤتلف والمختلف في أسماء البلدان، ت:584هـ . ينظر: طبقات الفقهاء 1/257، سير أعلام النبلاء 21/168، طبقات الحفاظ 1/484
(6) نصب الراية 3/382(1/322)
ونوقش هذا الاستدلال بأن الجمع بين الأحاديث الواردة أصح من القول بالنسخ .
وبيان ذلك: أن الدعاء إنما كان في أول الإسلام لأن الناس حينئذ لم تكن الدعوة بلغتهم ولم يكونوا يعلمون على ما يقاتَلون عليه، فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغاً وإعلاماً لهم، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء لأنهم قد علموا ما يدعون إليه . فإذا طال عليهم العهد ولم تبلغهم الدعوة وجب تجديدها قطعاً للمعذرة .(1)
ومتى كانت الحجة لازمة، وشبهة العذر منقطعة بالتبليغ فلا يجب الدعاء، لكن مع هذا الأفضل أن لا يفتتحوا القتال إلا بعد تجديد الدعوة لرجاء الإجابة في الجملة .(2)
القول الثالث: وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم إذا لم تكن بلغتهم الدعوة، واستحباب دعوتهم إذا كانت الدعوة بلغتهم . وهذا هو مذهب الجمهور، ومنهم الأحناف(3)والشافعية(4)والحنابلة(5)، وهي رواية العراقيين عن مالك (6).
وقَيَّد الأحناف والمالكية هذا الحكم بأن لا يتضمن ضرراً على المسلمين، كأن يعلم بأنهم بالدعوة يستعدون أو يحتالون أو يتحصنون .(7)
ومن أدلة القول الثالث ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (8).
وجه الاستدلال: دلت الآية على أنه لا يُعَذَّب على مخالفة الشريعة إلا بقيام حجة السمع من جهة الرسول، وهذا يدل على أن من لم يسمع من أهل الحرب بالشريعة فإنه لا يقاتل إلا بعد قيام حجة السمع عليه .(9)
__________
(1) شرح معاني الآثار 3/210
(2) بدائع الصنائع 7/100
(3) المصدر السابق
(4) الأم 4/253، أسنى المطالب 4/188
(5) المغني 9/172
(6) المنتقى شرح الموطأ 3/168
(7) فتح القدير 5/446، الفواكه الدواني 1/396
(8) الإسراء: 15]
(9) أحكام القرآن للجصاص 3/287-288(1/323)
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية"(1).
وجه الاستدلال: دل الحديث على عدم وجوب الدعوة قبل القتال، لأن الغارة المفاجئة لا تكون مع دعوة . (2)
الدليل الثالث: عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال:"أمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا أبا بكر - رضي الله عنه - فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم، وكان شعارنا تلك الليلة أَمِتْ أَمِتْ، قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين"(3).
وجه الاستدلال: دل الحديث على جواز تبييت الكفار دون دعوتهم، لأن معنى التبييت هو كبْسهم وقتلهم على غفلة .(4)
الدليل الرابع: المعقول، وبيانه من وجهين: (5)
1- أن الله تبارك وتعالى حرم قتالهم قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ دعوته إياهم فضلاً منه ومنة، وقطعاً لمعذرتهم بالكلية .
2- أن القتال لم يفرض لعينه بل للدعوة إلى الإسلام، والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، والثانية أهون من الأولى ; لأن في القتال مخاطرة الروح والنفس والمال، وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها دون الأخرى .
الترجيح
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العتق برقم (2541) واللفظ له، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1730)
(2) فتح القدير 5/445
(3) رواه أحمد 4/46، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2638)، وابن ماجه في كتاب الجهاد برقم (2840)، وابن حبان 11/53، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/133
(4) فتح القدير 5/452
(5) بدائع الصنائع 7/100(1/324)
يظهر مما تقدم عرضه من الأدلة والمناقشة رجحان قول الجمهور القائل بوجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم إذا لم تكن بلغتهم الدعوة، واستحباب دعوتهم إذا كانت قد بلغتهم، وذلك لقوة أدلتهم وصراحتها، ولأنه القول الذي تجتمع به الأدلة الواردة في هذه المسألة، والله أعلم .
وبناء على القول الراجح فإنه يجوز تنفيذ الأعمال الفدائية ضد كل كافر حربي بلغته دعوة الإسلام، ولا يجوز تنفيذها ضد من لم تبلغه دعوة الإسلام، والله أعلم .
وبهذا أكون قد أنهيت الكلام حول أحكام الأعمال الفدائية باعتبار من يجوز تنفيذها ضده من أنواع الكفار، فأنتقل إلى الفصل التالي حول أحكام هذه الأعمال باعتبار محل تنفيذها، وبالله التوفيق .
الثالث الفصل
( أحكام الأعمال الفدائية باعتبار محلها )
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الدار ونشأتها وأنواعها في الشريعة الإسلامية
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الدور
المبحث الأول: الدار ونشأتها وأنواعها في الشريعة الإسلامية
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الدار لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية وتطوره
المطلب الثالث: أنواع الدور في الشريعة الإسلامية
المطلب الأول: تعريف الدار لغة واصطلاحاً
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف الدار في اللغة
المسألة الثانية: تعريف الدار في الاصطلاح
المسألة الأولى: تعريف الدار في اللغة
لفظ الدار مأخوذ من دار يدور، وسميت بذلك لكثرة حركات الناس فيها . (1)
__________
(1) لسان العرب مادة (دور) 4/298(1/325)
و الدَّارُ: اسم جامع للعَرَصة والبناء والمَحَلَّة، وكلُّ موضع حل به قوم فهو دارُهم، والدَّارُ: البلد، والمنازل المسكونة، والمَحَالُّ، ويراد بالمحالِّ القبائل حيث تجتمع كل قبيلة في مَحَلَّةٍ، فسُمّيت المَحَلَّةُ داراً، وسمّي ساكنوها بها مجازاً على حذف المضاف، أي: أهل الدور .(1)
وبهذا يعلم أن للدار معنى حقيقياً وآخر مجازياً بمعنى أهل الدار .
والمعنى الذي يهمنا في هذا الباب هو المعنى الحقيقي للدار دون المجازي، وخلاصته أن الدار اسم جامع للبلد أو البناء أو المنازل المسكونة .
المسألة الثانية: تعريف الدار في الاصطلاح
لا يختلف معنى الدار في الاصطلاح الشرعي كثيراً عن أصله اللغوي، إذ يراد به البلد أو المكان الذي يسكنه جمع من الناس، وإنما يختلف المعنى من حيث الإضافة، كدار الإسلام ودار الحرب ودار العهد، كما سيأتي بيانه .
فالدار عبارة عن: الموضع أو البلد أو الوطن أو الإقليم أو المنطقة التي تسكن فيها مجموعة من الناس ويعيشون تحت قيادة سلطة معينة . فإن كانت السلطة فيها للإسلام فهي دار الإسلام، وإن كانت للكفر فهي دار حرب .(2)
قال ابن عابدين:"المراد بالدار الإقليم المختص بقهر ملك إسلام أو كفر"(3).
وقد جاء هذا المعنى للدار في نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية .
__________
(1) ينظر مادة (دور) في: لسان العرب 4/298-299، القاموس المحيط 1/503، مختار الصحاح 1/90، المفردات للأصفهاني / 174
(2) اختلاف الدارين وأثره في أحكام المناكحات والمعاملات: د. اسماعيل فطاني 1/ 19ـ20
(3) حاشية ابن عابدين 4/166 …(1/326)
أما الآيات: فمن ذلك قوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } (1)، وقوله تعالى: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } (2)، وقوله تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } (3).
وأما الأحاديث: فمنها: ما روته عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"قد أُرِيتُ دار هجرتكم"(4)أي المدينة .
ومنها: ما جاء في حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمرائه، وفيه :"ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أَبَوْا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ... الحديث"(5).
المطلب الثاني: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية وتطوره
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية
المسألة الثانية: المعيار المعتبر في التقسيم
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء في تقسيم الدار
المسألة الأولى: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية
من الطبيعي جداً بعد بزوغ شمس الإسلام أن يكون لهذا الدين العظيم تأثير في الحالة الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، وبالتالي اختلاف الأحكام من بقعة لأخرى تبعاً للدخول في هذا الدين والانضواء تحت لوائه .
__________
(1) الحشر: 9]
(2) الأعراف: 145]
(3) الأحزاب: 27]
(4) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها
(5) تقدم تخريجه ص: 328 من هذا البحث(1/327)
وكان مبدأ ظهور هذه الأحكام في مكة، والتي كانت تمثل دار الحرب، كما وصفها الله تعالى بقوله: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (1).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة.(2) ومكة في ذلك الوقت دار حرب وشرك كما لا يخفى .
فالآية بيّنت لنا أن من أهم أوصاف دار الحرب إجراء أحكام الشرك فيها، وسيطرة الكفار، وإيذاء المسلمين الذين يقولون ربنا الله، وهدم المساجد وأماكن العبادة فيها . وجاءت آية أخرى أكثر وضوحاً تبين ما يعانيه المسلمون المستضعفون في مكة التي اعتبرها القرآن، دار حرب، وذلك في قوله تعالى: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } (3).
فمن هذه الآيات ندرك أن دار الحرب هي الدار التي يسيطر عليها الشرك والظلم فتحارب المؤمنين في عقيدتهم، وتصدهم عن دينهم، وتخرجهم من ديارهم بغير حق، ولا ترضى بظهور خصلة من خصال الإسلام فيها، ناهيك عن ظهور أحكامه، فكانت المساجد والمعابد فيها تتعرض للهدم والتخريب .
__________
(1) الحج: 39-40 ]
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير 2/225
(3) سورة النساء: 41](1/328)
أما دار الإسلام فقد جاء وصفها ووصف أحوال أهلها في عدة آيات، منها قول الله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (1).
وهكذا حال أهل دار الإسلام كما حكى الله سبحانه وتعالى عن الأنصار الذين هم من مؤسسي الدولة الإسلامية الأولى وذلك في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2)، وقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (3).
فمن خلال معاني الآيات السابقة نفهم أن أهم الأوصاف لدار الإسلام ما يلي:
أولاً: تمكين المؤمنين فيها . وهم الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً . فكانت السلطة والمنعة فيها بيدهم .
ثانياً: تمكين دين الله فيها . وذلك بظهور أحكامه وتطبيق شريعته وإقامة شعائره، وأهمها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثاً: ظهور الأمن فيها للمسلمين .(4)
__________
(1) الحج: 41]
(2) الحشر: 9]
(3) سورة النور: 55]
(4) ينظر في ما سبق: اختلاف الدارين 1/ 24ـ30(1/329)
وقال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (1).
قال ابن تيمية:"نزلت في مكة لمّا كانت دار كفر وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها"(2).
وقال ابن القيم:"وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي دار الإسلام"(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: كانوا مشركي أهل الحرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه .(4)
ويمكن أن يقال: إن هذا التقسيم الثنائي ثبت وجوده فعلياً في أول يوم ولدت فيه الدولة الإسلامية الأولى التي استقرت أمورها بالمدينة المنورة، والتي تسمى بدار الهجرة أو دار المهاجرين.(5)
وبعد الهجرة، وخلال العهد المدني تعمّق هذا التقسيم، وظهرت أحكامه، واتضحت ملامحه وحدوده .(6)
ويوضح هذا ما ثبت في حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ... [الحديث، وفيه:] ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة الفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين"(7).
__________
(1) النحل: 112 ]
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/282
(3) أحكام أهل الذمة: ابن القيم 1/5
(4) رواه البخاري في صحيحه 6/172
(5) أحكام أهل الذمة 1/5
(6) اختلاف الدارين 1/ 75ـ 76
(7) تقدم تخريجه ص: 328 من هذا البحث(1/330)
المسألة الثانية: المعيار المعتبر في التقسيم
من خلال النصوص الواردة، وكلام أهل العلم يمكن أن نستنتج أن الأساس المعتبر لتقسيم الدور هو جريان الأحكام، ووجود السلطة في الدار . وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء .(1)
يقول القاضي أبو يوسف:"تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جل أهلها من الكفار . وتعبير الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين". (2)
وقال الكاساني:"لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر يصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها". (3)
وفي المدونة - من كلام ابن القاسم-:"وكانت الدار يومئذ دار الحرب لأن أحكام الجاهلية كانت ظاهرة يومئذ"(4).
وقال الشافعي: وإذا ظهر الإمام على بلاد أهل الحرب ونفى عنها أهلها، أو ظهر على بلاد وقهر أهلها، فقد صارت بلاد المسلمين وملكاً لهم"(5).
وقال ابن القيم:"دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام، وإن لاصقها"(6).
وقال ابن حزم:"ودارهم -أي أهل الذمة- دار إسلام لا دار شرك، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها"(7).
ويلاحظ من النقول المتقدمة أن بعض الفقهاء يعبر عن معيار التقسيم بظهور الأحكام، بينما يعبر آخرون عنه بوجود السلطة وغلبتها على الدار .
وإذا نظرنا إلى واقع الحال فإننا نجد أن هذين الأمرين متلازمان، فوجود السلطة من شأنه أن تسري أحكامها في البلد، ومن ذلك أمان المسلمين، وحمايتهم من الاعتداء، وتمكينهم من إقامة شعائر الإسلام .
__________
(1) المبسوط 10/144، بدائع الصنائع 7/130، المدونة 1/511، أحكام أهل الذمة 1/266، المحلى: ابن حزم 11/300
(2) المبسوط 10/144
(3) بدائع الصنائع 7/130
(4) المدونة 1/511
(5) الأم 4/191
(6) أحكام أهل الذمة 1/266
(7) المحلى: ابن حزم 11/300(1/331)
والحاصل مما سبق أن المعيار المعتبر لتقسيم الدار، وكون الدار دار إسلام أو دار حرب ابتداء هو: ( جريان الأحكام بوجود السلطة ) .
فإن كانت الأحكام فيها للإسلام، والسلطة والولاية والمنعة فيها لإمام المسلمين فهي دار الإسلام، وعلامة ذلك أن يأمن المسلمون فيها مطلقاً .
وإن كانت الأحكام فيها للكفر والسلطة والولاية والمنعة فيها للكفار فهي دار الحرب، وعلامة ذلك إلا يأمن فيها المسلمون .(1)
ويؤيد اعتبار هذا المعيار إضافة الدار إلى الإسلام أو الكفر أوغيرهما .
وفي هذا يقول الكاساني:"وإنما تضاف الدار إلى الإسلام أو الكفر فيها، كما تسمى الجنة دار السلام والنار دار البوار؛ لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار، وظهور الإسلام والكفر بظهور أحكامهما . فإن ظهرت أحكام الكفر في دار فقد صارت دار الكفر فصحت الإضافة . ولهذا صارت الدار دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى . فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها"(2).
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء في تقسيم الدار
اختلف الفقهاء في تقسيم الدور إجمالاً على قولين:
القول الأول: يقسم جمهور الفقهاء الدور إلى قسمين: دار إسلام، ودار حرب . (3)
__________
(1) اختلاف الدارين 1/ 35
(2) بدائع الصنائع 7/130
(3) شرح السير الكبير 2/507، بدائع الصنائع 7/130، المدونة 1/338-339، روضة الطالبين 5/433(1/332)
القول الثاني: لبعض الفقهاء كالماوردي(1)من الشافعية(2)، وهو مذهب الحنابلة(3)، حيث أضافوا قسماً ثالثاً وهو دار العهد أو الصلح، وهي الدار التي لم يظهر عليها المسلمون، وعقد أهلها الصلح بينهم وبين المسلمين على أن تكون الأرض لهم مقابل شيء يؤدونه من أرضهم يسمى خراجاً.
وهذا القول منسوب إلى الإمام الشافعي من خلال ما يفهم من كلام له في كتاب الأم .(4)
ويرى الجمهور أن دار العهد المذكورة آنفاً ليست قسماً مستقلاً، بل هي من دار الإسلام لأنهم بالصلح صاروا أهل ذمة تؤخذ منهم الجزية . (5)
ومن الملاحظ أن الفريق الأول نظروا إلى اعتبار الذمة فحكموا أن الدار دار إسلام، بينما نظر الفريق الثاني إلى اعتبار الدار وملكية الأرض فحكموا أنها دار عهد . (6)
…هذا هو تقسيم الدور على سبيل الإجمال ، وسيأتي تفصيل أنواع الدور، وتحقيق الخلاف في دار العهد في المطلب التالي بمشيئة الله تعالى .
المطلب الثالث: أنواع الدور في الشريعة الإسلامية
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: دار الحرب
المسألة الثانية: دار العهد
المسألة الثالثة: دار الإسلام
المسألة الرابعة: دار البغي
المسألة الأولى: دار الحرب
__________
(1) الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، قاضي قضاة عصره، أحد العلماء الباحثين المكثرين من التصانيف النافعة، كان له مكانه رفيعة بين الخلفاء، من مؤلفاته : الحاوي في الفقه الشافعية، الأحكام السلطانية، ت:450هـ . ينظر: سير أعلام النبلاء 18/64، الأعلام 4/327، شذرات الذهب 3/285
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص:175
(3) المبدع 3/379، شرح منتهى الإرادات 1/648، كشاف القناع 3/96، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص:164
(4) الأم 4/103-104………
(5) آثار الحرب: وهبة الزحيلي /160
(6) الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر ص:40(1/333)
…معنى الحرب: تطلق الحرب ويراد بها القتال، وهذا المعنى ظاهر في إضافة هذا الوصف للفظ الدار، فكل دار كفر تحارب دار الإسلام فهي دار حرب .
…لكن المتتبع لكلام الفقهاء يجد أن مرادهم بالحرب أشمل من حقيقة القتال، لأنه لا يشترط وجود حقيقة القتال لتكون الدار دار حرب، بل يكفي في هذا ظهور أحكام الكفر فيها، وعلى هذا يكون مرادهم بالحرب ظهور أحكام الكفر التي هي في حقيقتها محاربة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يقع من أهلها قتال .(1)
…ومما يدل على صحة هذا المعنى تعريفات الفقهاء لدار الحرب .
…فقد عرّف الفقهاء دار الحرب بأنها: كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة . (2)
…وقيل: ما يغلب فيها حكم الكفر .(3)
…وقيل: كل مكان يسكنه غير المسلمين، ولم يسبق فيه حكم إسلامي، أو لم تظهر فيه قط أحكام الإسلام .(4)
وتطبيقاً لما سبق على الواقع الدولي المعاصر، فإن مصطلح دار الحرب يشمل جميع البلاد التي ليس فيها ولاية إسلامية، ولا تسود فيها أحكام الشريعة، وذلك أياً كانت أنظمتها القانونية أو السياسية . ورعايا دار الحرب يسمون حربيين، ولا يلزم أن يكونوا حربيين بمعنى وجود القتال في جميع الأحوال، فقد يرتبطون أحياناً مع المسلمين بميثاق فيكونون حينئذ معاهدين.(5)
المسألة الثانية: دار العهد
__________
(1) تقسيم الدار في الفقه الإسلامي ص:177-178
(2) بدائع الصنائع 7/30، و كشاف الإقناع 3/43
(3) الإنصاف 4/121
(4) المبسوط 10/86، بدائع الصنائع 7/108
(5) آثار الحرب في الفقه الإسلامي / 160(1/334)
كان ظهور فكرة دار العهد تابعاً لتطور علاقة الدولة الإسلامية بغيرها، فحينما كانت الحروب قائمة على قدم وساق بين المسلمين وغيرهم ظهرت فكرة تقسيم الدنيا إلى دارين . فلما استقرت الأوضاع العامة وهدأت الحرب برزت الحاجة إلى تدعيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم عن طريق المعاهدات مع البلاد التي ليس فيها ولاية ولا تسود فيها أحكام الشريعة، وذلك أياً كانت أنظمتها القانونية أو السياسية .(1)
معنى العهد:
يطلق العهد في اللغة ويراد به عدة معان، منها: الأمان، واليمين، والمَوثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، ورعاية الحرمة .(2)
والذي يتعلق بموضوعنا من هذه المعاني هو الأمان والمَوثق ورعاية الحرمة ونحوها .
أما في الاصطلاح، فالعهد عند الأحناف: الصلح على ترك القتال مؤقتاً . (3)
وعند المالكية:"صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام"(4).
وعند الشافعية:"مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر"(5).
وعند الحنابلة:"أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض"(6).
تحرير النزاع في المراد بدار العهد:
…لدار العهد أو الصلح عند الفقهاء نوعان باعتبار ملكيتها:
…النوع الأول: الأرض التي يصالح أهلها الكفار على أنها للمسلمين، وتقر في أيدي أهلها بالخراج .
…ولا خلاف بين الفقهاء أن هذه الدار تتحول بناءً على هذا الصلح إلى دار إسلام، لأن السلطة والظهور فيها للمسلمين .(7)
…وبناءً على هذا يكون لهذه الدار أحكام دار الإسلام .
__________
(1) المصدر السابق
(2) ينظر مادة (عهد) في: لسان العرب 3/312، القاموس المحيط 1/387، مختار الصحاح 1/192
(3) بدائع الصنائع 7/108
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2/206
(5) مغني المحتاج 6/86
(6) المغني 9/238
(7) شرح السير الكبير 5/1530، المدونة 3/297، روضة الطالبين 5/433، الأحكام السلطانية للماوردي ص:175، الإنصاف 4/191(1/335)
…النوع الثاني: الأرض التي يصالح أهلها الكفار على أنها لهم، وعليهم الخراج .
وقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال، أذكرها على سبيل الإجمال:
…القول الأول: أنها تكون دار إسلام . وهذا مذهب الحنفية(1)وظاهر كلام المالكية(2)، وهو المذهب عند الشافعية(3) .
…القول الثاني: أنها تكون دار عهد لا دار إسلام ولا دار حرب . وهذا مذهب الحنابلة(4)، واختاره الماوردي من الشافعية(5) .
…القول الثالث: أنها تكون دار كفر . نص عليه ابن رجب الحنبلي(6) .(7)
__________
(1) شرح السير الكبير 5/2165
(2) ففي المدونة 1/338-339 سئل ابن القاسم - صاحب مالك - عن المعادن تظهر في أرض صالح عليها أهلها ؟ فقال: أما ما ظهر فيها من المعادن فتلك لأهلها، لهم أن يمنعوا الناس أن يعملوا فيها وإن أرادوا أن يأذنوا للناس كان ذلك لهم، وذلك أنهم صالحوا على أرضهم فهي لهم دون السلطان . قال: وما افتتحت عنوة فظهر فيها معادن، فذلك إلى السلطان يصنع فيها ما شاء ويقطع بها لمن يعمل فيها، لأن الأرض ليست للذين أخذوها عنوة .
