إقامة الحجة
على تارك المحجة
رد على كتاب "اللحية دراسة حديثية فقهية" لأبي محمد عبدالله الجديع
تأليف
أبي محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
تقديم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد خرجت كتب ثلاثة لأبي محمد عبدالله بن يوسف الجديع، أحدها كتاب "اللحية، دراسة حديثية فقهية" نهج فيها المؤلف منهجاً ليس موافقاً لمنهج أهل السنة والحديث في أصول العلم وتحرير المسائل ودراستها والحكم عليها.
ولماّ اطلعت على الكتاب المذكور ودراسته دراسة علمية رأيت الخلل المذكور فأرسلت بذلك رسالة لأبي محمد عبدالله الجديع أبنت له فيها بكل صراحة ما وقع فيه من الخلل، وختمتها بنصيحة أخوية له رجاء الانتفاع والرجوع عمّا وقع فيه لأسباب ذكرتها.
ثم أجابني برسالة مختصرة رأيت فيها أنه مستمر على ما هو عليه وعدم الرجوع عما وقع منه، فرأيت نشر هذا الردّ لطلبة العلم كون كتابه المذكور قد انتشر وعمت به البلوى بين طلبة العلم والمغترين به.
وقد قَّسمت هذا الردّ إلى ثلاثة أقسام، وهي:
القسم الأول: حكم مسألة اللحية في الشريعة الإسلامية.
القسم الثاني: الخلل في مقدمة الجديع لكتابه اللحية.
القسم الثالث: الردِّ على كتاب اللحية (وهي الرسالة التي أرسلتها إليه).
هذا وأسأل الله لي ولأبي محمد الجديع الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب قريب، ولا زلت في الأمل من الله رجوع أبي محمد للحق والصواب وعدم مخالفة الجماعة والإجماع. والحمد لله أولاً وآخراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
أبو محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
الرياض 23/11/1425هـ
القسم الأول: حكم مسألة اللحية في الشريعة الإسلامية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره. وبعد:(1/1)
فإن "مسألة اللحية" من المسائل التي ذكرها أهل العلم في كتبهم وحرروها في مصنفات مستقلة، ذلك إنها إحدى المسائل الشرعية التي ورد بذكرها الكتاب والسنة، وجرى عليها العمل عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك، وكذلك جرى العمل عند التابعين رحمة الله عليهم كما جاء في الكتاب والسنة وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أنه -وبعد القرون المفضلة- يأتي من قد يخفى عليه نص أو عمل، أو خلل في تحرير المسألة، شأنها شأن كثير من المسائل العلمية عند أهل العلم مما يقع من الاختلاف في الأحكام بسبب أنواع الحجج لدى كل مذهب أو عالم. وهذا ما وقع عند بعض أصحاب المذاهب الأربعة المتأخرين منهم.
وأذكر في هذا القسم الأول جملة القول مما صح من الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم-، مُتْبِعاً ذلك بأقوال الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم-، ومنه يتبين حكم "اللحية" وأنه يحرم حلقها(1)، وأما الأخذ منها ففي الحج أو العمرة فيما دون القبضة.
وأقسم هذا القسم لستة مباحث:
المبحث الأول: ما جاء في الكتاب:
قال تعالى: " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ" [الحج: 29].
فسرها الصحابي الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-، فقال: التفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب،والأظفار واللحية.
أخرجه ابن أبي شيبة (3/15673) قال: نا ابن نمير عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عباس به. وإسناده صحيح(2).
وكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي -رحمهما الله تعالى-. (تفسير الطبري 10/149- 150).
قلت: وهذا الأخذ الوارد في الحج مطلقاً قيَّده عمل الصحابة -كما سيأتي- بأنه أخذ ما زاد عن القبضة.
المبحث الثاني: ما جاء في السُّنَّة النبوية:
1- عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى".
أخرجه البخاري (10/5893)، ومسلم (2/259)، وغيرهما.(1/2)
ورواه الإمام مالك (2/947) عن أبي بكر بن نافع عن أبيه نافع عن عبدالله بن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى".
وأخرجه من طريقه الإمام مسلم (2/259)، وأبو داود (4/4196)، والترمذي (4/2764) وغيرهم.
وأخرج البخاري (10/5892)، ومسلم (2/259) من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب".
وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه.
2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس". أخرجه مسلم (2/260) وغيره.
3- عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: "كنا(3) نُعفي السبال إلا في حج أو عمرة".
أخرجه أبو داود (4/4198): حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير: قرأت على عبدالملك بن أبي سليمان، وقرأه عبدالملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير عن جابر به. وإسناده صحيح.
وفي لفظ أشعث عن أبي الزبير: "كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشارب". (مصنف ابن أبي شيبة 5/25504).
وفي لفظ قتادة قال: قال جابر: "لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة". (مصنف ابن أبي شيبة 5/25487).
فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة تتضمن الأمر بإعفاء اللحية، ديناً وشريعة منه صلى الله عليه وسلم مخالفة للمجوس. وعدم الأخذ منها إلا في حج أو عمرة فيما دون القبضة كما حكاه جابر -رضي الله عنه- عن الصحابة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما فعله ابن عمر -رضي الله عنهما-.
فهذا الحكم هو الوارد في الكتاب والسنة.
المبحث الثالث: ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه -السابق ذكره-، فما ذكره إلا وهو يستدل به في فعله هو وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن النبوة وبعدها.(1/3)
2- ما ثبت عن عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- بعد أن روى حديثه المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع مولى ابن عمر: وكان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه. (صحيح البخاري/تقدم تخريجه).
3- ما حكاه عطاء بن أبي رباح عن جملة الصحابة رضوان الله عليهم:
قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمر.
وإسناده صحيح. (ابن أبي شيبة 5/25482).
قلت: وما أطلقه عطاء في إعفاء اللحية عن الصحابة -رضي الله عنهم- يفسره ما تقدم من فعل ابن عمر -رضي الله عنهما- من أن الأخذ فيما زاد على القبضة.
قلت: هذا هو ما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم أخذ شيء من اللحية إلا في حج أو عمرة فيما زاد على القبضة. لم يصح عن أحد منهم غير هذا(4)، ولم يختلفوا فيه -رضوان الله عليهم-.
المبحث الرابع: ما جاء عن التابعين -رحمة الله عليهم-:
نقل عنهم الإجماع من فعلهم.
ما حكاه عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى-:
قال عطاء: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة. (تقدم تخريجه).
قلت: وعطاء أدرك عدداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة كبيرة من كبار التابعين -رحمهم الله تعالى-.
وأما ما حُكيَ عن القاسم بن محمد -رحمه الله تعالى-:
قال أبو بكر بن أبي شيبة (5/25485) عن أبي عامر العقدي عن أفلح قال: كان القاسم إذا حلق رأسه أخذ من لحيته وشاربه. إسناده صحيح.
قلت: وفعل القاسم هذا مطلق ويقيده ما تقدم حكايته عن كبار التابعين، والقاسم منهم أنه في الحج والعمرة. فيحمل المطلق على المقيد هنا لثلاثة أمور:
الأول: أن التقييد بالحج والعمرة هو المنقول عن التابعين ولم ينقل عنهم خلافه، والقاسم منهم.
الثاني: أن التقييد هو المعروف في السنة والأثر، فإذا ورد إطلاق فيقيد به، وإن كان المنقول بخلاف الأصل المعروف فإنه ينص عليه ليتميز، وهنا لم ينص على شيء.(1/4)
الثالث: إن النقل عن القاسم هو نقل فعل لا نقل قول فلا يتبين منه الإطلاق صراحة.
قلت: هذا أصح ما روي عن التابعين، وكما ترى النقل عن جملتهم تقييد الأخذ بالحج والعمرة اقتداء بالأثر من السنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما كيفية الأخذ فأطلقت هنا، وفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- كما تقدم في الحج أو العمرة مقيد فيما زاد على القبضة، فاقتداء التابعين بما جاوز القبضة كاقتدائهم بالحج أو العمرة.
المبحث الخامس: ما جاء عن الأئمة الأربعة(5):
1- ما جاء عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-:
قال محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- رحمهما الله:
أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة.
قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. (الآثار 900).
قلت: فهذا مذهب الإمام أبي حنيفة صريح واضح في احتجاجه بفعل ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وهو المعتمد في المذهب، قال ابن عابدين:
الأخذ من اللحية دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد. (الحاشية 2/417).
2- ما جاء عن الإمام مالك بن أنس (93- 179هـ) -رحمه الله-:
قول الإمام مالك بن أنس في المسألة هي قول من تقدمه من الصحابة والتابعين، وهو قول إخوانه الأئمة الثلاثة -رحمهم الله تعالى-.
فقد نص في موطأه، فقال:
باب السُّنَّة في الشعر
روى (2/722) عن أبي بكر بن نافع عن أبيه نافع عن عبدالله بن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى". اهـ.
هكذا بوًّب مالك في شأن اللحية، وأن السنة فيها الأمر بإعفاءها كما ورد في النص.
ولما جاء ذكر التقصير للشعر في (كتاب الحج) أورد فعل ابن عمر -رضي الله عنهما- من إجازة الأخذ منها في الحج أو العمرة.
قال في كتاب الحج:
باب التقصير(1/5)
قال (1/318): عن نافع: أن عبدالله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج.
قال مالك: ليس ذلك على الناس.
ثم روى مالك (1/318): عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه.
قلت: هذا رأي الإمام مالك أن حكم اللحية على الإطلاق هو الأمر بإعفاءها كما رواه في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنه لا يقيد هذا الإطلاق إلا فعل ابن عمر في الحج أو العمرة من الأخذ منها.
ويؤكد هذا ما نقله الشافعي عنه من سماعه (الأم 7/254 -كتاب اختلاف الإمام مالك والشافعي) قوله:
قال مالك: ليس يضيق أن يأخذ الرجل من رأسه قبل أن يحج. اهـ.