…فقوله: (فهي لهم دون السلطان ) أي سلطان المسلمين . فظاهر كلامه أن سلطان المسلمين له سلطة عليهم، وهذا يعني أن دارهم دار إسلام . وينظر: اختلاف الدارين 1/37
(3) روضة الطالبين 5/433
(4) المبدع 3/379، شرح منتهى الإرادات 1/648، كشاف القناع 3/96
(5) الأحكام السلطانية للماوردي ص:175
(6) ابن رجب: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أحد العلماء من حفاظ الحديث، نشأ في بغداد وتوفي في دمشق، ومن مصنفاته : جامع العلوم والحكم، فتح الباري شرح صحيح البخاري ولم يكمله، ت:795هـ . ينظر: شذرات الذهب 6/339، المقصد الأرشد 2/81، الأعلام 3/295
(7) الاستخراج لأحكام الخراج 1/45(1/336)
…وهذا القول لا يخرج عن مضمون القول الثاني، ويزيد عليه وصف الكفر، وهو تحصيل حاصل، وعلى هذا فمؤدى القولين واحد .(1)
الترجيح
…من الواضح أن أحكام الكفر هي الظاهرة في هذه الدار، وأن السلطة فيها لأهل الكفر .
ومن ثم فلا يصح تسميتها بدار الإسلام لعدم ظهور أحكام الإسلام، كما أنه لا يصح تسميتها بدار الحرب نظراً لوجود العهد . وحقيقة هذه الدار أنها دار كفر وعهد .(2)
…ولهذا فإن أرجح هذه الأقوال القول الثاني، لما تقدم تقريره من اعتبار معيار جريان الأحكام، ووجود السلطة في الدار أساساً للتقسيم، فدار العهد ليست دار إسلام ولا دار حرب، بل هي دار كفر بينها وبين المسلمين عهد .
وقد يطلق بعض المتقدمين من الفقهاء - الذين يرون تقسيم العالم إلى دارين- على هذه الدار دار حرب، وليس مرادهم بإطلاق الحرب معنى القتال، وإنما مرادهم ظهور أحكام الكفر التي هي في حقيقتها حرب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والكفار وإن هادنوا المسلمين هدنة عارضة مؤقتة فإنهم لا يزالون مظنة الاعتداء على المسلمين، كما قال تعالى: { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } (3).(4)
…ولهذا جاء في شرح السير الكبير:"وإذا كانت دار من دور أهل الحرب قد وادع المسلمون أهلها على أن يؤدوا إلى المسلمين شيئاً معلوماً في كل سنة على أن لا يجري عليهم المسلمون أخكامهم ؛ فهذه دار الحرب، لأن الدار إنما تصير دار الإسلام بإجراء حكم المسلمين فيها، وحكم المسلمين غير جار، فكانت هذه دار حرب"(5).
تعريف دار العهد:
__________
(1) الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر ص:40
(2) الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي ص:178
(3) البقرة: 217 ]
(4) تقسيم الدار في الفقه الإسلامي ص:177-178
(5) شرح السير الكبير 5/2165(1/337)
…بناء على الترجيح المتقدم، يعرّف الفقهاء دار العهد هذه بأنها:"كل ناحية صالح المسلمون أهلها بترك القتال على أن تكون الأرض لأهلها"(1).
…ويمكن أن نعرف دار العهد بتعريف جامع، بأنها هي:(الدار التي ترتبط بدار الإسلام بعهود ومواثيق، إما مهادنة، وإما مصالحة على البقاء في الأرض بعد فتحها على أن تكون لهم ويدفعون مقابل ذلك خراجاً )(2) .
وقد نبه بعض الباحثين على أن الخراج وإن كان في الواقع قرينة على الولاء، لا يشترط وجوده لصحة كون الدار دار عهد، بل يمكن عقد المعاهدة ولو لم يشترط فيها دفع عوض مالي إلى المسلمين . (3)
…هذا ويشمل العهد مع دار الكفر كل دار تتبعها من دور الكفر الأخرى، فقد جاء في شرح السير الكبير:"ولو أن أهل دار الموادعة غلبوا على الدار الأخرى فصاروا عبيدا لهم، أو جعلوهم ذمة لهم، يؤدون إليهم الخراج فليس ينبغي للمسلمين أن يتعرضوا لهم، أما إذا صاروا عبيدا لهم فلأن الأمان بسبب الموادعة ثبت للأملاك كما يثبت للمالك . وأما إذا صاروا ذمة لهم فلأنهم صاروا من أهل دارهم مقهورين تحت أيديهم، بمنزلة أهل الذمة مع المسلمين ... وهذا للأصل الذي بينا أن المعتبر في حكم الدار هو السلطان في ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الدار الأخرى كانت الدار دار الموادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر في الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدارين حكم الموادعة"(4).
المسألة الثالثة: دار الإسلام
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص:178، وفتح القدير 5/334
(2) الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي ص:176
(3) آثار الحرب ص:159
(4) شرح السير الكبير 5/1702-1703(1/338)
…معنى الإِسلام: يراد بالإسلام الاستسلام والإخلاص . يقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أَحدهما هو المستسلم لأمر اللَّه، والثاني هو المُخْلِصُ للَّه العبادة من قولهم سَلَّمَ الشيء لفلان أَي خلصه، وسَلِمَ له الشيء ُ أَي خَلَصَ له .(1)
…ومعنى الإسلام: إِظهار الخضوع والقبول لما أَتى به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وبه يُحْقَن الدم.(2)
…ودار الإسلام عند جمهور الفقهاء هي: كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة .(3)
…وفصل بعض الشافعية فقالوا:"هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام، أو يسكنها المسلمون وإن كان معهم فيها أهل ذمة، أو فتحها المسلمون، وأقروها بيد الكفار، أو كانوا يسكنونها ثم أجلاهم الكفار عنها"(4).
ومن التطبيقات العملية لهذا الحكم أن حدود دار الإسلام كل ما يتبعها من جبال وصحاري وأنهار وبحيرات وأرض وجزر وما فوق هذه جمعياً من طبقات الجو مهما ارتفعت، وما تحتها جمعياً من طبقات الأرض مهما سفلت يعد في حكم دار الإسلام .
…أما البحار العامة فليست ملكاً لأحد عند الشريعة الإسلامية، وهذا يتفق مع القانون الدولي في عصرنا الحاضر، وليس في الشريعة الإسلامية ما يمنع من اعتبار البحار الإقليمية تابعة للدولة التي تملك الشاطىء إلى حد معين،كما هو مقرر في القوانين الدولية المعاصرة .(5)
المسألة الرابعة: دار البغي
…معنى البغي: يطلق البغي في اللغة ويراد به عدة معان، منها:
1- الطلب، وبغيته أبغيه: طلبته .
2-التعدّي ومجاوزة الحدّ . يقال: بَغَى الرجل علينا بَغْياً: عدل عن الحق واستطال، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء بغي .
__________
(1) لسان العرب 12/294 مادة (سلم)، وينظر نفس المادة في: القاموس المحيط 1/1448، ومختار الصحاح 1/131
(2) لسان العرب 12/294 مادة (سلم)
(3) بدائع الصنائع 7/130، المدونة 2/22، كشاف القناع 3/43……
(4) حاشية البجيرمي 4/220 …
(5) اختلاف الدارين 1/ 70(1/339)
3- قصد الفساد . يقال: فلان يَبْغي على الناس إِذا ظلمهم وطلب أَذاهم .
4- الظلم، وبَغَى الوالي: ظلم .
5- الكذب، و بغى بغياً: كذب . وقوله تعالى: { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } (1) يجوز أَن يكون ما نَبْتَغِي أَي ما نطلب، فما على هذا استفهام، ويجوز أَن يكون ما نكذب ولا نظلم، فما على هذا جحد . (2)
أما في الاصطلاح:
…فيعرف الحنفية البغاة بأنهم:"كل فرقة لهم منعة، يتغلبون ويجتمعون، ويقاتلون أهل العدل بتأويل، ويقولون: الحق معنا ويدَّعون الولاية"(3).
…والبغي عند المالكية:"هو الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة ولو تأولاً"(4).
…ويعرف الشافعية البغاة بأنهم:"الخارجون عن الطاعة لإمام أهل العدل، ولو جائراً، بامتناعهم من أداء حق توجه عليهم، بتأويل فاسد لا يقطع بفساده"(5).
…ويعرفهم الحنابلة بأنهم:"قوم من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش"(6).
…وعلى هذا، يعرّف الفقهاء دار البغي بأنها:"ناحية من دار الإسلام تحيَّز إليها مجموعة من المسلمين، لهم شوكة، خرجت على طاعة الإمام بتأويل"(7).
…ومن الواضح أن هذه الدار لا يمكن أن نعدها دار حرب، لأن شوكتها للمسلمين فهي في الحقيقة دار إسلام تفرَّد بها جماعة باغية من المسلمين خرجوا على طاعة الإمام الشرعي بحجة تأولوها وبرروا بها خروجهم، ثم إنهم تحصنوا في تلك الدار وأقاموا عليهم حاكماً منهم، وصار لهم بها جيش ومنعة .(8)
__________
(1) يوسف: 65]
(2) ينظر في هذه المعاني: مادة (بغا) في: لسان العرب 14/78، القاموس المحيط 1/1631، مختار الصحاح 1/24
(3) الفتاوى الهندية 2/283
(4) مواهب الجليل 6/278
(5) أسنى المطالب 4/111
(6) المغني 9/5
(7) الأحكام السلطانية للماوردي/38، وفتح القدير 5/334
(8) اختلاف الدارين 1/71(1/340)
وبهذا أكون قد انتهيت من بيان أنواع الدور في الشريعة الإسلامية، ومنه أنتقل إلى حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار هذه الأنواع .
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الدور
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الحرب
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار العهد
المطلب الثالث: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الإسلام
المطلب الرابع: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار البغي
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الحرب
…تقدم أن دار الحرب هي: كل بقعة تظهر فيها أحكام الكفر وسلطانه .
…ومن المعلوم بالضرورة مشروعية قتال الكفار من أهل دار الحرب، ومن ثم فإن دار الحرب مباحة لأعمال الجهاد بأنواعها .
…وقد ذهب عامة الفقهاء إلى أنه ليس من شرط جواز قتال أهل دار الحرب أن تكون الحرب قائمة بالفعل بين دار الكفر ودار الإسلام، بل إنه متى انتفت موانع القتال من عهد أو أمان ونحوها فإنه يجوز قتالهم .(1)
…ففي العناية شرح الهداية:"وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام وأداء الجزية واجب وإن لم يبدؤوا بالقتال"(2).
…وفي الكافي في فقه أهل المدينة:"يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم ... حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(3).
…وفي الأم:"فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران . أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه، والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية"(4).
__________
(1) العناية شرح الهداية 5/441، الكافي في فقه أهل المدينة 1/207-208، الأم 4/176، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/502-503
(2) العناية شرح الهداية 5/441
(3) الكافي في فقه أهل المدينة 1/207-208
(4) الأم 4/176(1/341)
…وقال ابن تيمية:"فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب"(1).
ومن الأدلة على ذلك:
1)قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (2).
وجه الاستدلال: عموم الآية يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف .(3)
2)عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"(4).
وجه الاستدلال: الحديث صريح في أن الله تعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل المشركين حتى يدخلوا في الإسلام . (5)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 28/502-503
(2) التوبة: 5 ]
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/121
(4) تقدم تخريجه ص: 279 من هذا البحث
(5) الأم 1/294(1/342)
3)عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ... الحديث . (1)
…وجه الاستدلال: دل الحديث على أنه استقر الحكم في المشركين على الدعاء إلى الإسلام وتخلية سبيلهم إن أجابوا، فإن أبوا فالدعاء إلى التزام الجزية، فإن أبوا فقتل المقاتلة وسبي الذرية .(2)
…وبهذا يتبين جواز تنفيذ الأعمال الفدائية في دار الحرب بشروطها المتقدمة، ولو لم تكن الحرب قائمة بالفعل بين دار الكفر ودار الإسلام، على أن يلاحظ في هذا الأمر شرط بلوغ الدعوة للكفار الحربيين كما تقدم بيانه .
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار العهد
…تقدم أن دار العهد هي: كل بلاد صالح المسلمون أهلها بترك القتال على أن تكون الأرض لأهلها .
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 328 من هذا البحث
(2) المبسوط 10/7(1/343)
ومن المقرر عند الفقهاء أنه يجوز للدولة الإسلامية أن تعقد صلحاً، أو معاهدة سليمة مؤقتة مع دولة من الدول الأخرى، وتمتنع عن قتالها لأجل دعوتها إلى الدخول في الإسلام، أو ضعف المسلمين مقارنة بعدوهم، ونحو ذلك من الأسباب .
قال الشافعي:"وإذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين، أو طائفة منهم لبعد دارهم، أو كثرة عددهم أو خَلَّة بالمسلمين، أو بمن يليهم منهم جاز لهم الكف عنهم ومهادنتهم على غير شيء يأخذونه من المشركين، وإن أعطاهم المشركون شيئاً قل أو كثر كان لهم أخذه"(1).
ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) } (2)
ففي هذه الآية أباح الله للأمة عقد الصلح مع الكفار عند دعاء الحاجة أو المصلحة .
وقد تقدم ترجيح أن الآية محكمة كما قرره الطبري وابن كثير وابن العربي، وأنها محمولة على حال الحاجة أو المصلحة كضعف قوتنا، أو إعادة تنظيم جيوشنا، أو رجاء إسلامهم، ونحو ذلك من المصالح .(3)
وجاء في السيرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل مكة في الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين،،كما في قصة الحديبية المشهورة. (4)
ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بمصالحة الحارث الغطفاني وعيينة بن حصن ويعطيهما من ثمار المدينة، واستشار في ذلك الأنصار، لما رآى قريش والأحزاب قد رمت أهل المدينة عن قوس واحدة .(5)
__________
(1) الأم 4/199………
(2) الأنفال: 61]
(3) ينظر ص: 63 من هذا البحث
(4) تقدم تخريجه ص: 64 من هذا البحث
(5) تقدم تخريجه ص: 64 من هذا البحث…(1/344)
إذا تقرر هذا، فإن من التطبيقات العملية لهذه المسألة ما أشار إليه د. محمد خير هيكل من جواز التزام الدولة الإسلامية عدم القيام بأي نشاط من قبلها في مجال الدعوة الإسلامية على أرض تلك الدولة المعاهدة إذا تطلبت مصلحة الدعوة الإسلامية الالتزام بذلك، نزولاً على حكم الضرورة التي يجوز فيها مالا يجوز في غيرها .(1)
…ويدل على هذا ما جاء في صلح الحديبية الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار مكة، فقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أن من ضمن ما اشترطته أهل مكة، أن لا يدعو أحداً من أهل مكة إلى الإسلام .
…ففي البخاري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة فاشترطوا عليه أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجُلُبَّان(2)السلاح، ولا يدعو منهم أحداً … الحديث"(3).
وجوب الوفاء بالمعاهدات:
…من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وجوب الوفاء بالعقود والعهود، كما قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (4).
…قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العهود:"يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرّمة"(5).
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية: محمد خير هيكل 1 /812……
(2) جُلُبَّان: شِبه الجِراب من الأَدَم يوضع فيه السيف مغموداً، ويَطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلّقه من آخرة الكُوْر (أي الرحل بأداته)، أَو في واسطته . لسان العرب مادة (جلب) 1/270
(3) رواه البخاري في كتاب الجزية برقم (3184)
(4) المائدة: 1 ]
(5) مجموع الفتاوى: ابن تيمية 29/146……(1/345)
…وقد أجمع العلماء على وجوب الوفاء بالمعاهدات المشروعة بين المسلمين والكفار، وأن العهد يقتضي وجوب الكف عن قتالههم، وترك التعرض لأنفسهم وأموالهم .(1)
…وعلى هذا، فإنه متى عقدت المعاهدة فإنه يجب الالتزام بمقتضاها من حيث وقف القتال ضد العدو، مادامت المعاهدة المعقودة مشروعة، ولم تنته مدتها .
…فإن نقض العدو المعاهدة، أو نبذها أحد الطرفين أو كلاهما قبل انتهائها، سقط الالتزام بها وعاد الأمر إلى ما كان عليه من إباحة القتال .
ومن الأدلة على ذلك:
1)قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (2).
…وجه الاستدلال: دلت الآية على وجوب الوفاء بالعهد للمشركين، ما لم ينتقض أو تنقضي مدته .
…وبيان ذلك: أن الله تعالى استثنى ممن بريء الله ورسوله منهم قوماً كان بينهم وبين رسول الله عهد خاص، ولم يغدروا ولم يهموا به، ففرق بين حكم هؤلاء الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقصوهم ولم يعاونوا أعداءهم عليهم، وأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وأمر بالنبذ إلى الأولين .(3)
__________
(1) شرح السير الكبير 5/1697، بدائع الصنائع 7/109، حاشية الدسوقي 2/206، الفواكه الدواني 1/397، مغني المحتاج 6/89، أسنى المطالب 4/225، المغني 9/239، الإنصاف 4/215
(2) التوبة: 4 ]
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/125(1/346)
2)عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من قتل معاهَداً لم يَرَح(1)رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً"(2).
…وجه الاستدلال: دل الحديث على تحريم قتل كل من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم . (3)
عن سُلَيم بن عامر(4)
__________
(1) يَرَح: بفتح الياء والراء، وأصله يَرَاح أَيْ وجد ريح، وقيل: يُرِح بضم أوله وكسر ثانيه، وقيل: يَرِح بفتح أوله وكسر ثانيه من رَاحَ يُرِيح . والأول أجود وعليه الأكثر . فتح الباري 6/270
(2) رواه البخاري في كتاب الجزية برقم (3166)
(3) فتح الباري 12/259
(4) سُلَيم بن عامر : سليم بن عامر الكلاعي الخبائري الحمصي، عُمِّر دهراً وشهد فتح القادسية، وكان يقول : استقبلتُ الإسلام من أوله فهذا يدل على أنه ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثقه أحمد بن عبد الله العجلي، وقال أبو حاتم : لا بأس به، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة مشهور، وقال النسائي : ثقة، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، ت:130هـ
3)ينظر: الطبقات الكبرى 7/464، تهذيب الكمال 11/344، سير أعلام النبلاء 5/185(1/347)
قال: كان بين معاوية - رضي الله عنه - وبين أهل الروم عهد وكان يسير في بلادهم، حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم فإذا رجل على دابة أو على فرس وهو يقول: الله أكبر وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عَبَسة(1) . فسأله معاوية عن ذلك . فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عهداً ولا يشدنه حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء". قال: فرجع معاوية بالناس .(2)
…وجه الاستدلال: في هذه الحادثة دليل على وجوب الوفاء بالعهد مع الكفار، ما دام أمده باقياً، ولم ينتقض .
…قال ابن تيمية:"ولهذا جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان كان أماناً لئلا يكون مخدوعاً، وإن لم يُقْصَد خدعه ...
…[وساق هذا الحديث ثم قال:] ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا يكون فيه خديعة بالمعاهدين، إن لم يكن في ذلك مخالفة لما اقتضاه لفظ العهد، فعلم أن مخالفة ما يدل عليه العقد لفظاً، أو عرفاً خديعة وأنه حرام"(3).
__________
(1) عمرو بن عَبَسة (صحابي) : أبو نجيح عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة السُّلَمي البجلي، الإمام الأمير أحد السابقين ومن كان يقال هو ربع الإسلام، وكان من أمراء الجيش يوم وقعة اليرموك، نزل حمص، واختلف في وفاته فقيل : إنه مات في أواخر خلافة عثمان، وقيل : مات بعد سنة ستين . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1192، سير أعلام النبلاء 2/456، الإصابة في تمييز الصحابة 4/658
(2) رواه أحمد 4/113، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2759)، والترمذي في كتاب السير برقم (1580) واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/472
(3) الفتاوى الكبرى 6/21(1/348)
…وجاء في عون المعبود:"وإنما كره عمرو بن عبسة ذلك لأنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها فإذا سار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه فعد ذلك عمرو غدراً"(1).
4)ومن الأدلة أيضاً،ما تقدم بيانه من معاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة في الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، كما في قصة الحديبية المشهورة . (2)
…والحاصل مما سبق أنه لا يجوز تنفيذ الأعمال الفدائية في دار العهد ما دام العهد بين المسلمين وبين الكفار قائماً، لم ينتقض، ولم ينقض أمده، والله تعالى أعلم .
المطلب الثالث: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الإسلام
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تنفيذ الأعمال الفدائية في جهاد الدفع
المسألة الثانية: قيام الفئات الخارجة على سلطة ولي الأمر بالأعمال الفدائية
…تقدم أن دار الإسلام هي: كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة .
…وإذا كانت الأعمال الفدائية باباً من أبواب الجهاد في سبيل الله، فإنه متى أمكن تصور وقوع الجهاد أو ما يُظَنُّ أنه من الجهاد في دار الإسلام، اتضحت صور هذه الأعمال .
…وبالنظر في ما يمكن وقوعه من الأعمال الفدائية في دار الإسلام، يظهر أن أبرز صور هذه الأعمال صورتان:
…الصورة الأولى: وقوع هذه الأعمال في جهاد الدفع .
…الصورة الثانية: قيام بعض الفئات الخارجة عن سلطة ولي الأمر بهذه الأعمال .
…كما سيأتي تفصيله في هاتين المسألتين .
المسألة الأولى: تنفيذ الأعمال الفدائية في جهاد الدفع
…تقدم في الفصل التمهيدي بيان إجماع أهل العلم على وجوب دفع العدو إذا دهم بلاد المسلمين وهو ما يسمى بجهاد الدفع، وأن هذا الواجب من الواجبات المتعينة على كل قادر من الأمة وإن لم يكن من أهل الجهاد .
__________
(1) عون المعبود 7/312
(2) تقدم تخريجه ص: 64 من هذا البحث(1/349)
…وبتأمل ما يمكن أن يقع من الأعمال الفدائية في جهاد الدفع يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
القسم الأول: الأعمال الفدائية الموجهة ضد العدو المحتل إذا كان متميزاً عن المسلمين والمعصومين:
…ومن الواضح أن هذا القسم من الأعمال الفدائية لا يختلف حكمه عن الأصل في حكم هذه الأعمال، فإن دم العدو الداهم مباح، ودفعه واجب بكل وسيلة مشروعة، ولا يترتب على قتاله وقوع ضرر بالمسلمين أو المعصومين .
…ومن الأمثلة العملية لهذه الأعمال في العصر الحاضر: ما يقع كثيراً من أعمال فدائية على أرض فلسطين المحتلة، فإن هذه الأعمال الموجهة ضد احتلال اليهود هي من قبيل جهاد الدفع ضد العدو المغتصب لجزء من دار الإسلام .
…وعلى هذا، فإن الأصل في هذا القسم من الأعمال الفدائية هو المشروعية، ما دامت موجهة ضد العدو المحتل، وتحققت فيها شروطها المتقدمة .
القسم الثاني: الأعمال الفدائية الموجهة ضد العدو المحتل إذا كان مختلطاً بالمسلمين أو المعصومين:
…يحدث في بعض الأحوال أن يقع القتل أو الضرر بالمسلمين أو المعصومين من الذميين والمعاهدين ونحوهم من المقيمين في دار الإسلام، بحيث تتعرض هذه الفئات للقتل تبعاً لقتل الكفار، وذلك في بعض صور الأعمال الفدائية التي تتسع دائرة تأثيرها بسبب استخدام المواد المتفجرة أو أسلحة التدمير الواسع، كما وقع في الآونة الأخيرة في كثير من الأعمال الفدائية في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، فما حكم هذه الأعمال ؟ .
…ومن المهم لتقرير حكم هذه الصورة من الأعمال الفدائية أن نستحضر بعض المقدمات التي تفيد في معرفة الحكم الشرعي لهذه الصورة، ومنها:
1-أن دفع العدو الداهم أو المحتل لبلاد الإسلام من أوجب الواجبات الضرورية المتعينة على الأمة بالإجماع .(1/350)
قال ابن تيمية:"وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان . وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(1).
2-حرمة دم المسلم، وعدم جواز التعرض له بأذى إلا لضرورة عامة تقدر بقدرها، كما نص عليه الفقهاء في مسائل التترس والإغارة ونحوها .
3-الراجح في مسألة تترس العدو بالمسلمين هو عدم جواز رمي الترس المسلم إلا لضرورة، ومن الضرورة إحاطة العدو بالمسلمين أو استباحته أرضهم .
4-من المسائل الشبيهة بهذه المسألة مسألة قتل المدنيين الحربيين تبعاً لقتل المقاتلين الحربيين في الغارات والتبييت والرمي بالأسلحة التي تقتل الجماعات كالمنجنيق، والصواريخ، والقنابل، ونحوها .
وقد سبق بيان أن الراجح في هذه المسألة هو الجواز إذا لم يمكن التمييز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله، بحيث يقصد في الرمي من يجوز قتله، كما جاء في حديث الصعب بن جَثّامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن الديار من ديار المشركين يُبَيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال:"هم منهم". هذا لفظ البخاري، وعند مسلم:"هم من آبائهم"(2).
والظاهر أن قياس مسألة الأعمال الفدائية الموجهة ضد العدو المختلط بالمسلمين أو المعصومين على مسألة تبييت الكفار قياس مع الفارق، لأنه وإن اتفقت المسألتان في وقوع القتل تبعاً، فإنهما مختلفتان في من يقع عليه القتل، ومن المعلوم أن حرمة دم المسلم أعظم من حرمة نساء وذراري المشركين .
ولهذا علّل النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز قتلهم بقوله:"هم منهم"، وهو ما لا يمكن أن يقال في قتلى المسلمين .
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5/538
(2) تقدم تخريجه ص: 311 من هذا البحث(1/351)
وبهذه المقدمات يظهر لي - والله أعلم - أن حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضد العدو المحتل الذي لا يتميز عن المسلمين والمعصومين هو عدم الجواز إلا لضرورة راجحة تقدّر بقدرها في أضيق الأحوال، صيانة لدم المسلم .
وعلى هذا فإنه متى كان للمسلمين مندوحة عن هذه الأعمال، وأمكنهم دفع العدو بغيرها من أعمال الجهاد، فإنه لا يجوز لهم القيام بها .
أما إذا لم يكن بد من القيام بهذه الأعمال فإنه يجوز تنفيذها حتى لو زهقت بسببها أرواح بعض المسلمين، دفعاً للمفسدة العامة باستباحة العدو أرض المسلمين، على أن تقدر الضرورة بقدرها، ويرجع في تقديرها إلى من يلي أمر الجهاد، بعيداً عن الفوضى والمجازفة، كما وقع في بعض هذه الأعمال الفدائية .
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
1)ما تقدم تقريره مراراً من النصوص الدالة على أن الأصل حرمة دم المسلم، فلا يحل قتله إلا لضرورة عامة راجحة، فإذا لم يكن هناك ضرورة عامة راجحة لم يجز قتله .
2)القياس على مسألة التترس . وذلك أن عامة الفقهاء أجازوا قتال الكفار إذا تترسوا بالمسلمين في حال الضرورة .
…ومن المعلوم أن نزول الضرر العام بالمسلمين هو من قبيل الضرورة، فيقال فيه حينئذ ما يقال في مسألة التترس .
…وقد يناقش هذا الاستدلال بأن القتل في مسألة التترس يكون بالمباشرة، بينما هو في هذه المسألة بالتبع دون قصد من منفذ العمل .
…ويجاب عنه بأن المعنى الجامع بين المسألتين هو قتل طائفة من المسلمين المعصومين لضرورة دفع المفسدة العامة، معنى كلي مناسب، وهو أعم وأقوى في التعليل من وجود الفارق بين وجود مباشرة القتل، وبين القتل تبعاً، والله أعلم .
3)ما سبق بيانه من قواعد الشريعة العامة المستندة إلى نصوص شرعية، ومنها:(1/352)
أ-قاعدة: (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) .(1)
فإذا اجتمعت المفاسد وأمكن درؤها جميعها فهو الواجب، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد .(2)
…ووجه ذلك: أن الضرورات تبيح المحظورات، فإذا وجد محظورات وكان من الواجب أو من الضروري ارتكاب أحد الضررين فيلزم ارتكاب أخفهما وأهونهما . (3)
ب-قاعدة: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) . (4)
من المعلوم أن قتال العدو المحتل هو دفع للضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام - أي مجتمعهم -، وإن لم يحصل فيه الظفر تضرر المسلمون كلهم . (5)
وبناءً على هذه القاعدة فإن مفسدة استباحة العدو المحتل بلاد الإسلام مفسدة متحققة يعم ضررها المسلمين، فيكون الواجب دفعها بارتكاب المفسدة الخاصة، تغليباً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة .
المسألة الثانية: قيام الفئات الخارجة على سلطة ولي الأمر بالأعمال الفدائية
…بعد ظهور الأعمال الفدائية المعاصرة، شهدت بعض البلاد الإسلامية أنواعاً من هذه الأعمال، قامت بها بعض الفئات الخارجة على سلطة بعض الحكام في بعض الدول الإسلامية .
…وقد استهدف كثيرٌ من هذه الأعمال الكفارَ المقيمين في البلاد الإسلامية، كما استهدفت في بعض أحوالها السلطة الحاكمة وأجهزتها ومرافقها .
…ولما كانت هذه الفئات - في الغالب - تقوم بتنفيذ هذه الأعمال باسم الجهاد، فقد اتخذت من الاستشهاد شعاراً لهذه الأعمال، فوصفتها في كتبها وبياناتها ووصايا منفّذيها المقروءة والمرئية بأنها أعمال استشهادية مشروعة .
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41، الفروق 1/210، قواعد الأحكام 1/93، المنثور في القواعد الفقهية 1/348، القواعد لابن رجب ص:246
(2) قواعد الأحكام 1/93
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41
(4) غمز عيون البصائر 1/280، كنز الدقائق مع شرحه تبيين الحقائق 6/147، الفتاوى الهندية 5/395، حاشية البجيرمي على المنهج 4/178
(5) فتح القدير 5/449(1/353)
…الوصف الشرعي للفئات الخارجة عن سلطة ولي الأمر:
…لأهل العلم تفصيل في الفئات الخارجة على سلطة ولي الأمر والأحكام المتعلقة بكل فئة .
قال ابن تيمية:"وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين، وبين أهل الجمل وصفين، وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين . وهذا هو المعروف عن الصحابة , وعليه عامة أهل الحديث , والفقهاء , والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم . وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :"تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"(1) . وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة, ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك، فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ... الخ كلامه"(2)
وعلى هذا فالفئات الخارجة عن سلطة ولي الأمر ثلاث ، وهي :
1)قطاع الطريق (المحاربون): وهم قوم مفسدون في الأرض يأخذون أموال الناس ويقتلونهم ويخيفون الطريق، امتنعوا عن طاعة الإمام, وخرجوا عن قبضته بغير تأويل .(3)
2)البغاة: وهم قوم فيهم منعة وشوكة، يخرجون على الإمام, فيمتنعون عن طاعته أويرومون خلعه، لتأويل سائغ .(4)
وقد وقع الخلاف في النفر اليسير الذين لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم, ويكون لهم تأويل . فيرى الجمهور وهم الحنفية(5)والشافعية(6)وأكثر الحنابلة (7)أنهم قطاع طريق .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1065) من حديث أبي سعيد الخدري
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35/54-55
(3) فتح القدير 6/99 ، مواهب الجليل 6/314 ، مغني المحتاج 5/401 ، المغني 9/3
(4) حاشية ابن عابدين 4/261 ، مواهب الجليل 6،278 ، مغني المحتاج 5/399 ، المغني 9/5
(5) فتح القدير 6/99
(6) مغني المحتاج 5/404
(7) المغني 9/3(1/354)
ويرى المالكية(1) وبعض الحنابلة(2)أن حكمهم حكم البغاة .
والراجح قول الجمهور إذ إن إثبات حكم البغاة للعدد اليسير، ومن ثم سقوط ضمان ما أتلفوه, يفضى إلى فتح باب الفتن وإتلاف أموال الناس بدعوى التأويل .(3)
3)الخوارج: وهم الذين يخرجون على ولي الأمر، ويكفرون من خالفهم، ويكفرون مرتكب الكبيرة, ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم .(4)
الفرق بين البغاة والخوارج:
قد يطلق لفظ البغاة ويراد به ما يعم البغاة والخوارج , نظراً لكون البغي والخروج متحققين في كل من الفريقين, ولذا روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في الخوارج : إخواننا بغوا علينا .(5)
أما في الاصطلاح الخاص عند الفقهاء فإن ثمة فروق بين الفئتين، ومنها :
الفرق الأول (في التكفير) : فالخوارج يتميزون عن البغاة بأنهم يكفرون من خالفهم، كما كفروا الفئتين من الصحابة، علي وعثمان وطلحة وغيرهم، ثم إنهم قالوا بحبوط حسنات من وقعت منه كبيرة، فكفّرو المسلم بارتكاب الكبائر . (6)
وبناءَ على هذا فإن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين وذراريهم بسبب الكفر، إذ لا تسبى الذراري ابتداء بدون كفر . (7)
الفرق الثاني (في نوع التأويل): فالبغاة لهم تأويل سائغ بمعنى أنه لا يقطع بفساده ولا يعارض أصول الشريعة، أما الخوارج فتأويلهم غير سائغ وهو معارض لأصول الشريعة . (8)
__________
(1) شرح الخرشي 8/60
(2) المغني 9/3
(3) المغني 9/3 ، أحكام البغاة ص: 62
(4) فتح القدير 6/100 ، حاشية العدوي 1/102 ، مغني المحتاج 5/401 ، المغني 9/4
(5) حاشية ابن عابدين 4/262
(6) المغني 9/7 ، مجموع فتاوى ابن تيمية 35/68-70
(7) حاشية ابن عابدين 4/262
(8) أحكام البغاة ص:50(1/355)
قال ابن تيمية:" والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته ولا يُحبِط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه، وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر وأنهم لايخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وأن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الإيمان شيء وهذه أقوال فاسدة مخالفة للكتاب والسنة المتواترة واجماع الصحابة ... ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال فطائفة سبت السلف ولعنتهم لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوباً وأن من فعلها يستحق اللعنة، بل قد يفسقونهم أو يكفرونهم كما فعلت الخوارج الذين كفروا على بن أبى طالب وعثمان بن عفان ومن تولاهما ولعنوهم وسبوهم واستحلوا قتالهم"(1).
الفرق الثالث (في الحكم بكفرهم): فإن الفقهاء اتفقوا على إسلام البغاة، ولم يقل أحد بكفرهم .
قال ابن تيمية:"وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين ; فإن القرآن قد نص على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي"(2) .
أما الخوارج فقد اختلف الفقهاء في كفرهم على قولين :
الأول) أن حكمهم حكم البغاة . وهو قول الجمهور وهم الأحناف(3)والشافعية(4)، وهوظاهر قول المتأخرين من الحنابلة وكثير من أهل الحديث (5).
وهو مذهب مالك لكنه يرى استتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا لأجل إفسادهم لا لكفرهم(6).
الثاني) أنهم كفار مرتدون، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث ورواية عند الحنابلة .(7)
الفرق الرابع (في البدء بالقتال):
فالخوارج يجوز -على الصحيح- قتالهم ابتداءً، أما البغاة فلا يُبدأون بقتال حتى يقاتِلون .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 35/68-70
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35/57
(3) قتح القدير 6/99-100
(4) نهاية المحتاج 7/403
(5) المغني 9/5
(6) المدونة 2/47 ، التاج والإكليل 8/368
(7) المغني 9/5 ، الإنصاف 10/323(1/356)
قال ابن تيمية:" فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتِلوا . وأما أهل البغي فإن الله تعالى قال فيهم : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1) فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء . فالاقتتال ابتداء ليس مأموراً به، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم، ثم إن بغت الواحدة قوتلت، ولهذا قال من قال من الفقهاء : إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتِلوا"(2).
وقال ابن قدامة:"والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء , والإجهاز على جريحهم، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم ووعده بالثواب مَنَ قَتَلَهم"(3).
…وبناءً على ما تقدم من هذه الفروق، وبالنظر في الفئات التي تقوم بهذه الأعمال في بعض البلدان الإسلامية يظهر أن هذه الفئات لا تكون من قطّاع الطريق وإن اشتركت معهم في القيام بالقتل والإفساد، نظراً لوجود التأويل والشبهات في أفكار هذه الفئات، وهذا الأمر ظاهر في كتبهم وشبهاتهم التي يحتجون بها ويستندون إليها .
…وعلى هذا يبقى الوصف الشرعي لهذه الفئات متردداً بين وصفهم بالبغاة والخوارج .
…فإن خرجوا على سلطة ولي الأمر بتأويل شرعيّ سائغ، يرون معه أن الحق معهم ويقومون بهذه الأعمال انطلاقاً من هذا التأويل ولم يكفروا المسلمين ويستحلوا دماءهم، فإنهم يكونون من البغاة .
…وأما إن خرجوا على ولي الأمر، وكفَّروا المسلمين بالذنوب التي دون الكفر واستحلوا دماءهم وأموالهم، كما يقع من جماعات التكفير في بعض البلدان الإسلامية؛ فإنهم يلتحقون حينئذ بالخوارج .
__________
(1) الحجرات: 9] …
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35/56-57
(3) المغني 9/5(1/357)
ومما يجب التنبه له في هذا الباب أن ينظر في التكفير الذي يصدر من بعض هذه الفئات على ضوء ما سبق .
فإن كان أصل مذهبهم التكفير بما هو دون الكفر، وما يترتب عليه من استحلال الدماء فهم من الخوارج . أما إن كانوا يرون التكفير بأمور هي من حيث الأصل كفر عند أهل العلم لكنهم ضلوا وتأولوا في تحقيق مناطها في الأعيان، كما لو أنزلوا الحكم على من لم تتحقق فيه شروطه أو وجد فيه مانع؛ فهم من البغاة لا من الخوارج، والله أعلم .
…أهم المفاسد المترتبة على الأعمال التفجيرية التخريبية في دار الإسلام:
…بدراسة وتأمل هذه الأعمال تبيّن أنه يترتب عليها عدة مفاسد ، ومنها:
1-سفك الدماء المعصومة:
…من المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرّمت الاعتداء عليها، وهذه الضروريات هي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل .
…وقد تضافرت الأدلة على تحريم الاعتداء على النفس المسلمة أو المعصومة من أهل الذمة أو العهد أو الأمان، وأن من فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب .
وقد دل على هذا أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها:
1)قول الله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (1).
2)وقوله سبحانه وتعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } (2).
وروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"(3)
__________
(1) النساء: 93]
(2) المائدة: 32]
(3) رواه الترمذي في كتاب الديات برقم (1395)، والنسائي في كتاب تحريم الدم برقم (3986) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي .
3)وقد رواه ابن ماجه من حديث البراء بن عازب كما في كتاب الديات برقم (2619) وصححه البوصيري في الزوائد 3/122(1/358)
.
4)وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار"(1).
5)وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"إن من وَرَطات(2)الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله"(3).
ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوماً إلى الكعبة فقال:"ما أعظمَك وأعظمَ حُرمَتَك والمؤمنُ أعظم حُرمةً عند الله منك"(4).
7)عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من قتل معاهَداً لم يَرَح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً"(5).
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الديات برقم (1398)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(2) وَرَطات: جمع وَرْطة، أي: الهلاك الذي لا ينجو منه . فتح الباري 12/188
(3) رواه البخاري في كتاب الديات برقم (6863)
(4) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة برقم (2032) موقوفاً (أي من كلام ابن عمر)، وقال عنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: حسن صحيح .
6)…وقد رواه ابن ماجه مرفوعاً (أي من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - )كما في كتاب الفتن برقم (3932) وفي إسناده ضعف كما في ضعيف الجامع رقم (5006)، فالصحيح أن هذا الأثر من كلام ابن عمر وليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم - .
(5) تقدم تخريجه ص: 359 من هذا البحث(1/359)
8)عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية - رضي الله عنه - وبين أهل الروم عهد وكان يسير في بلادهم، حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم فإذا رجل على دابة أو على فرس وهو يقول: الله أكبر وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة . فسأله معاوية عن ذلك . فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عهداً ولا يشدنه حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء". قال: فرجع معاوية بالناس .(1)
2-التعدي على الأموال المحترمة:
…وذلك بهدم المباني والمساكن، وإتلاف المرافق الخاصة والعامة، نظراً لاتساع دائرة تأثير هذه الأعمال بسبب استخدام المواد المتفجرة التي تحدث تدميراً شاملاً يفوق بعض أنواع الأسلحة المحظورة . وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (2).
…وروى أبو بكرة(3)- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"متفق عليه .(4)
3-ترويع الآمنين وإشاعة الهلع والفزع:
…وقد جاءت النصوص الشرعية بالنهي عن ترويع المسلم بأقل درجاته .
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 360 من هذا البحث
(2) البقرة: 205]
(3) أبو بكرة (صحابي) : نُفَيع بن الحارث، وقيل نفيع بن مسروح، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسبب كنيته أنه تدلى في حصار الطائف ببكرة وفر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم على يده وأعلمه أنه عبد فأعتقه، روى جملة أحاديث، وكان من فضلاء الصحابة وسكن البصرة، ت:51هـ، وقيل:52هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1530، سير أعلام النبلاء 3/5، الإصابة في تمييز الصحابة 6/467
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (67)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1679)(1/360)
…فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه"رواه مسلم .(1)
…وإذا كان هذا الوعيد على هذا الأمر اليسير وهو الإشارة بالسلاح إلى المؤمن، فكيف بمن يشيع الهلع والفزع في أوساط جموع المسلمين الغافلين .
4-الافتيات على ولاة الأمور والخروج على طاعتهم:
…وقد أمر الله المؤمنين بطاعة من ولاه الله أمرهم، وقرن طاعتهم بطاعته سبحانه، فقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (2).
…وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني"(3).
__________
(1) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب برقم (2616)…
(2) النساء: 59]
(3) تقدم تخريجه ص: 70 من هذا البحث(1/361)
…وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم . قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَن، قلت: وما دَخَنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها . قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". متفق عليه، وفي لفظ الإمام مسلم: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".(1)
…وعن تميم الداري(2)- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الدين النصيحة . قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(3).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3606)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1847)
(2) تميم الداري (صحابي) : أبو رقية تميم بن أوس بن خارجة اللخمي الفلسطيني، وفد سنة تسع فأسلم فحدّث عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر بقصة الجساسة في أمر الدجال، وكان عابداً تلاءً لكتاب الله، لم يزل بالمدينة حتى تحوّل بعد قتل عثمان إلى الشام، وتوفي بها سنة40هـ . ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/193، سير أعلام النبلاء 2/442، الإصابة في تمييز الصحابة 1/367
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (55)(1/362)
…هذه النصوص وغيرها تدل على تأكيد الشارع على انتظام أحوال الأمة بالسمع والطاعة لولاة الأمور وتحريم الخروج عليهم . وإذا بدر منهم شيء من الخطأ أو التقصير فإن الواجب سلوك الطريق الشرعي للإصلاح بالنصح لهم، مع تحلي الناصح بالحكمة والموعظة الحسنة .
5-اختلال الأمن وتعطل المصالح:
…وإذا اختل الأمن في المجتمع كان هذا بمثابة انفراط عقد يحصل بسببه مفاسد عظيمة، من إثارة الهرج، وفتح أبواب الفوضى، وإزهاق الأرواح، وانتهاب الأموال، وانتهاك الأعراض، وحرمان الناس من مزاولة أمور حياتهم، بل وتعطل المصالح والمقاصد الشرعية، كإقامة العبادات، ونشر الخير والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
6-تشويه صورة الدين، وتنفير الناس عنه:
…فإن مثل هذه الأعمال تلبِّس على عامة الناس، وتنفّرهم عن الدين، كما أنها تشوّه صورة الإسلام وأهله عند غير المسلمين، وتصدّهم عن اعتناقه، وتضل بسببها أفهام، وتزل أقدام .