فنقل الشافعي عن مالك توسعته لمن يريد الحج أو العمرة بعد رمضان أن يأخذ من رأسه، ولم يجز ذلك في اللحية إلا في الحج أو العمرة.
فالتحديد الوارد عن مالك في هذا الباب: هو ما ورد عن الأئمة الثلاثة من أنه لا يؤخذ من اللحية إلا من طولها في الحج أو العمرة.
وأيضاً هي رواية صريحة ثابتة عن الإمام مالك. (حاشية العدوي 2/580).
قلت: فالإمام مالك لم يجز الأخذ إلا من الطول وفي الحج أو العمرة.
والإمام مالك كان يستحب الأخذ ولم يوجبه (المدونة 2/430).
ولهذا أجاز الأخذ من اللحية من طولها إذا طالت جداً كما في رواية ابن القاسم. (التمهيد 24/145).
قلت: وهو المعتمد في المذهب، قال الحطاب المالكي:
وحلق اللحية لا يجوز، وكذلك الشارب، وهو مُثْلة وبدعة، يؤدب من حلق لحيته أو شاربه، إلا أن يريد الإحرام للحج ويخشى طول شاربه. (مواهب الجليل 1/216).
3- ما جاء عن الإمام الشافعي (150- 204هـ) -رحمه الله-:
مذهب الشافعي في اللحية هو مذهب من قبله من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة -كما نقل الإجماع عن الصحابة والتابعين-، وقد احتج الشافعي بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وفعله، فمنع الأخذ من اللحية، إلا في الحج أو العمرة كصنيع ابن عمر -رضي الله عنهما-.(1/6)
أما النص في موضوع حلق اللحية:
فقد نص الشافعي على تحريم حلق اللحية. (نقله ابن الرفعة الشافعي عن الأم).
وأيضاً فإن الشافعي في كتابه "اختلاف الإمام مالك والشافعي" قد قرَّر ذلك:
قال الربيع (7/253): قال الشافعي:
[1] أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج.
قال مالك: ليس يضيق أن يأخذ الرجل من رأسه قبل أن يحج.
[2] قال الشافعي: وأخبرنا مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه.
[قال الربيع]: قلت: فإنا نقول(6) : ليس على أحد الأخذ من لحيته وشاربه، إنما النسك في الرأس؟
قال الشافعي: وهذا مما تركتم عليه بغير رواية عن غيره عندكم علمتها. اهـ.
قلت: الإمام مالك -في قوله عقب ذكره لفعل ابن عمر- وسَّع في الأخذ من الرأس، ولم يوسع في اللحية، وهذا موافق لما سبق ذكره عن الإمام مالك.
والشافعي هنا أقرَّ مالكاً على رأيه ولم يعارضه كما يفعل في كتابه هذا الذي هو معارضة مالك في آراءه التي ذكرها في الموطأ وموافقته له في بعضها.
فالشافعي يوافق مالكاً في عدم الأخذ من اللحية إلا في الحج أو العمرة.
ثم يؤكد الشافعي رأي مالك في تقليده ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنه يوافق عليه، وأنه لم يعارض مالكاً على ذلك أحد من أهل العلم.
ومن هنا يظهر رأي الشافعي بوضوح.
وأما في النسك فأجاز الأخذ.
قال الشافعي:
وأحب إلي لو أخذ من لحيته وشاربه، حتى يضع من شعره شيئاً لله، وإن لم يفعل فلا شيء عليه، لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية. (الأم2/2032).
قلت: وما تقدم هو المعتمد في المذهب، قال الحليمي الشافعي:
لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه، وإن كان له أن يحلق سباله، لأن لحلقه فائدة، وهي أن لا يعلق به من دسم الطعام ورائحته ما يكره، بخلاف حلق اللحية فإنه هُجنة وشهرة وتشبه بالنساء، فهو كجبِّ الذكر. (الاعلام لابن الملقن 1/711).(1/7)
4- ما جاء عن الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هـ):
والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- مذهبه مذهب من تقدمه من الصحابة والتابعين كما سبق النقل عنهم، وكما هو مذهب إخوانه الأئمة الثلاثة. وقد قيّد الإمام أحمد ما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الأمر بإعفاء اللحية بما فعله ابن عمر من الأخذ من طول اللحية في الحج أو العمرة فيما زاد على القبضة. وعلى ذلك فتواه ونصوصه.
قال الخلال: أخبرني حرب قال:
سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟
قال: إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة.
وكأنه ذهب إليه.
قلت له: ما الإعفاء؟
قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: كأن هذا عنده الإعفاء.
وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثهم قال:
سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى؟".
قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه.
ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. (كتاب الترجل من كتاب الجامع 113- 114).
قلت: إسحاق المذكور هو إسحاق بن هانئ صاحب المسائل المطبوعة وما رواه الخلال هنا هو الرواية المستقيمة عن الإمام أحمد وهي الموافقة لرواية حرب الكرماني -السابقة-، وقد ورد في مسائل إسحاق المطبوعة ما نصه:
قال إسحاق بن هانئ:
سألت أبا عبدالله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى؟".
قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه.
ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه، ومن تحت حلقه. (مسائل ابن هانئ 2/151).
قلت: فما في المطبوعة خطأ، إما أن يكون من الطابع أو من الناسخ للمخطوط، وخطأ المطبوع لأمرين:
الأول: إن رواية إسحاق -رواية الخلال- هي الموافقة لرواية حرب عن الإمام أحمد.(1/8)
الثاني: إن ما في المطبوع (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه...) مخالف لأول السؤال ردُّ الإمام أحمد للأخذ من العارضين بقوله: (يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة).
وأيضاً مخالف لآخر السؤال قول الإمام أحمد: (يأخذ من طولها، ومن تحت ذقنه).
فينبغي أن يكون الصواب هو: (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها، ومن تحت ذقنه).
تنبيه: وروى الخلال (114 (94):
أخبرني عبيدالله بن حنبل قال: حدثني أبي قال: قال أبو عبدالله: ويأخذ من عارضيه، ولا يأخذ من الطول، وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، ولا بأس بذلك. اهـ.
قلت: وهذه الرواية مقلوبة، قلب المعنى على أحمد -رحمه الله- وعلى ابن عمر -رضي الله عنهما- خلافاً للصحيح المشهور عنهما- وكان الأولى أن يذكر: قال أبو عبدالله: ويأخذ من الطول، ولا يأخذ من عارضيه، وكان ابن عمر يأخذ من الطول إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، ولا بأس بذلك).
وعبيدالله بن إسحاق ليس بمشهور في الرواية، ولم أجد له ترجمة تثبت ضبطه وشهرته بالعلم كحال إسحاق بن هانئ وحرب وغيرهما، وإن كان هو يروي عن أبيه.
قلت: وما تقدم هو المعتمد في المذهب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه، كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها. (شرح العمدة 1/182، 236).
وقال شيخ الإسلام -أيضاً-: ويحرم حلق اللحية. (الفروع 2/129).
وقال أيضاً: فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها فأشد، لأنه من المثلة المنهي عنها. (شرح العمدة 1/236).
المبحث السادس: الإجماعات في تحريم حلق اللحية:(1/9)
كما تقدم فإن مذهب الأئمة الأربعة في حكم اللحية هو الاتباع لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره. من الأمر بإعفاءها وأنه يحرم حلقها لذلك، ولم يستثنوا من ذلك إلا الأخذ من طولها لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو راوي الحديث حيث كان يفعل ذلك في الحج أو العمرة.
فجميع الأئمة الأربعة نصوا على الاقتداء في ذلك بفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- بحيث لا يفهم منه جواز الأخذ المطلق الغير مقيد بالحج أو العمرة وبما زاد على القبضة.
وعلى هذا نقل عنهم الإجماع على ما تقدم. وكذا عن غيرهم.
1- قال ابن حزم: وأما فرض قص الشارب وإعفاء اللحية: ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (المحلى 2/220).
2- وقال في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز. (مراتب الإجماع 182).
3- وقال أبو الحسن ابن القطان -المالكي: واتفقوا أن حلق اللحية مُثْلَة لا تجوز. (الإقناع في مسائل الإجماع 2/3953).
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي: فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها فأشدّ، لأنه من المثلة المنهي عنها. (شرح العمدة 1/236).
5- وقال ابن عابدين الحنفي: الأخذ من اللحية دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يحبه أحد. (تنقيح الفتاوى الحامدية 1/329).
6- قال الشيخ علي محفوظ: وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها. (الإبداع في مضار الابتداع 409).
وألف غير واحد من أهل العلم رسائل في حرمة حلق اللحية، ومنهم شيخنا سماحة المفتي/عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- رسالة في (حكم إعفاء اللحية) أبان فيها السنة بالأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم، وردّ شبه بعض المنتسبين للعلم الشرعي.
القسم الثاني: الخلل في مقدمة الجديع لكتابه اللحية:
وقد ابتدأ الجديع -عفا الله عنا وعنه- كتابه بمقدمة ذكر فيها مقدمات أساسية سار عليها في كتابه.(1/10)
وهذه المقدمات الأساسية التي قدَّم بها فيها نظر من وجهين:
الوجه الأول: الخلل من جهة التأصيل العلمي:
ذكر الشيخ الجديع أصولاً علمية سار عليها في كتابه، إلا أن أصالتها العلمية عند أهل العلم خلاف ما ذكره، ومن ذلك:
1- أصول الأدلة الشرعية:
قوله: في تحريره لمسألة هذا الكتاب (ص9): (منطلقاً من مسلَّمات الأصول).