…كما قال الله تعالى: { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1).
ونظراً لهذه المفاسد العظيمة التي وقعت في بلاد الإسلام بسبب هذه الأعمال، فقد أطبقت أقوال العلماء المعاصرين ومجامع الفقه ولجان الفتوى على إنكار وتحريم هذه الأعمال، وأنها من ضروب البغي والعدوان وليست من الجهاد المشروع ، ومن ذلك :
__________
(1) النحل: 94](1/363)
…أولاً : بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول حادث التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض في 20/6/1416هـ، وبيان الهيئة في جلستها الاستثنائية يوم السبت 13/2/1417هـ حول حادث التفجير الذي وقع بمدينة الخبر، وبيان الهيئة في جلستها الاستثنائية يوم الأربعاء 13/3/1424هـ حول حوادث التفجير التي وقعت بمدينة الرياض.(1)
…ثانياً : فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز، وفتوى الشيخ محمد بن عثيمين، وكلا الفتويين في حادث التفجير الذي وقع في العليّا بالرياض عام 1416هـ .(2)
…ثالثاً : فتاوى عدد من المفتين المعاصرين حول أحداث التفجير التي وقعت بمدينة الرياض يوم الاثنين 11/3/1424هـ منهم شيخ الأزهر، ومفتي سوريا، ومفتي لبنان، ومفتي نيجيريا، وآخرون .(3)
…مع الإشارة إلى أن بعض هذه الأعمال المشار إليها آنفاً اقتصرت على تفجير المنشآت واستهداف الأشخاص، ولم تشتمل على انتحار منفذي العمل، فما كان فيه قتل للنفس فهو من باب أولى في التحريم .
مناقشة بعض أدلة وشبهات أصحاب التفجيرات التخريبية في دار الإسلام :
…بتأمل الفكر الذي تتبناه الجماعات التي تقوم بهذه التفجيرات، يتبين أنها تنطلق في تقرير مشروعية هذه الأعمال في بلاد الإسلام من عدة اعتبارات، يعود أكثرها إلى مسائل علمية واجتهادات فقهية تتخذ منها هذه الجماعات مسوغاً لهذه الأعمال .
…وليس من مقاصد هذا البحث التوسع في إيراد أدلة وشبهات هذه الفئات والرد عليها، بقدر ما نشير إلى أهمها مع الرد عليها .
__________
(1) ينظر: الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص:23 وما بعدها، مجلة الإرهاب (إصدار خاص عن أحداث تفجيرات الرياض والمخططات الإرهابية بالمملكة) ص:16 وما بعدها
(2) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص: 48-53
(3) مجلة الإرهاب ص:44-45(1/364)
…ولنأخذ مثالاً عملياً للأعمال الفدائية التي تقع في دار الإسلام، وذلك فيما وقع مؤخراً من أعمال فدائية ضد مبانٍ يسكنها مواطني بعض الدول الكافرة في المملكة العربية السعودية .
…وفيما يلي أذكر على سبيل المثال أبرز الأدلة التي تستدل بها الجماعات التي تتبنى هذه الأعمال، مع مناقشتها بإيجاز:
…الدليل الأول:
……عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(1).
……وقد دل الحديث على أن كل المشركين من اليهود والنصارى لا يجوز لهم الإقامة في جزيرة العرب إلا لفترة وجيزة لقضاء حاجة أو استيفاء دين أو غيره، وأنه ليس لهم عهد ولا أمان ولا ذمة في جزيرة العرب . وبناءً عليه فالمقيمون في المجمعات السكنية لا ينطبق عليهم هذا الجواز، فلذلك يجب إخراجهم ولو بالقوة .(2)
الجواب:
……أما الاستدلال بحديث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) فالجواب عنه من وجوه:
……الوجه الأول: هذا الحديث لا يدل على جواز قتل مَن في جزيرة العرب من اليهود والنصارى والمشركين ألبتة، لا بدلالة منطوقه ولا بدلالة مفهومه . ولا يدل كذلك على انتقاض عهد من دخل جزيرة العرب من اليهود والنصارى لمجرد الدخول، ولم نجد من قال بذلك من أهل العلم .
……وغاية ما فيه: الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وهو أمر موكول إلى إمام المسلمين، ولو كان فاجراً .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجزية برقم (3168)، ومسلم في كتاب الوصية برقم (1637)
(2) انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض ص:40-42، أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:33(1/365)
……ولا يلزم من الأمر بإخراجهم إباحة قتلهم إذا بقوا فيها، فهم قد دخلوها بعهد وأمان، حتى على فرض بطلان العهد؛ لأجل الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فإن الكافر الحربي لو دخل بلاد المسلمين وهو يظن أنه مستأمن بأمانٍ أو عهد لم يجز قتله حتى يبلغ مأمنه أو يُعلِمه الإمام أو نائبه بأنه لا أمان له .(1)
……الوجه الثاني: أن لأهل العلم في تحديد جزيرة العرب المقصودة في الحديث كلاماً طويلاً وخلافاً مشهوراً بعد اتفاقهم على تحريم استيطانهم لحرم مكة .(2)
……الوجه الثالث: أن الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب يُحمل على ما إذا لم يحتج المسلمون إليهم في عمل لا يحسنه غيرهم، أو لا يُستغنى عن خبراتهم فيها.
……ويدل لذلك إقرارُ النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود على الإقامة بخيبر ليعملوا فيها بالفلاحة، لعجز الصحابة وانشغالهم عن ذلك.
……ولذا أبقاهم أبو بكر طيلة حياته، وعمر صدراً من خلافته؛ لحاجة المسلمين إليهم.
……ولما كثر عدد المسلمين في آخر عهد عمر، وقاموا بشأن الفلاحة والزراعة؛ استغنوا عن اليهود ونقض بعضهم ذمته، فأجلاهم عمر -رضي الله عنه- إلى الشام. (3)
__________
(1) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:36
(2) المصدر السابق ص:39
(3) ينظر: شرح مشكل الآثار 4/189-190(1/366)
……قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحةً؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم -يعني الجهاد- فلما كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفتحت البلاد، وكثر المسلمون، واستغنوا عن اليهود؛ فأجلوهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال:"نقركم بها على ذلك ما شئنا"(1). وفي رواية:"ما أقركم الله"(2) . وأمر بإجلائهم عند موته - صلى الله عليه وسلم - فقال:"أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"(3) . ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين -الجزيرة- بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم"(4).
……فتُحمل إذاً دلالة حديث إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب على المنع من استيطان المشركين لجزيرة العرب، لا إقامتهم فيها للعمل المؤقت، أو التجارة كما هو شأن الكفار الوافدين .(5)
الدليل الثاني: من المعقول، ومفاده:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المزارعة برقم (2338) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
(2) رواه البخاري في كتاب الشروط برقم (2730) من حديث عمر - رضي الله عنه -
(3) تقدم تخريجه ص: 377 من هذا البحث
(4) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:43-44
(5) المصدر السابق ص:51(1/367)
…ما الذي يجعل التفجيرات في الجزيرة عملاً إرهابياً، وفي غيرها من بلاد المسلمين جهاداً وأعمالاً استشهادية؟ لماذا يكون قتل المدنيين المسلمين (تبعاً) في غير بلاد الجزيرة من الجهاد!! وتفجير المباني في غير الجزيرة من الجهاد!! أليست كلها بلاداً إسلامية ؟.(1)
……ثم إن الأمريكيين محاربون، خانوا العهد وحاربوا المسلمين في كل مكان، سواء بالمباشرة كما فعلوا في أفغانستان والعراق، أو بالمساعدة كما في الشيشان وفلسطين بدعمهم للروس واليهود .(2)
الجواب: …
……الفرق بين التفجيرات في الجزيرة، والعمليات الاستشهادية في فلسطين والشيشان وأفغانستان هو أن الكفار في المملكة العربية السعودية معاهدون، فلا يجوز إيذاؤهم ولا الاعتداء عليهم ما داموا مقيمين لعهدهم لم يباشروا شيئاً مما يعتبر نقضاً له، فلا ينبغي أن يحملوا أوزار غيرهم، والله يقول: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (3)، ويقول: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (4).
……وأما الكفار في فلسطين والشيشان وأفغانستان فهم حربيون معتدون محتلون، ليس بينهم وبين أهلها عهد ولا أمان، وإنما هم محاربون، ولذا فقتالهم بالوسائل الممكنة أمر مشروع، بل هو جهاد في سبيل الله؛ لقوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) } (5).
__________
(1) انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض ص: 5، أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:7
(2) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:35
(3) الأنعام: 164]
(4) المائدة: 8 ]
(5) الحج: 39 ](1/368)
……وما حدث في بعض بلدان المسلمين لا يقتضي نقض كل عهد في كل بلدان المسلمين، خاصةً إذا تذكرنا أن بلدان المسلمين أصبحت ولايات متعددة تنفرد كل ولاية بسلطة مستقلة، ولها علماؤها وأهل الحل والعقد فيها، كما قرره فقهاء الإسلام، وهو الرأي الذي لا يسع المسلمين سواه، إذ لو قيل بخلافه لبطلت ولايات الإسلام المتعددة من عهد بني أمية .
……وإذا تقرر عدم انتقاض العهود في كل بلاد الإسلام بانتقاضها في بعضها بمباشرة القتال، فمن باب أولى عدم انتقاضها بالتسبب والإعانة، كما في الشيشان وفلسطين .
……إلا أنه مما يجب أن يفطن له أنه مع عدم انتقاض هذه العهود، فإنه لا يجوز الوفاء بما يتضمن التخاذل عن نصرة المسلمين في البلدان المعتدى عليها، فإن وقع هذا الشرط فهو باطل لا يلزم، بل لا يحل الوفاء به.(1)
الدليل الثالث: من المعقول أيضاً، ومفاده:
……أن هذه التفجيرات لا تحرم لكون بعض قتلاها من المسلمين الأبرياء الذين لا ذنب لهم، لأن مثل هؤلاء يجوز قتلهم تبعاً لا قصداً، قياساً على قتل المسلمين الذين يتترس بهم الكفار .(2)
الجواب:
……قياس قتل المسلمين في عمليات التفجير في الرياض على قتل المسلمين إذا تترّس بهم الكفار قياسٌ مع الفارق من عدة وجوه:
……الوجه الأول: ما قرره أهل العلم من أن قتل المسلمين المتترس بهم لا يجوز إلا بشرط أن يُخاف على المسلمين الآخرين الضرر بترك قتال الكفار، فإذا لم يحصل ضرر بترك قتال الكفار في حال التترس بقي حكم قتل المتترَّس بهم على الأصل وهو التحريم. فجوازه إذاً لأجل الضرورة، وليس بإطلاق .(3)
……فأين هذه الضرورة في قتل المسلمين الذين يساكنون النصارى في تلك المجمعات السكنية المستهدفة؟؟
__________
(1) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:13
(2) انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض ص:26، غزوة الحادي عشر من ربيع الأول ص:65
(3) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:16(1/369)
……الوجه الثاني: أن مسألة التترس خاصة بحال الحرب، وهؤلاء الكفار المستهدفون بالتفجير لسنا في حال حرب معهم، بل هم معاهدون مسالمون .
……الوجه الثالث: بيَّن أهل العلم أن قتل المسلمين الذين تترس بهم الكفار لا يجوز، إلا إذا لم يتأت قتل الكفار وحدهم . والكفار المستهدفون في تلك التفجيرات يمكن قتلهم -على فرض أنه لا عهد لهم ولا ذمة وأن دماءهم مهدرة- دون أذية أحد من المسلمين . (1)
الدليل الرابع:
……أن العهد الذي أعطي للكفار غير صحيح نظراً لعدم شرعية العاقد (2)، وهذه الأنظمة الحاكمة التي تعطي العهد والأمان للكفار كافرة بسبب موالاتها الكفار .(3)
الجواب:
……يجاب عن هذه الشبهة بعدة أوجه:
……الوجه الأول: ليس كل موالاة للكفار تكون كفراً، فقد اشترط بعض العلماء مع مساعدة الكفار المودة لهم؛ لقول الله عز وجل: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } (4)، واشترط بعض العلماء ألا يخشى المسلم سطوة الكافر وظلمه عن المساعدة، لآية الممتحنة، ولقصة حاطب بن أبي بلتعة(5) .(6)
__________
(1) المصدر السابق ص:17
(2) غزوة الحادي عشر من ربيع الأول ص:17
(3) انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض ص:9، غزوة الحادي عشر من ربيع الأول ص:17
(4) الممتحنة: 1 ]
(5) حاطب بن أبي بلتعة (صحابي) : أبو محمد حاطب بن أبي بلتعة عمرو بن عمير بن سلمة اللخمي المكي، من مشاهير المهاجرين شهد بدراً والمشاهد، وهو رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس صاحب مصر، وكان من الرماة الموصوفين، ت:30هـ . ينظر: الطبقات الكبرى 3/114، سير أعلام النبلاء 2/43، الإصابة في تمييز الصحابة 2/4
(6) رواها البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (3007)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم (2494)(1/370)
……قال ابن تيمية:"وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبيَّن له، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد قيام الحجة وإزالة الشبهة"(1).
……وقال في موضع آخر عن الإمام أحمد:"وإنما يكفِّر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته والقائلين بخلق القرآن، وقد ابتلي بهم الإمام -أي أحمد- حتى عرف حقيقة أمرهم، ومع ذلك ما كان يكفر أعيانهم"(2).
……وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ(3):"وأما إلحاق الوعيد المترتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله ... وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد، ففعلُ حاطب نوع من الموالاة بدليل سبب نزول الآية في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... الآية } (4)، فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به ولم يكفر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"خلوا سبيله". كما أنه يلزم من هذا تكفير المعين، وتكفير المعين لا بد من شروطه وانتفاء موانعه"(5).
……الوجه الثاني: أن كفر الحاكم على سبيل الفرض ليس موجباً لبطلان عقد الأمان؛ لأن الكافر دخل بلد الإسلام على أن الحاكم نافذ الكلمة وله الولاية والسلطة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/466
(2) المصدر السابق 23/348
(3) عبد اللطيف آل الشيخ : عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، من علماء الدعوة السلفية في نجد، وهو أحد أحفاد إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، برع في علمي الأصول والفروع، ومن مؤلفاته : تأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس، والإتحاف في الرد على الصحاف، ت:1293هـ . ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم ص:70
(4) الممتحنة: 1 ]
(5) الدرر السنية 1/466(1/371)
……والأمان ليس من الأمور التي لا تقام إلا بأمر الأمير وحده، ولا يشترط فيها تمام شروط الولاية بل الثابت عكس ذلك .
……ويدل على هذا حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"(1).
……ويدل عليه أيضاً حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت:"يا رسول الله زعم ابن أمّي علي أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرتُه فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"(2).
الدليل الخامس:
……يقولون: نحن ليس في أعناقنا بيعة لولي الأمر، حيث لم يبايعه أي واحد منا. وعلى فرض أن في أعناقنا بيعة، فأين العهد والأمان اللذين أعطاهما ولي الأمر لهؤلاء الكفار من يهود ونصارى؟.(3)
الجواب:
……أما ما يتعلق بالبيعة، فأهل الحل والعقد في البلاد من علماء ووجهاء وأعيان قد بايعوا ولي الأمر بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن القوم من رجال ونساء، كما كان الشأن في ذلك حينما قام المقدمون في قومهم عن عموم المسلمين في مبايعة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم من جاء بعدهم من ملوك المسلمين، فلم تكن المبايعة من العموم فرداً فرداً من ذكور وإناث، وإنما كانت مبايعة المقدمين منهم من أهل الحل والعقد مبايعة عامة عن جميع المسلمين في تلك البلاد، ولم يقل أحد من علماء المسلمين كافة أن مبايعة ولي الأمر عينية على كل مكلف من ذكر أو أنثى، بل هي فرض كفاية إذا قام بها البعض من أهل الحل والعقد صار ذلك القيام عن الباقين، ولزمت البيعة الجميع.(4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجزية برقم (3180)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1370)
(2) رواه البخاري في كتاب الجزية برقم (3171)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم (336)
(3) انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض ص:47، أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:62
(4) أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض ص:62(1/372)
……أما التساؤل عن العهد المعطى لهؤلاء الكفار في بلادنا من قبل ولي الأمر، فهو التأشيرة التي لا يدخل الأجنبي البلاد إلا بحصوله عليها، وهي تعني عقداً يقتضي العهد والأمان لحاملها من حيث حمايته وحماية حقوقه حتى يبلغ مأمنه، كما تعني رعاية هذا الأجنبي لتعليمات وتنظيمات البلاد ورعايته لأعرافها وتقاليدها وحقوقها، فالتأشيرة عقد بين حاملها ومصدرها تعني الحقوق والواجبات .(1)
والحاصل مما سبق، أنه يحرم القيام بالأعمال الفدائية في بلاد الإسلام على هذا الوجه المتجاوز للأحكام الشرعية، وإذا اشتملت هذه الأعمال التفجيرية على قتل النفس لتحقيق النكاية فإنها تعد من قبيل الانتحار المحرم لا الاستشهاد، والله أعلم .
المطلب الرابع: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار البغي
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حكم قتال البغاة
المسألة الثانية: كيفية قتال البغاة
المسألة الثالة: حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضد أهل البغي
…تقدم أن دار البغي هي: بلاد الإسلام التي يتحيز إليها مجموعة من المسلمين، لهم شوكة، وخرجوا على طاعة الإمام بتأويل .
…وإذا كانت هذه الدار وأهلها جزءاً من بلاد الإسلام، فإن الأصل في أحكام هذه الدار وأهلها ما تقرر من أحكام دار الإسلام، إلا ما ثبت بالأدلة استثناؤه .
…قال النووي:"حكم دار البغي حكم دار الإسلام، وإذا جرى فيها ما يوجب أقامه الإمام"(2).
وفيما يلي أتعرض بمشيئة الله تعالى إلى حكم قتال البغاة، والكيفية التي يقاتلون عليها، وعلى ضوء ذلك أبين حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضدهم باعتبارها نوعاً من أعمال القتال .
المسألة الأولى: حكم قتال البغاة
__________
(1) المصدر السابق ص:63
(2) روضة الطالبين 10/63(1/373)
…أجمع الفقهاء في الجملة على وجوب قتال البغاة .(1)
…وقد نقل النووي عن القاضي عياض قوله:"أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأى الجماعة وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم والاعتذار إليهم"(2).
ومن الأدلة على ذلك:
1)قوله تعالى: { وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (3).
…وجه الاستدلال: قال القرطبي:"في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين"(4).
…وقال ابن تيمية:"لم يأمر بقتال الباغية ابتداء . فالاقتتال ابتداء ليس مأموراً به ; ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم ; ثم إن بغت الواحدة قوتلت ; ولهذا قال من قال من الفقهاء إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا"(5).
2)عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:"من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"(6).
…وجه الاستدلال: دل الحديث على قتال الخارج على الإمام، وأنه لا ضمان فيه لأنه ظالم متعد في قتاله .(7)
__________
(1) بدائع الصنائع 7/141، المبسوط 10/128حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/299، منح الجليل 9/199-200، أسنى المطالب 4/115، حاشيتا قليوبي وعميرة 4/173، المغني 9/7، الفروع 6/154
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 7/170
(3) الحجرات: 9] …
(4) تفسير القرطبي 16/317
(5) الفتاوى الكبرى 3/446
(6) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1844)
(7) شرح صحيح مسلم للنووي 12/234(1/374)
3)الإجماع: فقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال البغاة، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - قاتل مانعي الزكاة، وعلي - رضي الله عنه - قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان .(1)
المسألة الثانية: كيفية قتال البغاة
…من المعلوم أن البغاة - وإن جاز قتالهم - يعدّون من أهل الإسلام، وعلى هذا فإن هناك فروقاً بين قتالهم وقتال الكفار . ومردّ هذه الفروق أن المقصود من قتال البغاة هو درء مفاسدهم والحيلولة دون تفريقهم الكلمة وشق عصا الطاعة، باستصلاحهم وزجرهم عن المعصية، وزجر من يقدم بعدهم على المعصية .(2)
…ولهذا فإن أهل العلم يفرقون بين قتال أهل البغي وقتال أهل الكفر من عدة أوجه .
…ومن أهم هذه الأوجه:(3)
1-أن يقصد بالقتال ردع أهل البغي، ولا يعتمد به قتلهم، ويجوز أن يعتمد قتل المشركين والمرتدين .
2-أن يقاتلهم مقبلين، ويكف عنهم مدبرين، ويجوز قتال المشركين مقبلين ومدبرين .
3-أن لا يجهز على جريحهم، وإن جاز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين .
4-أن لا يقتل أسراهم، وإن قتل أسرى المشركين والمرتدين .
5-أن لا يغنم أموالهم ولا يسبي ذراريهم .
6-أن لا يستعان لقتالهم بمشرك معاهد ولا ذمي، وإن جاز أن يستعان بهم على قتال أهل الحرب والردة .
7-أن لا يهادنهم إلى مدة ولا يوادعهم على مال .
__________
(1) المغني 9/3
(2) الفروق 1/211
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص:75-76، وينظر أيضاً في تعداد هذه الفروق: المدخل لابن الحاج 3/4، الفروق 4/201-202، الأشباه والنظائر للسيوطي ص:526، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص:55-56
على أن هذه الفروق مبثوثة في كتب الفقهاء في شتى المذاهب، ومقصودنا في هذا البحث الإشارة إلى الفروق إجمالاً وتفصيل ما يتعلق بالبحث من الفروق كما سيأتي بيانه قريباً .(1/375)
8-أن لا ينصب عليهم العَرَّادات(1), ولا يحرق عليهم المساكن، ولا يقطع عليهم النخيل والأشجار لأنها دار إسلام تمنع ما فيها وإن بغى أهلها . (وسيأتي الخلاف في هذه المسألة) .
…هذا في حال الاختيار، أما في حال ضرورة الدفع فإنهم يدفعون، ولو بقصد قتلهم .
…قال الماوردي:"فإن أحاطوا بأهل العدل وخافوا منهم الاصطلام جاز أن يدفعوا عن أنفسهم ما استطاعوا من اعتماد قتلهم ونصب العرّادات عليهم، فإن المسلم إذا أريدت نفسه جاز له الدفع عنها بقتل من أرادها إذا كان لا يندفع بغير القتل"(2).