وقوله (ص11): (ثالثاً: إبراز الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب العزيز والسنن النبوية، لتكون دائماً عند من يؤمن بالله واليوم الآخر مرجعية الأحكام، وإليها تستند آراء المجتهدين والحكام، إذ هي الحكم الفصل فيما تنازع فيه الناس).
قلت: هكذا أصَّل الجديع أن الأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة فقط وهما مرجعية الأحكام، وإليها تستند آراء المجتهدين والحكام فقط.
وما أصَّله الجديع هو خلاف ما عليه أهل العلم من أهل السنة والجماعة قاطبة -خلافاً لبعض الفرق التي لا تُذكر في الاحتجاج(7)- وهو أن أصول الأدلة الشرعية ثلاثة:
الأول: الكتاب، والثاني: السُّنة، والثالث: الإجماع(8).
ولكن لكون الجديع لا يرى حجية الإجماع ومنه حجية إجماع الصحابة فإنه لم يجعله من الأدلة الشرعية عنده. وسترى أقواله في هذا الأمر -كما سيأتي-(9)
2- الاجتهاد:
قوله: (أولاً: تجرئة أهل العلم على العمل على إعادة النظر في كل ما يرجع إلى الاجتهاد في تحرير حكمه، وعدم الخضوع للاجتهاد السابق كحكم مُسلَّم، فذلك إنما بُني على نظر، ولا يخلو من أن يكون متأثراً بزمان ومكان وحال من صار إليه) اهـ.
قلت: إن دعوة الجديع أهل العلم إعادة النظر في كل ما يرجع الاجتهاد في تحرير حكمه... دعوة صحيحة لا شك فيها.
ولكن ما هي المسائل التي ترجع إلى الاجتهاد الذي يجب إعادة النظر فيه؟
إن المعلوم من مذاهب أهل السنة والجماعة هو النظر في المسائل التي لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع. أما ما ورد فيه نص أو إجماع فلا يرجع إلى الاجتهاد فيها.(1/11)
أما أصحاب المدرسة العقلية -التي هي إمتداد للمدرسة الاعتزالية- فكل المسائل عندهم خاضعة للاجتهاد -بل وفق أصولهم الاعتزالية الكلامية-، إلا أنهم -بل بعضهم- لا يتجرئون على الكتاب والسنة. - على طريقةٍ خاصةٍ في تأويل النصوص- أما ما عداها فلا يأبئون به، ومن ذلك الإجماع، ومذاهب الصحابة، والمصالح المرسلة وغير ذلك من الأصول لدى أهل السنة والجماعة(10).
فإن كان الجديع يريد ما عليه أهل السنة والجماعة فدعوته صحيحة، أما إذا كان يريد الآخر وهو الاجتهاد وفق مذهب المدرسة العقلية فلا يوافق عليه، وهو خلاف مذهب أهل السنة والجماعة.
ومن هنا كانت منطلقات الجديع في كتبه الثلاثة ومنها هذا الكتاب، غير منطلقات أهل السنة والجماعة، فمسألة "اللحية" فيها النصوص واردة وصريحة في الأمر ولا صارف لها عن الوجوب، وكذلك ورد الإجماع على ذلك من الصحابة والتابعين كما نقل عنهم -وسيأتي بسط ذلك-، ولكن لم يسع الجديع ذلك، فسلك المسلك المذكور فأوَّل النصوص، وردَّ الإجماع، وكذلك لم يقنع بما نص عليه الأئمة الأربعة(11) - فجميعهم نصوا على العمل بما ورد عن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- كما سيأتي بيانه.
وأيضاً لو تجاوزنا كل ما تقدم، فهل يخفى على الجديع أن الاجتهاد إنما يكون فيما كان فيه اختلاف دون ما كان مجمعاً عليه لا اختلاف فيه -كهذه المسألة- وإنما حدث الاختلاف على الأئمة الأربعة من بعض أصحابهم المتأخرين نظراً لورود بعض الدلائل الظنية -كما سيأتي بيان ذلك- فهل خفي عليه هذا فاجتهد فيما لا اجتهاد فيه.
ولذا تجد أن المعتمد في كل مذهب هو التحريم لحلق اللحية.
قلت: وبعد بيان ما هي المسائل التي يرجع فيها للاجتهاد وفق أصول أهل السنة. فما أدري ما هي التجرئة التي يريد الجديع حث أهل العلم عليها!!
الوجه الثاني: الخلل من جهة تطبيق الجديع لما ذكره في مقدمته وحقيقة ذلك في كتابه:(1/12)
قوله: (رابعاً: الإعلام بضرورة تحرير السَّنة، دفعاً للتعلق في الآراء بما لا أصل له في الوحي، أو بظن ضعيف مرجوح لا يحسن أن يُبنى عليه رأي، وتحرير النقل عن علماء الأمة، فكم من رأي حُكي عن إمام على غير وجهه؟
وكم من إجماع ادعي فلا تجد إلا ما يدل على نقضه؟).
قلت: هذا الكلام ما أَحْسَنه وأَجْمَله، وحُسْنُه يكمن في جودة الأسلوب وشدِّة الخطب، وقوة الحجَّة...، وقُلْ ما شئت.
ولكن عندما تقرأ الكتاب وتتبصّر المسألة وتبحث عن التحرير المذكور...، بمختلف أنواعه فإنك لا تجد في الحقيقة سوى الوهم...، فتجد إخفاء لحقائق علمية، وخللاً في التأصيل بمخالفة أصول أهل العلم، وتناقظات علمية ظاهرة، وتدليس وتزوير(12)، وتصحيح لما ليس بصحيح،.. وقد ذكرت بعض ذلك في هذا الردِّ معنوناً بما تقدم لتظهر حقيقة هذا الكتاب وعلمية مؤلفه عفا الله عنا وعنه.
القسم الثالث: الرد على كتاب اللحية
(وهي الرسالة التي أرسلتها للجديع)
بتاريخ 9/10/1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتضى أثره. وبعد:
فأكتب إليكم هذه الرسالة، وأحب أن أطمئن على صحتك وصحة أولادك بارك الله فيهم أجمعين، وأسأل الله لكم العفو والعافية والهداية. آمين.
وأما نحن فبصحة وعافية وخير من الله العلي القدير، فنحمده تعالى ونشكره ونسأله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين الشاكرين إنه سميع قريب مجيب. وبعد:(1/13)
فلقد ساءني جداً ما رأيته من الكتب التي نزلت في السوق من تأليفكم -كما ساءت إخواننا من أهل العلم، وممن يعرفونكم على الخصوص كالشيخ خالد الأنصاري، والشيخ سعد السعدان وغيرهما من المحبين لكم والداعين لكم بالتوفيق والسداد- وذلك أنني تفحصتها وقرأتها قراءةً متأنية، ثم أعدت الكَّرةَ فوجدت الأمر عظيماً. رأيت تدليساً وتزويراً و... أموراً لم أكن أحسب يوماً أنها تصدر منك، فاسترجعت، وراجعت الأمر كثيراً، فبدا لي أن أدرس الكتاب دراسةً علميةً وأكتب إليك بذلك رجاء أن تنتفع بذلك، وما كتابتي بذلك إليك إلا محبةً لك وتقديراً لسابقتك ومكانك في العلم، وحرصك على ذلك، إلا أنه ليس بمعصوم من الخطأ أحد غير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ولذا كُلٌّ يؤخذ من قوله ويُرَّدُّ غيره، وتعلم أن زلة العالم لها أثر على عوام المسلمين. وأهل الفقه في الدين.
فأرجو أن تقع منك هذه الكتابة الموقع الذي أرجوه ويرجوه غيري.
واسمح لي في العبارات التي ستراها والعناوين التي تعلوها، فإن ذلك هو حقيقة هذا الكتاب الأول الذي قرأته ودرسته واستخرجت ما فيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"مدخل"
وقبل الدخول في تفاصيل هذا الكتاب أنبه على قضية منهجية كبرى بنيت عليها كتابك وقررتها في كتابك في الأصول "تيسير أصول الفقه"، وهي "حجية الإجماع".
فلقد قلت -بعد ذكرك لتعريف الاجماع...، واستحالة الإحاطة بآراء جميع المجتهدين-:
فالواقع يُحيل وقوع ذلك، وتاريخ هذه الأمة معلوم، ...
ثم نقلت قول الإمام أحمد: "ما يدعي الرجل فيه الاجماع هذا الكذبُ، من ادعى الإجماع فهو كذب، لعل الناس قد اختلفوا". (تيسير أصول الفقه 160- 161).
ذكرت هذا في "الإجماع الصريح".
ثم ذكرت "الإجماع السكوتي"، وذكرت فيه تخصيص طائفة من الفقهاء هذا النوع من الإجماع بالصحابة دون من بعدهم... وأحلت الكلام فيه إلى (مذهب الصحابي).(1/14)
ثم قلت في خاتمته: فهذا الإجماع السكوتي ما هو في الحقيقة إلا رأي جماعة من الفقهاء محصورة بعدد يسير محدود، وما كان رأياً يُحكى عن العشرة والعشرين لا يصلح أن يكون ديناً يُحجر عن الأمة خلافه، ويكون حجة ملزمة للناس إلى يوم القيامة (164- 166).
فأبطلت الاحتجاج به.
وفي (مذهب الصحابي):
قلتَ: خلاصة القول في "حجية مذهب الصحابي": أعلاه قوة ما كان من قبيل "الإجماع السكوتي" وتبين في الإجماع أنه ليس بحجة، فما كان دونه من مذاهب الصحابة أولى أن لا يكون حجة...(219).
وذكرت قولاً للشافعي وقولاً لأحمد بن حنبل وكلاهما ليسا مرادان في باب الإجماع كما زعمت، وإنما ذكرتها لئلا تخلي الباب من ذكرهما؛ بينما أصل الشافعي في الباب خلاف ما ذكرته، وكذلك أحمد، بل صرح أصحابهما بذلك كما سيأتي.
فأقول: لقد ارتكبت جرماً عظيماً، خطيراً على العلم والدين، وهو تبنيك إنكار "حجية الإجماع" -حسب تفسيرك السابق له- فخرجت بذلك عن "أصول" أهل السنة والجماعة، وتابعت أهل البدعة والضلالة، وذلك أن القائل بعدم "حجية الإجماع" مطلقاً هو النظّام المعتزلي والشيعة، وبعض الخوارج -كما سيأتي بيانه- فهؤلاء هم أئمتك في هذا الأصل العظيم الذي أجمع على "حجيته" أهل السنة والجماعة، ولم ينكره سوى هؤلاء الضلال.
وإن هذا النظّام -وهو منكر حجية الإجماع- هو الذي كان يسبُّ السلف وبخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقواله في ذلك -ولا غرو في ذلك أن ينكر حجية الإجماع، ومنه حجية إجماع الصحابة-.(1/15)
فالنظّام هو الذي وقع في أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- متهماً إياه بالتناقض، ثم يقع في عمر الخليفة الثاني -رضي الله عنه- زاعماً أنه شك يوم الحديبية، وشك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل رماه بأعظم من ذلك حيث عدَّه في النفر من المنافقين الذين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة في غزوة تبوك، وأنه ضرب فاطمة -رضي الله عنها-، ومنعها الميراث، وغير ذلك، ثم وقع في عثمان الخليفة الثالث -رضي الله عنه- زاعماً أنه استأثر بالحمى، وغير ذلك، ثم تنقص عليّا الخليفة الرابع -رضي الله عنه- لماّ قضى برأيه، وقال: من هو حتى يقضي برأيه(13).
وأرى من المهم أن أذكر لك نصوص الأئمة الأربعة في "حجية الإجماع" وخصوصاً إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم-.
"الإجماع"
الإجماع هو الأصل الثالث من أصول أهل العلم بعد الكتاب والسنة، ولقد اتفق أهل العلم من أهل السنة على "حجية الإجماع" ونصوا عليه في كتبهم، ولم ينكر هذا الأصل سوى بعض المبتدعة وأهل الضلال كالنظام -أحد أئمة المعتزلة-، والإمامية، وبعض الخوارج.
ولئلا أطيل الكلام هنا فأنقل فقط أقوال الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم- في الإجماع وبالخصوص إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم(14):
قول الإمام أبي حنيفة (80- 150هـ):
قال يحيى بن معين: حدثنا عبيد بن أبي قرة قال: سمعت يحيى بن ضريس يقول: شهدتُ سفيان، وأتاه رجل فقال: ما تَنْقِم على أبي حنيفة؟ قال: وماله؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنةٍ آخذ بقول أصحابه، آخُذُ بقول من شئتْ منهم، وأدعُ قول من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا ما انتهى الأمر -أو جاء الأمر- إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب -وعدّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.(1/16)
قال: فسكت سفيان طويلاً، ثم قال -كلمات برأيه ما بقي أحد في المجلس إلا كتب-:
نسمع التشديد من الحديث، فنخافه، ونسمع اللّين، فنرجوه، لا نحاسب الأحياء، ولا نقضي على الأموات، نسلِّم ما سمعنا، ونكل ما لم نعلم إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم. (تاريخ يحيى بن معين، رواية الدوري 4/63- 64 رقم3163).
وقال أبو حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم. (إرشاد الفحول 318).
وقول الإمام مالك بن أنس (93- 179هـ):
قال الإمام مالك -وذُكر له الموطأ-:
فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة، والتابعين، ورأيي وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره (ترتيب المدارك 2/73).
وقال أبو الحسن القصّار المالكي (397هـ):
إن مذهب مالك -رحمه الله- وسائر العلماء القولُ بإجماع الأمة. (المقدمة في الأصول 75).
وقال القاضي عبدالوهاب البغدادي المالكي (422هـ):
اعلم أن الكلام في هذا الموضع هو أن إجماع الصحابة حجة يجب اتباعه، ويلزم الانقياد له، وتحرم المخالفة عليه، وهذا لا خلاف فيه في الصدر الأول وفقهاء الأمصار، وأئمة العلم في سائر الأعصار، وإنما حدث الخلاف عند قومٍ من المعتزلة والرافضة... (رسالة الإجماع- ملحق مطبوع آخر كتاب المقدمة في الأصول للقصار المالكي - ص: 259).
وقول الإمام الشافعي (150- 204هـ): -في قوليه القديم والجديد كليهما-:
قال في القديم: في "الرسالة" القديمة، بعد ذكْره الصحابة -رضي الله عنهم- والثناء عليهم بما هم أهله-:(1/17)
فقال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استُدرك به علمٌ واستُنْبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن نرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنّة إلى قولهم إذا اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا، فهكذا نقول: إن اجتمعوا أخذنا بإجماعهم، وإن قال واحدهم قولاً ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، إن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم.
قال: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين مختلفين نظرتُ، فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله، أو أشبه بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذتُ به، لأن معه سبباً تقوى بمثله ليس مع الذي يخالفه مثله، فإن لم يكن على واحدٍ من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان -رضي الله عنهم- أحبّ إليَّ أن أقول به من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكام.
ثم قال بعد ذلك: فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتاب والسنة في اختلافهم، وصرنا إلى القول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة، وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة، وإن اختلف المُفْتَون -يعني من الصحابة- بعد الأئمة بلا دلالة فيما اختلفوا فيه. (قال المحقق: كذا بالأصل فليحرر).
وإن وجدنا للمفتين في زماننا وقبله اجتماعاً في شيء لا يختلفون فيه تبعناه، وكان أحَدَ طُرُق الأخبار الأربعة، وهي: كتاب الله، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم القول لبعض الصحابة، ثم إجتماع الفقهاء.
فإذا نزلت نازلة لم نجد فيها واحداً من هذه الأربعة فليس السبيل في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي. أ هـ.
قال العلائي الشافعي (761هـ):
هذا كله كلام الشافعي -رحمه الله- في كتاب "الرسالة" القديمة. (إجمال الإصابة في أقوال الصحابة 39- 41). وينظر: (إعلام الموقعين 4/120- 123).(1/18)
وقال الشافعي -في كتاب "اختلافه مع مالك، وهو من الكتب الجديدة:-
ما كان الكتاب أو السنة موجودين فالعُذر على من سمعهما مَقْطوعٌ إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدٍ منهم، ثم كما كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- أحبّ إلينا إذا صرْنا إلى التقليد، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي معه الدلالة، لأن قول الإمام مشهور بأنه يُلْزم الناس، ومَنْ لَزمَ قولُه الناس كان أظهر ممن يفتي الرجل أو النَّفر، وقد يأخذ بفتياه أو يدعها، وأكثر المفتين يُفْتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يُعْنى العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام. وقد وجدنا الأئمة يبتدئون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه، ويقولون فيُخْبرون بخلاف قولهم، فَيَقبلون من المُخبر ولا يستنكفون أن يرجعوا. لتقواهم الله وفضلهم في حالاتهم.
فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الإمامة أخذنا بقولهم وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم.
قال والعلم طبقات:
الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنَّة.
والثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم له مخالفاً منهم.
والرابعة: اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات.
ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى. اهـ.
قال العلائي: هذا كله نص الإمام الشافعي -رحمه الله- في الكتاب المشار إليه، ورواه البيهقي عن شيوخه عن الأصم عن الربيع بن سليمان عنه.
وهو صريح في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس.
كما نقله إمام الحرمين، وإن كان جمهور الأصحاب أغفلوا نقل ذلك عن الجديد.(1/19)
ويقتضي أيضاً أن الصحابة إذا اختلفوا كان الحجة في قول أحد الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- إذا وجد عنهم، للمعنى الذي أشار إليه الإمام الشافعي وهو اشتهار قولهم ورجوع الناس إليهم.
(إجمال الإصابة 38- 39).
قول الإمام أحمد (164- 241هـ):
قال القاضي: إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز اجتماعهم على الخطأ.
وهذا ظاهر كلام أحمد -في رواية المروذي-.
وقد وَصَفَ أخذ العلم فقال: ينظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فعن أصحابه.
فإن لم يكن فعن التابعين.
قال: وقد علَّقَ القول -في رواية أبي داود- فقال:
الإتباعُ أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وهو بَعْدُ في التابعين مُخَيَّر.
قال: وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم، وقد بيَّن هذا في رواية المرُّوذي فقال:
إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين لا يُوجد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الآخذ به. (المسودة لآل تيمية 317- 318).
وقال أبو داود:
قال أحمد بن حنبل: ما أجبتُ في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت فيه ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعْدِل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فعن التابعين، وعن تابعي التابعين. (المسودة 336).
وينظر: "روضة الناضر" (335- 372).
وإليك تفصيل الكلام على "كتاب اللحية":
أولاً: (مقدمة مهمة عن كتاب اللحية)
وهي مختصر لتحريرك لمسألة اللحية ومنهجك فيها:
وسأختصرها في أربعة أمور:
الأول: أثبت أن الأحاديث الصحيحة التي وردت في حكم اللحية هي ثلاثة أحاديث:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/20)
2- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
3- حديث أبي أمامة -رضي الله عنه.
الثاني: ذكرت أن هذه الأحاديث الثلاثة مرتبط حكمها بالعلة الواردة فيها وهي مخالفة أهل الكتاب، وبذلك تعود المسألة إلى حكم مخالفة أهل الكتاب.
الثالث: ذكرت أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في حكم اللحية.
وكذلك التابعين -رضي الله عنهم- اختلفوا في حكم اللحية.
الرابع: منهجك مما قررته وحررته عدم اعتبار "حجية الإجماع"، وكذلك "مذهب الصحابي" سواء انفرد أو خالف، أو اجتمع الصحابة على شيء.