المسألة الثالثة : حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضد أهل البغي
…إذا تقرر فيما سبق مشروعية قتال أهل البغي في الجملة، فإن من أهم المسائل التي ينبني عليها حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضدهم ؛ مسألة قتال أهل البغي بما يعم ضرره وإتلافه من الآلات أو الأعمال كرميهم بالمنجنيق، أو تحريق ديارهم، ونحو ذلك .
فهل يجوز قتال أهل البغي بهذه الوسائل وما في حكمها من أسلحة التدمير الواسع ؟…
اختلف أهل العلم في جواز قتال البغاة بما يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة على قولين:
القول الأول: جواز قتال البغاة بما يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة . وهو مذهب الحنفية(3)والمعتمد عند المالكية(4).
…قال الكاساني:"ويقاتل أهل البغي بالمنجنيق والحرق والغرق وغير ذلك مما يقاتل به أهل الحرب"(5)
…وفي الشرح الكبير:"ونقاتلهم بالسيف، والرمي بالنبل، والمنجنيق، والتغريق، والتحريق وقطع الميرة، والماء عنهم إلا أن يكون فيهم نسوة، أو ذراري فلا نرميهم بالنار"(6).
__________
(1) العَرَّادة: آلة صغيرة تشبه المنجنيق . لسان العرب مادة ( عَرَدَ ) 3/288
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص:76
(3) بدائع الصنائع 7/141، المبسوط 10/128
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/299، منح الجليل 9/199-200
(5) بدائع الصنائع 7/141
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/299(1/376)
…قال الدسوقي:"قوله: (والمنجنيق) هذا هو المعتمد خلافاً لابن شاس(1)القائل لا تنصب عليهم العرَّادات أي المجانيق"(2).
ومن أدلة هذا القول ما يلي:
1)قوله تعالى: { وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (3).
…وجه الاستدلال: دلت الآية على أن قتال البغاة فرض، ولم تقيد الآية كيفية هذا القتال بشيء، وعلى هذا يكون قتالهم كقتال أهل الحرب والمرتدين .(4)
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين، أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي .…
1-أما الإجمالي، فيقال: إن الأمر المشترك بقتال البغاة والكفار، لا يلزم منه اتفاق الأمرين في كيفية القتال، نظراً لاختلاف الفئتين المأمور بقتالهما، فإلحاق قتال إحداهما بقتال الأخرى أو قياسه عليه بعيد .
2-وأما التفصيلي: فقد دلت الأدلة، وعمل الصحابة على اختلاف كيفية قتال البغاة عن قتال الكفار، كما سيأتي بيانه في أدلة القول الثاني .
2)المعقول، وبيانه: أن قتال البغاة لدفع شرهم وكسر شوكتهم، فيقاتلون بكل ما يحصل به ذلك .(5)
…ويناقش هذا الاستدلال بأن دفع شرهم وكسر شوكتهم بحسب حالهم، ولا يلزم منه إطلاق قتالهم بكل وسيلة، لوجود الفرق بين قتالهم وقتال الكفار على وجه العموم .
__________
(1) ابن شاس: أبو محمد نجم بن شاس الجذامي السعدي المصري، شيخ المالكية في عصره بمصر، ومن كتبه: الجواهر الثمينة، في فقه المالكية، سكن دمياط ومات فيها مجاهداً والإفرنج محاصرون لها سنة 616هـ .
ينظر: شذرات الذهب 5/69، سير أعلام النبلاء 22/98، الأعلام 4/124
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/299
(3) الحجرات: 9] …
(4) المبسوط 10/129
(5) بدائع الصنائع 7/141(1/377)
القول الثاني: عِدم جواز قتال البغاة بما يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة . وهو مذهب الشافعية(1)والحنابلة(2)ورواية عند المالكية(3).
…قال الشافعية:"ولا نقاتلهم بما يعم ويعظم أثره كالمنجنيق والنار، وإرسال السيول الجارفة ولو تعذر الاستيلاء عليهم"(4).
…وقال الحنابلة:"ولا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه، كالنار، والمنجنيق، والتغريق، من غير ضرورة"(5).
ومن أدلة هذا القول:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن مسعود:"يا ابن مسعود أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال ابن مسعود: الله ورسوله أعلم . قال: فإن حكم الله فيهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم"(6).
…وجه الاستدلال: الحديث صريح الدلالة في اختلاف قتال البغاة عن قتال الكفار، وأن قتالهم دون قتال الكفار في الكيفية .
…ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأنه ضعيف الإسناد، فلا يصح الاحتجاج به .(7)
2)آثار الصحابة، ومنها:
__________
(1) أسنى المطالب 4/115، حاشيتا قليوبي وعميرة 4/173
(2) المغني 9/7، الفروع 6/154
(3) شرح الخرشي 8/60
(4) أسنى المطالب 4/115
(5) المغني 9/7
(6) رواه الحاكم 2/168، والبيهقي في السنن الكبرى 8/182
…قال ابن حجر:"سكت عنه الحاكم، وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ، وقال البيهقي: ضعيف، قلت: [والقائل ابن حجر]: في إسناده كوثر بن حكيم وقد قال البخاري إنه متروك . التلخيص الحبير 4/1354
…قلت: الحديث ظاهر الضعف كما قرر ابن حجر فإن فيه كوثر بن حكيم: قال أبو زرعة: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشيء وقال في موضع آخر: لا يسوى حديثه شيئاً، وقال الدارقطني وغيره: متروك .
1)…ينظر في ترجمته: الكامل في الضعفاء 6/76، الضعفاء للعقيلي 4/12، ميزان الاعتدال 5/404
(7) التلخيص الحبير 4/1354(1/378)
عن محمد بن علي بن الحسين(1)قال: قال علي بن أبي طالب:"لا يُذَفَّف(2) على جريح، ولا يُقْتَل أسير ولا يُتْبَع مُدبِر، وكان لا يأخذ مالاً لمقتول، يقول: من اعترف شيئاً فليأخذه"(3).
2-عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال:"شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يقتلون مولّياً، ولا يسلبون قتيلاً"(4).
وجه الاستدلال من هذه الآثار: دلت هذه الآثار القولية والعملية للصحابة على أن البغاة وإن شرع قتالهم فإن المقصود به دفعهم وردهم للحق، لا قتلهم .(5)
__________
(1) محمد بن علي بن الحسين : أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام، وذكره النسائي في فقهاء التابعين من أهل المدينة، ت:114هـ .
…ينظر: تهذيب الكمال 26/136، تذكرة الحفاظ 1/124، سير أعلام النبلاء 1/56
(2) يُذَفَّف: تذفيف الجريح الإجهاز عليه وإسراع قتله . لسان العرب مادة (ذفف) 9/110
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف 10/123، وابن أبي شيبة في المصنف 7/543، والبيهقي في السنن الكبرى 8/182
وإسناد الحديث عند عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه أنه سمعه يقول: قال علي .
…قلت: هذا إسناد جيد، رجاله ثقات عدا جعفر بن محمد وهو الصادق فهو صدوق إمام .تقريب التهذيب 1/141
…ولا يضر الإسناد وجود ابن جريج وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، فإنه وإن كان مدلساً فقد صرح بالسماع وهو ثقة فيما لم يدلس فيه .
وقد روي الحديث من طرق كثيرة عن علي كما تقدم عزوه عند ابن أبي شيبة والبيهقي .
1-وله شاهد صحيح عند الحاكم 2/167، والبيهقي في السنن الكبرى 8/182 عن أبي أمامة وهو الأثر التالي .
(4) رواه الحاكم 2/167، والبيهقي في السنن الكبرى 8/182 . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد 2/167، وصححه أيضاً الألباني في إرواء الغليل 8/114
(5) أحكام القرآن لابن العربي 4/130(1/379)
ومن ثم لا يجوز قتالهم بالأسلحة التي يعم إتلافها، نظراً لاتساع تأثيرها وإجهازها العام على المقاتَلين، وعدم تمييزها بين المقبل والمدبر .
3)ما تقرر وتقدم بيانه من أدلة عدم جواز قتل من لا يقاتل كالنساء والصبيان .(1)
…ووجه ذلك: أن ما يعم إتلافه من الأسلحة يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل .(2)
4)المعقول، وبيانه من وجهين:
1-أن المقصود بقتال البغاة ردهم إلى الطاعة، وقد يرجعون فلا يجدون للنجاة سبيلاً إذا ما استخدمت ضدهم هذه الأسلحة . (3)
2-أن ترك بلدة بأيدي طائفة من المسلمين يتوقع الاحتيال في فتحها أقرب إلى جلب المصلحة ودرء المفسدة من استئصالهم .(4)
الترجيح
…مما تقدم بيانه من الأدلة والمناقشة يتبين أن الراجح عدم جواز قتال أهل البغي بما يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة إلا لضرورة، كأن يحيطوا بأهل العدل ولا يندفع شرهم إلا بهذه الأسلحة، أو يقومون هم باستخدام هذه الأسلحة .
…وتطبيقاً لهذا الحكم فإن قتال البغاة يكون بطرق القتال التي لا تبيدهم، فلا يضربوا بالطائرات والصواريخ، ولا بآلات الدمار والحصد، ولا بالقنابل المحرقة أو السامة، ولا تهدم البيوت عليهم، أو تحرق زروعهم وأشجارهم . (5)
…وعلى هذا الترجيح، وفي ضوء ما تقدم من صور الأعمال الفدائية أقول:
…إن تنفيذ الأعمال الفدائية ضد أهل البغي فيه تفصيل:
…أ- فإن كانت الأعمال الفدائية مما لا يعم ضرره وإتلافه كأعمال الاقتحام والمخاطرة، أو تعريض النفس للأذى فداءً للغير، فإنه يجوز تنفيذها ضد البغاة، شريطة الالتزام بضوابط قتال هذه الفئة، كالكف عن مدبرهم، وعدم الإجهاز على جريحهم، ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء في الفروق بين قتال البغاة وقتال الكفار .
__________
(1) ينظر ص: 289 من هذا البحث
(2) المغني 9/7
(3) أسنى المطالب 4/115
(4) المصدر السابق
(5) القتال في الإسلام أحكامه وتشريعاته ص:124(1/380)
…ب- أما إن كانت الأعمال الفدائية مما يعم ضرره وإتلافه كالأعمال التي تستخدم فيها المواد المتفجرة التي تتسع دائرة تأثيرها، فإنه لا يجوز تنفيذها ضد البغاة إلا لضرورة، لأن ما كان يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة أو الوسائل لا يجوز استخدامه ضد أهل البغي إلا لضرورة .
وعلى هذا فلو كان ثم ضرورة، كما لو أحاط البغاة بأهل العدل ولم يجد أهل العدل طريقة للتخلص منهم ودفع صيالهم إلا بتنفيذ هذه الأعمال جاز تنفيذها بقدر الضرورة، والله تعالى أعلم .
وبهذا أكون قد انتهيت من الفصل الثالث (أحكام الأعمال الفدائية باعتبار محلها)، وهو الفصل الأخير من هذا البحث، ومنه انتقل إلى الخاتمة، وبالله التوفيق .
خاتمة البحث
خاتمة البحث:
في خاتمة هذا البحث أذكر على وجه الإيجاز خلاصة ماورد فيه من مسائل، وأبرز النتائج التي توصلت إليها، وذلك في النقاط التالية:
1-الجهاد في اللغة لفظ عام يراد به بذل الوسع والطاقة وتحمل المشقة لبلوغ غاية معينة .
2-للجهاد في الاصطلاح الشرعي معنيان، معنىً خاص، وآخر عام .
فمعناه الخاص : (قتال مسلم كافراً غير ذي عهد، بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاءً لكلمة الله)
أما المعنى العام فهو مفهوم واسع، فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله .
3-يقسم العلماء الجهاد إلى قسمين: جهاد طلب، وجهاد دفع . فجهاد الطلب: ابتداء قتال الكفار في بلادهم . وجهاد الدفع: قتال الكفار إذا دخلوا بلاد الإسلام .
4-حكم جهاد الطلب فرض كفاية على الأمة .
ويتحقق حد الكفاية الذي يسقط به الواجب باجتماع أمرين:
أ- دفاعي: ويراد به حماية حدود الدولة الإسلامية، وتأمين الثغور .
ب- دعوي: ويراد به تسيير الجيوش إلى بلاد الكفر لحمل دعوة الإسلام .
5-هناك حالات استثنائية يجب فيها الجهاد وجوباً عينياً وهي :
أ- إذا دهم العدو بلداً من بلاد المسلمين .
ب- إذا حضر المجاهد التقاء الصفين .
جـ- إذا استنفر الإمام قوماً إلى الجهاد .(1/381)
6-لجهاد الطلب شروط منها: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والحرية، والاستطاعة، وإذن الوالدين، وإذن الإمام .
أما في جهاد الدفع أو النفير العام فتسقط بعض الشروط مع القدرة، كشرط البلوغ والذكورة والحرية وإذن الوالدين وإذن الإمام إن تعذر استئذانه أوامتنع عن الدفع .
7-لابد أن يراعى في جهاد الطلب استطاعة الأمة وقدرتها على الجهاد مقارنة بأعدائها .
8-استثنى الفقهاء بعض الحالات التي يجوز فيها الخروج لجهاد الطلب دون إذن الإمام، منها:
أ- أن يترتب على إذن الإمام فوات مصلحة ظاهرة .
ب- فسق الإمام المنافي لمقاصد الجهاد .
جـ- عدم وجود الإمام .
9-الأعمال الفدائية هي: أعمال يُعَرِّض فيها المجاهد المتَخَفِّي - غالباً - نفسَه للقتل، لإلحاق نكاية بالعدو أو تحقيق مصلحة، طلباً للشهادة .
10-مما أسهم في انتشار الأعمال الفدائية في العصور المتأخرة، تبني الشعوب المضطهدة هذه الأعمال في الصراعات الأهلية أو الحروب ضد الاستعمار، ومنها: الحرب الأهلية الأمريكية، وحرب البوير، الحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام .
11-تطورت الأعمال الفدائية بعد اكتشاف المواد المتفجرة وتقدم تقنيتها في العصور المتأخرة.
12-بالنسبة للعالم الإسلامي:
- بدأ ظهور الأعمال الفدائية في فلسطين عام 1955م، وانتقلت إلى لبنان عام 1982م . وخلال العقدين الماضيين، أسهمت انتفاضتا الشعب الفلسطيني في إبراز الأعمال الفدائية كسلاح بارز في المقاومة .
- كما ظهرت بعض أنواع الأعمال الفدائية في أفغانستان ضمن حرب العصابات بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979م .
- وظهرت هذه الأعمال في الشيشان خلال الاجتياحين الروسيين عام 1996م، و1999م .
13-من أسباب ودوافع تبني حركات المقاومة الإسلامية الأعمال الفدائية:
- ماجُبِل عليه المسلمون من الفدائية والتضحية .
- ما يتعرض له المسلمون في عدد من بلادهم من تسلط أعدائهم .
- كون هذه الأعمال أضمن نجاحاً، وأقوى أثراً .(1/382)
- ضيق الخيارات الأخرى للمقاومة .
14-من آثار الأعمال الفدائية:
أولاً ) في الجانب البشري: ارتفاع نسبة القتلى في صفوف العدو بهذه الأعمال التي تعد أقل كلفة وخسائر .
ثانياً ) في الجانب النفسي: إرهاب العدو وتخويفه، وإدخال الرعب والخوف إلى قلبه .
ثالثاً ) في الجانب السياسي: كانت سبباً في اسحاب المحتلين كما وقع في جنوبي لبنان، كما أنها تهدد استقرار دولة العدو، وتفجر الخلاف والشقاق داخل أجهزتها، وتسهم في الحفاظ على حقوق الشعوب المضطهدة .
رابعاً ) في الجانب الاقتصادي: التأثير على اقتصاد العدو، وخلخلة مقوماته، وتأثر قطاع السياحة، وهبوط قيمة عملة الدولة المستهدفة، وارتفاع نسبة البطالة، وهبوط الاقتصاد إلى أسوأ حالاته .
خامساً ) في جانب الهجرة والاستيطان: كانت سبباً في تدني نسبة المهاجرين إلى الأرض المحتلة من الخارج، وزيادة معدل الهجرة العكسية والهروب إلى الخارج .
سادساً ) في جانب تحريض المجاهدين على القتال: إحياء روح الجهاد في النفوس، وتحريض المؤمنين على القتال، وبعث حب الجهاد والاستشهاد في الأمة .
15-تنقسم الأعمال الفدائية إلى قسمين رئيسيين:
1] الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه 2] الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده
16-الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه نوعان :
1)الاقتحام المظنون فيه الهلاك : والراجح جوازه بالشروط التالية :
أ-الإخلاص لله تعالى .
ب-وجود النكاية بالعدو، سواء كانت مباشرة، أو غير مباشرة .
ج-أن لا يترتب على هذا العمل مفسدة أكبر من مصلحته .
د-إذا كان العمل في غير حال المصافة والالتحام فيشترط للقيام به إذن الأمير، وأما إن كان في حال المصافة والالتحام فلا يشترط له إذن ما لم يصدر من الأمير نهي سابق .(1/383)
2)المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين : والراجح مشروعيتها، وتتأكد مشروعيتها في الدفع عن عموم جماعة من المسلمين، أو من يلي أمر الجماعة وتتأثر بفقده كالأمراء والقادة ونحوهم .
17-الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده أربعة أنواع :
1)قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً: وقد اتفق الفقهاء على أن من قتل نفسه بسلاحه فهو شهيد في الآخرة، والراجح أنه شهيد في الدنيا أيضاً .
2)قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب : وحكمه التحريم، فيحرم على المجاهد قتل نفسه خوفاً من الأسر أو التعذيب، بل الواجب عليه إما أن يقاتل حتى يُقْتَل (وهذا هو الأولى)، أو يستأسر ويصبر .
3)قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم : لا يخلو المسلم الذي وقع في الأسر وكان يحمل سراً أو أسراراً يتعلق بمصالح المسلمين من حالتين:
الحالة الأولى) أن يكون السر غير خطير: وفي هذه الحالة على المجاهد المأسور أن يصبر حتى وإن عذب، فإن لم يستطع الصمود فله أن يفشي السر، ولا يجوز له قتل نفسه .
الحالة الثانية) أن يكون السر خطيراً: فهذه الحالة لا تخلو من احتمالين:
1- أن يغلب على ظن الأسير أنه سيصمد أمام التعذيب حتى القتل: فلا يجوز له قتل نفسه ولا إذاعة السر، بل عليه أن يصبر ويصمد .
2 - أن يغلب على ظنه عدم الصمود، وإفشاء السر: والراجح أنه يجوز للأسير أن يبادر بقتل نفسه بالشروط التالية:
أ-أن تكون نيته خالصة لله تعالى .
ب-أن يكون السر خطيراً بحيث يترتب على كشفه ضرر كبير بالمسلمين .
ج-أن لا يستطيع حامل السر الصمود أمام التعذيب .
د-أن يقع صاحب السر في أيدي الأعداء حقيقة، أو يغلب على ظنه أنه واقع لا محالة .
4)تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو: وهي أشهر صور الأعمال الفدائية في الوقت الحاضر، وهي المرادة في الغالب عند إطلاق مصطلح الأعمال الفدائية والخلاف فيها .(1/384)
وأقوى الأقوال في هذه المسألة قولان: أحدهما القول بالجواز مطلقاً، والآخر القول بالجواز للضرورة . وهذا الأخير ( الجواز للضرورة ) بتخريج هذه الأعمال على مسألة التترس بجامع التوصل إلى قتل المشرك عن طريق قتل المسلم هو أقرب القولين عند الباحث . ويشترط لها الشروط التالية:
أ-وجود الضرورة كالخوف على الجيش، أو انهزام المسلمين، أو اعتداء العدو على دمائهم وأعراضهم وبلادهم، ونحو ذلك .
ب-إخلاص النية لله تعالى .
ج-أن يترتب على العمل نكاية بالعدو .
د-أن يغلب على ظن المجاهد أن النكاية لا يمكن تحقيقها بأية طريقة أخرى .
ه-أن تكون هذه الأعمال موجهة ضد من يجوز قتله من الكفار .
و-أن لا يترتب على هذه الأعمال مفسدة تربو على مصلحتها .
ز-أن يكون بإذن الإمام العدل إن تيسر أو أمير الحرب على ما تقدم في اشتراط إذن الإمام وأحواله .
ح-إذن الوالدين ما لم يكن الجهاد فرضاً متعيناً كما في جهاد الدفع .
18-الضوابط الشرعية العامة لمشاركة المرأة في الجهاد:
أ-أجمع العلماء على أن جهاد الطلب لا يجب على المرأة، لكن يجوز لها الخروج فيه، والمشاركة في بعض الأعمال المساندة له كأعمال التموين والإسعاف ونحوها .
ب-ظاهر السنة أن المرأة تؤخَّر عن مباشرة القتال حيث أخرها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يشرع للنساء مباشرة القتال حال الطلب وحال الدفع إلا عند تعينه حال الضرورة في جهاد الطلب أو الدفع وذلك للدفاع عن أنفسهن .
ج-يتعين جهاد الدفع على المرأة، ولو لم يأذن زوجها أو وليها، بثلاثة شروط:
الشرط الأول) أن يكون لديها القدرة والاستطاعة على الدفع .
الشرط الثاني) أن لا تحصل الكفاية بمن يدفع العدو من الرجال .
الشرط الثالث) أن يكون في خروجها مصلحة للمسلمين . ولولي أمر المسلمين أن يمنع النساء من الخروج للدفع إذا ترتب عليه مفسدة، أولم يكن فيه مصلحة للمسلمين .
د-يتقيد خروج المرأة لجهاد الطلب أو الدفع بخمسة قيود:(1/385)
القيد الأول: ألا تكون شابة، بل تخرج الكبيرات والعجائز المستطيعات من النساء .
القيد الثاني: أن يؤمن عليها بخروجها مع جيش عظيم .
القيد الثالث: أن يأذن الزوج في خروجها إلى جهاد الطلب، فإن لم يكن لها زوج فإذن وليها .