وإليك بيان حقيقة ما حررته وأنه خلاف الواقع مما صحَّ وثبتَ:
أما الأول: وهو دعواك أن الصحيح في حكم اللحية هو ثلاثة أحاديث:
وهي حديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر، وحديث أبي أمامة، وما زعمته ليس بصحيح، وإنما الصحيح من الأحاديث في حكم اللحية هو الآتي:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
2- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
3- حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-.
فجعلت حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- -وهو حديث ضعيف- من الأحاديث الثلاثة الصحيحة وتركت حديث جابر -رضي الله عنه- الصحيح، لكونه لم يتوافق مع الحديثين السابقين ولكون حديث أبي أمامة متضمن أمرين:
الأمر الأول: أنه موافق للحديثين السابقين -حديث أبي هريرة، وابن عمر- في العلة، وهي مخالفة أهل الكتاب.
والأمر الثاني: أنه زاد ذكر بعض السنن التي فيها مخالفة أهل الكتاب إضافة للحية، مما يُفهم منه حكم اللحية أنها سنة، وليست واجبة لذكرها مع غيرها من السنن(15).
قلت: وأما حديث جابر -رضي الله عنه- وقد صححته في كتابك -فتركته ولم تذكره مع الأحاديث الثلاثة، وإنما ذكرته في الآثار عن الصحابة، فاستبعدته من الأحاديث وجعلته في الآثار!!!
وذلك التصرف منك لكون الحديث تضمن أموراً:(1/21)
أولها: أنه لم يشترك مع الأحاديث التي ذكرتها في العلة -وهي مخالفة أهل الكتاب- فبهذا سيختلف الحكم، وستبطل دعواك التي أقمت الكتاب كله عليها -وهي مخالفة أهل الكتاب-.
وثانيها: أن هذا الحديث يتضمن حكم الإعفاء صراحة، وأنه واجب لا كما زعمت من أنه مربوط بعلة المخالفة لأهل الكتاب.
وثالثها: أن هذا الحديث أثبت الإعفاء حكماً شاملاً النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الصحابة أنهم لا يأخذون من اللحية إلا في الحج أو العمرة فقط.
فلهذه الأمور الثلاثة التي تنقض الحكم الذي رأيته استبعدت الحديث فجعلته موقوفاً -في الآثار- لا مرفوعاً -في الأحاديث-.
أقول: وهذا خلاف الحقيقة العلمية، وخيانة للأمانة العلمية التي تحملها.
الثاني: ذكرت أن هذه الأحاديث الثلاثة التي صححتها في حكم اللحية مرتبط حكمها بالعلة الواردة فيها، وهي مخالفة أهل الكتاب.
أقول: هذا الحكم -وهو ارتباط علة الأحاديث بالمخالفة- منتقض بحديث جابر المتقدم والذي لم تذكره في الأحاديث التي استدللت بها.
الثالث: منهجك مما قررته وحررته:
1- عدم اعتبار "الإجماع" حجة في الدين.
2- عدم اعتبار "مذهب الصحابي" حجة في الدين، سواء انفرد أو خالف، أو اتفق مع غيره من الصحابة.
قلت: وهذا المنهج الذي اعتمدته في كتابك هو منهج المبتدعة أهل الأهواء من المعتزلة وغيرهم.
فلم ينكر "حجية الإجماع" و"مذاهب الصحابة" إلا مبتدع، خلافاً لمنهج أهل السنة والحديث الذين اعتمدوا الإجماع حجة بعد الكتاب والسنة، ومنه مذاهب الصحابة.
كتاب "اللحية"
هذا الكتاب قرأته، وإليك ما فيه:
قرأت الكتاب من أوله لآخره -المرة الأولى- وأنا أقرأ وأقيّد، ففوجئت بأن المنهج العام للكتاب ليس على مناهج أهل السنة والحديث، ولا على منهج أهل الرأي(16)، وذلك في الأمرين التاليين:
1- الخلل في التأصيل:
أ- النص على ترك الاحتجاج بمذاهب الصحابة -رضوان الله عليهم- وكذا من بعدهم وحتى الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم-...(1/22)
2- الخلل في المسائل العلمية والتناقضات الظاهرية:
أ- تناقضات ظاهرة في الكتاب سواء في التقعيد والتأصيل أو في التطبيق والتمثيل.
ب- الأخطاء العلمية المتنوعة في الكتاب.
هذا ما لاحظته في القراءة الأولية للكتاب.
ولا أخفيك أنني صُدِمت بذلك لمعرفتي الشخصية بك وعدم معرفتي بهذه الأصول لديك.
فرجعت للقراءة للكتاب مرة ثانية، فوجدت العجب الذي لم أكن أتصوره يصدر منك، وهو أمر عظيم ليس بأقلَّ خطورة مما ظهر في القراءة الأولى.
وذلك متمثل في التالي:
التدليس، والتزوير في كثير من مباحث الكتاب، بحيث لا تُذكر المسائل والإشكالات على وجهها الصحيح وإنما تذكر على الوجه الذي تريد إثباته.
والآن أبين لك ما تقدم ذكره مجملاً.
1- الخلل في التأصيل:
أ- النص على عدم الاحتجاج بمذاهب الصحابة -رضوان الله عليهم- حتى وإن كان إجماعاً منهم، وكذا من بعدهم من الأئمة من التابعين، وكذا الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الدين:
قلتَ -بعد أن ذكرت الاعتماد على الأدلة الشرعية، وأنها هي الكتاب والسنة فقط-:
كما زدت الاستئناس بالآثار المروية عن علماء السلف، من الصحابة، والتابعين، ثم عن فقهاء الأمة بعدهم، كالفقهاء الأربعة وأتباعهم، وغيرهم من علماء الملة والدين... (11- 12).
وأعظم من هذا -وهو الاستئناس- ما كتبته يداك بقولك:
وأما ما سقت في الباب السابق -بعد الأحاديث- من الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، فليس ذلك لكون المنقول عنهم مما يكون موضعاً للحجة في الدين، فإن مذهب الصحابي في التحقيق ليس بحجة، وإنما ذكرت تلك المذاهب محرراً لها لما يقع من الحاجة، للاستشهاد بها في تفسير دلالات نصوص الكتاب والسنة.
قلت: ووضعت هامش على قولك (ليس بحجة): وقلت: انظر (115) كتابي "تيسير علم أصول الفقه" (ص: 197- 202).(1/23)
أقول: وهناك الطامة الكبرى، وذلك أنك خلصت إلى نتيجة بحثك وتحريرك، فقلتَ: خلاصة القول في حجية مذهب الصحابي: أعلاه قوة ما كان من قبيل (الإجماع السكوتي)، وتبين في الإجماع أنه ليس بحجة، فما كان دونه من مذاهب الصحابة أولى أن لا يكون حجة... (219).
قلت: فأنت أسقطت الاحتجاج "بمذهب الصحابي" والذي أعلاه قوة "الإجماع السكوتي". وهنا خالفت أئمة المسلمين في هذا الأصل الثالث من أصول الاستدلال عند أهل العلم، وكما تقدم من ذكر أقوال الأئمة الأربعة في الاحتجاج بمذهب الصحابي وتقسيمهم له في طبقات الاحتجاج.
2- الخلل في المسائل العلمية والتناقضات الظاهرية:
أ- التناقضات الظاهرة في الكتاب:
1- التدليس:
ومثل هذا في الكتاب غير قليل، وهو أنواع:
أ- إظهارك المسألة للقاري أن ليس فيها دليل أو حجة بينما الواقع أن فيها دليلاً أو حجة، ومن ذلك:
1- أنه لم يرد في القرآن ما يخص اللحية بشيء:
كما قلت: فهي لم ترد في كتاب الله تعالى، وإنما جاء ذكرها في السنة،... (151).
قلتُ: قوله تعالى: +ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ" [الحج: 29].
والتفث: هو الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب والأظفار، واللحية.
قاله ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، كما هو مذكور في كتب التفسير، وكما نقلته في كتابك هذا (136، 139، 145، 147). بل هو اتفاق بينهم في معنى "التفث" الوارد في القرآن(17)، ولكنك لم تعتبر ذلك... وقد قررت هذا النوع من التفسير في كتابك المقدمات الأساسية في علوم القرآن وأن مثله في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (في القسم الثاني من ثالثاً: تفسير القرآن بآثار الصحابة ص 305).
فما صنعته هنا يناقضه ما قررته في كتابك في "علوم القرآن" -السابق ذكره- فماذا تريد اعتماد ما هنا أو ما هناك.
وما صنعته هنا تدليس وإخفاء للحقائق. ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/24)
2- أنه لم يرد في السنة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية سوى الثلاثة التي ذكرتها: (308).
قلتَ: وحاصل التحقيق المتقدم أن الأحاديث المروية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت منها إلا ثلاثة أحاديث، وهي: حديث عبدالله بن عمر، وأبي هريرة، وأبي أمامة... (74- 77).
قلتُ: هكذا أثبت -وكررت الإثبات كثيراً (162، 163،...)- لكي تقرر أن هذه الأحاديث الثلاثة مرتبطة بالعلة -التي تحتج بها كثيراً- وهي مخالفة أهل الكتاب، فيدور الحكم مع العلة -كما تريد-.
بينما الواقع أنه يوجد حديث صحيح مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم -حكماً- لم تذكره في الأحاديث التي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب، وهو حديث جابر -رضي الله عنه-، لكونه ليس فيه العلة الواردة في الأحاديث الثلاثة السابقة وهي علة مخالفة أهل الكتاب، فلذا أبعدت هذا الحديث من الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعلته في باب الآثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- (295، 296)!!! فهنا خيانة للأمانة في إثبات ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب.
وبهذا الحديث الصحيح يتضح أن العلة في التحريم ليست هي المخالفة -كما زعمت مراراً وتكراراً-. وسبحان الله العظيم.