القيد الرابع: أن تخرج مع زوج أو محرم إن احتاجت للسفر: فإن كان خروجها في جهاد الطلب فلا يجوز لها أن تخرج بدون محرم، وإن كان في جهاد الدفع ففيه تفصيل: إن تعين الخروج عليها لضرورة دفع العدو فلا اعتبار للمحرم حينئذ، وإن لم يتعين عليها فلا يجوز لها الخروج إليه بدون محرم .
القيد الخامس: أن تلتزم الحجاب حال خروجها ومشاركتها في الجهاد، وبناء على القول الراجح يجب عليها ستر وجهها ويديها، ولا يجوز لها إبداء شيء من بدنها إلا ما ظهر بغير قصد، أو لضرورة تبيح لها الكشف عنه .
19-الضوابط الشرعية الخاصة بقيام المرأة بالأعمال الفدائية:
الأول) أن تكون مباشرة المرأة للأعمال الفدائية في حال الضرورة، ومن ذلك أن لا تحصل الكفاية بمن يقوم بهذه الأعمال من الرجال .
الثاني) الاستطاعة والقدرة على القيام بهذه الأعمال .
الثالث) أن يكون في قيامها بهذه الأعمال مصلحة للمسلمين .
الرابع) أن يأذن الزوج في قيامها بهذه الأعمال حال جهاد الطلب .
الخامس) إن احتاجت للسفر فعليها أن تخرج مع زوج أو محرم إلا لضرورة .
أ-فإن كان خروجها في جهاد الطلب فلا يجوز لها أن تخرج بدون محرم .
ب-وإن كان في جهاد الدفع فلا يخلو من حالين: إن لم يترتب عليه سفر فلا اعتبار للمحرم حينئذ، وإن ترتب عليه سفر فلا يجوز للمرأة الخروج إليه بدون محرم، إلا إذا تعين الخروج عليها لضرورة دفع العدو .
السادس) أن تلتزم الحجاب قدر الإمكان، وعلى القول الراجح عليها أن تستر بدنها كله عن الرجال إلا ما ظهر بغير قصد، أو لضرورة .
20-ينقسم الكفار عند الفقهاء إلى أربعة أنواع:(1/386)
1)أهل الذمة وهم: (غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة على أساس بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام) .
2)المعاهدون وهم: (كل حربي يكون بين بلاده وبلاد الإسلام صلح مؤقت على ترك القتال) .
3)المستأمنون وهم: (كل حربي يدخل بلاد الإسلام بأمان مؤقت) .
4)الحربيون وهم: (كل كافر لم يدخل في عقد الذمة، ولا يتمتع بأمان المسلمين ولا عهدهم ) .
21-الراجح في علة قتل الكفار هو قول الجمهور القائل بأن علة قتل الكفار إطاقة القتال،
وتحقيقاً لهذا المناط فإن كل حربي أطاق القتال وتأتّى منه يجوز قتله وإن لم يباشر القتال .
22-ينقسم المدنيون الحربيون من حيث الاتفاق والاختلاف في جواز قتلهم وصحة كونهم مدنيين إلى قسمين:
أولاً ) المدنيون الحربيون الذين لا يجوز قتلهم بالاتفاق . وهم: النساء، والصبيان، والخَناثَى المشكلين، والرسل، والمجانين .
ثانياً ) المدنيون الحربيون الذين اختلف في جواز قتلهم . وهم: الأجير، والأعمى، والزمنى ونحوهم، والراجح قول الجمهور بعدم جواز قتل هؤلاء لأنهم ليسوا من أهل القتال والممانعة .
23-هناك حالات استثنائية خارجة عن أصل الحكم يجوز فيها قتل المدنيين الحربيين، ومنها:
1] المشاركة في القتال بصورها المباشرة وغير المباشرة، ومنها:
أ-مباشرة القتال فعلاً .
ب-أن يكون له رأي أو مشورة في الحرب .
ج-تولي الملك أو الأمر .
د-التحريض والتشجيع على القتال .
2] إذا سب الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الإسلام .
3] في الإغارة على العدو إذا لم يمكن التمييز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله:
كما في التبييت، وشن الغارات ليلاً ونهاراً، والرمي بالأسلحة التي تقتل الجماعات
بحيث يقصد في الرمي من يجوز قتله .
4] تترس الحربيين المقاتلين بالحربيين المدنيين .
5] المعاملة بالمثل .
24-يجوز تنفيذ الأعمال الفدائية ضد كل حربي بلغته دعوة الإسلام، سواء كان فرداً أو جماعة محاربين .(1/387)
25-الراجح وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم إذا لم تكن بلغتهم الدعوة، واستحباب دعوتهم إذا كانت قد بلغتهم .
26-لا يجوز استهداف المدنيين الحربيين بالأعمال الفدائية في غير الحالات المستثناة، ومن أبرز ما يقع ضمنها اليوم : المشاركة في القتال، والإغارة إذا لم يمكن التمييز، والمعاملة بالمثل .
27-الدار عبارة عن الموضع أو البلد أو الوطن أو الإقليم أو المنطقة التي تسكن فيها مجموعة من الناس ويعيشون تحت قيادة سلطة معينة .
28-الأساس المعتبر لتقسيم الدور هو جريان الأحكام، ووجود السلطة في الدار .
يقسم جمهور الفقهاء الدور إلى قسمين: دار إسلام، ودار حرب . ويضيف بعض الفقهاء من غير المتقدمين كالماوردي وأبو يعلى قسماً ثالثاً وهو دار العهد أو الصلح .
29-دار الحرب بأنها: كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة
30-لدار العهد أو الصلح عند الفقهاء نوعان باعتبار ملكيتها:
النوع الأول: الأرض التي يصالح أهلها الكفار على أنها للمسلمين، وتقر في أيدي أهلها بالخراج، وهذه الدار دار إسلام .
النوع الثاني: الأرض التي يصالح أهلها الكفار على أنها لهم، وعليهم الخراج، وهذه الدار تكون على الراجح دار عهد لا دار إسلام ولا دار حرب .
31-دار العهد : الدار التي ترتبط بدار الإسلام بعهود ومواثيق، إما مهادنة، وإما مصالحة على البقاء في الأرض بعد فتحها على أن تكون لهم ويدفعون مقابل ذلك خراجاً .
32-دار الإسلام هي: كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة .
33-دار البغي هي: ناحية من دار الإسلام تحيز إليها مجموعة من المسلمين، لهم شوكة، خرجت على طاعة الإمام بتأويل .
34-يجوز تنفيذ الأعمال الفدائية في دار الحرب بشروطها المتقدمة، ولو لم تكن الحرب قائمة بالفعل بين دار الكفر ودار الإسلام، على أن يلاحظ في هذا الأمر شرط بلوغ الدعوة للكفار الحربيين .(1/388)
35-لا يجوز تنفيذ الأعمال الفدائية في دار العهد ما دام العهد بين المسلمين وبين الكفار قائماً لم ينتقض، ولم ينقض أمده .
36-وبالنظر في ما يمكن وقوعه من الأعمال الفدائية في دار الإسلام، يظهر أن أبرز صور هذه الأعمال صورتان:
1)تنفيذ الأعمال الفدائية في جهاد الدفع : وهذه الأعمال على قسمين:
أ- الأعمال الفدائية الموجهة ضد العدو الداهم إذا كان متميزاً عن المسلمين والمعصومين: وهذا القسم لا يختلف حكمه عن الأصل في مشروعية هذه الأعمال .
ب - الأعمال الفدائية الموجهة ضد العدو الداهم إذا كان مختلطاً بالمسلمين أو المعصومين: وهذا القسم الأصل يقتصر جوازه على الضرورة صيانة للدماء، على أن تقدر الضرورة بقدرها، ويرجع في تقديرها إلى من يلي أمر الجهاد .
2)قيام الفئات الخارجة عن سلطة ولي الأمر بالأعمال الفدائية: ونظراً للمفاسد العظيمة التي وقعت في بلاد الإسلام بسبب هذه الأعمال، فقد أطبقت أقوال العلماء المعاصرين ومجامع الفقه ولجان الفتوى على إنكار وتحريم هذه الأعمال، وأنها من ضروب البغي والعدوان وليست من الجهاد المشروع .
37-أجمع الفقهاء في الجملة على وجوب قتال البغاة، على أن هناك فروقاً بين قتالهم وقتال الكفار . ومردّ هذه الفروق أن المقصود من قتال البغاة هو درء مفاسدهم لا استئصالهم، إلا في حال ضرورة الدفع فإنهم يدفعون، ولو بقصد قتلهم .
38-الراجح عدم جواز قتال أهل البغي بما يعم ضرره وإتلافه من الأسلحة إلا لضرورة، وعلى هذا الترجيح فإن تنفيذ الأعمال الفدائية ضد أهل البغي فيه تفصيل:
أ- فإن كانت الأعمال الفدائية مما لا يعم ضرره وإتلافه كأعمال الاقتحام والمخاطرة، أو تعريض النفس للأذى فداءً للغير، فإنه يجوز تنفيذها ضد البغاة .
ب- أما إن كانت الأعمال الفدائية مما يعم ضرره وإتلافه كالأعمال التي تستخدم فيها المواد المتفجرة التي تتسع دائرة تأثيرها، فإنه لا يجوز تنفيذها ضد البغاة إلا لضرورة .(1/389)
والله تعالى أعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فهارس البحث
وتشمل الفهارس التالية:
أولاً: فهرس الآيات
ثانياً: فهرس الأحاديث
ثالثاً: فهرس الآثار
رابعاً: فهرس المراجع
خامساً: فهرس الموضوعات
أولاً: فهرس الآيات (حسب ترتيب المصحف)
نص الآية …… ……… رقم الآية الصفحة
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } …[ البقرة: 54 ]…181
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا } …[ البقرة: 190 ]…280, 289, 293, 302
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } …[البقرة: 193]…114, 280, 322
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } …[ البقرة: 194]…317
{ وأنفقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } …[ البقرة: 195 ]…138, 139, 140, 142, 149, 163
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } …[ البقرة: 197 ]…140
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } …[ البقرة: 205]…369
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } …[ البقرة: 207 ]…143, 144, 145, 148
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } …[البقرة: 216]…36
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } …[ البقرة: 217 ]…282, 291, 300, 349
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } …[ النساء: 29]…142, 171, 198
{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ } …[النساء: 41]…339(1/390)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } …[النساء: 59]…69, 370
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ ح } …[ النساء: 71]…51, 72
{ ألم تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } …[ النساء: 77]…62
{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } …[ النساء: 83 ]…203
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } …[النساء: 84]…72
{ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } …[ النساء: 92 ]…210
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } …[ النساء: 93]…367
{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } …[ النساء: 95]…38, 59
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } …[ المائدة: 1 ]…358
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } …[ المائدة: 3 ]…4
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } …[ المائدة: 8 ]…375
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل } …[ المائدة: 32]…367
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنزل إِلَيْكَ مِنْ ربك } …[ المائدة: 67 ]…2
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } …[ الأنعام: 164 ]…375
{ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } …[ الأعراف: 145]…337
{ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } …[الأعراف: 158]…75
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا ں } …[ الانفال: 15]…45
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } …[ الانفال: 39]…6, 36, 224(1/391)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } …[الانفال: 45]…45
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } …[ الانفال: 60]…66, 120
{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } …[ الأنفال: 61]…63, 357
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } …[ الانفال: 65]…55, 130
{ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا } …[ الانفال: 66]…45, 63
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا } …[ التوبة: 4 ]…359
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } …[ التوبة: 5]…36, 63, 283, 296, 310, 322, 355
{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } …[ التوبة: 8 ]…169
{ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } …[ التوبة: 12]…307
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } …[التوبة: 17]…50
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } …[التوبة: 18]…25
{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ } …[ التوبة: 29]…36
{ وقاتلوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } …[ التوبة: 36 ]…284, 296
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا } …[التوبة: 38-39]…46, 236
{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } …[التوبة: 41]…24, 46, 56, 72, 237
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ( } …[التوبة: 47]…51(1/392)
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ } …[التوبة: 91]…52, 53, 60
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } …[ التوبة: 111]…30
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } …[ التوبة: 122]…38, 224
{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } …[يوسف: 65]…351
{ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } …[ النحل: 94]…371
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } …[ النحل: 112 ]…340
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } …[ النحل: 126]…317
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } …[ الإسراء: 15]…319 ، 332
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } …[ الحج: 39]…62, 338, 376
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ } …[ الحج: 41]…339
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } …[ النور: 31]…253, 262, 263
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } …[سورة النور: 55]…339
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ } …[ النور: 62]…69
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } …[النور: 63]…70
{ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } …[الفرقان: 52]…26
{ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } …[ العنكبوت: 6]…26(1/393)
{ والذين جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } …[العنكبوت: 69]…27
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } …[ الأحزاب: 5 ]…210
{ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وتأسرون فَرِيقًا } …[ الأحزاب: 26 ]…169
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } …[ الأحزاب: 27]…337
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } …[ الأحزاب: 53]…263
{ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أبنائهن وَلَا إِخْوَانِهِنَّ } …[ الأحزاب: 55]…264
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } …[ الأحزاب: 59]…261
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ... } …[ الشورى: 39-40 ]…317
{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ } …[محمد: 35]…63
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ } …[ الفتح: 17]…59
{ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ } …[ الفتح: 25]…208
{ وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } …[ الحجرات: 9]…358 ، 382, 385
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } …[ الحشر: 9 ]…158, 159, 162, 337, 339
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } …[ الممتحنة: 1 ]…377, 378
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } …[الصف: 4]…30(1/394)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ } …[الصف: 10-11]…24, 30, 37, 51
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } …[ البينة: 5 ]…150
ثالثاً: فهرس الأحاديث (حسب الترتيب الهجائي)
طرف الحديث… الراوي الصفحة
أحي والداك ؟ قال: نعم . قال; ففيهما فجاهد …عبد الله بن عمرو…67
اختلف عامر بن الأكوع ومرحب ضربتين فوقع سيف مرحب …سلمة بن الأكوع…167, 202
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب…ابن عباس…373, 375
إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر …ابن عمر…3, 37
أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس يوم النحر خلفه …عبد الله بن عباس…257
استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر …البراء بن عازب…54
أسلم ثم قاتل . فأسلم ثم قاتل فقتل …البراء بن عازب…51
أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني …أبو موسى الأشعري…48, 49
أغِرْ على أُبْنَى صباحاً وحرِّق …أسامة بن زيد…311
أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم…رجل من أصحاب النبي…166
أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل …عبد الله بن عمرو…28
أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاتبعه نفر من قريش…سعيد بن المسيب…144
اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شَرْخهم …سمرة بن جندب…297
أمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا أبا بكر - رضي الله عنه - فغزونا ناساً …سلمة بن الأكوع…332
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله …ابن عمر…279, 285, 355
أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه …ابن عباس…309
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارّون… ابن عمر…332
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء ، وعبد الله بن رواحة بين يديه …أنس…306(1/395)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم… البراء بن عازب…358
أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها …أنس بن مالك…239
أن خلاد بن سويد بن ثعلبة الخزرجي دلّت عليه امرأة من بني قريظة …رحىً الواقدي…303
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض مغازيه ، فمر بأناس من مزينة …الحارث بن عبد الله…57
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار …أنس بن مالك…146
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …سهل بن سعد…200
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ... الآية …زيد بن ثابت…59
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد …ابن عمر…54
إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى …أبو أمامة…25
أن ناساً من عُكَل وعُرَينة قدموا المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - …أنس…318
أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه ، فخنقها رجل …علي…308
انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي …أبو هريرة…31
انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً… أنس بن مالك…394
إنما سَمَل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرِّعاء… أنس…319
إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق …عبد الله بن عون…330
أنه وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد يوم اجتمع المشركون وتمالؤوا عليه لقتله …عكاشة الغنمي…161
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت …أبو هريرة…145, 174
تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق …أبو سعيد …355(1/396)
جاء الحارث الغطفاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد شاطرنا …أبو هريرة…64, 357
جاء عبد فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة …جابر…57
جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم …أنس بن مالك…37
الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً …أبو هريرة…79
الحج جهاد كل ضعيف …أم سلمة…55
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية …المسور بن مخرمة…64, 73, 277, 357, 361
خرجت من المدينة ذاهباً نحو الغابة …سلمة بن الأكوع…77, 82
الدين النصيحة . قلنا: لمن؟ …تميم الداري…370
ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم …علي…379
رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد …معاذ بن جبل…25
رأيت يد طلحة بن عبيد الله التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شلت: …قيس بن أبي حازم…160
رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ …علي…52, 54
الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها …سهل بن سعد…31
سئل عن المشركين يُبَيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم… الصعب بن جثامة…310, 364
شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة …جابر بن عبد الله…256
شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام… أبو هريرة…95, 171
عَجِب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطأته ولحافه …ابن مسعود…147
عُرِضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قُرَيظة فكان من أنبت قُتِل …عطية القُرَظي…299
غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أخلفهم في رحالهم …أم عطية الأنصارية…230
فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام …أبو بكرة…369
قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ …أم هانئ…379
قد أُرِيتُ دار هجرتكم …عائشة…337
قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض …أنس بن مالك…131(1/397)
كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات …عائشة…261, 265
كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر …حذيفة بن اليمان…370
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس… أنس بن مالك…159
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه …عائشة…225
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه …بريدة بن الحصيب…328, 337, 341, 355
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار …أنس بن مالك…230
كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ، فجَزِع فأخذ سكيناً …جندب بن عبد الله…172
كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر… صهيب…180, 192
كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء …ابنَ عباس…225
كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم …أبو عمران أسلم التُجيبي…138
كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسقي القوم ونخدُمهم …الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ…229
كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء …الفضل بن عباس…258
لا ، لَكُنَّ أفضلُ الجهاد حج مبرور …عائشة…29
لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم …أبو سعيد الخدري…243
لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين …عبد الله بن عمر…264
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية… ابن عباس…46, 237
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة …أبو هريرة…243
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال …ابن عمر…243
لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها …أبو هريرة…243
لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم …ابن عباس…244(1/398)
لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه …سهل بن سعد…329
لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وأخذتنا ريحٌ شديدة …حذيفة بن اليمان…131, 155
لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس …أبو موسى الأشعري…304
لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً …أبي بن كعب…317
لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقد رأيت عائشة …أنس بن مالك…230
لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة - رضي الله عنه - بين يدي النبي أنس بن مالك…160
لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر …سعد بن أبي وقاص…308
لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت علي رائحة …طيبة ابن عباس…182
لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن …أبو هريرة وأبو سعيد…368
ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله …عبد الرحمن بن جبر…32
ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال… نعيم بن مسعود…291
ما قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما قط إلا دعاهم …ابن عباس…327
ما كانت هذه لتقاتل …رباح بن الربيع…282, 290, 294, 302
ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه …أبو هريرة…31
المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله …فضالة بن عبيد…28
المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان …عبد الله بن مسعود…262
من أشار إلى أخيه بحديدة ، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه …أبو هريرة…369
من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله …أبو هريرة…70, 370
من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه …عبد الله بن عمرو…382
من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة …ابن عمر…260
من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله …أبو موسى الأشعري…191(1/399)
من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة …عبد الله بن عمرو…359, 368
من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عهداً ولا يشدنه …عمرو بن عبسة…360, 369
من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه… أبو هريرة…32
نام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم …أم حرام بنت ملحان…226
نزلت هذه الآية في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة …ابن عباس…338
نعم ، عليهن جهاد لا قتال فيه …عائشة…55
نقركم بها على ذلك ما شئنا… ابن عمر…374
هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي . قال; أذنا لك؟ …أبو سعيد الخدري…67
والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا …عبد الله بن عمرو…367
والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل …أبو هريرة…39
وترس دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره …ابن إسحاق…161
وُجِدَت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …ابن عمر…289
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي عائشة…265
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا …كعب بن مالك…47
يا ابن مسعود أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ …ابن عمر…386
يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا …عائشة…255
يا رسول الله ، ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا… أم كبشة…227
يا رسول الله أي العمل أفضل؟ …عبد الله بن مسعود…25, 31
يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها …عدي بن حاتم…245
يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ... } …عائشة…263
ثالثاً: فهرس الآثار (حسب الترتيب الهجائي)
طرف الأثر…… الراوي الصفحة
أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن… ابن عباس…261(1/400)
أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث جيوشاً إلى الشام… يحيى بن سعيد…295
أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين …محمد بن سيرين…148
أن كتيبة من كتائب الكفار جاءت من قبل المشرق، فلقيهم رجل من الأنصار …أبو هريرة…144
إن من وَرَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها… عبد الله بن عمر…368
شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح… أبو أمامة…387
غزا بُسْر بن أرطاة الروم فجعلت ساقته لا تزال يصاب منها طرف… العلاء بن سفيان الحضرمي…137
قاتلتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن وأفر منكم اليوم… عكرمة بن أبي جهل…134
القُلْب والفَتْخَة …عائشة…259
كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين …ابن عباس…340
لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير… ابن عباس…289
لا يُذَفَّف على جريح ، ولا يُقْتَل أسير ولا يُتْبَع مُدبِر …علي…387
لما نزل خالد بن الوليد الصُفَّرَ قال واثلة …واثلة بن الأسقع…135
ما أعظمَك وأعظمَ حُرمَتَك والمؤمنُ أعظم حُرمةً عند الله منك …عبد الله بن عمر…368
ما في الكف والوجه …ابن عباس…253
هي الثياب …عبد الله بن مسعود…262
والزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم …ابن عباس…254
رابعاً: فهرس المصادر والمراجع
1)القرآن الكريم .
أولاً : كتب التفسير وعلوم القرآن
2)الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين محمد السيوطي، تحقيق : خليل محمد العربي، الفاروق الحديثة القاهرة، ط1، 1415هـ .
3)أحكام القرآن : أبو بكر الرازي (الجصاص )، تحقيق : محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث، بيروت، ط1، 1405هـ .
4) أحكام القرآن : محمد بن عبد الله الأندلسي (ابن العربي)، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، دار الفكر بيروت، ط1، دت .(1/401)
5)إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم : أبو السعود محمد العمادي، تحقيق : أحمد يوسف الدقاق، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، 19974م .
6)أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن : محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية القاهرة، ط1، 1415هـ .
7)البرهان في علوم القرآن : الزركشي، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة بيروت، ط1، 1391هـ .