هنا سلكت سبيل التدليس وإخفاء الحقائق.
وحديث جابر -رضي الله عنه- هو:
"كنا نعفي السبال، إلا في حج أو عمرة".
وفي لفظ: "كنا نؤمر أن نوفي السبال ونأخذ من الشوارب".
وفي لفظ: "لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة".
قلت: فحديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- هذا ينقض كتابك من أساسه.
ولذا فلك مع هذا الحديث مواقف فيها من التدليس وإخفاء الحقائق والتزوير مما سأبين لك أهمها:
1- أخفيت هذا الحديث من الذكر في الأحاديث الصحيحة التي احتججت بها في حكم اللحية -كما تقدم ذكر ذلك-.(1/25)
2- ذكرت هذا الحديث في قسم الآثار عن الصحابة -مع أنه في حكم المرفوع- لئلا تخلي الكتاب من ذكر هذا الحديث فيُستدرك عليك - مع أنه لا علاقة له في قسم الآثار عن الصحابة.
3- عند ما ذكرت هذا الحديث في قسم الآثار عن الصحابة وأردت الكلام على فقهه لم تستطع الكلام على بيان لفظة "كنا" لأن مرادها واضح أنها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خلاف تصرفك في إيرادك للحديث في الصحابة وعدم إيرادك له في المرفوعات عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا لماّ قلت: -بعد حكمك على الحديث بالصحة...-:
وهل له حكم الرفع؟ سيأتي بيانه في (الباب الثاني) أ. هـ. (128- 129).
هكذا كان جوابك أنك أحلت على (الباب الثاني)!!! لتتخلص من هذه العقبة!! ولكن هل فعلاً أجبت على سؤالك؟ الواقع أنه لا يوجد في (الباب الثاني) شيء مما ذكرته، وتفسير لما أردت بيانه ولهذا لم تشر للصفحة التي ذكرت فيها البيان كعادتك، لئلا تكشف.
إلا أنك في ص: 295 ذكرت هذا الحديث حكاية مع الأقوال الأخرى، وذكرت هامشاً قلت فيه: تقدم تحقيق صحة هذا الخبر في الفصل الخامس من الباب الأول. اهـ.
وهكذا أحلت من هناك إلى هنا، ومن هنا إلى هناك!!!
ولم تُجْب عن السؤال الذي طرحته أنت هناك بقولك (وهل له حكم الرفع؟)، وأما الجواب فهو واضح فإنه لا يخفى عليك أن قول جابر -رضي الله عنه- "كنا" في حكم الرفع كما قال الحافظ ابن حجر في "النزهة": "قول الصحابي: كنا نفعل كذا، فله حكم المرفوع" (النزهة 138).
ب- إظهارك للمسألة أن فيها اختلافاً بينما الواقع إنها إجماع، ومن ذلك:(1/26)
1- الأخذ من اللحية في النسك عن الصحابة -رضوان الله عليهم-: ذكرت من أُثر عنهم أخذ اللحية في النسك فأثبت أن في المسألة خلافاً -أي يجوز الأخذ منها في غير النسك، وكذا الأخذ المطلق من غير تحديد بما زاد على القبضة- فقلت: وأما الأخذ منها في غير نسك ففيه مجيء الرواية مطلقةً: عن أبي هريرة أنه كان يأخذ من لحيته وبمعناه ما روي عن الحسن البصري: أنهم كانوا يرخصون في الأخذ منها. (139)، وينظر: (229، 294، 295).
قلتُ: وهذا الكلام منك غير صحيح لأن ما استدللت به من أثر أبي هريرة والحسن البصري لا يصح فكلاهما ضعيفان ولا حجة فيهما.
وعلى منهجك لا تدخل في الاستدلال!
فكيف أثبت الخلاف هنا بأمر ليس له أصل. بينما الأصل هو الإجماع عنهم أنهم لا يأخذون لحاهم -فيما زاد على القبضة- إلا في حج أو عمرة.
قلت: وأما كون الأثرين ضعيفين فسيأتي بيانه.
قلت: وأيضاً لو صح الأثران كما زعمت فهما مطلقان كما قررته فلماذا لم تحمل المطلق على المقيد كما هي عادتك في التأصيل (ينظر: ص191). إلا أنك هنا لم ترد ذلك.
وحتى تجرأت وقلت: كراهة الأخذ منها لم تؤثر عن الصحابة، بل المأثور عن الصحابة الأخذ منها، وكذلك جمهور التابعين) (305)، وقولك: (وفعل الصحابة...) و308.
2- الأخذ من اللحية في النسك عن التابعين -رحمة الله عليهم-:
ذكرت من أُثر عنهم أخذ اللحية في النسك، وهذا في الواقع إجماع منهم بأسانيد صحيحة متواترة.
ولكنك لم ترد ذلك، فأثبت أن في المسألة خلافاً، فقلتَ: بعد أن ذكرت القسم الأول-:
(2) إباحتهم الأخذ من اللحية من غير حدِّ ولا توقيت كما جاءت به الرواية إفتاءً من مذهب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وكما جاء عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وطاوس بن كيسان اليماني من فِعْلهما (ص: 147)، وينظر: 229، 295).
قلت: وهذا الكلام منك غير صحيح لأن ما استدللت به من الآثار عن هؤلاء كلها غير صحيحة. عدا القاسم وحده.(1/27)
وعلى منهجك لا تدخل في الاستدلال لضعفها.
وكيف أثبت بها الخلاف ونقضت بها الإجماع وهو محكي عنهم نصاً.
قلت: وأما كون الآثار المذكورة ضعيفة فإن الرواية عن الحسن، وابن سيرين، فلا تصح لكون المتفرد بها عنهما هو أبو هلال الراسبي، وهو متكلم فيه بما لا يجوز الاحتجاج معه بتفرده، أما أنت فحسنت حديثه.
وأما الرواية عن طاوس، فلا تصح أيضاً لكونه تفرد بها ابن جريج وهو مدلس قبيح التدليس، ولم يذكر سماعه -كما قلت أنت- فكيف تقول عن إسناده: (إسناده صالح) وتبرر ذلك بقولك: (يحتمل مثله في الآثار، ولم أجزم بصحته)!!!
إذا كيف تجعله حجة لك. فلم يبق إلا الرواية عن القاسم وحده وهي داخله في عموم الإجماع عن التابعين أنهم لا يأخذون من لحاهم فيما زاد عن القبض إلا في الحج أو العمرة -كما نقلت أنت الإجماع عنهم بذلك-!!
وأيضاً: فلو صححنا الآثار كما زعمت، وهي مطلقة، فلماذا لم تحمل المطلق على المقيد كما تقدم ذكر هذا في الصحابة قبل.
لكنك لم ترد ذلك.
جـ - استخدام عبارات توهم التضعيف لمعان غير ضعيفة وبالعكس:
1- المتابعات في حديث جابر -رضي الله عنه-:
ذكرت حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-، وهو حديث صحيح، إلا أنك عند ذكرك لألفاظ الحديث المختلف فيها على جابر وعلى أبي الزبير -الراوي عن جابر-، فإنك تُعبِّر عنها بقولك: وقد رواه فلان عن فلان، وهذه متابعة ضعيفة...
قلت: لا يجوز هنا أن يقال لحديث إسناده صحيح عند ذكر اختلاف ألفاظه أن يقال: وقد رواه فلان ... ثم تقول: وهذه متابعة ضعيفة، لضعف أشعث...
وذلك أن الأصل في هذا: أن يقال: وقد رواه فلان عن فلان، ثم تقول: ورواية فلان ضعيفة... أو: وهذه الرواية ضعيفة.
وذلك أن الأصل في المتابعة أنها على نوعين:
الأول: أن تكون المتابعة موافقة للمتابع في المتن أو الإسناد على قسمين -أيضاً- فهنا يقال: وقد تابعه فلان...(1/28)
والثاني: أن تكون المتابعة غير موافقة للمتابع في المتن أو الإسناد وعلى قسمين -أيضاً- فهنا لا يقال: تابعه فلان، وإنما يقال: وقد رواه فلان عن فلان... ثم يقول: رواية فلان هذه ضعيفة... أو: وهذه الرواية ضعيفة...
قلت: ولهذا جعل الأئمة المتابعة للاعتبار والتقوية لا عكس ذلك.
قلت: لكن لما أردت أن تجعل هذه الروايات -التي ذكرت أنها متابعة- ضعيفة لكلام نسبي في رواتها عبَّرت عنها بلفظ "متابعة" لتوهم القارئ أنها "متابعة" للتقوية وأنها لا تصح لضعف راويها!!!
بينما الأصل في هذا أن ينظر في هذا الاختلاف على جابر أو أبي الزبير ويقدم رواية الأحفظ -كما تعلم ذلك-.
بل يفترض أن يجمع بينها لكونها غير متعارضه...
ولكن لم ترد لا هذا ولا ذاك لأن الألفاظ التي ضعفتها فيها لفظة "كنا نؤمر..." وهذه لا تريدها لأن فيها صيغة الأمر، وأيضاً في الرواية الأخرى لفظة "لا نأخذ من طولها..."، ولفظة "لا نأخذ" لا تريدها لأنها صريحة في الدلالة.
2- أثر الحسن البصري عمن أدركهم:
ذكرت هذا الأثر تبعاً لأثر صحيح عن عطاء ابن أبي رباح -رحمه الله- ولفظه قال عطاء: "كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة".
وبعد كلامك على صحة أثر عطاء، ألحقته بأثر الحسن البصري، مباشرة بينما أثر الحسن هذا إسناده ضعيف -كما نصصت عليه-، ولكن عقبَّت عليه بقولك: لكنه أثر حسن لما تقدم له من شواهد تقويه.
قلت: وكلامك في تحسين هذا الأثر ليس بصحيح، لأسباب:
أولها: إن الإسناد ضعيف -كما ذكرته-.