8)تفسير ابن أبي حاتم : عبد الرحمن بن محمد الرازي، تحقيق : أسعد محمد الطيب، المكتبة العصرية صيدا، ط1، دت
9)تفسير ابن كثير : ابن كثير، دار الفكر، بيروت،ط1، 1401هـ .
10)تفسير البيضاوي : البيضاوي، تحقيق : عبد القادر عرفات، دار الفكر بيروت، ط1، 1416هـ - 1996م .
11)تفسير الطبري : ابن جرير الطبري، دار الفكر بيروت، ط1، 1405هـ
12)تفسير القرطبي : محمد بن أحمد القرطبي، دار الشعب، ط1، دت .
13)فتح القدير : محمد بن علي الشوكاني، تحقيق : علي محمد عمر، دار الفكر بيروت، ط1، 1396هـ .
14)المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : عبد الحق بن غالب بن عطية، طبعة المجلس العلمي بفارس، ط1، 1395هـ .
15)معالم التنزيل : الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق : خالد العك و مروان سوار، دار المعرفة بيروت، ط2، 1407هـ - 1987م .
16)المفردات في غريب القرآن : الحسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، تحقيق : محمد سيد كيلاني، دار المعرفة بيروت، ط1، دت
17)مناهل العرفان في علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الفكر بيروت، ط1، 1996م .
ثانياً : كتب الحديث وعلومه
18)الأحاديث المختارة : الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي، تحقيق : عبد الملك بن عبد الله دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة،ط1،1410هـ .
19)إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام : ابن دقيق العيد، تحقيق : أحمد شاكر، مكتبة السنة القاهرة، ط1، 1414هـ .(1/402)
20)إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل : محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط2، 1405هـ .
21)التلخيص الحبير : ابن حجر، مكتبة نزار الباز، ط1،1417هـ .
22)التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد : ابن عبد البر، تحقيق : مصطفى العلوي و محمد البكري، وزارة عموم الأوقاف بالمغرب، ط1، 1387هـ .
23)تهذيب السنن (حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود للمنذري) : ابن القيم، دار الكتب العلمية، ط2، 1415هـ - 1995م .
24)جامع التحصيل في أحكام المراسيل : أبو سعيد العلائي، تحقيق : حمدي عبد المجيد السلفي، دار عالم الكتب بيروت، ط2، 1407هـ - 1986م .
25)حديث يحيى بن معين (الفوائد) : ابن معين، تحقيق : خالد بن عبد الله السبيت، مكتبة الرشد الرياض، ط1، 1419هـ .
26)خلاصة البدر المنير تخريج أحاديث الشرح الكبير : عمر بن علي بن الملقن، تحقيق : حمدي عبد المجيد، مكتبة الرشد الرياض، ط1، 1410هـ .
27)الدراية في تخريج أحاديث الهداية : ابن حجر، تحقيق : السيد عبد الله هاشم، دار المعرفة بيروت، ط1، دت .
28)الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج : السيوطي، تحقيق : أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان الخبر، ط1، 1416هـ .
29)سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1412هـ .
30)سنن ابن ماجه : ابن ماجه، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
31)سنن أبي داود : أبو داود، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
32)سنن الترمذي : الترمذي، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث بيروت، ط1، دت .
33)سنن الدارمي : الدارمي، تحقيق : فؤاد زمرلي وخالد السبع، دار الكتاب العربي بيروت، ط1، 1407هـ .
34)السنن الكبرى : البيهقي، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، دار الباز، ط1، 1414هـ - 1994م .(1/403)
35)سنن النسائي : النسائي، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات حلب، ط2، 1406هـ .
36)شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك : محمد الزرقاني، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1411هـ .
37)شرح السنة : البغوي، تحقيق : زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ .
38)شرح النووي على صحيح مسلم : النووي، دار إحياء التراث بيروت، ط2، 1392م .
39)شرح رياض الصالحين : محمد بن صالح العثيمين، دار البصيرة الإسكندرية، ط2، 2001م .
40)شرح معاني الآثار : الطحاوي، دار المعرفة، ط1، دت .
41)شعب الإيمان : البيهقي، تحقيق : محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1410هـ .
42)صحيح ابن حبان : ابن حبان، تحقيق : شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط2، 1414هـ .
43)صحيح البخاري : البخاري، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير بيروت، ط3، 1407هـ - 1987
44)صحيح الجامع الصغير وزيادته : الألباني، المكتب الإسلامي، ط3، 1408هـ .
45)صحيح سنن ابن ماجه : الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1417هـ .
46)صحيح سنن أبي داود : الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1419هـ .
47)صحيح سنن الترمذي : الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1420هـ .
48)صحيح سنن النسائي : الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1419هـ .
49)صحيح مسلم : مسلم، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث بيروت، ط1، دت .
50)الضعفاء الكبير : محمد بن عمر العقيلي، تحقيق : عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية بيروت، ط1، 1404هـ .
51)ضعيف الجامع الصغير وزيادته : الألباني، المكتب الإسلامي، ط3، 1410هـ .
52)ضعيف سنن أبي داود : الألباني، مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1419هـ .
53)طبقات المدلسين : ابن حجر، تحقيق : د . عاصم بن عبد الله القريوتي، مكتبة المنار عمان، ط1، 1403هـ - 1983م .(1/404)
54)عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي : ابن العربي المالكي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، دت .
55)عمدة القاري في شرح صحيح البخاري : بدر الدين العيني، دار إحياء التراث بيروت، ط1، دت .
56)عون المعبود : محمد شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1995م .
57)فتح الباري :ابن حجر، تحقيق : محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، ط1، دت
58)الكامل في ضعفاء الرجال : عبد الله بن عدي ، تحقيق : يحيى مختار غزاوي، دار الفكر بيروت، ط3، 1409هـ - 1988م .
59)كتاب الضعفاء والمتروكين : ابن الجوزي، تحقيق : عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ .
60)مجمع الزوائد : الهيثمي، دار الريان للتراث القاهرة، ط1، 1407 هـ .
61)المستدرك على الصحيحين : أبو عبد الله الحاكم، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1411هـ - 1990م .
62)مسند أبي يعلى : أبو يعلى الموصلي، تحقيق : حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث دمشق، ط1، 1404هـ - 1984م .
63)مسند الإمام أحمد بن حنبل : أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة مصر، ط1، دت .
64)مسند البزار : أبو بكر البزار، تحقيق : د. محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن بيروت، ط1، 1409 هـ .
65)مشكل الآثار : الطحاوي، تحقيق : محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية،ط1، 1415هـ .
66)مصباح الزجاجة : أحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق : محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية بيروت، ط2، 1403هـ .
67)المصنف : عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، ط2، 1403هـ .
68)المصنف : عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
69)المعجم الأوسط : الطبراني، تحقيق : طارق عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين القاهرة، ط1، 1415هـ .(1/405)
70)المعجم الكبير : الطبراني، تحقيق : حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم الموصل، ط2، 1404هـ - 1983م .
71) المنتقى شرح الموطأ : سليمان الباجي، دار الكتاب الإسلامي، ط1، دت
72)الموطأ : الإمام مالك، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، ط1، دت .
73)ناسخ الحديث ومنسوخه : عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق : سمير بن أمين الزهيري، مكتبة المنار الزرقاء، ط1، 1408هـ .
74) نصب الراية : عبد الله بن يوسف الزيلعي، تحقيق : محمد يوسف البنوري، دار الحديث مصر، ط1، 1357هـ .
75)النهاية في غريب الحديث والأثر : المبارك بن محمد الجزري، طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية بيروت، ط1، 1399هـ .
76)نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار : الشوكاني، دار الجيل بيروت، ط1، 1973م .
ثالثاً : كتب الفقه وأصوله وقواعده
أ- كتب أصول الفقه وقواعده:
77)الإحكام : علي بن محمد الآمدي، تحقيق : د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، ط1،1404هـ .
78)الأشباه والنظائر : عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1403هـ .
79)إعلام الموقعين عن رب العالمين : ابن القيم، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل بيروت، ط1، 1973م .
80)أنوار البروق في أنواء الفروق (الفروق) : القرافي، دار عالم الكتب، ط1، دت
81)البحر المحيط : بدر الدين الزركشي، دار الكتبي، ط1، دت .
82)حاشية العطار على شرح الجلال المحلي : حسن بن محمد بن محمود العطار، دار الكتب العلمية، ط1، دت .
83)روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه : ابن قدامة، تحقيق : د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط2، 1399هـ .
84)شرح الكوكب المنير : محمد الفتوحي (ابن النجار)، تحقيق : محمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة المحمدية، ط1، 1372هـ .(1/406)
85)غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر: أحمد بن محمد الحموي، دار الكتب العلمية بيروت،ط1، 1405هـ .
86)الفصول في الأصول : أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق : د. عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف بالكويت، ط1، 1405هـ .
87)قواعد الأحكام في مصالح الأنام : عز الدين ابن عبد السلام، دار الكتب العلمية بيروت،ط1، دت .
88) القواعد في الفقه الإسلامي : ابن رجب الحنبلي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1992م .
89)كشف الأسرار شرح أصول البزدوي : عبد العزيز بن أحمد البخاري، دار الكتاب الإسلامي، ط1، دت .
90) مراتب الإجماع : ابن حزم، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، دت.
91)المستصفى : أبو حامد الغزالي، تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1413هـ .
92)المنثور في القواعد الفقهية :محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق : د. تيسير فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف بالكويت، ط2، 1405هـ .
93)الموافقات : الشاطبي، تحقيق : عبد الله دراز، دار المعرفة بيروت،ط1، دت .
ب- كتب المذهب الحنفي:
94)البحر الرائق شرح كنز الدقائق : ابن نجيم الحنفي، المطبعة العلمية المصرية، ط1، 1311هـ .
95)بدائع الصنائع : علاء الدين الكاساني، دار الكتب العلمية، ط2، 1406هـ
96)تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق : الزيلعي الحنفي، دار الكتاب الإسلامي القاهرة، ط1، 1313هـ .
97)حاشية رد المحتار على الدر المختار : محمد أمين (ابن عابدين)، دار الفكر بيروت، ط1، 1421هـ.
98)درر الحكام شرح غرر الأحكام : محمد بن فرموزا، دار إحياء الكتب العربية،ط1، دت .
99)درر الحكام شرح مجلة الأحكام : علي حيدر، دار الجيل،ط1، دت .
100)العناية شرح الهداية : محمد بن محمد البابرتي، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
101)المبسوط : السرخسي، دار المعرفة بيروت، ط1، دت .(1/407)
102)مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر : عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بدامار، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، 1328هـ .
ج- كتب المذهب المالكي:
103)بداية المجتهد : ابن رشد الحفيد، دار الفكر بيروت،ط1، دت
104)التاج والإكليل لمختصر خليل : محمد الرعيني (الحطاب)، دار الفكر بيروت، ط2، 1398هـ .
105)تبصرة الأحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : إبراهيم بن علي (ابن فرحون المالكي)، دار الكتب العلمية، ط1، 1301هـ .
106)حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : محمد عرفة الدسوقي، دار إحياء الكتب العربية، ط1، دت
107)حاشية الصاوي على الشرح الصغير : أحمد الصاوي، دار المعارف، ط1، 1986م
108)حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني : علي الصعيدي العدوي المالكي، دار الفكر بيروت، ط1، 1412هـ .
109)الذخيرة : القرافي، تحقيق : محمد حجي، دار الغرب، ط1، 1994م .
110)شرح مختصر خليل : محمد الخرشي، دار الكتب العلمية، ط1، 1417هـ .
111)فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك : محمد بن أحمد عليش، دار المعرفة بيروت،ط1، دت .
112)الفواكه الدواني : أحمد بن غنيم النفراوي ، دار الفكر بيروت، ط1، 1415هـ .
113)الكافي في فقه أهل المدينة : ابن عبد البر، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1407هـ .
114)المدونة : مالك بن أنس، دار صادر بيروت، ط1، 1323هـ
115)منح الجليل شرح مختصر خليل : محمد بن أحمد المعروف بالشيخ عليش، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
116)مواهب الجليل في شرح مختصر خليل : محمد الرعيني (الحطاب)، دار الفكر، بيروت، ط2، 1398 .
117)النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات : عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد القيرواني، تحقيق : د. محمد حجي، دار الغرب، ط1، دت .
د- كتب المذهب الشافعي:…
118)أسنى المطالب شرح روض الطالب : زكريا الأنصاري، دار الكتاب الإسلامي، ط1، 1313هـ(1/408)
119)الأم : الشافعي، دار المعرفة بيروت، ط1، 1393هـ .
120)تحرير ألفاظ التنبيه : النووي، تحقيق : عبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، ط1، 1408هـ .
121)حاشية البجيرمي على الخطيب : سليمان البجيرمي، دار المعرفة بيروت، ط1، 1398هـ .
122)حاشية البجيرمي على المنهج : سليمان البجيرمي، دار الفكر العربي، ط1، دت .
123)حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين للنووي : أحمد سلامة القليوبي وأحمد البرلسي عميرة، دار إحياء الكتب العربية، ط1، دت .
124)روضة الطالبين : النووي، المكتب الإسلامي، ط2، 1405 هـ .
125)فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب (حاشية الجمل) : سليمان العجيلي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، دت .
126)المجموع شرح المهذب : النووي، المطبعة المنيرية، ط1، 1344هـ .
127)مغني المحتاج : محمد الخطيب الشربيني، دار الفكر بيروت، ط1، 1980م .
128) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج : محمد بن أحمد الرملي، دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ .
129)الوجيز في الفقه مذهب الإمام الشافعي : أبو حامد الغزالي، دار المعرفة بيروت، ط1، 1399هـ .
هـ- كتب المذهب الحنبلي:…
130)الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل : علي بن سليمان المرداوي، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، 1376هـ .
131)دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (شرح منتهى الإرادات) : منصور البهوتي، دار عالم الكتب بيروت، ط2، 1996م .
132)شرح العمدة (من أول كتاب الصلاة إلى آخر آداب المشي إلى الصلاة) : ابن تيمية، تحقيق : د . خالد المشيقح، دار العاصمة الرياض، ط1، 1418هـ .
133)الفروع : ابن مفلح المقدسي، تحقيق حازم القاضي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1418هـ .
134)كشاف القناع : منصور البهوتي، دار الكتب العلمية، ط1، دت .
135)المبدع : إبراهيم بن محمد بن مفلح، المكتب الإسلامي بيروت، ط1، 1400هـ .(1/409)
136)مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى : مصطفى الرحيباني، المكتب الإسلامي دمشق، ط1، 1961م .
137) المغني : ابن قدامة، دار الفكر، ط1، 1984م .
و- كتب فقهية أخرى:
138)الإجماع لابن المنذر : ابن المنذر، تحقيق : د. فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة، الاسكندرية، ط3، 1402هـ .
139)أحكام إذن الإنسان في الفقه الإسلامي : محمد عبد الرحيم محمد علي، رسالة ماجستير مقدمة لكلية الشريعة بجامعة أم القرى، 1422هـ .
140)الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر : يوسف بن عبد اللطيف الجبر، رسالة دكتوراه مقدمة للمعهد العالي للقضاء بالرياض، 1421هـ .
141)إحياء علوم الدين : أبو حامد الغزالي، دار المعرفة بيروت، ط1، د ت .
142)الانتحار حقيقته ودافعه وطرقه وأحكامه : عبد العزيز إبراهيم المهنا، رسالة ماجستير مقدمة للمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1411هـ .
143)الأوسط : ابن المنذر، تحقيق د. صغير أحمد بن محمد حنيف، دار طيبة للنشر، ط1، 1985م .
144)التشريع الجنائي الإسلامي : عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، ط14، 1419هـ.
145)تعظيم قدر الصلاة : محمد بن نصر المروزي، تحقيق : د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، ط1، 1406هـ .
146)رسالة الحجاب لابن عثيمين (ضمن مجموعة رسائل في الحجاب والسفور) : رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، ط4، 1420هـ - 2000م .
147)الزواجر عن اقتراف الكبائر : ابن حجر الهيتمي، دار المعرفة، ط1، 1982م .
148)عودة الحجاب : محمد أحمد المقدم، دار طيبة الرياض، ط12، 1420هـ.
149)القتل بالسبب وآثاره في حقوق الله وحقوق العباد : علي صالح اللحيدان، رسالة ماجستير مقدمة للمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1415هـ .
150)المحلى : ابن حزم، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
151)المدخل لابن الحاج : محمد العبدري (ابن الحاج)، دار التراث، ط1، دت .(1/410)
152)الموسوعة الفقهية الكويتية : وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ط3، 1400هـ .
ز- كتب قديمة وحديثة في السياسة الشرعية:
153)إتحاف العباد بما تيسر من فقه الجهاد : عبد الفتاح عبد السميع بركات، دار البيارق، ط1، 1418هـ .
154)آثار الحرب في الفقه الإسلامي : د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، بيروت، ط3، 1401هـ .
155)أحكام البغاة : راشد بن محمد الهزاع، دار العمير لللثقافة والنشر، جدة، ط2،دت
156)الأحكام السلطانية : أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار الوطن، الرياض، ط1،دت .
157)الأحكام السلطانية : علي بن محمد الماوردي،دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1398هـ .
158)الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام : القرافي، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1416هـ .
159)أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله عز وجل في الفقه الإسلامي : د.مرعي عبد الله بن مرعي، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة، ط1، 1423هـ .
160)أحكام أهل الذمة : ابن القيم، تحقيق : يوسف البكري وشاكر توفيق، دار رمادي للنشر،ط1،1418هـ .
161)اختلاف الدارين وأثره في أحكام المناكحات والمعاملات : د. إسماعيل فطاني، دار السلام،ط1،دت .
162)الإرهاب والعمليات الاستشهادية : سلمان العودة . مجلة الدعوة العدد (1839)
163)أسئلة جريئة وأجوبة صريحة حول تفجيرات الرياض : الشيخ عبدالله المنيع وآخرون، مؤسسة الإسلام اليوم، ط1، دت
164)الاستخراج لأحكام الخراج : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1405هـ .
165)الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي : د. عبد الله إبراهيم الطريقي، دن، ط1، 1409هـ .
166)أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني : د.عثمان جمعة ضميرية، دار المعالي، ط1، 1419هـ .(1/411)
167)أفغانستان مقبرة الغزاة : أم القعقاع، تقديم عبد رب الرسول سياف،المجموعة الإعلامية بجدة،ط1،د ت
168)الانتفاضة والتتار الجدد : د . سفر الحوالي، المنتدى الإسلامي، ط1، 1424هـ - 2003م .
169)انتقاض الاعتراض على تفجيرات الرياض : عبد الله بن ناصر الرشيد، دن، ط1، 1424هـ .
170)تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام : بدر الدين ابن جماعة، تحقيق : د.فؤاد عبد المنعم أحمد، رئاسة المحاكم في قطر، ط1، 1405هـ .
171)تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد : سعيد عبد العظيم، دار الإيمان، ط2، 1990م .
172)تقسيم الدار في الفقه الإسلامي : خالد بن عبد الله البشر، رسالة ماجستير مقدمة لقسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود، 1419هـ .
173)جدوى الكفاح الفلسطيني المسلح "عملية مجدو نموذجاً" : سعيد عمر، مجلة المجاهد الصادرة عن بيت المقدس للثقافة والإعلام (العدد 355) .
174)الجهاد في الإسلام : توفيق علي وهبة، دار اللواء، ط4، 1401هـ ,
175)الجهاد في سبيل الله : محمود شاكر، مكتبة العبيكان، ط1، 1419هـ
176)الجهاد والفدائية في الإسلام : حسن أيوب، دار الندوة الجديد، بيروت .
177)الجهاد والقتال في السياسة الشرعية : د. محمد خير هيكل، دار البيارق بيروت، ط2، 1417هـ - 1996م .
178)الحرب الفدائية في فلسطين على ضوء تجارب الشعوب في قتال العصابات : العقيد محمد الشاعر، المطبعة التعاونية، ط2، 1968م .
179)خسائر العدو البشرية وأكاذيب الناطق العسكري الإسرائيلي : عبد الرحمن غنيم، حركة التحرير الوطني الفلسطيني، ط1، دت
180)دراسة تحليلية في العمليات الاستشهادية في جنوب لبنان : د . سعد أبو دية، جمعية عمال المطابع التعاونية، ط1، 1407هـ - 1986م .
181)السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية : ابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، ط1، دت .
182)شبهات حول العمليات الاستشهادية : آمال سليماني، منشورات ألوان مغربية، ط1، 1423هـ .(1/412)
183)شرح السير الكبير : السرخسي، معهد المخطوطات العربية، ط1، 1958م .
184)عبر وبصائر للجهاد في العصر الحاضر : د.عبد الله عزام، مكتبة الرسالة الحديثة بيروت، ط2، 1408هـ .
185)العمل الفدائي ومراحل حرب التحرير الشعبية : معين أحمد محمود ، المكتب التجاري، ط1، 1969م .
186)العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها : هاني بن عبد الله بن جبير، دار الفضيلة الرياض، ط1، 1423هـ - 2002م .
187)العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي : نواف هايل التكروري، دار الفكر دمشق، ط1، 1997م .
188)العمليات الاستشهادية وآراء الفقهاء فيها : العميد/محمد سعيد غيبة، دار المكتبي دمشق،ط1، 1417هـ .
189)عمليات المقاومة العسكرية والعمليات الاستشهادية التي نفّذتها حركات المقاومة الفلسطينية خلال عامين من انتفاضة الأقصى : إسماعيل عبد اللطيف الأشقر ومؤمن محمد غازي بسيسو، مركز النور للبحوث والدراسات، ط1، 1423هـ-2002م
190)غزوة الحادي عشر من ربيع الأول (عملية شرق الرياض وحربنا مع أمريكا وعملائها) : مركز الدراسات والبحوث الإسلاميَّة، ط1، 1424هـ .
191)الفدائيات : منى أحمد غندور، مطابع الوفاء بيروت، ط1، دت
192)فقه الجهاد في الإسلام : حسن أيوب، دار السلام، ط1، 1422هـ .
193)قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ : ابن تيمية، مكتبة أضواء السلف الرياض، ط1، 1424هـ .
194)القتال في الإسلام أحكامه وتشريعاته : محمد بن عبد العزيز الجعوان، دن، ط1، 1401هـ .
195)قراءة في فقه الشهادة : لجنة فلسطين الإسلامية ( مجموعة مؤلفين )، بيت الحكمة، ط1، 1991م .
196)قضايا فقهية في العلاقات الدولية حال الحرب: د . حسن عبد الغني أبو غدة، مكتبة العبيكان الرياض، ط1، 1420هـ .
197)كيف يستشهد الفدائيون : عمر أبو النصر، مكتب عمر أبو النصر، ط1، د ت .
198)المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار : عبد العزيز بن صالح الجربوع، دن، ط1، 1422هـ .(1/413)
199) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام : أحمد بن إبراهيم الدمشقي المشهور بابن النحاس، تحقيق : إدريس محمد علي ومحمد خالد اصطنبولي، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1410هـ .
200)المقاومة الوطنية اللبنانية 1982م - 1985م : العمليات الاستشهادية وثائق وصور : المركز العربي للمعلومات، ط1، 1985
201)المهندس : غسان دوعر، منشوارت فلسطين المسلمة لندن، ط2، 1997م .
202)موعد مع الشاباك : غسان دوعر، منشورات فلسطين المسلمة لندن، ط1، 1995م
203)هجرة المرأة وجهادها في السنة : لطيفة محسن القرشي، بحث مقدم للحصول على درجة الماجستير بكلية التربية للبنات بجدة ، 1408هـ - 1987م .
204)هل انتحرت حواء أم استشهدت؟ : أبو عمر محمد بن عبد الله السيف، صوت القوقاز، ط1، 1422هـ .
ح- كتب ورسائل قديمة وحديثة في الفتاوى:
205)الدرر السنية في الأجوبة النجدية : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دن، ط5، 1416هـ .
206)فتاوى الرملي : شهاب الدين أحمد بن أحمد الرملي، المكتبة الإسلامية، ط1، دت .
207)الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية : محمد بن فهد الحصين، دار الأخيار الرياض، ط2، 1424هـ .
208)فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم : محمد بن إبراهيم آل الشيخ، المطابع الحكومية، ط1، 1399هـ
209)الفتاوى الفقهية الكبرى : ابن حجر الهيتمي، المكتبة الإسلامية، ط1، دت .
210)الفتاوى الكبرى : تقي الدين ابن تيمية، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، دت .
211)الفتاوى الهندية : لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق، ط1، 1310هـ .
212)مجموع الفتاوى : أحمد بن تيمية، دار عالم الكتب الرياض، ط1، 1412هـ - 1991م .
213)مجموع فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله بن منيع : عبد الله بن منيع، دار العاصمة، ط1 ، 1420هـ
رابعاً : كتب السيرة والتاريخ(1/414)
214)2194يوماً من أيام الحرب العالمية الثانية : عدد من القادة الفرنسيين، الدار العربية للموسوعات بيروت، ط1،دت .
215)أفغانستان نشأتها وكفاحها : د. إحسان حقي،دار الفكر،ط1،2004م .
216)البداية والنهاية : ابن كثير، تحقيق : علي البجاوي، مكتبة المعارف بيروت، ط1، 1412هـ .
217)تاريخ الأمريكتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الأمريكية : عبد الفتاح أبو علية،دار المريخ، ط1، 1986م
218) تاريخ الأمم والملوك : ابن جرير الطبري، تحقيق : د. إحسان حقي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1407هـ .
219)التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر : د . جلال يحيى، المكتب الجامعي الحديث، ط1، دت .
220)تاريخ أوربا الحديث والمعاصر : عبد الفتاح أبو علية و إسماعيل ياغي، دار المريخ، ط3، دت .
221)تاريخ أوربا في العصر الحديث : هـ .أ.ل.فِشر، ترجمة : أحمد هاشم ووديع الضبع، دار المعارف بمصر، ط7،دت
222)تاريخ أوربة المعاصر : راغب العلي وآخرون، طبعة جامعة دمشق، ط1، 1995م .
223)تاريخ جنوب أفريقيا : جديون.س.وير، ترجمة : د.عبد الرحمن عبد الله آل الشيخ، دار المريخ، ط1، 1406هـ .
224)التجربة العسكرية الفيتنامية : علي فياض، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ط1، 1990م .
225)جرائم الحرب في فيتنام : براتراند راسل، ترجمة : محمود فلاحة، وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي دمشق، ط1، 1968م .
226)الحرب العالمية الثانية : رمضان لاوند، دار العلم للملايين بيروت، ط1، دت
227)الحرب العالمية الثانية : سهيل سماحة وأنطوان مسعود، مؤسسة نوفل بيت الحكمة بيروت، ط1، دت .
228)ذكريات عربي أفغاني : د. أيمن صبري فرج، دار الشروق، ط1، 1422هـ .
229)زاد المعاد : ابن القيم، تحقيق : شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط26، 1412هـ - 1992م .
230)السيرة النبوية : ابن هشام، تحقيق : عمر تدمري، دار الكتاب العربي، ط3، 1410هـ .(1/415)
231)صفحات من سجل الأنصار العرب في أفغانستان : باسل محمد، دار العلم للطباعة والنشر، ط2، 1412هـ
232)فيتنام المسائل العسكرية الراهنة : فان تيان دونغ، ترجمة : أحمد عبد الكريم، مركز الدراسات العربية بدمشق، ط1، 1983م .
233)فيتنام قصة حرب العصابات : ويلفرد . ج . بورشيت، ترجمة : وديع وهيب، دار الكاتب العربي، ط1، 1968م .
234)مقدمة ابن خلدون : عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار القلم بيروت، ط5، 1984م .
235)موجز تاريخ الولايات المتحدة : آلان نيفينز و هنري ستيل كوماجر، ترجمة : محمد بدر الدين خليل، الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط1، 1990م .
خامساً : كتب التراجم
236)الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ابن عبد البر، تحقيق : علي البجاوي، دار الجيل بيروت، ط1، 1412هـ .
237)الإصابة في تمييز الصحابة : ابن حجر، تحقيق : علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ .
238)البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع : الشوكاني، طبعة مصر دن، ط1، 1348هـ .
239)التاريخ الأوسط : البخاري، تحقيق : محمود إبراهيم زايد، دار الوعي حلب، ط1، 1397هـ .
240)التاريخ الكبير : محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق : السيد هاشم الندوي، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
241)تاريخ بغداد : أحمد بن علي (الخطيب البغدادي)، تحقيق : د. محمد عب المعيد خان، دار الكتب العلمية، ط3، دت .
242)تاريخ مدينة دمشق : علي بن حسن (ابن عساكر)، تحقيق : عمر بن غرامة العمري، دار الفكر بيروت، ط1، 1995م .
243)تقريب التهذيب : ابن حجر، تخقيق : محمد عوامة، دار الرشيد سوريا، ط1، 1406هـ .
244)تهذيب الأسماء : النووي، دار الفكر بيروت، ط1، 1996م .
245)تهذيب التهذيب : ابن حجر، دار الفكر بيروت، ط1، 1404هـ .
246)تهذيب الكمال : أبو الحجاج المزي، تحقيق د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة بيروت، ط1، 1400هـ - 1980م .(1/416)
247)الثقات : ابن حبان، السيد شرف الدين أحمد، دار الفكر بيروت، ط1، 1395هـ.
248)الجرح والتعديل : عبد الرحمن ابن أبي حاتم، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1371هـ .
249)حلية الأولياء : أبو نعيم أحمد الأصبهاني، دار الكتاب العربي، ط4، 1405هـ .
250)الديباج المذهب : إبراهيم بن علي (ابن فرحون المالكي)، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، دت .
251)سلك الدر في أعيان القرن الثاني عشر : محمد خليل المرادي، المطبعة المنيرية، ط1، 1328هـ .
252)سير أعلام النبلاء : الذهبي، تحقيق : شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط9، 1413هـ .
253)شذرات الذهب في أخبار من ذهب : عبد الحي العكري، دار المسيرة، ط2، 1399هـ .
254)الضوء اللامع لأهل القرن التاسع : محمد السخاوي، دار الكتاب الإسلامي القاهرة، ط1، دت .
255)طبقات الحفاظ : عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1403هـ .
256)طبقات الحنابلة : محمد بن أبي يعلى، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار المعرفة بيروت، ط1، دت .
257)طبقات الحنفيه : عبد القادر بن أبي الوفاء، طبعة مير محمد كتب خانة كراتشي، ط1، دت .
258)طبقات الشافعية : أبو بكر بن أحمد بن قاضي شهبة، تحقيق : د.الحافظ عبد العليم خان، دار عالم الكتب بيروت، ط1، 1407هـ .
259)طبقات الشافعية الكبرى : تاج الدين السبكي، د. محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر للطباعة والنشر، ط2، 1413هـ .
260)طبقات الفقهاء : إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق : خليل الميس، دار القلم بيروت، ط1، دت .
261)الطبقات الكبرى : محمد بن سعد، دار صادر بيروت، ط1، دت .
262)الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات: الذهبي، تحقيق : حمدي عبد المجيد، دار العلم الكويت، ط1، دت .
263)لسان الميزان : ابن حجر،مؤسسة الأعلمي بيروت، ط3، 1406هـ .
264)مشاهير علماء نجد وغيرهم : عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، دار اليمامة(1/417)
265)بالرياض، ط1، 1392هـ .
266)معجم الأعلام : بسام عبد الوهاب الجابي، دار الجفان والجابي للطباعة والنشر، ط1، 1407هـ .
267)المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد : إبراهيم بن محمد بن مفلح، تحقيق: د. عبد الرحمن العثيمين، مكتبة الرشد الرياض، ط1، 1410هـ .
268)ميزان الاعتدال : الذهبي، تحقيق : علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1995م .
269)وفيات الأعيان : أحمد بن محمد بن خَلِّكان، تحقيق : إحسان عباس، دار الثقافة بيروت، ط1، 1968م .
سادساً : كتب الأدب ونحوه
270)الأغاني : أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق : علي مهنا وسمير جابر، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
271)خزانة الأدب وغاية الأرب : ابن حجة الحموي، تحقيق : عصام شقيو، دار ومكتبة الهلال بيروت، ط1، 1987م .
272)الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة : علي بن بسام الشنتريني، تحقيق : إحسان عباس، دار الثقافة بيروت، ط1، 1417هـ .
273)شذا العرف في فن الصرف : أحمد الحملاوي، دار اليقين المنصورة، ط2، 1416هـ .
274)طبقات فحول الشعراء : محمد بن سلام الجمحي، تحقيق : محمود محمد شاكر، دار المدني جدة، ط1، دت .
275)النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة : عباس حسن، طبعة انتشارات ناصر خسرو، ط3، دت .
سابعاً : كتب المعاجم اللغوية والموسوعات
276)تاج العروس من جواهر القاموس : السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق : إبراهيم الترزي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، 1390هـ .
277)القاموس المحيط : الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط1، دت .
278)قاموس المصطلحات العسكرية : د. محمد فتحي أمين، دن، ط1، 1982م .
279)كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : مصطفى بن عبد الله القسطنطيني، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1413هـ - 1992م .
280)لسان العرب : ابن منظور، دار صادر بيروت، ط1، دت .(1/418)
281) مختار الصحاح : محمد بن أبي بكر الرازي، تحقيق : محمود خاطر، مكتبة لبنان بيروت، ط1، 1415هـ - 1995م .
282)المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : أحمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية، ط1، دت .
283)مصطلحات عسكرية : باهر عبد الهادي، شركة العبيكان للنشر والتوزيع الكويت، ط1، 1982م .
284)معجم البلدان : ياقوت الحموي، دار الفكر بيروت، ط1، دت .
285)معجم المصطلحات العسكرية : لواء ركن د . يوسف إبراهيم السلوم، مكتبة العبيكان، ط1، 1420هـ
286)معجم مقاييس اللغة : أحمد بن فارس، تحقيق : عبد السلام هارون، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1390م .
287)المعجم الوسيط : مجموعة مؤلفون، مجمع اللغة العربية ، دار إحياء التراث العربي مصر، ط2، 1392هـ .
288)المغرب في ترتيب المعرب : ناصر بن عبد السيد المطرزي، دار الكتاب العربي،ط1، دت .
289)موسوعة السياسة : مجموعة من المؤلفين بإدارة ماجد نعمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1987م .
290)الموسوعة السياسية والعسكرية : د.فراس البيطار، دار أسامة للنشر والتوزيع، ط1، 2003م .
291)الموسوعة العربية العالمية : مجموعة مؤلفين، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، ط1، 1416هـ .
292)الموسوعة الفلسطينية : أنيس صايغ وآخرين، هيئة الموسوعة الفلسطينية، ط1، 1989م .
ثامناً : كتب قانونية معاصرة
293)أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية : د. حامد سلطان، دار النهضة العربية، ط1، 1986م .
294)القانون الدولي العام في السلم والحرب : د. محمد بشير ، دار الفكر العربي، ط4، 1979م .
تاسعاً : الصحف و المجلات والدوريات
295)صحيفة (يديعوت أحرونوت) : أعداد أيام : 4/9/2002م ، و 6/9/2002م
296)صحيفة البلاد : عدد يوم 22/11/1421هـ
297)صحيفة البيان الإماراتية : أعداد أيام : الاثنين 29/9/1421 هـ ، الأربعاء 1/4/1423 هـ ، الثلاثاء 24/7/1423هـ ، الاثنين 14/11/1422هـ ، الأربعاء 10/8/1423هـ(1/419)
298)صحيفة الشرق الأوسط : أعداد أيام : 21/4/2001م ، 28/1/2002م .
299)العالم في عام (ملحق سنوي لمجلة البيان) : حسن قطامش، المنتدى الإسلامي، لعام 1423هـ .
300)مجلة الإرهاب (إصدار خاص عن أحداث تفجيرات الرياض والمخططات الإرهابية بالمملكة) : وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بالسعودية، 1424هـ-2003م .
301)مجلة الدعوة : العدد الصادر في 28/2/1418هـ .
302)مجلة الرابطة : العدد الصادر في شعبان 1423هـ .
303)مجلة (فلسطين المسلمة) : العدد السادس من السنة 21 ربيع الآخر 1424 هـ
304)مجلة المجتمع : الأعداد الصادرة في 9/6/2001م ، و 25/8/2001م
عاشراً : مواقع شبكة الإنترنت
305)المقاومة الشيشانية روعة النجاح أم رقصة الطائر الذبيح؟ : موقع (إسلام أون لاين www.islamonline.net) في 12/8/2003م
306)موقع إسلام أون لاين www.islamonline.net
307)موقع الإسلام اليوم www.islamtoday.net
308)الموقع الرسمي لصحيفة (يديعوت أحرونوت) www.arabynet.com
309)الموقع الرسمي للشيخ حمود العقلا الشعيبي www.aloqla.com
310)الموقع الرسمي للشيخ سليمان العلوان www.3lwan.org
311)الموقع الرسمي لمركز الإعلام الفلسطيني www.palestine-info.info
312)موقع مجلة المجاهد www.qudsway.com/Links/almujahed
313)موقع الموسوعة الحربية : مقاتل من الصحراء www.moqatel.com
خامساً: فهرس الموضوعات
مقدمة …2
الْتَمْهِيْدْ
( مَدْ خَل إِلَى فِقْهِ الجِهَادْ )… 19
المبحث الأول: تعريف الجهاد وأنواعه وفضله…20
المطلب الأول: تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً…21
المطلب الثاني: أنواع الجهاد…24
المطلب الثالث: فضل الجهاد…30
المبحث الثاني: حكم الجهاد وشروطه…33
المطلب الأول: حكم الجهاد…34
المسألة الأولى: الأصل في حكم الجهاد…34
المسألة الثانية: الحالات التي يجب فيها الجهاد وجوباً عينياً…42
المطلب الثاني: شروط الجهاد…50
المسألة الأولى: اشتراط الإسلام في الجهاد…50(1/420)
المسألة الثانية: اشتراط العقل في الجهاد…52
المسألة الثالثة: اشتراط البلوغ في الجهاد…53
المسألة الرابعة: اشتراط الذكورة في الجهاد…55
المسألة الخامسة: اشتراط الحرية في الجهاد…56
المسألة السادسة: اشتراط الاستطاعة في الجهاد…58
المسألة السابعة: اشتراط إذن الوالدين في الجهاد…67
المسألة الثامنة: اشتراط إذن الإمام في الجهاد…68
الأول الفصل
( أَحْكَامُ الأعمال الفِدَائِيَّةِ بِاعْتِبَارِ صُوَرِهَا )…85
المبحث الأول: ماهية الأعمال الفدائية وتاريخها وواقعها المعاصر…86
المطلب الأول: تعريف الأعمال الفدائية لغة واصطلاحاً…87
المطلب الثاني: نشأة الأعمال الفدائية وتطورها…96
المطلب الثالث: واقع الأعمال الفدائية المعاصر…108
المطلب الرابع: أثر الأعمال الفدائية في النكاية بالأعداء…114
المبحث الثاني: الأعمال التي يُقتل فيها المجاهد بيد أعدائه…133
المطلب الأول: الاقتحام المظنون فيه الهلاك…134
المسألة الأولى: صورة الاقتحام المظنون فيه الهلاك…134
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للاقتحام المظنون فيه الهلاك…141
المطلب الثاني: المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين…157
المسألة الأولى: صورة المخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين…157
المسألة الثانية: الحكم الشرعي للمخاطرة بالنفس إيثاراً للآخرين…157
المبحث الثالث: الأعمال التي يَقتل فيها المجاهد نفسه بيده…164
المطلب الأول: قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً…165
المسألة الأولى: صورة قصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً…165
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقصد قتل العدو وإصابة النفس خطأ ً…165
المطلب الثاني: قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب…169
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب…169
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً من الأسر أو التعذيب…170
المطلب الثالث: قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم…177(1/421)
المسألة الأولى: صورة قتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم…177
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لقتل النفس خوفاً على مصالح المسلمين ودرءاً لهلاكهم…177
المطلب الرابع: تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو…189
المسألة الأولى: صورة تفجير النفس بقصد النكاية بالعدو…189
المسألة الثانية: الحكم الشرعي لتفجير النفس بقصد النكاية بالعدو…190
المبحث الرابع: دور المرأة في الأعمال الفدائية وحكم قيامها بها…219
المطلب الأول: دور المرأة في الأعمال الفدائية من خلال الوقائع المعاصرة…220
المطلب الثاني: حكم قيام المرأة بالأعمال الفدائية…224
المسألة الأولى: حكم الجهاد بالنسبة للمرأة…224
المسألة الثانية: النظر في اعتبار المحرم للمرأة المجاهدة…242
المسألة الثالثة: النظر في اعتبار الحجاب للمرأة المجاهدة…251
المسألة الرابعة: الضوابط الشرعية لقيام المرأة بهذه الأعمال…267
الثاني الفصل
(أحكام الأعمال الفدائية باعتبار من يجوز تنفيذها ضده )…272
المبحث الأول: أحكام قتل الكفار…273
المطلب الأول: أنواع الكفار عند الفقهاء…274
المطلب الثاني: العلة في قتل الكفار…280
المطلب الثالث: من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار…287
المسألة الأولى) من يجوز قتله من الكفار …287
المسألة الثانية) من لا يجوز قتله من الكفار …288
المطلب الرابع: الحالات التي يجوز فيها قتل من لا يجوز قتله أصلاً من الكفار…302
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الكفار…321
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية ضد المقاتلين الحربيين…322
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية ضد المدنيين الحربيين…323
المطلب الثالث: اشتراط بلوغ الكافر دعوة الإسلام قبل قتاله…327
الثالث الفصل
( أحكام الأعمال الفدائية باعتبار محلها )…334
المبحث الأول: الدار ونشأتها وأنواعها في الشريعة الإسلامية…335(1/422)
المطلب الأول: تعريف الدار لغة واصطلاحاً…336
المسألة الأولى: تعريف الدار في اللغة…336
المسألة الثانية: تعريف الدار في الاصطلاح…336
المطلب الثاني: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية وتطوره…338
المسألة الأولى: نشأة تقسيم الدار في الشريعة الإسلامية…338
المسألة الثانية: المعيار المعتبر في التقسيم…341
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء في تقسيم الدار…343
المطلب الثالث: أنواع الدور في الشريعة الإسلامية…345
المسألة الأولى: دار الحرب…345
المسألة الثانية: دار العهد…346
المسألة الثالثة: دار الإسلام…350
المسألة الرابعة: دار البغي…351
المبحث الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية باعتبار أنواع الدور…353
المطلب الأول: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الحرب…354
المطلب الثاني: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار العهد…356
المطلب الثالث: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار الإسلام…362
المسألة الأولى: تنفيذ الأعمال الفدائية في جهاد الدفع…362
المسألة الثانية: قيام الفئات الخارجة على سلطة ولي الأمر بالأعمال الفدائية…366
المطلب الرابع: حكم القيام بالأعمال الفدائية في دار البغي…385
المسألة الأولى: حكم قتال البغاة…385
المسألة الثانية: كيفية قتال البغاة…387
المسألة الثالثة : حكم تنفيذ الأعمال الفدائية ضد أهل البغي…388
خاتمة البحث…394
فهارس البحث…405
أولاً: فهرس الآيات (حسب ترتيب المصحف)…406
ثالثاً: فهرس الأحاديث (حسب الترتيب الهجائي)…410
ثالثاً: فهرس الآثار (حسب الترتيب الهجائي)…413
رابعاً: فهرس المصادر والمراجع…414
أولاً : كتب التفسير وعلوم القرآن…414
ثانياً : كتب الحديث وعلومه…415
ثالثاً : كتب الفقه وأصوله وقواعده…419
رابعاً : كتب السيرة والتاريخ…430
خامساً : كتب التراجم…432
سادساً : كتب الأدب ونحوه…434
سابعاً : كتب المعاجم اللغوية والموسوعات…435
ثامناً : كتب قانونية معاصرة…436(1/423)
تاسعاً : الصحف و المجلات والدوريات…436
عاشراً : مواقع شبكة الإنترنت…437
خامساً: فهرس الموضوعات…438
+++++++++++++ انتهى البحث(1/424)