ثانياً: الشواهد التي ذكرت أنها تقويه فيصبح بها الأثر حسناً ليست على ما ذكرت، لأن التقوية التي تريدها هي أحد أمرين:
الأول: تقوية للأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة (في الحج أو العمرة).
والثاني: تقوية للأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة على الإطلاق، (دون التقييد بالحج أو العمرة).(1/29)
قلت: فإن كانت التقوية للمعنى الأول فهذا لا تريده، لأنه دليل ضدك، فأنت احتججت بأثر الحسن -رحمه الله- بعد ذلك في جواز الأخذ على المعنى الثاني.
وإن كانت التقوية للمعنى الثاني فلا يصح لك.
قلت: لأن الشواهد السابقة التي ذكرت أنها تقويه ليس فيها ما يقوي هذا الأثر سوى أثر أبي هريرة (رقم: 3 ص 133)، وقد صححته لأجل الغرض نفسه وهو ضعيف كما سيأتي.
أما قضية التزوير هنا هي أنك أوردت أثر الحسن -رحمه الله- عقب أثر عطاء الصحيح -مع أنه مخالف له- لكي يثبّت هذا الأثر بموضوع التقوية، دون أن ينتبه القارئ للأمرين السابق ذكرهما. ومن ثم تأتي في خلاصتك -التي تعقدها نهاية كل فصل- فتحيل على ما هنا.
3- جعلك حديث أبي أمامة حاكماً على الأحاديث الثلاثة:
حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- حكمت عليه بأن إسناده حسن، وهو أحد الأحاديث الثلاثة- التي أثبت أنها المدار في حكم اللحية-. مع حديث ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.
وحديث ابن عمر في الصحيحين، وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم وغيره.
قلت: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- صحيحان مشهوران رواهما كثرة كاثرة من الرواة والمصنفين بينما حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- وقد حسَّنَت إسناده -هو حديث غريب لم يروه عن أبي أمامة غير القاسم ولا عن القاسم غير ابن زبر ولا عن ابن زبر غير زيد بن يحيى-.
إلا أنك لماَّ رأيت أن حديثي ابن عمر وأبي هريرة لم يذكرا سوى "اللحية" بينما حديث أبي أمامة ذكر "اللحية" وذكر معها بعض السنن المستحبة جعلت حديث أبي أمامة مفسراً لهما وحاكماً عليهما. للهدف الذي تريده وهو أن "اللحية" هي سنة من السنن- أي إعفاءها- كالسنن التي ذكرت معها في حديث أبي أمامة. مما يجعلك تحكم على صيغ الأوامر التي في حديثي ابن عمر وأبي هريرة أنها أوامر للندب وليست للوجوب!!!(1/30)
قلت: وأيضاً فإن من المفترض أن تجعل بدل حديث أبي أمامة -الضعيف- حديث جابر الصحيح، والذي مقتضاه أن يجعل الأوامر التي في حديثي ابن عمر وأبي هريرة للوجوب لا للندب.
ب- الأخطاء العلمية في الكتاب:
وقع في الكتاب أخطاء علمية في مواضع غير قليلة منه، ومن أمثله ذلك:
أ- تصحيحك لأثر أبي هريرة -رضي الله عنه-.
هذا الحديث في حقيقته لا يقبل التصحيح بحسب القواعد العلمية في التصحيح والتضعيف...
لكن أثبت صحته...
وقبل بيان ضعف هذا الأثر، أنقل إليك ما قررته في تصحيح هذا الأثر:
قلت: عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل عن القبضة.
قال: إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن شعبة عن عمرو بن أيوب من ولد جرير عن أبي زرعة به.
ثم ذكرت تخريج الخلال له في "الترجل" من طريق شعبة.
ثم قلت: وإسناده صحيح، رجاله مشهورون بالثقة، سوى عمرو بن أيوب، ووقع عند الخلال "عمر" وهكذا ترجم له ابن أبي حاتم ونقل عن أبيه قوله: "شيخ كوفي"، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يُجرح، والوجه أنه ثقة لأنه قد تواتر أن شعبة بن الحجاج لا يروي إلا عن ثقة عنده فروايته عنه توثيق منه له.
ثم ذكرت إسناداً آخر لهذا الأثر بلفظ مغاير للفظ السابق.
وقلتَ: وإسناده ضعيف لجهالة الشيخ المدني، ولين أبي هلال كما تقدم ذكره في الكلام على رواية جابر (133- 134).
قلت: والوقفات هنا حيال ما ذكرت كالتالي:
أولاً: تصحيحك للإسناد، وفيه عمرو بن أيوب. فوثقته، وهذا خلل في الحكم، لأمور:
1- عمرو بن أيوب لم يذكر له راوياً غير واحد، وهو شعبة بن الحجاج، فيكون هذا الراوي مجهولاً جهالة عين.
2- رواية شعبة عنه ترفعه من الجهالة العينية إلى أن يكون في المرتبة التي تلي مرتبة الجهالة، وهي أدنى مراتب التعديل. ولهذا حكم عليه أبو حاتم بأنه "شيخ"، وهذه اللفظة وضعها ابن أبي حاتم في المرتبة الثالثة من مراتب التعديل الأربع. (الجرح والتعديل 2/37).(1/31)
فحقه أن ينظر في حديثه فإن وافق الثقات قُبل وإلا رُدَّ. وتبع ابن أبي حاتم على هذا ابن الصلاح (308- 310-)، وأما الذهبي (الميزان 1/4)، فجعلها في أدنى مراتب التعديل وهي المرتبة الرابعة، وتبعه، العراقي (شرح التبصرة 2/2-12)، وكذا السخاوي جعلها في أدنى مراتب التعديل الست (فتح المغيث 2/109- 116)، وقال: وضابط هذه المرتبة: كل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح. أ هـ.
قلت: فهل بعد هذا يجعل هذا الراوي (ثقة)!!!
3- هذا الرواي مما يؤكد أحقية وضعه في المرتبة السابق ذكرها عدة أمور:
أولاً: هذا الراوي لم يذكره أحد بجرح ولا تعديل -سوى ما تقدم- مما يدل على عدم شهرته بالعلم والرواية.
ثانياً: لم يذكره البخاري في تاريخه مع ذكره لأمثاله.
ثالثاً: لم يذكره أحد ممن صنّف في الرواة.
رابعاً: تفرد بذكره ابن حبان في كتابه "الثقات"، وشرطه معروف فيه.
خامساً: ونظراً لما تقدم فقد اختلف -أيضاً- في اسمه، فذكر مرة "عمرو"، ومرة "عمر".
فحُكمك عليه بأنه ثقة لا يستقيم مع ما تقدم.
كما لا يستقيم مع ما تقدم أن تصحح الإسناد بذلك.
ب- تحسينك لحديث أبي أمامة -رضي الله عنه-:
حسَّنتَ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، ولفظه: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: "يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب، فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسرولوا وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم".
فقلت: إسناده حسن.(1/32)
أخرجه أحمد قال: حدثنا زيد بن يحيى حدثنا عبدالله بن العلاء بن زبر حدثني القاسم قال: سمعت أبا أمامة يقول: فذكره.
قلتَ: وهذا إسناد حسن، زيد وابن زبر ثقتان، والقاسم هو ابن عبدالرحمن صاحب أبي أمامة مشهور بحسن حديثه.
ثم ذكرت إخراج البيهقي له في الشعب وكذا الطبراني في الكبير كلاهما من طريق زيد بن يحيى به.
قلتُ: وهذا الحديث يلاحظ فيه قولك: إسناده حسن، ثم ذكرت عن القاسم أنه "مشهور بحسن حديثه".
وهذه الكلمة نفسها انتقدتها على الحافظ ابن حجر حينما قالها في مصعب بن شيبة (ص: 85- 86).
فأنت لما رأيت اختلاف الأئمة في القاسم توسطت في القول فيه وجعلته حسن الحديث -وسطاً بين الثقة والضعيف- فصنعت الصنيع نفسه الذي رعْبتَه على الحافظ ابن حجر!!!
ثانياً: هذا المتن بهذا اللفظ منكر لم يتابع عليه. فلا يستقيم الحكم عليه بالحسن. خصوصاً مع تفرد القاسم به عن أبي أمامة، وتفرد ابن زبر عن القاسم وتفرد زيد بن يحيى عن ابن زبر، فهنا لا يقبل تفرده. وقد بينت هذه القاعدة في نفس كتابك هذا (ص: 191).
ثالثاً: ولهذا فإن هذا الحديث -كما تقدم- لم يخرجه أحد من الأئمة الستة حتى ابن ماجه ترك إخراجه، وكذا لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحة أو الحسن في كتابه كابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود وغيرهم. وكذا لم يستدركه الحاكم على الشيخين، فكيف تجعل هذا الحديث حاكماً على الأحاديث التي في الصحيحين وغيرها!!!.
ثالثاً: نصيحتي إليك:
أختم هذه الرسالة بنصيحة وهي كالتالي:
أولاً: إنك معروف بالعلم والشهرة بذلك فأنصحك بعدم مخالفة سبيل المؤمنين وعليك السير على مناهجهم في الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اعتماد إجماع الأمة من الصحابة وغيرهم. كما هو المنهج الذي رضيه علماء الأمة من أهل السنة والجماعة.(1/33)
ثانياً: لإقامتك في ديار الغرب -أهل الكتاب- والبعد عن ديار المسلمين أثر ظاهر في منهجيتك في هذا الكتاب. ولعلمي بالسبب الذي خرجت من أجله لديار الغرب في السابق فإن هذا السبب قد زال منذ سنوات بعد أن حصلت على ما يسهل لك الرجوع لبلاد المسلمين وهو مرغوب فيه.
والأمر الآخر وهو أن بقاء المؤمن مع إخوانه وعموم الناس من المسلمين يجعل الأثر في الدين متمكناً فيه.
ثالثاً: وجوب ابتعادك عن شيوخ المدرسة العقلية الذين حذّرنا علماءنا -أهل السنة والحديث- في عموم بلاد الإسلام من هؤلاء وما جنوا به على هذا الدين وأهله. فأنت تعلم أن المدرسة العقلية المعاصرة ما هي إلا امتداد للمذهب المعتزلي القديم.
وممن نبّه على ذلك، وبين خطر أصحاب المدرسة العقلية المعاصرة، وحذر منها ومن شبهها وخطرها على الدين الإسلامي عدد من علماء أهل السنة والحديث في الأقطار الإسلامية ومنهم:
- العلامة المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" وغيره من مؤلفاته.
- الدكتور محمد أبو شهبة في "دفاع عن السنة وردِّ شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين" وغيره من كتبه.
- الدكتور مصطفى السباعي في "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" وغيره من كتبه.
- الدكتور الأمين الصادق في "موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية".
- الدكتور ناصر العقل في "الاتجهات العقلانية الحديثة". وهذا الكتاب هو أكثرها شمولاً للتعريف بهذه المدرسة.
وأزيدك القول:
إن من أصول المنهج العقلاني ومرتكزاته تجاه دراسة الإسلام في العصر الحديث الآتي:
- تقديم العقل والأهواء على نصوص الشرع.
- الإنكار والتشكيك، والتحريف والتأويل، في أصول العقيدة وأدلتها.
- الإنحراف في الاستدلال، والتلقي من غير المصادر الإسلامية.
- الإشادة بالحياة الغربية والحكم على الإسلام من خلالها.
- عدم التمييز أو المفاضلة بين المسلمين وغير المسلمين (ضعف الولاء).
- تبني الطرح العلماني أو بعضه.(1/34)
- الاهتمام بعمارة الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة.
وأما من أهم أهداف الاتجاهات العقلانية الحديثة:
- فصل الدين عن الدولة والحياة.
- إخضاع الإسلام لمسايرة الغرب.
- العمل على إلغاء الفوارق العقائدية (التقريب بين الأديان).
- قطع خط الرجعة على استئناف الحياة الإسلامية.
- إفساد المرأة المسلمة.
قلت: ولا أقول إنك من هذه المدرسة، ولكنك كتابك هذا ناقلٌ لك إليها إن لم تدرك الأمر وخطورته.
وأكرر القول لك:
إن مما يزيد الملاحظة في ارتباطك بالمدرسة العقلية المعاصرة ثلاثة أمور:
الأول: منهجك في كتابك -مما سبق تبيينه في هذه الرسالة- وهذا من صميم منهجهم.
الثاني: نقلك عن أحد كبارهم في هذا العصر رأيه في هذا الكتاب -كما في صفحة (217)، وتركك النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة في هذا العصر.
الثالث: وظيفتك الشرعية الآن نائباً لأحد كبارهم في هذا العصر.
لذا فنصيحتي إليك الارتباط بعلماء أهل السنة والإفادة والاستفادة منهم.
رابعاً: لعلك قد نالك نصيبٌ من الثناء والشهرة، فينبغي لك الاحتياط في ذلك، وقد كان السلف يحتقرون أنفسهم عند ذواتهم، وعند غيرهم. وما ذكرتُه هو الذي يظهر في كتابك (وأنا في انتظار جوابك وإفادتك) هذا وأسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
27/8/1425
(1)…ولذلك أدخلها الإمام الذهبي في كتابه الكبائر في فصل جامع لما يحتمل أنه من الكبائر (ص:223). وأورد فيه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(2)…وأخرجه ابن جرير (10/149) حدثنا حميد بن مسعدة قال: ثنا هشيم أخبرنا عبدالملك به، وفيه "والأخذ من العارضين". وابن نمير مقدم في عبدالملك من هشيم. ورواية هشيم هذه قال عنها ابن عبدالبر: ولم أجد أخذ العارضين إلا في هذا الخبر (التمهيد 21/67- 68).
(3)…قال ابن حجر: قول الصحابي: كنا نفعل كذا، فله حكم الرفع. (النزهة 138).(1/35)
(4)…وأما ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- من الأخذ المطلق فيما تحت القبضة دون التقييد بالحج أو العمرة، فلا يصح إسناده إلى أبي هريرة، وهو أثر ضعيف -سيأتي الكلام عليه (ص44-45) في القسم الثالث.
(5)…أذكر هنا نصوص الأئمة الأربعة -بعد ذكر الأحاديث ومذاهب الصحابة والتابعين-، وهم متفقون على الاحتجاج بالأحاديث وتقييد ابن عمر -رضي الله عنهما- لها، وأما ما حدث من خلاف من بعض أصحاب الأئمة الأربعة، فإنما حدث متأخراً لورود بعض الأدلة الضعيفة، ومنها حديث عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي × كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها" وهو حديث ضعيف أخرجه الترمذي (4/2762)، وقال: حديث غريب ونقل عن البخاري إنكاره هذا الحديث. وأما المعتمد عند أئمة المذاهب فهو الموافق لنصوص أئمتهم -الآتي ذكرها-.
(6)…هذا الضمير من الربيع تلميذ الشافعي لكونه قَبْلُ كان مالكياً، وهذا الكتاب كله ألفه الشافعي لتلميذه الربيع بطلب منه ليبين له ما وافق فيه مالك الأثر أو عمل أهل المدينة وغيره.
…وهذا الكتاب من أنفس كتب الشافعي. وأيضاً فإن هذا الكتاب مما لا يستغني عنه من يطالع الموطأ للإمام مالك.
(7)…وسيأتي بيان ذلك في ص: (23) من القسم الثالث.
(8)…وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل في القسم الثالث في (ص22- 29).
(9)…ينظر: (ص22- 23) من القسم الثالث، وكذا (ص36).
(10)…ولذا تجد فتاوى واجتهادات معاصرة من قبل علماء المدرسة العقلية فيها تجاوزات شرعية ومخالفات صريحة للنصوص والإجماع هي من هذا القبيل. لذا أنصح طالب العلم قبل أن ينظر في رأي أو اجتهاد لأحد العلماء أو طلبة العلم أن يعرف منهج هذا العالم، هل هو على منهج أهل السنة والجماعة أو على منهج المدرسة العقلية -التي كثر أصحابها- أو أي مدرسة أخرى تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.(1/36)
(11)…بل إن الشافعي -رحمه الله- نصَّ على إقرار مذهب مالك في اللحية، وأن العلماء قد وافقوا مالكاً عليه. (اختلاف مالك والشافعي ص: 254 من كتاب "الأم" الجزء 7). وهذا النص المهم في المسألة على نفاسته لم يقف عليه الجديع، أو قد يكون وقف عليه وتركه.
(12)…ولست هنا أذكر الكلام جُزافاً، ولكن هذه حقيقة هذا الكتاب كما سترى.
(13)…ينظر ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (20- 23)، والشهرستاني في "الفرق بين الفرق" (147- 149)، وابن حزم في "الملل" (1/72- 74).
(14)…المؤلف أنكر حجية الإجماع، ومنه أنكر حجية إجماع الصحابة، وترى نصوص الأئمة في الإجماع على إجماع الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا لم يتجاوزوا أقوالهم ومذاهبهم، بل يتخيروا منها ولا يتجاوزوها.
(15)…قلتَ -بعد ذكرك لدلالة صيغة الأمر في أحاديث الإعفاء والقص-:
…وزيادة على ما بيَّنتُ من أن الأمر بالمخالفة في الصورة لا يكون للوجوب إذا لم يقصد صاحبه التشبه، فإنه جاءت قرينةٌ قويةٌ متصلةٌ بحديث الأمر بتوفير اللحية وقص الشارب، دلت على أنه ليس للوجوب، وذلك سياقُ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-.... ثم ذكر نصه.
…ثم علقت على النص بأن الأوامر فيه للندب لا للوجوب... (202- 207).…
(16)…ومرجع مذاهب الناس إلى ثلاثة:
…الأول: مذهب أهل السنة والحديث، وهم أهل الحديث المتقلدين مذهب أهل السنة، والسالكين مسلك الدليل والاهتداء بسنة سيد المرسلين، وما عليه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم والتابعين.
…الثاني: مذهب أهل الرأي: وهم على أصول أهل السنة إلا أنهم توسعوا في القياس، وأشغلوا العلم فيه. وهذا المذهب نشأ أول أمره في الكوفة وتقلده أئمة كبار حتى انتهى إلى الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- الذي قننَّه وأصله حتى صار مذهباً منضبطاً بأصول وقواعد ترجع للكتاب والسنة والإجماع والقياس.(1/37)
…الثالث: مذاهب أهل الأهواء: وهم الذين استغنوا بعقولهم الآدمية عن دين محمد ×، فأخذوا من الدين ما يوافق أهوائهم، وتركوا ما يوافق الشرع الحنيف...ولذا سلكوا مسلكين:
…الأول: ترك الاعتماد على الكتاب والسنة، وأصول الاحتجاج عند أهل السنة كالإجماع ومذاهب الصحابة، والقياس وغيرها من الأصول التي اتفق عليها أهل السنة.
…وأبدلوا ذلك بأصول عقلية توافق الأهواء حسب.
…الثاني: الطعن في أصول أهل السنة ليفقدوها أهميتها وأصالتها لإقناع أتباعهم، وإقناع أنفسهم بسلامة أصولهم.
…لذا طعنوا في النصوص وحجيتها وطعنوا في الإجماع وفي الصحابة -رضوان الله عليهم- بما يستلزم الطعن في مذاهبهم.
…فهؤلاء -أهل الأهواء- لم يرتضوا مسلك أهل السنة والحديث ولا مسلك أهل الرأي.
(17)…وأما كيفية الأخذ من اللحية فمما زاد على القبضة كما هو ثابت بالأدلة.…
??
??
??
??
-16-(1/38)